أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - مختصر تاريخ مصر فى العصور القديمة















المزيد.....



مختصر تاريخ مصر فى العصور القديمة


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 5154 - 2016 / 5 / 6 - 23:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




الإهداء
إلى عشاق العصور القديمة




المحتويات:
-مقدمة
1-العصر الفرعونى
2-العصر اليونانى
3-العصر الرومانى
4-العصر البيزنطى
















مقدمة:
نشرت فصول هذا الكتاب منفصلة على بعض المواقع الإليكترونية خلال السنوات القليلة الأخيرة، ثم رأيت أن أنشرها مجتمعة فى هذا الكتاب بعنوان(مختصر تاريخ مصر فى العصور القديمة)، لعله يقدم فكرة عامة متكاملة لكل المهتمين بتاريخ مصر والعالم القديم، أرجوا أن يجد فيه القارئ تلك الفكرة العامة المتكاملة فعلاً.
عبدالجواد سيد
مايو 2016
















1-العصر الفرعونى
(حوالى3100-332ق.م)
لانعرف فى أى ساعة من الزمن بدأ تاريخ مصر الطويل ولا متى أشرقت شمس الإله رع على وادى النيل لتنبت حضارات القرى على ضفتى النيل فى مرمدة بنى سلامة والفيوم وحلوان العمرى و جرزة و دير تاسا والبدارى والعمرة ونقادة وغيرها ولامتى توحدت تلك القرى فى إقليمين كبيرين شمالى وجنوبى ولكننا نعرف - الآن- أن رجلا من مصر الوسطى إسمه مينا أو نارمر قام عند حوالى أخريات الألف الرابعة قبل الميلاد بتوحيد هذين الإقليمين فى دولة مركزية واحدة ربما تكون هى الدولة المركزية الأولى فى تاريخ الإنسان عرفت بإسم الدولة الفرعونية نسبة إلى لقب حاكمها الفرعون(ساكن القصر العظيم). ورغم أن المصريين القدماء لم يعرفوا تسجيل تاريخهم فى أسرات متعاقبة فقد إصطلح العالم على دراسة تاريخ مصر الفرعونية فى الشكل الذى وضعه الكاهن المصرى مانيتون السمنودى فى عصر الملك بطليموس الثانى (284 – 264ق.م) فى إحدى وثلاثين أسرة تبدأ بالأسرة الأولى وعلى رأسها الملك مينا أو نارمر المذكور حوالى سنة 3100 ق.م وتنتهى بعودة الفرس إلى مصر مؤسسين حكم الأسرة الحادية والثلاثين والأخيرة حوالى عام 343ٌ ق.م والتى إستمر حكمها حتى دخول الإسكندر الأكبر مصر عام 332 ق.م وهى السنة التى يتحدد بها نهاية تاريخ مصر الفرعونية وبداية تاريخ مصر الهيلينستية أواليونانية. وقد قسم المؤرخون المحدثون تلك الفترة الفرعونية الطويلة فيما بعد إلى عصور متميزة تسهيلا لدراستها هى عصر الدولة القديمة وعصر الدولة الوسطى وعصر الدولة الحديثة ثم العصر المتأخرويفصل بين كل هذه العصور فترات إنقطاع تعرف بعصور الفوضى وتنقسم بدورها إلى عصر الفوضى الأول والثانى والثالث والأخير.
عصر الدولة القديمة(3100-2181ق.م)
بدأ حكم الأسرة الفرعونية الأولى حوالى سنة 3100 ٌق.م وذلك بتوحيد الملك مينا للقطرين القبلى والبحرى فى مملكة واحدة ذات تاج مزدوج وتدل الآثار المحدودة التى عُثر عليها للملك مينا - أو كما يعرف أيضا بنارمر - على الحروب التى خاضها فى سبيل توحيد القطرين ومنها محاربته للبدو المقيمين على حدود مصر الشرقية والغربية على السواء وهكذا قُدر لمصر منذ مولدها أن تتقاذفها الأخطار من الشرق والغرب وظلت تلك الحقيقة الجغرافية السياسية صفة مميزة للتاريخ المصرى كله منذ نشأة الدولة المصرية الفرعونية القديمة حتى إبتلاع العرب لمصر سنة 641م.
بنى الملك مينا مدينة منف وإتخذها عاصمة لدولته ومنح الوجه البحرى نوعا من الحكم الذاتى محاولة منه لكسب ود الشماليين وربما يكون قد تزوج من أميرة شمالية أيضاً وقد أصبح ذلك تقليدا فى عهد الأسرتين الأولى والثانية مما يدل على ضعف الإتحاد بين الشمال والجنوب فى تلك الفترة والواقع أن ذلك الضعف يمثل صفة مميزة أخرى للتاريخ المصرى القديم لإن عصور الفوضى التى عرفها ذلك التاريخ لم تكن تعنى فى الواقع أكثر من إنفصال القطرين وإجتياح البدو للبلاد فى ظل غياب فرعون قوى أو فى ظل غياب حكومة مركزية قوية بالتعبير المعاصر، كما أقام الملك مينا علاقات تجارية مع سوريا وفلسطين.
وقد خلف الملك مينا الملك جر الذى تابع سياسة الملك مينا الخارجية ووصلت حملاته إلى وادى حلفا وسيناء وحدود ليبيا وهو الذى شيد قصر مدينة منف كما يرجح أن المصريين قد توصلوا فى عهده إلى التقويم الشمسى عندما إستطاعوا الربط بين ظهور نجم الشعرى اليمانية وبين بداية السنة الشمسية وترك دن رابع ملوك الأسرة الأولى ذكرى عهد مجيد وقد إمتد عهده لنحو نصف قرن من الزمن وقد قام بحملات عسكرية فى الشرق حتى لُقب بالأجنبى وبرجل الصحراء وشيد كثير من القلاع والحصون كما إتبع سياسة المصالحة مع الشمال وأنشأ وظيفة حامل أختام الشمال وأجرى تعداد لسكان مصر، أما ملوك الأسرة الثانية(حوالى 2925-2700 ق.م) فقد أخذت عبادة إله الشمس رع فى عصرهم مكانتها الكبيرة فى التاريخ المصرى القديم بصفته رأس قصة الخلق ورأس التاسوع الإلهى( رع- شو- نفتوت – جب – نون - إيزيس – أوزيريس – ست – نفتيس )والديانة المصرية القديمة ديانة ذات جذور طوطمية إرتبطت بعبادة الحيوان مند نشأتها الأولى على مستوى المناطق الجغرافية المختلفة ثم تطورت فيها ميثولوجيا للخلق إحتل فيها الإله رع إله الشمس موقع كبير الآلهة فى معظم فترات التاريخ المصرى(كان بتاح إله منف يأتى على رأس التاسوع الإلهى فى ميثولوجيا مقابلة) والتى إنبثقت منها عبادة الملك الفرعون الذى كان يعبد كنصف إله فى حياته ثم كإله كامل بعد مماته بصفته حورس - إبن الآلاهة إيزيس وأوزيريس - وأول ملك على مصر.
وفى عهد ملوك الأسرة الثانية إنتقل مقر الحكم إلى منف بشكل نهائى وكانت سياستهم الخارجية إمتدادا لسياسة الأسرة الأولى ورغم ماأشارت إليه الأدلة الأثرية من قيام الملك مينا بحملات تأديبية ضد البدو و إلى قيام بعض خلفائه مثل الملك جر والملك قع بحملات تأديبية ضد الليبيين فقد تمكن الأخيرون من إحتلال الدلتا فى عهد الملك برايب سن من الأسرة الثانية وقد بذل ذلك الملك جهوداً كبيرة فى سبيل إجلائهم عن البلاد إلا أن جهوده قد باءت بالفشل ولم يتحقق ذلك إلا فى عهد خلفه خع سخموى آخر ملوك الأسرة الثانية. وقد عُرف عصر الأسرتين الأولى والثانية بإسم العصر العتيق أو العصر الثينى نسبة إلى ثينى التى جاء منها ملوكها بالقرب من أبيدوس فى صعيد مصر كما دام حوالى خمسة قرون تأسست خلالها الملامح الرئيسية للحضارة المصرية القديمة والتى ستنطلق وتبلغ أقصى مراحل قوتها وإزدهارها فى العصر التالى مباشرة والذى يُعرف فى التاريخ المصرى بإسم العصر الكلاسيكى أو عصر الدولة القديمة وعصر بناة الأهرام فمع حكم الأسرة الثالثة( 2700- 2625 ق.م) بدأ عصر بناة الأهرام حيث شيد ملوكها لأنفسهم مقابر على شكل أهرامات على حافة الصحراء الغربية فى الجيزة وسقارة وميدوم ودهشور وأبى صير و أشهر ملوكها هو نثرخت الذى إشتهر بإسم زوسر ولقب جسر(المقدس) وإرتبط بإسمه كثير من القصص الأسطورية فى الأدب المصرى.
وفى عهد الملك نثر خت لمع إسم الحكيم إيموحتب مهندس بناء أول مقبرة ملكية على شكل هرم مدرج والذى تمتع بشهرة كبيرة فى التاريخ المصرى كواحد من كبار الحكماء وإعتبر إلهاً للطب وعُبد فى العصر الفارسى وشيد له البطالمة العديد من المعابد فى مصر ومن شهرة حكمته وعلاقته بسيده زوسر( أو سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة)أستلهمت قصة سنوات الجفاف ومعالجة فرعون لها بناء على نصيحة يوسف المذكورة فى العهد القديم .
أما عن السياسة الخارجية للأسرة الثالثة فتدل الآثار على أن فراعنة هذه الأسرة قد قاموا أيضا بحملات تأديبية على بدو سيناء حيث وجدت آثار للملوك سانخت ونثرخت وسخم خت فى منطقة سيناء تشير إلى قيام هؤلاء الملوك بحملات تأديبية فى هذه المنطقة بهدف تأمين المحاجر وطرق القوافل.
ويبدأ عصر الأسرة الرابعة (2625-2510 ق.م) بحكم الملك سنفرو صاحب الشهرة الكبيرة فى التاريخ المصرى والذى خلدته التقاليد المصرية وظلت ذكراه حية لعدة قرون بصفته المحسن، المحبوب، الرحيم، محب المعرفة، شديد التواضع . وقد إشتهر الملك سنفروأيضا بمقبرته التى بناها على شكل هرمى فكانت بذلك أول مقبرة ملكية بُنيت على شكل هرم محدب وكان بنائها بمثابة الخطوة الأولى نحو بناء الأهرام العملاقة بعد ذلك كماإشتهر أيضا بالحصون الدفاعية التى بناها على حدود مصر الشرقية وظلت تعرف بإسمه حتى عصر الدولة الوسطى أى لفترة تقرب من حوالى ألف وخمسمائة سنة بحيث مثلت ذكراه إلهاما لملوك عصر الدولة الوسطى الذى أخذوا على عاتقهم مهمة النهوض بمصر من محنتها بعد عصر الفوضى الأول.
وتسجل آثار سنفرو إرسال حملات ضد النوبيين وكذلك ضد التحنو الليبين- وهى التسمية التى كانت تطلق على بعض القبائل الليبية- كما تشير إلى وجود علاقات تجارية وثيقة مع ساحل فينيقيا حيث تفيد الآثار أن سنفرو قد أرسل حملة من أربعين سفينة لجلب خشب الأرز من هناك.
حكم سنفرو حوالى أربعين سنة وبعد وفاته خلفه إبنه خوفو الذى إشتهرفى التاريخ ببناء الهرم الأكبر بالجيزة وهو أشهر آثار العالم القديم على الإطلاق وبسبب ضخامة هذا البناء وعظم الموارد البشرية والمادية التى إستخدمت فى بنائه تحدثت الأساطير المتأخرة عن ظلم خوفو وطغيانه وقد قال عنه هيرودوت( لم يترك خوفو شرا إلا وإقترفه فبدأ بإغلاق جميع المعابد وحرم على المصرين تقديم الأضاحى ثم أمرهم بالعمل لحسابه وتولى بعضهم التنقيب عن مقالع أحجار الجبل العربى لقطع الأحجار التى تُسحب بعد ذلك حتى ضفاف النيل ثم تعبر بالسفن إلى ضفة النهر الأخرى ليتولى آخرون سحبها حتى الجبل الليبى، وكانوا يعملون فى مجموعات تتناوب كل ثلاثة أشهر وتتكون كل مجموعة من مائة ألف رجل أما الطريق الصاعد الذين سحبوا عليه الأحجار فقد إستغرق تشييده عشر سنوات عانى خلالها الناس من شتى أنواع العذاب وإستغرق العمل فى بناء الهرم نفسه عشرين سنة). ولذلك فلم يحتفظ المصريون له بذكرى طيبة كما فعلوامع سنفرو رغم إستمرارعبادته حتى العصر الصاوى(العصر المتأخر عندما أصبحت العاصمة فى صا الحجر شمالا).
أما فيما يتعلق بسياسته الخارجية فهناك مايشير إلى إزدهار التجارة بين مصر وفينيقيا كما كانت الحال أيام سنفرو ولا تشير الآثار إلى أى حملات عسكرية قام بها خوفو والواقع أن المعروف عن خوفو يعتبر قليلا جدا بالنسبة إلى هرمه الضخم ذو الشهرة العالمية.
وبعد وفاته خلفه إبنه خفرع صاحب الهرم الثانى من أهرامات الجيزة وصاحب تمثال أبى الهول الشهير حارس الجبانة الملكية حيث بُنى التمثال فى شكل أسد رابض ورأس تمثل الفرعون خفرع نفسه بجوار مقبرته الملكية وفى مدخل منطقة الجبانة كلها وذلك كحارس لها على الأرجح. وقد أزاح تحتمس الرابع الرمال التى أحاطت بالتمثال بعد إعتلائه العرش فى عصر الأسرة الثامنة عشرة كما تشير لوحة الحلم التى أقامها أمام التمثال فيما بعد. ونص اللوحة يشير إلى قصة أصبحت مشهورة فى التاريخ الفرعونى مؤداها أن الفرعون تحتمس الرابع كان يصطاد يوما فى صحراء الجيزة ثم جلس للراحة بجوار التمثال فغلبه النوم وفى نومه ظهر له الإله، أى أبى الهول، يشكو من الرمال التى أحاطت به وكادت تخنقه وطلب من الأمير تحتمس إذا مأصبح ملكا أن يزيح الرمال التى تراكمت حوله وبالفعل قام تحتمس الرابع بذلك بعد إعتلائه العرش وأقام اللوحه التى إشتهرت بإسم لوحة الحلم أمام التمثال ولاشك أن القصة كلها نوعا من الدعاية السياسية لحكم تحتمس ومحاولة لإكسابه صفة الشرعية حيث يعتقد أنه لم يكن الوريث الشرعى للعرش وقد دام حكم خفرع حوالى خمسة وعشرين سنة.
وبعد وفاته خلفه إبنه منقرع وهو صاحب الهرم الثالث من أهرامات الجيزة وبإستثناء الهرم فلم يترك كثيرا من الآثار وبعد وفاته خلفه إبنه شبسس كا إف والذى خرج عن سنة أسلافه فى بناء الأهرامات العظيمة وبنى بدلا من ذلك مقبرة فى جنوب سقارة تعرف الآن باسم مصطبة فرعون ربما بسبب تخليه عن عقيدة إله الشمس رع كما يدل إختياره لكبير كهنة منف بتاح شبسس زوجا لإبنته ومن المعروف أن بتاح كان إله العاصمة منف بينما كان إله الشمس رع هو إله مدينة هليوبوليس.
وبوفاة شبسس كاإف تنتهى الأسرة الرابعة ويبدأ عصر الأسرة الخامسة (2510-2460 ق.م) بحكم أوسركاف الذى دام حوالى سبع سنوات وإلى عهده ترجع بداية العلاقات التجارية مع بلاد اليونان حيث عُثر فى معبده الجنازى على آنية مجلوبة من إحدى الجزر اليونانية ورغم أن العلاقات مع بلاد اليونان تعود إلى عهد الملك مينا نفسه إلا أنها كانت ذات طابع سياسى فقط ربما بسبب هرب بعض سكان الدلتا إلى جزيرة كريت عند هجوم الملك مينا عليها أثناء توحيد القطرين ولكن آثار عهد أوسركاف كانت الإشارة الأولى إلى تطور تلك العلاقات إلى علاقات تجارية. ويعتبر هجر الشعائر الجنازية لذلك الملك مع نهاية الأسرة الخامسة دليلا على تضاؤل أهميته فى التاريخ .
وقد خلف ساحورع الملك أوسركاإف وتشير آثاره إلى الحملات التى شنها على القبائل الليبية وعلى البدو الآسيويين على السواء وواصل العلاقات التجارية مع سوريا كما أرسل رحلة إلى بلاد بونت وبعد وفاته خلفه بعض الملوك غير المشهورين الذين لم يعُثر لهم على كثير من الآثار وهم نفر إير كارع وشبسسكارع ثم نفر إف رع حتى خلفهم نى أوسررع الذى حكم حوالى خمسة وعشرين سنة وإشتهر ببناء معبده الشمسى فى غرب شمال سقارة والذى أطلق عليه تسمية بهجة رع وقد بنى المعبد بالحجر على طراز النموذج الأصلى للمعبد فى مدينة هليوبوليس مما يدل على علو شأن عقيدة الشمس فى عهده ويبدو أن هذا الملك قد واصل سياسة الحملات التأديبية على بدو الحدود الشرقية وبعد وفاته خلفه الملك من كاوحور ثم الملك جد كارع إسيسى الذى حكم لفترة طويلة إحتفل خلالها بعيد اليوبيل (عيد سد) أو عيد تجديد الولادات الذى يجدد فيه الفرعون قوته ونشاطه كملك ويبدو أنه إتبع سياسة سلفه ساحورع وإنتهج سياسة خارجية نشطة فنظم الحملات إلى سيناء وإلى محاجر الديوريت غربى أبوسمبل ووصل إلى بيبلوس فى سوريا وبلاد بونت وفى عهده إزداد نفوذ كبار الموظفين وحكام الأقاليم وجنحوا نحو مزيد من الإستقلال والحكم الذاتى وخلف جد كارع إسيسى الملك أوناس آخر ملوك الأسرة الخامسة الذى حكم حوالى ثلاثين عاما وقد إتبع أوناس سياسة خارجية نشطة أيضا و بنى هرما بسقارة تميز بالنقوش الهيروغليفية التى تغطى حيطان الردهة وحيطان حجرة الدفن ويطلق على هذه النقوش إسم (متون الأهرام) والتى ترد أيضا فى أهرامات بعض ملوك الأسرة السادسة وتهدف هذه المتون إلى تحقيق السعادة للمتوفى صاحب المقبرة فى العالم الآخر عن طريق القوة السحرية لكلماتها وتعبر هذه المتون تعبيرا جيدا عن الفكر الدينى للمصرى القديم خاصة معتقداته عن العالم الآخر وهى ليست من إستحداث الأسرتين الخامسة والسادسة بل هى تجميع لمعتقدات المصريين منذ أقدم العصور.
ويبدأ عصر الأسرة السادسة( 2460-2200 ق.م) بحكم الملك تتى الذى تزوج الأميرة إيبوت إحدى بنات أوناس وإتخد اللقب الحورى سحتب تاوى أى الذى يهدئ الأرضين مما يدل على أن الإقطاعات الكبيرة التى كونها كبار الموظفين بدأت تهدد وحدة البلاد وليس هناك إتفاق على مدة حكمه لكن يعرف عنه أنه أصدر مرسوما لإعفاء المعبد من الضريبة كما إرتبط بعبادة الآلهة حتحور فى دندرة وحافظ على علاقات مصر الدولية مع النوبة بيبلوس ومع بلاد بونت وقد أشار مانيتون إلى أنه لم يمت ميتة طبيعية بل قتل بواسطة حراسه وخلفه الملك أوسركارع الدى يشير إسمه إلى أنه أعاد عبادة الإله رع ولم يترك هذا الملك كثيرا من الآثار وخلفه الملك بيبى الأول إبن تيتى مؤسس الأسرة الذى إمتد حكمه لحوالى خمسين سنة وإتخد اللقب مرى تاوى أى حبيب الأرضين مما يشير إلى محاولته الحفاظ على وحدة البلاد الأمر الدى لم يتحقق مع ذلك كما تشير قصة المؤامرة على حياة الملك المنقوشة فى مقبرة أونى أحد كبار موظفيه والذى ذكر فيها أن الملك قد كلفه بمحاكمة سرية للزوجة الملكية التى تآمرت على حياة الملك من أجل تثبيت إبنها على العرش ويرجح أن هذه الزوجة كانت تنتمى إلى عائلة من أبيدوس وأن محاولتها لقتل الملك وتثبيت إبنها على العرش كان لها فى الواقع علاقة بإزدياد نفود حكام الأقاليم. وقد حاول بيبى الأول فرض نفوده فى الوجهين القبلى والبحرى بالقيام بمجموعة من الأعمال الإنشائية الكبرى منها مدينة هرمه الخاصة( من نفر أو منف) التى بناها على مقربة من معبد الإله بتاح فى عاصمة البلاد والذى أصبح إسمها(منف) يطلق على المدينة كلها بحلول عصر الأسرة الثامنة عشرة. وقد قام بيبى الأول خلال حكمه بحملة كبيرة على فلسطين كما أشارت بذلك نقوش مقبرة أونى.
وبعد وفاة بيبى الأول خلفه إبنه مرن رع وقد تولى الحكم صغيراومات شابا وقد إستمر أونى فى خدمة ذلك الفرعون أيضا كما يفهم من نقوش مقبرته حيث يذكر أنه أصبح حاكما للجنوب وأنه قد قام ببعثتين هناك من أجل إحضار أحجار الجرانيت لهرم الملك ومن كبار موظفى عهد مرن رع نعرف أيضا حرخوف الذى كلان حاكما على إقليم الفنتين(أسوان) والذى ذكر فى نقوش مقبرته فى أسوان أخبار البعثات التجارية التى كلفه بها الفرعون إلى الجنوب حتى بلاد يام بالقرب من الشلال الثالث ربما بهدف إحضار منتجات هذه البلاد وخاصة البخور الذى كان عنصرا أساسيا فى أداء الطقوس الدينية فى المعابد المصرية القديمة وكذلك فقد واصل مرن رع سياسة أبيه الخارجية فى سوريا وفلسطين حيث يقول أونى فى نقوش مقبرته( رد جلالته العاموالساكنين على الرمال (أى البدو) على أعقابهم . جمع جلالته قوة ضخمة فى صعيد مصر- من جنوب الفنتين وحتى شمال إقليم إفروديتويوليس(أطفيح) ومن إدارتى الوجه البحرى(.......) وأرسلنى جلالته على رأس هذه القوة. أما الأمراء وأمناء خزائن الملك والأصدقاء فى البيت الكبير وأما مديرو ورؤساء قصور الوجهين القبلى والبحرى(......) فقد خرجوا على رأس قوات الوجهين القبلى والبحرى والأملاك والمدن التى يديرونها وأهل النوبة المقيمين فى هذه المناطق. وكنت أضع الخطط(.....) وعاد هذا الجيش بسلام بعد أن قضى على بلاد الساكنين على الرمال. عاد هذا الجيش بسلام بعد أن دك مدنهم المحصنة. عاد هذا الجيش بسلام بعد أن قطع أشجار تينهم وكرومهم. عاد هذا الجيش بسلام بعد أن اشعل النار فى رجالهم. عاد هذا الجيش بسلام بعد أن أباد قواتهم الجرارة عاد هذا الجيش بسلام بعد أن عاد بقوات(؟) كبيرة من الأسرى. وكان جلالته كريما فى مكافأتى. وكلما ثار الساكنون على الرمال على هذه القوات أرسلنى جلالته لسحق بلادهم. وحدث ذلك خمس مرات(.......) وعبرت البحر أنا وقواتى على متن سفن مناسبة ورسوت على أرض تقع خلف قمم الجبل الواقع شمالى بلاد الساكنين على الرمال وسلك نصف أفراد الحملة الطريق البرى. وإرتددت إلى الخلف بعد أن حاصرتهم جميعا. فقضيت على جميع الأعداء القائمين بينهم).
وبعد وفاة مرن رع تولى نفر كارع الذى إشتهر بإسم بيبى الثانى وقد إرتقى العرش فى حوالى السادسة من عمره وعاش حتى بلغ المائة أى أنه قد حكم لحوالى أربع وتسعين عاما وهى أطول فترة حكم فى تاريخ مصر الفرعونية بل فى تاريخ مصر كله. وقد إستمر حرخوف فى خدمة بيبى الثانى حيث يتبين من نص خطاب أرسله الملك إلى حرخوف نقشه الأخير على جدران مقبرته بأسوان مدى سعادة الملك الطفل بقزم يرقص رقصا مقدسا أحضره له حرخوف عند عودته من بعثته التجارية إلى الجنوب. ويرجح أن النوبيين وسكان المناطق الشرقية كانوا مصدر إضطرابات فى هذا العهد أيضا حيث تشير نقوش مقبرة أحد موظفى الملك ويدعى حقا إيب إلى ثلاث حملات قام بها هدا الموظف إثنان منها بإتجاه الجنوب وواحدة بإتجاه بيبلوس لإستعادة جثمان موظف مصرى قُتل هناك عندما كان مكلفا بصنع سفينة للإبحار بها إلى بلاد بونت.
وفى أثناء فترة حكم بيبى الثانى الطويلة إزداد نفوذ حكام الأقاليم وتعرضت وحدة البلاد للخطر وبعد وفاته خلفه إبنه مرن رع الثانى والذى لم تتجاوز مدة حكمه عاما واحدا ثم خلفته الملكة نيت إقرت (نيتوكريس) وهى أول ملكة حكمت مصر والتى إنتهى بحكمها عصر الدولة القديمة وقد تحولت سيرتها فى العصر اليونانى إلى أسطورة رادوبيس الغانية ونُسب إليها تشييد الهرم الثالث. ودخلت مصر إلى عصر الفوضى الأول الذى إنشقت فيه وحدة البلاد وإجتاحها البدو والأجانب وقد إستغرقت تلك الفترة حوالى مائة وخمسين سنة تمزقت فيها وحدة البلاد رغم أن المصريين لم يروا فيها فترة إنقطاع حيث ظلت الأسرات الحاكمة آنذاك تدعى السيادة على مصر كلها أو تسعى إلى ذلك على الأقل.
عصر الفوضى الأول(2181-2134ق.م)
يتكون عصر الفوضى الأول من الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة( 2200-2040 ق.م) وينتهى فى عهد منتوحتب الأول الذى تمكن من القضاء على الفوضى وإعادة توحيد البلاد مرة أخرى بعد توحيدها الأول على يد الملك مينا . وقد ذكر مانيتون أن ملوك الأسرة السابعة كانوا سبعين ملكا حكموا فى منف سبعين يوما وبالطبع يبدو ذلك ضربا من الخيال ولكنه يعبر فى نفس الوقت عن مدى الفوضى التى عمت مصر فى ذلك الوقت.
أما الأسرة الثامنة فيرى معظم المؤرخين أنها قامت فى منف وأن مؤسسها هو الملك نفر كارع وفى عهد هذه الأسرة إزدادت أحوال البلاد سوءً وبنهاية عهدها القصير إنقسمت مصر إلى ثلاثة أقسام حيث حكم الآسيوون فى الشمال وفى مصر الوسطى ظهر بيت جديد للحكم فى إهناسيا شغل عهد الأسرتين التاسعة والعاشرة وفى الجنوب ظهرت قوة حكام طيبة .
وفيما يخص الأسرة التاسعة فمؤسسها هو الملك خيتى الأول الذى يصفه مانيتون بأنه كان أبعث للرعب من كل من سبقه من الملوك وأنه كان يفعل الشر فى مصر كلها وقد إستمرحكمها حوالى ثلاثين عاما فقط أما مؤسس الأسرة العاشرة فيحمل نفس الإسم نفر كارع ولقب (مرى حتحور) وقد إمتد حكمها لأكثر من مائة عام ومن ملوكها أيضا الملك خيتى الثالث الذى تمكن من طرد الآسيويين من الشمال وهو صاحب النصائح الشهيرة لإبنه الملك مرى كارع والتى القت الضوء على أحوال مصر فى ذلك العصر وخاصة عن قصة الحرب الأهلية بين طيبة وإهناسيا والتى كانت منطقة أبيدوس مسرحا لها. ولكن العمر لم يدم بالملك مرى كارع طويلا ولم يحكم سوى سنوات قليلة مات بعدها ودُفن فى منف.
وفى تلك الفترة تمكن حكام طيبة من القضاء على البيت الإهناسى ثم تمكنوا من إخضاع مصر كلها بعد ذلك وبدأت الأسرة الحادية عشرة( 2160-1991ق.م) بتوحيد مصر مرة أخرى حيث دخلت البلاد مرحلة جديدة تميزت بالإزدهار والتقدم السياسى والحضارى بشكل عام وهى مايعرف بإسم عصر الدولة الوسطى.
أما عن أسباب الفوضى التى كانت قد عمت مصر في عصر الفوضى الأول فقد ذهب المؤرخون مذاهب شتى ولكن معظمها يدور حول ضعف الملكية وإزدياد نفوذ حكام الأقاليم ثم إجتياح البدو الآسيويين لشمال مصر على أثر ذلك فى مشهد سوف يتكرر مرات ومرات فى التاريخ المصرى القديم.
ومن الواضح أن حكم بيبى الثانى الطويل قد أدى إلى ضعف الملكية ثم كان حكم خليفتيه الضعيفين مرن كارع ونيتوكريس هو نهاية الملكية فى عصر الدولة القديمة ودخول البلاد إلى عصر من الفوضى تميز بإنعدام الأمن وإنقلاب الأحوال الإجتماعية رأسا على عقب بحيث أصبح الغنى فقيراً والفقير غنياً كما عبرت عن ذلك بردية شهيرة من ذلك العصر إشتهرت بإسم بردية إيبور وفيها يقول كاتبها إيبور فى إحدى الفقرات( لقد أصبح الأجانب أناساً فى كل مكان لقد أصبح الأجانب مهرة فى حرف الدلتا). ولقد حاول بعض المؤرخين نسبة ماحدث من فوضى بعد عصر الدولة القديمة إلى ثورة إجتماعية قام بها المصريون إحتجاجا على سوء الأحوال الاقتصادية والعبْ الناتج عن تخصيص هبات دائمة للعناية بمقابر الملوك والملكات وكذلك لإزدياد نفوذ وإمتيازات حكام الأقاليم الذين حذوا حذو الملوك فى نفقاتهم وتشييد مقابر ضخمة لأنفسهم ولذويهم وفى توريث إمتيازاتهم لإبنائهم،وبالطبع لايمكن أن يكون مثل هذا التفسير صحيحاً وذلك فى ظل الخضوع الدائم المعروف عن المصريين لحكامهم على مر العصور فمابالك وحال الإلوهية التى كان يتمتع بها فراعنة مصر القديمة ومما يؤكد ذلك إن ظاهرة تخصيص كثير من موارد الدولة لنفقات مبانى الفرعون الضخمة لم تتراجع أبدً بل إزدادت فى عصر الدولة الوسطى والدولة الحديثة التى تمثل أزهى عصور مصر الفرعونية ولم نسمع فيها عن أى ثورات إجتماعية والواقع أن أسباب الضعف كانت فى الغالب سياسية تماما تتمثل فى ضعف وإنهيار الملكية فى منف وقيام أسر حاكمة متصارعة فى إهناسيا وطيبة وإستغلال البدو الآسيويين لهذه الحال وإحتلالهم للدلتا وإشاعة الفوضى فى البلاد وهى صورة ،كما أشرنا سابقا، سوف تتكرر فى تاريخ مصر الفرعونية حتى نهايته تقريبا، ويؤكد ذلك الإفتراض كثير من الفقرات التى وردت فى بردية إيبور المشار إليها سابقا.
وهناك بردية أخرى تصف لنا كذلك تلك الأحداث المريرة التى مرت بها مصر فى تلك المرحلة من تاريخها نتيجة ضعف السلطة المركزية وتعرف بإسم بردية نفرتى . وقد سُجلت هذه البردية فى أوائل عصر الأسرة الثانية عشرة ولكن كاتبها نسبها إلى فترة بعيدة ترجع إلى أيام الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة وذلك على أساس أنها كانت تمثل نبوءة بظهور الملك أمنمحات مؤسس الأسرة الثانية عشرة بهدف الدعاية لحكمه ومما جاء فيها(سأُريك البلاد وقد أصبحت رأسا على عقب وحدث فيها مالم يحدث من قبل حيث سيمسك الناس بأسلحة القتال وتعيش البلاد فى فزع وسيصنع الناس سهاماً من النحاس وسيسعى الناس للحصول على الخبز بإراقة الدماء).
وكذلك ينسب المؤرخون حدوث نتائج هامة لعصر الفوضى الأول فى المجالات السياسية والاجتماعية والدينية وهذا أيضا أمر مبالغ فيه لإن المعالم الرئيسية للحضارة المصرية القديمة قد إستمرت كما هى تقريباً فى عصر الدولة الوسطى وذلك بإستثناء الأعمال الأدبية المتميزة التى خلفها ذلك العصر مثل نصائح الملك خيتى الثالث لإبنه مرى كارع وهى ذات طابع سياسى إجتماعى وكذلك شكاوى الفلاح الفصيح وهى ذات طابع أخلاقى ومن المعروف أن الأزمة تولد الإبداع سواء فى حياة الشعوب أو فى حياة الأفراد.
كذلك فقد ظهرت فى ذلك العصر بعض الأفكار الدينية الجديدة مثل إعتقاد المصريين فى فكرة الحساب فى الآخرة وفى وجود محكمة بعد الموت يحاسب أمامها الناس جميعا عن أعمالهم التى إقترفوها فى حياتهم الدنيا وأن الثروة والجاه والمقابر الضخمة لن تشفع أمام هذه المحكمة ومع ذلك فقد ظلت السيادة للأفكار الدينية القديمة مثل بناء المقابر الضخمة والإنفاق عليها بما يضمن سعادة المتوفى فى العالم الآخر. وكذلك الإعتقاد فى السحر وزيادة الإعتماد عليه فى الآخرة .
عصر الدولة الوسطى(2134-1786ق.م)
وبقيام الأسرة الحادية عشرة الطيبية (2160-1991ق.م) تدخل مصرإلى عصر الوحدة مرة أخرى ورغم أن النصف الأول من عصر الأسرة الحادية عشرة يدخل فى نطاق عصر الفوضى الأول إذ كان الملوك الأربعة الأوائل من هذه الأسرة معاصرين للأسرة العاشرة فى إهناسيا فإن بداية عصر الدولة الوسطى يتحدد بحدث كبير هو إعادة توحيد البلاد على يد منتوحتب الأول خامس ملوك هذه الأسرة . وقد بدأ الصراع بين الأسرتين فى عهد الملك أنتف الثانى من ملوك الأسرة الحادية عشرة الذى خاض حربا ضد الملك الإهناسى خيتى الثالث وإستولى على إقليم ثنى وأخذ يتوسع شمالا. وقد أعقب ذلك فترة سلام بين البيتين ولكن بعد أن إرتقى منتوحتب الأول العرش وفى العام الرابع عشر من حكمه تجددت الحرب بين البيتين. وبدأ هجوم طيبى ضخم بقيادة منتوحتب الأول أسفر عن سقوط إهناسيا نفسها وإعادة توحيد مصر.
وبعدما تم لمنتوحتب الأول ذلك إتخذ فى العام التاسع والثلاثين من حكمه لقبا حوريا ملكيا جديدا يعبر عن هذا الواقع وهو لقب (سماتاوى) الذى يعنى موحد الأرضين وقد خلدت آثار معبد الرمسيوم الملك منتوحتب الأول بين أقرانه العظماء مينا وأحمس الأول حيث ظهر الملوك الثلاثة مينا ومنتوحتب الأول وأحمس الأول بوصفهم المؤسسين للدولة القديمة والدولة الوسطى والدولة الحديثة. وقد إنعكس أثر هذه الوحدة القومية فى رخاء البلاد وتقدمها الحضارى حيث إستؤنف تشييد الأبنية الضخمة ومعابد الآلهة ومقاصيرها.
وفيما يتصل بالسياسة الخارجية للملك منتوحتب الأول فقد عمل على إعادة نفوذ مصر فى الصحراء الشرقية فأرسل حملة إلى وادى الحمامات قضت على مصادر الشغب فى هذه المنطقة وطارد الآسيويين حتى حدود نهر الليطانى كما أرسل حملة على قبائل التمحو والتحنو الليبين وكذلك بالنسبة للجنوب فقد أرسل أكثر من حملة لتأمين حدود مصر الجنوبية.
وقد دام حكم منتوحتب الأول واحد وخمسين سنة وإرتقى العرش بعد وفاته إبنه منتوحتب الثانى الذى دام حكمه لحوالى إثنى عشر عاما إتسمت بالسلام والرخاء ومن أهم الآثار التى تدل على عصره مجموعة خطابات خلفها شخص يدعى حقانخت كان يعمل كاهنا جنزيا فى مقبرة الوزير إيبى فى عهد منتوحتب الثانى ثم إستدعى فى العام الثامن من حكم هذا الملك إلى مهمة بالجنوب فكلف إبنه بالإشراف على المقبرة وعلى مزرعة كان يملكها فى شمال طيبة وكانت عائلته تقيم فيها. وقد تطرق حقا نخت فى هذه الرسائل الموجهة إلى إبنه إلى جميع مناحى الحياة الخاصة به وبعائلته وبخدمه وبمزرعته بحيث مثلت وثيقة هامة تلقى كثير من الضوء على الحياة الإجتماعية فى مصر القديمة.ورغم هذا الهدوء الذى تميز به عهد منتوحتب الثانى فقد أرسل حملة على بدو الصحراء الشرقية وصلت حتى حدود البحر الأحمر بقيادة ضابط يدعى حنو ومن هناك أبحرت إلى بلاد بونت.
وبعد وفاته خلفه إبنه منتوحتب الثالث الذى حكم لحوالى سبع سنوات فقط ولم يخلف عهده كثير من الآثار ومع ذلك فقد حفظت لنا الآثارإرساله البعثات فى أعوام حكمه الأول والثانى لإحضار الأحجار من جنوبى أسوان وكذلك وادى الحمامات وقد كانت بعثة وادى الحمامات التى تكونت من عشرة آلاف رجل جُمعوا من مصر العليا والسفلى تحت قيادة الوزير أمنمحات الذى يرجح أنه هو الذى إرتقى عرش مصر بعد عودته من تلك البعثة بقليل وأسس الأسرة الثانية عشرة (1991-1785ق.م).
ومن الواضح أن أمنمحات لم يكن من أصل ملكى كما يعنى إسمه (آمون فى المقدمة) أنه كان من عباد آمون وأنه قد جعل من هذا الإله إلاها رسميا للدولة الجديدة كما إتخذ اللقب الحورى(وحم ميسوت) بمعنى مجدد الولادات مما يعنى أنه كان مؤسسا لأسرة جديدة ونلاحظ أيضا فى لقب التتويج( سحوتب إيب رع) بمعنى الذى يهدئ قلب رع عودة إلى قيم الدولة القديمة وربما يكون هذا الإتجاه هو الذى أدى فى النهاية إلى ظهور صيغة آمون رع التوفيقية. وقد قدمته بردية نفرتى كاهن تل بسطة فى شرق الدلتا على أنه مخلص البلاد من الفوضى وتنسب هذه البردية إلى عصر الملك سنفرو كما أشرنا سابقا وعلى أنها كانت نبوءة بوصول أمنمحات إلى حكم مصر ولكن قد يكون من المؤكد أن نفرتى كان رجلا من رجال أمنمحات وأن البردية قد كتبت فى الواقع فى عهد أمنمحات نفسه وأنها كانت وسيلة من وسائل الدعاية السياسية التى تلائم العقل المصرى القديم كأشكال النبوءة والحلم وغيرها من هذه الأشكال وتقول البردية (كل خير قد ولى والبلاد تعانى من جراء البدو الغزاة والأعداء بيننا والآسيويون يدخلون مصر، المالك أصبح فى حاجة يسأل الناس وغدا الأجنبى غنيا، نقصت الأرض وتضاعف حكامها، إن المخلص سيأتى، سيظهر ملك فى الجنوب يدعى إمنى(إختصار إسم أمنمحات) إبن أمرأة من تاستى(إقليم الفنتين) طفل من نخن سيستلم التاج الأبيض ويرتدى التاج الأحمر ويوحد القوتين (أى القطرين) .
والبردية بهذا الشكل وبصرف النظر عن هدفها السياسى فى الدعاية لحكم أمنمحات تلقى الضوء على الخطر المزمن الذى كان يمثله إجتياح البدو لمصر فى ظل غياب سلطة مركزية قوية يمثلها وجود فرعون قوى على رأس الحكم وهى بهذا الشكل أيضا تذكرنا بالبرديات التى خلفها عصر الفوضى الأول مثل بردية إيبور ونصائح الملك خيتى الثالث لإبنه مرى كارع .
وقد أنشأ أمنمحات عاصمة جديدة لمصر تسمى (إيثت تاوى) بمعنى القابضة على الأرضين وتقع إلى الجنوب من منف بحوالى ثمانية عشرة كيلو ربما لصعوبة السيطرة على الأرضين من موقع العاصمة القديمة طيبة كما عمل على إعادة تنظيم الجهاز الإدارى للبلاد وأعاد العمل بنظام التجنيد العسكرى.
وفى بداية عهده أبحر مع خنوم حتب حاكم إقليم بنى حسن فى أسطول من عشرين سفينة حتى الفنتين وقضى على المقاومة لحكمه فى هذه المنطقة كما قام بجولة تفتيشية فى الشمال إلى الدلتا حيث أرسل عدة حملات لدفع غارات البدو عن حدود مصر الشرقية وأقام هناك موقعا حصينا لمحاولة منع غاراتهم المستقبلية أُطلق عليه تسمية (حيطان الأمير أو أسوار الحاكم) وفى نفس الوقت عادت العلاقات الدبلوماسية إلى سابق عهدها مع بيبلوس وعالم بحر إيجة.
وفى العام العشرين من حكمه أشرك معه إبنه سنوسرت الأول فى إدارة شئون البلاد ودشن بذلك تقليدا إتبعه ملوك الأسرة الثانية عشرة بعده. وقد قاد إبنه سنوسرت الأول الحملات على النوبة وقاد أكثر من حملة فى عهد أبيه ضد قبائل التمحو الليبين فى وادى النطرون وأثناء غياب سنوسرت فى إحدى هذه الحملات أُغتيل أمنمحات الأول بعد حكم دام ثلاثين سنة - فى مؤامرة دبرها حريم الملك حوالى سنة 1992ق.م - و لكن سنوسرت تمكن من العودة إلى مصر بسرعة حيث قضى على المتآمرين وإرتقى عرش مصر. ويرد وصف هذه الأحداث فى نص أدبى شهير خلفه ذلك العصر هو (قصة سنوهى)- أحد أفراد حاشية سنوسرت العائدة معه من ليبيا- وكان بين المتهمين فى حادث إغتيال الملك أمنمحات وقد روى فيها قصة هروبه من مصر ولجوئه إلى أحد أمراء البدو فى سوريا حتى عودته إلي الوطن بعد عفو سنوسرت عنه.
وقد أشتهر سنوسرت الأول الذى إستمر عهده لخمسة وأربعين عاما بكثرة أعماله العمرانية وأهمها تشييده من جديد لمعبد رع بمدينة هليوبوليس أكبر وأقدم الآلهة المصرية لكسب ود أهل مصر السفلى ويبدو أنه قد إنحاز لعقيدة رع كما يدل لقب تتويجه ( نفر كارع) كما إتبع سياسة أبيه فى إشراك ولى عهده معه فى حكم البلاد فأشرك معه فى الحكم إبنه أمنمحات الثانى وواصل سياسة أبيه فى بسط النفوذ المصرى على النوبة وفى إرسال الحملات التأديبية على التمحو والتحنو الليبيين بينما إقتصرت علاقاته بفلسطين وسوريا على التبادل التجارى السلمى.
وبعد وفاته خلفه إبنه أمنمحات الثانى الذى تميز عهده بالسلم وفى عهده إزدهرت العلاقات التجارية مع بلاد الشرق الأدنى والبحر المتوسط وإنفتحت مصر على المؤثرات الشرقية ونزحت إلى مصر أعداد كبيرة من الأيدى العاملة وبدأت عمليات تسلل بطيئة مهدت الطريق أمام السيطرة الآسيوية عندما سمحت الظروف بذلك.
وبعد وفاته خلفه إبنه سنوسرت الثانى الذى شهد عهده بداية واحد من أكبر المشروعات الإقتصادية فى مصر القديمة وهو إستصلاح أراضى منطقة الفيوم بتحويل رافد من روافد النيل إليها. وفى عهده دخلت طلائع الهكسوس إلى مصر سلما أثناء عمليات التبادل التجارى مع فلسطين إذ يرد فى نقش على أحد حيطان مقبرة خنوم حتب حاكم إقليم بنى حسن فى عهد سنوسرت الثانى أن الحاكم المذكور قد إستقبل فى إقليمه جماعة من البدو الآسيويون الذين ربما أتوا من فلسطين وكان على رأسها (أباشا - حاكم الأراضى الجبلية) الذى يرى فيه بعض المؤرخين شخص النبى إبراهيم الجد الأكبر لقبيلة إسرائيل العبرية التى دخلت مصر بعد ذلك التاريخ ضمن قبائل الهكسوس التى إجتاحت مصر فى عهد الفوضى الثانى .
وبعد وفاة سنوسرت الثانى خلفه إبنه سنوسرت الثالث الذى يعد واحدا من أعظم ملوك مصر القديمة. وقد تمكن سنوسرت الثالث من القضاء نهائيا على نفوذ حكام المقاطعات وضم النوبة إلى مصر بشكل نهائى حيث قام فى العام الثامن من حكمه بحملة كبيرة عليها مبحرا عبر قناة شقها فى صخور الشلال الأول وإتبع ذلك بما لايقل عن ثلاث حملات أخرى قادها بنفسه فى الأعوام الثانى عشر والسادس عشر والتاسع عشر من حكمه وسجل أحداثها فى لوح نصر أقامه عند سمنة جنوب وادى حلفا كما أقام سلسلة من التحصينات مكونة من ثمان قلاع تمتد من سمنة إلى بوهن وهى أعمال تتشابه مع ماسوف يقوم به فراعنة الدولة الحديثة بعد ذلك فيما يخص تأمين حدود مصر الشرقية وقد قاد سنوسرت أيضا حملة فى الشمال إلى حدود فلسطين لم تكن ذات طابع هجومى ولكنها كانت بهدف تأمين الحدود المصرية الشمالية. وقد قسمت مصر فى عهده إلى ثلاثة أقسام جغرافية كبيرة تضم مقاطعات مصر السفلى ومصر الوسطى ومصر العليا على رأس كل منها موظف كبير يساعده بعض المعاونيين ويخضع الجميع للإشراف المباشر للوزير.
وقد دام حكم سنوسرت الثالث خمسة وثلاثين عاما وفى أخريات أيامه أشرك معه فى الحكم إبنه أمنمحات الثالث الذى خلفه بعد وفاته. وقد إستفاد أمنمحات الثالث من ظروف الإستقرار السياسى التى تحققت فى عهد أبيه فوجه جهوده لتنمية وإستثمار الموارد الإقتصادية لمصر بحيث إستطاع إستصلاح مايقرب من سبعة وعشرين ألف فدان فى منطقة الفيوم وأقام على الشاطئ الشمالى من المنطقة تمثالين ضخمين يمثلانه وهو جالس يبلغ إرتفاع كل منهما إثنى عشر مترا وهما التمثالان اللذان إشتهرا بإسم (تمثالى ممنون) و تحدث عنهما هيرودوت فى تاريخه عن مصر وقال أنه كان يصدر منهما أصواتا عند الغروب.
أما أهم أعمال أمنمحات الثالث فهو معبده الجنازى الذى عرفه الرحالة الإغريق بإسم (اللابيرانث أى التيه) ووصفوه بأنه أعظم من الأهرام وكانت مساحته حوالى سبعين ألف متر مربع وقد إعتبره الإغريق من عجائب مصر وقد وصفه كل من هيرودت وديودور وإسترابون فذكر هيرودت أنه قد شاهده بنفسه وأنه يفوق الوصف وأنه يفوق الهرم أما ديودور فقد وصفه بأنه يدعو للعجب لدقة صناعته وأن من يدخله لايستطيع أن يجد طريق الخروج منه بسهولة أما إسترابون فقد وصف اللابيرانث بأنه يحتوى على عدد ضخم من الأبهاء المتصلة بعضها بالبعض الآخر عن طريق ممرات دوارة لايستطيع الغريب أن يجد مساره خلالها. ومع الأسف فلم يترك لنا الزمن من هذا البناء العجيب اليوم إلا أكداس من التراب.
دام حكم أمنمحات الثالث خمسة وأربعين عاما وفى العام الأخير من حكمه أشرك معه إبنه أمنمحات الرابع فى إدارة شئون البلاد والذى حكم لحوالى عشر سنوات دخلت البلاد بعده فى حالة من الإضطراب كتلك التى حدثت فى نهاية الدولة القديمة إذ تولت الحكم بعده سبك نفرو كأول إمرأة وفرعون فى تاريخ مصر والتى ربما كانت أخت الملك أو زوجته و فى عهدها القصير الذى لم يتجاوز الثلاث سنوات إضطربت أحوال البلاد وظهرت بوادر هجرات الشعوب البدوية وقلاقل وراء الحدود الشمالية الشرقية وبنهاية حكمها ينتهى عهد الأسرة الثانية عشرة والذى ينتهى بها عصر الدولة الوسطى كلها لتدخل مصر بعد ذلك إلى مرحلة حرجة أخرى من تاريخها عرفت بإسم عصر الفوضى الثانى.
عصر الفوضى الثانى(1786-1580ق.م)
ويشمل هذا العصر الأسرتين المصريتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة (حوالى 1785-1633ق.م)وأسرتى الهكسوس الخامسة عشرة والسادسة عشرة( حوالى 1730-1530ق.م) ويتميز هذا العصر المضطرب بقلة المصادر الأثرية والكتابية ولذا فلايمكن تقديم أكثر من صورة عامة عنه. وقد إستغرق هذا العصر مايزيد عن قرنين وقد حكم خلاله عدد كبير من الملوك ويمكن تفسير ذلك على أساس أنه كانت هناك مجموعات تحكم فى نفس الوقت، فى الشمال وأخرى فى مصر الوسطى وثالثة فى الصعيد.
ويرجح بعض المؤرخين سبب إنهيار الأسر الثانية عشرة بعدم وجود وريث شرعى للحكم وأيضا بحركة الهجرة الواسعة للعمالة الآسيوية إلى مصر وكذلك بعودة نفوذ حكام الأقاليم ولاشك أن كل هذه الأسباب مجتمعة قد ساهمت فى إنهيار الأسرة الثانية عشرة ولايقتصر الأمر على واحد منها فقط.
وبعد إنهيار الأسرة الثانية عشرة إتخذت الأسرة الثالثة عشرة التى خلفتها من (إيثت تاوى) عاصمة لها كما كان الحال من قبل وجاء معظم ملوك هذه الأسرة من طيبة وفى عصر هذه الأسرة تمت سيطرة الهكسوس على مصر فى عهد الملك ديدومسيو الأول ( توتيمايوس عند مانيتون) حوالى سنة 1675ٌ ق.م فكان ذلك بمثابة النهاية لها رغم توالى حكم بعض ملوكها حتى بعد سقوط منف ولكن بالطبع فقد تقلص نفوذ هؤلاء وإنحصر عن الدلتا ولم يعودوا يسيطرون إلا على مناطق محدودة من مصر بعد أن كانوا ملوكا على مصر كلها.
وفى ظل هذه الظروف إستغل أمراء منطقة سخا فرصة ضعف الأسرة الثالثة عشرة وإستقلوا بإقليمهم متخذين من مدينة سخا الحالية بمحافظة كفر الشيخ عاصمة لهم مؤسسين بذلك الأسرة الرابعة عشرة لكن هذه الأسرة لم تستمر طويلا بدورها بعد سقوط الأسرة الثالثة عشرة. وهكذا توزع حكم مصر فى هذه الفترة من تاريخها بين ملوك الأسرة الثالثة عشرة فى الجنوب وأمراء سخا فى غرب الدلتا بينما كان الهكسوس يسيطرون على شرقها حيث إتخذوا من مدينة (أواريس) الواقعة فى شرق الدلتا عاصمة لهم كما إتخذوا من الإله المصرى ست معبودا لهم وووضعوا إسم الإله رع فى ألقابهم الملكية مما يدل على تأثرهم وذوبانهم فى الثقافة المصرية على نحو ما.
وكلمة الهكسوس هى تحريف للكلمتين المصريتين حقاو وخاسوت التى تعنى حكام الأراضى الأجنبية وهى أحد التسميات التى أطلقها المصريون على الآسيويين بشكل عام وقد ترجمها مانيتون فى تاريخه بمعنى ملوك الرعاة أما يوسيفيوس اليهودى فقد ترجمها فى كتابه (تاريخ اليهود) والذى نقل فيه فقرات كثيرة من كتاب مانيتون المفقود بمعنى الأسرى الرعاة وربط بينهم وبين شعب إسرائيل الذى دخل مصر فى حدود ذلك الوقت أيضا ولكن أفضل الإفتراضات فى هذا الخصوص هى أن شعب إسرائيل كان مجرد فصيل من فصائل الهكسوس الذين سيطروا على الوجه البحرى ولم يشكل كل فصائلهم وأنه قد دخل مصر معهم فى حدود نفس التاريخ التى إجتاحت فيه الشعوب البدوية مصر من الشرق بسبب ظروف الجفاف التى شملت إقليم شرق المتوسط فى ذلك الوقت بدليل وجود إسم (يعقوب حار والذى عرف ايضا بإسم يعقوب بعل) ضمن أسماء ملوك الهكسوس، وبشكل عام فهناك شبه إتفاق بين علماء المصريات على أن اليهود أو العبرانيين قد دخلوا مصر مع الهكسوس أو فى زمن إحتلال الهكسوس لمصر بأقل تقدير ولكن تاريخ خروجهم منها فمازال محل خلاف بين العلماء، وهناك نظريات كثيرة تعالج هذا الموضوع الهام بعضها يأخد برواية يوسيفيوس المنقولة عن مانيتون بأن تاريخ الدخول حدث فى عهد الهكسوس وكان الخروج فى عهد أحمس الأول مع الهسكوس وأن أوزرسيف الذى حاصره أحمس فى شاروهين هو موسى نفسه ومن أهم العلماء الذين يؤيدون هذا الرأى ألن جاردنر عالم المصريات الشهير، ومع ذلك فإن النظرية المقابلة الأخرى التى ترجح خروجهم فى عصر رمسيس الثانى وإبنه مرنبتاح تبدو هى الأقٌوى وذلك بسبب النص القاطع - وأسباب أخرى - الذى عثر عليه فى لوح أثرى منسوب إلى عصر مرنبتاح والذى يعدد فيه الفرعون منجزاته ويشير فى إحداها إلى قضائه على شعب إسرائيل صراحة ولكن الواقع أن هذا الموضوع الهام من موضوعات التاريخ المصرى القديم مازال محل جدل حتى اليوم وهناك كثير من النظريات الأخرى التى تتناول هذا الموضوع والتى عالجها تفصيلاً الدكتور محمد بيومى مهران فى كتابه(بنى إسرائيل) وربما تساعد الإكتشافات الأثرية المستقبلية على حسمه بشكل نهائى ولكن وفى كل الأحوال فمن المؤكد أن الحقيقة التاريخية بهذا الخصوص- وأى كانت - تختلف تماما عن الرواية الدينية التى ذُكرت فى قصة الخروج فى العهد القديم والتى فسرت دخول وخروج شعب إسرائيل من مصر بأسباب دينية تماما بينما هى فى الواقع سياسية افتصادية تماما وذلك لإن اليهود عندما بدأوا فى تسجيل تاريخهم فى العهد القديم بعد العودة من المنفى فى بابل بواسطة الكاهن عيزرا ومن تبعه من الكهنة خلال القرن الخامس قبل الميلاد فقد إعتمد هؤلاء منهجا دينيا أسطوريا لتفسير أحداث التاريخ القديم والتى كان قد مر على وقوعها عدة قرون عندما بدأوا فى تسجيلها ولذا فقد غلب عليها طابع الخيال الدينى أكثر من طابع الكتابة التاريخية.
وعلى كل حال فبنهاية عهد الأسرة الثالثة عشرة إنقسمت مصر إلى ثلاثة ممالك رئيسية هى مملكة الهكسوس التى كانت تسيطر على الدلتا ومصر الوسطى، ومملكة طيبة التى ظهرت فى الصعيد وشكلت الأسرة السابعة عشرة وكانت تسيطر على الصعيد، ثم مملكة النوبة التى كان يحكمها أمير نوبى يسيطر على الجنوب من الفنتين حتى كرما وكان حليفا للهكسوس.
ومن الواضح أنه منذ نهاية عهد الأسرة الثالثة عشرة لم يجرؤ أحد من الأمراء المستقلين على إدعاء الملك وتحدى الهكسوس وذلك حتى تجرأ أمراء الصعيد مؤسسى الأسرة السابعة عشرة على إتخاذ ألقاب الفراعين وتحدى نفوذ الهكسوس فى الشمال. ونعرف من وثيقة متأخرة من عصر الرعامسة عرفت بإسم (بردية ساليه) كيف بدأ النزاع بين ملوك طيبة وبين الهكسوس إذ نعرف من هذه البردية أن الملك سقنن رع (الثانى) كان فى ذلك الوقت حاكما على طيبة وكان معاصرا لملك الهكسوس أبوفيس( أبيبى) الذى أرسل يطلب منه إسكات أفراس النهر فى مياه طيبة لإنها تزعجه وهو فى قصره فى الدلتا وذلك كما يبدو على سبيل إستفزازه وإهانته بشكل متعمد. ومن فحص مومياء سقنن رع المحفوظة الآن فى المتحف المصرى نرى أن صاحبها قد مات متأثرا من جراح كثيرة فى صدره وضربة فأس فى رأسه مما يرجح أن يكون هذا الملك قد مات فى الحرب التى بدأت مع الهكسوس فى عهده على أثر تلك الحادثة .
وبعد وفاته تولى إبنه الملك كامس الذى وصلت إلينا أخبار معاركه فى سبيل تحرير مصر على لوحة لصبى فى أحد المدارس كان مدرسه قد أملاها عليه كقطعة إملاء وقد إشتهرت بإسم (لوحة كارنارفون) وفى عام 1954م عثر على لوح حجرى فى أساسات معبد الكرنك وعليه 38 سطرا من الكتابة أكملت للتاريخ قصة كفاح كامس ضد الهكسوس. وفى هذا اللوح الحجرى ينحى كامس باللائمة على ملك الهكسوس ويذكره بهزيمته أمامه وبخوف الآسيويين من جيش مصر ويذكر كامس فى هذه اللوحة أنه قد أسر رسولا بعث به ملك الهكسوس عبر طريق الواحات إلى ملك كوش يحمل رسالة مكتوبة بخطه يحرضه فيها على مهاجمة مصر من الجنوب أثناء إنشغال كامس بحربه ويعده بأن يتقاسم معه مدن مصر. ونتيجة لخشية كامس أن يحدث عليه هجوم من طريق الواحات أرسل حملة إحتلت الواحات البحرية لإنها تقع على رأس الطرق الموصلة إلى مصر الوسطى ثم يعدد كامس المدن التى إستولى عليها وفرح أهل طيبة بإنتصاراته. ولكن الإستيلاء على الوجه البحرى كله وعلى أواريس عاصمة الهكسوس لم يتم على يديه ولكن على يد أخيه أحمس الذى برز فجأة كالبطل الثالث بعد كامس والذى لانعرف كيف إنتهت حياته وواصل أحمس قتال الهكسوس حتى أجلاهم عن مصر تماما.
ونستمد معلوماتنا عن حرب أحمس مع الهكسوس من مقبرة أحد قواده المدعو (أحمس إبن أبانا) حيث يروى هذا القائد على جدران مقبرته تاريخ حياته وكيف أنه تنقل فى الخدمة العسكرية كقائد لإحدى السفن ويذكر كيف تبع سيده الملك فى حربه مع الهكسوس وكيف سقطت أواريس بعد حصارها وكيف فر الهكسوس إلى مدينة (شاروهين) فى جنوب غزة وكيف حاصرها الجيش المصرى لمدة ثلاث سنوات حتى اسقطها وكيف هربت فلول الهكسوس إلى زاهى وهى كلمة مصرية قديمة كانت تشير إلى منطقة فلسطين وسوريا. وهكذا تحررت مصر من الهكسوس بجهود ملوك الأسرة السابعة عشرة الطيبية بدأً بجهود الملك سقنن رع الأول وسقنن رع الثانى وإبنه كامس نهاية بجهود أخيه أحمس الأول محرر مصر من الهكسوس ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة(حوالى 1570-1295ق.م) أشهر الأسرات الفرعونية فى تاريخ مصر القديمة على الإطلاق.
عصر الدولة الحديثة(1580-1078ق.م)
كان للصراع مع الهكسوس تأثيره الكبير على عهد أحمس الأول وعلى تاريخ الأسرة الثامنة عشرة كلها فقد أدرك أحمس وخلفائه من بعده ماللقوة العسكرية من أهمية فى الحفاظ على سلامة الوطن كما أن المصريين قد تعلموا أثناء صراعهم مع الهكسوس كثير من التقنيات العسكرية الحديثة مثل العجلات الحربية وإستخدام البرونز بدلا من الحديد ولذا فقد شهد عهده ثورة تمثلت فى تمجيد الجندية وبناء جيش قوى بدأ به خلفاءأحمس الأول سلسلة الحروب الدفاعية عن مصر والتى أدت فى النهاية إلى تأسيس إمبراطورية مصرية إمتدت من حدود مصر الشرقية حتى نهر الفرات.
كذلك فقد شهد عهده إرتفاع مركز المرأة فى المجتمع المصرى وذلك بسب الدور الكبير الذى لعبته الملكات الثلاث (تتى شرى) زوجة سقنن رع الأول (وإيعح حوتب) زوجة سقنن رع الثانى والملكة (أحمس نفرتارى) زوجة الملك أحمس الأول نفسه فى الصراع مع الهكسوس بحيث ظهرت فى هذه المرحلة وظيفة جديدة للملكة هى وظيفة زوجة الإله آمون وكانت الملكتان إيعح حوتب وأحمس نفرتارى أولى من شغلتا هذا المنصب الدينى الهام إعترافا بالمكانة الجديدة التى أصبحت زوجة الفرعون تحتلها فى ذلك العصر والتى كان لها إنعكاساتها على تاريخ الأسرة كله بحيث تمكنت إمرأة مثل الملكة حتشبسوت من ان تحتل مركز الفرعون القوى بعد ذلك .
وبعد وفاة أحمس الأول خلفه إبنه أمنمحتب الأول والذى إتخذ القابا ملكية تدل على إهتمامه بالبلاد الأجنبية مثل لقبه الحورى كا او عف تاو( الثور الذى أخضع البلاد)(اللقب الحورى هو اللقب الإلاهى الذى يشير إلى نسبة الفرعون إلى حورس الإلهى أول ملك على مصر) والإسم النبتى أعا نيرو( الذى يثير رعبا شديدا)(اللقب النبتى هو اللقب الدنيوى الذى يشير إلى سيطرة الفرعون على الوجهين القبلى والبحرى) ومع ذلك فقد عم السلام سنوات حكمه فى الداخل وفى الخارج ونجحت مصر فى عهده فى توسيع وتأمين حدودها الشرقية والجنوبية دون الإضطرار للقيام بحملات كبرى وقد شهد عهده بعض الإنجازات المميزة فى تاريخ الحضارة المصرية القديمة مثل توصل أحد رعاياه ويدعى أمنمحات إلى إختراع الساعة المائية و كذلك كتابة (بردية إيبرز) التى عُثر عليها فى الأقصر وتعتبر المصدر الرئيسى للطب المصرى القديم و إكتمال النص النهائى لكتاب (إمى دوات) وهو الكتاب الرئيسى من بين الكتب الجنائزية الملكية.
وبعد وفاته خلفه إبنه تحتمس الأول والذى إستطاع أن يمد النفوذ المصرى فى النوبة إلى ماوراء الشلال الثالث عند جزيرة تومبوس كما قام بشن حملة على بلاد نهرين حيث كان يحكم الميتان فى شمال شرق الشام قرب نهر الخابوروالفرات وأقام لوحة حدود هناك.
وبعد وفاته خلفه إبنه تحتمس الثانى الذى قام بدوره بتدعيم تلك الإنتصارات فقام فى العام الأول من حكمه بشن حملة فى النوبة لسحق ثورة فى كوش ثم قام بحملة على جنوب فلسطين ضد البدو(شاسو) وإستمر فى زحفه حتى وصل إلى حدود بلاد نهرين مرة أخرى.وقد تزوج تحتمس الثانى من أخته غير الشقيقة حتشبسوت التى أصبحت ملكة شهيرة بعد ذلك.
فبعد وفاته خلفه إبنه تحتمس الثالث ولإنه كان مازال صغيرا فقد وُضع تحت وصاية زوجة أبيه حتشبسوت التى أخذت تدير شئون البلاد بإسمه لبعض الوقت وعندما إطمأنت إلى قوة مركزها وكثرة أعوانها نحته جانبا وحملت ألقاب الفرعون المصرى كاملة كما زعمت لنفسها مولدا إلهيا من الإله آمون ونقشت ذلك على جدران معبدالدير البحرى الذى يعد أعظم منشآتها على الإطلاق.
وقد إعتمدت حتشبسوت على مجموعة من الرجال الأقوياء كان أشهرهم (سنموت) الذى وصف نفسه بأنه كان أكبر الكبراء فى كل البلاد ورئيس الرؤساء فى كل الأقاليم . وقد تراجعت سياسة مصر الآسيوية فى عهد حتشبسوت ربما بسبب عدم ميولها العسكرية كإمرأة ومع ذلك فقد إشتهرت حتشبسوت بالبعثة التجارية الكبيرة التى أوفدتها إلى بلاد بونت فى الجنوب حتى موقع الصومال الحالية وقد سجلت أخبار الرحلة على معبد الدير البحرى.
وبعد وفاة حشبسوت إنفرد تحتمس الثالث بحكم البلاد لكنه إعتبر حكمه وكأنه يبدأ منذ وفاة أبيه وتجاهل تماما الفترة التى إنفردت بها زوجة أبيه حتشبسوت بالحكم ولم يعترف بها. وبدأ تحتمس الثالث عهداً جديدا فى تاريخ مصر القديمة خاصة من الناحية الخارجية حيث كان يتمتع بعبقرية عسكرية فذة مكنته من مواجهة التمرد الكبير الذى قامت به ولايات مصر الآسيوية بعد عهد حتشبسوت مباشرة وكنتيجة لسياستها السلمية وأيضا كنتيجة لظهور قوة ميتانى ورغبتها فى توجيه سياسة الشرق الأدنى. وكان أمير قادش على رأس هؤلاء المتمردين وقد وصل إلى مجدو بموقع تل المتسلم الحالية وجمع حوله ثلاثمائة وثلاثين أميرا لكى يوقفوا تقدم الفرعون عند مجدو ولكن تحتمس الثالث وبمجرد أن علم بهذا التجمع المتمرد حتى خرج على رأس جيشه وتوجه إلى فلسطين وعبر ممر عارونا الممتد بين شعاب جبل البرقل وذلك بدلا من الإلتفاف حول ذلك الجبل بهدف مفاجئة العدو وإختصار الوقت فى نفس الوقت وبالفعل فوجئ هؤلاء بوصوله على رأس جيشه ففروا تاركين معسكرهم ودخلوا المدينة المحصنة ويذكر النص المصرى بأنه لولا إنشغال الجنود المصريين بنهب المعسكر لأمكنهم الإستيلاء على المدينة بسهولة لكن هذا الخطأ قد كلفهم سبعة أشهر من حصار المدينة حتى تمكنوا من إسقاطها فى النهاية وقدم كل من فيها الولاء للفرعون.
كانت حملة تحتمس الثالث على مجدو فاتحة لحملات أخرى بلغ عددها ستة عشر حملة كان يقوم بها كل عام عند إقبال الصيف ويرجع إلى مصر فى أوائل الشتاء. وقد قام تحتمس الثالث بتجهيز الموانئ السورية لتكون قاعدة للجيش المصرى. وفى حملته السادسة فى العام الحادى والثلاثين من حكمه تمكن من الإستيلاء على قادش وفى حملته الثامنة وصل إلى الفرات وإستولى على مدينة قرقميش وأصبحت مصر منذ هذه الحملة صاحبة النفوذ فى غربى آسيا. وفى الحملة السادسة عشرة والأخيرة فى العام الثانى والأربعين من حكمه ثارت مدينة قادش بمؤازرة ملك ميتان إلا أنه أسقطها للمرة الثانية وقضى على كل محاولة لمعارضة النفوذ المصرى فى تلك البقاع. أما آخر حملة حربية لتحتمس الثالث فكانت على النوبة حيث ذهب إليها فى العام الخمسين من حكمه و مات بعد أن حكم مصر لمدة أربع وخمسين عاما مثلت أزهى عهود العسكرية فى مصر القديمة ربما بنفس الشكل الذى مثلت فيه حملات محمد على أزهى عهود العسكرية المصرية فى العصر الحديث.
وبعد وفاته خلفه إبنه أمنمحتب الثانى وقد نشأ عسكريا على خطى أبيه حيث تكشف نصوص مقبرة مين عمدة مدينة طينة ومدرب أمنمحتب بعض اللمحات عن طفولته وتربيته العسكرية كما توضح اللوحة التى أقامها أمام أبى الهول وعثر عليها عام1936م معرفته بالرياضة وقوته البدنية وبراعته فى كل فنون الحرب.
وفيما يتصل بسياسته الخارجية فقد عمل بعد توليه العرش مباشرة على القضاء على الثورات التى قامت ضد النفوذ المصرى فى غربى آسيا فإندفع نحو سوريا وأخضع كل من لم يقدم له الولاء وفعل مالم يكن من عادة الفراعنة فعله وهو إعدام أسراهم فأحضر سبعة من أمراء المدن السورية إلى طيبة وقتل ستة منهم أمام الإله آمون فى طيبة أما السابع فقد أرسله إلى نبتا ليشنق هناك أمام الإله آمون سيد جبل برقل. وقد تبع تلك الحملة بحملة أخرى فى السنة التاسعة من حكمه. أما فى الجنوب فقد إمتد النفوذ المصرى فى عهده إلى حدود منطقة سندس شمال الخرطوم . وقد حكم حوالى خمسة وعشرين عاما وبعد وفاته خلفه إبنه تحتمس الرابع الذى يبدو أنه كان من أبناء الملك ولكنه لم يكن صاحب الحق الشرعى فى الحكم إذ تروى لنا لوحة الحلم التى أقامها بين ذراعى أبى الهول فى صحراء الجيزة- والتى سبق ذكرها- كيف أنه كان يصطاد يوما من الأيام فى صحراء الأهرام عندما كان أميرا وجلس فى ظل تمثال أبى الهول فغلبه النوم ورأى فى حلمه أبيه الإله أى أبى الهول يبشره بأنه سيصبح ملكا فى المستقبل ويطلب منه إذا تحقق ذلك أن يرفع الرمال التى تراكمت حوله وكادت تخنقه لإنه لم يكن يستطيع التنفس بسببها. ومن الواضح أن هذه القصة تدخل فى نطاق أدب الدعاية السياسية مثل بردية نفرتى التى أشرنا إليها عند الحديث على عهد أمنمحات الأول . وبالفعل قام تحتمس الرابع برفع التراب عن التمثال بعد أن إعتلى العرش كما أثبت أنه كان جديرا بهذا العرش أيضا. فبمجرد توليه الحكم توجه على رأس جيشه إلى سوريا حيث أعاد تأكيد النفوذ المصرى وعاد محملا بالكثير من الغنائم وبعدد كبير من الأسرى الذين بنى لهم حيا خاصا فى العاصمة طيبة وكذلك فعل نفس الشئ عندما ذهب إلى السودان لإخماد ثورة نشأت هناك.
وقد سن تحتمس الرابع سنة جديدة عندما تزوج من إبنة ملك الميتان الأميرة (موت أم أويا) على سبيل المصاهرة السياسية بهدف توطيد العلاقات بين البلدين وهذه الأميرة هى التى أنجبت له إبنه أمنمحتب الثالث الذى تولى العرش بعد وفاته.
وفى عهد أمنمحتب الثالث دخلت الأسرة الثامنة عشرة طورا جديدا من تاريخها حيث لم يكن حاكمها الجديد ميالاً إلى الحرب بطبيعته فقد كان الملك الشاب ميالا إلى الفن والمتعة والجمال فطبع البلاد بطابعه وأخذت مصر تبنى المعابد الضخمة والقصور الفخمة وبدأت الفنون تحتل المكانة الأولى وتراجعت سياسة الحروب الدفاعية التى إستنها فراعنة الدولة الحديثة منذ عهد أحمس الأول.
وقد تزوج أمنمحتب الثالث بالعديد من النساء كانت زوجته الملكة (تى) أشهرهم وكانت سيدة من عامة الشعب من مدينة أخميم وكان لها مكانة كبيرة فى قلب الملك وقد تزوج أيضا من أميرة ميتانية هى الأميرة (جيلوخيبا) إبنة ملك الميتان ثم تبع ذلك بالزواج من أميرات بابليات وآشوريات.
وفى عهده ظهر خطر قبائل العابيرو التى بدأت تثير المتاعب فى فلسطين كما أشارت إلى ذلك رسائل تل العمارنة التى عثر عليها فى موقع مدينة (أخيتاتون) عاصمة إخناتون. ويعتقد أن هؤلاء العابيرو كانوا هم العبرانيين وكانوا جزءً من شعب إسرائيل الذى أخذ يغير على فلسطين بعد خروجه من مصر مع الهكسوس أيام أحمس الأول وأن جزء آخر منهم قد ظل فى مصر حتى خرج بعد ذلك مع موسى فى عهد مرنبتاح إبن رمسيس الثانى. كذلك فقد بدأ الحيثيون فى تهديد نفوذ مصر فى غربى آسيا.
وقد أشرك أمنمحتب الثالث إبنه أمنمحتب الرابع معه فى الحكم وقد تزوج الأخير من أميرة شهيرة تسمى (نفرتيتى) وأقام مع أبيه فى طيبه لكنه بعد أن تولى العرش بعد وفاة أبيه وفى العام السادس من حكمه قرر الإنتقال إلى عاصمة جديدة بناها إلى الشمال من طيبة أطلق عليها إسم أخيتاتون أى أفق آتون أو مشرق آتون وقرر إعتبار قرص الشمس آتون إلها واحدا وبدأ فى إضطهاد آلهة مصر الأخرى وخاصة الإله آمون وكهنته فى طيبة كما غير إسمه من أمنمحتب الرابع إلى إخناتون أى المفيد لآتون. ولاشك أن عقيدة إخناتون الجديدة لم تنشأ من فراغ فقد كانت إمتدادا لعبادة رع أكبر وأقدم آلهة مصر القديمة ولكن فكرة فرضها كعقيدة وحيدة لم يقدر لها النجاح وكان تأثيرها سلبيا على مصير البلاد نتيجة لإنشغال الفرعون بها من جهة ولما أحدثته من إنشقاق فى المجتمع من جهة أخرى. وفى ظل هذه الظروف إزدادت أحوال البلاد سوءً وإنتهزت مملكة خيتا الفرصة وأخذت تغير على المناطق السورية وتضمها منطقة بعد أخرى وذلك بالإضافة إلى ظهور خطر العابيرو أو العبرايين الذى أشرنا إليه سابقا.
ومن أهم آثار إخناتون الدينية نشيده إلى الإله آتون والذى يتشابه بشكل كبيرا للغاية مع المزمور 104 من مزامير العهد القديم وهو أمر يثير تساؤلات كثيرة عن مدى تاثر آداب اليهود الدينية بالآداب الدينية المصرية القديمة وآداب الشرق الأدنى القديم بشكل عام!
كذلك كان لحركة إخناتون الدينية الجديدة تأثيرا كبيرا على الفن المصرى فى هذه المرحلة فظهرت أشكال جديدة من التعبير أكثر جرأة وأكثر إنسانية من الأشكال القديمة الجامدة. ولم يطل العمر بإخناتون إذ مات فى العام الحادى والعشرين من حكمه ودفن فى تل العمارنة ثم نقل جثمانه إلى وادى الملوك بغرب طيبة بعد ذلك ولم تحقق دعوته الدينية نجاحا يذكر وإنفض عنها كل من كان إنتمى إليها ممالأة له فى حياته وأشهرهم خليفته الثانى تون عنخ آمون الذى حكم بعد خليفته سمنخ كارع و غير إسمه من توت عنح آتون إلى تون عنخ آمون وإنتقل للحياة فى طيبة مرة أخرى وهجر تل العمارنة التى أصبحت مدينة أشباح بعد ذلك.
وقد مات توت عنخ آمون صغيرا وقد أثبت فحص موميائه أنه قد مات بسبب حادث أو إغتيال وذلك من أثر صدمة عنيفة فى مؤخرة الرأس. وقد كشف العالم الأثرى هوارد كارتر عن مقبرته فى نوفمبر عام 1922م بمنطقة وادى الملوك بطيبة ويعتبر ذلك الكشف من أهم الكشوف الأثرية فى تاريخ العالم بشكل عام وليس فى تاريخ مصر فقط إذ تحتوى آثار توت عنخ آمون على أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية بأحجام مختلفة يأتى على رأسها القناع الجنزى الفريد لوجه الفرعون الصغير شديد التعبير والذى أصبح ينافس أهرام الجيزة فى الإشارة إلى حضارة مصر القديمة. كما أصبحت ذكريات هوارد كارتر نفسه عن هذا الكشف أحد الأدبيات الكلاسيكية المرتبطة بعالم الآثار القديمة.
وبعد وفاة توت عنخ آمون خلفه الكاهن آى ولم يحكم أكثر من ثلاث سنوات ثم خلفه القائد العسكرى الشهير حورمحب الذى تزوج من الأميرة الملكية موت نجمت أخت نفرتيتى و حاول إسترضاء كهنة آمون ونجح بالفعل فى القضاء على كثير من مظاهر الفساد والفوضى التى خلفها عهد إخناتون حتى إشتهر فى التاريخ المصرى بلقب فرعون محاربة الفساد وقد عُثر على لوح حجرى يشمل القوانين والإجراءات التى إتخذها فى سبيل تحقيق العدالة ورفع الظلم عن المواطنين. كما أمر بإصلاح المعابد وترميمها مما لحقها من تخريب فى عهد إخناتون وفى عام حكمه السادس عشر قام بحملة عسكرية فيما بين بيبلوس وقرقميش مما سبب ضغطا كبيرا على الحيثيين وهو الأمر الذى أدى إلى عقد معاهدة بينه وبين الملك الحيثى مورسيل ضمن بموجبها إستقرار الأحوال وراء حدود مصر الشرقية. ومات حور محب بعد أن حكم مصر لحوالى سبعة وعشرين عاما وخلفه زميل سابق له فى الجيش يدعى رمسيس هو الذى أصبح رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشرة فيما بعد.
لم يحكم رمسيس الأول لأكثر من سنتين سار فيها على خطوات حورمحب فى تسيير شئون البلاد بعدل وحزم وبعد وفاته خلفه على العرش إبنه سيتى الأول الذى إنتسب إلى عبادة الإله ست كما يبدو من إسمه وواصل سياسة إصلاح المعابد التى خربت فى عهد إخناتون ونلاحظ أن الفراعنة كانوا يختارون بين آلهة مصر الكبرى لأسباب سياسية أو لأسباب إيمانية خاصة بهم وكان رع أشهر هذه الآلهة و كذلك آمون وست وبتاح كما كانت عقيدة أزوريس عقيدة شعبية عميقة الجذور فى الروح المصرية القديمة وكان أوزوريس إلها للعالم السفلى وأبا لحورس أول ملك على مصر لكن الآلهة الكبرى ظلت كما هى حتى نهاية تاريخ مصر الفرعونية وهى رع وآمون وبتاح وست. وفى بعض الأحيان كان ملوك الفراعنة يلجأوون إلى نوع من التوفيق بين الآلهة محاولة لإرضاء أكبر عدد ممكن من رعاياهم فمثلا كان الفرعون ينتسب إلى إلهين فى نفس الوقت مثل الإلهين آمون ورع والذى إنتسب إليهما كثير من فراعنة الدولة الحديثة .
أما فيما يتصل بسياسة سيتى الأول الخارجية فلقد قام فى سنى حكمه الأولى بحملة على سوريا وتبع ذلك بثلاث حملات واجه فى الحملة الأخيرة منها الحيثيين فى موقعة عسكرية غير حاسمة. وفيما يتصل بالغرب فلقد ظهرت بوادر إضطرابات على حدود مصر الغربية فقام ستى ببعض حملات فى هذه الجهات وسجل أخبار إنتصاراته فيها عل جدران معبد الكرنك.
وبعد وفاته خلفه إبنه رمسيس الثانى أشهر فراعنة مصر القديمة على الإطلاق ليس لإن إسمه قد إرتبط بالصراع مع موسى وشعب إسرائيل فقط ولكن لإن هذا الفرعون أستطاع أن يفرض إسمه على التاريخ من خلال منشآته العظيمة وحملاته الظافرة وحكمه الطويل الذى بلغ سبعة وستين عاما. ومن أهم آثار رمسيس الثانى معابد أبى سمبل الشهيرة التى نقلت من مكانها بعد بناء سد مصر العالى بمعونة منظمة اليونسكو عام 1964. ولقد أنشأ رمسيس عاصمة جديدة لمصرأطلق عليها إسم (بررعمسيس) والتى تعنى بيت رمسيس محبوب آمون وتقع فى شرق الدلتا على الفرع التانيسى للنيل وكانت بذلك ذات موقع متوسط يناسب توجهات رمسيس السياسية بإتجاه تثبيت النفوذ المصرى فى فلسطين وسوريا. وفى تسمية العاصمة الجديدة مايشير إلى توحد الآلهين رع وآمون. وقد إرتبط إسم رمسيس الثانى فى التاريخ بقصة خروج شعب إسرائيل من مصر ولكن الواقع أن ذلك قد يكون قد حدث فى عهد إبنه مرنبتاح وليس فى عهده – كما أشير سابقا.
وقد قام رمسيس الثانى فى عام حكمه الرابع بحملة على سوريا وفى عام حكمه الخامس وقع الصدام بينه وبين الحيثيين فى موقعة قادش الشهيرة . كانت جيوش رمسيس الثانى مقسمة إلى أربعة فرق رئيسية تحمل أسماء آلهة مصر الكبرى وهى فرق آمون ورع وبتاح وست وقد تمكنت هذه الفرق من تحقيق النصر فى النهاية بعد أن واجهت صعوبات كبيرة ووقع الطرفان على أثر ذلك معاهدة كانت بمثابة هدنة عسكرية إذ تجدد النزاع بعد ذلك بين رمسيس الثانى وبين الحيثيين فى العام الثامن من حكمه فقام بحملة أخرى لكن النصر لم يكن حاسما فيها أيضا كالحملة الأولى وفى العام الحادى والعشرين من حكم رمسيس الثانى تم توقيع معاهدة صداقة بين مصر وبين مملكة الحيثيين إستقرت بها العلاقات بين البلدين.
وبعد وفاة رمسيس الثانى خلفه إبنه مرنبتاح المشهور صاحب لوحة إسرائيل وكان فى الستين من عمره عندما تولى الحكم وكان أبيه قد أشركه معه فى إدارة شئون البلاد وقد شهد عهده إضطرابات أثارتها شعوب البحر الإغريقية التى بدأت تتدفق على شواطى المتوسط فى حدود عهده ونعتقد أنها نفس الفترة التى إستقرت فيها قبيلة البالستو الإغريقية على شواطئ فلسطين وأعطتها إسمها الحالى وهؤلاء هم الفلسطينيون الذين سوف يدخلون فى صراع مرير مع الشعب الإسرائيلى فى فلسطين بعد خروجه من مصر .
وقد قام مرنبتاح بحملة على آسيا فى العام الثالث من حكمه وفى العام الخامس تمكن من صد هجوم كبير قامت به بعض القبائل الليبية من قهق ومشوش بالتحالف مع خمسة قبائل من شعوب البحر وإستطاع بذلك دفع هذا الخطر عن مصر مؤقتا. ومات مرنبتاح بعد أن حكم أحد عشر عاما وبوفاته دخلت مصر فى مرحلة من الفوضى وتعاقب العديد من الملوك فى الحكم مثل آمون مس الذى حكم فترة وجيزة بعد مرنبتاح ثم مرنبتاح سابتاح الذى حكم لمدة ست سنوات حتى خلعه الملك سيتى الثانى الذى حكم لست سنوات هو الآخر وجاء بعدهم الملكة تاوسرت وخلفها حاكم أجنبى هو باى السورى الذى إشتهر بإسم (إرسو) والذى يمثل عهده نهاية الأسرة التاسعة عشرة. وبتولى ست نخت الذى عزل إرسو يبدأ تاريخ الأسرة العشرين والتى يمثل عهدها آخر عصر الدولة الحديثة وربما آخر عهد قوة فى تاريخ مصر الفرعونية.
وقد حكم ست نخت حوالى ثلاثة أعوام وتولى بعده رمسيس الثالث ومن أشهر آثاره معبد مدينة هابو فى طيبة أما فيما يتعلق بسياسته الخارجية فقد حدث الإحتكاك الأول بينه وبين القبائل الليبية وحلفائهم من شعوب البحر فى السنة الخامسة من حكمه وإنتهت الحرب بينهما بهزيمة الليبيين هزيمة كبرى على حدود الدلتا الغربية عندما كانوا فى طريقهم إلى منف.
وفى العام الثامن من حكمه خاض رمسيس الثالث حربا ضد شعوب البحر الشمالييين وتمكن من هزيمتهم ولكن الليبيين إنتهزوا فرصة إنشغال المصريين بحرب شعوب البحر وأعادوا تنظيم أنفسهم وشنوا هجوما كبيرا آخر على مصر فى العام الحادى عشر من حكم رمسيس الثالث وكانت قيادة الحرب هذه المرة للمشوش بينما كانت قيادة الحرب الأولى لريبو وإستطاع المشوش وحلفائهم فى هذه الحرب الثانية الوصول إلى الدلتا ومحاصرتها من الشمال والجنوب ولكن رمسيس الثالث تمكن مع ذلك من هزيمتهم فى نهاية الأمر وقتل مششر زعيم قبيلة مشوش قائدة هذه الحرب وقد ترك هذا الإنتصار أثرا كبيرا بين المصريين وسموا هذه المناسبة بعيد قتل المشوش وأخذوا يحتفلون بها سنويا لكن كل هذه الجهود لم تمنع النتيجة النهائية المحتومة فى الواقع لإن مصر وقعت فى النهاية فى يد الليبيين الذين شكلوا الأسرات من الثانية والعشرين حتى الرابعة والعشرين ولو أن ذلك قد يكون قد حدث فى شكل تغلغل فى موجات من الهجرة السلمية إنتهت بسيطرة العناصر الليبية فى نهاية الأمر كما حدث مع الهكسوس قبل ذلك وقد مثل ذلك أول إحتلال حقيقى لمصر من جهة الغرب كما مثل الهكسوس قبل ذلك أول إحتلال حقيقى لها من جهة الشرق. وسوف يطلق بعض المؤرخين على عصور الحكم الليبى لمصر إسم عصر الفوضى الليبية بدلا من تسمية عصر الفوضى الثالث الذى يتبعه معظم المؤرخين وتبدو تسمية الفوضى الليبية مناسبة تماما فى الواقع لسياق التاريخ المصرى فى ذلك العصرالمضطرب.
أما بالنسبة لسياسة رمسيس الثالث تجاه الشرق فقد أضطر فى بداية حكمه إلى القيام بحملة آسيوية ربما نتيجة الإضطرابات التى نتجت عن هجرات الشعوب الهندوأوربية وقد تمكن من إعادة الأمن إلى نصابه فى ممتلكاته الآسيوية ولو إلى حين. أما عن الجنوب فقد كانت النوبة قد تمصرت تماما فى هذه الفترة من عهد الأسرة العشرين ولذلك فلم تعد موضع قلق بالنسبة للفراعين الذين لم يحاولوا القيام بحملات قوية إلى هذه البلاد ومع ذلك فإن نقوش معبد مدينة هابو تشير إلى رحلة محدودة قام بها رمسيس الثالث على النوبة.
عصر الفوضى الثالث/الفوضى الليبية(1080-664ق.م)
وبموت رمسسيس الثالث فقدت مصر آخر فراعنتها العظام ودخلت فى طور من الضعف والتفكك إنتهى بخسارة ممتلكاتها فى سوريا وفلسطين و بسيطرة الليبيين بعد ذلك على الدلتا وتكوين الأسرات من الثانية والعشرين حتى الرابعة والعشرين فبعد وفاته حكم ثمانية من الفراعنة الضعفاء بدءً برمسيس الرابع حتى رمسيس الحادى عشر الذى إنقسم حكم مصر بعد وفاته بين كهنة آمون فى طيبة فى الجنوب وبين القادة العسكريين فى الدلتا فى الشمال .
ومن علاقة النسب والمصاهرة بين بيت حريحور كاهن طيبة ونسى بابند الحاكم العسكرى للدلتا ولدت الأسرة الحادية والعشرين الذى يشوب ترتيب ملوكها كثير من الإضطراب ولايوجد إتفاق بين الباحثين بشأن ترتيب الحكام فيها نظرا لإستمرار تقاسم السلطة فى الواقع بين الجنوب فى طيبة والشمال فى تانيس ولكن تشتهر فيها أسماء سمندس وبسوسنس الأول وأوسركون وسى آمون وبسوسنس الثانى وسوف تستمر ظاهرة تقاسم السلطة بين الشمال والجنوب حتى ظهور شيشنق الأول الليبى قائد الجيش وحاكم الدلتا والذى سوف يتمكن من الإستيلاء على السلطة وفرض حكمه على مصر كلها مؤسسا بذلك الأسرة الثانية والعشرين.
وشيشنق الأول هو فرعون شهير فى ذلك العصر المضطرب حيث ورد إسمه فى العهد القديم بسبب الحملة التى قام بها على فلسطين أثناء حكم سليمان حوالى سنة 931 ق.م .وقد زوج شيشنق الأول إبنه أوسركون الأول من إبنة بسوسنس الثانى آخر ملوك الأسرة الحادية والعشرين وإتخذ من تانيس (بوباسطة) عاصمة لملكه وإستمرت عهود الحكام ذوى الأصل الليبى لأكثر من قرنين بعده نسوا فيهم أصلهم الأجنبى وحملوا ألقاب الفراعنة ودانوا بعقائد المصريين. وقد عمل شيشنق الأول على الزواج من الأسرة الكهنوتية فى طيبة كأسلافه ملوك الأسرة الحادية والعشرين كما عين أحد أبنائه فى منصب كاهن آمون رع فى الكرنك.وقد خلفه على عرش مصر إبنه أوسركون الأول الذى ولى أبنائه الأربعة كهانة طيبة على التوالى وقد حمل ألقاب والده وخلف كثيرا من الآثار.
وبعد وفاة أوسركون الأول خلفه إبنه تلكوت الأول ولايعرف الكثير عن عهده وبعد وفاته خلفه إبنه أوسركون الثانى الذى إختار بدوره إبن عمه شيشنق الثانى لكهانة آمون فى طيبة ولكن ذلك قد سبب إنشقاق فى الأسرة حيث عمل شيشنق الثانى على إتخاذ الألقاب الملكية مع أوسركون الثانى ولكن الأخير إنتهز فرصة وفاة شيشنق الثانى وعين إبنه نيلموس فى كهانة آمون . وقد ترك أوسركون الثانى كثيرا من المبانى ولكن يلاحظ أنه كان يستخدم فى مبانيه أحجارا من مبانى أسلافه وخاصة رمسيس الثانى مما قد يدل على عدم تقديره لهؤلاء الأسلاف ويؤكد الأصل الأجنبى لفراعنة هذا العصر بشكل عام لإن ظاهرة إستخدام أحجار السلف وخاصة رمسيس الثانى سوف تستمر فى عهد هذه الأسرة.
وبعد وفاة أوسركون الثانى خلفه إبنه تلكوت الثانى وفى عام حكمه الحادى عشر عين إبنه أوسركون كبيرا لكهنة آمون فى طيبة وقائدا لكل البلاد وقد إشتعلت فى العام الخامس عشر من حكم تلكوت الثانى ثورة عنيفة دامت لحوالى عشر سنوات.
وبعد موت تلكوت الثانى خلفه على العرش شيشنق الثالث وليس إبنه أوسركون الذى ظل على كهانة آمون فى طيبة وإتخذ شيشنق الثالث ألقاب الفراعنة وإستمر حكمه لفترة تزيد عن النصف قرن وقد شيد الكثير من المبانى وبنفس الأسلوب أيضا إستخدم أحجار مبانى رمسيس الثانى فى كثير منها. وفى أواخر عهده نشأت أسرة ملكية جديدة منافسة هى الأسرة الثالثة والعشرين وكان مقرها فى شرق الدلتا أيضاً فى مدينة ليونتوبوليس القديمة(تل المقدم الحالية بالقرب من ميت غمر بمحافظة الدقهلية).وبعد وفاة شيشنق الثالث خلفه على عرش الأسرة ملك يسمى بماى وتعنى القط ثم شيشنق الرابع وإنتهى حكم الأسرة بالملك أوسركون الرابع.
أما مؤسس الأسرة الثالثة والعشرين فهو أمير ليبى آخر يسمى بدباست وقد حكم لحوالى أربعين سنة تبعا لرواية مانيتو وخمسة عشرين سنة فقط تبعا لرواية أخرى وقد رحبت طيبة بحكمه ويبدو أن البيتين الحاكمين فى الدلتا قد رضيا بالأمر الواقع بحيث أصبحت مصر تحكم من أسرتين ملكيتين ومن عاصمتين مختلفتين هما تانيس وليونتوبوليس فى وقت واحد وقد ظل الأمر كذلك حتى تمكن أوسركون الثالث خليفة بدباست من القضاء نهائيا على حكم الأسرة الثانية والعشرين ولكن الواقع أنه بعد وفاة أوسركون الثالث إنقسمت الدلتا كلها إلى عدد كبير من الممالك الإقطاعية الصغيرة الخاضعة لحكامها المحليين ولم تكن سيطرة الأسرة الثالثة والعشرين سوى مجرد سيطرة إسمية. وبعد وفاة أسركون الثالث خلفه تكلوت الثالث ثم رود آمون ثم يويوت الثانى وإنتهى حكم هذه الأسرة بظهور أمير ليبى آخر فى غربى الدلتا هو تاف نخت الشهير مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين الذى أخذ يبسط نفوذه على أمراء غرب الدلتا ثم حارب أمراء مصر الوسطى حتى أخضعهم وتمكن فى نهاية الأمر من إخضاع أمراء شرق الدلتا أيضا وأصبح حاكما معترفا به على كل الوجه البحرى ومصر الوسطى وبدأ فى الزحف على الصعيد.
لكن آمال تف نخت لم تتحق إذ ظهر له منافس قوى قادما من الجنوب مؤسسا الأسرة الخامسة والعشرين السودانية. ومؤسس الأسرة السودانية هو الملك كاشتا إبن الملك ألارا ووالد بعنخى وكان هو الذى بدأ الإتصالات مع المصريين فى الجنوب من أجل الزحف على الدلتا وتخليصها من حكم الليبيين لكن العمل الحقيقى لم يتحقق إلا فى عهد إبنه بعنخى الذى خلفه على عرش نباتا عام 747ق.م حيث أسرع بعنخى بإرسال جيوشه إلى مصر حين أتته الأنباء ان تف نخت أمير سايس بدأ فى الزحف على الصعيد .
وبالفعل إستطاعت جيوش بعنخى الإستيلاء على طيبة لكنها فشلت فى دخول منطقة إهناسيا والأشمونين وعندما وصلت تلك الأنباء إلى بعنخى قرر التوجه بنفسه إلى مصر لمساعدة جيوشه وزحف على طيبة مرة أخرى ودخلها وزار معبد الإله آمون وأعلن خضوعه كعادة كل غزاة مصر فى ملاطفتهم لمشاعر المصريين الدينية المعروفة ثم واصل زحفه شمالا حتى دخل منف وقدم فروض الطاعة للإله بتاح إله منف أيضا ثم أعقب ذلك بزيارة معبد عين شمس حيث إعترف به كهنة الإله رع ملكا على مصر وعندئذ أعلن أمراء الدلتا خضوعهم وعلى رأسهم تف نخت الذى كان قد إختبأ فى جزيرة صغيرة فى شمال الدلتا.
ولكن بعنخى قرر بعد ذلك العودة إلى مقر حكمه فى نباتا مما شجع منافسه تف نخت على الظهور وإدعاء الملك مرة أخرى ملقبا نفسه حاكم القطرين وسيد الدلتا والصعيد. وفى هذه الأثناء كان بعنخى قد مات وخلفه إبنه شاباكو الذى أسرع إلى الشمال وبسط سلطانه على مصر مرة أخرى وأنهى حكم الليبيين إلى الأبد.
وما أشبه قصة الفوضى الليبية بقصة فوضى الهكسوس مع الفارق بأن الهكسوس ظلوا غرباء حتى أخرجهم أحمس الأول من مصر فى نهاية الأمر أما اللبيين فقد ذابوا فى مصر والمصريين ودانوا بعقائدهم وتسموا بأسمائهم ونسوا مع الزمن أصولهم الأجنبية كما نسى المصريون أصول هؤلاء الأجنبية أيضا وقد جاء منهم بعض الملوك العظام الذين دافعوا عن مصر وحملوا راية الحضارة المصرية حتى النهاية مثل باخوريس إبن تاف نخت.
وشهد زمن دخول شاباكو إلى مصر صعود نجم آشور فى الشرق الأدنى القديم وتطلعها إلى فرض نفوذها المباشرعلى كل شعوبه لكن شاباكو آثر أن يؤسس علاقات ودية مع الآشوريين فأرسل الهدايا إلى سرجون الثانى ملك آشور فى ذلك الوقت لثنيه عن مهاجمة مصر ومع ذلك فقد قام سرجون بمهاجمة مصر ووصل حتى حدود رفح ولكنه لم يستطع التقدم لأكثر من ذلك حيث ردته القوات المصريه وإضطرته للعودة إلى بلاده.
وبعد وفاة شاباكو خلفه شبتكو الذى لم يحكم إلا فترة وجيزة توفى خلالها سرجون الثانى وتولى بعده سنحريب(705-681 ق.م) الذى زحف على أورشليم وحاصرها حتى أخضعها ثم إضطره تفشى وباء الطاعون فى جيوشه بإلإضافة إلى الإضطرابات الداخلية فى بلاده إلى العودة إلى بلاد الآشوريين حيث قتل بعد ذلك بيد أحد أبنائه وخلفه أسرحدون(680-669 ق.م) وفى نفس الوقت كان شبتكو قد مات وخلفه على عرش مصر طهراقا وبدأ ينظم المقاومة ضد الآشوريين ويثير المتاعب ضدهم فى غربى آسيا ويتعاون مع حكامها وخاصة ملوك إسرائيل وإستطاع هزيمة أسرحدون عندما زحف على مصر سنة 674 ق.م.
لكن أسرحدون عاود الكرة مرة أخرى عام 670 ق.م. ووصل إلى منف حيث دارت بينه وبين طهرقا معركة كبيرة تمكنت فيها الجيوش الآشورية من إسقاط منف وتدميرها وهرب طهرقا إلى الجنوب. وفى هذه الحملة أمر أسرحدون بتغيير كثير من أسماء المدن المصرية إلى أسماء آشورية كما أمر بترحيل جماعات كبيرة من الأطباء والبيطريين والسحرة والكتبة والموسيقيين إلى عاصمته فى نينوى كما سيفعل الفاتح العثمانى سليم الأول بالمصريين بعد ذلك بحوالى الفى سنة بعد غزوه لمصر سنة 1517م.
وعلى كل حال فبمجرد أن علم طهرقا بعودة الملك الآشورى أسرحدون إلى بلاده حتى خرج من مقره فى طيبة وزحف على الدلتا مرة أخرى وعزل الأمراء الذين خضعوا لأسرحدون ولكن الملك الآشورى عندما علم بذلك سارع بالخروج فى حملة جديدة لكنه مرض ومات فى حران قبل أن يصل إلى مصر وخلفه إبنه آشور بانيبال(668-626 ق.م.) الذى تابع إنفاذ حملة أبيه على مصر ووسع منها حيث هاجمها برا وبحرا وواجه جيش طهرقا فى معركة رهيبة وتمكن من الإنتصار عليه وعندما إنسحب طهرقا إلى الجنوب تبعه آشور بانيبال ودخل طيبة وأحرقها بالنار فهرب طهرقا إلى نباتا ولم يتبعه آشور بانيبال وقرر العودة إلى الشمال وحكمه من خلال بعض الأمراء المصريين وخاصة نكاو أمير سايس والد أبسماتيك الأول مؤسس الأسرة السادسة والعشرين فيما بعد حيث قربه آشور بانيبال وأعاده إلى إمارة سايس كما عين ولده أبسماتيك أميرا على مدينة أتريب.
وفى ذلك الوقت كان طهرقا قد مات وخلفه إبنه تانوت آمون الذى قرر الزحف على الشمال مرة اخرى بمساعدة أهل الصعيد الذين رحبوا به كمحرر لهم من الآشوريين. وتوجه تانوت آمون إلى الشمال حتى وصل إلى منف و حاصر الحامية الآشورية لكن أمراء الشمال لم يساعدونه ولم يعلنوا ولائهم له و أرسل الآشوريون جيشا طوق جيش تانوت آمون فى منف مما إضطره إلى الهرب إلى طيبة فتبعه الآشوريون إلى هناك كما فعلوا مع طهرقا من قبل ودخلوا طيبة ودمروها تدميراً تاماً هذه المرة. وإضطر تانوت آمون على أثر ذلك إلى مغادرة مصر نهائيا والتوجه نحو عاصمته الجنوبية نباتا وبخروجه من مصر إنتهى عصر الأسرة الخامسة والعشرين السودانية وإستقر الحكم الآشورى فيها لبعض الوقت حتى إستطاع أبسماتيك الأول طرد الآشوريين وتأسيس الأسرة السادسة والعشرين المصرية وعاصمتها سايس - صا الحجر الحالية - التى شكلت آخر عصر نهضة فى تاريخ مصر الفرعونية .
صحوة الموت(664-525ق.م)
كانت ظروف ضعف الحكومة الآشورية فى نينوى بسبب محاولة بابل التخلص من النفوذ الآشورى وكذلك ظهور قوة الفرس الميديين الجديدة هى التى شجعت أبسماتيك على التخلص من الإحتلال الآشورى فبدأ بتجميع السلطات الداخلية فى يديه حتى أصبح فى عام 654 ق.م حاكما فعليا على مصر كلها كما أخذ يتصل سرا بملك ليديا الذى كانت بلاده قد تعرضت للإحتلال الآشورى بدورها وعقد معه حلفا ثم أعد جيشا قويا مطعما بجنود من المرتزقة الإغريق الذى بدأ ظهورهم محسوسا فى تاريخ مصر منذ ذلك العصر وإستطاع بهذا الجيش إكتساح الحاميات الآشورية القوية التى كانت تعسكر فى الدلتا وطردها نهائيا من مصر. وقد إنعكست فرحة التحرر من الإحتلال الآشورى وإستعادة وحدة البلاد على نواحى الحياة الداخلية فسادت مشاعر العزة القومية و التفاخر بأمجاد السلف وتمثل ذلك فى إحياء تقاليد الدولة القديمة فى اللغة والدين والفنون بحيث إصطبغ عصر الأسرة السادسة والعشرين بصبغة الدولة القديمة فى كل شئ مع بعض التجديد. ومن المظاهر التى ميزت عهد أبسماتيك أيضا والذى إستمر لحوالى أربعة وخمسين عاما هى إستمراره فى إستقدام الجنود الإغريق إلى مصر والذى رأى فيه البعض خطرا جديدا على البلاد يعادل خطر الآشوريين والفرس.
وبعد وفاة أبسماتيك خلفه إبنه نكاو الثانى فى عام 610 ق.م وكان لايقل إقداما عن أبيه فعندما ورثت بابل مركز آشور فى غرب آسيا وطمعت فى إحتلال مصر أعد نكاو الثانى جيشا وتحالف مع الآشوريين هذه المرة وتمكن من هزيمة البابليين وحليفتها مملكة إسرائيل فى موقعة بالقرب من مجدو مما جعل إسرائيل تغير من تحالفها مع البابليين وتتحالف مع مصر بعد ذلك فى عهد الفرعون إبريس الذى خلف أبسماتيك الثانى. وقد جر ذلك عليها بلاءً عظيما إذ حاصر نبوخذ نصر ملك بابل أورشليم ودمرها وأسقطها ونفى كثير من الشعب اليهودى إلى بابل عام 583 ق.م . وبعد موقعة مجدو إنتصر نكاو الثانى على البابليين مرة أخرى فى موقعة على ضفاف الفرات بالقرب من قرقميش لكن طموحاته توقفت بعد ذلك نتيجة لصعود قوة نبوخذ نصر.
ومن أهم أعمال نكاو الثانى شروعه فى شق قناة تربط النيل بالبحر الأحمروهى القناة التى أكملها بعده الملك الفارسى دارا وقد إشتهرت فى التاريخ بإسم قناة نكاو وقد أعيد حفرها فى العصر الروماني كما أعاد عمرو بن العاص حفرها بعد فتحه لمصر وأطلق عليها إسم قناة أمير المؤمنيين وذلك بهدف تسهيل وصول المؤن والغنائم إلى المدينة عاصمة الدولة العربية الإسلامية الوليدة فى ذلك الوقت.
وبعد وفاة نكاو الثانى خلفه إبنه أبسماتيك الثانى الذى تجنب الإحتكاك بالبابليين وعمل على الحفاظ على علاقته بالإغريق وزاد من تشجيعهم وإستعان بهم فى تكوين أسطول ضخم .
وبعد وفاة أبسماتيك الثانى خلفه إبريس الذى إستغل أسطول سلفه فى غزو فينيقيا ونجح فى ذلك بسبب إنشغال نبوخذ نصر فى حروبه مع ميديا وعندما هاجم نبوخذ نصر أورشليم ودمرها وسبى شعبها نتيجة تحالفها مع مصر عام 583.م رحل كثير من اليهود إلى مصر فرحب بهم إبريس وسهل لهم ظروف العيش فى مصر فإنتشرت جالياتهم حتى منطقة الفنتين بالقرب من أسوان. وسوف تتحالف هذه الجاليات مع الفرس عند دخولهم مصر بعد ذلك بسبب جهود الفرس فى تحرير اليهود من النير البابلى.
وعلى كل حال فقد أثارت سياسة إبريس فى الإستمرار فى إستقدام المرتزقة الإغريق غضب العسكريين المصريين فحدث عصيان فى صفوف الجيش نتيجة لإرسال فرقة من فرقه إلى قرطاجة إذ ظن أفرادها أن الفرعون قد فعل ذلك فى محاولة للتخلص منهم فثاروا ضده فأرسل إليهم أحد قواده وهو أحمس أمازيس أو أحمس الثانى لكنهم إستمالوه ونصبوه ملكا عليهم وإشتعلت بين الطرفين حربا إنتصر فيها أمازيس على إبريس وقتله وإنفرد بالحكم.
كان أحمس الثانى أمازيس صديقا للإغريق بدوره وقد إتخذ حرسه الخاص منهم وكان تحالفه معهم نابعا من إدراكه للأخطار المحيطة بمصر من ناحية البابليين والفرس على السواء . وقد إستطاع فى أوائل حكمه صد هجوم بابلى على مصر وقد إضطره ذلك إلى إحتلال جزيرة قبرص وعقد معاهدة مع ملك ليديا فى غرب آسيا ونجحت سياسته فى تجنيب مصر الأخطار الخارجية التى أحاطت بها ولكن فى السنة الأخيرة من حكمه أخذت نذر خطر جديد تلوح فى الأفق وهو خطر الفرس الميديين لكنه مات قبل أن تقع تلك الكارثة وكان مقدرا على خليفته أبسماتيك الثالث أن يرى بلاده تسقط فى أيدى الفرس عام 525 ٌق.م وأن يدفع حياته ثمنا لذلك. ففى أخريات القرن السادس ق.م كان الفرس قد ورثوا إمبراطورية الآشوريين وبدأوا يتطلعون إلى السيطرة على مصر وقد ساعدت الظروف على ذلك إذ ساق القدر للملك قمبيز غازى مصر مغامر يونانى إسمه فانيس كان يعمل قائدا لإحدى فرق المرتزقة الإغريق فى مصر ثم إختلف مع الملك أحمس الثانى فهرب إلى قمبيز ملك الفرس وزين له غزو مصر ونصحه بطلب مساعدة بدو الصحراء الشرقية ليدلوه على مداخلها ويضمنوا لجيشه إمدادات المياه والطعام وهى العقبة الرئيسية التى كان يخشاها قمبيز وبالفعل تم ذلك التحالف وإنفذت الحملة إلى مصر ووصل قمبيز وجيوشه إلى مشارف غزة فى ربيع عام 525 ٌق .م ثم إجتاحوا مدينة الفرما بعد ذلك وتوجهوا مباشرة إلى الدلتا حيث دارت معركة كبيرة بينهم وبين المصريين إخترقوا فيها دفاعات الدلتا فهرب المصريون إلى منف لكن قمبيز حاصرهم ودخل المدينة حيث إسستسلم له الملك أبسماتك الثالث خلف أحمس الثانى فأكرمه قمبيز لكن الفرعون إنتحر بعد ذلك أو قتل فى رواية أخرى . وبعد ذلك تقدم قمبيز إلى طيبة وإستولى عليها وأصبح بذلك حاكما على مصر كلها ومن هناك أنفذ حملتين بإتجاه السودان وليبيا ولكنهما بائتا بالفشل حيث أبيدت جيوشه وردمتها رمال الصحراء.
النهاية(525-332ق.م)
وبإستيلاء قمبيز على مصر تأسست الأسرة السابعة والعشرين الفارسية وقد حكم فيها خمسة ملوك هم قمبيز الذى غزاها عام 525 ق.م ثم دارا الأول الذى زارها عام 517 ق.م وأمر بتجميع القانون المصرى منذ أقدم العصور حتى أحمس الثانى ثم الملك أسركسيس ثم أرتاكسركسيس وأخيرا دارا الثانى الذى توفى عام 404 ق.م ليستقل بها بعد ذلك الفرعون المصرى آمون حر الثانى الذى كان قد أعلن الثورة فى أخريات عهد دارا الثانى حوالى سنة 410 ق.م حتى تمكن من الإستقلال سنة 404 ق.م مؤسسا الأسرة الثامنة والعشرين المصرية وظل يحكم لمدة ستة سنوات حتى عام 399 ق.م
وفيما يخص حكم الأسرة السابعة والعشرين الفارسية لمصر يجب أن نلاحظ أن حكم مصر لم يستقر لملوكها المذكورين أبدا إذ ظل المصريون طوال هذا العصر فى ثورة مستمرة متحالفين فى معظم الأحيان مع المدن اليونانية والتى كانت بدورها فى صراع دائم مع الفرس وخاصة أثينا وإسبرطة. ومن أكبر الثورات التى شهدها هذا العصر وكادت مصر أن تتحرر خلالها من حكم الفرس ثورة عام 488 ق.م ثم ثورة عام 460 ق.م وأخيرا ثورة آمون حر الثانى التى إنتهت بالتحرر من السيطرة الفارسية عام 404 ق.م كما أشير سابقاً.
وبعد وفاة آمون حر الثانى خلفه أحد أمراء الدلتا الأقوياء ويدعى نفريتس مؤسسا بذلك الأسرة التاسعة والعشرين المصرية وإتخذ من مدينة منديس عاصمة له وقد ضمت هذه الأسرة أربعة ملوك حكموا حوالى عشرين سنة (398-378 ق.م) . وفى أثناء حكم نفريتس الذى دام ست سنوات حاول الفرس إستعادة نفوذهم فى مصر ولكن ظروف عدم الإستقرار داخل البيت الحاكم الفارسى حالت دون ذلك. وقد تحالف نفريتس مع الإسبرطيين فى صراعهم مع الأثينيين على زعامة بلاد اليونان وأرسل لهم أسطولا ضخما ومؤن كثيرة ولكن الإثنينيين إستولوا عليه.
وبعد وفاة نفريتس خلفه ملك ضعيف لم يحكم سوى عام واحد ثم خلفه فرعون شهيرهو باخوريس الذى حكم لمدة ثلاثة عشر عاما تمكن خلالها من صد الحملة القوية التى أرسلها الفرس على مصر وإستغرقت الحرب فيها ثلاث سنوات (385-383 ق.م).وقد نأى باخوريس بنفسه عن صراعات أثينا وإسبرطة وتحالف مع إيفا جوراس ملك سيلاميس فى قبرص عوضاً عنهما.
وفى عهد باخوريس عاد بعض من النفوذ المصرى إلى فلسطين وجنوب فينيقيا وبعد وفاته خلفه على العرش نفريتس الثانى الذى لم يحكم سوى أربعة أشهر إنتقل العرش بعدها إلى أمير قوى كان قد قام بدور كبير فى أيام باخوريس هو نختنبوالأول الذى تمكن من تأسيس الأسرة الثلاثين المصرية(380-343 ق.م)ونقل العاصمة من منديس إلى سمنود.
وفى عهد نختنبو المذكور قام الملك أرتاكسركسيس الثانى الذى خلف دارا الثانى(404 -358ق.م) بمحاولة قوية لإسترجاع سيادة الفرس علي مصر فأرسل حملة ضخمة عام 373 ق.م بقيادة الوالى الفارسى على سوريا تمكن الجيش الفارسى خلالها من تدمير الدفاعات المصرية ومحاصرة منف ولكن إرتفاع مياه فيضان النيل أجبر القوات الفارسية على الإنسحاب بعد ذلك.
وبعد وفاة نختنبو خلفه إبنه جدحر فإستبدل سياسة الدفاع بالهجوم وإستأنف سياسة التحالف مع أثينا وأسبرطة وتمكن من تجهيز جيش ضخم بلغ ثمانين الف مصريا وعشرة آلاف من الأثينيين وألفا من الإسبرطيين وأعد مابين مائتين إلى ثلاثمائة سفينة حربية وخرج على رأس هذا الجيش محققا إنتصارات ساحقة فى سوريا أعادت إلى الأذهان إنتصارات الفرعون نكاو الثانى لكن خيانة أخيه الذى إستولى على العرش فى غيابه مستغلا إستياء الكهنة من الضرائب المرتفعة التى فرضها عليهم جدحر فى سبيل تجهيز الجيش وأمره لإبنه الذى كان مصاحبا لجدحر فى حملته بالعودة بمعظم الجيش وكذلك إستدعاء أثينا للقائد اليونانى كابريوس الذى كان يقود الفرق الإثينية فى جيش جدحر قد جعل جدحر يسقط فريسة لليأس فيترك جيش ويفر هاربا مستسلما إلى ملك الفرس فى صيدا.
وبعد وفاة أخى جدحر مغتصب العرش تولى إبنه المذكور الذى عاد بمعظم الجيش من ميدان المعركة وإتخذ لقب نختنبو الثانى وإستطاع القضاء على مؤيدى جدحر بتأييد من الكهنة الذين أعفاهم من كثيرا من الضرائب ومنحهم كثيرا من الإمتيازات. وقد تمكن نختنبو الثانى من صد الحملة التى أنفذها الفرس إلى مصر عام ( 351-350 ق.م) ولكنه لم يصمد فى الحملة الثانية التى قادها الملك أرتاكسركسيس الثالث بنفسه فتراجع إلى مصر العليا حيث تمكن من الصمود لحوالى سنة ونصف ثم هرب إلى السودان لتتحول مصر إلى إقليم فارسى مرة أخرى وأخيرة خلال الفترة التى يعتبرها بعض المؤرخين الأسرة الحادية والثلاثين والأخيرة فى تاريخ مصر الفرعونية.
لم يدم الحكم الفارسى طويلا ففى ذلك الوقت كان فيليب المقدونى قد تمكن من توحيد بلاد اليونان المتهالكة بعد معركة خيرونيا سنة 338ق.م وبعد إغتياله خلفه إبنه الإسكندر الأكبرالذى زحف فى حملاته الظافرة على آسيا وهزم الملك دارا الثالث فى موقعة إفسوس عام 333 ق.م ومن هناك إتجه إلى سوريا فمصر التى سلمها له الوالى الفارسى مازاكيس بدون قتال فى عام 332 ٌق.م فدخلها ظافرا حيث توج فرعونا فى معبد الإله بتاح بمنف كما إعتاد غزاة مصر أن يفعلوا فى ذلك العصر ثم زار معبد الإله آمون فى واحة سيوة حيث كان يعتقد أنه إبنا لهذا الإله المصرى الشهير وأمر بتشييد مدينة الإسكندرية ثم عاد إلى مدينة بابل بعد أن أصبحت مصر القديمة العظيمة جزءً من إمبراطوريته الوليدة وبدأ بذلك عصر جديد فى تاريخ الشرق الأدنى القديم و البحر المتوسط يعرف بإسم العصر اليونانى أو العصر الهيلينيستى وهو العصر الذى إختلطت فيه مؤثرات الحضارات الشرقية القديمة بتراث الحضارة اليونانية وسادت فيه بعض الممالك الإغريقية فى مصر وشمال وشرق البحر المتوسط .

















أهم المراجع :
1-دراسات فى تاريخ الشرق الأدنى القديم د.أحمد أمين سليم- دار النهضة العربية- بيروت
2-معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم - د. أبوالمحاسن عصفور- دار النهضة العربية- بيروت
3-تاريخ مصر القديمة-نيقولا جريمال- ترجمة ماهرجويجاتى- دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع-القاهرة- باريس
4- مصر الفراعنة – ألن جاردنر- ترجمة/نجيب إبراهيم ميخائيل - الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة
5-الكتاب المقدس- طبعة إنجليزية- مؤسسة الجيدوين- سنغافورة.















2-العصر اليونانى
(323ق.م-31ق.م)
كان الإسكندر صاحب مشروع حضارى كبير يهدف إلى توحيد الشرق بالغرب لكنه مات شابا قبل أن يحقق حلمه وإنقسمت إمبراطوريته المترامية الأطراف إلى ثلاث ممالك رئيسية هى مملكة مقدونيا ببلاد اليونان والمملكة السلوقية فى سوريا والعراق ومملكة البطالمة فى مصر والتى أصبحت من خلالها مصر جزءً من عالم شرق المتوسط الإغريقى وهو الوضع الذى إستمر حتى ظهور الرومان وتمكنهم من إسقاط الممالك الإغريقية الثلاث وبسط سيادتهم على غرب وشرق المتوسط وتوحيد شعوبه فى إمبراطورية واحدة هى الأكبرفى التاريخ ، لتصبح مصر بعد ذلك جزءً من العالم المتوسطى الكبير حتى فتح العرب لها سنة 641م وفصلها – وكل جنوب المتوسط – عن ذلك العالم حتى اليوم.
كان بطليموس الأول،مؤسس الأسرة البطلمية(سوتير- المنقذ 223-284ق.م) من كبار قادة الإسكندروقد تقرر فى مؤتمر بابل الذى عقد بعد وفاة الإسكندر مباشرة أن تكون إدارة شئون مصر من إختصاصه وقد عاد بطليموس إلى مصر بعد خمسة أشهر من وفاة الإسكندر وأعدم كليومينيس النقراطيسى الذى كان الإسكندر قد جعله على إدارة شئون مصر ودخل بطليموس الأول فى صراعات عسكرية ودبلوماسية طويلة ومعقدة مع باقى القادة المقدونيين حتى تم له فى النهاية الإستقلال بحكم مصر لكن الواقع أن هذه الصراعات لم تحسم إلا بعد رحيل الجيل الأول من القادة المقدونيين ولذا فلم تظهر مصر كدولة يونانية مستقلة إلا فى عهد إبنه وخليفته بطليموس الثانى فيلادلفوس وذلك بجانب المملكتين المقدونيتين الأخريتين مملكة مقدونيا فى بلاد اليونان وعلى رأسها أنتيجونس الثانى (جوناثاس) والمملكة السلوقية فى بابل وسوريا وعلى رأسها أنتيوخس الأول.
حكم بطليموس الثانى فيلادلفوس(المحب لأخته284 -246ق.م ) مصر لفترة طويلة وفى عهده تم إرساء القواعد الأساسية للدولة البطلمية فى مصر ويعد عهده الطويل أزهى عهود تاريخ مصر البطلمية ففى عهد تم وضع معظم النظم الإدارية لمصر البطلمية كما تم إنشاء المنارة والمكتبة والمتحف أهم العلامات الحضارية لمصر البطلمية وإرتفع شأن مدينة الإسكندرية وأصبحت أهم موانئ البحر المتنوسط التجارية وأهم محطاتها الثقافية فى نفس الوقت بفضل وجود المكتبة والمتحف بها و تعتبر ترجمة التوراة إلى اليونانية – والتى عرفت بإسم الترجمة السبعينية بسبب قيام نحو سبعين عالما يهوديا بترجمتها – من أشهرالأعمال الثقافية التى تمت فى عهد فيلادلفوس وفى عهده أيضا وضع الكاتب المصرى الشهير مانيتون السمنودى كتابه عن تاريخ مصر القديمة والذى مازال – وبرغم فقد أصوله – المرجع الأساسى فى تاريخ مصر الفرعونية.
وقد حرص فيلادلفوس على تدعيم مركز مصر فى بحرإيجة مركز الثقل الحضارى لذلك العصر وأخذ فى تشجيع المدن اليونانية فى آسيا الصغرى على الثورة ضد الوجود المقدونى هناك كما تدخل ضد النفوذ المقدونى فى بلاد اليونان الأصلية فتحالف مع أثينا وإسبرطة حتى تمردتا على مقدونيا سنة 266ق.م لكن مقدونيا تمكنت من دحر تمرد أثينا وإسبرطة حوالى سنة 261ق.م وفشلت سياسات فيلادلفوس فى تقليص النفوذ المقدونى فى جزر بحر إيجة وبلاد اليونان والتى كانت أخته وزوجته أرسينوى الثانية المحرض الرئيسى عليها.
أما عن علاقته بالدولة السلوقية فى سوريا والعراق فقد ظلت هذه العلاقة متوترة بسبب حرص البطالمة الدائم على الإستيلاء على جنوب سوريا وفى سنة 276ق.م إشتعلت الحرب السورية الأولى بين الجانبين وقد سيطرت فيها القوات البطلمية على دمشق لفترة قصيرة لكن الملك السلوقى أنتيوخس الأول تمكن من طردها ومع ذلك فقد إحتفظت مصر البطلمية بسيطرتها على جنوب سوريا وساحل فينيقيا. وبعد وفاة أنتيوخس الأول سنة 262ٌق.م قرر إبنه وخليفته أنتيوخس الثانى الإنتقام من مصر لمساعدتها برجامة عدو الدولة السلوقية فى آسيا الصغرى فشن حربا عليها عُرفت بإسم الحرب السورية الثانية وكانت آسيا الصغرى مسرحا لها وقد كانت الهزيمة من نصيب الأسطول المصرى بسبب تحالف الجانبين السلوقى والمقدونى ضد مصر فهُزم الأسطول المصرى عند جزيرة كوس سنة 258-256ق.م وخسرت مصر معظم ممتلكاتها فى بحر إيجة. ويبدو أن فيلادلفوس قد أدرك ان تحالف ملك مقدونيا أنتيجونس جوناثاس والملك السلوقى انتيوخس الثانى كان هو السبب وراء تلك الهزائم فعمل على تدعيم علاقاته بالملك السلوقى بأن زوجه بإبنته الأميرة برنيكى وحمل معها مهرا ضخما إلى أنتيوخس على أمل أن تنجب منه وريثا شرعيا للعرشين معا.
وقد تمكن فيلادلفوس أيضا من إعادة حكم برقة إلى مصر بعد أن كان أخاه غير الشقيق ماجاس قد إستقل بها ولكن بعد وفاة ماجاس سنة 259ق.م قام فيلادلفوس بتزويج إبنه وخليفته من إبنة ماجاس وبذلك أعاد برقة إلى مصر مرة أخرى.
وقد إهتم فيلادلفوس أيضا إهتماما بالغا ببلاد العرب بهدف تأمين تجارة مصر الشرقية وربطها ببلاد العرب مباشرة وتحريرها من سيطرة الأنباط عليها فأرسل حملة إستكشافية إلى هناك بقيادة شخص يدعى أريستون كما أنشأ مستعمرة تجارية فى بلاد العرب تدعى أمبيلونى وقام بحملة ضد الأنباط فى سنة 278ق.م وأعقبها بحملة أخرى فى العام التالى.
وهكذا إستطاع فيلادلفوس تدعيم التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية التى إستنها والده بطليموس الأول مؤسس الدولة، بل أنه سار بها خطوات أبعد عندما أرسل سفارة إلى الدولة الرومانية الناشئة فى غرب البحر المتوسط سنة 273ق.م وتمكن من الحفاظ على علاقته الجيدة بها دون التورط فى سلسلة الحروب التى نشأت بينها وبين منافستها قرطاج والتى عُرفت فى التاريخ بإسم الحروب البونية.وقد توفى فيلادلفوس سنة 246ق.م بعد أن حكم حوالى أربعين سنة كانت بلاشك أزهى عهدا من عهود المملكة البطلمية فى مصر وقد خلفه إبنه بطليموش الثالث.
حكم بطليوس الثالث يورجيتيس(الخير246-221ق.م)مصر لفترة طويلة أيضا ويبدو من لقبه يورجيتيس أى الخير أنه كان يتمتع بصفات حميدة ومن المعروف عنه أنه أسقط الضرائب عن الأهالى لظروف مجاعة مرت بها البلاد بل أنه قد قام بإستيراد كميات كبيرة من الغلال لمساعدة الأهالى فى تلك الظروف. وقد إضطرت الظروف يورجيتيس إلى الدخول فى حرب مع الدولة السلوقية فى سوريا وهى الحرب التى عرفت بإسم الحرب السورية الثالثة حيث طلبت منه أخته برنيكى العون على أثر وفاة زوجها أنتيوخس الثانى فى ظروف غامضة وإعلان زوجته الأولى لاوديكى من إبنها سليوقس الثانى ملكا خلفا لأبيه بدلا من إبن برنيكى كما كانت تأمل العائلة البطلمية فى مصر من وراء زواج أنتيوخس ببرنيكى. تقدم يورجيتيس فورا ملبيا نداء أخته فإجتاح سوريا وتمكن من دخول أنطاكية عاصمة الدولة السلوقية وقد واصل يورجيتيس تقدمه حتى عبر الفرات وذلك رغم ورود الأخبار بمقتل أخته برنيكى وإبنها والذى كان يهدف من حملته إقامته على العرش ولكنه إضطر فى نهاية سنة245ق.م إلى العودة إلى مصر بعد ورود الأخبار عن المجاعة الكبيرة التى حلت بمصر نتيجة لإنخفاض فيضان النيل وأدت إلى حدوث حالة كبيرة من الفوضى والإضطراب. وقد إنتهز سليوقس الثانى الفرصة وقام فى سنة 241ق.م بإسترداد كل ماإستولى عليه يورجيتيس من أراضى ولكن ظلت سوريا الجنوبية (فلسطين وساحل فينيقيا) تحت سيطرة مصرهذه المرة أيضا.وإنتهت هذه الحرب بتوقيع معاهدة بين مصرالبطلمية والدولة السلوقية سنة 241ق.م بسبب عدم تمكن أنتيوخس الثانى من الإستمرار فى الحرب لإنشغاله فى صراعه مع أخيه الأصغر أنتيوخس هيراكس.
وقد كانت لسياسة يورجيتيس الودية تجاه المصريين وإحترامه للديانة المصرية أثرها فى أن أصدر الكهنة المصريون سنة 237ق.م قرارهم الشهير بقرار كانوب والذى منحوا فيه بطليموس الثالث لقب الخير أو فاعل الخير وهو من ألقاب الإله أوزوريس والذى ترجم فى اللغة اليونانية إلى يورجيتيس. وقد توفى بطليموس الثالث يورجيتيس فى سنة221ق.م وخلفه إبنه بطليموس الرابع فيلوباتور.
يعتبر عهد بطليموس الرابع فيلوباتور(المحب لأبيه221-205ق.م) بداية لعهد الضعف والتدهور فى تاريخ الدولة البطلمية بمصر فرغم إتخاذه لقب المحب لأبيه فقد كانت صفاته على عكس صفات أبيه الذى أحبه رعاياه فقد كان مستهترا غارقا فى الملذات وقد وقع تحت تأثير جماعة سيئة من رجال القصر من أمثال أجاثوكليس وسوسيبيوس الذى حرضه على قتل والدته برنيكى وعمه وأخويه وعددا آخر من اصدقائه حتى يخلو له الجو ويتمكن من السيطرة على الملك وإدارة شئون البلاد بمفرده.
وقد تصادف حكم فيلوباتورالضعيف مع حكم أنتيوخس الثالث أقوى ملوك الدولة السلوقية وكذلك مع حكم ملك قوى آخر فى مقدونيا هو فيليب الخامس فماكان من هذين الخصمين القويين إلا أن عقدا تحالف بينهما بهدف إقتسام ممتلكات الدولة البطلمية. وعلى ذلك فقد إنتهز الملك السلوقى فرصة وفاة يورجيتيس وقام بغزو جنوب سوريا فى 221ق.م لكن القوات البطلمية هناك تصدت له وأفشلت مسعاه وإنتهز سوسيبيوس فرصة إنشغال الملك السلوقى بالثورة التى إشتعلت فى بابل وأخذ يعمل على تجهيز الجيش المصرى للحرب القادمة وعندما فشل فى الحصول على مايكفيه من المرتزقة الإغريق لجأ إلى تجنيد المصريين فقام بتدريب حوالى عشرين ألفا منهم على أساليب الحرب المقدونية وضمهم إلى الجيش.
وعندما فرغ أنتيوخس الثالث من مشاكله الداخلية وفشل فى إستعادة جنوب سوريا عن طريق المفاوضات خرج على رأس جيوشه مرة أخرى لغزو تلك المناطق فإستولى على ساحل فينيقيا أولا ثم توجه جنوبا وإستولى على غزة وواصل تقدمه نحو رفح لكن الجيش المصرى كان فى إنتظاره هناك بقيادة فيلوباتور نفسه ومساعده سوسيبيوس الذى كان يقود الفرق المصرية وإلتقيا به فى موقعة رفح الشهيرة سنة 217ق.م حيث أوقعوا الهزيمة بجيوشه الجرارة وإضطروه إلى طلب الصلح وقد لعبت الفرق المصرية دورا حاسما فى كسب هذه المعركة وإسترداد جنوب سوريا بعد أن كادت نتائجها تميل فى بداية الحرب لصالح السلوقيين وكان من الطبيعى أن يكون لذلك أثره المستقبلى على العلاقة بين المصريين وحكامهم البطالمة.
وتعتبر موقعة رفح حدا فاصلاً بين عصر القوة الذى سبقها وعصر الضعف الذى تلاها فى تاريخ مصر البطلمية فقد تكاتفت بعد تاريخ هذه المعركة عدة عوامل داخلية وخارجية ساهمت كلها فى إضعاف الدولة كان أهمها فى الداخل هو ثورات المصريين الذين إستردوا ثقتهم بأنفسهم بعد إحرازهم للنصر فى معركة رفح وكلفت ثوراتهم الدولة البطلمية كثيرا من الجهود لإخمادها خاصة فى مدينة طيبة معقل الثورة وكذلك ضعف السلطة المركزية الذى تمثل فى توالى ملوك ضعاف على العرش مثل فيلوباتور نفسه ثم النزاع الدائم على العرش بين الإخوة والذى صدع وحدة الدولة وفتح الباب للتدخل الخارجى أما العوامل الخارجية فكانت تكمن فى ظهور ثلاث قوى فتية راحت تتربص بالدولة البطلمية وهى أنتيوخس الثالث ملك سوريا والعراق الذى عمل بكل قوة بعد معركة رفح على إسترداد جنوب سوريا ونجح فى ذلك فعلا وفيليب الخامس ملك مقدونيا الذى كان يتطلع إلى إقامة إمبراطورية كبرى والسيطرة على كل بحر إيجة ودولة روما التى راحت تتطلع للإستيلاء على مناطق شرق المتوسط بعد أن إنتهت من السيطرة على غربه خلال الحروب البونية خاصة وأن مملكة مقدونيا والمملكة السلوقية كانت قد أيدت هانبيال الزعيم القرطاجى فى حروبه ضد روما وكان طبيعيا أن تلجأ روما للإنتقام من هاتين المملكتين بعد أن خرجت ظافرة من تلك الحروب وأكملت سيطرتها على غرب البحر المتوسط كما كان من الطبيعى أن ينتهى ذلك الزحف الرومانى على شرق المتوسط بسقوط مصرالبطلمية أيضا وذلك رغم الموقف المصرى المساند لروما اثناء الحروب البونية والطبيعة الودية التى ميزت تاريخ العلاقات بين الدولتين.
وقد توفى فيلوباتور سنة 203ق.م وخلفه إبنه الطفل بطليموس الخامس أبيفانس(الظاهر203-180م) بوصاية سوسيبيوس وأجاثوكليس واللذان دبرا مؤامرة لقتل أمه الملكة أرسينوى الثالثة الوصية الشرعية على الملك الطفل. وبعد وفاة سوسيبيوس إنفرد أجاثوكليس بالوصاية على الملك الصغير وتولى إدارة شئون البلاد وحده.
أرسل أجاثوكليس سفارة إلى روما طالبا منها التوسط بين مصر وأنتيوخس الثالث لكن روما لم تبد حماسا للتدخل لإن مثل تلك الخلافات بين الممالك البطلمية كانت تصب فى مصلحتها فى النهاية وكذلك حاول أجاثوكليس التقرب إلى مقدونيا لكن ذلك لم يفيد حيث كان هناك إتفاق وتحالف بين فيليب الخامس ملك مقدونيا وأنتيوخس الثالث السلوقى على إقتسام ممتلكات مصر الخارجية بحيث يستولى كل طرف منهما على ممتلكاتها القريبة من مملكته فيستولى فيليب على ماتبقى لمصر من ممتلكات فى بحرإيجة ويستولى أنتيوخس على ماتبقى لها من ممتلكات فى جنوب سوريا وآسيا الصغرى.
ولم تطل فترة تحكم أجاثوكليس فى البلاد إذ ثار عليه شعب الإسكندرية بسبب تدبيره لقتل الملكة أرسينوى الثالثة بشكل خاص وأيد الجيش ذلك الشعور الشعبى فأعلن تلبوليموس قائد حامية بلوزيوم العصيان وإنضمت إليه حامية الإسكندرية وإقتحم الثوار القصر وأخرجوا الملك الصغيروسحلوا أجاثوكليس وأسرته فى الشارع وقطعوهم إربا وتم تعيين تلبوليموس وصيا على الملك لكنه لم يلبث أن عُزل بشخص آخريُدعى أرستومنيس.
هيأت تلك الأحداث الظروف لفيليب الخامس وأنتيوخس الثالث لتنفيذ إتفاقهما بالإستيلاء على ممتلكات مصر الخارجية فتقدم أنتيوخس الثالث وإجتاح جنوب سوريا وهزم الجيش البطلمى عند بانيون بالقرب من نهر الأردن سنة 200ق.م وفقدت مصر جنوب سوريا هذه المرة إلى الأبد وكذلك فقدت ممتلكاتها فى آسيا الصغرى. وفى حدود نفس الوقت إنقض فيليب على ممتلكات مصر فى جزر الكيكلاديس وعند مضيق البسفور وفى منطقة تراقيا شمال بحر إيجة وأيضا وبحلول سنة 200ق.م لم يعد فى حوزتها سوى قبرص وقورينى.
أدى نشاط فيليب الخامس فى بحرإيجة إلى إثارة مخاوف جزيرة رودس ومملكة برجامة فطلبتا مساعدة الرومان الذين كانت طموحات فيليب قد أثارت مخاوفهم خاصة أنه بطموحاته وشخصيته كان شبيها بالإسكندر الأكبر إذ إنطلق كلاهما من مقدونيا مع فارق أن الإسكندر كان يتطلع إلى الشرق بينما كان فيليب الخامس يتطلع إلى الغرب وكان يهدف إلى إقامة إمبراطورية مقدونية متاخمة لبلاد الرومان ومن هنا يمكن تفسير تأييده لهانيبال فى حروبه ضد الدولة الرومانية والتى خرجت منها روما منتصرة فى نهاية الأمر.
إنتهزت روما الفرصة وأرسلت سفارة إلى مصر سنة 200ق.م بهدف التوفيق بين بطليموس الخامس وأنتيوخس الثالث وضمان وقوف أنتيوخس على الحياد فى حالة وقوع الصدام مع فيليب وفى نفس الوقت أخذت تؤلب المدن الإغريقية على فيليب وأرسلت إليه محذرة من التدخل فى شئون رودس ومصر ولكن فيليب رفض الإنذار. وأدى رفض فيليب إلى نشوب الحرب المقدونية الثانية التى أحرزت فيها روما نصرا كبيراً على قوات فيليب فى موقعة كينوس كيغالاى(رؤوس الكلاب) فى سنة 197ق. وإتبعت ذلك بإعلان حرية المدن الإغريقية وتعاظمت قوتها وبدأت تتطلع إلى السيطرة على شرق البحر المتوسط.
أخذت روما تراقب نشاط أنتيوخس الثالث بعد أن إستولى على ممتلكات مصر فى جنوب سوريا وآسيا الصغرى وتوقعت أن يتقدم لمساعدة فيليب الخامس لكن أنتيوخس فعل ماهو أكثر من ذلك إذ تقدم إلى بلاد اليونان وإستولى على بعض المناطق التابعة لفيليب فى تراقيا وبلاد اليونان والتى كان الرومان قد أصبحوا يعتقدون أنها أصبحت تابعة لهم وعندما حاولوا إقناعه بالتراجع رفض كما فعل فيليب قبله ولكن الغريب أن مصر فى هذا الصراع قد إنحازت إلى جانب عدوها التقليدى أنتيوخس الثالث وليس إلى الرومان وجرت مفاوضات بين الطرفين سنة 195ق.م أسفرت عن توقيع معاهدة وعن زواج بطليموس الخامس أبيفانس من كليوباترة إبنة أنتيوخس الثالث على أن يكون مهر العروس دخل بعض مناطق جنوب سوريا وكأن مصر إنتهزت هذه الظروف لإستعادة سيطرتها القديمة على جنوب سوريا.
لكن تلك الظروف لم تستمرطويلا فسرعان ماتغير الوصى على أبيفانس وكان الوصى الجديد يرى أن الإنحياز للرومان أضمن لإستعادة ممتلكات مصر الخارجية لذلك فقد ألغى بطليموس الخامس المعاهدة التى أبرمها مع أنتيوخس الثالث وأرسل يعرض على الرومان المساعدة فى صد هجوم أنتيوخس على بلاد اليونان سنة 192ق.م لكن روما رفضت عرضه إستياءً من موقفه السابق بالتحالف مع أنتيوخس. وفى سنة 189ق.م إشتبك الرومان مع أنتيوخس الثالث فى معركة ماجنيسيا وأوقعوا به هزيمة منكرة وطردوه من بلاد اليونان وإستولوا على كل آسيا الصغرى. وفى السنة التالية188 ق.م وقعت معه صلح أباميا الذى تم فيه حرمانه من شمال سوريا( شمال وغرب جبال طوروس)وأعلنت حرية المدن الإغريقية كما وزعت ممتلكاته فى آسيا الصغرى على حليفتيها رودس وبرجامة أما مصر فقد ظلت على علاقة الجفاء بها ولم تعيد إليها ممتلكاتها هناك. وقد أدى صلح أباميا إلى علو شأن روما فى شرق البحر المتوسط وبداية إضمحلال مصر والمملكتين الهيللنستيتين الأخريتين.
وإلى عهد أبيفانس يعود حجر رشيد الذى إكتشفه أحد جنود الحملة الفرنسية سنة 1799م وكان عبارة عن قرار أصدره كهنة منف عقب إجتماعهم سنة 196ق,م تعبيرا عن إمتنانهم للملك البطلمى وقد كتب باللغتين المصريتين القديمتين، الهيروغليفية والديموطيقية،وكذلك باللغة اليونانية مما مكن العالم الفرنسى الشاب شامبليون من دراسته دراستة مقارنة وفك رموز اللغة المصرية القديمة.
وقد شهد صعيد مصر كثيرا من الثورات فى عهد أبيفانس وقد إستهلك ذلك جهودا جبارة من الدولة لإخمادها.وفى سنة 180ق.م توفى بطليموس الخامس أبيفانس تاركا ولدين وإبنة واحدة من زوجته السورية كليوباترة الأولى، فخلفه الإبن الأكبر البالغ من العمر سبعة أعوام بوصاية أمه الملكة السورية وحمل لقب بطليموس السادس فيلوميتور أى المحب لأمه (180-145ق.م). وتزوج فيلوميتور من أخته كليوباترة الثانية وعندما بلغ الخامسة عشرة تم تتويجه فرعونا فى منف سنة 172 ق.م.
كان من الطبيعى ان تظل العلاقات طيبة مع سوريا فى ظل وصاية الملكة كليوباترة ولكن بعد وفاتها تحولت الوصاية على العرش إلى إثنين من عبيد القصر هما يولايوس ولينايوس فإستئنفا سياسة العداء تجاه الدولة السلوقية محاولين إستعادة جنوب سوريا. وقد تصادف ذلك إنشغال الملك أنتيوخس الرابع فى سوريا بالصراع مع اليهود فإنتهز الوصيان الفرصة وأخذا فى إعداد الجيش للحرب وأصبحت الحرب السورية السادسة على الأبواب لكن وقبل أن تشتعل بادر كل طرف بإرسال سفارة إلى روما لتبرير موقفه وكان طبيعيا أن لاتأخذ روما جانب أحد الطرفين لإنها كانت منهمكة فى الحرب المقدونية الثالثة وكانت حريصة على أن ينشغل كلا الطرفين بمشاكله وأن لايفكرأى منهما فى المشاركة فى تلك الحرب.
وفى سنة 170ق.م بادر أنتيوخس الرابع بالزحف على الحدود المصرية وهزم الجيش البطلمى عند بلوزيوم وتقدم نحو منف ويقال أنه توج فرعونا هناك وإستدعى الملك الطفل وأجبره على توقيع إتفاق يقبل فيها بحماية أنتيوخس الرابع ولكن السكندريين رفضوا ذلك الإتفاق وثاروا على الوصيين يولايوس ولينايوس وأعلنوا الشقيق الأصغر لفيلوميتور ملكا على مصر وإستعدوا لمواجهة الملك أنتيوخس الرابع فى حالة زحفه على الإسكندرية وبالفعل إستعد أنتيوخس للزحف على الإسكندرية وإعادة فيلوميتور إلى عرشه ولكن ظروف ثورة اليهود فى فلسطين إضطرته إلى تغيير خططه والإتجاه إلى فلسطين وبذلك أصبح هناك ملكان على مصر واحد فى منف والآخر فى الإسكندرية وكان المفترض أن ينشأ بينهما نزاع على الحكم ولكن نجحت الجهود فى التوفيق بينهما على أن يشتركا فى الحكم بمشاركة أختهما كليوباترة الثانية التى كانت تكبرهما وذلك من أجل تفويت الفرصة على أنتيوخس فى التدخل فى شئون مصر. لكن أنتيوخس وبعد أن فرغ من قمع ثورة اليهود عاود غزو مصر سنة 168ق.م بحجة الحفاظ على حقوق فيلوميتوروإستولى على جزيرة قبرص وأخذ بالتقدم نحو مصر وذلك رغم تلقيه من الملكين مايفيد إتفاقهما وغياب مبرر تدخله فى الشأن المصرى وبالفعل تمكن من حصار الإسكندرية وحاول إخضاع الملكين لمطالبه فما كان منهما إلا أنهما إستنجدا بروما وهنا كان الرومان مستعدين للتدخل خاصة بعد إنتصارهم فى الحرب المقدونية الثالثة حيث لم يكونوا مستعدين لترك مصر تسقط فى يد الملك السلوقى.
قامت روما بإرسال بعثة إلى أنتيوخس برئاسة النبيل الرومانى بوبليوس لايناس وحملته رسالة من السناتو يطلب منه الجلاء عن مصر فورا وإلا أصبح عدوا للشعب الرومانى وعندما طلب الملك السلوقى مهلة للتفكيررسم بوبليوس بعصاه دائرة حوله وقال له أن عليه تقديم الجواب قبل الخروج من تلك الدائرة وبُغت أنتيوخس بالتصرف الجرئ ومد يده مصافحا معلنا عن رغبته فى أن يظل صديقا للرومان وغادر مصر عائدا إلى بلاده.
كان من الطبيعى أن يكون لتلك الحادثة أثرها البعيد فى تاريخ مصر البطلمية فإن كانت روما قد أنقذتها من الإحتلال السلوقى فقد كان من الطبيعى أن تكون المقدمة الطبيعية لوقوع مصر فى يد الرومان أنفسهم، فمنذ ذلك التاريخ أخذ الرومان يتدخلون فى كل شئون مصر مما أدى إلى قيام ثورة فى الإسكندرية بقيادة رجل يدعى بيتوسرابيس طالب فيها بخلع فيلوميتور من العرش ولما إمتدت الثورة إلى الوجه القبلى توجه فيلوميتور بقواته لقمعها ولكن بعد عودته إلى الإسكندرية وجد أن شقيقه قد دبر مؤامرة لإبعاده عن الحكم مماجعله يهرب إلى روما ويستنجد بها من أجل إعادته إلى عرشه. قرر السناتو التدخل لحل الخلاف بين الأخوين فإقترح تقسيم المملكة بحيث يظل فيلومتور ملكا على مصر وقبرص وأن يُمنح الشقيق الأصغر ولاية برقة لكى تكون ملكاخاصا له وبالفعل تم تنفيذ الإتفاق وترك بطليموس الصغير وصية توصى بأن تؤول مملكة برقة فى حال وفاته دون وريث إلى روما. وفى سنة 145ق.م تدخل فيلوميتور فى الصراع الذى نشأ على العرش السلوقى بعد وفاة أنتيوخس الرابع محاولا بذلك إسترداد جنوب سوريا لكنه قُتل فى ميدان القتال وخلفه إبنه الثانى نيوس فيلوباتور بوصاية أمه الملكة كليوباترا الثانية.
كان من الطبيعى أن لايستمر حكم هذا الملك الطفل فى ظل وجود عمه ملك برقة والذى كان يحظى بتأييد السكندريين بالإضافة إلى تاييد الرومان الذين اصبحون يسيطرون على كل عالم البحرالمتوسط بعد هزيمتهم لبرسيوس إبن فيليب الخامس ملك مقدونيا فى موقعة بودنا سنة 168ق.م وتحويلهم مقدونيا إلى ولاية رومانية بعد ذلك فى سنة 147ق.م.
وفى ظل هذه الظروف زحف بطليموس ملك برقة على الإسكندرية وتمكن بمساعدة الرومان من إرتقاء العرش تحت لقب بطليموس الثامن يورجيتس الثانى كما تزوج من أخته كليوباترة الثانية لكنه سرعان ماقام ببعض التصرفات الوحشية التى نفرت منه رعاياه إذ إنتزع الملك الطفل نينوس فيلوباتور من حضن أمه وأمر بإعدامه كما تزوج من إبنة أخيه كليواترة الثالثة على الرغم من أنه كان قد تزوج من أمها أرملة أخيه كليوباترة الثانية فثارت عليه الأخيرة وتعاطف معها الشعب وإندلعت الثورة فى أنحاء مصرفهرب بطليموس الثامن ولم يتمكن من العودة مرة أخرى إلا بمساعدة الرومان الذى بدأ تدخلهم فى شئون مصر يزداد يوما بعد يوم. وفى سنة 116ق.م توفى بطليموس الثامن كما كانت كليوباترة الثانية قد توفيت ولذا فقد إنفردت كليوباترة الثالثة بحكم البلاد والتى كان بطليموس الثامن قد ترك لها مهمة إختيار الأصلح من بين إبنيه لخلافته.
وهكذا تولى الإبن الأكبر بطليموس التاسع تحت لقب سوتير الثانى العرش لكن أمه لم ترضى عن سلوكه خاصة بسبب طلاقه من أخته كليوباترة الرابعة وزواجه بأخته الأخرى كليوباترة الخامسة التى إشتهرت بإسم كليوباترة القمر، فحرضت عليه شعب الإسكندرية فهرب إلى قبرص وإستدعت أمه شقيقه الأصغر حيث إرتقى العرش تحت لقب بطليموس العاشرالإسكندرالأول بالإشتراك معها لكنه إنفرد بالعرش بعد وفاتها سنة 101ق.م - والتى ربما كانت من تدبيره - وظل متربعا على العرش حتى سنة 88ق.م حتى ثار عليه شعب الإسكندرية فهرب إلى قبرص بدوره حيث لقى حتفه هناك.
وبعد فرار بطليموس العاشر على هذا النحو إستدعى السكندريون بطليموس التاسع لتولى العرش مرة أخرى وبعد عودته تزوج من شقيقته برنيكى الثالثة على أمل أن ينجب منها وريثا للعرش لكن ذلك لم يتحقق ولذا فعندما توفى سنة 81 ق.م فقد إرتقت هى العرش بنفسها.
وقد شهد عهد بطليموس التاسع مزيدا من التدخل الرومانى فى شئون مصر كما شهد مزيدا من تدهور الأحوال الداخلية وإندلاع ثورات المصريين وذلك رغم محاولات توده إليهم عن طريق بناء المعابد والتقرب إلى الكهنة، وبعد وفاته وإنفراد برنيكى بالحكم أصبح من الضرورى البحث عن زوج لها وأسفر البحث عن العثور على إبن لبطليموس العاشر الإسكندر الأول كان قد أنجبه من إحدى عشيقاته ويعيش فى روما فتحمس الرومان لإقامته على العرش فى مصر وسارعوا بإرساله إلى الإسكندرية حيث تزوج الملكة برنيكى الثالثة وتولى العرش حاملا لقب الإسكندر الثانى بطليموس الحادى عشرغير أنه سرعان ماتنكر لبرنيكى وقتلها وكانت محبوبة من شعب الإسكندرية مما دفع بالجماهير الغاضبة إلى الثورة وقتله سنة 80ق.م ولم يدم حكمه لأكثر من عشرين يوما فقط وكان آخر شخص من سلالة البطالمة الشرعيين.
وبذلك واجه رجال البلاط فى الإسكندرية مشكلة إيجاد وريث شرعى للملك لكنهم أخيرا وجدوا ضالتهم فى ولدين غير شرعيين لبطليموس التاسع سوتير كانا يعيشان خارج مصر فتم إستدعاؤهما على الفور من أجل تفويت فرصة التدخل على الرومان. وتقرر تعيين الأصغر ملكا على قبرص وأن يتولى الأكبر عرش مصر وذلك فى سنة 80ق.م.
وهكذا تولى بطليموس الثانى عشرالملك(80-51ق.م) وتزوج من أخته كليوباترة السادسة وإتخذ لقب نيوس ديونيسيوس أى ديونيسيوس الجديد لكن أهل الإسكندرية أطلقوا عليه لقب الزمار(أيوليتس) لإنه كان يهوى العزف على المزمار فإشتهر بهذا اللقب فى التاريخ. لكن الرومان رفضوا الإعتراف به ملكا على مصر واشاعوا بأن بطليموس الحادى عشر قد أوصى بأن تؤول مملكته إلى الشعب الرومانى فحاول الزمار من جهته إسترضاء الرومان والإحتفاظ بإستقلال مصر بأى ثمن.
كانت الدولة السلوقية قد سقطت وتحولت إلى ولاية رومانية على يد القائد الرومانى بومبيوس وزعيم الحزب الجمهورى بها سنة 64ق.م وفى المقابل تقدم كراسوس أحد زعماء الحزب الديموقراطى فى روما بمشروع لضم مصر وعهد إلى القائد الشاب يوليوس قيصر القيام بتنفيذ المشروع لكن الحزب الجمهورى عارض ذلك فتعطل المشروع مؤقتا. ثم وفى سنة 59ق.م عندما أصبح يوليوس قيصر قنصلا فى روما تمكن الزمار من رشوته للإعتراف به ملكا على مصر وذلك دون التطرق إلى موقف قبرص فما كان من روما إلا أن أعلنت فى العام التالى مباشرة 58ٌق.م ضم قبرص إلى ممتلكات الشعب الرومانى مما دفع بملكها شقيق الزمار إلى الإنتحار دون أدنى إعتراض من الزمار على ذلك مما دفع بشعب الإسكندرية إلى الثورة عليه وطرده من المدينة.
رحل الزمار إلى روما يرجوا إعادته إلى عرشه وأخذ يعد القادة الرومان بمكافآت سخية إذا ماقاموا بتلك المهمة ونزل ضيفا على بومبيوس زعيم الحزب الجمهورى وبالفعل حاول بومبيوس إستصدار قرار بقيامه بهذه المهمة لكن السناتو قرر إسناد المهمة إلى قنصل تلك السنة 57ق.م لكن الأقدار لم تساعد على تنفيذه إذ نزلت صاعقة على تمثال الإله جوبيتر فى المدينة فسرها الرومان بأن الإله غير راض عن فرض الزمار على مصر بالقوة ولذا فقد قرروا إتباع الوسائل الدبلوماسية لتحقيق ذلك لكنهم إختلفوا حول الشخصية التى يجب أن ترأس سفارة روما إلى مصر فلم يطق الزمار صبرا ورحل إلى سوريا وكان واليها جابينوس من أتباع بومبيوس فوعده بمكافأة كبيرة إذا أعاده إلى العرش فوافق جابينوس على ذلك وزحف على مصر سنة 55ق.م بموافقة بومبى دون إذن السناتو فى روما بحجة إستفزاز قوات الملكة المصرية إبنة الزمارالتى اقامها السكندريون بعد هربه للقوات الرومانية وبالفعل تمكن من إجتياح بلوزيوم ودخول الإسكندرية لكن الخلافات فى روما حالت دون إعلان مصر ولاية رومانية وتمت إعادة بطليموس الزمار إلى عرشه وعاد جابينوس إلى سوريا بعد أن ترك بمصر حامية رومانية لمساعدة الزمار.
وفى مصر أخذ بطليموس الزمار فى ملاحقة خصومه والتنكيل بهم وإعدامهم وكان منهم إبنته التى عينها السكندريون ملكة بعد هربه كما قام وبسبب تراكم ديونه للرومان بتعيين أحدهم ويدعى رابيروس فى منصب وزير المالية مما أدى إلى ثورة السكندريين وهرب رابيروس من مصر.وفى سنة 51ق.م مات الزمار تاركا ولدين وبنتين وكان قد أوصى بأن تتزوج كبرى بناته كليوباترة السابعة من شقيقها بطليموس الثالث عشر وأن يحكما سويا وأن يتولى الرومان تنفيذ هذه الوصية.
كان الصراع فى روما بين الحزب الجمهورى بقيادة بومبى والحزب الديموقراطى بقيادة قيصرقد إنتهى بإنتصار قيصر على بومبى فى معركة فارسالوس ببلاد اليونان سنة 48ق.م وفرار بومبى إلى مصر ملتمسا مساعدة صديقه بطليموس الزمار لكنه وجد الزمار قد مات فطلب مساعدة إبنه بطليموس الثالث عشر الذى كان قد تولى العرش بالفعل مع أخته كليوباترة السابعة( 51 – 30 ق.م).
وصل بومبى إلى مصر فى وقت كان الخلاف فيه بين كليوباترة وأخيها الملك قد وصل إلى ذروته بحيث إضطرها إلى الهرب خارج الإسكندرية بسبب غضب رجال القصر عليها وإتهامها بمحاولة الإستئثار بالسلطة.كانت كليوباترة تحشد قواتها وتستعد للعودة إلى مصر مرة أخرى بينما كان بطليموس الثالث عشر يحشد جيوشه بدوره على حدود مصر الشرقية عند بلوزيوم إستعدادا للدخول فى معركة فاصلة معها. وفى ظل تلك الظروف المعقدة إتخذ رجال القصر بالإسكندرية قرارا بإغتيال بومبى خشية أن يعطى لجوئه إلى مصر الحجة لخصمه يوليوس قيصر بإحتلال مصر وعهد إلى أخيل قائد الجيش البطلمى بتنفيذ ذلك. وبالفعل تم إغتيال بومبى عند نزوله إلى شاطئ الإسكندرية فى حدث من أحداث التاريخ المؤثرة وقُطعت رأسه وحملت إلى الإسكندرية إرضاءً لخصمه الزاحف على مصر لكن ذلك لم يفد مصر شيئا فى نهاية الأمر ففى 2 أكتوبر من سنة 48ق.م وصل يوليوس قيصر إلى الإسكندرية مطاردا لبومبى فأظهر له رجال القصر بالإسكندرية راس بومبى وخاتمه فحزن لذلك المشهد ولم يتراجع عن إحتلال الإسكندرية.
أعلن قيصر أنه جاء لتنفيذ وصية الزمار التى تقضى بوضع أبنائه تحت وصاية الرومان وقام بإستدعاء كليوباترة وشقيقها وبالفعل حضرا إلى الإسكندرية ومثلت كليوباترة أمام قيصر بطريقة مؤثرة إذا قام أحد أعوانها وخشية على حياتها بلفها فى سجادة وعندما وصل أمام قيصر فرد السجادة فخرجت منها كليوباترة بجمالها وسحرها فسلبت عقل قيصر العجوز من تلك اللحظة وفى اليوم التالى وعندما حضر بطليموس لمقابلته بدا إنحيازه لكليوباترة مما اثار شعب الإسكندرية ورغم أن قيصر قد توصل مبدئيا إلى تسوية بين الأخوين إلا أن رجال القصر لم يرضوا عن ذلك وقاموا بإستدعاء الجيش البطلمى من بلوزيوم وحاصروا قيصر فى الحى الملكى بالقرب من الميناء مما إضطره لحرق سفنه الراسية هناك خشية أن يستولى السكندريون عليها ويعتقد أن تلك النيران قد تسببت فى حرق مكتبة الإسكندرية القديمة وبذلك بدأت حرب الإسكندرية سنة 48ق.م وكاد قيصر أن يُهزم فيها ويلقى حتفه لولا وصول بعض الفرق الرومانية من سوريا وفى تلك الحرب خرج قيصر منتصرا سنة 47ق.م ومات بطليموس الثالث عشر غريقا ووضع قيصر تسوية جديدة لوراثة العرش المصرى أعلن فيها كليوباترة ملكة على مصر على أن تتزوج من شقيقها الأصغر بطليموس الرابع عشر.
قضى قيصر فصل الشتاء فى مصر مستمتعا بصحبة كليوباترة وقاما معا برحلة نيلية إلى أعالى مصر ونشأت بينهما علاقة حب أسفرت عن مولد إبن لقيصر أطلق عليه إسم بطليموس قيصر إلا أن السكندريين أطلقوا عليه لقب قيصرون على سبيل السخرية. وبعد أن عاد قيصر إلى روما أرسل فى طلب كليوباترة فرحلت إليه وأنزلها بقصره فى روما حيث عاشت فى أبهة ملكات الشرق مما أثار غضب الرومان الذين أخذت تساورهم الشكوك فى نية قيصربتنصيب نفسه ملكا على الرومان وفقا لعادات الشرق وقد أكدت ظروف الحرب مع البارثيين تلك الظنون حيث أذاع أتباع قيصر نبوءة مؤداها ان الرومان لن ينتصروا على البارثيين – الذين سبق لهم إبادة جيش رومانى كامل – إلا تحت لواء ملك ولذا فلابد من منح قيصر لقب ملك وتقرر عقد جلسة فى السناتو لمناقشة ذلك الإقتراح يوم 15 مارس سنة 44 ق.م ولكن قبل دخول قيصر إلى قاعة المجلس دبر الجمهوريون قتله طعنا بالخناجر. وإزاء هذه الأحداث وجدت كليوباترة نفسها مضطرة إلى العودة إلى مصر فرحلت إلى هناك فى الشهر التالى مباشرة حيث تخلصت من أخيها بطليموس الرابع عشر وأشركت معها إبنها قيصرون شريكا فى الحكم والتى أعلنت أنها أنجبته من الإله آمون الذى تمثل فى شخص قيصر.
وفى روما ساد الفزع والفوضى بعد مقتل يوليوس قيصر لكن القنصل ماركوس أنطونيوس تمكن من السيطرة على الموقف وقام بإستدعاء حفيد شقيقة قيصر ووريثه ،أوكتافيوس، من بلاد اليونان وأخذا معا فى مطاردة قتلة قيصر وعلى رأسهم بروتوس وكاسيوس وتمكنا من هزيمتهم فى موقعى فيليبى ببلاد اليونان سنة 42ق.م. ثم قاما بتقسيم بلاد الإمبراطورية بينهما فأصبح أنطونيوس مشرفا على بلاد الشرق بينما اصبح أوكتافيوس مسئولا عن الغرب وإقتسما الإشراف على إيطاليا فيما بينهما. وسارت العلاقات ودية بينهما فى بادئ الأمر.
وعاد أنطونيوس إلى سوريا وقام بإستدعاء بعض القادة لتوضيح موقفهم أثناء الحرب على قتلة قيصر ومنهم كليوباترة التى لم تتخذ موقفا واضحا فى تلك الحرب وإكتفت بإرسال الفرق الرومانية التى كان قيصر قد تركها فى مصر لكن كليوباترة – والتى حضرت فى أبهة ملكية - تمكنت من إقناع انطونيوس بسلامة نيتها ونشأت بينها وبينه علاقة حب منذ اللحظة الأولى كما حدث مع قيصر من قبل ووجهت إليه دعوة لزيارة مصر. وبالفعل قضى أنطونيوس شتاء سنة 41-40ق.م مع كليوباترة فى مصر ولم يكن لدى أكتافيوس أى إعتراضات على سلوك أنطونيوس حتى ذلك الوقت لكنه فى تلك الأثناء إكتشف أوكتافيوس مؤامرة ضده فى روما من تدبير زوجة أنطونيوس وشقيقه فأخذت الظنون تساوره فى أن يكون ذلك من تدبير أنطونيوس لكن أصدقاء الطرفين تمكنوا من التوفيق بينهما وعقد الصلح بين الطرفين فى برنديزى سنة 40ق.م وتم تدعيمه بزواج أنطونيوس من أكتافيا أخت أوكتافيوس لكن الأمور لم تسير سيرا حسنا بعد ذلك. فقد إستأنف أنطونويوس علاقته بكليوباترة وأعلن زواجه منها وإعترافه بالتوأم الذى أنجبه منها كأبناء شرعيين كما أعلن أن قيصرون إبن قيصر هو الوريث الشرعى ليوليوس قيصر فمثل ذلك تحديا خطيرا لشرعية أوكتافيوس الذى أخذ يتصيد أخطاء أنطونيوس منذ ذلك الحين فصاعدا بدون أى أمل جديد فى الصلح. وبدوره فقد ساعد أنطونيوس أوكتافيوس على ذلك حين بدأ يعبر عن نياته بالفعل بمخالفة الأعراف الرومانية فقام بعد الإنتصار الذى أحرزه على أرمينيا سنة 34ق.م بإقامة مهرجان النصر فى الإسكندرية وليس فى روما كما جرت الأعراف كما أنه قام بتوزيع ولايات الشرق على أبناء كليوباترة واصفا إياها بالملكة هذا فضلا عن رغبته فى أن يدفن بالإسكندرية بعد وفاته وهجرانه لزوجته الرومانية أوكتافيا مما مكن أوكتافيوس من حشد الرأى العام الرومانى ضده وإعلان الحرب عليه فى نهاية الأمر.
وبالفعل تمكن أوكتافيوس من هزيمة أنطونيوس وكليوباترة فى موقعة أكتيوم البحرية بغرب بلاد اليونان سنة 31ق.م وطاردهما إلى مصر حيث هُزم أنطونيوس مرة أخرى فى معركة برية بالقرب من الإسكندرية إنتحر على أثرها أنطونيوس ودخل أوكتافيوس الإسكندرية وحاول أن يأخذ كليوباترة أسيرة فى موكب نصره إلى روما لكنها فضلت الإنتحار بدورها فماتت بلدغة حية كما هو معروف فى التاريخ.
وبعد ذلك أمرأوكتافيوس بقتل قيصرون إبن قيصر الذى كان يرى فيه منافسا خطيرا أما أبناء كليوباترا من أنطونيوس فقد أخذهم معه إلى روما وعهد بهم إلى أخته أوكتافيا كى ترعاهم بصفتهم أبناء زوجها الراحل. وهكذا سقطت دولة البطالمة إلى الأبد وتحولت مصر إلى ولاية رومانية.
كان للعصر البطلمى تأثيرا كبيرا على التطور الحضارى لمصر القديمة فقد فرضت الثقافة والمنهج العلمى العقلى الإغريقى نفسيهما على مصر والمصريين بعد غزو الإسكندر لمصر إذ تدفق آلاف من المستوطنين الإغريق على مدن مصر وريفها وحدث التصاهر والتلاحم بينهم وبين المصريين رغم حظر القوانين الملكية لذلك فتعلم الإغريق اللغة المصرية كما تعلم المصريون اللغة الإغريقية وبرز منهم فريق أجاد اللغة الإغريقية كتبوا بها تاريخ مصر القديم لكى يعلموا مواطنيهم الجدد حضارة مصر القديمة أشهرهم مانيتون السمنودى الذى مازال منهجه فى دراسة تاريخ مصر القديمة فى اسرات متعاقبة هو المنهج المعتمد فى دراسة تاريخ مصر الفرعونية حتى الآن. كما تأثر المصريون بالأدب الإغريقى وعرفوا كتابة الملاحم على غرار الإلياذة التى شكلت أساس التعليم الإغريقى فى مصر مثل ملحمة بت أوزيريس وملكها البطل الأسطورى إيناروس وكذلك كتبوا الروايات التاريخية مثل قصة الساحر المصرى الشهير ساتنى كلاموس أشهر السحرة المصريين فى عهد رمسيس الثانى(1304-1237ق.م)وقصة إبنه الساحر سينوزير الّذى حاول النزول إلى أبيه فى العالم الآخر ليعرف منه سر قوة سحره . وكذلك عرفوا كتابة البشارات والنبؤات وأسفار الرؤيا – تأثرا بالأدب الدينى العبرى بشكل أكبر – ففى ذلك التفاعل الحضارى الكبير تأثر المصريون أيضا بثقافات الشعوب التى شملها ذلك النطاق الحضارى الضخم كالبابليين والعبرانيين فقد تأثروا بعلم التنجيم البابلى وأجادوه وأصبحوا أشهر عرافى البحر المتوسط وظهر منهم أسماء كبيرة مثل نخبسو وبيتوزيريس وذاع صيت العرافين المصريين فى البحر المتوسط وأصبحوا مقصد الطالبين لمعرفة مستقبلهم. كما تأثروا بالأدب الدينى العبرى خاصة بعد ترجمة التوراة إلى اليونانية فى عهد بطليموس الثانى.
ولاشك أن أكبر نتاج لتفاعل الثقافة الإغريقية والمصرية هو اللغة الوطنية المصرية الجديدة أى اللغة القبطية التى ظهرت إلى الوجود فى العصر الرومانى بعد ذلك وكُتبت بالحروف اليونانية بعد إضافة سبعة أصوات مصرية إليها وبهذه اللغة كتب المصريون آدابهم وأرخوا لتاريخهم المسيحى.
وفى مجالات الهندسة والعلوم التطبيقية نجد أن المصريين قد تأثروا بالعلوم الإغريقية ففى مجال العمارة مثلا نجد أنه قد ظهرت فى عمارة المعابد فى العصر البطلمى تجديدات معمارية وإبتكارات فى النحت والتصوير بل وفى الكتابة وفى الخط وفى اللاهوت وعلوم الفلك والتنجيم بحيث أصبح للمعابد المصرية فى العصر البطلمى أسلوب فنى ومعمارى يميزها عن العصور السابقة.
كذلك فقد أثر الفكر الدينى الإغريقى فى رفضه لعبادة الحيوان على العبادات المصرية وكان ظهور الإله سيرابيس الإله الرسمى للدولة البطلمية خير مثال على ذلك فقد أدرك بطليموس الأول سوتير مؤسس الدولة البطلمية أهمية جمع المصريين والإغريق على إله واحد يجمع بين التراث الدينى المصرى والفكر الإغريقى فعهد إلى ثلاثة من كبار علماء اللاهوت منهم مانيتون السمنودى بتحقيق ذلك ومن تفكير هؤلاء ولدت عبادة أوزيرآبيس أو سيرابيس اليونانى والذى كان عبارة عن إحياء لديانة أوزيريس زوج إيزيس وأبو حورس الثالوث الرسمى للديانة المصرية فى عصور الفراعنة ولكن ذلك الإحياء جاء فى قالب إغريقى الفكر والفلسفة والصورة(حمل سيرابيس صورة بشرية وليس حيوانية على عادة الآلهة الفرعونية) ورغم أن المصريين قد رفضوا قبول ذلك الرب المهجن وإعتبروا ذلك تشويها لتراثهم الدينى وظلوا يعبدون ربهم العتيق أوزيريس فقد إنتشرت عبادة سيرابيس فى كل أنحاء العالم اليونانى بل فى كل أنحاء البحر المتوسط.
ولاشك أن مدينة الإسكندرية بمينائها ومدرستها ومكتبتها ومنارتها كانت هى أعظم ماأهداه العصر البطلمى إلى مصر. فقد أصبحت تلك المدينة أعظم موانئ البحر المتوسط بفضل جهود البطالمة المتوالية من أجل تنشيط تجارة مصر الخارجية والبعثات الكشفية التى أرسلوها ونشاط علماء مدرسة الإسكندرية فى مجال الدراسات الجغرافية فكانت ترد إلى أسواق الإسكندرية منتجات إفريقيا مثل العاج والأبنوس والذهب والتوابل وكذلك منتجات الهند والصين ومنتجات بلاد اليونان مثل زيت الزيتون والنبيذ والعسل والسمك المملح واللحوم والإسفنج. وكان يوجد فى الإسكندرية مندوبون تجاريون من بلاد كثيرة مثل فرنسا وإيطاليا وشمال إفريقيا وفارس. كما كانت الإسكندرية مركزا لتصدير منتجات مصر وأهمها القمح الذى كان يُنقل من سائر أنحاء البلاد عن طريق القوراب فى النيل ويتم تجميعه فى سوق القمح العظيمة فى الإسكندرية،كما كانت الإسكندرية تقوم بتصدير بعض المنتجات التى إشتهرت مصر بصناعتها مثل الزجاج ونسيج الكتان وأوراق البردى.
وكذلك فقد إحتلت الإسكندرية مركز الصدارة فى الحياة العلمية والثقافية للبحر المتوسط حتى تفوقت على أثينا نفسها ولاشك أن إنشاء الموسيون(دار إلاهات الفنون والعلوم السبع) والمكتبة فى عهد بطليموس فيلادلفوس كان له أكبر الأثر فى إجتذاب العلماء والدارسين من شتى أرجاء العالم. ففى مجال العلوم والرياضيات بلغت مدرسة الإسكندرية شأنا كبيرا وإشتهر من علمائها إقليدس الذى وضع كتابا عن أصول الهندسة كما عُرف أرشميدس صاحب قانون الطفو وفى مجال الدراسات الطبية برع علماء الإسكندرية فى التشريح والجراحة كما ساعد وجود حديقة الحيوان التى أقامها بطليموس الثانى على تقدم علم الحيوان. وقد أولت مدرسة الإسكندرية إهتماما كبيرا للدراسات الجغرافية وتوصل أرستارخوس إلى نظرية دوران الأرض حول الشمس كما نجح إراتو ستثنيز فى قياس محيط الكرة الأرضية ولم يختلف تقديره عما توصلت إليه الدراسات الحالية إلا بخمسين ميلا فقط. كما لقيت الدراسات التاريخية نفس الإهتمام وكانت ثمرة ذلك الإهتمام الكتاب الذى وضعه الكاهن المصرى مانيتون عن تاريخ مصر القديم باللغة اليونانية. وقد شهد الأدب إزدهارا كبيرا حتى أن الأدب اليونانى كله فى هذا العصر يطلق عليه تسمية الأدب السكندرى وإشتهر من شعراء هذا العصر كاليماخوس وثيوكريتوس ويمكن القول بأن علماء مدرسة الإسكندرية هم الذين وضعوا أسس النقد الأدبى وعكفوا على دراسة الأدب اليونانى القديم وكانت أعظم إنجازاتهم نشر ملاحم هوميروس وتاريخ هيرودوت وكذلك أعمال كبار شعراء الدراما الإغريقية.


























أهم المراجع:
1-مصر من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربى - د.عبداللطيف أحمد على- دار النهضة العربية- بيروت
2-دراسات فى العصر الهلنستى-د.لطفى عبدالوهاب- دار النهضة العربية - بيروت
3-العصر الهيلنستى مصر-د.مصطفى العبادى- دار النهضة العربية - بيروت
4-تاريخ مصر فى عصرى البطالمة والرومان- د.أبواليسر فرج - عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية - القاهرة
5- مصر و عالم البحر المتوسط - إعداد وتقديم د. رؤوف عباس- دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع-
القاهرة- باريس.



























3-العصر الرومانى
( 31 ق.م – 325ق.م)

تحولت مصرإذن إلى ولاية رومانية ، لكنها ظلت فى وجهتها الحضارية تتجه بإتجاه الغرب فلم يكن العصر الرومانى فى كثير من جوانبه الحضارية سوى إمتداد للعصر اليونانى السابق ولم تكن روما سوى أثينا أخرى وإن بدت أكثر مجدا وأعظم قوة.
وهناك العديد من الأساطير المتعلقة بنشأة مدينة روما ولكن بعيدا عن الأساطير يمكن القول بأن روما مدينة إيطالية قديمة نشأت على مجموعة من التلال فى إقليم لاتيوم الواقع فى الجزء الجنوبى الغربى من شبه الجزيرة الإيطالية وأن هذه المنطقة قد عرفت الإستيطان البشرى حوالى سنة 1500ق.م فى شكل قرى منفصلة سرعان مازالت عزلتها بقدوم شعب يسمى الإتروسكيين نسبة إلى إقليم أتروريا المجاور وإستيلائهم على الحكم فى روما حوالى سنة 616ق.م. وتأسيس ملكية دامت حتى حوالى سنة 509ق.م عندما ثار الشعب الرومانى عليهم وطردهم من الحكم وأسس الجمهورية الرومانية التى إنتقلت سلطات الملك فيها إلى إثنين من الحكام يحمل كل منهما لقب قنصل ويشغل وظيفته لمدة عام واحد غير قابل للتجديد إلا فى الحالات الإستثنائية حيث كان يمكن منح القنصل سلطة الدكتاتور لمدة ستة اشهر فقط، هذا إلى جانب مجلس الشيوخ الذى كان يتكون من النبلاء وكان يعمل بمثابة مجلس رقابى وتشريعى مع الجمعيات الشعبية التى كانت تنتخب القناصل. وقد تأثر الرومان بالأفكار الديموقراطية الإغريقية فشهدت الفترة بين سنة 494ق.م وسنة 287 ق.م صراعا بين الأشراف والعامة إنتهت بحصول العامة على حقوقهم السياسية وتأسيس مجالس للعامة وإنتخاب ممثلين لهم أطلق عليهم إسم نقباء العامة وهكذا أمكن للعامة الحصول على حقوقهم السياسية وإحداث التوازن الضرورى بين مختلف الطبقات فى المجتمع الرومانى مما كان أحد الأسباب الرئيسية وراء قوة المجتمع الرومانى وتماسكه وقدرته على تحقيق الإنجازات الحضارية الكبيرة فيما بعد.
وبعد طرد الإتروسكيين وتأسيس الجمهورية تمكن الرومان من فرض سيطرتهم على شبه الجزيرة الإيطالية ثم بدأوا توسعهم فى غرب البحر المتوسط وخاضوا سلسلة الحروب الشهيرة المعروفة بإسم الحروب البونية أو الحروب الفينيقة ضد منافستهم قرطاجة وزعيمها هانيبال وتمكنوا من تحقيق النصر النهائى عليها سنة 146ق.م ق.م ثم وجهوا إهتمامهم إلى العالم الإغريقى فى شرق المتوسط وتمكنوا من إسقاط الممالك الهيلينية الثلاث واحدة فى أثر الأخرى مقدونيا أولا سنة 148ق.م ثم الدولة السلوقية سنة 64ق.م وأخيرا مصر التى سقطت سنة 30ق.م بعد معركة أكتيوم البحرية مباشرة.
تحولت مصر إلى ولاية رومانية وبدأت رحلة جديدة مع التاريخ فقد أولى أكتافيوس منذ اللحظات الأولى مصروضعا خاصا فجعلها من الولايات التابعة لإدارته مباشرة وليس إلى إدارة مجلس السناتو وقام على الفور بوضع نظام إدارى دقيق لإدارتها وترك بها ثلاثة فرق عسكرية وبعض الكتائب الحدودية لحفظ الأمن كما أعفى السكندريين من ضريبة الرأس بينما حرمهم من تأسيس مجلس شورى لهم مجلس البولى) والذىكان لهم فى الماضى فى فترة من فترات الحكم البطلمى وفى نفس الوقت فقد فرض ضريبة الرأس على القطاع الثانى من سكان المدينة وهم اليهود لكنه أقر لهم بحرية العبادة وفق شرائعهم وبحرية تأسيس مجلس شيوخ خاص بهم وذلك بهدف خلق نوع من التوازن بين العنصريين الرئيسين المكونين لسكان العاصمة الإسكندرية.
ونظرا لأهمية مصر الاقتصادية والإستراتيجية فقد حرص أوكتافيوس على تأمينها ووضع عليها واليا من طبقة الفرسان وليس من طبقة السناتو كما جرت العادة ومنحه لقب بريفكتوس أى والى ومنحه سلطة الإمبريوم التى تخوله حق قيادة الفرق العسكرية وهو حق كان مخولا لطبقة السناتو فقط كما منع رجال السناتو من زيارتها إلا بإذن خاص منه وربما بدت تلك التدابير طبيعية نظرا لأهمية مصر الإقتصادية حيث كانت مخزن غلال روما إذ كانت تمدها بحوالى ثلث حاجتها من الغلال كما كانت ذات أهمية إستراتيجية تمكن أى والى طموح من الإستقلال عن سلطة روما وربما مناهضتها أيضا كما حدث فى الماضى من إنشقاق أنطونيوس وتطلعه للإستقلال عن روما.
كان كورنيللوس جالوس وهو القائد الذى إقتحم مصر من حدودها الغربية عند برايتونيون(مرسى مطروح الحالية) أثناء الصراع مع أنطونيوس وكليوباترة هو أول الولاة على مصر وفى عهده ثار المصريون فى طيبة على الحكم الرومانى الجديد خاصة بسبب التنظيمات المالية الجديدة التى طبقها الرومان فتوجه إليهم وأخمد ثورتهم وواصل زحفه جنوبا حتى تجاوز الشلال الأول وأدعى أنه أخمد ثورات الأثيوبين وأدخلهم تحت الحماية الرومانية وبلغت به نشوة الإنتصار درجة جعلته يحفر ذكرى إنتصاراته على جدران المعابد وعلى سفوح الأهرام ويقيم التماثيل لنفسه فى أماكن متفرقة من مصرفأثارذلك غضب أغسطس وإستدعاه إلى روما للمحاكمة فأقدم كورنيللوس على الإنتحار سنة 26م.
وتولى بعده الوالى إيليوس جاللوس(26-24م)الذى إشتهر بحملته على بلاد العرب التى أمر بها أغسطس بهدف السيطرة على تجارة الشرق ونفذها إيلليوس بمساعدة الأنباط الذين أمدوه بحوالى ألف جندى وبمساعدة مملكة اليهود(هيرود) فى فلسطين الذين أمدوه بحوالى خمسمائة جندى وقد صاحب المؤرخ الجغرافى الشهير إسترابون إيلليوس جايوس فى حملته وكتب وصفا عن بلاد العرب يعتبر أقدم ماوصل إلى العالم عن تلك البلاد. وقد عبرت الحملة البحر الأحمر ونزلت ببلاد الأنباط فى شمال الجزيرة العربية ثم سارت برا متوجهة جنوبا لغزو ممالك اليمن لكنها فشلت فى تحقيق ذلك الهدف نظرا لوعورة الطريق ونقص إمدادات الماء والغذاء وربما أيضا بسبب خيانة الدليل النبطى الوزير صالح والذى حكم الرومان عليه بالإعدام هناك ومع ذلك وفى نفس الوقت فقد نجحت الحملة فى إستكشاف طرق التجارة وتأسيس علاقات تجارية قوية مع هذه البلاد.
وقد أرسل أغسطس حملة أخرى على بلاد العرب بقيادة حفيده جايوس قيصر ولم تستغرق هذه الحملة وقتا طويلا وإنحصر هدفها فى تعميق العلاقات التجارية مع هذه البلاد والتى أخذت تتطور بإضطراد بالفعل حتى ضم الرومان بلاد العرب رسميا إلى الإمبراطورية فى عهد الإمبراطور تراجان سنة 106م والذى تقرر فى عهده إعادة حفر قناة نكاو التى تربط النيل بالبحر الأحمر والتى سميت بقناة تراجان آنذاك بهدف تسهيل الإتصالات مع هذه المناطق من الإمبراطورية.
وقد أغرى غياب القوات الرومانية عن مصر الإثيوبيين بالخروج عن الطاعة والإغارة على المناطق الحدودية فقام الوالى الثالث فى عصرأغسطس جايوس بترونيوس( 24-21م) بالتصدى لهم وإجبارهم على توقيع معاهدة صلح جديدة مع الرومان لكنهم نقضوا العهد وأغاروا على مصر مرة أخرى ومرة أخرى تصدى لهم الوالى وهزمهم وأرسل وفدهم لطلب الصلح من أغسطس نفسه. وقد وقع أغسطس معهم إتفاقية صلح وأعفاهم من الجزية ووضع الرومان إستحكامات قوية على الحدود وبهذا الشكل عم السلام جنوب مصر ولم تشهد المنطقة أى إضطرابات أخرى فى عصر أغسطس.
وبعد وفاة الإمبراطور أغسطس فى 14م تولى العرش إبنه بالتبنى تيبيريوس وقد شهدت مصر فى عهده حالة من الإستقرار والرخاء الإقتصادى نتج عنها سحب إحدى الفرق الرومانية المرابطة بمصر وكذلك إصدار عملة جديدة فى مصر. ومن أهم أحداث عهد تيبريوس زيارة جرمانيكوس إبنه بالتبنى وولى عهده لمصر أوائل سنة 19م. وقد قضى جرمانيكوس بعض الوقت فى الإسكندرية ثم ذهب فى رحلة نيلية من كانوب( جنوب أبى قير الحالية) حتى طيبة فى الجنوب لفت نظره خلالها تمثالى ممنون (تمثالى أمنحتب الثالث وزوجته).وقد أحب الناس جرمانيكوس أثناء فترة زيارته لمصر لتواضعه ومساعدته لهم مما أثار غضب الإمبراطور وحسده خاصة لإن جرمانيكوس كان قد قام بهذه الزيارة بدون إذنه. وقد توفى جرمانيكوس فجأة فى أنطاكية أثناء عودته إلى روما وقد إتهم الحاكم الرومانى هناك بدس السم له فُحكم عليه بالإعدام برغم أن الحادث ربما كان من تدبير الإمبراطور نفسه.ومن أشهرالكلمات التى حفظها التاريخ لتيبريوس رده على الحاكم الرومانى لمصرعندما حاول إسترضائه بإرسال قدر أكبر من الجزية قائلا( إننى أرسلتك لكى تجز غنمى لا لكى تسلخها).
وبعد وفاة تيبريوس تولى كاليجولا (37-41م) إبن جريمانيكوس عرش الإمبراطورية، وأهم مايميز عهده فى مصر هو فتنة يهود الإسكندرية سنة 38م. وكان اليهود طائفة مفضلة فى الإسكندرية منذ أيام الإمبراطور أغسطس وكانوا يسكنون الحى الرابع من مدينة الإسكندرية( حى دلتا) ويطبقون شعائرهم ولهم مجلس تشريعى منحه لهم أغسطس مما كان يثير مشاعر السكندريين الإغريق ضدهم . وقد أثار هذه الفتنة مرور أجريبا الأمير اليهودى بالإسكندرية فى طريقه من روما لتولى بعض الولايات فى فلسطين وهو حفيد هيرود الملك اليهودى الشهيرالذى ولد المسيح فى عهده، وكان أجريبا قد قضى جزءً من حياته فى البلاط الإمبراطورى فى روما ونشأ مع أبناء الأسرة الحاكمة وكان صديقا للإمبراطور كاليجولا. وقد أثار السكندريون إحتفاء الوالى الرومانى به وإستقبال اليهود له كأحد الملوك فقاموا بالسخرية منه وألبسوا أحد المعتوهين زى الملوك وأخذوا يمرون به فى شوارع الإسكندرية ويهتفون خلفه بإسم أجريبا مما أثار اليهود وفجر قتالا بينهم وبين السكندريين والذى أخذ الحاكم الرومانى خلاله موقف السكندريين رغم علمه بصداقة أجريبا للإمبراطور كاليجولا وذلك بحجة رفض اليهود إقامة تماثيل الإمبراطور فى معابدهم.وفى ذلك القتال خُرب حى اليهود وسقط الكثير منهم قتلى فأرسلوا يستنجدون بالإمبراطور فأرسل قوة قبضت على الحاكم الرومانى وإقتادته إلى روما حيث حوكم وتم نفيه ومصادرة أملاكه ثم أعدم بعد ذلك.
وفى أعقاب ذلك سارع كلا الحزبين بإرسال سفارة إلى روما لمقابلة الإمبراطور والدفاع عن قضيته وكانت سفارة اليهود بقيادة الكاتب اليهودى فيلون أما سفارة السكندريين فكانت بقيادة أبيون أحد زعماء الإسكندرية. وأثناء ذلك كان يهود فلسطين قد دمروا أحد المعابد التى أقامها الإغريق لعبادة الإمبراطور مما جعله يثور ثورة عارمة ويأمر بوضع تمثال ضخم له فى معبد اليهود فى أورشليم وبدا أن القضية أصبحت تتحرك فى غير صالح اليهود وأن الإمبراطور كان على وشك أن يصدر ضدهم حكما قاسيا لولا أن أنقذهم إغتياله سنة 41م.

وتولى بعده الإمبراطور كلودويوس(41-54م) وفى عهده تجددت فتنة اليهود سنة 41م وكانوا هم الذين بادروا بالعدوان على السكندريين سنة 41م ولكن الحاكم الرومانى سارع بالقضاء عليها فى مهدها. وسارع كل من اليهود والسكندريين بإرسال بعثة أخرى إلى روما كان الهدف الظاهر منها هو تهنئة الإمبراطور بولاية العرش أما الهدف الحقيقيى فكان الدفاع عن نفسه وإتهام الطرف الآخر. وردا على ذلك أرسل الإمبراطور رسالة إلى الإسكندرية تتعلق بمطالب الطرفين،قبل فيها تكريم السكندريين له لكنه رفض مطلبهم فى أن يقيموا المعابد لعبادته قائلا أن المعابد يجب أن تقام للآلهة فقط وكأنه أراد بذلك أن لايكرر الخطأ الذىوقع فيه الإمبراطور كاليجولا كما أقر لهم بالإمتيازات التى منحهم إياها أغسطس من قبل مثل إعفائهم من ضريبة الرأس لكنه رفض مطلبهم المتكرر بإ نشاء مجلس للشورى(مجلس البولى) إسوة باليهود وأخبرهم بأنه سوف يحيل الأمر إلى الحاكم لبحثه وأوصاهم بعدم التحرش باليهود أو التدخل فى شعائرهم. أما بالنسبة لليهود فقد أوصاهم بأن لايطمعوا فى مزيد من الإمتيازات وأن لايتدخلوا فى شئون معاهد الجمنازيوم التى تقتصر عضويتها على الإغريق فقط وأن لاينسوا أن الإسكندرية ليست مدينتهم وأن يكفواعن جلب مزيد من اليهود من فلسطين إليها.
ويبدو أن هذه الرسالة لم ترضى أى من الطرفين إذ لم تحقق آمال اليهود فى الحصول على مزيد من الإمتيازات كما أنها لم ترضى مطلب السكندريين الدائم والمتكرر فى منحهم حق تكوين مجلس شورى خاص بهم فى الوقت الذى أقرت فيه لليهود بحقهم فى مثل ذلك المجلس وقد عبر السكندريون عن غضبهم المكبوت ذلك فى نوع من الأدب الشعبى أطلق عليه إسم أعمال السكندريين عبروا فيه عن كراهيتهم لليهود والرومان ووصفوا فيه زعمائهم بأوصاف الأبطال الذين تحدوا الأباطرة الرومان.
خلف نيرون كلوديوس على عرش الإمبراطورية(54-68م) وقد تولى الحكم صغيرا فى السادسة عشرة من عمره وكان ذا شخصية مضطربة أثرت على أسلوب إدارة حكمه للإمبراطورية ومن أشهر أحداث عصره ثورة اليهود فى فلسطين سنة 66م والتى كان لها أصدائها فى مصر حيث تسببت فى تحريك العداء الدائم بين السكندريين الذين عبروا عن تأييدهم للإمبراطورواليهود الذين أثار ذلك حفيظتهم فإنفجرت مرة أخرى موجة من الإحتكاكات بين الطرفين سقط فيها حوالى خمسين ألف يهودى.

أرسل نيرون قائده فسباسيان لقمع ثورة اليهود فى فلسطين سنة 67م لكن الإضطرابات عمت روما أثناء تلك الفترة وإنتحر الإمبراطور نيرون وتدخل الجيش ضد مشيئة السناتو فى تحديد شخص الإمبراطور القادم وحدث صراع مسلح على السلطة وفى ذلك الصراع نادى الوالى الرومانى فى مصر تيبريوس يوليوس إسكندر وهو يهودى الأصل ومعه القوات الرومانية فى مصر بفسباسيان القائد الذى تولى قمع ثورة اليهود إمبراطورا وسرعان ماأيدت القوات الرومانية فى فلسطين وكثير من المناطق الرومانية الأخرى ذلك المطلب. وإستجاب فسباسيان لذلك وترك إبنه تيتوس على حصار أورشليم وزحف على مصر تأمينا لمخازن الغلال فى صراعه على منصب الإمبراطور ثم زحف على روما وقتل منافسه فيتلوس وتمكن من إرتقاء العرش فى ديسمير سن 69م.

وفى فلسطين تمكن تيتوس من تدمير معبد سليمان والقضاء على ثورة اليهود وتحويل بلادهم إلى ولاية رومانية فى سبتمبر سنة 70م. وبعد سقوط أورشليم زار تيتوس الإسكندرية وأظهر مشاعر طيبة تجاه السكندريين والمصريين بشكل عام وحرص على حضور بعض أعيادهم الدينية. وفى تلك الأثناء كان بعض يهود فلسطين قد فروا إلى الإسكندرية وأخذورا يحرضون اليهود فيها على الثورة إلا أن يهود الإسكندرية لم يستجيبوا لهم ومع ذلك فقد إتخذت السلطات الرومانية إجراءات شديدة ضد اليهود وقامت بإغلاق معبد اليهود فى تل اليهودية خشية أن يتخذ منه اليهود قبلة بدل معبد أورشليم كما أمر الإمبراطور فسباسيان بفرض مزيد من الضرائب عليهم.

وعندما إرتقى تيتوس العرش بعد وفاة والده سنة 79م إستمر فى سياسة إحترامه للآلهة المصرية وخاصة الربة إيزيس التى كان الإمبراطور فسباسيان قد سك عملة بإسمها كما أعاد دوميتانيوس شقيق تيتوس الأصغر – والذى تولى العرش بعد وفاتة سنة 81م - بناء معبدها فى ساحة الإله مارس فى قلب روما وقد إستمرت تلك السياسة الودية تجاه المصريين خلال كل عصر الأسرة الفيلافية التى أسسها فسباسيان والذى إنتهى بموت الإمبراطور دوميتانوس سنة 96م.

لم يكن لدوميتيانوس وريث شرعى لذا فقد قرر الرومان إيجاد نظام جديد يقوم على الإختيار وليس على الوراثة وبالفعل تم إختيار نرفا(96-98م) لولاية العرش لكن مصر لم تشهد أحداثا هامة فى عهده وقد إختار نرفا أحد القادة الأكفاء ليكون خلفا له وهو تراجان(98-117م) والذى تولى العرش بالفعل بعد وفاة نرفا وكان أول الأباطرة الذين ينحدرون من سكان الولايات.

وفى عهد تراجان حدثت مجاعة فى مصر بسبب إنخفاض فيضان النيل كما تجدد الصراع بين اليهود والسكندريين. وقد قام الإمبراطور بالعمل على تخفيف المجاعة وأرسل إلى مصر أسطولا محملا بالغلال أما العلاقات بين السكندرين واليهود فقد كان قد سادها الهدوء بعد سقوط أورشليم لفترة طويلة ولكن الصراع تجدد سنة 113م ففى ذلك العام كان الإمبراطور تراجان يقوم بحملة فى الشرق وإضطر إلى سحب بعض القوات من الولايات وسحب إحدى الفرق من مصر فإنتهز اليهود هذه الفرصة وأخذوا ينفثون عما فى صدورهم ضد الرومان والإغريق وكانت البداية وقوع صراع بين اليهود والإغريق فى قورينائية بشرق ليبيا لم يلبث أن تحول إلى حرب شاملة ضد الإمبراطورية الرومانية فإمتدت إلى مناطق أخرى مثل مصر وبرقة وقبرص وبلاد الرافدين وقام اليهود بأعمال وحشية ضد الإغريق وقاموا بهدم معابدهم وفى مصر إمتدت الثورة إلى الريف المصرى فقد زحف يهود برقة على الأراضى المصرية فى سنة 116م ولكنهم عجزوا عن إقتحام الإسكندرية فتحولوا إلى مناطق أخرىوعاثوا فيها فسادا وإضطرت السلطات الرومانية إلى تجنيد الأهالى وتسليحهم لمقاومة اليهود وتمكن الرومان من إخماد هذه الثورة سنة 117م ولكنها تركت آثارا مدمرة على مرافق البلاد.

وبعد وفاة تراجان سنة 117م إرتقى العرش الإمبراطور هادريان(117-138م) وقد زار هادريان مصر وحرص على زيارة آثارها وخاصة تمثالى ممنون كعادة الرومان. كذلك قد كان هادريان عاشقا للحضارة الإغريقية ولذا فقد بنى مدينة إغريقية رابعة فى مصر هى مدينة أنتينوبوليس( الشيخ عبادة بمحافظة المنيا حاليا) تخليدا لذكرى صديقه أنتينوس الذى غرق فى النيل عند تلك البقعة أثناء زيارة هادريان لمصر العليا.وفى تلك الزيارة قام هادريان أيضا بلقاء علماء مكتبة الإسكندرية والمتحف (الموسيون).

وقد تولى عرش الإمبراطورية بعد هادريان أنطونويوس بيوس(التقى 138-161م) وفى عهده وقعت ثورة فى الإسكندرية راح ضحيتها الحاكم الرومانى سنة 153م مما إضطر الإمبراطور إلى الحضور بنفسه إلى مصر حيث أقام فيها بعض المنشآت.

وحتى ذلك العهد إقتصرت ثورات مصر على السكندرين الإغريق واليهود فقط ولكن فى عهد الإمبراطور التالى ماركوس أوريليوس( 161-180م)قام المصريون بثورة عنيفة سنة 172م تحت زعامة أحد الكهنة المدعو إيزيدور وهى الثورة التى عُرفت بثورة الرعاة. ويبدو أن الذى شجع المصريون على هذه الثورة هو سحب بعض القوات الرومانية من مصر إلى جبهة الدانوب. وقد تركزت الثورة فى شمال الدلتا وقد فشلت السلطات الرومانية فى القضاء عليها ولذا فقد إستعانت ببعض القوات من سوريا. وبالفعل وصلت القوات الرومانية من سوريا بقيادة إيفيديوس كاسيوس وتمكنت من القضاء على الثورة ولكن هذا القائد بلغه نبأ كاذب بموت الإمبراطور ماركوس أوريليوس فأعلن نفسه إمبراطورا وحصل على تأييد جنوده وتأييد أهالى مصر والإسكندرية سنه 175م إلا أن تمرده فشل إذ سرعان ماتعرض للإغتيال على يد أحد ضباطه. وفى العام التالى 176م زار الإمبراطور ماركوس أوريليوس الولايات الشرقية ومنها مصر وعفا عن كل من إشترك فى التمرد بل أنه رفض حتى رؤية رأس المتمرد وأمر بدفنها.

ولكن تلك السياسة الحكيمة لم تستمر فى عهد إبنه وخليفته كومودوس(180-192م) إذ كان كومودوس ميالا للعنف بطبعه فأخذ فى ملاحقة الذين إشتركوا فى تمرد كاسيوس والتنكيل بهم كما حاول التحرر من الإعتماد الكلى لروما على الغلال المصرية فقام ببناء إسطول جديد لنقل الغلال من شمال إفريقيا إلى روما عُرف بالأسطول الإفريقى.
وبعد إغتيال كومودوس سنة 192م تنازع على العرش عدد من القادة العسكريين حتى تمكن أحدهم وهو سبتميوس سفيروس قائد حامية الدانوب من القضاء على منافسيه والإستيلاء عل الحكم (194-211م). وفى عام(199-200م) زار سبتميوس سفيروس مصر وقضى فيها عاما كاملا وقد أدخل سفيروس تعديلات فى النظم الإدارية التى وضعها أغسطس لمصر فمنح الإسكندرية مجلسا تشريعيا وكذلك بالنسبة لسائر المدن المصرية فى محاولة منه لتوحيد النظم الإدارية فى الإمبراطورية وقد زار سفيروس معالم مصر التاريخية كعادة الرومان وأمر بترميم الشقوق فى تمثالى ممنون مما نتج عنه توقف الصوت الذى كان يصدر عنهما عند الفجر!
وخلفه فى الحكم إبنه كاركالا (211-217م) الذى إشتهر فى التاريخ بمنح حق المواطنة الرومانية لجميع رعايا الإمبراطورية بإستثناء فئة المستضعفين أو المستسلمين والذى ثار جدل حول ماإذا كان المصريون منهم أم لا؟. وقد زار كاراكالا مصر سنة 215م وعاقب أهالى الإسكندرية عقابا شديدا عندما سخروا منه وسبوه بسبب قتله لأخيه جيتا فجمع أعدادا كبيرة من شباب الإسكندرية فى إستاد المدينة وأمر بقتلهم وأمر جنوده بنهب المدينة كما أمر بإخراج جميع المصريين الذين هربوا من الريف إلى الإسكندرية فى محاولة للتهرب من أداء إلتزاماتهم تجاه الدولة.
وفى الفترة التالية الواقعة بين حكم الإمبراطور سيفيروس الإسكندر(222-235م) وتولى دقلديانوس العرش سنة284 ق.م إنتشرت الفوضى وكثرت محاولات الإستقلال فى الإمبراطورية ولم تلعب مصر دورا يُذكر فى أحداث تلك الفترة.

وفى منتصف القرن الثالث جلس على عرش الإمبراطورية ديقيوس الذى شهد عهده أول إضطهاد دينى كبير للمسيحين وكانت المسيحية قد بدأت تظهر كديانة فى الإمبراطورية وبدأ الأباطرة يتنبهون لخطرها على العبادات الرومانية التقليدية ومنها عبادة الأباطرة.وفى تلك الفترة أيضا شهدت مصر محاولات للإستقلال ولكن تم القضاء عليها.

وفى عام 269م تعرضت مصر لغزو من الشرق قامت به زنوبيا ملكة تدمر بمساعدة بعض تجار الإسكندرية وإضطر الإمبراطور الرومانى إلى الإعتراف بوهب اللات إبن زنوبيا شريكا له فى الحكم. لكن الإمبراطور الرومانى أوريليانوس سرعان ماقاد قواته فى آسيا الصغرىوحارب زنوبيا وهزمها وأخذها اسيرة إلى روما بينما أرسل قائده بربوس إلى مصر حيث تمكن من إستعادتها سنة 271م. ولكن تلى ذلك قيام ثورة ضد الحكم الرومانى فى الإسكندرية تزعمها تاجر يدعى فيرموس وكان ممن ساعدوا زنوبيا فى إحتلالها لمصر وإضطر الإمبراطور أوريليانوس إلى الحضور بنفسه لقمع الثورة. لكن الأمر لم ينتهى عند هذا الحد فبعد وفاة أوريليانوس نادت القوات الرومانية فى مصر بقائدها بربوس إمبراطورا وقد تمكن بالفعل من التربع على عرش الإمبراطورية لمدة خمسة أعوام إلى أن قُتل على يد أحد الجنود فى عام 282م وعمت الفوضى أرجاء الإمبراطورية لمدة عامين حتى تمكن دقلديانوس من تولى العرش فى عام 284م والذى يعد عهده بداية لمرحلة جديدة فى تاريخ الإمبراطورية الرومانية.

عمل دقلديانوس على إصلاح النظام الإدارى والاقتصادى فى الإمبراطورية فقام بتقسيم الإمبراطورية إدارياً إلى قسمين، شرقى وغربى، وجعل نفسه إمبراطورا على الجزء الشرقى منها بينما جعل زميله مكسيميان إمبراطورا على الجزء الغربى وعين لكل منهما نائبا بلقب قيصر كما فصل بين السلطتين المدنية والعسكرية فى الولايات وقسم الولايات الكبرى إلى عدد من الولايات الصغرى ليخفف العبأ عن الإدارة المركزية وعلى ذلك فقد إنقسمت مصر فى عهده إلى ثلاث ولايات. وإقتصاديا فقد قام بإصدار عملات ذهبية وفضية وبرونزية جديدة كما أخضع جميع الولايات لنظام ضريبى موحد فعمل على فرض ضريبة مزدوجة جديدة على الأفراد والأرض فى كل أنحاء الإمبراطورية. لكن أهم مايميز عهد دقلديانوس فى الواقع كان هو عمله على إخماد الحركة الدينية الجديدة الصاعدة فى الإمبراطورية وهى المسيحية التى أخذت تهدد جميع العقائد القديمة فى الإمبراطورية.
حضر دقلديانوس إلى مصرلمواجهة خطر الإنشقاق الذى قاده أحد القادة الرومان الذى إشتهر فى الإسكندرية بإسم أخيليوس وإضطر دقلديانوس لمحاصرة الإسكندرية لحوالى ثمانية أشهر دمر خلالها أجزاء كثيرة من المدينة وإضطرته الحالة التى وصلت إليها المدينة إلى توزيع شحنات القمح التى كانت مخصصة للشحن إلى روما على سكان المدينة ثم عمل بعد ذلك على القضاء على الخطر الأعظم الذى كان يهدد الإمبراطورية فى عهده وهو إنتشار المسيحية والذى أخذ يهدد العقائد الوثنية القديمة وعلى رأسها عبادة شخص الإمبراطور التى كانت تمثل أحد دعائم وحدة الإمبراطورية. وقد بدأ فى عام 298م بمحاولة محدودة لتطهير الجيش والإدارة من المسيحين بينما كان يستعد لحرب الفرس ولكنه وفى عام 303م وقبل تنازله عن العرش بسنتين فقط بدأ يشعر باليأس بسبب الإنقسام الدينى والمذهبى داخل الإمبراطورية فبدأ حملة إضطهاد ضد المسيحيين كانت أقسى مما عرفه المسيحيون فى عهد سبتميوس سفيروس ودقيوس حتى أطلق على عهده إسم عصر الشهداء نسبة إلى الأعداد الهائلة التى لقيت حتفها من جراء سياسة الإضطهاد الذى أمر بها وقضت بجمع نسخ الكتاب المقدس وحرقها وتدمير الكنائس ومنع المسيحيين من الإجتماع والعبادة وقد نُفذت تلك التعليمات بقسوة بالغة ونظرا لإن حاكم مصر فى ذلك الوقت كان من الحزب المناهض للمسيحين فقد كان الإضطهاد فى مصر أشد قسوة من بعض الولايات الأخرى وراح ضحيته آلاف من الناس من شتى الطبقات والمناطق.
وقد إستمر إضطهاد المسيحيين بعد دقلديانوس وخاصة فى عهد الإمبراطور جاليروس الذىخلف دقلدانوس مباشرة وذلك حتى أعلنها قسطنطين الكبير(323-337م) كأحد الديانات الرسمية فى الإمبراطورية فى مرسوم ميلان سنة 312م بعد إنتصاره على منافسه مكسنتيوس وقتله فى معركة جسر ميلفيان ثم إتخذ الخطوة النهائية بإعلانها الديانة الرسمية للإمبراطورية بعد الإنتصار على شريكه فى الحكم كيسينويس فى معركة أدرنة وكريسبوليس وإنفراده بحكم الإمبراطورية. ومنذ ذلك التاريخ بدأ تحول الإمبراطورية الكبير والسريع نحو المسيحية الظافرة على حساب العقائد الوثنية القديمة والتى بدأت تتهاوى امامها فى سرعة شديدة. وبدأ عصر جديد فى تاريخ مصر والعالم هو العصر البيزنطى أو العصر المسيحى.


















أهم المراجع :
1-مصر من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربى-د.عبداللطيف أحمد على- دار النهضة العربية- بيروت
2-الإمبراطورية الرومانية - د. مصطفى العبادى- دار النهضة العربية - بيروت
3-تاريخ مصر فى عصرى البطالمة والرومان- د. أبو اليسر فرج - دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية – القاهرة
4-The Roman History -Dio Cassius - Penguin classics- London
5-The decline and fall of the Roman Empire - Edward Gibbon - Penguin classics-London



















4-العصر البيزنطى
( 325م-641م)

تميز عهد قسطنطين الكبير بحدث كبير آخر غير إتخاذ المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية وهو بناء مدينة القسطنطينية على موقع قرية بيزنطة القديمة عند مدخل خليج البسفورفى المنطقة الفاصلة بين أوربا وآسيا بين الأعوام 224-330م وقد إتخذها قسطنطين عاصمة لملكه وأطلق عليها تسمية روما الجديدة وتُركت روما القديمة لمصيرها حتى سقطت على يد إدواكر زعيم قبائل الهرول البرابرة سنة 476م. وسرعان ماسقط الغرب الأوربى كله أمام جحافل البرابرة الجرمان القادمين من منطقة إسكندنافيا الحالية والذين أسسوا على مدى القرون التالية نواة الشعوب الأوربية الحديثة. وبذلك إنتقل كل ميراث الإمبراطورية الرومانية إلى روما الجديدة التى إشتهرت فى التاريخ بإسم القسطنطينية وعُرفت دولتها بإسم الإمبراطورية البيزنطية التى شملت هضبة الأناضول ومنطقة البلقان بالإضافة إلى مصر وسوريا ودول شمال إفريقيا ونافست روما القديمة على زعامة العالم المسيحى حتى سقوطها على يد العثمانيين سنة 1453م.

كان المسيح يهودياً من إسرائيل وقد ولد اثناء عهد الإمبراطور أغسطس وأُعدم فى عهد الإمبراطور تيبريوس وكانت المسيحية أساساً حركة إصلاحية داخل اليهودية ولكن رسالة المسيح حققت نجاحاً محدودا بين الشعب اليهودى ولذا فسرعان ماتم توجيهها إلى العالم اليونانى الرمانى الذى رحب بها ووجد فيها تصحيحاً وإتماما للفلسفة الإغريقية الرومانية وبذلك إلتقت أفكار الشرق الدينية بعلم العالم الإغريقى الرومانى وفلسفته. لكن الواقع أن رسالة المسيح قد حققت تقدمها الكبيرالأول بين جموع المحرومين والفقراء فى العالم الرومانى الذين وجدوا فى قصة حياته وإستشهاده تعبيراً عن إحتجاجهم على النظام الرومانى المرهق الذى هزته الحروب والغزوات وتصارع المذاهب والأفكار وواجبات الدولة المرهقة.

بشر المسيح بمملكة للضعفاء والمحرومين فى السماء وماكان أكثرهم فى العالم الرومانى كما أدخل المسيح كثيراً من التعديلات على الشريعة الموسوية أساس الشريعة اليهودية فلم يحرم الدعوة إلى غير اليهود ولم يحرم السبت كما حرم الرجم وأحل كثيراً من محرمات الطعام اليهودى الصارمة وأعلن أنه المسيح الذى بشر به أنبياء إسرائيل فإنقسم اليهود إزائه فريقين، فريق آمن به وبدعوته وبكونه المسيح آخر أنبياء إسرائيل ومخلصها وفريق آخر أنكر ذلك، وهنا بدأت السلطات الرومانية تنتبه إلى حركته وتخشى من تداعياتها فى فلسطين وأخيرا إجتمع رأى الفريقين - اليهودى والرومانى- على القضاء عليه فتم تدبير القبض عليه وصدر حكماً بإعدامه على أساس تهمة إدعاء ملك إسرائيل وكانت تهمة خطيرة تساوى تهمة الخيانة العظمى فى الزمن الحاضر إذ كان الإمبراطور الرومانى هو الملك الوحيد على العالم الرومانى وتم تنفيذ الحكم فى عهد الإمبراطور تيبريوس - كما تشير سجلات الدولة الرومانية - لكن ذلك الحدث لم يمر دون تداعيات ففى الوقت الذى أصدر فيه الرومان حكماً بإعدام المسيح فقد أصدروا معه حكماً بإعدام إمبراطورهم أيضا فالواقع أنه منذ ذلك التاريخ فصاعداً أصبح للعالم الرومانى بطلا جديدا غير الإمبراطور الرومانى هو المسيح/يشوع آخر أنبياء إسرائيل وشهيد العالم الرومانى. ومن المؤكد أن المسيح كان إنساناً حكيماً فوق العادة قوى الشخصية فوق العادة بحيث إهتزت فلسطين لمصرعه كل ذلك الإهتزاز الذى تسبب فى تغيير وجه العالم القديم فسرعان مابدأ العالم الرومانى ينظر بشكل جديد إلى تراث إسرائيل الدينى من خلال دعوته قصيرة العمر،عميقة الأثر. وقد تجمعت فى قصة المسيح كل ثقافة العالم القديم اليهودية والمصرية والفارسية والإغريقية ووفرت لها البيئة الرومانية التى شملت كل أقاليم البحر المتوسط سبل الإنتشار السريع.

وقد سجل تلاميذ المسيح سيرة حياته فى الأناجيل الأربعة المعروفة وهى أناجيل لوقا ومتى ومرقس ويوحنا وأضيف إليها فصول من أعمال الرسل وهم تلاميذ المسيح أثناء تبشريهم برسالته فى العالم الرومانى خاصة بولس وبطرس ومثل ذلك التراث الدينى ماعرف بعد ذلك بإسم العهد الجديد تمييزاً له عن تراث إسرائيل الدينى القديم والذى اصبح يعرف منذ ذلك الحين بإسم العهد القديم وشكل التراثان معاً ماأصبح يُعرف بالكتاب المقدس( Bible)وقد أصبح للكتاب المقدس تأثيراً طاغياً على عقول الناس فى العصور الوسطى لاينازعه أى تأثير آخر حتى ظهور الإسلام فى القرن السابع الميلادى وظهور القرآن ككتاب مقدس عربى بديل أخذ ينافس الكتاب المقدس المسيحى اليهودى. وبعدما إنتزع العرب منطقة جنوب المتوسط من الإمبراطورية البيزنطية أصبح للإسلام السيادة هناك بينما ظلت المسيحية هى العقيدة المسيطرة فى شماله ومن تاريخ المسيحية والإسلام تشكل تاريخ العالم القديم فيماأصبح يعرف بالعصور الوسطى.

وصلت المسيحية إلى مصر فى القرن الأول الميلادى حيث يروى أن القديس مرقس قد حضر إلى مصر بنفسه وأنه قد بشر بالدين الجديد فى الإسكندرية فى أواسط القرن الأول الميلادى ولكن دلائل ظهور المسيحية فى مصر بدأت تتضح منذ القرن الثانى الميلادى فقط حيث ظهر فى هذه الفترة نشاط وكتابات مسيحية هامة منها نص على أوراق البردى من إنجيل القديس يوحنا يرجع إلى النصف الأول من القرن الثانى وكذلك نص من إنجيل مسيحى غير الأناجيل الأربعة المعروفة لعله إنجيل برنابا المصرى. والأناجيل فى كل الأحوال هى سيرة حياة المسيح وتتفق فى معظمها على الخطوط العامة وتختلف فى بعض التفاصيل فقط.

ولقد كان للظروف الدينية والفكرية التى سادت الإسكندرية فى ذلك الوقت تأثيراً كبيراً على الديانة الجديدة بسبب المناخ الفلسفى الذى ساد الإسكندرية فى ذلك الوقت وظهور الدعوة الغنوصية التى كان أصحابها ينكرون الديانات القديمة ويميلون إلى الإعتقاد فى فكرة إلهية تتمثل فيها المثل الدينية الرفيعة دون التقيد بدين معين تماماً مثل الحركة الحنيفية التى ظهرت فى الحجاز قبل ظهور الإسلام مباشرة.وفى وسط ذلك المعترك العنيف من المذاهب والفلسفات والأديان المختلفة من ناحية وإضطهاد الدولة من ناحية أخرى شقت المسيحية طريقها وأصبح لها فى الإسكندرية مركزاً ورئيساً ومدرسة تعليمية لتدريس تعاليمها حوالى نهاية القرن الثالث الميلادى. ومن الإسكندرية إنتشرت المسيحية إلى جميع أنحاء مصر بعد ذلك.

لعبت مدرسة الإسكندرية دوراً كبيراً فى تاريخ المسيحية فقد كانت مدينة الإسكندرية قد إكتسبت شهرة عالمية فى العصر القديم كمركز للتعليم وأصبح متحف الإسكندرية ( مركز إلأهات الفنون والعلوم) الذى تأسس فى بداية العصر البطلمى والمكتبة التى تأسست بجواره مركزاً للفكر والبحث ونادى إجتماعى للنخبة المثقفة لجميع سكان البحر المتوسط. وبينما حظيت الإسكندرية لزمن طويل بتلك الشهرة الثقافية والعلمية فإنه وبنهاية العصر البطلمى أصبحت الفلسفة هى أشهر المجالات الثقافية القائمة بها. ولقد كان من شأن تلك الروح الفلسفية أن تكون ذا تأثير قوى على المفكريين اللاهوتيين المسيحيين الأوائل الذين عاشوا وعملوا فى الإسكندرية بحيث إشتهرت كنيسة الإسكندرية فى أنحاء عالم البحر المتوسط بأكاديميتها التعليمية المسيحية وبالمعرفة الإنجيلية والفلسفية لأساتذتها. وقد إشتهرمن بين صفوف مؤسسى تلك المدرسة التعليمية عالمان سكندريان يرجع إليهما التاريخ المسيحى الفضل فى إرساء القواعد الأساسية للعقيدة المسيحية وهما كليمنت السكندرى(160-215م) وتلميذه أوريجن(185-253م).وقد أنتج أوريجن بشكل خاص مجموعة من المؤلفات التى تركت أثرها على تاريخ الفكر المسيحى كان أشهرها هو عمله الكبير فى اللاهوت التأملى المنهجى المعنون بإسم( فى المبادئ الأساسية).

وهكذا ساهمت مصر فى التراث المسيحى منذ البداية كما أصبحت - بعد ذلك - مركزاً لأكبر الحركات اللاهوتية تأثيراً فى تاريخ الكنيسة المسيحية مثل الدعوة الآريوسية التى تُنسب إلى آريوس أحد رجال الدين فى الإسكندرية والذى كان قد صاغ أراءً مستقلة إختلفت عن العقائد السائدة فى المسيحية آنذاك ودخل فى صراع عنيف مع الأسقف إسكندر أسقف كنيسة الإسكندرية فى ذلك الوقت. وقد تعلقت آراء آريوس الجديدة بالعلاقة بين الأب والإبن فى الثالوث العقيدى الموحد فى العقيدة المسيحية إذ كان يرى أن الإبن لايمكن أن يكون مساوياً للأب لأن الأب قديم ودائم بينما الإبن جديد وذو بداية أى أنه مخلوق وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون الإبن إلهاً مثل الأب. وقد صدمت هذه الآراء كثيراً من رجال الكنيسة فى الإسكندرية الذين كانوا يؤمنون بأن الإبن مثل الأب قديم ودائم وأنهما من طبيعة واحدة. وقد تعقدت الأمور بسبب ذلك بين آريوس وإسكندر فتدخل الإمبراطور قسطنطين ودعى إلى عقد مجمع دينى عالمى لكنائس الشرق والغرب فى نيقيا فى آسيا الصغرى سنة 325م.

وبالفعل إنعقد المجمع وشهده القساوسة من جميع أطراف الإمبراطورية كما حضره قسطنطين بنفسه وأشرف على إدارة كثير من الجلسات. وفى هذا المجمع إتضحت الخلافات المذهبية الخطيرة التى بدأت تعانى منها العقيدة الجديدة ومن أهمها الدعوة الآريوسية الجديدة والتى بدأت تكتسب لها أتباعاً. حاول الإمبراطور التوفيق بين مختلف الآراء وأمكن التوصل فى النهاية إلى صيغة ترضى جميع الأطراف ولكن الإمبراطور إقترح إضافة فى نهايتها يصف فيها العلاقة بين الأب والإبن بأنهما من طبيعة واحدة وكان معنى ذلك أن الإمبراطور قد قرر فى النهاية مجاملة الأكثرية التى كانت ترفض عقيدة آريوس. وقد قبل الجميع هذا القرار بإستثناء إثنين من أتباع آريوس المخلصين فاصدر المجمع قراراً بحرمانهما مع آريوس من الكنيسة كما أمر الإمبراطور بطردهم من مصر. ومع ذلك فقد إستمرت مشكلة الإنشقاق داخل الكنيسة بدون حل وعندما أدرك قسطنطين ذلك حاول إعادة الوحدة إلى الكنيسة بإصدار عفو عن آريوس وبإعادته إلى منصبه فى الإسكندرية ولكن الأسقف إسكندر رفض إجابة طلب الإمبراطور وبذلك بدأ خلاف عنيف بين كنيسة الإسكندرية وبين القصر الإمبراطورى فى القسطنطينية. وكالعادة إتسم هذا الخلاف بالطابع الدينى والسياسى معاً وبدأت العلاقات بين الإسكندرية وروما تتحسن بقدر مابدأت تسوء مع القسطنطينية. وقد تطور هذا الخلاف وإتخذ أشكالاً اكثر حدة فى عهد أثناسيوس الذى خلف إسكندر سنة 328م والذى إكتسبت كنيسة الإسكندرية فى عهده أهمية عالمية لايضاهيها فيها سوى كنيسة روما ذاتها وأصبح أثناسيوس - على مر السنين - زعيما شعبياً وليس مجرد اسقف كنيسة.

وقد بدأ الخلاف بين أثناسيوس وقسطنطين أول الأمر بسبب مسألة آريوس إذ أصر أثناسيوس على موقف سلفه إسكندر ورفض أمر الإمبراطور بإعادة آريوس إلى كنيسة الإسكندرية. وبعد تكرار فشل محاولات الإمبراطور قررعقد مجمع دينى فى مدينة صور سنة 335م لمحاكمة أثناسيوس بتهم مختلفة لاتقتصر على موقفه من آريوس ولكنها شملت تهم أخرى مثل القسوة فى معاملة أتباع ميليتوس- أحد رجال كنيسة الإسكندرية - والتدخل فى تعطيل إبحارالقمح المصرى إلى القسطنطينية ثم تأييده لثورة قامت ضد الإمبراطور فى مصر قادها شخص يدعى فيلومينيس سنة 335م. وبالفعل قرر مجمع صور عزل أثناسيوس من منصبه وألحق الإمبراطور ذلك بأمر نفيه من مصر إلى بلاد الغال( فرنسا الحالية )فى القسم الغربى من الإمبراطورية.

أما المشكلة الكبيرة الأخرى التى واجهت الكنيسة فى عهد قسطنطين فهى الموقف من دعوة أتباع ميليتوس إلى إتخاذ موقف قاس من الذين ضعفوا أمام الإضطهاد وإرتدوا عن المسيحية فى سنوات الإضطهاد التى بدأت فى زمن دقلديانوس وذلك فى حين أن الأسقف إسكندر كان يفضل موقفا متسامحاً يبيح العفو بعد التوبة. ورغم أن هذا الموضوع ظل مصرياً بعكس دعوى آريوس التى إتخذت طابعاً عالمياً فقد كان ميليتوس متعصباً كثير الأتباع لدرجة دفعته لإن يبنى لأتباعه كنيسة خاصة أطلق عليها إسم كنيسة الشهداء لايشاركهم فيها المسيحيون الآخرون ولذلك إضطرت الكنيسة إلى نفيه إلى فلسطين ورفع الأمر إلى قسطنطين الذى قرر عرضه على مجمع نيقية أيضا. وقد أصدر المجمع قراراً توفيقياً وهو ان يحافظ ميليتوس على لقبه الدينى دون أن يعود إلى ممارسة عمله فى الكنيسة ولكن سُمح لأتباعه من رجال الدين بالعودة إلى ممارسة عملهم بعد قبول الأسقف إسكندر لهم. ومع ذلك ورغم الإجماع والوحدة التى ظهرت فى مجمع نيقية فإنه لم يتمكن من إيجاد الحلول النهائية للمشاكل التىواجهها فلم تمت الدعوة الآريوسية بنفى آريوس أو بمحاولة إعادته إلى منصبه بعد ذلك كما أن الإنقسام الميلوتيسى لم يعالج بإقتراح ذلك الحل الوسط.

وبعد وفاة قسطنطين عام 337م عاد أثناسيوس إلى الإسكندرية ورغم مقاومة أتباع آريوس وميليتوس لعودته فقد تمكن من القضاء على مقاومتهم عن طريق إحضار جماعات من الرهبان بزعامة أنطون الراهب إلى الإسكندرية ونجح فى تولى أمور الكنيسة من جديد. ومع ذلك فلم يتمكن أثناسيوس من الإستمرار طويلاً فى منصبه لإن الإمبراطور الجديد قسطنطين الثانى ضاق به وأصدر أمراً بطرده هو وأتباعه من الكنيسة عام 339م. ولم ينتظر أثناسيوس أن يُلقى القبض عليه مرة أخرى ففر إلى روما حيث كان يثق فى مناصرة البابا وإمبراطور الغرب له وبالفعل إستقبلاه بالترحاب وساعده إمبراطور الغرب على العودة إلى الإسكندرية وتولى منصبه مرة ثانية فى سنة 346م. وفى خلال الأعوام العشرة التالية عمل أثناسيوس على توطيد مركزه فى مصر ومحاربة الآريوسية التى كان أمرها قد إستشرى فى البلاد أثناء فترة نفيه. وفى خلال تلك السنوات من أسقفية أثناسيوس نمت الكنيسة المصرية نمواً كبيراً وتعدت حدود مصر وأنشأت كنيسة الإسكندرية فرعا لها فى إثيوبيا.

وفى خلال تلك السنوات أيضا كان إمبراطور روما نصير أثناسيوس قد مات وأصبح قسطنطين الثانى إمبراطورا مفرداً فى الإمبراطورية ولإنه لم يكن راضياً عن إزدياد نفوذ أثناسيوس فقد إنتهز فرصة إقامته للصلاة فى الكنيسة التى أمر ببنائها على أنقاض معبد القيصرون وذلك قبل الإنتهاء من البناء وبدون إذن الإمبراطور وقرر القبض عليه فى عام 356م لكن أثناسيوس تمكن من الفرار وإختفى بين الرهبان المصريين وظل يتنقل بين الأديرة المختلفة التى كانت قد إنتشرت فى ذلك الوقت سواء فى الصعيد أو فى الصحراء الغربية.

كانت حركة الرهبنة المصرية قد نشأـت حوالى عهد الإمبراطور ديقيوس بسبب الإضطهاد الكبير الذى شنه هذا الإمبراطورعلى المسيحيين. وقد إحتفظ لنا تاريخ الكنيسة المصرية بذكرى شخصية مصرية قديمة جعلها نقطة البداية فى نشأة الرهبنة المسيحية فى مصر وهى شخصية الأنبا بولس من طيبة فى صعيد مصر والذى هرب أثناء إضطهاد ديقيوس للمسيحيين إلى الصحراء الشرقية ولكنه لم يعد ونشأت حوله الأساطير بعد ذلك.

وسرعان ماتطورت حركة الرهبنة الفردية التى بدأها الأنبا بولس لتصبح حركة جماعية على يد القديس أنطونيوس فى مدينا كوما فى مصر الوسطى. وسيرة حياة القديس أنطونيوس سيرة حقيقية واضحة المعالم بعيدة عن الطابع الأسطورى الذى يميز سيرة الأنبا بولس وقد رواها الأسقف اثناسيوس وأعاد القديس جيروم صياغتها.

كان أنطونيوس مصرياً صميماً لايعرف سوى اللغة القبطية وقد وُلد لأسرة ثرية فى منتصف القرن الثالث الميلادى ولكنه بعد فقد أبويه إستبد به إنفعال دينى شديد فقرر الإستغناء عن ثروته للفقراء بعد أن ترك جزءً منها لأخته وقرر إتخاذ حياة التنسك والرهبنة فعبر نهر النيل إلى الصحراء والجبال الشرقية واقام فى بقايا قلعة مهجورة فى موقع يقال له بسبير وذلك لنحو من عشرين عاما (285-305م) وسرعان ماذاع صيته واقبل عليه المسيحيون من كل صوب ممن أخذوا أنفسهم بحياة التنسك طالبين التتلمذ على يديه وهكذا نشأت أول حركة رهبنة جماعية حول القديس أنطونيوس فى مصر الوسطى.

وقد عاصرت حركة الرهبنة الأنطونية حركات رهبنة جماعية أخرى نشأت فى طيبة فى الصعيد وفى مدينة البهنسا بمصر الوسطى وإسنا والشيخ عبادة وكيلوس بالقرب من اسيوط وكذلك فى وادى النطرون شمال مصر مما يعنى أن حركة الرهبنة المصرية كانت قد بدأت تغزو المناطق ذات الطابع الإغريقى فى شمال مصر. ومن أشهر رواد حركة الرهبنة فى وادى النطرون يذكر التاريخ إسم القديس آمون الذى نزح إلى هذه الصحراء عام 325م والقديس مكاريوس السكندرى والذى يُنسب إليه الدير الموجود حتى الآن فى وادى النطرون ويُعرف بإسم دير أبى مقار.

ولم تقتصرحركة الرهبنة الأنطونية على الرجال فقط بل شملت كثيراً من النساء أيضاً وقد شجعت الكنيسة فى ذلك الوقت ذلك الإتجاه وكتب الأسقف اثناسيوس كتاب( رسالة التبتل العذرى) يقدم فيه الإرشادات الواجب على الراهبة إتباعها. ومن أشهر راهبات ذلك العصر الراهبة فيامون التى إكتسبت شهرة كبيرة فى عصرها بفضل الدور الذى قامت به لمنع إحدى المعارك المألوفة فى مصر القديمة بين قريتين بسبب تقسيم مياه الرى.

وفى حدود ذلك الوقت الذى شاع فيه نظام أنطونيوس فى مصر الوسطى والإسكندرية كان هناك نظام رهبانى ديرى آخر يتأسس فى صعيد مصر الأعلى على يد القديس باخوميوس الذى ولد فى الجزء الأخير من القرن الثالث الميلادى بالقرب من بلدة قصر الصياد فى مديرية قنا الحالية. وقد خدم باخوميوس فى الجيش الرومانى تحت قسطنطين وليسكنيوس وفى تلك الفترة تعرف على أول جماعة مسيحية فى مدينة إسنا الحالية وبعد ذلك وبمجرد تركه الخدمة العسكرية إعتنق المسيحية وإتخذ سبيل الرهبنة.وسرعان ماطور باخوميوس نظام الرهبنة الجماعية المحدود الذى عُرف على يد أنطونيوس إلى نظام الرهبنة الجماعية الكامل وأنشأ ديره الأول سنة 323م بالقرب من دندرة الحالية وسرعان ماإنتشر هذا النظام الباخومى الجديد بحيث كان قد شمل أديرة كثيرة فى أماكن متفرقة من مصر عند وفاة باخوميوس سنة 345م.
وقد تميز الدير الباخومى بالخضوع لنظام عام موحد وبطابع شبه عسكرى ولم تكن حياة الدير الباخومى قاصرة على العبادة والتنسك وإنما كانت أشبه بمستعمرات إقتصادية ينتج أهلها مايحتاجونه بأنفسهم. ورغم أن الأغلبية من الرهبان الباخومية كانوا من المصريين فقد سُمح للأجناس الأخرى أن تنضم إلى هذه الأديرة أيضاً ولكن كان لكل جنس بيت خاص به. كان التعليم هو أهم مظاهر نظام الديرية الباخومية فقد قضى نظام الدير بوجوب ان يتعلم الراهب القراءة والكتابة ومعرفة الكتاب المقدس عن ظهر قلب كشرط أساسى. ولم تقتصر الديرية الباخومية على الرجال فقط بل شملت النساء أيضاً وذلك فى أديرة خاصة بالراهبات مثلها فى ذلك مثل الديرية الأنطونية.

وقد وُجدت حركات ديرية أخرى بعد ذلك عملت على الجمع بين النظامين الأنطونى والباخومى ومن أشهرها الأديرة الميليتية وحركة الأنبا شنودة. وتُنسب الأديرة الميليتية إلى ميليتوس -السابق ذكره- وتتميز هذه الأديرة بنظام أكثر ديموقراطية من النظام الباخومى إلا أنها لم تستمر طويلاً.
أما الآنبا شنودة فقد تعلم فى أحد الأديرة الباخومية ولكنه لم يرض بذلك النظام فإتخذ لنفسه نظاماً جديداً طبقه فى ديرين هما الدير الأبيض والدير الأحمر فى منطقة سوهاج. وقد حاول أن يجعل حياة الديرية أكثر صرامة ودقة من نظام باخوميوس كما قصر حق دخول الدير على المصريين. على أن أهمية شنودة لاتقتصر على حركته الديرية فقط وإنما ترجع إلى تراثه الأدبى فقد بقى الكثير من دروسه وعظاته التى كتبها باللغة القبطية بلهجة منطقة أخميم وقد ذاع أمر كتاباته بعد ذلك حتى أصبحت اللهجة التى كتب بها هى لغة الكنيسة المصرية لمدة قرون كثيرة.

هكذا نشأت الرهبنة فى مصر وأصبح لها نظم وقواعد مطبقة وممارسة على نطاق واسع منذ القرن الرابع الميلادى وسرعان ماإنتشرت خارج مصر إلى فلسطين وسوريا والعراق ثم اليونان وإيطاليا وأسبانيا وفرنسا حتى وصلت إلى إيرلنداغربا فى فترة وجيزة جدا.

وعلى أى حال ، فبعد وفاة قسطنطين الثانى وتولى جوليان المرتد العرش(361-363م) حاول أثناسيوس أن يعود إلى كنيسته للمرة الثالثة لكنه فشل وأصدر الإمبراطور أمراً بنفيه من الإسكندرية فإضطر إلى الإختفاء بين الرهبان مرة أخرى. وفى عام 362/364م تولى الإمبراطور جوفيان العرش فى القسطنطينية فعفى عن أثناسيوس وأعاده إلى كرسيه فى كنيسة الإسكندرية. ورغم تولى الإمبراطور الآريوسى فالنز لعرش الإمبراطورية بعد جوفيان (364-378م) فقد إستطاع أثناسيوس الحفاظ على أسقفيته هذه المرة حتى وفاته سنة 373م.

وبعد وفاته خلفه الأسقف بطرس وكان أحد زملائه ولكن الإمبراطور فالنز إنتهز فرصة موت أثناسيوس وأراد أن يعين أسقفاً آريوسياً ولذلك فلم يعترف ببطرس وأقام بدلاً منه أسقفاً آريوسياً يدعى لقيوس وإضطر بطرس إلى الفرار إلى روما. وقد مثلت أسقفية لقيوس آخر محاولة آريوسية للسيطرة على الكنيسة المصرية وقد أخذ لقيوس ينتقم من أتباع أثناسيوس وينكل بهم وخاصة بين رهبان الصحراء الغربية. وقد صاحب حركة إضطهاد الرهبان تلك صدور قرار إمبراطورى يقضى بأنه يجب على الأثرياء من المواطنين الذين يهجرون المدن بدعوى الإنضمام إلى صفوف الرهبان أن يعودوا ثانية وأن يسلموا جميع ممتلكاتهم للدولة. لكن هذه القرارات لم تكن كافية لمنع أفراداً من كل الطبقات من أن يتركوا مواطنهم ويذهبوا إلى الأديرة مما أخذ يؤثر على حركة التجنيد للجيش وهنا أصدر الإمبراطور قراراً بتجنيد الرهبان وإستخدم القوة للقبض عليهم وتجنيدهم. وقد أدى كل ذلك لثورة الأهالى على الأسقف الآريوسى لقيوس مما إضطره إلى الفرار إلى القسطنطينية وعلى أثر ذلك تمكن بطرس خليفة أثناسيوس والذى كان منفياً فى روما من العودة إلى الإسكندرية عام 375/376م.

وبعد وفاة الإمبراطور الآريوسى فالنز خلفه الإمبراطور ثيودوسيوس (379-395م) فأراد أن يعالج المشاكل الدينية بطريقة توفيقية فإبتدأ بأن أعلن ضرورة تعميم عقيدة مجمع نيقية الذى عُقد أيام قسطنطين الكبير سنة 325م على كل الكنائس ثم أكد ذلك الإعلان بعقد مجمع دينى فى القسطنطينية سنة 381م دون دعوة أى ممثلين عن الكنيسة المصرية وأعلن فيه أن كنيسة القسطنطينية يجب أن يكون لها مكان الشرف التالى لكنيسة روما بصفتها روما الجديدة قاصداً بذلك تنحية كنيسة الإسكندرية عن مركزها التالى لكنيسة روما ثم أصدر المجمع قراراً آخر بأن يقضى بأن تقتصر كل كنيسة على الإقليم الذى تقع فيه ومعنى ذلك أن تقتصر كنيسة الإسكندرية على مصر فقط وأن لاتتدخل فى الولايات الأخرى.
وقد شن ثيودوسيوس حملة شديدة للقضاء على الوثنية فى أرجاء الإمبراطورية وفى ذلك الوقت كان قد تولى أسقفية الإسكندرية بعد لقيوس وبطرس أسقفاً يدعى ثيوفيلوس فتولى هذا الأخير تنفيذ هذه السياسة الإمبراطورية بكل قسوة ووحشية. ولما كان معبد السيرابيوم فى الإسكندرية من أشهر معاقل الوثنية القديمة فقد إستعان ثيوفيلوس بالسلطات العامة فى المدينة وهاجم المعبد ودمره ودمر المكتبة الكبيرة التى كانت ملحقة به. وبعد ذلك تفرغ ثيوفيلوس إلى إضطهاد خصومه فى الرأى من رهبان الصحراء الغربية مستخدماً فى ذلك قوة من الجنود الرومان. وفى سنة 312م توفى ثيوفيلوس وخلفه الأسقف كيرلس الذى يعتبر أهم من تولى الكنيسة المصرية بعد أثناسيوس كما كان الإمبراطور ثيودوسيوس قد توفى عام 395م وخلفه إبنه أركاديوس إمبراطوراً على الشرق وإبنه ألاخر هونوريوس إمبراطوراً على الغرب وفى عهديهما إنفصل شقى الإمبراطورية إلى الأبد.

حكم أركاديوس حتى عام 408م وخلفه ثيودوسيوس الثانى فى حكمه الطويل الذى إستمر حتى عام 450م ولذا فقد عاصرت فترة حكمه فترة أسقفية كيرلس فى الإسكندرية. كان كيرلس متعصباً شديد التطرف وفى أيامه تجدد إضطهاد اليهود فى الإسكندرية بعد أن خمد لنحو من ثلاثة قرون كما إضطهد كيرلس مدارس الفلسفة فى الإسكندرية بإعتبارها مراكز للفكر الوثنى وكانت الفيلسوفة الشهيرة هيباثيا من ضحاياه حيث إضطهدها ثم أطلق عليها الرهبان فقتلوها عام 415م.ولم يكف كيرلس عن هذه الأعمال إلا بعد أن تدخل الإمبراطور ثيودوسيوس الثانى وأرسل بعثة للتحقيق. ولكن أهم مايميز عهد كيرلس هو تجدد الصراع المذهبى بين القسطنطينية والإسكندرية والذى سينتهى بالإنفصال التام للكنيسة المصرية عن كنيسة القسطنطينية. فقد حدث فى ذلك الوقت أن نشأ خلاف جديد بين المسيحيين حول طبيعة المسيح الإلهية والبشرية وكان من الطبيعى أن تقرر الكنيسة الرسمية فى القسطنطينية موقفها من هذه الخلافات تبعاً لقرارات مجمع القسطنطينية الدينى الذى عُقد عام 381م وجعل من كنيسة القسطنطينية الكنيسة الرسمية للدولة. وبالفعل أصدر نسطوريوس أسقف القسطنطينية رأيه فى الأمر منادياً ببشرية المسيح إلى جانب إلوهيته فهو بشر من أمه وإلهاً من أبيه. وعلى أثر ذلك إنقسمت الكنائس المختلفة إلى فريقين. فريق يؤيد الدعوة النسطورية أو الملكانية كما أصبحت تعرف بسبب تعبيرها عن رأى الإمبراطور أيضاً وفريق يعارض هذا الرأى معارضة شديدة وقد تمثل ذلك الفريق فى كنائس مصر وسوريا وأرمينيا والتى كانت تدعو إلى مبدأ الطبيعة الواحدة على أساس أن طبيعة المسيح البشرية قد ذابت فى النهاية فى طبيعته الإلهية بحيث أصبح فى النهاية ذو طبيعة إلاهية واحدة. وقد عُرف أنصار هذا الرأى بإسم أنصار مذهب الطبيعة الواحدة ( المينوفيزيتى) كما عُرفوا فى سوريا بإسم اليعاقبة نسبة إلى زعيمهم يعقوب. وبالطبع لم تكن الخلافات المذهبية بين كنائس الشرق وبين القسطنطينية سوى إنعكاساً لخلافاتهم السياسية أيضاً ولذلك فبمجرد أن أعلن نسطوريوس عقيدته فى القسطنطينية حتى راح كيرلس يهاجمها فى الإسكندرية ويفندها حتى نجح فى مجمع إفسوس الذى عُقد سنة 431م فى أن يفرض رأيه على ألأعضاء ويصدر حكماً ضد نسطوريوس نفسه.وقد ظل كيرلس متمتعاً بمكانة عالية حتى نهاية حياته سنة 444م.

وبعد وفاته خلفه الأسقف ديوسقورس (444-451م) الذى عاصر السنوات الأخيرة من حكم ثيودوسيوس الثانى. وقد واصل ديوسقورس صراع كيرلس ضد القسطنطينية عندما حاول أسقفها الجديد فلافيانوس بعث الفكرة النسطورية وضرورة إثبات طبيعتى المسيح فى مجمع إفسوس الثانى الذى عُقد سنة 449م حيث تصدى له ديوسقورس وإستطاع أن ينتزع إنتصاراً سريعاً ولكن يبدو أن هذا الإنتصار قد تم بأساليب غيرمشروعة بحيث أُطلق على هذا المجمع إسم مجمع اللصوص.

وبعد وفاة الإمبراطور ثيودوسيوس الثانى خلفه الإمبراطور مارقيانوس(450-457م) فقام بإلغاء قرارات مجمع إفسوس الأخير ودعا إلى عقد أكبر مجمع مسيحى قديم فى خلقدونية سنة 451م ومن هذا المجمع خرجت عقيدة توفيقية جديدة تؤكد أن( للمسيح طبيعتين غير مندمجتين ولامتغيرتين ولامنقسمتين ولا منفصلتين).
وقد حوكم ديوسقورس أمام هذا المجمع وصدر الحكم بعزله من منصبه بسبب مواقفه الدينية وبسبب سوء سلوكه أيضاً. ثم صدر قرار الإمبراطور بنفيه إلى جانجرا بآسيا الصغرى حيث توفى عام 454م. ولكن قرارات مؤتمر خلقدونية ونفى ديوسقورس لم تنه الخلاف ولم تنجح فى تحقيق الوحدة الدينية للإمبراطورية وظلت دعوة الطبيعة الواحدة قوية فى مصر وسوريا ونشأ عن ذلك إضطرابات عنيفة راح ضحيتها كثير من الناس ودخلت الكنيسة المصرية فى سلسلة طويلة من المنازعات بشأن إختيارالأسقف فمن ينتخبه المصريون لايرضى به الإمبراطور ومن يرشحه الإمبراطور لايرضى به المصريون وإستمر ذلك إلى أن تم الإتفاق سنة 482م فى عهد الإمبراطور زينون(474-491م) الذى خلف الإمبراطور ليو الأول الأسورى(457-474م) على أن يختار المصريون أسقفهم دون تدخل الإمبراطور بحيث يمكن إعتبار هذا التاريخ البداية الفعلية لإنفصال كنيسة الإسكندرية عن كنيسة القسطنطينية.

وقد كان لهذه الخلافات المذهبية عواقب وخيمة على وحدة الإمبراطورية إذ أفقدتها وحدتها الداخلية فعجزت عن مواجهة الأخطار الخارجية التى بدأت تحيط بها على كل الجبهات تقريباً. وفيما يخص مصر فقد نشطت القبائل النوبية من جديد وفى الشرق إنتهز الفرس فرصة سوء الأحوال فى الإمبراطورية وأخذوا يتقدمون غرباً حتى حدود مصر الشرقية وبدا كأن الإمبراطورية على وشك الإنهيار بسبب الإنقسامات الداخلية والهجمات الخارجية ولم يستطع الإمبراطور أنسطاسيوس (491-518م) الذى خلف زينون أن يفعل شيئاً لإيقاف ذلك التدهور بل على العكس فقد شهد عهده مزيداً من الصراعات الدينية والحروب التى أدت إلى إراقة الدماء وإستمر ذلك الوضع حتى تولى الإمبراطور جستن الأول (518-527م) الحكم فى القسطنطينية وبدأ بمساعدة أحد قواده وخليفته بعد ذلك الإمبراطور جستينيان العظيم (527-565م) فى محاولة جادة لوضع حداً للنزاعات الدينية فى الإمبراطورية ومحاولة مواجهة الأخطار التى أحاطت بها وإعادة توحيد شقيها الشرقى والغربى مرة أخرى.

ومع ذلك ورغم نجاح جستنيان العظيم فى معالجة الكثير من مشاكل الإمبراطورية فقد فشل فى تحقيق الوحدة الدينية للإمبراطورية مرة أخرى وذلك بسبب عمق هذه الخلافات المذهبية بين القسطنطينية وسائر كنائس الشرق من جهة وبين القسطنطينية وروما من جهة أخرى. ومن المفارقات المثيرة فى هذا الخصوص أن جستنيان وبصفته إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة فقد كان بطبيعة الحال من أنصار المذهب الملكانى أو مذهب الطبيعتين الذى كانت كنيسة القسطنطينية تتبناه وذلك فى الوقت الذى كانت فيه زوجته ثيودورا من أنصار مذهب الطبيعة الواحدة السائد فى كنائس الشرق الأخرى.
حاول جستنيان تعميم قرارات مجمع خلقدونية كما منع المصريين من إختيارأساقفتهم بأنفسهم وفرض عليهم أساقفة من إختياره كان يتم تنصيبهم فى الخارج ثم يرسلون إلى الإسكندرية فى حراسة قوة عسكرية تفرضهم على الكنيسة بقوة السلاح . لكن جستنيان لم يستطع أكثر من ذلك فقد ظل معظم المصريين على مذهب الطبيعة الواحدة ولم تجدى محاولات الأساقفة الملكانيين نفعاً فى ثنيهم عن عقيدتهم برغم كل ماإتبعوه من وسائل تعسفية. لكن إصلاحات جستنيان الأخرى حققت بعض الآثار الإيجابية فى مصر فقد أعاد توحيد السلطتين المدنية والعسكرية فى شخص الوالى بينما أبقى على تقسيم مصر إلى عدة ولايات و قد ساعد ذلك على إستتاب الأمن وتأمين الحدود. وفى عهد جستنيان إستطاع المصريون أن يمدوا نفوذهم الدينى جنوباً فدخلت القبائل النوبية فى المسيحية على مذهب الطبيعة الواحدة وذلك رغم جهود الأسقف فى الإسكندرية فى أن يكون للمذهب الملكانى السبق. ولكن جستنيان لم يعترض على ذلك لإنه رأى فى إمتداد المسيحية إلى جنوب مصر إمتداداً لنفوذ الإمبراطورية وتأميناً لحدود مصر الجنوبية فى نفس الوقت.لكن خلفاء جستنيان لم يكونوا فى مثل قدرته ولذلك لم يستطيعوا الحفاظ على المكاسب التى تحققت فى عهده وعادت الفوضى إلى الجيش والإدارة معا وتجددت الهجمات الأجنبية على الحدود وخاصة هجمات الفرس على الحدود الشرقية وفى مصر عاود النوبيون تهديدهم وغزوهم لحدود مصر الجنوبية ولم يكن لدخولهم فى المسيحية أى أثر وفى الوقت نفسه عاد الخلاف المذهبى فى مصر إلى سابق عهده وإشتدت مقاومة المصريين للأسقف الملكانى فى الإسكندرية حتى وصلت العلاقة بين الطرفين إلى طريق مسدود تماماً.

فبعد وفاة جستيان العظيم خلفه الإمبراطور جستن الثانى(565-578م) والذى حاول جاهداً الحفاظ على المكاسب التى تحققت فى عهد جستنيان العظيم كما إمتنع عن دفع الجزية التى كانت قد تقررت لبعض الشعوب البربرية فى عهد جستنيان والتى كانت ترهق خزانة الدولة لكنه مالبث أن اصيب بلوثة عقلية فى عام 573م وقامت زوجته صوفيا بتصريف أمور الدولة بمعاونة تيبيريوس قائد الحرس الإمبراطورى وإبن جستن الثانى بالتبنى والذى أصبح إمبراطوراً بعد وفاة الأخير(578-582م). لم يكن تيبيريوس يقل رغبة فى إصلاح الإمبراطورية عمن سبقه من أسلافه فعمل على تخفيض الضرائب عن السكان وإتبع سياسة خارجية أكثر إعتدالاً فتنازل للآفار عن بعض مناطق الدانوب كما هادن الفرس لكنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً إزاء الأخطار الأخرى التى أخذت تتجمع حول الإمبراطورية من كل صوب بالإضافة إلى الإنشقاق الدينى الشديد داخلها.

وبعد وفاته خلفه قائد الحرس الإمبراطورى وزوج إبنته الإمبراطور موريس(583-602م) والذى تمكن من تحقيق السلم مع الفرس عندما إلتمس منه كسرى الثانى(590-638م) العون فى تثبيته على عرش فارس الذى كان قد وصل إليه بالثورة فساعده موريس على ذلك وكان السلام هو الثمن الذى طلبه فى المقابل. ولكن موريس قد حول قواته على أثر ذلك إلى الجبهة الغربية فى محاولة لإسترداد أملاك الإمبراطورية التى كان جستنيان الثانى قد تنازل عنها إلى الآفار ولكن يبدو أنه قد أرهق جنوده فى القتال لدرجة كبيرة فتمردوا عليه ونادوا بأحد القادة العسكريين ويدعى فوقاس إمبراطوراً ورحب أهالى القسطنطينية بالإمبراطور الجديد لما عانوه من الإجراءات الصارمة التى كان موريس قد فرضها عليهم. وبالفعل تولى فوقاس عرش الإمبراطورية بعد قتل موريس(602-610م) لكن عهده شهد مزيداً من التدهور فى أحوال الإمبراطورية وإزدياد حدة الصراع الدينى داخلها بسبب إضطهاده لأتباع مذهب الطبيعة الواحدة مما أدى إلى عصيان الولايات الشرقية ومن بينها مصر. وقد مثلت تلك الظروف فرصة سانحة للفرس للتقدم داخل الأراضى البيزنطية فإخترقت الجيوش الفارسية الحدود الأرمينية وتوغلت فى آسيا الصغرى حتى مدينة خلقدونية ثم تقدمت إلى جنوب الشام وإستمرت فى تقدمها حتى تمكنت من إحتلال مصر بعد ذلك. وفى هذه الظروف السيئة راسل أهالى القسطنطينية هرقل حاكم شمال إفريقيا البيزنطى ليحضر بجيوشه فى محاولة يائسة لإنقاذ الإمبراطورية مما أصابها من إنحلال وفوضى. وبالفعل أنفذ هرقل العجوز إبنه الذى كان يدعى هرقل أيضاً إلى القسطنطينية لخلع فوقاس.

نزل هرقل فى مدينة سالونيك اليونانية وإتخذها مركزاً لتجميع قواته قبل مهاجمة القسطنطينية وفى هذه الأثناء إنضم إليه كثير من القادة وقطع الإسطول المتواجدة فى أنحاء البحر المتوسط وبعد أن إكتملت إستعدادته أبحر إلى مضيق الدردنيل فى شتاء عام 610م وبمجرد وصوله إنضم إليه معظم أهالى القسطنطينية الثائرين على حكم فوقاس فلم تصمد قوات فوقاس طويلاً وهُزم اسطوله بعد معركة قصيرة مع أسطول هرقل الذى دخل إلى المدينة على أثر ذلك وقبض على فوقاس واصدر عليه حكما بلإعدام. وفى أكتوبر 610م نودى بهرقل إمبراطوراً وتوج فى القسطنطينية.
بدأ هرقل حكمه بمواجهة أهم الأخطار التى أحاطت بالإمبراطورية وهى تقدم الفرس فى آسيا الصغرى شرقاً وخطر السلاف والآفار فى شبه جزيرة البلقان غرباً هذا بالإضافة إلى مشكلة الصراع الدينى المزمنة بين أنصار المذهب الملكانى والمذهب المونوفيزيتى وخاصة فى مصر بعد فشل حل الإرادة الواحدة الذى كان قد إقترحه والذى يعنى بأنه سواء كان للمسيح طبيعة واحدة أو طبيعتين فإن له إرادة واحدة. وإزاء هذاالموقف قام هرقل بتعيين قيرس الذى يسميه العرب المقوقس بطريركاً لكنيسة الإسكندرية ونائباً له على مصر فى نفس الوقت وفوضه فى معالجة أمورها السياسية والدينية وتفرغ هو لمواجهة الأخطار الأخرى فبدأ بمواجهة خطر الفرس بعد أن عقد هدنة مع الآفار والسلاف مقابل جزية كبيرة إتُفق على دفعها لهم. وقد إستطاع هرقل فى النهاية طرد الفرس من الشام ومصر والذين كانوا قد إحتلوهما بين الأعوام (616-619) كما إستطاعت حامية المدينة صد الهجوم المشترك الذى قام به الفرس والآفار على القسطنطينية عام 626م ووقع مع الملك شيرويه إبن كسرى الثانى إتفاقية المنتصر عام 627م بعد أن حرر بيت المقدس وإسترد صليب الصلبوت لكن مشكلة النزاع الدينى فى مصر ظلت فى تفاقم مستمر برغم كل وسائل القسوة والعتف التى إتبعها قيرس نائب الإمبراطور فى مصر.

وأثناء تلك السنوات من بدايات القرن السابع الميلادى والتى شهدت تلك الحروب الطاحنة بين الفرس والرومان وتلك النزاعات المذهبية الخطيرة التى مزقت وحدة الإمبراطورية الرومانية الشرقية كان هناك أحداث خطيرة تجرى فى جزيرة العرب حيث تمكن أحد تجار مكة من وضع اللبنات الأولى لدولة تجمع قبائل العرب فى مدينة يثرب بشمال الحجاز حوالى عام 622م بعد أن وحدهم على عقيدة إبراهيمية جديدة أسماها الإسلام ولذا ففى الوقت الذى كانت فيه الحروب الفارسية الرومانية تنتهى كانت غارات الدولة العربية الوليدة على حدود الإمبراطوريتين المتداعيتين تبدأ. وسرعان ماسقط العراق فى أيدى العرب بعد معركة القادسية عام 636م وإندفع العرب على أثر ذلك إلى داخل الهضبة الإيرانية وأزالوا إمبراطورية الفرس الساسانيين من الوجود بعد مصرع آخر أباطرتها يزدجرد الثالث وفى ذلك الوقت كانت الشام البيزنطية تُبدى بعض المقاومة لكنها سرعان ماسقطت وإكتسحها العرب بعد معركة اليرموك سنة 638م. وبعد الإنتهاء من أمر الشام قرر القائد العربى عمرو بن العاص الزحف على مصر. وفى حوالى سنة 639م كان عمرو يتجه بقواته البدوية المتعطشة للقتال من فلسطين فى إتجاه حدود مصر الشرقية.















أهم المراجع :

1-مصر من الإسكندر الأكبرحتى الفتح العربى- د.عبداللطيف أحمد على/دار النهضة العربية-بيروت
2-الإمبراطورية الرومانية/د.مصطفى العبادى- دار النهضة العربية - بيروت
3-مصر المسيحية/إدوارد هاردى/ترجمة/ عبدالجواد سيد عبدالجواد - منشأة المعارف/الإسكندرية
4-The Middle East-Bernard Lewis-Phoenix Giant-london
5-The Early Coptic Papacy , Stephen J.Davis-AUC press.


[email protected]





#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحلف السعودى الإسرائيلى المصرى والشرق الأوسط الجديد
- ثورة المعرفة والصراع الطبقى
- المسيحية من الإستبداد ، إلى الإصلاح ، الى الثورة العلمانية
- أساطير العهد القديم وأصل الإسلام
- محمد والقبائل والرسالة المزعومة
- صلاح الدين بين السنة والشيعة
- أنور السادات وسيد قطب ودستور الإرهاب المصرى
- هيكل بين سيد قطب وطه حسين
- الميراث الإبراهيمى وأغلال المرأة


المزيد.....




- بالأرقام.. حصة كل دولة بحزمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل وأ ...
- مصر تستعيد رأس تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني
- شابة تصادف -وحيد قرن البحر- شديد الندرة في المالديف
- -عقبة أمام حل الدولتين-.. بيلوسي تدعو نتنياهو للاستقالة
- من يقف وراء الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأمريك ...
- فلسطينيون يستهدفون قوات إسرائيلية في نابلس وقلقيلية ومستوطنو ...
- نتيجة صواريخ -حزب الله-.. انقطاع التيار الكهربائي عن مستوطنت ...
- ماهي منظومة -إس – 500- التي أعلن وزير الدفاع الروسي عن دخوله ...
- مستشار أمريكي سابق: المساعدة الجديدة من واشنطن ستطيل أمد إرا ...
- حزب الله: -استهدفنا مستوطنة -شوميرا- بعشرات صواريخ ‌‏الكاتيو ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - مختصر تاريخ مصر فى العصور القديمة