أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - تاريخ الشرق الأوسط-تأليف بيتر مانسفيلد-ترجمة عبدالجواد سيد















المزيد.....



تاريخ الشرق الأوسط-تأليف بيتر مانسفيلد-ترجمة عبدالجواد سيد


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 5161 - 2016 / 5 / 13 - 14:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تاريخ الشرق الأوسط

تأليف : بيتر مانسفيلد


ترجمة : عبدالجواد سيد عبدالجواد
[email protected]
















إهداء الترجمة

إلى ذكرى بيتر مانسفيلد

























محتويات الكتاب :
- مقدمة الناشر
- مقدمة المترجم
1. مقدمة – من القديم إلى الحديث...........................................
2. الإسلام فى موقف الدفاع 1800م فصاعدا ...............................
3. مصر محمد على – منافس العثمانيين .....................................
4. الكفاح من أجل الإصلاح 1840-1900م .................................
5.بريطانيا فى مصر 1882-1914م..........................................
6. أتراك وعرب .................................................................
7.العامل الفارسى ................................................................
8. الرجل المريض يحتضر 1918م ............................................
9. الفترة ألأنجلوفرنسية 1918-1939م ......................................
10. الحرب العالمية الثانية ومابعدها............................................
ردود الفعل فى الشرق الأوسط – الوطنية والقومية العربية والإسلام.........
11.دخول القوى العظمى وحقبة ناصر ( 1950-1970م)
12. سنوات الإضطراب ...........................................................
صعود دول النفط – مبادرات مصرية – إسرائيل/فلسطين والضحية اللبنانية-
التأكيد الإسلامى – الثورة والحرب – تحدى العراق للعالم ......................
13. آفاق القرن الحادى والعشرين ...............................................
ملاحظات على المراجع ............................................................












مقدمة الناشر :

ولد بيتر مانسفيلد فى عام 1928م بمنطقة رانشى فى الهند وتعلم فى ونشستر وكمبردج. وفى عام 1955م إلتحق بوزارة الخارجية البريطانية ورحل إلى لندن لدراسة العربية فى مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية. وفى نوفمبر من عام 1956م إستقال من العمل بوزارة الخارجية على أثر حرب السويس لكنه ظل فى بيروت يعمل كصحفى سياسى وإقتصادى وأشرف على تحرير مجلة منتدى الشرق الأوسط وقام بالكتابة بإنتظام لصحف مثل الفايننشال تايمز والإيكونومست والجارديان والإنديان إكسبريس وصحف أخرى
ومن عام 1961م حتى عام 1967م عمل مراسلا لصحيفة الصنداى تايمز فى الشرق الأوسط وكان يقيم فى القاهرة بشكل أساسى. وبعد عام 1967م عاش فى لندن لكنه كان يقوم بزيارات منتظمة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وفى شتاء العام 1971-1972م أصبح محاضرا زائرا فى موضوع سياسات الشرق الأوسط بجامعة ولياميت بأوريجون. أما ككاتب فقد وضع العديد من المؤلفات مثل – الشرق الأوسط ، بحث سياسى وإقتصادى وقاموس العالم العربى وقد كتب أيضا مصر ناصر وناصر، سيرة حياة والبريطانيون فى مصر والإمبراطورية العثمانية وخلفاؤها والكويت ، طليعة الخليج والعرب وهى دراسة شاملة تعتبر بشكل عام أهم أعماله وقد نشرتها أيضا مطبوعات البطريق.
وقد مات بيتر مانسفيلد فى مارس عام 1996م وفى نعيه مدحته جريدة التايمز بأنه كان بليغا مثقفا متحررا من التقليد. وقد صنع لنفسه مكانة متميزة من خلال أربعين عاما من العمل المتأنى وإيمانه الشديد بقناعاته.
















مقدمة المترجم

يحتوى هذا الكتاب الذى أتشرف بترجمته إلى قراء العربية على كمية ضخمة - موجزة مع ذلك - من المعلومات التاريخية عن الشرق الأوسط والذى يقصد به المؤلف هنا منطقة المشرق العربى بالإضافة إلى تركيا وإيران. يستعرض الكتاب التطور السياسى لهذه المنطقة الهامة من العصور القديمة حتى العصر الحديث مع التركيز على القرنين الأخيرين والتدخل الأوربى فى المنطقة الذى أدى إلى إسقاط الإمبراطورية العثمانية فى الحرب العالمية الأولى وإقامة الدول العربية الحديثة على أنقاض الجزء العربى منها أى العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين بإلإضافة إلى إسرائيل والمشكلات السياسية التى ترتبت على ذلك وإستمرت حتى اليوم تقريبا. ويستعرض كذلك التطور السياسى الكبير الذى حققته مصر أثناء حكم أسرة محمد على من خلال الإنفتاح على الغرب حتى ظهورها فى النصف الأول من القرن العشرين كدولة قومية حديثة ذات قيادة وطنية ليبرالية ثم كيف تورطت فى سياسات القومية العربية والإشتراكية العالمية والنتائج المأساوية التى ترتبت على ذلك. كما يلقى الضوء أيضا على التطورات السياسية التى حدثت فى تركيا وإيران وأدت فى النهاية إلى قيام تركيا العلمانية الحديثة على أنقاض الخلافة العثمانية وإيران الإسلامية على أنقاض حكم أسرة بهلوى. ويركز كذلك على إكتشاف النفط فى المنطقة وتدافع الدول الكبرى من أجل تأمين إمتيازات إنتاجه وأثر الثروة النفطية على الصعود التدريجى لدول النفط إلى مركز القوة فى سياسات الشرق الأوسط حتى إحتلال العراق للكويت سنة 1990م وعودة الدول الكبرى لتأمين مصالحها النفطية بالقوة العسكرية مرة أخرى. وتنتهى رواية بيتر مانسفيلد لتاريخ الشرق الأوسط عند العقد الأخير من القرن العشرين حيث مات عام 1996م قبل أن يرى – وبعكس ماتوقع أو تمنى فى خاتمة الكتاب – إندفاع الإقليم كله نحو مزيد من اليمينية والتطرف على حساب الديوقراطية والسلام. آمل أن يفسر هذا الكتاب كثيرا من الحقائق المشوشة أو الناقصة بحيث يمكن ربط الماضى بالحاضر بسهولة وتتبع مايجرى الآن فى الشرق الأوسط بفهم أشمل.
وآمل أيضا أن أكون قد ساهمت بترجمته فى إحياء ذكرى مؤلفه الصحفى والمؤرخ الإنجليزى الراحل - بيتر مانسفيلد - الذى قضى جزءا كبيرا من حياته المهنية بيننا هنا وسخر كل مجهوده الفكرى والعلمى لموضوع الشرق الأوسط .
عبدالجواد سيد عبدالجواد
الإسكندرية مارس 2006













الفصل الأول

مقدمة : من القديم إلى الحديث




















1.مقدمة – من القديم إلى الحديث.

إن تعبير الشرق الأوسط هو إصطلاح إنجليزى حديث لأقدم منطقة من مناطق الحضارة الإنسانية. أما قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى فقد كان تعبير الشرق الأدنى والذى يضم تركيا والبلقان والليفانت ومصر هو التعبير الأكثر شيوعاً. وكان تعبير الشرق الأوسط إذا ماإستُخدم أصلاً ، يشير إلى الجزيرة العربية والخليج وفارس أو إيران وميزوبوتاميا أو العراق وأفغانستان . وبعد الحرب العالمية الأولى حطم الحلفاء الإمبراطورية العثمانية وفرضوا سيادتهم على ولاياتها العربية السابقة وتدريجياً أصبح الشرق الأوسط يضم كلتا المنطقتين السابقتين . وقد تأكد هذا الإتجاه أثناء الحرب العالمية الثانية عندما أُعتبر الإقليم كله كوحدة إستراتيجية فى الصراع ضد قوى المحور. كانت مصر هى مركز إمدادات الحلفاء فى الشرق الأوسط وعند نهاية الحرب أصبحت القاهرة أيضاً مقرالجامعة العربية التى ربطت مصر بالدول العربية الآسيوية المستقلة أما الجمهورية التركية التى إنضمت إلى الناتو وأصبحت ترى مصيرها فى كونها جزءً من أوربا ، فلم تعد تتبع الشرق الأوسط مرة أخرى. إن إصطلاح الشرق الأوسط هو إصطلاح ذو علاقة بالمركز الأوربى ولذا فمن المفهوم أن يجده الناس فى شبه القارة الهندية إصطلاحاً يبعث على الغيظ لأنه بالنسبة إليهم على أي حال فإن الإقليم هو فى الواقع الغرب الأوسط ، وربما يتساءلون لماذا لايسمى بغرب آسيا أو آسيا الغربية ولكن بالطبع فإن ذلك سوف يتضمن سلبية إستبعاد مصر من مفهوم الإصطلاح وبالمثل فإن إصطلاح العالم العربى الشائع الآن يستبعد إسرائيل وإيران من مفهوم إصطلاح الشرق الأوسط وكلاهما يقع – وبأقل تعبير- فى المركز من شئون الإقليم . ولكن إصطلاح العالم العربى - مع ذلك - يحتوى على إيجابية شمول دول شمال إفريقيا المغربية والتى تزداد شراكتها فى شئون الإقليم بالرغم من الفشل الفعلى فى تحقيق الوحدة السياسية لنصفى العالم العربى . وعلى هذا فإن إصطلاح الشرق الأوسط يبدو أنه سيظل مستخدماً لبعض الوقت ولن يقتصر إستخدامه على اللغات الأوربية فقط ، ففى اللغة العربية يطلق إسم الشرق الأوسط على إسم الصحيفة السعودية التى تعتبر الآن الأكثر إنتشاراً على المستوى الدولى بين الصحف العربية . ولكن شيوع الإستخدام -مع ذلك- لايجب أن يجعلنا نعجز عن رؤية سلبيات الإصطلاح والتى من أهمها أنه يفترض سيطرة غربية على العالم .
لقد كان العالم الشهير الراحل الجنرال جون باجوت جلوب يستمتع بتذكير قرائه بأنه فيما يخص الحضارة والثقافة فإن إقليم الشرق الأوسط ظل متقدماً على أوربا الغربية طوال الخمسة آلاف سنة أو نحوها التى يمكن أن يتتبع فيها التاريخ الإنسانى حتى بدايته بإستثناء الخمسمائة سنة الأخيرة فقط . وسوف يستمر الأثريون فى الخلاف حول إذا ماكان وادى النيل ودلتاه الضيقة- الخصبة جداً فى نفس الوقت -أو ميزوبوتاميا- أرض النهرين التوأمين دجلة والفرات- يمكن أن يدعى فضل السبق كمهد للحضارة الإنسانية ولكن هذا لايهم فالذى يهم فعلاً هو دورهما المشترك فى تطور الجنس البشرى.لقد صنف حمورابى- ملك بابل فى القرن الثامن عشر قبل الميلاد- أول مجموعة متكاملة من القوانين والتي ظلت مستخدمه بعد زمانه وكان إخناتون فرعون مصر فى القرن الرابع عشر قبل الميلاد أول من تصور وجود إله واحد عظيم القدرة . وبعد حوالي خمسين سنة من ذلك التاريخ كوًن رمسيس الثانى العظيم إمبراطورية شملت معظم إقليم الشرق الأوسط . ففى هذا القوس الهائل من الإقليم الذى يمتد من الفرات عبر الحد الشمالى للصحراء السورية وعبر ساحل الليفانت إلى وادى النيل صنع معظم التاريخ الإنسانى. لقد سُمى هذا الإقليم بالهلال الخصيب لأن كل من الرى النهرى والمطر الشتوى قد شجعا الزراعة المثمرة والتجمعات السكانية المستقرة . والجزء المركزي من هذا القوس هو المضيق الأرضي الذي يربط مصر بالأناضول (وسط تركيا) يحده البحر المتوسط من الغرب والصحراء السورية من الشرق ويبلغ حوالي خمسمائة ميل طولاً وخمسة وسبعين ميلاً عرضاً وقد سُمى فيما بعد بالليفانت وهو يشمل اليوم لبنان وإسرائيل والأجزاء الغربية من سوريا والأردن.
لقد تصارعت كل القوى العظمى فى العالم القديم على هذا الإقليم وإحتلت هذا الشريط من الأرض الذى يحتوى على أقدم المدن على وجه الأرض والتى ظلت مأهوله بإستمرار- مثل أريحا وجبيل- وقد كان مهد اليهودية والمسيحية ومازال إسم أشهر مدنه أورشليم ( القدس) يثير كثيراً من المشاعر. إن التاريخ المجيد العنيف لهذا الإقليم قد تأثر بجغرافيته وتمتد ملامحه الجغرافية شمالاً وجنوباً . فأولاً السهل الساحلى الضيق ثم السلسلة الهضبية التى تمتد من جبال العلويين السورية إلى الشمال عبر جبل لبنان والجليل والسامرة ويهودا (الضفة الغربية ) إلى بئر السبع . وإلى الشرق من هذا يوجد شق عميق يشكله وادى الأورنتوس وسهل البقاع ووادى نهر الأردن الذى يؤدى إلى البحر الميت وخليج العقبة والبحر الأحمر. وبعد ذلك تأتى سلسلة جبلية أخرى مقابلة لجبال لبنان هى جبل هرمون وكيراك وجبال مؤاب. ولأن الأمطار الشتوية تأتى من الغرب فإن الأرض تزداد خصوبة على الساحل وعلى المنحدرات الغربية للجبال . أما إلى الشرق فإن الأرض الزراعية تصبح مراعى حتى ذوبانها فى السهول الجيرية للصحراء السورية والتى تمتد حتى ميزوبوتاميا (العراق القديم) . وتقف مدينة دمشق كالميناء على الحافة الغربية لهذه البيداء والتى مثلت دائماً حاجزاً أكثر هولاً من البحر المتوسط . لقد كان ذلك الممر القصير الممتد عبر شرق المتوسط بين مصر وتركيا الحالية مسرحاً لمزيج مدهش ومثمر للعديد من الشعوب والثقافات التى أتت من جميع الجهات . لقد سيطر السومريون اللاساميون- المتحضرون جداً- والذين جاءوا من ميزوبوتاميا على سوريا لمدة حوالي ألف سنة منذ حوالي 3500ٌ ق م حتى أزاحتهم قبائل الأموريين الساميين الذين جاءوا من وسط الجزيرة العربية ولكن السومريين علَموا غزاتهم كيف يكتبون وكيف يزرعون الأرض . وفى منتصف الألف الثالث ق.م تبع المصريون البابليين الذين كانوا قد غزوا أولاً السهل الساحلى السورى فى حوالي نفس الزمن. ولكن المصريين كانوا يُطردون بإستمرار بواسطة الغزاة الجدد أمثال الحيثيين - محبى القتال- الذين جاءوا من آسيا الصغرى وإستولوا على سوريا حوالي 1450 ق م إلا أن المصريين كانوا فى العادة يعودون ويستردون سيطرتهم على هذه المناطق مرة أخرى . وقد عرف السكان المستقرون فى سوريا وفلسطين بإسم الكنعانيين منذ حوالي سنة 1600 ق م ومن المؤكد تقريباً أنهم لم يكونوا جنساً واحداً ولكنهم كانوا قد تكونوا من خلال إختلاط شعوب مختلفة ، أتى بعضها من البحر وأتى بعضها من الصحراء . كما أنهم لم يقيموا أبداً دولة إمبراطورية قوية خاصة بهم حيث أنهم كانوا يخضعون دائماً لموجات الغزاة المتعاقبة عليهم فكانوا يدفعون لهم الجزية ويتاجرون معهم . وقد كانوا عمالاً مهرة فى الصناعات المعدنية . ومن الشعوب الكبيرة التى جاءت لتستقر على ساحل الليفانت حوالي سنة 1400ق م كان أهل البحر الفينيقين الذين أسسوا محطات تجارية على معظم شواطئ المتوسط وحتى على سواحل الأطلنطى فى أوربا وإفريقيا والتي تعتبر قرطاج وصور وصيدا من أشهرها . وقد إشتقت تسمية الفينينقين من التسمية الإغريقية للأرجوان حيث كانت صبغة الأرجوان الصورى مشهورة فى العالم القديم وكثير من لبناني اليوم يحبون أن يروا أنفسهم كأحفاد للفينيقين . ثم جاءت موجة أخرى من الغزاة من وسط الجزيرة العربية وهم الآراميون فى حوالي سنة 1200 ق م فسيطروا على مدينة دمشق وإستمدوا ثقافتهم من السكان الأكثر تحضراً منهم الذين كانوا مستقرين فى سوريا ولكن لغتهم الآرامية هى التى أصبحت فى النهاية اللغة المشتركة لإقليم الشرق الأوسط كله وقد تكلم بها يسوع المسيح بعد حوالى ألف سنة من ذلك التاريخ .
وبعد قرن من زمن الفينيقين غزا العبرانيون أرض كنعان من الشرق بعد هروبهم من مصر وإحتلوا أريحا وبالتدريج أخضعوا سكانها المستقرين فى التلال . إلا أنهم إضطروا للدخول فى صراع مع موجة جديدة من الغزاة أتت من البحر المتوسط وهم الفلسطينيون الذين إستقروا على السهل الساحلى وأعطوا إسمهم لذلك المكان الذى أصبح فلسطين فى العربية. وتراوح الصراع بين مد وجزر حتى إستطاع داوود ملك إسرائيل توحيد القبائل العبرية والإستيلاء على مدينة اليوسوبيين- أورشليم- وجعلها عاصمة له. وهناك قام إبنه سليمان ببناء أول معبد يهودى. عاشت مملكة إسرائيل قرابة القرنين قبل أن تنفصل إلى مملكتين، هما إسرائيل ويهودا. وفى حوالي سنة 720 ق م إكتسح الآشوريون - وهم القوة الكبيرة الأحدث التى أتت من شمال العراق- المملكتين اليهوديتين الصغيرتين وقضت عليهما إلى الأبد.ومن ذلك اليوم فصاعداً لم يعد هناك دولة يهودية مستقلة حتى القرن الحالي رغم أن اليهود قد تمتعوا بنوع من الإستقلال الذاتى فى عهد مملكة المكابيين (166ـ163 ق م ) وخلفائهم أسرة هيرود ( قضى الآشوريون على مملكة إسرائيل الشمالية سنة 720 ق.م بينما عاشت مملكة يهودا الجنوبية حتى سقطت أمام آخر هجمات نبوخذ نصر البابلى سنة 587 ق.م / المترجم) . وعندما ثار اليهود ضد الإمبراطورية الرومانية فى سنة 70 م قام الإمبراطور تيتوس بتدمير أورشليم. وقد أخمدت ثورتهم الأخيرة على يد الإمبراطور هادريان سنة 135 م وبعدها تشتت اليهود وبقى منهم حوالي خمسة آلاف فقط فى منطقة الجليل . وقد ظل اليهود منعزلين عن الشعوب التى غزت سوريا وفلسطين وإستقرت فيها فى أمرين هامين، الأول هو أنهم وبشكل عام لم يتزاوجوا أو ينصهروا مع الشعوب الأخرى فى المنطقة ، والآخر هو عبقريتهم الدينية والتى أنتجت أول الأديان التوحيدية الكبرى الثلاثة . فالوصايا العشر ومجموعة القوانين اليهودية التى نشأت عنها مثلت حقاً أعلى نظام أخلاقى طوره الإنسان قبل مجئ المسيح . ولكن لأن اليهود إعتبروا أنفسهم شعباً مميزاً إختاره الله بشكل خاص لم تصبح اليهودية أبداً عقيدة تبشيرية ولم يحدث أن تحولت أعداد كبيرة من البشر إلى العقيدة اليهودية كما حدث مع وريثتيها المسيحية والإسلام . ومنذ حوالي نهاية القرن التاسع ق م بدأت طبيعة عمليات غزو سوريا تختلف . فلم تعد الآن مجرد عملية هجرة تقوم بها شعوب تبحث عن مكان أفضل للإستقرار( أرض من اللبن والعسل) بقدر ماأصبحت مجالاً للقوى الكبرى التى تهدف إلى الغزو وفرض النفوذ على السكان الموجودين بها.
ولقد ظهر الآشوريون الذين كانت عاصمتهم فى نينوى قرب الموصل أولاً فى سوريا حوالي سنة 1100 ق م ولكن ملكهم شلمنصر الثالث (859ـ824 ق م) كان هو الذى أسس الإمبراطورية الآشورية التى عاشت لأكثر من قرنين وتمكنت فى نهاية الأمر من غزو مصر. أما إمبراطورية الفراعنة العظيمة السابقة فقد كانت فى حالة إضمحلال شديدة منذ أيام رمسيس الثالث من الأسرة العشرين فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد والذى كان آخر من أظهر عبقرية عسكرية فى ميدان المعركة حيث تعطلت أعمال الرى وإضمحلت التجارة . كانت العصبيات المحلية تحكم مصر فى منطقة الدلتا التى كان الآشوريون يهاجمونها بإستمرار حتى إستطاعوا هزيمتها فى النهاية . ثم هُزم الآشوريون بدورهم على يد البابليين الكلدان وفى سنة 597 ق م إستولى ملكهم نبوخذ نصر على أورشليم . ولكن إمبراطورية الكلدان كانت قصيرة العمر. فإلى الشرق منها ، فى منطقة إيران الحالية كانت دولة ديناميكية جديدة قد تكونت من خلال توحيد الميدين والفرس . وحكم ملكهم قورش الثانى العظيم من 559 ق م إلى 530 ق م وأسس إمبراطورية شملت كل آسيا الغربية فى الشرق الأوسط الحديث وكذلك المنطقة الممتدة من نهر الأندوس إلى البحر الإيجى وحدود مصر. وفى عام 525 ق م غزا خلفاء قورش مصر بقليل من الصعوبة بحيث يمكن أن يقال أنه منذ ذلك التاريخ وبالنسبة للمصريين فإن ألفى سنة من الحكم الأجنبى كان قد بدأ. وأصبح الفرس آنذاك سادة كل العالم المتحضر فى ذلك الوقت بإستثناء الصين . وفى مقاطعتى سوريا وفلسطين الغربيتين كانت الآرامية هى اللغة الرسمية . كانت الإدارة جيدة والطرق معبدة والضرائب تدفع بإنتظام وتمتع الإقليم بمائتى سنة من السلام والرخاء . وكما رأينا فقد كان السكان المحليون الأصليون مزيجاً منصهراً من الأجناس اللاسامية والتى جاءت أساساً من الغرب والشمال والساميون الذين جاءوا أساساً من الشرق ، أى من الجزيرة العربية. وتشتق الكلمة سامى من سام ، أكبر أبناء نوح والذى يفترض أن من نسله جاءت جميع الشعوب السامية . ومع ذلك فهذا ليس إصطلاحاً جنسياً ولكنه إصطلاحاً لغوياً إبتكره المؤرخ الألمانى شكلوذر فى أخريات القرن الثامن عشر ليشير إلى اللغات التى كانت تستخدم فى ميزوبوتاميا وسوريا والجزيرة العربية والتى إنتشرت منذ الألف الأول ق م إلى شمال إفريقيا. وللغات السامية جميعاً صفات مشتركة ملفتة للنظر سواء فى قواعدها أو فى مفرداتها الأساسية تماماً كما يوجد تشابه بين المؤسسات الإجتماعية والعقائد الدينية وحتى الصفات النفسية لهؤلاء الذين يتحدثون بها.
ومن المؤكد تقريباً أنه كان هناك لغة سامية بدائية أو أصلية كان يتكلم بها سكان الجزيرة العربية ومنها جاءت تلك التنويعات .لقد كانت هجرات الشعوب السامية من الجزيرة العربية بإتجاه الشمال مستمرة وتكاد تصل ذروتها كل حوالي ألف سنة. ولقد ذكر العرب أولاً فى النقوش الآشورية حوالي سنة 825 ق م على أنهم شعب من شمال صحراء الجزيرة العربية الرحل الذين يدفعون الجزية لأسيادهم الآشوريين فى شكل الجمال التى كانت قد دُجنت فى الجزيرة العربية قبل حوالي خمسمائة سنة من ذلك التاريخ . والأصول الجنسية للعرب غامضة جداً وقد ورث عرب اليوم تقليداً يفيد بأنهم جاءوا من أصلين أو فرعين ، هما القحطانى والعدنانى . والأول نشأ فى المرتفعات التى ترويها الأمطار فى جنوب غرب الجزيرة العربية وجاءوا من نسل الأب قحطان . أما الفرع الثانى فقد نشأ فى شمال ووسط الجزيرة العربية وجاء من نسل الأب عدنان . وتدعى كل قبيلة عربية تقريباً الإنتساب إلى أحد الفرعين . وبين الإثنين تشكل المجموعة الجنوبية أو اليمنية الآن نحو نصف سكان الجزيرة العربية وتسمى بالعرب الحقيقيين أو العرب العاربة أما أبناء عدنان فتسمى بالعرب المستعربة . وبرغم من أنه لايوجد اليوم فارق جنسى واضح بين هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالقحطانيين وهؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالعدنانيين فإن هناك نوعان جنسيان مميزان بين سكان الجزيرة العربية بشكل عام . فهؤلاء الذين يتميزون بالطول وملامح حسنة مميزة تشبه ملامح الصقر قد أتوا أساساً من الشمال أما هؤلاء فى الجنوب فهم أقل طولاً وذو ملامح أكثر ليونة وإستدارة ويبدو أنهم من حيث الأصل ينتمون إلى الإثيوبيين. ولذا فإنه من المثير للسخرية أن يعتبر الجنوبيون هم العرب الحقيقيون لأن الشماليين هم الذين يقدمون الصورة العامة للعرب كما أنه كان فى شمال ووسط الجزيرة العربية أن تطورت اللغة العربية الكلاسيكية ( أداة العروبة والحضارة الإسلامية ) .كان ذلك بعد عدة قرون قبل أن يتعرب كل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، بإستثناء فارس وتركيا .
وفى سنة 336 ق م تمكن فيليب ملك مقدونيا من توحيد المدن الإغريقية المتصارعة لكن إبنه الإسكندر كان هو الذى قاد سلسلة من الغزوات المذهلة والتى أطاحت بالإمبراطورية الفارسية العظيمة ، والمتداعية مع ذلك . والواقع أن الأفكار والثقافة الإغريقية كانت قد بدأت فى إختراق سوريا وفلسطين ومصر قبل مجئ الإسكندر الأكبر وقد بدأت بوصوله ألف سنة من الحضارة اليونانية الرومانية على السواحل الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط . وقد ُضم الخليج الفارسى/العربى أيضاً إلى إمبراطورية الإسكندر. وبعدما وصل الإسكندر إلى أقصى حدود فتوحاته الشرقية فى الهند سنة 326 ق م بدأ رحلة العودة إلى فارس بالطريق البرى . لكنه كان يحمل فى عقله مشروع طريق بحرى عظيم بين بابل عاصمة إمبراطوريته الشرقية وبين الهند . ولذلك فقد أمر أمير البحر نيركوس بأن يعود إلى الفرات عبر الخليج على رأس أسطوله الضخم . سجل نيركوس وجود جزيرتين إستراتيجتين عند رأس الخليج كان يعيش فى الكبرى منهما ماعز برية وظبيان مقدسة لدى الآلهة أرتيمس وقد أمر الإسكندر بتسميتها أكاروس مثل نفس الجزيرة التى تشبهها فى البحر الإيجى وهكذا تم تأسيس قلعة أمامية عاشت حوالي مائتى عام.وتسمى أكاروس اليوم بجزيرة فيلكا وتعتبر جزءً من الكويت.لم يعش حلم الإسكندر فى تكوين إمبراطورية هيلنستية عظيمة متحدة بعد موته المبكر حيث تنازع قواده على فتوحاته . ولكن الحضارة الهيلينية ظلت سائدة فى الإمبراطوريات التى تلت إمبراطورية الإسكندر وإمتدت من فارس إلى مصر وإستمرت المدن التى أسسها الإسكندر فى إزدهار. إزدهرت مصر فى ظل الحكم الحكيم للبطالمة الأوائل وأصبحت الإسكندرية بمكتبتها ومتحفها مدينة عظيمة والمركز الثقافى للعالم . ودخلت فلسطين مرة أخرى تحت الحكم المصرى . أما باقى سوريا وآسيا الصغرى ( تركيا الحالية ) فقد سقطتا فى أيدى سيليوقس- الحاكم الفارسى لإمبراطورية الإسكندر الشرقية السابقة- فأسس أنطاكية التى سماهاعلى إسم والده وأصبحت عاصمة لسوريا على مدى التسعة قرون التالية . بدأ تراجع الهيلينية فى فارس ولكن حتى هنا كانت عملية التراجع بطيئة . وبعد مائتى عام من موت الإسكندر أطاح البارثيون بالسلوقيين فى فارس وكان البارثيون قبيلة بربرية من إقليم بحر قزوين لكنهم إستوعبوا إسلوب الحكم الإغريقى وإستمروا فى الإستفادة من اللغة الإغريقية بجانب لغتهم ولذا فقد إستمر إزدهار المدن الإغريقية ذات الأصل السلوقى . وقد بدأ ضعف التأثير الهيلينستى فقط فى القرن الأول الميلادى . وفى سوريا وفلسطين عاشت الهيلينية لزمن أطول ولكن درجة تأثيرها تنوعت بشكل كبير. وكما يتوقع كان ذلك التأثير يبلغ أقصى قوته فى الشمال والغرب على ساحل المتوسط حيث كانت (لادوشى- اللاذقية الحالية وبيروتوس- بيروت الحالية ) مدناً إغريقية نموذجية . وإلى الشرق من جبل لبنان ناحية الصحراء السورية كان التأثير الهيلينستى قد إنتهى . والواقع أن الإقليم كله كان مزيجاً من الهيلينستية والثقافة السامية الآرامية بدرجات متفاوتة ففى كل من الإمبراطوريتين البطلمية والسلوقية كان كبار الموظفين المدنيين وكبار رجال الأعمال والمثقفين كلهم إغريق .
وقد شجعت كلتا الإمبراطوريتين الهجرة من بلاد اليونان ومع ذلك فقد ظل الإغريق أقلية حيث شكلوا فقط القلب أو الفيالق التى تحمل الرماح فى جيشي الإمبراطورتين ولكن رماة السهام والمقالع كانوا عرباً وأكراداً وفرساً . وبعد أكثر من قرن – تقريباً- من موت الإسكندر شهد العالم صعود الجمهورية الرومانية إلى مركز القوة . فبعد هزيمة قرطاج النهائية فى 211 ق م سيطرت روما على غرب البحر المتوسط . وبعد ذلك حولت إنتباهها إلى الشرق وغزت بلاد الإغريق . وقد أعقب ذلك حوالي مائة وخمسين عاماً من الفوضى والحروب فى منطقة شرق المتوسط . وحاربت إمبراطوريتا السلوقيين والبطالمة – المتنافستين - بعضهما البعض تحت ظلال روما البعيدة ودخلت فى مرحلة إضمحلال طويلة. وكالعادة إنتهزت القوى المحلية فى سوريا الفرصة لتأكيد وجودها . وفى فلسطين تمتعت الجماعة اليهودية الصغيرة ببعض الحرية فى إدارة شئونها فى هضاب جودايا حول أورشليم وقد إنقسم اليهود إلى طبقة عليا متأغرقة مثقفة قبلت بشكل كبير الحكم السلوقى وطبقة ريفية تعلقت بعقيدتها اليهودية . وعندما أمر الملك السلوقى أنتيوخس أبيفانس فى سنة 168 ق م بإقامة مذبح زيوس ( رجس الخراب ) فى المعبد المقدس فى فلسطين قاد جودا مكابيوس - وهو ابن أحد الكهنة- اليهود فى ثورة عارمة . وبالرغم من مقتل جودا فقد أسست أسرته مملكة من الكهنة الأمراء عرفت بإسم الهسمونيين بسطت حكمها تدريجياً على معظم فلسطين بينما كانت الإمبراطورية السلوقية تتفكك . وفى زمن الرومان أعقبهم فى الحكم بيت هيرود القريب لهم . وأبعد قليلاً بإتجاه الشرق أسس الأنباط دولة أخرى مستقلة كانت مراكزها فى البتراء ( جنوب الأردن ) ومدائن صالح (بالمملكة العربية السعودية ) وفى القرن الثانى ق م إمتدت مملكتهم التجارية القوية إلى الجزيرة العربية وإزدهرت بتحكمها بطريق تجارة القوافل التى كانت تحمل توابل الصين والهند وعطور وأطايب جنوب الجزيرة العربية إلى سوريا ومصر. وقد تكلم النبطيون العربية ولكن خطهم كان آراميا وكانت ثقافتهم ظاهرياً هيلينية . ويعتبر سكان الأردن الحاليين الأنباط أجدادهم . تأخر فرض السيطرة الرومانية فى شرق البحرالمتوسط بسبب ظروف الحرب الأهلية والفوضى فى روما ومع ذلك ففى سنة 71 ق م وصلت الحكومة الثلاثية للجنرالات بومبيوس وقيصر وكراسوس إلى الحكم وبدأ بومبيوس فى فرض السيطرة الرومانية فى آسيا الصغرى وشرق المتوسط .
غزا بومبيوس سوريا وإستولى على أورشليم ولكن الحكم الرومانى لم يتأسس تماماً هناك وإستطاع البارثيون إيقاع هزيمة قاسية بالفرق الرومانية وإحتلوا سوريا لبعض الوقت . ظل هذا الوضع سائداً إلى مابعد إغتيال بومبيوس وقيصر حيث إستطاع أوكتافيوس خليفة قيصر- وهو الإمبراطور أغسطس الذى حكم من سنة 29 ق م إلى سنة 14 م- ضم كل إقليم الشرق الأوسط من مصر إلى آسيا الصغرى إلى الإمبراطورية الرومانية . بقيت فارس ومنطقة العراق الحالية فقط تحت سيطرة البارثيين . تجاهل أغسطس مطالب بعض جنرالاته بالإنتقام لهزيمة الفرق الرومانية وفضل أن يحافظ على السلام من أجل تنظيم الولايات الرومانية الشرقية الجديدة . إستقر إقليم شرق البحر المتوسط- آسيا الصغرى وسوريا ومصر لقرون عديدة فى ظل السلم الرومانى والذى أصبح يعنى بشكل عام الكفاءة والنظام الجيد والعدالة طبقا للقانون الرومانى . تحسنت الطرق ونظم الضرائب بشكل كبير وأصبحت مصر مورداً هاماً للغذاء للعاصمة الإمبراطورية وقاعدة عسكرية للجيوش الرومانية كما طهر الرومان البحر الأحمر من القراصنة وأحيوا من خلاله التجارة مع الهند وأصبحت مصر مستعمرة رومانية بالمعنى الكامل تعيش فى ظل حكومة عسكرية حديدية وتدفع قدراً كبيراً من الضرائب . وتعاونت الطبقة الحاكمة الإغريقية مع القوى الإستعمارية الجديدة وإحتفظت بمركزها المتميز. وخضعت مصر الذى تركز معظم سكانها بكثافة فى النيل والدلتا لحكومة مركزية إستبدادية . أما الحكم الرومانى فى سوريا فقد كان أخف وطأة . ففى الجزء الشرقى أو السامى من الإقليم سمح الرومان للحكام المحليين بالإحتفاظ بإستقلالهم بشرط أن لايغلبهم الطموح ويهددوا الجماعات المستقرة إلى الغرب منهم . كان ذلك نوع من الحكم الغير مباشر كالذى عمل به البريطانيون فى إمبراطوريتهم فى آسيا وإفريقيا بعد ثمانية عشر قرناً من ذلك التاريخ . وإستمر النبطيون يتحكمون فى شرق الأردن ودمشق حتى سنة 106م حيث أخضعهم الإمبراطور تراجان لسلطة روما المباشرة بسبب غضبه من نزعتهم الإستقلالية . وبعد قرن من ذلك التاريخ حذت تدمر- الواقعة فى منتصف الصحراء السورية- حذو النبطيين فى تحقيق القوة والرخاء عن طريق التحكم فى طرق تجارة القوافل إلى الشرق حيث تحدت ملكتها زنوبيا السلطة الرومانية لتهزم بعد ذلك ويقضى على إستقلالية الإقليم . أما إقليم سوريا الغربى أو المتوسطى بمدنه الإغريقية العظيمة المزدهرة التى أسسها السلوقيون فقد ُضم إلى الإمبراطورية الرومانية بشكل أكثر مباشرة وشكل سكان مدنه المتعلمين- الذين كانوا خليطاً مثمراً من الأجناس السامية والمتوسطية- جزءً من النخبة الثقافية والمهنية فى الإمبراطورية . وقد إختلط هؤلاء الناس ببساطة مع الموظفين الرومان وقد حصل بعضهم على المواطنة الرومانية . كما حقق كثير من المحامين والأطباء والمؤرخين والإداريين السوريين وكذلك الشعراء والممثلين الشهرة والتميز. وقد لعب المصريون المتأغرقون دوراً مماثلاً. وأصبحت أنطاكية والإسكندرية أكبر وأعظم مدن الإمبراطورية بعد روما . وبينما كانت اللاتيتينة هى اللغة الرسمية للحكومة فقد أصبحت الإغريقية هى اللغة المشتركة بين سكان الإمبراطورية . وكثير من الأباطرة الرومان اللاحقين كانوا كلياً أو جزئياً سوريين رغم أنه لابد أن نذكر أن إثنين منهما - وهما كاراكالا واليجابالوس من حمص- كانا بين الأباطرة الأقل شهرة فى التاريخ الرومانى . ومع ذلك فإنه يمكن أن ينسب لكاراكالا فضل القرار بمنح المواطنة الرومانية لكل سكان الإمبراطورية فى سنة 212 م . وقد فعل فيليب العربى- الذى كان حاكماً قديراً - شيئاً من أجل إعلاء إسم سوريا أثناء حكمه القصير. وبرغم إختلاط الأجناس السهل فى المدن ، فقد ظل هناك هوة وخاصة الهوة اللغوية بين سكان المدن والفلاحين ورجال القبائل فى الريف . وفى سوريا تكلم هؤلاء الآرامية أما البدو وأشباه البدو فى أطراف الجزيرة العربية فقد كانوا يتكلمون اللغة العربية . وفى مصر تكلم معظم السكان اللغة المصرية القديمة . ولكن فى فلسطين كان الصدام الثقافى أشد عنفاً وربما كان الأكثر إيجابية أيضاً. ففى عام 40 ق م عين الرومان هيرود من أدوم بجنوب فلسطين ملكاً على جودايا وجعلت القدس عاصمة له . وفى خلال حكمه الطويل إستطاع بسط سلطته الفعلية على معظم مدن فلسطين مكتسباً بذلك لقب هيرود الكبير. وقد كان عربياً من حيث الجنس ويهودياً بالواقع وقد رأى نفسه كحامى لليهود فأعاد بناء معبد أورشليم ولكن المتدينين من اليهود كرهوه كمتأغرق وصنيعة للرومان . وقد إنتهى حكمه فى مرارة وصراع عنيف حول وراثة العرش حيث أمر بالمذبحة الشنيعة المشهورة لرضع بيت لحم الأبرياء . ولذا فقد أصبح أيضاً وحش التاريخ المسيحى لأنه فى مملكة هيرود الصغيرة تلك ولد المؤسس اليهودى للديانة المسيحية وعاش حتى اُعدم . لكن تلك الديانة قد نجحت مع الزمن فى تغيير كل العالم الإغريقى الرومانى . كان يسوع وحوارييه يهودا وكانت المسيحية أساساً حركة إصلاحية داخل اليهودية ولكن الرسالة المسيحية حققت نجاحاً ضئيلاً بين الشعب اليهودى ولذا فسرعان ماتم توجيهها إلى العالم الوثنى بدلاً من اليهود .
لقد كانت مهمة الرواد المسيحين الأوائل هى تحديد الرسالة المسيحية على أنها تصحيح وإتمام للفلسفة الإغريقية الرومانية وكانت إنجازاتهم الفكرية فى القرون الثلاثة الأولى بعد المسيح كبيرة جداً . ومع ذلك فإن الرسالة البسيطة لعظة الجبل حققت نجاحها الأول بين الفقراء والجموع المحرومة فى العالم الرومانى اليونانى . وبرغم الإضطهاد الرسمى لها فقد إزدهرت وإنتشرت وقدم إستشهاد يسوع نموذجاً للمعاناة والقدرة على تحمل الألم . ويعتقد أن المسيحية وصلت إلى مصر مع القديس مرقس قبل نهاية القرن الأول الميلادى وأنها إنتشرت بسرعة بين جموع المصريين رغم أن الإغريق والطبقة العليا المتأغرقة ظلت وثنية بشكل عام . كان إضطهاد المسيحية فى الإمبراطورية يحدث فى موجات تتخللها فترات من التسامح ولكن على مدى القرون الثلاثة الأولى إكتسبت المسيحية مهتدين وبرغم أنهم ظلوا أقلية وظلت الأغلبية تتعلق بديانات الدولة القديمة- التى كانت عبادة الإمبراطور أشهرها - فقد شكل المسيحيون قسماً هاماً فى جميع الطبقات بما فى ذلك أعضاء فى الاسرة الإمبراطورية والأرستقراطية الروومانية وذلك فى الوقت الذى تمت فيه موجة الإضطهاد الأخيرة على يد دقلديانوس فى بدايات القرن الرابع الميلادى. لقد كان المسيحيون نشيطين ومنظمين وفى خلال سنوات قليلة من تنازل دقلديانوس عن العرش أعلن خلفه قنسطنطين الكبير المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية . وليس من المهم هنا طرح مسألة إذا ماكان تحول قسطنطين إلى المسيحية نابعاً من إيمان حقيقى أو كان نتيجة لإدراكه بأن المسيحية أصبحت هى العقيدة الظافرة . إشتد صعود المسيحية بالإضمحلال السارى فى الإمبراطورية . ففى خلال القرن الثالث الميلادى أصابتها الإنقسامات وحكمها فى بعض الفترات أباطرة متنافسون كما راح القوط والفرس يهاجمون حدودها الخارجية . وفى بعض الفترات كانت الإمبراطورية تبدو على شفا الإنهيار حتى يقدر لها إمبراطور قدير أو قائد عسكرى لينقذها. وفى الشرق إستولى الساسانيون الذين أتوا من غرب فارس وإدعوا أنهم خلفاء إمبراطورية قورش ودارايوس العظيمة على الإمبراطورية البارثية فى سنة 224م . وقد عاشت الإمبراطورية الفارسية أربعة قرون كانت خلالها كلها تقريباً فى حالة حرب مع القوة العظمى المنافسة فى الغرب (الإمبراطورية الرومانية) . وإتخذ شهبور الأول- الحاكم الساسانى الثانى- لقب (ملك ملوك إيران وغير إيران ) مؤكداً بذلك إدعائه فى السيادة على العالم .
وفى سنة 330 م وعلى موقع قرية بيزنطة القديم على البسفور- حيث تقابل أوربا آسيا- أسس قنسطنطين المدينة التى حملت إسمه . وأصبحت القسطنطينية عاصمة الجزء الشرقى من الإمبراطورية- والتى ظلت موحدة من الناحية الرسمية - ولكن لأن مركز القوة والثروة تحرك شرقاً فقد فاقت القسطنطينية روما فى العظمة. وبعد نصف قرن من ذلك التاريخ وعند موت الإمبراطور ثيودوسيوس قُسمت الإمبراطورية بين ابنيه ومن ثم ولدت الإمبراطورية المسيحية الهيلينية الشرقية البيزنطية . وبينما إنهار الجزء الغربى من الإمبراطورية تحت وطأة غزوات البرابرة فقد إستمرت بيزنطة فى حكم البلقان وآسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر. إستطاعت الإمبراطورية الرومانية الشرقية السيطرة على الشرق الأوسط لمدة ثلاثة قرون . لم يكن خطر القوط والجرمان فى أوربا هو أكبر تهديد واجهها ولكن الخطر جاء من الشرق ، من الفرس الساسانيين ، العدوانين التوسعيين . ومع ذلك ولحوالي قرنين -على الأقل- إستطاع البيزنطيون الحفاظ على السلام مع الفرس عن طريق الدبلوماسية . ولكن الخطر الفارسى إزداد فقط عندما قرر جستنيان العظيم( 527م ـ 565م) تسخير طاقاته من أجل إعادة غزو الولايات الرومانية الغربية وإعادة توحيد الإمبراطورية ، بمجهودات قدر لها نجاحاً جزئياً ووقتياً . وفى الفترة مابين534م ـ 628م كان الفرس وبشكل متكرر يقومون بغزو وإحتلال سوريا ثم يردون على أعقابهم . وفى عام 616م قاموا بغزو كلا من مصر وآسيا الصغرى وفرضوا الحصار على القسطنطينية. وفى حدود الوقت الذى تمكن فيه الإمبراطور هرقل من هزيمة الفرس وإسترداد حدود الإمبراطورية كانت كل من بيزنطة وفارس قد أصبحتا فى حالة من الضعف والإجهاد الشديدين رغم أنهما كانا لايزالان القوتين العظمتين فى العالم . وفى أثناء ذلك وفى سنة570م ـ571م وفى مكان ناءٍ فى صحراء الجزيرة العربية القاحلة ولد رجل عظيم قدر له أن يضع البذور لقوة جديدة أكبر كان من شأنها أن تقضى عليهما فيما بعد . فالنبى محمد - الذى ولد فى مكة والتى كانت تشكل أحد أكبر الجماعات التجارية المستقرة فى غرب الجزيرة العربية -كان رجلاً عبقرياً ملهماً ساعد على تغيير تاريخ الجنس البشرى . وهى حقيقة يعترف بها الجميع وليس فقط خمس الجنس البشرى الذى يدين بالديانة التى أسسها. وقد كان لخاصيتين من خصائص العقيدة الإسلامية تأثير خاص على تاريخ الشرق الأوسط فيما بعد . الأول هو أن المسلمين لايعتقدون فى قدسية محمد لأن الإسلام هو أشد الاديان توحيدية وتمسكاً بالإعتقاد بأن لاإله إلا الله وهم يعتبرونه آخر الرسل أو خاتم الأنبياء ، الذين منهم موسى ويسوع .
ومن ثم فقد تمسكوا بأن الإسلام هو العقيدة النهائية التى تكمل وتتمم العقيدتين السماويتين الأُخرتين- اليهودية والمسيحية - وإذا ماكان الجنس البشرى كله لم يقبل بعد هذه الحقيقة فإن هذا يعود إلى تقصير جماعة المسلمين . والخاصية الهامة الأخرى هى أنه بينما يعتقد المسلمون فى الجنة وخلود الروح فإن عقيدتهم أبعد ماتكون عن العقائد الآخروية. فالنبى محمد- بعكس يسوع- كان قائداً سياسياً ومنظماً عبقرياً ، ولايوجد فى الإسلام فصل بين الدين والسياسة ولايوجد تصور للدولة العلمانية . والقرآن الكريم الذى يعتبره المسلمون كلمة الله المنزلة هو الإلهام المستمر لكل التفكير والفعل الإسلامى رغم أنه لايمثل مجموعة قانونية متكاملة . كما يقتدى المسلمون أيضاً بالنبى وأصحابه . وقد جمعت أقوالهم وأفعالهم التى عرفت بإسم السنة أو النماذج المعتادة من الفكر والفعل فى الحديث أو تقاليد النبى والتى تداولتها الأجيال عبر سلسلة من ثقاة المحدثين أو الشهود . وكل من القرآن والسنة يشكلان منابع الشريعة الإسلامية ويترجم هذا بشكل عادى على أنه القانون الإسلامى إلا أنه أكثر من ذلك فى الواقع. فهو ليس قانون كهنوتى لأنه لايوجد فى الإسلام كهنوت ولاقانون علمانى لأن هذا التصور غير موجود فى الإسلام لكنه بشكل ما نظام كامل من الأخلاقيات الإجتماعية يصف السلوك الذى يجب أن يعيش به الإنسان إذا ما أراد أن يتصرف وفقاً لمشيئة الله . فإذا ماخالف الشريعة فإن جريمته تكون ضد الله وليس ضد الدولة . كان هذا هو المثل الأعلى منذ عصور الإسلام المبكرة . فقد عرف الحكام العرب والمسلمون مفهوم السلطة العلمانية بدرجة ما- وخاصة حكام اليوم- ولكن هذا المثل الأعلى ظل ذا تأثير قوى على قلوب وعقول كل المسلمين . وهو يفسر الوجود القوى الفعال للمثالية بين العرب- بمعنى الإعتقاد فى أنهم إذا مارجعوا إلى سلوكيات النبى وأصحابه فإن إنتصار الإسلام فى هذا العالم سيصبح أكيداً . وفى الغرب يوصف ذلك فى العادة بأنه أصولية ولكن بالمعنى الفعلى فإن كل المسلمين المؤمنين أصوليون لأنهم يعرفون أن القرآن الكريم كان رسالة الله الأخيرة إلى البشر. ويرى المسلمون إنتصار الغرب فى القرنين أو الثلاثة قرون الأخيرة على أنه إنحراف للتاريخ . وليس غريباً أن العرب اليوم مازالوا متأثرين إلى حد الهوس بقصة الإنتصارات الإسلامية الأولى . عانى محمد عندما كان فى الأربعين التجربة الدينية التى جعلت منه نبياً وقائداً . كانت الجزيرة العربية عبارة عن مجموعة من الدويلات المستقلة الصغيرة المجتمعة حول إتحادات قبلية .
أما المجموعة الأكبر من البدو الرحل فكانوا أساساً يعبدون مجموعة من الأرواح تركزت بشكل خاص فى الصخور أو المزارات . ولم يكن لديهم مجموعات قوانين مكتوبة ولكن الخوف الدائم من الثأر ساعد على منع إرتكاب الجرائم . ومع ذلك فمثل هذه الموانع لم تنطبق على أعمال العنف الجماعية حيث كان يمكن حسم المنازعات القبلية الدائمة فقط بواسطة محكم ، أى مرجع حكيم على العادة القبلية. لم تكن تلك ثقافة راقية يمكن مقارنتها - حتى من بعيد - بثقافة بيزنطة أو فارس ولكنها كانت تمتلك مقوماً لايضاهى يتمثل فى اللغة العربية بقوتها الامحدودة ومرونتها والإنجازات الفنية العظيمة لشعرائها. وبرغم إعتداده بنفسه وإستقلاليته لم يكن شعب الجزيرة العربية محصناً ضد المؤثرات الخارجية . فمن خلال إتصاله بالبيزنطيين والأحباش المسيحين والفرس الزرادشتيين بدأ فى إكتساب بعض الأفكار التوحيدية فى الوقت الذى بدأ فيه محمد رسالته وعندما مات كانت العقيدة الجديدة التى أسسها قد قُبلت فى معظم أنحاء الجزيرة العربية . ففى خلال جيل واحد إستطاع أن يوحد القبائل الوثنية المتفرقة فى الجزيرة العربية فى أمة واحدة تعبد إلهاً واحداً عظيم القدرة . وإذا كانت إنجازات العقيدة الإسلامية فى حياة محمد مذهلة فإن تلك التى تحققت فى أثناء فترة الحكم القصيرة لخلفائه الأربعة المعروفين بإسم الخلفاء الراشدين، كانت حتى أكثر مدعاة للذهول . فقد راحت قوات المسلمين قليلة العدد تتحدى إمبراطوريتى بيزنطة وفارس العظيمتين . وفى خلال عشـر سنوات هزم العرب الفرس الساسانيين وإحتلوا عاصمتهم كتسيفون ( المدائن ) الواقعة على نهر دجلة ثم طردوهم من كل العراق القديم . وبعد ذلك حولوا إنتباهم تجاه ولايات بيزنطة فى سوريا ومصر وإكتسح الجيش العربى شمال إفريقيا وفى خلال خمسين سنة وبالتحديد فى سنة711م عبر إلى أسبانيا. وبعد غزو سوريا ومصر قضى العرب عشر سنوات أخرى فى تحطيم ماتبقى من إمبراطورية الساسانيين أما الإمبراطورية البيزنطية فقد عاشت مع ذلك ثمانمائة سنة أخرى . وبرغم أن العرب قد فتحوا قبرص ورودس وكوس وحاصروا القسطنطينية مرتين فإنهم لم يستطيعوا أبداً إحتلال الأناضول حيث إستمرت لعدة قرون تالية موزعة السيادة بين البيزنطيين وبين مملكة أرمينيا المسيحية . وفى خلال ثلاثين سنة من موت النبى وقعت أحداث حاسمة كان من شأنها أن تشكل مستقبل الإسلام ووطن النبى العربى.ففى سنة 656م اُغتيل عثمان الخليفة التالى للخليفة عمر. وبدا أن وريثه الطبيعى هو على ابن العم الأكبر للنبى وزوج ابنته فاطمة . ولكن على واجه مقاومة من القائد العربى الطموح -معاوية- الذى كان عمر قد عينه حاكماً على سوريا والذى كان ينتسب إلى قبيلة أميه المكية القوية شأنه شأن عثمان. وقد أدت هزيمة على وابنه الحسين على يد معاوية بعد ذلك إلى وقوع الإنشقاق الكبير والوحيد فى الإسلام- بين أهل السنة وهم الغالبية العظمى وبين الشيعة- أى مشايعى على والذين إعتبروا معاوية وخلفائه مغتصبين علمانيين. ويمثل الشيعة اليوم حوالي عشرة فى المائة من مجموع العالم الإسلامى ومعظم هؤلاء يعيشون فى إيران وشبه القارة الهندية . ولا يكاد يوجد أى شيعة فى شمال إفريقيا إلا أن وجودهم قوى فى منطقة الليفانت فى لبنان حيث يمثلون حوالي ثلاثين فى المائة من السكان وربما يفوق عددهم عدد المسلمين السنة . أما فى الجزيرة العربية فقد ظل معظم السكان من السنة رغم وجود أقليات شيعية هامة على الأطراف الشرقية . وبالنسبة للزيديين الذين يسكنون جبال اليمن فهم يتبعون أيضاً فصيل من فصائل الشيعة.لكن المذهب السنى والمذهب الشيعى ظلا فى تصارع فى فارس ( إيران ) حتى تم إختيار المذهب الشيعى فى القرن السادس عشر كمذهب رسمى للدولة . وفى ميزوبوتاميا ( العراق ) ظل معظم السكان على المذهب الشيعى . وتوجد الأماكن الشيعية المقدسة فى النجف وكربلاء فى الأراضى العراقية . ولكن ظل السنة هم المسيطرين سياسياً وكان لذلك أثر هام على التاريخ الحديث للإقليم.
لم يسبب إنتصار الأمويين إنشقاق فى الإسلام فقط بل أنه قد جعل من دمشق أيضاً عاصمة الإمبراطورية العربية الإسلامية الجديدة. وبعد قرن من الزمان وبالتحديد فى سنة750م حولت هزيمة الأمويين على يد العباسيين - وهم حركة ثورية منافسة نشأت فى فارس- مركز القوة إلى بغداد بادئة بذلك العصر الذهبى للإسلام والذى يمثل أحد القمم السامية للحضارة الإنسانية . وفى المناطق الشاسعة التى إنتصر فيها الإسلام كانت هناك عمليتان تسيران بالتوازى - ولكن ليس بالتماثل- هما التعريب والأسلمة . ففى العراق وسوريا الكبرى ومصر وبلاد شمال إفريقيا المغربية أخذت اللغة العربية تكتسح اللغات الأخرى القائمة تدريجياً ، رغم أن بعض اللغات الغير مكتوبة مثل الكردية فى شمال العراق والبربرية فى الجزائر ومراكش قد عاشت . وفى سوريا وفلسطين ومصر إستمرت اللغة الإغريقية تستخدم فى الإدارة لبعض الوقت حتى جُعلت العربية لغة رسمية .
وفى الهلال الخصيب أخذت اللغة العربية والتى كانت مستخدمة فعلاً فى الشرق وفى الجزيرة العربية تحل بثبات محل اللغة الآرامية ، التى ظلت تعيش حتى اليوم فى قرية أو قريتين بالكاد إلى الشمال من دمشق وفى شمال العراق . وبالمثل إندثرت اللغة القبطية لغة المصريين القدماء مع الزمن حيث تحول الإحتلال العربى إلى إستعمار وإنصهار كلى ، رغم أنها قد عاشت إلى القرن السابع عشر الميلادى على الأقل . أما الأسلمة فقد كانت أقل كمالاً من التعريب ذلك أن مجموعات ذات شأن من المسيحين واليهود - والتى إحتملها وإحترمها الإسلام كأهل كتاب- قد تمسكت بعقيدتها وعاشت . ولكن إنتشار الإسلام كان أكثر إتساعاً من إنتشار اللغة العربية حيث إنتشر بسهولة إلى سمرقند وحدود الهند . ففى القرون التالية تحولت مجموعات ضخمة من السكان فى شبه القارة الهندية والصين وجنوب شرق آسيا إلى الإسلام ولكن هنا إقتصر إستخدام اللغة العربية على الشعائر الدينية فقط .وقد عاشت اللغة والثقافة الفارسية بعد غزو العرب لفارس وبعد قبول الفرس للعقيدة الإسلامية رغم أن اللغة الفارسية قد أخذت الحروف العربية وكثير من المفردات العربية أيضاً . واليوم يبلغ عدد المتكلمين باللغة العربية فى العالم الإسلامى حوالي الخمس فقط . أما الأتراك فلم يغزهم العرب ولكنهم تحولوا بأعداد كبيرة إلى الإسلام فى القرن العاشر الميلادى وتأثرت لغتهم بشكل كبير بسيل من الكلمات العربية من مفردات الدين والعلم والثقافة وكذلك اُستخدمت الحروف العربية فى كتابة اللغة التركية . وقد شهد القرن الثانى عشر غزوة لغوية أخرى عندما أصبحت الفارسية اللغة الأدبية لغرب آسيا حيث إختار الكتاب الأتراك الصيغ النحوية الفارسية والعربية وكذلك المفردات من أجل خلق التوليفة اللغوية التركية العثمانية . ومن ثم أصبح هناك ثلاث لغات هى العربية والفارسية والتركية يتكلم أو يكتب بها الغالبية العظمى من سكان إقليم الشرق الأوسط.وتبعاً للمصطلحات القومية الحديثة فإن الشعوب التى تتكلم هذه اللغات هم العرب والفرس والأتراك.ولكن أقليتين هامتين فقط قد قاوما الإنصهار وإحتفظا بماهيتهما الوطنية وهما الأرمن والأكراد . وقد كان للأرمن وجود قومى متواصل منذ القرن السادس قبل الميلاد فيما يشكل الآن شرق تركيا وجزء من الترانس قوقاز السوفيتية مما يمكنهم أن يدعوا بأنهم أقدم أمة مسيحية بكنيستهم البابوية الأرمينية . ولقرون عديدة كان لهم مملكة مستقلة قبل غزوهم وإندماجهم فى الإمبراطورية الإسلامية فى القرن الرابع عشر الميلادى. ورغم أنهم قد تفرقوا بعد ذلك فى أنحاء الشرق الأوسط وخارجه فقد ظلوا أوفياء للغتهم وعقيدتهم وثقافتهم .
أما الأكراد فهم شعب جبلى يتداخل تاريخه القديم فى الغالب مع تاريخ الأرمن. وهم يتكلمون مجموعة من اللهجات الهندوأوربية تنتمى إلى اللغة الفارسية. وبعكس الأرمن فلم يكن لهم أبداً دولة مستقلة لكنهم كانوا أقل تفرقاً وهم اليوم يسكنون إقليم يشبه القوس يمتد من شمال غرب إيران إلى شمال شرق العراق وسوريا حتى شرق تركيا . وقد ساعد الصراع المهلك بين الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية العرب فى فتوحاتهم وكذلك عدم رضى الشعوب الخاضعة لحكمهما الإمبراطورى . ومن أجل إنشاء إمبراطورية دائمة كان على العرب أن ينجحوا أكثر من سابقيهم فى فن الحكم . ولقد كان إنجاز هؤلاء البدو- البرابرة سابقاً- مذهلاً وكانت طبيعة العقيدة الإسلامية - بلاشك- فى صرامتها وبساطتها وسهولتها وعدالتها هى السبب فى ذلك . ولذا فليس هناك مايدعو إلى الدهشة فى أن عرب اليوم يعتقدون أن العودة إلى مبادئ وممارسات تلك الأيام سوف تعيد إليهم عظمتهم . وفى البداية شكل المحاربون القبليون ذوى الأصل العربى الخالص أرستقراطية عسكرية لم تزد عن عدة مئات من الألوف . أما غير العرب الذين إعتنقوا الإسلام مثل الفرس والمصريين وسكان الليفانت المختلطى الأجناس وأهل شمال إفريقيا البربر فقد كانوا يسمون موالى أو تابعين، لكن أرستقراطية العرب تلك لم تستمر. ورغم أن علاقة الإسلام بالجزيرة العربية واللغة العربية هى علاقة قوية لايمكن تجاوزها فإن التمييز القائم على أساس الجنس بين جماعة المؤمنين يتعارض مع نص وروح القرآن الكريم . ولأن الزواج من نساء الموالى كان متواصلاً فإن عملية الإنصهار كانت مستمرة فى سهولة وفى أثناء ذلك بدأ إصطلاح العرب تغيره التدريجى من إسم يطلق على بدو الجزيرة العربية إلى معناه الحالى كإسم يطلق على أى فرد ثقافته ولغته هى العربية . وفى أثناء عصر الخلافة العباسية جرت حركة إنصهار عرقى وثقافى ضخمة داخل الإمبراطورية الإسلامية . وبينما قُبلت اللغة العربية أولاً كلغة سائدة ثم بعد ذلك كلغة عامة فإن العرب الخلص أيضاً بدأوا تدريجياً فى التخلى عن مزاعمهم الأرستقراطية. وأخيراً ساد مبدأ المساواة العربية وأصبحت لغة وعقيدة العرب كالأسمنت الذى لحم هذا البناء الضخم معاً .وقد تمثلت قوة ورخاء هذا البناء فى حقيقة أن الحضارتين الفارسية والهيلينية العظيمتين واللتان كانتا سائدتين حتى ذلك الوقت لم يدمرا حيث ترك الحكام العرب – الجدد- نفس أنظمة الحكم والإدارة القائمة كماهى تماماً وذلك حتى تمثلوها وطوروا الأنظمة الخاصة بهم. وقد حول إنتقال عاصمة الإمبراطورية من دمشق إلى بغداد مركز ثقلها شرقاً. وإضمحل الإهتمام بشئون البحر المتوسط وبدأت المؤثرات الشرقية -مثل النزعة الشرقية فى الحكم المطلق- فى الإزدياد . وقد جعل إزالة الحواجز الحدودية من بغداد مركزاً لمنطقة تجارة حرة واسعة ومتنامية الرخاء ملك فيها معظم قطاعات السكان الفرصة للمشاركة فى نشاط تجارى فعال. وأبحرت سفن العرب إلى الصين وسومطرة والهند جنوباً على طول الساحل الشرقى لإفريقيا حتى مدغشقر. وقد إزدهر التعليم والثقافة فى هذا العصر الإسلامى الذهبى أيضاً . وفى البداية كان الأمر يتعلق أساساً بترجمة الأعمال العلمية والفلسفية العظيمة للحضارات القديمة إلى العربية ولكن سرعان ماإستطاعت الإمبراطورية الإسلامية تحقيق إنجازاتها الشامخة فى العلوم والآداب والفنون .
وكما هو الحال فى كل الإمبراطوريات الإنسانية الأخرى كانت بذور الإضمحلال تنمو بالفعل عندما كانت هذه الإمبراطورية ظاهرياً فى قمتها . وبرغم نظام الإتصالات الرائع الذى كان يتفرع من بغداد فإنه لم يكن من الممكن ممارسة السلطة الفعلية على الولايات البعيدة لمدة طويلة . ففى مصر وشرق فارس إنتقلت السلطة إلى الحكام المحليين الذين إستقلوا بأنفسهم وشعر العرب الذين شكلوا فيما مضى طليعة جيوش الإمبراطورية بأنهم غرباء عن حكامهم الجدد المستعربين ولم يعودوا يسجلون فى الجيش ولجأ الخلفاء إلى إستيراد أطفال الرقيق المعروفين بإسم المماليك من المناطق التى تشكل الآن تركستان السوفيتية وذلك لتدريبهم كى يصبحوا جنوداً يناط بهم حماية الإمبراطورية . ورغم أن هؤلاء كانوا يتكلمون التركية فلم يكونوا كلهم أتراكا حيث إشتملوا على أكراد ومغول وأجناس أخرى من وسط آسيا. وقد أصبح هؤلاء المرتزقة جنوداً أكفاء ولكنهم سرعان ماأدركوا أن فى مقدورهم الإستيلاء على السلطة لأنفسهم وفى سنة 861 م إغتالوا الخليفة فى بغداد وأقاموا ديكتاتورية عسكرية . وفى سنة867م قام تركى يدعى ابن طولون بالإستيلاء على السلطة فى مصر ثم إستطاع إحتلال سوريا بسهولة ومرة أخرى ضمها فى دولة واحدة إلى مصر (خلف الإخشيديون – الأتراك أيضا - الطولونيين فى حكم مصر بموافقة الخلافة العباسية وظلوا يحكمونها حتى دخول الفاطميين مصر من المغرب سنة 358ه/969م المترجم). وقد إستمر ذلك الحال- بإستثناء بعض الفترات- حتى وقع الإقليم كله تحت سيطرة الأتراك العثمانيين فى القرن السادس عشر الميلادى . وبذلك تصدعت الإمبراطورية العربية الإسلامية العظيمة التى عاشت لأكثر من قرنين وشملت كل العالم المعروف آنذاك بإستثناء أوربا الشمالية والصين.
وفى بداية الجزء الأول من القرن الثامن الميلادى إستولى العرب على أسبانيا ونصف فرنسا لكنهم سرعان ما إنسحبوا من فرنسا إلا أنهم إحتلوا صقلية وجزءً كبيراً من جنوب إيطاليا بعد ذلك . ومع ذلك فإن نقل العاصمة من دمشق إلى بغداد قد أضعف نفوذ الإمبراطورية فى البحر المتوسط وعند نهاية القرن التاسع الميلادى كانت هذه الإمبراطورية قد تصدعت نهائيا.ً إحتفظ العرب بسيادتهم الثقافية لمدة قرنين آخرين على الأقل وإستمرت بغداد مركزاً عظيما للثقافة والعلم ولكن السلطة العسكرية أصبحت فى يد الطبقة العسكرية التركية عديمة الثقافة . ومع ذلك فقد إنقطعت هذه السيادة التركية لبعض الوقت . وفى سنة 969م وبعد قرن من الحكم الغير مستقر للممالك العسكرية التركية غزت مصر من الغرب قوة عربية جديدة هى مملكة الفاطميين التى أخذت إسمها من فاطمة ابنة النبى وزوجة الخليفة على . وقبل الإنتقال إلى شمال إفريقيا كان الفاطميون قد بدأوا دعوتهم فى سوريا كقادة لحركة الشيعة الإسماعيلية التى كرست جهودها للإطاحة بالخلافة العباسية مما جعل بغداد تعتبرهم أعداء مارقين عن الدين . وإلى الشمال من الفسطاط العاصمة العربية الإسلامية القديمة أسس الفاطميون القاهرة كعاصمة جديدة لهم وأسسوا بذلك خلافة منافسة لخلافة بغداد – ذات إمبراطورية خاصة ومجد عظيم . ولمدة من الزمان إمتدت هذه الإمبراطورية غرباً عبر المغرب حتى المحيط الاطلنطى وحتى صقلية ورغم أن نفوذ الفاطميين لم يمتد شرقاً فإن عدم الإستقرار فى بغداد كان يعنى أن كثيراً من تجارة الشرق التى كانت مصدر رخاء العباسيين قد إنتقلت من الخليج الفارسى/العربى إلى البحر الأحمر. وإزدهرت القاهرة على حساب بغداد وإستأنفت سوريا دورها التاريخى كميدان للصراع بين الحكام المتنافسين فى دجلة والفرات ووادى النيل . و ظهر عنصر جديد ليضيف إلى شقاء سوريا حيث إنتهز البيزنطيون الذين عانوا ثلاثة قرون من الغارات العربية الإسلامية الفرصة للإنتقام . وفى الفترة مابين 962- 1000م قام الأباطرة البيزنطيون بغزو سوريا لثمانى وثلاثين مرة على التوالى . وفى عام 1018م فقد الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله عقله وأعلن أنه إله . وبعد موته ظهرت عقيدة جديدة تقول بأن الحاكم لم يمت ولكنه إختفى فقط وأنه سوف يعود منتصراً ليبدأ عصراً ذهبياً . وأصبح الدروز الذين دانوا بهذه العقيدة وأخذوا إسمهم من زعيمهم إسماعيل الدرزى -الذى فر إلى جبل لبنان- يشكلون فرقة دينية هامة رغم أن عددهم لم يزد أبداً عن 250000 يعيشون الآن بين سوريا ولبنان وإسرائيل. وأصبحوا بذلك واحدة من قليل من الفرق شبه الشيعية التى ظهرت فى ذلك الوقت وتمكنت من البقاء حتى اليوم ولعبت دوراً هاماً فى تاريخ المنطقة .
وهناك فرقة شبه شيعية أخرى هم العلويون أو النصيرية التى نشأت أولاً حول حلب فى القرن التاسع عشر الميلادى . وقد إستمرت هذه الفرقة أيضاً وهى تشكل اليوم حوالي عشرة فى المائة من سكان سوريا. وقد كان لحقيقة أن الرئيس الأسد وكثيراً من الأعضاء الرئيسيين فى نظامه ينتمون إلى هذه الفرقة تأثيراً هاماً على التاريخ الحديث لسوريا . وبرغم غزو البيزنطيين المتكرر لسوريا ولبنان فإنهم لم يستطيعوا السيطرة على هذا الإقليم. والواقع أن الإمبراطوريات البيزنطية والعباسية والفاطمية كانت كلها فى حالة من الإضمحلال فى النصف الأول من القرن الحادى عشر الميلادى وذلك عندما ظهرت قوة جديدة على مسرح الأحداث. فقد قامت قبائل الأتراك الأوجوز من وسط آسيا- والذين عُرفوا بإسم السلاجقة إنتساباً لأحد زعمائهم - بغزو فارس . وفى عام 1050م إستولوا على بغداد وجعلوا من الخليفة العباسى مجرد تابع لهم . وفى عام 1071م إستولوا على سوريا وفلسطين وطردوا الفاطميين إلى مصر . وعند نهاية القرن كانت إمبراطورية السلاجقة تشتمل على فارس والعراق وسوريا وفلسطين . لكن المحاربين التركمان فى الجيش السلجوقى كانوا يتطلعون إلى الأراضى الغنية للإمبراطورية البيزنطية فى الغرب . وفى عام 1071م تمكن السلطان السلجوقى أرب أرسلان من سحق جيش بيزنطى ضخم وأسر الإمبراطور البيزطى ( حدث ذلك فى موقعة مانزكرت الشهيرة التى كانت سببا مباشرا فى قيام الحروب الصليبية حيث أُبيد الجيش البيزنطى وأُسر الإمبراطور رومانوس الرابع/المترجم) . وبذلك تمكن الأتراك المسلمون من الإستقرار فى آسيا الصغرى . كانت بيزنطة قد إستطاعت حماية المسيحية الغربية من الغزو والتوسع الإسلامى من الشرق على مدى أربعة قرون . ولكن عندما أصبحت الإمبراطورية البيزنطية نفسها مهددة بالإنهيار فقد ناشد الإمبراطور اليكسيوس كومينوس (1081-1118م) البابا أوربان الثانى لإرسال جيوش للمساعدة فى محاربة الغزاة الكافرين . وفى27 نوفمبر1095م دعى البابا المتطوعين للزحف إلى نجدة إخوانهم المسيحين فى الشرق ولإعادة تأمين طرق الحج الغربية إلى الأماكن المقدسة . كان غزو مسيحى أوربا الغربية الذى نجم عن ذلك فيما عرف بإسم الحملة الصليبية الأولى ناجحاً بصفة مبدئية . واُُحتلت أورشليم فى عام 1099م وذُبح سكانها من المسلمين واليهود وتأسست مملكة لاتينية من أورشليم وثلاث إمارات صليبية أخرى( الإمارات الثلاث الأخرى هى أنطاكية والرها وطرابلس/المترجم) . كان الخلفاء العباسيون فى بغداد وسلاطين السلاجقة غير مهتمين كثيراً بشئون سوريا وفلسطين حيث كانت خارج نطاق مصالحهم . أما الفاطميون فى مصر فقد أعرضوا بعد محاولة فاشلة عن بذل أى مجهود من أجل إعادة أورشليم ( القدس ) إلى دائرة الإسلام . وفى سوريا نفسها فإن الأنظمة التركية المحلية كانت فى العادة فى حالة من العداء المتبادل وكثيراً ماتحالفت مع الصليبين ضد بعضها البعض .
لم تمثل الإمارات المسيحية الصغيرة أى تهديد للعالم الإسلامى حيث كان واضحًا أنها أقل ثقافة وحضارة وقد دُهش المسلمون على سبيل المثال بمعرفة الصليبين البدائية بالطب. ولكن تلك الإمارات لم تقنع بمجرد العيش فى ظل تسامح جيرانها فتورطت فى نزاعات معهم مما دفع بالعالم الإسلامى المنقسم على نفسه إلى الإتحاد فى جهاد مقدس ضدهم . وفى سنة 1187م تمكن القائد الكردى صلاح الدين من إسترداد أورشليم لكنه بعكس مافعل الصليبيون قبل ثمانية وثمانين سنة فقد أبقى على حياة من إستسلم منهم . وفى القرن التالى أُنفذت حملات صليبية أخرى مكنت الإمارات المسيحية المنكمشة على سواحل سوريا وفلسطين من البقاء لبعض الوقت إلا أن تلك الإمارات وبعد حوالي مايزيد قليلاً عن القرنين ، قد إختفت فى نهاية الأمر. وفيما عدا بعض القلاع الفاخرة وأثر من دمائهم الناتجة عن الزواج المختلط فلم يترك الصليبيون شيئاً بعدهم . لقد كان إنجازهم الكبير هو إضعافهم للحضارة الأكبر التى واجهوها وتقويض أسسها المعنوية . إلا أنهم مع ذلك قد تفوقوا على أعدائهم المسلمين بمزية هامة وجوهرية للغاية وكان ذلك هو قدرتهم على خلق مؤسسات سياسية قوية وفعالة. كانت تلك المؤسسات إقطاعية أكثر من كونها ديموقراطية إلا أنها كانت قد تبنت تصور الحقوق والواجبات للجماعات المختلفة داخل المجتمعات من أمراء وفرسان وتجار وفلاحين . فسلطة الحاكم لم تكن مطلقة كما أن تولى السلطة كان يتم فى العادة بالإتفاق وليس بالقوة. أما فى البلاد الإسلامية ، وبرغم أن المبادئ والإجراءات القانونية التى تحكم العلاقات الإنسانية كانت أكثر تعقيداً وعقلانية فإن مبدأ ممارسة الحكم كان فى العادة تعسفياً مطلقاً. كانت الديموقراطية القبلية التى مارسها الخلفاء الأوائل - والذى كان مجلس الشورى يحد من سلطاتهم- قد تراجعت بشكل عام أمام الحكم المطلق . وأدرك البعض بفطنة أن الأثر الأكثر مأساوية للحروب الصليبية على قلب العالم الإسلامى كان هو تراجع الإسلام نحو العزلة .
* فبرغم أن حقبة الحروب الصليبية قد أشعلت ثورة ثقافية وإقتصادية حقيقية فى غرب أوربا فإن هذه الحروب المقدسة قد أدت فى الشرق إلى قرون طويلة من الإضمحلال والظلامية . وأخذ العالم الإسلامى ينطوى على نفسه عندما وجد أنه يهاجم من كل مكان. وأصبح مفرط الحساسية دفاعياً متعصباً عقيماً وهى مواقف راحت تتفاقم بإضطراد إلى الأسوأ بينما كانت عملية تطور العالم- والتى اُستبعد منها العالم الإسلامى- فى إستمرار.
كان ذلك هو الأثر البعيد أما فى ذلك الوقت فإن النجاح الكبير فى طرد الصليبين قد اُُخذ على أنه دليل على تفوق العقيدة الإسلامية والذى كان على المسلمين أن يتذكرونه دائماً لأنه وكما يعتقدون فإن الله قد إختارهم ليخلفوا ويتمموا الديانات التوحيدية الأخرى . كان قليل من المؤرخين المعاصرين مستعداً للإقرار بمزايا نظم الحكم فى الإمارات الصليبية لكن هذه المقارنات اُُعتبرت غير ذات أهمية بمجرد القضاء على هذه الإمارات . ومع الهزيمة والطرد النهائى للصليبين عاد الإسلام منتصراً فى أنحاء الشرق الأوسط . وفى مصر حل المماليك محل مملكة الأيوبيين العظيمة قصيرة العمر التى أسسها صلاح الدين ومدوا إمبراطوريتهم فى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى إلى سوريا . وأخذ السلاجقة يتقدمون تدريجياً فى الأناضول على حساب البيزنطيين والذين كان إضمحلال إمبراطوريتهم قد تسارع بسبب الصليبين الذين قاموا فى حملتهم الرابعة فى بداية القرن الثالث عشر الميلادى بإشعال الحرب فى القسطنطينية بين اللاتين الغربيين وبين المسيحيين اليونان الشرقيين . عرفت مملكة السلاجقة فى آسيا الصغرى بإسم ( سلطنة سلاجقة الروم ) وهو الإسم العربى لروما وبذلك أصبحوا وريثاً إسلامياً للجناح الشرقى من الإمبراطورية الرومانية . وفى بداية القرن الثالث عشر كان على العالم الإسلامى أن يواجه تهديداً مرعباً جديداً هو المغول . إندفع المغول من وسط آسيا - مثلهم مثل قبائل الأتراك الرحل قبل ذلك التاريخ - نحو أراضى الهلال لخصيب الغنية . وفى عام 1220م إستطاع جنكيز خان الإستيلاء على فارس وفى عام 1234م سحق خلفاؤه كل الجيش السلجوقى وتقدموا ليحتلوا سلطنة سلاجقة الروم . وفى عام 1258م إستطاع هولاكو حفيد جنكيز خان الإستيلاء على بغداد وقضى على آخر أثر للخلافة العباسية بينما كانت جيوشه تدمر منشآت الرى العظيمة فى العراق . وبدا أنه ليس هناك مايمنع المغول من إجتياح سوريا ومصر ولكن المماليك المصريين تجمعوا وأوقعوا بهم هزيمة ساحقة فى عين جالوت فى فلسطين سنة 1260م . وتعتبر هذه الموقعة من المواقع الحاسمة فى التاريخ حيث أنها أنقذت قلب العالم الإسلامى من إجتياح المغول . لقد كان تهديد المغول أشد خطراً من تهديد الصليبين المسيحين إلا أنه كان أيضاً قصير العمر. وقد أمل المسيحيون الشرقيون والغربيون على السواء فى أن يعتنق المغول المسيحية إلا أنه وعلى العكس من ذلك فقد أعلن خان المغول فى عام1295م أنه قد أصبح مسلماً. وبذلك إستمر الصراع من أجل السيطرة على الشرق الأوسط محصوراً داخل العالم الإسلامى .
أظهرت القرون الثلاثة من حكم المماليك فى مصر وسوريا كثيراً من مظاهر حضارة متقدمة. ومع إختفاء بغداد وإضمحلال أسبانيا الإسلامية أصبحت القاهرة ودمشق وحلب هى مراكز العلم والإنجاز الأدبى والفنى . وقد عاشت نماذج فريدة من الأعمال المعمارية والفنية لهذه الفترة حتى اليوم . كانت تلك المدن مزدهرة واسعة الثراء بسبب تدفق التجارة عليها من وإلى الشرق . ولكن هذه القرون كانت كارثية فيما يتعلق بممارسة الحكم وتطور المؤسسات السياسية . فرغم أن المجتمع الإسلامى كان مستقراً نسبياً فإن حكامه لم يكونوا كذلك . فقد حرمت قوانين المماليك تأسيس مملكة وراثية وإعتمدوا فى مسائل الحكم على تقاليدهم العسكرية الإستبدادية شديدة القسوة . فنادراً ماكان سلاطين المماليك فى مصر يبقون فى الحكم لسنوات قليلة قبل أن يطيح بهم منافس آخر أقوى . وبالمثل حارب جنرالات المماليك بعضهم البعض من أجل ولاية سوريا. ومع تراجع خطر المغول لم يعد هناك خطر خارجي يفرض الوحدة التى تحققت فى عين جالوت . لكن المماليك لم يكونوا مدركين أن مصيرهم كان يتقرربشكل نهائى من خلال الأحداث التى كانت تجرى فى آسيا الصغرى . ففى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى كان يسكن ذلك الإقليم بضعة درازن من أمراء الحرب الأتراك ، أو الغزاة الذين إكتسحوا معظم ولايات الإمبراطورية البيزنطية . ورغم تبعيتهم الإسمية لخانات المغول فإنهم كانوا قد أصبحوا مستقلين بشكل متزايد . كان واحد من هؤلاء- يدعى عثمان- هو المؤسس للمملكة والإمبراطورية التى نمت بحيث سيطرت على العالم الإسلامى لأربعة قرون فيما بعد . كان العثمانيون الأوائل- كما أصبحوا يعرفون فى الغرب- يتميزون عن باقى رفقائهم الغزاة بحكمتهم وبراعتهم فى فن الحكم . وقد شابهوا خلفاء الإسلام الأوائل -الراشدين- فى أوجه كثيرة وذلك من حيث مزجهم للعقيدة البسيطة العميقة بموقف نبيل متسامح تجاه السكان المسيحين - بصفة خاصة- فى البلاد التى قاموا بغزوها مما جعل بعض هؤلاء يتحولون إلى الإسلام . ولكن حتى هؤلاء الذين لم يتحولوا فكثيراً مارحبوا بعدالة حكم العثمانيين الثابتة والتى كانت على النقيض من سوء الحكم الفوضوى فى الإمبراطورية البيزنطية المضمحلة .
وفى النصف الثانى من القرن الرابع عشر قام حفيد عثمان - مراد الأول وهو أول سلطان عثمانى عظيم- بعبور مضيق الهيلسبونت ( البسفور ) ليمد الإمبراطورية الصغيرة إلى إمارات البلقان المسيحية . وقد طبق مبدأ التسامح الدينى وسمح لغير المسلمين أن يصبحوا مواطنين مكتملى الحقوق بحيث يمكنهم الوصول إلى أعلى مناصب الدولة . ومن ثم فقد أسس فى هذه المرحلة المبكرة جداً شخصية الإمبراطورية العثمانية الواسعة متعددة اللغات والأعراق والتى تشابهت فى كثير من الوجوه مع الإمبراطورية الرومانية . غزا مراد البلقان بينما كرََََس ابنه بايزيد الأول جهوده للسيطرة على كل آسيا والقضاء النهائى على القسطنطينية لكنه فشل فى الساعة الأخيرة بسبب خطر من الشرق هو خطر التتار الذين بدوا كإعادة بعث لأبناء عمومتهم المغول الذين ظهروا قبل قرنين من ذلك التاريخ . أوشك تيمور لنك القائد التترى المرعب على تدمير الإمبراطورية العثمانية فى مهدها ورد إمارات الغزاة إلى البيزنطيين لكنه مات عندما كان فى طريقه إلى الصين من أجل غزوات جديدة . إسترد العثمانيون عافيتهم وأنجبوا بعد قرن واحد قائداً عظيماً آخر هو محمد الثانى-الفاتح- الذى إستطاع أخيراً وفى سنة 1453م الإستيلاء على القسطنطينية وإكتساح البقايا الأخيرة للإمبراطورية البيزنطية . وقد إعتاد أطفال المدارس الغربيين أن يتعلموا أنه بتناثر تراث اليونان والرومان الذى نتج عن ذلك فإن الغزو الإسلامى للقسطنطينية قد دفع بالمسيحية الغربية إلى عصر النهضة. وفى الواقع وبرغم أن هذا الحدث الجسيم كان له أثر عميق ودائم على خيال الجنس البشرى فإنه قد حدد فقط المرحلة الاخيرة من تراجع القوى غير الإسلامية من الشرق الأوسط - فلأجيال عديدة مضت- لم تكن الإمبراطورية البيزنطية أكثر من مجرد ظلال لوجودها المهيمن السابق .
كانت أوربا مدركة بالفعل للخطر العثمانى وقد حاول الفينيسيون والهنغاريون وآخرون صد تيارهم بتكوين تحالفات مؤقتة مع منافسى العثمانيين فى آسيا الصغرى . وبعد سقوط القسطنطينية أصبح الأتراك الكفرة يمثلون خطراً داهماً مهدداً بالإندفاع من البلقان وإكتساح وسط أوربا.ولمرتين فى عام 1529م وعام 1683م كان العثمانيون على وشك إحتلال فيينا وإكتساح إمبراطورية الهابسبورج . كان العثمانيون متفوقين فى الأسلحة والإستراتيجية العسكرية خاصة فى الإستخدام المبكر للأسلحة النارية كما أنهم إستطاعوا تحويل أنفسهم بسرعة إلى قوة بحرية هائلة تنافس أى قوة بحرية كان يمكن أن توفرها أوربا فى ذلك الوقت.إن نفس التأملات الشهيرة التى تصورها إدوارد جيبون عن النتائج التى كان يمكن لها أن تحدث فى أوربا لو نجحت الجيوش العربية الإسلامية فى التقدم نحو فرنسـا وهى ( أن القرآن كان من شأنه أن يدرس فى جامعات إكسفورد وكمبردج بدلاً من الكتاب المقدس ) يمكن تطبيقها بنفس الشكل على تلك الغزوات التركية التى حدثت بعد ثمان قرون من ذلك التاريخ .( المعركة التى يشير إليها المؤلف هنا عن إدوارد جيبون هى معركة بلاط الشهداء أو معركة سهل بواتيه كما يسميها المؤرخون الغربيون التى جرت بجنوب فرنسا سنة 732م والتى سحق فيها الأمير الفرنسى شارل مارتل الجيوش الإسلامية التى كان يقودها القائد العربى عبدالرحمن الغافقى فى محاولته للتقدم من أسبانيا إلى جنوب فرنسا وقد قتل عبدالرحمن الغافقى فى تلك المعركة مع معظم أفراد الجيش الإسلامى ولذلك فقد مثلت تلك المعركة نهاية محاولات التوسع الإسلامى فى أوربا من ناحية الغرب ومن هنا جاء تشبيهها بفشل العثمانيين فى حصار فيينا الأخير سنة 1683م و نجاة وسط أوربا من خطر التوسع الإسلامى نهائيا/المترجم).
كان المناخ الغير مناسب هو السبب الرئيسى فى صد العرب عن فرنسا أكثر مما كانت جيوش شارل مارتل- قائد الفرنجة المسيحين- لكن أتراك آسيا الصغرى كانوا أكثر إعتياداً على الجليد والصقيع . حاول ملوك عصر النهضة الأوربيون بإستمرار توحيد قواهم من أجل القيام بحملات صليبية جديدة ضد العالم الإسلامى. ولكنهم على العكس من أسلافهم فى الحروب الصليبية الأولى لم يفعلوا ذلك نيابة عن الحجاج المسيحيين إلى الأراضى المقدسة أو نيابة عن الأقليات المسيحية فى الشرق الأوسط ولكن من أجل حماية أنفسهم حيث كانت الإمبراطورية العثمانية فى القرنين الأولين من عمرها قد وجهت الجزء الأكبر من طاقاتها العظيمة نحو أوربا المسيحية . ومع ذلك فبعد أن أحكم محمد الفاتح قبضته على آسيا الصغرى حول حفيده سليم الأول - المعروف بالكالح- إهتمامه إلى آسيا. وفى فارس كانت مملكة الصفويين قد تأسست عندما قام إسماعيل الصفوى المعروف بالصوفى العظيم بإعلان نفسه شاها فى عام 1502 م. وبعد ذلك بوقت قصير أعلن أن المذهب الشيعى- الذى كان بالفعل هو المذهب السائد بين رعاياه- مذهبا رسمياً للإمبراطورية . وفى عام 1508م إحتل العراق ولكن سليم الكالح - والمعروف أيضاً بالعادل بسبب معتقداته السنية الصارمة- إستطاع هزيمة إسماعيل فى معركة كبرى فى وادى شالديران بالقرب من تبريز. وفى عام 1514م تقدم ليضم هضبة شرق الأناضول المرتفعة والتى وفرت للإمبراطورية العثمانية خط دفاعى إستراتيجى حيوى ضد أى غزو من الغرب ونتج عن ذلك قرنين من الصراع والحروب المتقطعة بين الإمبراطوريتين السنية والشيعية . وعادة كان للعثمانيين اليد العليا عسكرياً ولكن التأثير الثقافى الفارسى ظل قوة فعالة فى الإمبراطورية التركية وحتى عندما إستطاع العثمانيون الإستيلاء على العراق نهائياً فى القرن السابع عشر الميلادى فقد ظل معظم سكانه المتكلمين بالعربية على المذهب الشيعى .
ويعتبر الشاه إسماعيل هو مؤسس فارس الحديثة ( إيران ) . وبعكس العثمانيين فلم يكن لدى الصفويين طموحاً فى غزو البلاد المسيحية - ففيما عدا العراق محل النزاع- فقد بقيت أقاليم الإمبراطورية الفارسية كما هى حتى العصور الحديثة . وداخل هذه الحدود قامت حركة بعث دينى وقومى عظيمة . كان الشاه عباس الأول الذى حكم من عام 1587م إلى عام 1629م قائداً عسكرياً بارزاً وإدارياً وراعياً للفنون . وبرغم أنه كان مسلماً شيعياً متعصباً فقد كان متسامحاً تجاه المسيحيين وقد سمح لطائفة الكرميليين وغيرها بتأسيس الإرساليات وبناء الكنائس فى أصفهان وجهات أخرى . وقد إضمحلت مملكة الصفويين فى عهد خلفائه الأقل مقدرة ولكن ظلت فارس قائمة كقوة مسيطرة فى المنطقة . ورغم أنها كانت تتعرض لإعتداء جيرانها بين الحين والآخر إلا أنها لم تتعرض أبداً للتفكك الذى كان مصير الإمبراطورية العثمانية . وبعد هزيمته لفارس تحول سليم إلى المماليك والذين برغم أنهم كانوا محاربين شجعان ففى حالة الضعف شبه الفوضوية التى كانوا قد وصلوا إليها لم يكونوا أنداداً للجيش العثمانى حسن النظام والتدريب. وتمكن سليم بسهولة من إحتلال سوريا وفلسطين بعد معركة بالقرب من حلب فى عام 1516م مات فيها السلطان الهرم قنصوة الغورى بالسكتة الدماغية وسحق جيشه . وفى السنة التالية قام سليم بغزو مصر وأوقع الهزيمة النهائية بالمماليك خارج أسوار القاهرة . وأثناء وجوده فى مصر إستقبل سفارة من شريف مكة الذى قدم له مفاتيح مدينة الإسلام المقدسة ولقب بحامى الأماكن المقدسة وأُرسلت راية وعباءة النبى إلى إسطنبول . وسرعان ماقبلت إمارات البربر فى شمال إفريقيا وحتى حدود مراكش سيادة العثمانيين . كذلك أصبحت اليمن فى جنوب غرب الجزيرة العربية ولاية عثمانية .
وبذلك أصبح العالم الناطق بالعربية كله فى عام 1537 م تابعاً للعثمانيين بإستثناء مراكش فى أقصى الغرب وعمان فى الجنوب الشرقى من الجزيرة العربية وكذلك وسط الجزيرة العربية الذى سكنته أعداد متناثرة من البدو. وبرغم أن سلاطين العثمانيين لم يتخذوا رسمياً لقب خليفة المسلمين إلا فى القرن الثامن عشر الميلادى فإن إدعاءهم لزعامة العالم الإسلامى السنى لم ينازعها منذ ذلك الحين إلا بعض المنشقين من الأتباع المحليين فى المقاطعات البعيدة . وأنه لمن المستغرب أن عرب اليوم يميلون إلى رؤية القرون الأربعة من الحكم العثمانى من منظور حالك السواد لأن أسلافهم هم الذين سمحوا أولاً بإنتقال القيادة العسكرية وبعد ذلك القيادة السياسية للعالم الإسلامى إلى أيدى تركية . وقد أصبح الأتراك الجنس الحاكم بلا منازع بإستثناء بعض الإستقلال السياسى الذى إحتفظ به العرب فى الأماكن القصية فى العالم العربى . وعلى العكس من ذلك فإن الفرس- فى بلادهم الشاسعة - كانوا منافسين للأتراك ولم يخضعوا لهم. وكذلك كانت حقيقة تنازل اللغة العربية - مجد الحضارة العربية- عن قيادتها الثقافية جارحة بنفس القدر للكبرياء العربى . وقد ظلت اللغة العربية لغة الدين - كما حتم عليها أن تكون- ولكن التركية والفارسية وبعد أن إستوعبتا تأثيرات عربية عميقة إستطاعتا أن تطورا لأنفسهما عوالم ثقافية أكثر إستقلالية وحيوية .
ومع ذلك فقد كانت الإمبراطورية العثمانية حضارة إسلامية عظيمة وصلت ذروتها فى عهد ابن سليم الكالح - سليمان العظيم أو القانونى- الذى حكم من سنة 1520م إلى سنة 1566م وكان بذلك معاصراً تماماً لملوك عصر النهضة العظام فى أوربا ، مثل شارل الخامس إمبراطور الهابسبورج وملك فرنسا فرانسوا الأول وملك إنجلترا التيودورى هنرى الثامن . وقد أضاف سليمان هنغاريا ورودس وشمال إفريقيا إلى إمبراطوريته رغم فشله فى الإستيلاء على فيينا . لكنه كان أكثر من مجرد فاتح عسكرى عظيم فقد كان - وبرغم صرامته- إدارياً بارعاً ومانحاً إنسانياً للعدل . ولأنه كان هو نفسه شاعراً جيداً فقد شجع كل الفنون فى بلاطه . وكما هو الحال فى كل الحضارات العظيمة فقد إستوعب العثمانيون وتمثلوا كثيراً من المؤثرات الثقافية الخارجية . وأخذ السلاطين الأوائل عن البيزنطيين كثيراً من أوجه حضارتهم . وجلب سليم وسليمان الحرفيين من تبريز فى غرب فارس لتجميل إسطنبول . وفى عهد سليمان وبمساعدة سينان- وهو ابن لمسيحى من الأناضول وأحد أعظم المعماريين على مر العصور- إكتمل العمل الذى بدأه محمد الفاتح وأصبحت إسطنبول مدينة ذات بهاء حقيقى تقع عند نقطة إلتقاء الحضارة الشرقية والحضارة الغربية . ورغم أن كل الإمبراطوريات متعددة الأجناس تضمحل وتتحلل فإن الإمبراطورية العثمانية كانت أشد إتساعاً وأطول عمراً من الدول القوية التى أسسها محاربون رحل آخرون من آسيا الصغرى مثل السلاجقة والمغول والتتار. لكن إضمحلالها كان قد بدأ فى أقل من منتصف عمرها البالغ خمسة قرون إلا أنه قد أصبح مطرداً بالفعل بعد ذلك التاريخ . والواقع أن محاولات إصلاح وتجديد الإمبراطورية قد ساهم فى تحطيمها وإضمحلالها . وليس من الممكن أن نفسر هذا الإضمحلال بسبب واحد ولكن المؤكد فقط هو أن بذور إضمحلال الإمبراطورية كانت قد غرست عندما وصلت الإمبراطورية إلى ذروة إتساعها فى عهد سليمان القانونى . ومع ذلك فقد ظلت لحوالي مائة وخمسين سنة بعد زمنه قوة عظمى قادرة على بث رعب حقيقى فى البابوات المتعاقبين والدول المسيحية فى أوربا الغربية . وقد كانت هزيمة العثمانيين الثانية عند أبواب فيينا سنة 1683م - بواسطة جيوش ملك بولندا - هى التى أزالت الخطر العثمانى نهائياً . ومنذ ذلك التاريخ بدأ ميزان القوة يميل بإضطراد فى غير صالح إسطنبول.
ولكن فى عام 1683م لم يكن هناك فى أوربا من يثق فى إمكانية صد التقدم الإسلامى. وقد إستغرق تراجع هذه المخاوف ردحاً من الزمن .
ورغم عدم وجود تشخيص واضح لسبب تحول الإمبراطورية إلى رجل أوربا المريض فإن هناك بعض الخصائص التى تفرض نفسه.ا وقد كانت هذه الخصائص- فى الغالب- أسباباً لقوة الإمبراطورية ونجاحها ولكنها أصبحت أسباب لضعفهاً عندما لم تعد قادرة على التكيف مع الظروف المتغيرة . ففى المقام الأول كانت الإمبراطورية كياناً عسكرياً ضخماً إحتلت فيها القيم والأهداف العسكرية المكانة العليا كما كانت كياناً مركزياً بشكل كبير للغاية ، وبمعنى أن كل الأراضى الواقعة داخل الإمبراطورية كانت تابعة للدولة العثمانية من الناحية الفعلية . وقد كانت إقطاعية فى حدود أن كثيراً من أفضل الأراضى كان يُمنح كإقطاعات للأرستقراطية العسكرية ولكن فقط وفى حالات نادرة كان يمكن توريث هذه الأراضى ولذلك فلم تستطع الإمبراطورية أبداً تطوير مثال أوربى من النبالة الإقطاعية التى يمكن أن توازن قوة الملك . فإذا كان ذلك المثال الأوربى للإقطاع هو مرحلة أساسية نحو التطور النهائى للرأسمالية فإن هذا يمكن أن يفسر السبب فى تراجع الإمبراطورية تدريجياً خلف الدول الأوربية فيما يتعلق بالقوة المادية والصناعية . ومع ذلك فإن عدم وجود أرستقراطية تستند إلى الأرض كان يعنى أن الإمبراطورية الأولى كانت تأخذ بمبدأ المساواة الإجتماعية بدرجة إستثنائية حيث إستطاع المسيحيون واليهود وأناس ذو أصول شديدة التواضع وعبيد سابقون- وليس فقط المسلمون- الوصول إلى أعلى المناصب فى الدولة بشرط إعتناقهم للإسلام . وقد ولد الصدر الأعظم الشهير إبراهيم مسيحياً يونانياً فى عهد سليمان العظيم . وبلاشك فقد إستفادت الإمبراطورية من إستخدام مثل هذه المصادر الغير عادية للذكاء والقدرة . وقد كان المسيحيون المهتدون إلى الإسلام مصدراً لواحد من أغرب المؤسسات وأكثرها تميزاً فى الإمبراطورية العثمانية وهى الإنكشارية أى القوات الجديدة . فقد بدأ مراد الأول فى القرن الرابع عشر الميلادى تقليداً يقضى بجمع الأطفال المسيحيين المتميزين بقوتهم البدنية وإستعدادهم الذهنى وذلك لتكوين ميليشيا على قدر عالِ من الإنضباط والتدريب أصبحت قلب الجيش العثمانى فيما بعد. وقد عاش هؤلاء حياة كحياة الرهبان حيث مُنعوا من الزواج ووهبوا حياتهم للسلاطين. وبينما كانت الإمبراطورية فى إتساع متزايد فقد إستخدم هؤلاء فى قمع أى بادرة فوضى أو عصيان بين العدد الهائل من سكان الإمبراطورية . لم يكن فى الإمبراطورية أرستقراطية وراثية ولكن كان بها طبقة حاكمة . وقد تكونت تلك الطبقة من ضباط الجيش وكبار الموظفين المدنيين ورجال الدين ، مثل المفتى والعلماء .وقد مثلوا سلطة السلطان التى كانت وظيفتهم أن يحفظوها . وتحتهم كانت تأتى الرعية التى تتكون من جماعات الفلاحين وبعض حرفى المدن . وفى الأصل فإن مصطلح الرعية كان ينطبق على جميع رعايا أى حاكم مسلم ولكنه أصبح فيما بعد مقتصراً على هؤلاء الغير مسلمين والذين كانوا بعكس المسلمين ، يدفعون الجزية. وحيث أنهم كانوا يشكلون الأغلبية العظمى من السكان فى الولايات الأوربية فى الإمبراطورية فقد كانوا يوفرون معظم دخلها . وقد تم ترتيب هؤلاء فى مجالس ملية أو جماعات ذات حكم ذاتى يرؤسها البطريرق أو الأسقف الذى كان مسئولاً عن تصرفات جماعته . ورغم أنه لم يكن لهؤلاء أى قوة سياسية داخل بناء الإمبراطورية ولم يكن مسموحاً لهم بالإلتحاق بالجيش أو الخدمة المدنية فقد إكتسبوا بمرور الوقت نفوذاً تجارياً وإقتصادياً .
أما المسلمون العرب الذين مثلوا الأغلبية فى ولايات الإمبراطورية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فلم يعاملوا على أنهم مواطنين درجة ثانية بهذا الشكل المقنن ولكن فى سوريا وفلسطين والعراق فرض عليهم طبقة من الولاة والإداريين والعثمانيين كما أقيمت فى المدن الرئيسية حاميات عسكرية كبيرة وهيئات من الموظفين المدنيين . وظل أعضاء هذه الطبقة الحاكمة يتكلمون اللغة التركية وبعكس أسلافهم المماليك فقد فشلوا فى وضع أى جذور لهم فى الأماكن التى عاشوا فيها . لم يكن هناك إستعمار تركى للأرض وكان الموظفون ينقلون بإستمرار إلى مقاطعات أخرى فى الإمبراطورية لم يكن من الضرورى أن يكون سكانها من المتكلمين بالعربية وكان من الطبيعى أن يتوقعوا العودة إلى الوطن الأم عند التقاعد . وفى نفس الوقت لم يكن هناك محاولة لتتريك المسلمين غير الأتراك من رعايا الدولة العثمانية . وإختارت أعداد قليلة فقط التركية كلغة أولى لها وإنضمت بذلك إلى الطبقة الحاكمة العثمانية ولكن الأغلبية إستمرت فى حياتها كما كانت من قبل وتسربت إلى لغتهم فقط بعض الكلمات التركية كانت فى الغالب من مفردات الجيش أو المطبخ العثمانى . وظل جبل لبنان الذى يسكنه الموارنة وهم فرقة مسيحية صغيرة تتبع روما وكذلك يسكنه الدروز كما هو بصفة خاصة لم يمس . وإعترف العثمانيون بالحقوق الإقطاعية المتوارثة للأمراء اللبنانيين ومنحوهم نفس إمتيازات الحكم الذاتى التى كان يتمتعون بها زمن المماليك . ولذلك فقد كانت لبنان هى الجهة الوحيدة فى الإمبراطورية التى تطور فيها شيئاً شبيهاً بالإقطاع الأوربى . ويفترض شارلز عيسوى المؤرخ الإقتصادى الشهير أن ذلك هو السبب فى أن اللبنانيين هم الذين إستطاعوا وحدهم من بين كل العرب تحقيق نجاح مميز للرأسمالية .
لكن كان هناك بعض الإختلاف فى إدارة مصر كولاية عثمانية حيث كان سليم الكالح مستعداً لأن يترك آخر سلاطين المماليك هناك كوالِ بشرط أن يقبل مرتبة التابع الإقطاعى. ولكن هذا السلطان تمرد وأُعدم على أثر ذلك . وعين سليم والياً عثمانياً أو باشا ومع ذلك فقد ترك الأمراء المماليك مسئولين عن الأقاليم الإثنى عشر التى تتكون منها مصر حيث إستمتعوا بقدر عالِ من الإستقلال مكنهم من إعتبار أقاليمهم تلك كأنها إقطاعات خاصة بهم فجمعوا الضرائب وإستولوا على المؤن لجيوشهم الخاصة . وقد كان هناك صراع دائم على السلطة بين الباشا الوالى وبين الأرستقراطية المملوكية من الأمراء والبكوات حيث كانت الغلبة فى العادة للماليك وذلك قبل أن تتمكن إسطنبول من فرض سلطتها مرة أخرى . وأثناء الثلاثة قرون من الحكم العثمانى المباشر لمصر جاء اكثر من مائة باشا بالتتابع لحكمها نيابة عن السلطان وساءت أحوال المصريين أكثر حتى مما كانت عليه فى السنوات الأخيرة من حكم المماليك الفوضوى قبل الغزو العثمانى . وإفتقد المصريون الأمن والعدالة بسبب تنافس كل من الإداريين العثمانيين من جهة والمماليك من جهة أخرى فى الضغط عليهم من أجل مزيد من الضرائب بإستخدام الكرباج . وتعطلت الأشغال العامة وطمرت قنوات الرى وإنتشرت المجاعة والأمراض وتناقص عدد السكان بشكل كبير. وليس من المستغرب أن المصريين يعتبرون هذه الفترة من تاريخهم عصراً مظلماً . والواقع أن مصر عانت أكثر من غيرها من الولايات العثمانية . فبسبب إعتمادها الفريد على النيل وإنحصار السكان داخل المساحة الضيقة للنيل والدلتا فقد إعتمد رخاء مصر منذ زمن الفراعنة على حكومة مركزية حكيمة قوية تستطيع الإشراف على الممر المائى وتوفير الأمن.
أما فى سوريا بجبلها المستقل بطبيعته وأقاليمها الصحراوية فقد كانت الظروف فيها أفضل وبالنسبة للعراق فقد كانت قد أصبحت مكاناً قصياً متخلفاً فى الإمبراطوريه لايملك إلا قليلاً مما يذكر بمجده الغابر. كان هناك باشا وبلاط يحكمان فى بغداد أما القبائل التى إستولت على معظم المناطق فلم تُبذل سوى محاولة ضعيفة فقط من أجل ضمها إلى الدولة . ومع ذلك فقد تمكن الإنكشارية-على الأقل - من تأمين الولاية من الأخطار الخارجية وذلك حتى القرن الثامن عشر عندما تجدد الخطر الفارسى . كان إنجاز العثمانيين الأتراك - الأحفاد العصريين للمحاربين الرحل غير المتحضرين الذين جاءوا من السهوب الآسيوية فى بناء وإدارة إمبراطوريتهم الواسعة - شيئاً لايمكن إنكاره . والمشكلة هى أن المؤسسات التى خلقوها وكانت فى البداية أكثر فاعلية وقدرة من تلك التى وظفتها الإمبراطوريات التى سبقتهم فى حكم ذلك الإقليم لم يمكن تطويرها بحيث تقابل الحاجات والظروف المتغيرة .
وتعتبر مؤسسة الإنكشارية نموذج واضح على ذلك. لقد كانت فكرة إختيار عبيد مسيحين صغار كى يتم تحويلهم عنوة إلى الإسلام وتدريبهم بحيث يشكلون قلب الجيش العثمانى أصيلة وليس لها مثيل فى أى جيش مسيحى غربى . فلم يكن الإنكشارية مجرد قوة قتالية ضاربة فى الحملات ضد أعداء السلطان ولكنهم كانوا يتولون أيضاً الحفاظ على الأمن الداخلى فى الإمبراطورية كلها . ولذا فربما كان من المحتم أن يصبحوا بمرور الوقت ليس فقط قوة مستقلة ولكن أيضاً قوة معارضة بشدة لأى تغيير فى النظام . وعندما تضاءل التفوق العثمانى الواضح فى المهارات العسكرية على أعداء الإمبراطورية رفض الإنكشارية كل محاولات إصلاح الجيش وفقا للأساليب الجديدة التى تطورت فى الغرب . وراحوا كلما شعروا بأن إمتيازاتهم قد تُنتقص أو أن منافسيهم الرئيسيين من السيباهيز - أي الفرسان- قد يأخذون مكانهم يثورون فى عصيان كان يؤدى إلى أعمال عنف فظيعة وبربرية على كلا الجانبين . وفى النهاية تم إخضاعهم ولكن الوقت كان قد تأخر جداً على القوة العسكرية العثمانية كى تلحق بعسكرية الغرب . كانت السلطنة ذاتها مؤسسة جامدة أخرى ، ملكية إستبدادية لم تفكر أبداً فى أي نوع من تقاسم السلطة. وكان لديها شعور حاد بالحفاظ على الذات فعندما خلف بايزيد الأول أباه مراد فى سنة 1389م كان عمله الأول كسلطان هو الأمر بشنق أخيه الأصغر حيث كان منافساً محتملاً له. ومن ثم إستن تقليداً من قتل الأخ الإمبراطورى. وقد كان هناك بعض الأساس لتصرفه فى المبدأ الإسلامى القائل بأن أي شىء أفضل من الفتنة . وقد قام محمد الفاتح بعد قرن من ذلك التاريخ بإعطاء هذا التقليد قوة القانون. ولم يقم سليم الكالح بشنق أخويه فقط ولكن أيضاً أولاد عمومته اليتامى الخمس . وقد منع إستبعاد المنافسين من الأسرة الإمبراطورية وقوع الحروب الأهلية المدمرة التى كانت تقع زمن المماليك . ويمكن أن يقال أنه حفظ مملكة العثمانيين لمدة خمسمائة سنة . ولكن الثمن كان باهظاً جداً . فقد أصبح قصر السلطان مرجلاً لسوء الظن والخوف اللذين كانا يتزايدا عندما يهرم السلطان وتبدأ أمهات أبنائه فى التآمر-عبثا فى معظم الاحيان- من أجل الحفاظ على حياة أبنائهم. وأحياناً كان أقل الأبناء مقدرة هو الذى يخلف أباه فى الحكم كما حدث عندما خلف سليم السكير ، أباه سليمان العظيم القانونى. ومن منظور أخلاقى فقد أثار تقليد إعدام الأمراء الملكيين بسبب فتنة محتملة - وليست حقيقية- الرعب فى المسيحية الغربية وبدا أنه يبرر وصم العثمانيين بإنعدام الإنسانية.
وعندما كان يحدد الوريث الشرعى بشكل واضح فقد كان يوضع تحت إقامة جبرية فعلية فى جناح النساء بالقصر السلطانى فى غرفة صغيرة كانت تعرف باسم القفص أو الزنزانة وذلك لحمايته من المنافسين المحتملين وكانت النتيجة الطبيعية لذلك هى أنه عند توليه العرش كان يفتقر إلى أي خبرة فى الحكم . كما كان يحدث فى الغالب أن يصبح معتلاً صحياً أو مشوهاً بدنياً من جراء حبسه الطويل . وقد كان لدى شاهات الصفويين الفرس نفس النظام من حبس الوريث الشرعى أو ولى العهد فى مجمع القصر وقد عانت مملكتهم أيضاً من جراء ذلك . وقد إمتد الخوف من الفتنة أو العصيان إلى خارج الأسرة الإمبراطورية وتخلل سائر النظام الإمبراطورى . فلطالما شُهر برؤساء الوزراء وحكام الولايات وطُردوا أو اُعدموا إذا بدا أن نفوذهم كان يزداد بشكل كبير . وقد حدث هذا كثيراً فى عهد سليم الكالح بحيث أصبح من المستغرب أن يكون هناك من ظل مستعداً لقبول المناصب العليا. وحتى سليمان القانونى وتحت تأثير زوجته الطموحة - روكسيلانا- قد قام بإعدام رئيس وزرائه المشهور إبراهيم . وفى مثل ذلك النظام القائم على سوء الظن فقد أصبح السلاطين يعتمدون بشكل متزايد على شبكة واسعة من الجاسوسية مركزها إسطنبول لمراقبة رعاياهم . وبالطبع لم يكن من شأن مثل هذا الموقف أن ينمى الموهبة والمبادرة . وقد إعتمد صلاح الإمبراطورية بالكامل على شخصية ومقدرة السلطان . فعندما لايكون كفؤا كانت الإمبراطورية تعانى بشدة ، إلا إذا كان على إستعداد لتسليم السلطة إلى رئيس وزراء ذى قدرات متميزة . وقد حدث هذا فى النصف الثانى من القرن السابع عشر عندما إستطاعت مجموعة من رؤساء الوزراء من عائلة كوبرولو السيطرة مؤقتاً على إضمحلال الإمبراطورية الطويل. ومن ناحية أخرى - وعلى العكس من ذلك - فبعد أي فترة قد تعانى فيها الحكومة المركزية ضعفاً نتيجة لعدم الكفاءة أو الإهمال فإن أي سلطان جديد كان يجد أنه من الضرورى أن يسترد سلطته كاملة من خلال إجراءات شديدة القسوة . وكانت تلك الإجراءات تقبل على أنها ضرورية لسلامة الإمبراطورية . لقد كانت الحرب المقدسة أو الجهاد من أجل إعلاء شأن الإسلام هو روح الإمبراطورية الجوهرى منذ تأسيسها ولذا يمكن تبرير الإنصراف العثمانى إلى الأهداف العسكرية وتفوقها على أعدائها عسكرياً لقرنين من الزمان على الأقل . لكن النزعة العسكرية العثمانية - وعلى العكس من تلك الخاصة بالعباسيين فى العصر الذهبى للإسلام - قد إرتبطت بإحتقار للتجارة والصناعة . وكانت النتيجة أنه عندما كانت الإمبراطورية فى أوج قوتها كانت الدول الأوربية المسيحية ذات الإقتصاديات الأكثر ابداعاً وإعتماداً على الصناعة قد أخذت تتجاوزها فى مجال القوة المادية بالفعل . وسرعان ماانعكس ذلك على ميزان القوة العسكرية أيضاً .
وهناك عامل لايمكن تجاهله فى تدهور الإمبراطورية الإقتصادي . ففى عام 1497م دار البرتغاليون حول رأس الرجاء الصالح وفتحوا طريقاً جديداً إلى الهند والشرق الأقصى فطوقوا بذلك الطريق التقليدى بين أوربا وآسيا عبر مصر والبحر الأحمر. وسرعان ماقامت المنافسة بين البرتغاليين والفرنسيين والإنجليز على السيطرة على الطريق الموازى عبر الخليج الفارسى العربى . ومع ذلك فلايجب المبالغة فى تأثير هذا العامل حيث أن تأثيره الأكثر تدميراً كان على مصر فقط . وركز التجار السوريون على الطريق البرى من ميناء اليكساندريتا (الإسكندرونة الحالى) عبر حلب إلى بغداد والبصرة بحيث نشأت تجارة ترانزيت مزدهرة من وإلى الشرق . ومع ذلك فإن معظم هذه التجارة قد سيطر عليها عناصر من الأجانب غير المسلمين الذين كانوا قد منحوا بعض الإمتيازات القانونية والمالية الخاصة من أجل حمايتهم عندما كانت الإمبراطورية قوية وإستطاعوا إستغلال هذه الإمتيازات عندما ضعفت . ولكن الأهم من تحول طرق التجارة كانت حقيقة تحول إقتصاد الشرق الإسلامى كله من الإقتصاد المالى والتجارى الذى ساد فى العصور الوسطى- والذى كان يمكن أن يستمر بسهولة ليناظر الإقتصاد الأوربى - إلى نظام إقطاعى عسكرى يقوم على الزراعة المعيشية. ومع ذلك فلم يحصن هذا الإمبراطورية من الجائحة الإقتصادية التى حلت بكل إقليم البحر المتوسط فى القرن السادس عشر بسبب التدفق الهائل لسبائك الذهب والفضة من أمريكا الأسبانية والتى تسببت فى إنخفاض قيمة العملة الفضية العثمانية وأدت إلى تضخم مرتفع وضرائب متزايدة . كانت الحكومة العثمانية تواجه بالفعل مشاكل فى توفير نفقاتها العسكرية الكبيرة وكان عدم وجود قطاعات صناعية ومالية مزدهرة فى الإقتصاد العثمانى- بعكس الحال فى غرب أوربا - قد ساهم بشكل كبير فى تحول ميزان القوة عبر السنين . وأنه بعيد عن الصواب أن نتصور أن العثمانيين كانوا دائماً عدائيين تجاه العلوم والفنون وكما إشتهروا بذلك فيما بعد . فقد كان سليمان العظيم رجلاً من عصر النهضة وكان المعرض الذى أُقيم فى واشنطن ولندن عام1988م عن حياته وزمانه كافياً لتصحيح أي إنطباع عنه بالمادية والجهل . ومن المؤكد أن العرب قد إعتبروا قرون الحكم العثمانى سنوات من الركود الثقافى ولكن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى ماحدث من تقليل شأن اللغة العربية وفقدان الثقة بالنفس - سياسيا . ومع ذلك فإن الشئ الذى لايمكن إنكاره هو أنه بينما كانت الإمبراطورية فى ضعف وإضمحلال فإن قادتها من السلاطين والباشوات والجنرالات ورجال الدين كانوا قد إنطووا على أنفسهم بحيث أصبحوا عدائيين بشكل متزايد - مزدرين ظاهرياً- للإبداع والحداثة والمؤثرات الخارجية من كل نوع .
دعا الكبرياء القومى الإسلامى إلى ضرورة بذل المحاولات لمنافسة القوى الأوربية وذلك بتبنى بعض أفكارهم وتقنيتهم ولكن تلك المحاولات لم يكن من شأنها أن تنجح إلا إذا تم إصلاح النظام العثمانى الجامد والرجعى من الداخل. والواقع أنه قد بُذلت مجهودات لتحقيق تلك الإصلاحات ورغم أنها كانت مخلصة وبعيدة الأثر فإنها لم تسفر عن شىء فى النهاية . كان الفشل العثمانى الثانى فى إحتلال فيينا عام 1683م مرحلة قاطعة فى الإضمحلال العثمانى الطويل فى أوربا والتحول القهرى لمركز الجاذبية فى الإمبراطورية من الغرب إلى الشرق . وعند نهاية القرن السابع عشر الميلادى ظهر منافس وعدو جديد فى شكل روسيا الإمبراطورية التوسعية العدوانية . كان القيصر بطرس الأكبر قد عزم على جعل روسيا قوة أوربية وآسيوية كبرى وكانت الإمبراطورية العثمانية هى العقبة الرئيسية أمامه . ومن ثم بدأ قرنان من الحروب الروسية التركية المتقطعة والتى كان يفصل بينها فترات من السلام العدائى . وبرغم أن الإمبراطورية العثمانية قد أصبحت وفى معظم الأحيان بعد ذلك فى موقف دفاعى فقد كان إنسحابها من أوربا بطيئاً وتدريجياً . ظلت الجيوش العثمانية مرهوبة الجانب تتحلى بالشجاعة وقد إستفادت من منافسة القوى المسيحية فى أوربا لبعضها البعض. وفى النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادى إستردت بعض المواقع التى فقدتها فى المورة وبلجراد . وفى نهاية ذلك القرن فشلت الإمبراطورة كاترين العظيمة فى تحقيق هدفها المعلن فى تفكيك الإمبراطورية العثمانية وجعل القسطنطينية عاصمة لإمبراطورية بيزنطية جديدة. ومع ذلك فبموجب معاهدة كوشوك كينارجا فإن السلطان مصطفى الثالث لم يفقد سلطانه على بعض من رعاياه المسيحين فقط ولكن أيضاً سيادته على التتار المسلمين فى منطقة القرم . وحيث أنه كان يدعى خلافة المسلمين فإن تلك كانت ضربة أقوى من منحه لكاترين وصاية فعلية على رعاياه المسيحيين الأرثوزكس .



























الفصل الثانى

الإسلام فى موقف الدفاع من سنة 1800م فصاعدا

















2. الإسلام فى موقف الدفاع – من 1800م فصاعدا

عند نهاية القرن الثامن عشر مال ميزان القوة بين الدول المسيحية الأوربية وبين العالم الإسلامى الذى تمثله الإمبراطورية العثمانية بشكل قاطع ضد إسطنبول . كان التراجع المستمر من أوربا يعنى أن مركز الإمبراطورية قد تحول إلى الشرق. ففى القرون الثلاثة الأولى من عمرها كان معظم الإهتمام العثمانى موجهاً نحو الغزو والسيطرة على البلاد المسيحية وتوسيع العالم الإسلامى ناحية الغرب. لقد كان ذلك هو منبع قوة ومجد الإمبراطورية . لقد كان إمتلاك المناطق الواسعة التى يسكنها العرب المسلمون بشكل أساسى- بما فى ذلك الأماكن الإسلامية المقدسة فى الجزيرة العربية والمدن الإسلامية العظيمة ذات الماضى العريق مثل القاهرة ودمشق وبغداد- أمراً هاماً ولكن يمكن أن يقال أنه كان أمراً مسلماً به. كانت الولايات التى تتكلم العربية والتى كانت فى حالة من الإضمحلال والركود الإقتصادى تتمتع بقدر كبير من الإستقلال تحت حكم الممالك المحلية مثل المماليك فى مصر والعراق وأمراء الدروز فى جبل لبنان .
وفى القرن التاسع عشر أصبحت الإمبراطورية العثمانية رجل أوربا المريض من وجهة نظر غربية. وكرد فعل لذلك وضع السلاطين العثمانيون مزيداً من التأكيد على زعامتهم للعالم الإسلامى . فرجل أوربا المريض كان يمكن أن يظل رجل آسيا القوى. وتم إحياء لقب خليفة المسلمين الذى كان إستعماله قد توقف على مدى خمسة قرون . ومن خلال مماثلة زائفة بين الخلافة والبابوية بدأ مندوبو السلطان فى إدعاء السيادة الروحية على جميع المسلمين حتى ولو كانوا تحت حكم غير إسلامى . وبدأت إمبراطورية القرون الأولى التوسعية تصبح قلعة إسلامية تحت الحصار . لم يكن العالم الإسلامى يواجه هجوماً على مواقعه الأمامية مثل ذلك الذى عرفه قبل سبعمائة سنة فى الحملة الصليبية الأولى ، لكنه كان يخترق بشكل أكثر براعة ومكراً . فقد كانت الجاليات التجارية الأجنبية غير الإسلامية قد مُنحت بعض الإمتيازات والحصانات التى عرفت بإسم الإمتيازات الأجنبية من أجل أن تفيد إقتصاد الإمبراطورية أساساً. وقد مُنحت أولى تلك الإمتيازات للجنويين فى ضاحية جالاتا فى إسطنبول فوراً بعد الإستيلاء على المدينة فى سنة 1453م. وأشهر تلك الإمتيازات هى التى منحها سليمان العظيم إلى فرانسوا الأول ملك فرنسا فى سنة 1535م كمكافأة للتعاون الفرنسى مع السلطان ضد ملوك الهابسبورج المسيحيين . لم تكن تلك الإمتيازات تجارية فقط فقد منحت الفرنسيين أيضاً حرية دينية كاملة فى الإمبراطورية وأهم من ذلك فقد منحتهم حق حماية الأماكن المسيحية المقدسة . وقد وصل ذلك إلى حد تأسيس وصاية فرنسية على كل اللاتين الكاثوليك فى الليفانت . وفى منتصف القرن الثامن عشر وسعت هذه الإمتيازات وأُكدت كمكافأة للتأييد الدبلوماسى الفرنسى فى المفاوضات . أما الإمتيازات القانونية الناتجة عن هذه الإمتيازات الأجنبية فقد كانت هائلة . وأصبح للمحاكم القنصلية المختلطة سلطة قضائية كاملة على رعايا البلاد المعنية بها ولم يعد المواطنون الأجانب غير المسلمين الذين يعيشون فى تركيا خاضعين للقانون العثمانى مهما كان عظم الجرم الذى قد يرتكبونه . كانت فرنسا تسبق منافسيها الأوربيين فى ذلك المجال ولكن ليس كثيراً . وكذلك إدعت روسيا حقوق حماية مماثلة على الأرثوذكس فى الإمبراطورية . أما روابط بريطانيا الخاصة فقد كانت فقط مع الجماعات الدينية الأصغر مثل اليهود والدروز ولكن تلك الروابط إكتسبت قوة من خلال نفوذ إنجلترا البحرى والتجارى المتنامى فى العالم . وعند نهاية القرن الثامن عشر مثلت قوة إنجلترا البحرية وطموحها التجارى تهديداً آخر للسيادة العثمانية فى العالم الإسلامى على الحدود الشرقية من الإمبراطورية .
لم يكن البريطانيون هم أول من حل بقوة فى الخليج الفارسى/العربى حيث كان البرتغاليون قد سبقوا إلى هناك بحوالي ثلاثين سنة قبل العثمانيين و لمتابعة تحقيق هدفهم فى بناء إمبراطورية عظيمة فى الهند والشرق فقد حاولوا السيطرة على البحر الأحمر والخليج العربى وقاموا بمهاجمة ونهب الساحل العربى الشرقى من مسقط إلى البحرين مخلفين وراءهم قلاعاً وحاميات عسكرية تسيطر على جماعات العرب الوطنيين المشتغلين بالتجارة وصيد اللؤلؤ. وفى خلال القرن السادس عشر تحكم البرتغاليون فى مياه الخليج ومضيق هرمز. وكان الأتراك يتمكنون فى بعض الأحيان وبمساعدة القبائل المحلية من تحدى نفوذهم وطردهم من البحرين ومسقط ولكن تفوق الأسطول البرتغالى كان يحسم الأمر فى النهاية. كان الوجود البرتغالى يمثل أيضاً إهانة بالغة للفرس على الجانب الشمالى من الخليج . وإعترض الشاه إسماعيل الأول مؤسس الملكية الصفوية التى حكمت فارس من سنة1501م إلى سنة1736م بشدة على ذلك الوجود ولكن وبسبب صراع الحياة والموت الذى شغل به ضد الأتراك العثمانيين فلم يستطع أن يفعل أكثر من ذلك .
والواقع أنه فى خلال القرن السادس عشر كان وجود فارس كجار معاد على الحدود ألعثمانية الشرقية هو الذى أضعف من قدرة العثمانيين على التوسع بإتجاه أوربا. وفى سنة 1599م حاول الإنجليز - بدون نجاح - إقناع الفرس بالتحالف مع القوى المسيحية ضد الأتراك. وقد جاء التحدى الحقيقى للبرتغاليين من قوتين متنافستين هما إنجلترا وهولندا. فعند نهاية القرن السادس عشر كان المغامرون الإنجليز والهولنديون ينافسون البرتغاليين فى تجارة التوابل. وقد شجع شاه فارس عباس الأول الذى حكم من سنة1571م حتى سنة 1629م- وكان إدارياً وقائداً عسكرياً كبيراً - شركتى الهند الشرقية الإنجليزية والهولندية على تأسيس فروع خاصة لها فى فارس مانحاً إياها إمتيازات خاصة عندما كانت فى مهدها. وفى سنة 1602م إستطاع أن يطرد البرتغاليين من موقعهم على الأراضى الفارسية شمال جزيرة هرمز وبعد عشرين سنة من ذلك التاريخ وبمساعدة أسطول شركة الهند الشرقية الإنجليزية إستطاع طرد البرتغاليين من هرمز نفسها. وكتعبير عن إمتنانه للشركة فقد منحها إمتيازات خاصة فى ميناء بندر عباس الذى يحمل إسمه. ورغم أنه كان حاكماً قويا ومدافعا متحمسا عن الفرع الشيعى للإسلام فإن الشاه عباس مثله مثل السلطان محمد الفاتح كان قد إستن سابقة منح الإمتيازات لغير المسلمين والتى كان من شأنها أن تهىء الفرصة للأجانب للسيطرة على جزء كبير من النشاط الإقتصادى للعالم الإسلامى.ومع ذلك فإن ذلك الإختراق الغربى للعالم المادى لم يكن له إلا تأثير بسيط على عقول ومعتقدات المسلمين فى الإمبراطورية و الذين لم يبدوا أي إهتمام بأساليب حياة الشعوب غير الإسلامية بسبب ثقتهم التامة بتفوق الإسلام .لقد كان التناقض مذهلاً بين العصر الذهبى للإمبراطورية الإسلامية الأولى والتى لم تتردد فى الإستفادة من حكمة ومعرفة الحضارات الأخرى وبين ذلك الموقف. كان قليل من الأفراد فقط يتأمل فى أسباب تقدم القوى المسيحية. وكما قد يتوقع فإن أكثر المحاولات جدية فى تبنى أساليب الحداثة الغربية كانت فى المجالات العسكرية والبحرية. وبالطبع فقد جلبت تلك الإهتمامات معها بعض الإهتمام بالرياضيات والعلوم البحرية ورسم الخرائط. وفى بدايات القرن الثامن عشر أدخل السلطان - اللطيف محب السرور- أحمد الثالث بعض العادات الفرنسية وأساليب فن العمارة إلى العاصمة ولكن تأثير ذلك كان ظاهرياً تماماً. فمثلاً- وبشكل لايعقل- كان هناك منعاً تاماً تقريباً للطباعة بالتركية أو بالعربية. وقد عرفت الطباعة لأن اليهود والأرمن والإغريق بدأوا فى إدخالها من أوربا منذ أخريات القرن الخامس عشر وبدأوا فى تأسيس مطابعهم الخاصة ولكن السلطات الدينية أصرت على المنع بالنسبة للمسلمين.
وفى سنة 1727م مُنح على مضض أول تصريح لأول مطبعة تركية لطباعة كتب تعالج موضوعات غير دينية . وعندما أُغلقت فى عام 1742م كانت قد طبعت سبعة عشر كتاباً فقط ، فى اللغة والتاريخ والجغرافيا .ولم يسمح بإعادة تشغيلها مرة أخرى إلا فى عام 1784م . أما عادة توظيف المهتدين إلى الإسلام من غير الأتراك كمسئولين كبار فقد كانت قد تغيرت منذ الأيام الأولى للإمبراطورية وأصبح الموظفين آنذاك من الأتراك بشكل أساسى إلا أن هؤلاء كانوا فى العادة جهلاء غير قادرين وغير راغبين فى تعلم اللغات الأجنبية ، محدودى الإهتمام بباقى العالم. ومن ثم إعتمدت الإمبراطورية على اليهود والمسيحيين كمترجمين. وقد كان رئيس المترجمين الإغريقى شخصاً ذا سلطة ومسئولية . ولذا فقد تركت الحركات العظيمة للأفكار فى غرب أوربا- فى عصر النهضة وعصر الإصلاح والإصلاح المضاد- العالم العثمانى كما هو لم يمس تقريباً . وينطبق نفس الشئ على فارس الصفوية .
وفى العالم الناطق بالعربية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث شكل المسلمون الغالبية العظمى من السكان فقد قُبلت قيادة الأتراك للأمة الإسلامية . وأيضاً حيث حققت العصبيات المحلية قدراً كبيراً من الإستقلال الذاتى كما كان الحال فى مصر وتونس والعراق فى القرن الثامن عشر فإن حكامها - مع ذلك - لم يصلوا إلى درجة تحدى السيادة العثمانية أو محاولة تأسيس دولة قومية مستقلة على أسس إقليمية حيث لم يكن لذلك الإصطلاح معنى فى ذلك الوقت . وبالمثل فإن الأقليات المسيحية وقد نُظمت فى مجالسها الملية ذات الإستقلال الذاتى قد قبلت البناء الكلي للإمبراطورية . وقد كان ولاؤهم دينياً أكثر منه سياسياً كما كانوا قانعين بمركزهم الأدنى فى المجتمع . جاء أشهر رفض لقبول المسلمين بقيادة الأتراك للإسلام من الجزيرة العربية . ففى منتصف القرن الثامن عشر وفى نجد فى وسط الجزيرة العربية ظهر مصلح دينى عظيم إسمه محمد بن عبد الوهاب مبشراً بعقيدة التوحيد الأساسية أو بوحدانية الله مستنكراً النكوص السائد عن الدين إلى الوثنية وداعياً إلى العودة إلى طهارة الإسلام الأولى. شكل ابن عبدالوهاب تحالفاً قوياً مع ملكية محلية بارزة هى بيت سعود ومن ثم فقد زرع البذرة التى نمت بعد قرنين تقريباً فى شكل المملكة العربية السعودية . وفى النصف الثانى من القرن الثامن عشر إنتشر المحاربون الوهابيون شمالاً إلى منطقة الخليج والعراق حيث نهبوا الأماكن الشيعية المقدسة فى كربلاء والنجف . ثم تحولوا إلى الغرب و إستولوا على الحجاز بأماكنه الإسلامية المقدسة فى مكة والمدينة عام1806م وقاموا بتحطيم كثير من مقابر الأولياء وجردوا الكعبة- وهى أقدس المزارات الإسلامية فى جامع مكة الكبير- من زينتها التى كانت مثار إستفزاز لتزمتهم الدينى الشديد . ومن ثم أقام محمد بن سعود الصلوات العامة بإسمه بدلاً من الخليفة السلطان العثمانى حيث لم يعتبر الأتراك العثمانيين جديرين بأن يكونوا حراساً للأماكن المقدسة . ومع ذلك فقد كان ذلك كله مازال يقع فى المستقبل لأنه عندما كان القرن الثامن عشر يقترب من نهايته كانت سلطة الخليفة على العالم الإسلامى السنى مازلت قوية لم تمس أبداً .
وفى عام1789م وقع حدثان ساعدا على كسر عزلة العثمانيين وهما قيام الثورة الفرنسية وصعود السلطان المصلح سليم الثالث إلى العرش . فقد جلبت الثورة الفرنسية المفاهيم الجديدة للحرية السياسية والمساواة كما أنها قد خلقت أيضاً الأساس للوطنية كما كانت معروفة على مدى القرنين السابقين والناتجة عن التفان والولاء لدولة قومية. والعنصر الأهم فى ذلك هو أن الحركة كانت علمانية فهى لم تكن غير مسيحية فقط ولكنها كانت - على الأقل مبدئيا ً- ضد المسيحية أيضاً . ولأنها كانت كذلك فلم يكن من شأنها أن تثير العداء الإسلامى الفورى والذى كان يمكن أن يثيره أي شئ ذو طبيعة صليبية . كان سليم الثالث مهتما بالأفكار الخارجية الجديدة أكثر من أي من أسلافه وكذلك بإمكانية إسترجاع قوة الإمبراطورية من خلال الإصلاح. وكان يراسل لويس السادس عشر سراً قبل الثورة كما كان شديد الإعجاب بالثقافة الفرنسية. ولم يرده عن ذلك الإعجاب قتل رجال الثورة للملك بل الواقع أن النجاح الباهر للجيوش الفرنسية ضد أعداء الثورة قد شجعه على إستقدام معلمين فرنسيين إلى مدارسه العسكرية والبحرية الجديدة حيث أصبحت اللغة الفرنسية أحد مواد الدراسة الإجبارية . وبدأ ظهور طبقة جديدة كبيرة من شباب الضباط الأتراك على دراية بأساليب الحياة الغربية والمستعدة للتعلم من التفوق التقنى الغربى . وكجزء من الإنفتاح على الغرب سمح السلطان سليم للمرة الأولى بتأسيس سفارات فى خمس عواصم أوروبية رئيسية على أساس تبادلى . وأكثر أهمية من ذلك أن سليم الثالث حاول تطبيق إصلاحاته على الإدارة الداخلية للإمبراطورية . فعندما سمع عن هزيمة جيوشه على يد قيصر روسيا كاترين العظيمة عقد مجلسا لتحديد أسباب الهزيمة والكارثة وإقترح الإصلاح كعلاج وحيد . وقد أصر أيضاً على ضرورة أن ينتخب الناس رؤساء البلديات وأعضاء المجالس بدون تدخل من ولاته كما حاول القضاء على الإبتزاز ونظام الإلتزام الذى كان يسمح بمقتضاه للولاة المحليين أو جامعى الضرائب بالإستيلاء على جزء من دخول الضرائب . ومع ذلك فلم تمتد إصلاحات السلطان سليم الثالث إلى الولايات العربية فى الإمبراطورية حيث كانت السلطة تتركز بقدر كبير فى أيدى الحكام المحليين . ففى دمشق كانت السلطة فى أيدى حكام من أسرة العظم فى معظم القرن الثامن عشر. وقد ظل هؤلاء مخلصين للسلطان إلا أنهم كانوا يديرون شئون ولاياتهم بإستقلال تام . وبالمثل حكم أحمد باشا الجزار وعصابته من المماليك - وكان بوسنياً عديم الرحمة- منطقة صيدا على الساحل السورى . وإستطاعوا كبح جماح الإنكشارية وصد البدو قطاع الطرق . ولكن بينما إزدهرت المدن كان الريف غير آمن ومهجور. وتدفق الفلاحون المزارعون على المدن بسبب إستنزافهم بالضرائب. وإزدهرت الزراعة فقط فى المناطق الجبلية على يد أمراء الموارنة والدروز المحليين . وكان الموقف فى العراق متشابها حيث وجد صراع دائم بين مجموعات من المتنازعين على السلطة . وكان التناقض بين بلاط قصور الباشوات الغنية فى بغداد والبصرة وبين تخلف وفقر الريف المهجور حتى أعظم مما كان فى سوريا . وهكذا أصبحت أعظم المناطق إنتاجاً للطعام فى العصور الوسطى على شفا المجاعة .
ولكن الموقف كان مختلفاً إلى حد ما فى ولاية مصر الهامة حيث لم يكن من الممكن تدمير إنتاجية وادى والنيل ودلتاه التى ربما تكون أغنى أرض زراعية على وجه الارض .فبأقل قدر من الأمن والحكم الجيد كانت مصر قادرة على تصدير البن والقمح والأرز إلى الإمبراطورية وكان حرفى المدن ينتجون منسوجات رائعة . ولسنوات قليلة تمكن على بك الكبير وهو أحد كبارالمماليك (1768-1772م) من توفير الحكومة المركزية القوية التى تحتاجها البلاد ولكن عند وفاته إستؤنف الصراع الطويل بين المسئولين العثمانيين وبكوات المماليك وراحوا يتنافسون على إنتزاع أكبر قدر من أموال الفلاحين سيئي الحظ حتى إنخفض عدد السكان إلى أقل من مليونين مقارنة مع حوالي سبعة أو ثمانية ملايين فـى العصر الرومانى . ولكـن أرض مصـر كانت ماتزال جائزة باهرة - فبصرف النظر عن خصوبتها الطبيعية- فقد تمتعت مصر بموقع جغرافى ممتاز عند ملتقى قارتى آسيا وإفريقيا مشرفة بذلك على الطريق الرئيسى إلى الهند والشرق . وفى سنة 1798م رأي نابليون بونابرت ابن التاسعة والعشرين ودكتاتور فرنسا الطموح الذى هزم النمسا فى عدة حملات باهرة فى إحتلال مصر وسيلة لضرب مصدر ثروة بريطانيا - عدو فرنسا الباقى- والتحكم فى الطريق إلى الهند وإمتدت طموحاته لأبعد من ذلك .
عرض تاليران وجهة نظره على حكومة الإدارة التى كانت تحكم فرنسا آنذاك. وقال( إن حربنا مع هذه القوة تمثل أفضل فرصة لغزو مصر- فحيث أن إنجلترا مهددة بإنزال وشيك على شواطئها فهى لن تستطيع أن تهجر سواحلها لتمنع مشروعنا وسوف يقدم لنا هذا فرصة مناسبة لطرد الإنجليز من الهند بإرسال 15000 جندى من القاهرة عبر السويس) . إن مثل هذا الإنجاز لو تم لكان من شأنه أن يحطم الإمبراطورية البريطانية العالمية الوليدة . سار بونابرت بعد نزوله بالقرب من الإسكندرية فى يوليو عام1798م صاعداً بحذاء النيل وهزم جيش المماليك فى معركة الأهرام . وهرب أميرا المماليك المعينان من قبل العثمانيين إلى الصعيد تاركين بونابرت يؤسس حكومته العسكرية للإحتلال . وقد كان هذا الحدث الضخم أول غزو غير إسلامى لقلب العالم الإسلامى منذ زمن الحملات الصليبية. بذل بونابرت جهدا خاصاً كى يظهر إحترامه للإسلام لدرجة أنه أخبر شيوخ الجامع الأزهر- الجامعة الإسلامية العظيمة - أنه من أتباع محمد وأنه وجيشه يعملان تحت حماية النبى الخاصة. لكن الشيوخ لم يتأثروا بذلك وتساءلوا لماذا لم يعتنق هو وجنوده الإسلام إذن ؟ كذلك حاول بونابرت إقناع المصريين بأن صراعه لم يكن مع السلطان العثمانى ولكن مع المماليك ، وبأنه جاء ليخلصهم من طغيانهم . وتعامل مع شيوخ المصريين ووجهائهم كقادة سياسين معينا إياهم فى الدواوين أو المجالس لإدارة المدن الكبرى مع مفوض فرنسى كرئيس ومستشار. كان ذلك شكلا مستنيرا من الحكم الإستعمارى الغير مباشر. ولكنه فشل بشكل كبير فى كسب قلوب وعقول المصريين . وقد وصف الجبرتى- وهو شيخ أزهرى ومؤرخ ترك رواية عن الإحتلال الفرنسى- ذلك الإحتلال بأنه كان بداية إنعكاس النظام الطبيعى . ومثل إخوانه المسلمين- فقد أزعجه ترقى إخوانه المسيحيين من الأقباط المصريين أو الإغريق كموظفين وجامعى ضرائب وكذلك تدريبهم للإلتحاق بالجيش . ظل الفرنسيون دخلاء كما أن إدعاءهم بأنهم جاءوا لتدعيم سلطة السلطان لم يصدقه أحد . لكن رغم ميله إلى القيصرية فإن بونابرت كان نتاجاً لإستنارة القرن الثامن عشر وقد أحضر معه إلى مصر مجموعة من 165 عالماً وفناناً وأديباً . وأسست بعثة العلماء هذه مطابع عربية وفرنسية فى القاهرة كما أسست المجمع المصرى على غرار المجمع الوطنى فى باريس.
وقد درس أعضاؤه آثار ولغات مصر القديمة ووضعوا أساس علم المصريات . وكذلك درسوا إقتصاد ومجتمع مصر فى ذلك الوقت وقاموا بدراسة مبدئية لمشروع قناة السويس المستقبلى . وقد أثار كتاب وصف مصر المبهر والمؤلف من عشرين مجلداً - والذى كان ثمرة جهودهم- إهتمام أوربا بكل من مصر الفرعونية والعالم الإسلامى المعاصر آنذاك والذى كان يبدو لهم غامضا وغير معروف. وبذلك إكتسب الإستشراق فى الغرب قوة دفع جديدة تماماً. وزار المثقفون المصريون - أمثال الشيخ الجبرتى- المجمع والمطبعة وشاهدوا التجارب الكيمائية والعلمية. وقد شاهد الجبرتى بالوناً يطلق فى ميدان الأزبكية بالقاهرة. ولكن بينما كان المصريون يعبرون عن فضولهم فى تأدب بشأن هذه العروض للتقنية الغربية فإن معتقداتهم الأساسية لم تهتز.
وفيما يتعلق بأهدافها الإستراتيجية فإن حملة بونابرت على مصر قد أثبتت فشلها. فقد شكل السلطان سليم تحالفاً ضده مع عدوى فرنسا ، إنجلترا وروسيا . ووضع تحطيم أسطول بونابرت فى خليج أبى قير بواسطة نيلسون - فى أول أغسطس عام1798م - خط مواصلاته الوحيد مع فرنسا تحت رحمة أعدائه. وعندما زحف على سوريا ليتدارك هجوماً تركياً رُد على أعقابه وإضطر إلى إنسحاب كارثى. وفى أغسطس 1799م غادر مصر مع عدد قليل من أتباعه وإنسل عائداً إلى فرنسا حيث كان يجرى هناك صراعاً حاسماً على السلطة. صمد خلفاؤه فى مصر لسنتين أخريين مواجهين ثورات كانت تجرى بين الحين والآخر فى القاهرة فى نفس الوقت الذى كانوا يتعرضون فيه لهجوم القوات الإنجليزية التركية من أجل إجبارهم على الإنسحاب. ورغم نجاحهم فى صد تلك الهجمات أكثر من مرة فإن موقفهم الآخذ فى الضعف أجبرهم فى النهاية على الإستسلام والجلاء عن مصر. كان غزو بونابرت قصة قصيرة فى تاريخ مصر الطويل ولكنه كان ذا أثر هام ودائم . فهو لم يثر فقط موجة من الإهتمام فى الغرب بالمناطق العربية الإسلامية فى الإمبراطورية العثمانية لكنه حدد أيضاً بداية الصراع الطويل بين القوى الأوربية من أجل النفوذ والسيطرة على تلك الأقاليم. وقد دام ذلك الصراع لقرن ونصف. وفى البداية كان يشمل إنجلترا وفرنسا فقط ولكن روسيا أيضاً أصبحت مهتمة بإقليم الشرق الأوسط الواقع على حدودها الجنوبية. وفى الجزء الأخير من القرن التاسع عشر فإن الدولتين الجديدتين- ألمانيا وإيطاليا- بدأتا أيضاً فى التدخل.
ردت بريطانيا على تهديد بونابرت لمصالحها الحيوية بمساعدة السلطان العثمانى على طرد الفرنسيين. وإمتدت المنافسة الإنجليزية الفرنسية أيضاً إلى الخليج والمحيط الهندى. فبعد نشوب الحرب بين فرنسا وإنجلترا فى سنة 1793م أرسلت فرنسا عدة بعثات إلى إسطنبول وطهران لمحاولة تأمين تحالف ودى بين تركيا وفارس ضد روسيا ولإحياء النفوذ الفرنسى فى فارس كما ظهر العملاء الفرنسيون أيضاً فى الخليج لدراسة تحركات السفن الإنجليزية بين المياه العربية والهندية. إكتسب التدخل الفرنسى قوة دفع جديدة تماماً بغزو بونابرت لمصر فإزداد هجوم المراكب الحربية والخاصة المسلحة الفرنسية من قواعدها فى موروشيوس على السفن التجارية البريطانية. إستمرت حقبة نابوليون فى ذلك الإقليم حتى طرد الفرنسيون من موروشيوس فى عام 1810م. كان أول رد فعل لبريطانيا على وصول بونابرت لمصر هو توقيع شركة الهند الشرقية معاهدة مع سلطان مسقط. وفى عام 1820م وقُعت معاهدات مماثلة مع حكام محليين آخرين على طول ساحل الخليج. وقد تطورت هذه المعاهدات إلى مهادنات قابلة للتفاوض سنوياً إجتهدت بريطانيا خلالها لتأسيس سلام بريطانى فى مياه الخليج. وفى هذه المرحلة كان طموح بريطانيا فى ذلك الإقليم بحرياً تجارياً أكثر منه إستعمارياً. لم يكن هناك بعد أي تفكير فى تحدى سلطة الإمبراطوريتين العثمانية أو الفارسية أو الحكام العرب المستقلين الذين كانوا خارج مجال النفوذ العثمانى. وطالما ظل هؤلاء لايقدمون أي إمتيازات لمنافسيها فإن إهتمام بريطانيا كان ينصب فقط على ضرورة إلتزم هؤلاء بالمساعدة فى محاربة القرصنة.



















الفصل الثالث

مصر محمد على- منافس العثمانيين.


























3. مصر محمد على – منافس العثمانيين

لقد كان لقصة نابوليون أقل أثر مباشر على مصر ولكن من خلال هزيمة المماليك وإضعاف سيطرتهم على البلاد فقد كان لها تأثير قوى غير مباشر .وعندما رحل الفرنسيون عاد البكوات من مخابئهم وحاولوا إعادة فرض سيطرتهم وفى نفس الوقت حاول السلطان سليم الثالث طردهم وإسترجاع حكم إسطنبول المباشر لكنه فشل لأن البريطانيين الذين أخذوا جانب المماليك كانوا مازالوا يحتلون الإسكندرية وعندما رحلوا عام 1803م خلفوا وراءهم موقفا لم يكن فيه الوالى التركى أو البكوات المماليك على قدر من القوة يمكنهما من الفوز على الطرف الآخر ومن ثم نشأت سنتان من الفوضى والحرب الأهلية. وإزداد الموقف سوءً عندما تمردت القوات العثمانية الألبانية على الوالى وتناقلت السلطة بين مندوبى السلطان والجنود المتمردين من جهة وبين بكوات المماليك الذين إنشقوا بدورهم إلى عصبتين من جهة أخرى .
وفى خضم تلك الفوضى تفوق محمد على- وهو أحد قادة الفرق الألبانية العثمانية الذين نزلوا مع الحملة العسكرية الإنجليزية التركية سنة 1801م - كحليف لبعض قادة المماليك ضد الولاة العثمانيين الإسميين. وفى 13 مايو عام1805م طلب العلماء المسلمون المصريون وكبار التجار وبعض الوجهاء الذين إعتبرهم أهالى القاهرة وكلاء ومتحدثين بإسمهم من محمد على أن يكون حاكماً عليهم. كان من الطبيعى أن يشك السلطان سليم فى نيات محمد على. والواقع أن هناك بعض الشك فى أن محمد على قد ساعد فعلاً على إزدياد حدة الفوضى التى جعلت المصريين يطلبون منه أن يكون منقذهم منها. وفى محاولة لإقصائه عن مصر عينه السلطان والياً على جدة فى الجزيرة العربية. ولكن وجهاء القاهرة وبتأييد من العامة إتحدوا ليعلنوا أنهم يريدون أن يحل محمد على محل خورشيد باشا الوالى العثمانى آنذاك. وبعد عدة أشهر قليلة أخرى من الفوضى خضع السلطان سليم للأمر الواقع وثبت محمد على كوالى على مصر. وبهذه الطريقة وصل أحد أهم شخصيات القرن التاسع عشر إلى حكم مصر وقدر لمملكته أن تحكمها سواء فى الواقع أو بالإسم لمدة قرن ونصف حتى إقصاء فاروق- حفيد حفيده - عن العرش سنة 1952م.
كان محمد علي الذي ولد على ساحل بحر إيجه مزيجاً نادراً من الجندي والقائد السياسي العبقري . ورغم أنه كان أمياً تقريباً فلم يكن متعصباً ضيق الأفق ولأنه قد عمل كتاجر دخان فى شبابه فقد كان قد إعتاد على التعامل مع غير المسلمين والأوربيين. وكان ذكاؤه الحاد سريعاً فى إستيعاب الحقائق الجديدة وتحليل أهميتها. ورغم أنه كان قاسيا شديد الطموح وقادراً على إرتكاب أعمال شديدة الوحشية فقد كان ذا سحر أيضاً وكان الزوار الأجانب- مهما كانت مكانتهم - يجبنون أمام تحديقه الثاقب قبل أن يستسلموا إلى الإعجاب به . لم يكن محمد على يعتبر نفسه مصرياً أوعربياً ولم يتكلم اللغة العربية أبداً. ولكنه قرر فى عام 1805م أن يعتبر مصر قاعدة لنفوذه وكان عليه لتحقيق ذلك أن يحول الولاية العثمانية إلى دولة قومية بالمعنى الذى كانت عليه زمن الفراعنة. وعندما تمكن من ذلك كان قد إقترب جداً من الإطاحة بالإمبراطورية العثمانية نفسها .لم يمكنه تعيينه والياً من السيطرة على مصر لأن بكوات المماليك كانوا مازالوا يسيطرون على الريف خارج القاهرة كما ظلت بريطانيا تتدخل إلى جانبهم وبمزيج من المكر والقسوة شرع فى تحطيم المماليك ولكن كان عليه أن يتعامل مع التهديد البريطانى أولا. وفى هذا الخصوص ساعدته حقيقة أنه بينما كانت بريطانيا وروسيا تتنافسان لإجبار سليم على الدخول فى تحالف ضد فرنسا فإن السلطان قد تصالح مع بونابرت. وكان سليم مازال يكن الإعجاب لورثة الثورة الفرنسية وظل الضباط الفرنسيون يدربون قوات المدفعية فى جيشه. ولاشك أنه كان أيضاً مأخوذاً بإنتصارات بونابرت الجديدة على النمسا. وقد إعترف بنابوليون كإمبراطور للفرنسيين. وقد أحنق ذلك بريطانيا وروسيا فزادا من ضغطهما الإبتزازى على سليم. وفى سنة 1807م أبحر أسطول بريطانى بقيادة الأدميرال ديكورث إلى بحر مرمرة ليطلب إستسلام الأسطول العثمانى منذراً بأنه فى حالة عدم الإمتثال لذلك فإنه سوف يحرق ذلك الأسطول ويضرب إسطنبول بالقنابل. لكن السلطان إستطاع بمساعدة سباستيانى- وهو سفير وجندى فرنسى سابق- تنظيم دفاعات العاصمة وإبعاد الأسطول البريطانى مما جعل ديكورث يبحر إلى الإسكندرية وينزل حملة عسكرية لتدارك إعتداء فرنسى محتمل جديد فى البحر المتوسط. ومع ذلك فقد تم صد تلك الحملة. ويسجل الجبرتى أن موظفى محمد على أخبروا قيادة الحملة أنه ليس لديهم إستعداد لتركهم ينزلون لحماية مصر من الفرنسيين لأن مصر هى من ولايات السلطان. كمارفض المماليك عرض بريطانيا لمساعدتهم لأنهم ماكانوا ينضمون إلى المسيحين فى محاربة المسلمين. تصاعدت المقاومة الشعبية وأوقعت بالبريطانيين هزيمة حادة فى رشيد. تجنب محمد على - بذكاء – المواجهة الكاملة مع البريطانيين فى الإسكندرية ووافق على شروط سهلة لإنسحاب أسطولهم وقواتهم العسكرية. ومع ذلك- فقد ظل لديه شك دائم فى نوايا بريطانيا تجاه مصر. وبالفعل سوف تكون بريطانيا هى خصمه الرهيب فى النهاية ولكن ذلك كان مايزال بعيداً فى المستقبل.
كان مازال على محمد على أن يواجه خطر تحدى المماليك لحكمه وإستغرقت حملته على البكوات عدة سنوات ولم تكن مسألة سهلة لأنه بالرغم من عدم شعبيتهم فقد كانوا مغروسين فى المجتمع المصرى كما كانت قوات محمد على العثمانية جامحة كثيرة المطالب. أقنع محمد على بعضهم بالإستقرار على أطراف القاهرة حيث يمكنه مراقبتهم وظل بعضهم فى الصعيد وحاول أن يجعل منه مركزاً حصيناً لكن محمد على تمكن بعد ذلك من هزيمتهم فى سلسلة من المعارك الصغيرة وظلت بقية منهم فى القاهرة لم يكن محمد على واثقاً من ولائها. وفى 11مارس عام1811م دعاهم إلى إستقبال فى القلعة حيث ذبحهم جميعاً إلا واحداً يروى التاريخ أنه تمكن من الفرار بالقفز بحصانه من القلعة.وعندئذ أصبح الطريق مفتوحاً أمام محمد على لإدراك حلمه بتحويل مصر إلى دولة مركزية قوية سوف تصبح مستقلة فى الواقع رغم تبعيتها الإسمية للدولة العثمانية. وقد توفرت عوامل عديدة لتحقيق أهدافه. فبرغم أن الشعب المصرى كان قد إعتاد على عدم الإستقرار بعد أكثر من قرنين تنازع خلالها المماليك على السلطة فيما بينهم من جهة وبين سلسلة من الولاة العثمانيين من جهة أخرى فقد كان المصريون مشتاقين إلى الأمن الذى يعتمد عليه رخاء البلاد. وبرغم أن العلماء وبعض وجهاء المجتمع الآخرين قد لعبوا دوراً كبيراً فى إيصال محمد على إلى السلطة فإن قليلاً منهم فقط كان لديه الرغبة فى المسئولية الرسمية. وبالإضافة إلى ذلك فإن مصر كهبة للنيل- كما وصفها هيرودت - كانت قد أسلمت نفسها للحكم المركزى ، بمعنى أن أي فرد يستطيع السيطرة على النهر ودلتاه كان يستطيع أن يسيطر على البلاد أيضاً. فكل ماكان يحتاجه أي طاغية طموح هو أن يتخلص من منافسيه. إستخدم محمد على السيف والمشنقة بحرية ليجتث الفساد الذى كان قد إجتاح البلاد لعقود كثيرة. وعلى الفور ظهر مرة أخرى الغنى التجارى والزراعى الطبيعى للبلاد. أنشأ محمد على إدارة بيروقراطية شديدة المركزية بهدف زيادة دخل الحكومة ومحاربة الفساد والتهرب من الضرائب الذى أصبح مزمناً وفى نفس الوقت حاول تطوير الإقتصاد.
وفى عهده أُدخلت زراعة القطن عالى الجودة طويل التيلة وقصب السكر. كان محمد على مستعدا للبحث عن المشورة والخبرة الفنية من أي جهة بما فى ذلك التجار المسيحيين فى مصر والأوربيين. وكأحد المعجبين بفرنسا فقد دعا المهندسين الفرنسيين إلى مصر وبمساعدتهم بنى السدود والقنوات وأدخل نظام الرى الدائم فى الدلتا ليحل محل نظام رى الحياض القديم المعتمد على فيضان النيل. وبذلك تم إستصلاح مليون فدان جديدة من الأرض الزراعية. وحتى ذلك الوقت كانت الصناعة المصرية تقتصر على صناعة المنسوجات فقام محمد على بتأسيس سلسلة من المصانع وأظلها بحماية تعريفة جمركية ثقيلة ضد الواردات الأجنبية. كانت تلك المصانع خام وبدائية إلا أنها كانت الأولى من نوعها فى مصر. تعلم محمد على القراءة فى سن السابعة والأربعين فقط لكنه كان يفهم أهمية التعليم. وقد أرسل عدة مئات من الشباب المصرى إلى باريس وعدد أقل إلى لندن لدراسة الصناعة والهندسة والطب والزراعة. وفى مصر حيث كان التعليم حتى ذلك الوقت مقتصراً على المدارس القرآنية ساعد مستشاروه الفرنسيون على تأسيس نظام تعليمى وطنى كان - على الأقل على الورق- رائعاً جداً. وساعد الأطباء الفرنسيون على تأسيس المستشفيات ونظام إبتدائى للصحة العامة. وذهبت طموحاته إلى أبعد من تحويل مصر إلى أكثر الولايات تقدماً فى الإمبراطورية العثمانية بالمقاييس الأوربية. لقد كان من الضرورى على مصر إذا أرادت العمل خارج حدودها أن يكون لها جيش مستقل وأسطول وقد خصص محمد على الجزء الأعظم من طاقاته لهذا الغرض. وقد خدم دافعه القوى المتواصل لزيادة دخل الحكومة هذا الغرض. ومن أولى الأعمال التى قام بها كان الأمر بإجراء ذلك المسح الشامل والضرورى لكل الأراضى الزراعية فى مصر. وفى خلال سنوات قليلة كان قد حصر حوالي مليونى فدان أو حوالي ثلث الأراضى الزراعية على طبقة صغيرة من كبار ملاك الأرض تنحدر من أعضاء عائلته ( كان لديه ثلاثين ولداً ) وكبار ضباط الجيش وشيوخ القرى ورؤساء البدو. ولكن الجزء الأعظم من الدخول الناتجة عن ذلك حصلت عليها الحكومة المركزية ولذا فقد قيل أنه قد حول معظم مصر إلى مزرعة كبيرة تحت الإدارة المباشرة للحكومة. أما الصناعات الجديدة التى أسسها فقد وجهت أيضاً وبصفة رئيسية لتزويد الجيش والأسطول بالأسلحة والمعدات رغم أنها قد أنتجت أيضاً بضائع غير عسكرية مثل الماكينات والآلات والمضخات والأقمشة والورق والزجاج.
لم يفكر أحد أبداً فى أن الفلاحين المصريين كان يمكن أن يكونوا خامة عسكرية جيدة إلا أنهم ومع التدريب والقيادة الجيدة أثبتوا أنهم يستطيعون القتال بإنضباط وشجاعة. ورغم أن أفضل حالاتهم كانت فى المواقف الدفاعية حيث كانوا يفتقدون إلى الثقة فى الهجوم المميزة للجنود السودانيين مثلا- فإن صحتهم وبعكس السودانيين- كانت تتحمل بشكل مميز خوض المعارك فى المناخ البارد. والواقع أن كل الضباط وضباط الصف كانوا غير مصريين. وكان بعض ضباط المماليك قد إنضم إلى جانب محمد على ولكن عندما منع السلطان إستيراد مزيد من الجنود المماليك إلى مصر فقد تم تجنيد ضباط آخرين من بين الأتراك المحليين والألبان. وبعد سنة 1820م أعاد محمد على تنظيم القوات العسكرية كلها بموجب النظام الجديد. وأثبت ابنه الأكبر إبراهيم 1789-1848م أنه عسكرى وقائد عظيم للرجال. وصل الجيش المصرى فى أقصى سقف له سنة 1830م إلى حوالي ربع مليون جندى وكان القوة العسكرية الأشد رهبة فى الشرق الأوسط. وفى عملية تدعيم سلطته الشخصية وإستقلاله بمصر ساعد الضعف الآخذ فى مركز السلطة فى الإمبراطورية محمد على فى تحقيق ذلك. ففى سنة 1807م قام الإنكشارية فى إحتجاجهم على الإصلاحات والتحديثات الأوربية التى أدخلها سليم الثالث بموجب نظامه الجديد بخلع السلطان وإحلال ابن عمه مصطفى مكانه والذى مالبث أن ألغى جميع الإصلاحات. وبعد أربعة عشر شهراً من ذلك التاريخ أُغتيل مصطفى وخلفه أخوه الذى تسمى بمحمود الثانى وكان آخر من بقى من آل عثمان.
كان محمود الثانى مصلحا مثل سليم الثالث وفى النهاية مضى حتى أبعد من سليم أثناء حكمه الطويل الذى بلغ واحد وثلاثين سنة. ولكن فى العقد الأول كان عليه أن يتحرك بحذر حتى يستطيع تدعيم سلطته الشخصية. ولم يستطع إلا فى سنة 1826م مواجهة مشكلة الإنكشارية وقضى عليهم فى مذبحة . وأثناء تلك الفترة لم يستطع محمد على مقاومة تدخل إسطنبول فقط ولكنه إستطاع أيضاً أن يجعل السلطان الجديد معتمداً عليه فى الحفاظ على تماسك إمبراطوريته. وفى سنة 1807م طلب من محمد على أن يرسل حملة عسكرية إلى الحجاز لإسترداد الأماكن المقدسة من الغزاة السعوديين الوهابيين. إستطاع محمد على المماطلة لمدة أربع سنوات عمل خلالها على تدعيم سلطته فى مصر ولكن فى سنة 1811م أرسل ابنه الثانى طوسون إلى الحجاز على رأس جيش. كان طوسون قائداً لامبالياً و رغم أنه إسترد مكة والمدينة إلا أنه تكبد خسائر كبيرة فى الأرواح وعانى أكثر من هزيمة على يد المحاربين الوهابيين.
وبلا شك فقد شجع السلوك الغير منضبط للضباط الألبان محمد علي على أن يقرر إعادة ترتيب قواته العسكرية الذى حدث بعد ذلك. فذهب بنفسه إلى الحجاز ليشترك فى القيادة مع ابنه طوسون وعند عودته إلى االقاهرة لمعالجة المشاكل الداخلية الملحة عين إبراهيم الأكثر كفاءة محل طوسون كقائد عام. قاد إبراهيم الحملة ضد السعوديين مستخدماً مدفعيته وفرسانه أفضل إستخدام ووصل حتى قلب بلادهم فى نجد وفى مايو عام1818م سقطت الدرعية - العاصمة السعودية الواقعة على بعد إثنى عشر ميلاً من الرياض - بعد حصار دام ستة أشهر عانى خلالها الجيش المصرى التركى خسائر جسيمة. واُرسل عبدالله بن سعود الحاكم السعودى إلى القاهرة حيث عومل بكل الإحترام ثم أرسل إلى إسطنبول حيث أعدم بعد محاكمة سريعة. وبذلك إنتهت أول دولة سعودية. ومع ذلك فقد ظلت الحاميات العسكرية المصرية سنوات قليلة فقط فى نجد. وفى سنة 1824م أسس السعوديون دولتهم الثانية بعاصمتها الجديدة فى الرياض ونجحوا فى مقاومة أي محاولات أخرى لغزوهم.
ومع ذلك فقد كان لمحمد على وإبراهيم جائزتهما فى الحجاز. فلم تمكنهما هذه الحملات من إعادة فتح الطريق البحري من مصر إلى المحيط الهندي فقط ولكن أيضاً من إحتكار كل تجارة البحر الأحمر. وقد فرض محمد على ضريبة سنوية على إمام اليمن ورفض إقتراح بريطانى من أجل تعاون إنجليزى مصرى لتأمين جنوب الجزيرة العربية بحماية الطرق البحرية إلى الهند من هجوم رجال القبائل المحليين وبدلاً من ذلك أرسل سفنه لإحتلال كل موانى غرب الجزيرة العربية حتى عدن. وإضطرت بريطانيا للتركيز على منطقة الخليج حيث نجحت فى سنة 1820م فى تنفيذ معاهدة عامة دائمة للسلام البحرى مع المشيخات الصغيرة للساحل المتصالح الذى يشغل دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم. لكنها لم تحتل عدن وتكون مستعمرة هناك حتى سنة 1839م .
قدر السلطان محمود صنيع إبراهيم بإسترداد الأراضى المقدسة حق التقدير ورفعه إلى رتبة باشا بثلاث شارات وكذلك إلى رتبة الحاكم. وقد جعله ذلك نظرياً فى مركز أعلى من مركز أبيه. ومن المحتمل أن السلطان الذى أصبح آنذاك ينظر بعين الحذر إلى طموح محمد على قد أراد بذلك أن ينفره من ابنه ولكن إبراهيم ظل مخلصاً وإستمر فى الإنصياع لوالده طوال حياته. رفض السلطان محمود بشكل قاطع إقتراح محمد على بمنحه إمارة سوريا بشكل دائم ولكن محمد على لم يكن بعد مستعداً لتحدى مباشر مع إسطنبول . ولكن الأراضى الواسعة الواقعة جنوب مصر والتى عرفها كتاب العصور الوسطى العرب بإسم - بلاد السودان أو بلاد السود- منحته فرصة مختلفة.
كان الإسلام واللغة العربية قد تقدما هناك بشكل أكثر بطئاً عما حدث فى الشرق وشمال إفريقيا. ولكن بحلول سنة 1500م كان معظم سكان شمال ووسط جمهورية السودان الحالية قد أصبحوا مسلمين ويتحدثون اللغة العربية. وعلى مدى القرون الثلاثة السابقة على ذلك التاريخ سيطرت مملكة الفور- وهم شعب من أصول غير معروفة - على هذه الأراضى ولكن كان هناك أيضاً غزوات مستمرة من مماليك مصر بحثا عن العبيد والذهب. وقد أنشأت مجموعة منهم إبان فترة هربها من قمع محمد على مملكة فى دنجلة على الضفة الغربية للنيل وأخذت تتدخل فى تجارة النهر. ومن ثم أصبح لدى محمد على كلا الدافعين السياسى والإقتصادى لمحاولة غزو السودان كما كان هناك دافع إضافى هو توفير عمل مناسب لقواته الألبانية غير المنضبطة. وفى عام 1821م أرسل جيشاً يقوده ابنه الثالث إسماعيل وتبعه فى العام التالى بجيشين يقودهما إبراهيم فاتح الحجاز ومحمد زوج ابنته فقاما فيما بينهما بغزو منطقة تساوى نصف مساحة أوربا بإسم السلطان العثمانى ولكن فى الواقع كان ذلك من أجل الإضافة إلى أملاك ولاية محمد على المصرية . ولكن وبشكل ما ، فقد كان الغزو مخيبا للآمال وتبدد حلم محمد على فى خلق جيش من العبيد السود لأنهم كانوا قليلى العدد كما أن صحتهم قد تدهورت عندما أحضروا إلى مصر وكانت مناجم الذهب أفقر مما كان يتوقع ولم يحدث أي إختراق للثروة الخرافية لإفريقيا الإستوائية. وعندما حوصر إسماعيل فى كمين وقُتل على يد أحد رؤساء القبائل المحلية الناقمة أمر محمد على بمذبحة تركت أثرها فى الذاكرة السودانية. ومع ذلك فإن غزو محمد على قد وضع الأساس للسودان الحديث. ثم خلقت الإضافة التى تمت على يد خلفائه للثلاثة مقاطعات الزنجية الإستوائية فى الجنوب عملاق إفريقيا ، جزء عربى مسلم وجزء مسيحى و جزء وثنى أسود. وحتى عندما إنتهى الحكم المصرى بعد ستين سنة من ذلك التاريخ فقد ظلت مصر والسودان مرتبطتين بشكل لافكاك منه.
لم يكن الإستحواذ على السودان قد تم عندما سنحت الفرصة للتوسع شمالا فى القسم الشرقى من البحر المتوسط. فقد دعى السلطان محمود محمد على للمساعدة فى قمع ثورة رعاياه الإغريق الذين كانوا يحلمون بالإستقلال فى سنة1821م حيث أثبتت القوات العثمانية الضعيفة المثبطة عدم قدرتها على التعامل مع الثوار. ورست قوات محمد على أولاً فى كريت ثم فى قبرص لقمع الإنتفاضة. ولكن مركز الثورة كان فى المورة ، فى البر الرئيسى. وقد تردد السلطان فى أن يأمره بالتوجه هناك لأنه خشى ولأسباب وجيهة أن تهدد قوات محمد على حسنة التنظيم والتدريب سلطته هو نفسه. ومع ذلك ففى النهاية لم يكن لديه خيار. وفى سنة 1825م تحرك إبراهيم بأسطوله إلى المورة حيث أنزل قواته وبعد سنتين إحتل أثينا. وعندما إشتعلت ثورة المورة لم تكن القوى الأوربية قد عبرت عن أكثر من تأييد شفوي لمبدأ إنفصال المسيحين اليونان عن الإمبراطورية العثمانية من أجل تأسيس دولة مستقلة وذلك لأنهم كانوا يشكون بشدة فى نيات بعضهم البعض. فلم تكن روسيا تحبذ ميلاد دولة مسيحية جديدة فى الليفانت إلا إذا كانت تحت سيطرة القيصر. أما القوى الأخرى وعلى رأسها بريطانيا فقد كانت تصر - وبنفس القدر- على منع مثل تلك السيطرة الروسية. ومع ذلك فربما ماكانوا إضطروا إلى التدخل إذا ماكان الوطنيون اليونان- والذين كانوا يشتغلون بالقرصنة عندما لايكونون فى حرب ضد الأتراك - لم يبدأوا بإعتراض تجارة الليفانت. وكان هناك تطور آخر مساو ينذر بالخطر وهو ظهور قوات محمد على وهزيمتها لليونان. فمن خلال سيطرته على المورة كان محمدعلى يستطيع السيطرة على كل الإقليم باعثا بذلك الإحتمال الغير مرغوب بتأسيس قوة إسلامية جديدة فى شرق المتوسط. وبرغم روابط فرنسا الودية بمحمد على فقد تم إقناعها فى النهاية بالإنضمام إلى بريطانيا وروسيا فى معاهدة لندن فى 6 يوليو 1827م. ومن خلال تلك المعاهدة كانت القوى الثلاث تهدف إلى التوسط بين الحكومة العثمانية وبين الوطنيين اليونان من أجل التوصل إلى هدنة تؤدى إلى إستقلال ذاتى يونانى تحت سيادة السلطان كما كان هناك هدف إضافى هو جعل وجود إبراهيم غير ضرورى وتأمين إنسحابه. وعندما تردد السلطان إنضمت الأساطيل الروسية والفرنسية إلى الأسطول البريطانى فى نافارين وفى 20 أكتوبر ضربت الأسطول التركى المصرى المشترك وطردته من مياه اليونان. قطع السلطان العلاقات الدبلوماسية مع القوى الثلاث ودعى رعاياه المسلمين إلى الجهاد المقدس ولكن الواقع أنه كان هناك القليل مما يستطيع أن يفعله. ففى العام السابق كان قد قضى على الإنكشارية وكان إعادة بناء الجيش العثمانى قد بدأ بالكاد . كانت خير حماية يملكها فى الواقع هى أن بريطانيا وفرنسا لم تريدا تفكيك إمبراطوريته ولا توسع روسيا على حسابه. وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ فى 7 مايو عام1832م وبمقتضى معاهدة لندن الجديدة أصبحت اليونان مملكة مستقلة تحت سلطة الأمير البافارى أوهو وبذلك أصبح بإمكان كل القوى الأوربية إدعاء المشاركة فى هذه التسوية كما أنها – و بعكس ما كان يخشى السلطان- لم تؤد إلى تفكيك الإمبراطورية .
تكبدت قوات محمد على خسائر فادحة وإشتد الضغط المالى على مصر ولكن كارثة نافارين لم تثبط طموحات الوالى أو ابنه. كان محمد على يعتقد أنه قد وعد بباشوية سوريا كمكافأة على مساعدته ضد اليونان ولكن السطان محمود أخبره بأن عليه أن يقنع بباشوية كريت. ومن ثم قرر محمد على إحتلال سوريا بنفسه. وبينما كان يعيد بناء أسطوله بعث بإبراهيم على رأس جيش سحق القوات العثمانية بالقرب من حمص ومرة أخرى بالقرب من حلب . بعد ذلك عبر إبراهيم جبال طوروس إلى الأناضول وهزم جيش السلطان فى قونية وعندما وصل إلى بورصة أصبح فى وضع يمكنه من الإستيلاء على إسطنبول والقضاء على الإمبراطورية العثمانية. ناشد السلطان اليائس محمود بريطانيا أن ترسل الأسطول الملكى إلى الدردنيل والإسكندرية وكان بالمرستون رئيس الوزراء البريطانى يؤيد ذلك ولكن الأغلبية فى وزارته رفضت ذلك. ولذا كان السلطان مضطراً للجوء إلى روسيا . و قد كتب بالمرستون عن ذلك فيما بعد( لاتوجد وزارة فى أي فترة من تاريخ إنجلترا قامت بمثل ذلك الخطأ الفادح فى السياسة الخارجية). أرسل الروس سفناً وأنزلوا قواتاً برية فوافق إبراهيم بحكمة على التفاوض. وتدخلت بريطانيا وفرنسا وكانت قد تنبهتا فى ذلك الوقت إلى خطر التفوق الروسى فى شرق المتوسط وصممتا على إنسحاب روسى مقابل موافقة السلطان على تقديم تنازلات لمحمد على ومن ثم منحه السلطان باشوية سوريا كلها. وإنسحب الروس ولكن السلطان كان مضطراً لقبول إتفاقية عرفت بإسم هنكيار اسكيليس ربطته بتحالف مع روسيا. وقد تضمنت تلك الإتفاقية فقرة سرية سمحت للسفن الروسية بالمرور فى حرية إلى الدردنيل إذا ماكانت روسيا فى حالة حرب ولكنها قدمت تنازلاً مماثلاً للقوى الأخرى مشروطاً بموافقة روسيا. وبذلك يمكن أن يفهم أسف بالمرستون بسهولة . لم يعد حلم محمد على فى بناء إمبراطورية فى الجزء الناطق بالعربية من الإمبراطورية العثمانية يبدو خيالا. فقد سيطر على وادى النيل والبحر الأحمر وشرق المتوسط وفكر حتى فى أن يلتمس الخلافة . ومع ذلك فإن هذا الحلم كان خيالاً . فلم تكن فكرة العروبة قد وجدت بعد فى ضمير الناس ولم يكن من الممكن أن يكون محمد على الألبانى هو ملهمها.ولكن كان من المحتمل أن يقدم إبراهيم ذلك الإلهام. فبعكس والده كان يتكلم العربية ويعتبر نفسه مصريا كما كان أكثر فخراً بجنوده المصريين عما كان بضباطه العثمانيين. لكنه لم يتحدى أبداً سلطة والده ورغم أنه كان أكثر تعليماً وتمدناً فلم يكن نظيراً لمحمد على فى إمكانياته السياسية الرهيبة.
كان إبراهيم قد أصبح مسئولاً عن ممتلكات مصر الجديدة فى سوريا ولكن على الرغم من أنه كان يمتلك جيشا قوياً تحت إمرته فإن مهمته فى أن يفرض- بقوة- إدارة مركزية حديثة لم تكن سهلة. فقد كانت الطوائف المختلفة فى سوريا من الشيعة والسنة المسلمين والموارنة والدروز قد إعتادت على درجة عالية من الإستقلال الذاتى سواء فى ظل العصبيات المحلية مثل أسرة العظم فى دمشق أو الشهابيين فى لبنان أو الولاة العثمانيين الذين كانوا يتولون لفترات قصيرة فقط لاتمكنهم من فرض سلطتهم. ووجه إبراهيم بكثير من الحقوق المكتسبة التى لم يكن لدى أصحابها أية رغبة فى الإندماج فى إقتصاد مركزى قائم على نمط الإحتكارات الحكومية التى سنها محمد على فى مصر. وقد كان للعثمانيين إحتكاراتهم أيضاً ولكن نظامهم كان غير فعال ويمكن هدمه بسهولة. ففى سوريا ولبنان كان هناك صناعات مزدهرة للقطن والمنسوجات الحريرية رغم أنها كانت تواجه منافسة متزايدة من الواردات الأوربية. وقد أثرى تجار الليفانت من تجارة الترانزيت إلى الشرق فكرهوا التدخل المصرى وكذلك فعل ملاك الأراضى الدروز الذين كانوا يزرعون الحبوب فى سهول حوران جنوب سوريا. ولذا فقد واجه إبراهيم كثيراً من أعمال العصيان فقمعها بنفس القسوة المعتادة . ومع ذلك فإنجازاتــه خلال عقد من حكمه لسوريا ( 1831-1840) كانت كبيرة. فقد نظم الإدارة وأصلح نظام الضرائب وبدأ عملية تطوير نظام التعليم. وقد توافقت أهدافه مع أهداف أبيه فى مصر والذى كان يوجهه ويشرف على أعماله فى وضع الأسس لدولة قوية ذات إقتصاد مكتفياً ذاتياً . وفى الواقع فقد كان يأمل فى أن تنافس الصناعات التحويلية السورية مثيلاتها الأوربية . ولكن ثبت أن تلك الأهداف كانت غير ممكنة التحقيق فى النهاية ، حتى إذا كان قد توفر لديه الوقت الكافى لتحقيقها. فلم يكن من الممكن للتجار السوريين وملاك الأراضى الزراعية- الفاعلين الجريئين- أن يكونوا مستعدين للإنصهار فى نظام أجنبى.
وقد نجح إبراهيم فعلاً فى توسيع وتحسين التجارة مع أوربا وكذلك فى زيادة الأراضى الزراعية ولكن ذلك حدث من خلال حكومة أكثر فاعلية وليس من خلال تشجيع المبادرة المحلية. ورغم كل محاولات إبراهيم للتقارب مع رعاياه فقد ظل محتلاً أجنبياً ( وسوف تواجه المحاولة المصرية الثانية لحكم سوريا بكثير من نفس تلك المشكلات بعد 120 سنة من ذلك التاريخ/ المقصود بذلك تجربة الوحدة المصرية السورية فى عهد الرئيس المصرى جمال عبدالناصر/المترجم ) وكجزء من سياسة إبراهيم فى عملية التحديث فقد سمح للبعثات المسيحية ولأول مرة بإفتتاح مدارس لها. كانت تلك الإرساليات من الأمريكيين البروتستانت بشكل أساسى وقد أسسوا العديد من المدارس بما فى ذلك مدرسة للبنات كما أسسوا أول مطبعة عربية فى سوريا. ومضى إبراهيم لأبعد من ذلك فى تأسيس مبدأ المساواة بين المسلمين والمسيحيين. لكن ذلك كان يعنى داخل الإمبراطورية العثمانية تفضيل المسيحيين على حساب المسلمين . وكما فى مصر كان محمد على يستفيد دائما من الذكاء والخبرة حيثما وجدا ولم يكن يتردد فى توظيف أوربيين أو فى ترقية السكان المحليين غير المسلمين عندما كان يرى ذلك ضرورياً. و لكن فى سوريا كانت تلك السياسة تعنى تفضيل التجار المسيحين الذين يملكون صلات أفضل مع أوربا والذين كانوا يحصلون بإستمرار على براءات من القنصليات الأوربية. وفرض إبراهيم نوعاً من ضريبة الرؤوس على مسلمى المدن فتساووا بذلك مع غير المسلمين الذين كانوا يدفعون مثل تلك الضريبة بشكل دائم. ومنطقياً لم يقبل المسلمون هذه البدعة وإزداد حنقهم بشدة عندما أصر محمد على أن يبدأ إبراهيم بتجنيد السوريين فى الجيش المصرى. وقد إعترض إبراهيم الذى كان أقرب من أبيه إلى رعاياه العرب بان ذلك لم يكن من الحكمة لكن محمد على أصر على ذلك. والواقع أنه كان يمكن لمحمد على وإبراهيم مع ذلك القضاء على المعارضة والإستمرار فى مشروع تأسيس إمبراطورية عربية شرق أوسطية لو كانا قد إستطاعا تجنب المعارضة العنيفة للدول الأوربية بقيادة بريطانيا. كان محمد على يستطيع تحدى سيده الإسمى السلطان العثمانى-محمود - والواقع أنه كان يمكن حتى أن يتصور أو يفكر فى الإطاحة به ولكن بريطانيا كانت ترى أنه كان من الأفضل أن تستمر الإمبراطورية العثمانية الضعيفة بدلاً من أن تفكك وتلتهم بواسطة أحد منافسيها. كانت بريطانيا لم تزل أقل تحمساً لفكرة إستبدال الإمبراطورية بقوة إسلامية نشطة وتوسعية ولكن ذلك الإحتمال بالضبط هو الذى أثار خوف القوى الأوربية. وكانت تلك هى الفترة الذى تطور فيها مبدأ بالمرستون الإستعماري .
لم يكن ذلك المبدأ يهدف إلى الحصول على المستعمرات - لقد كان من شأن ذلك أن يحدث فيما بعد فى نفس القرن - ولكنه كان يهدف إلى توفير الحماية الفورية للمصالح البريطانية حيثما تعرضت للخطر. وكأكبر قوة تجارية وصناعية فى العالم- فى ذلك الوقت - كانت إنجلترا ترى هذه المصالح إقتصادية إلى درجة كبيرة. كانت الصناعات التحويلية البريطانية تتدفق على الأسواق الآسيوية عن طريق الخليج والبحر الأحمر. كان عصر السفن البخارية قد بدأ كما أن محمد على كان قد مهد الطريق إلى الهند- بشكل كبير- بتطوير الطريق البرى بين الإسكندرية والسويس. ولكن على الرغم من أن التجارة البريطانية كانت تتوسع فى أنحاء شرق المتوسط فقد كان نظام الإحتكار العثمانى يعرقل ذلك التوسع بشدة. وجه بالمرستون كل دبلوماسيته القوية مع الإمبراطورية العثمانية نحو إزالة هذه العوائق. وفى سنة 1838م نجح فى إبرام معاهدة إنجليزية تركية تعطى لإنجلترا وباقى القوى الأوربية الحق فى التجارة فى أنحاء الإمبراطورية العثمانية مقابل تعريفة جمركية بلغت ثلاثة فى المائة فقط. وبضربة واحدة فتحت معاهدة بالمرستون الطريق إلى السيطرة التجارية الأجنبية على الإمبراطورية العثمانية كما أنها قد قضت على مصدر هام من مصادر دخل السلطان والذى كان يأتى من إحتكارات الدولة. وطبيعياً فقد إعتبر محمد على بنود الإتفاقية كارثة على طموحاته ورفض تطبيقها على مصر. وقد قام بكل ما يستطيع لحماية وتوسيع التجارة البريطانية عبر مصر لكنه لم يكن يستطيع السماح لبريطانيا بتحطيم مصادر إستقلاله. وقبل أسابيع قليلة من توقيع المعاهدة كان قد أعلن عن قراره بإعلان مصر وسوريا مملكة وراثية مستقلة وعرض أن يدفع للسلطان مبلغاً ضخماً من ثلاثة ملايين جنيه كثمن لقبوله لذلك. ولكن بالمرستون سجل على الفور رفضه القوى وأوضح بجلاء أنه إذا مانشبت الحرب بين محمد على وبين الإمبراطورية العثمانية فإن بريطانيا سوف تأخذ جانب السلطان. كانت بريطانيا مصممةعلى تحطيم طموحات محمد على وكانت قد بدأت تشعر بقلق شديد من إمتداد سلطته على كل الساحل الشرقى للبحر الأحمر من باب المندب إلى مكة ، حتى أنه كان قد إحتل أيضاً ساحل تهامة فى اليمن وإشترى مدينة تعز من حاكمها الفاسد- احد أعمام إمام اليمن- وسيطر على تجارتها الهامة فى البن. وبدا أن الطريق الحيوى إلى الهند قد أصبح مهدداً فى الوقت الذى إزدادت فيه أهمية الساحل العربى بسبب بداية تشغيل السفن البخارية والحاجة إلى محطات آمنة للتزود بالوقود. وفى هذا الخصوص كتب حاكم بومباى السير روبرت جرانت فى 1837 ( إعتقد أنه سوف يكون من الضرورى تماماً أن يصبح لدينا ملكية خاصة بنا فى البحر الأحمر أو بالقرب منه ).
وقد سنحت على الفور فرصة الحصول على مثل تلك الملكية- فإن سلطان لحج - والذى كان ميناء عدن الصغير يقع ضمن أملاكه فى الركن الجنوبى الشرقى للجزيرة العربية - قد اتُهم بالسماح بالتعرض للسفن البريطانية. وفى يناير 1839م قام الضابط هانز قائد قوات بومباى البحرية بالنزول هناك مع قوة صغيرة والإستيلاء على الميناء بادئاً 130 سنة من الحكم البريطانى فى عدن والنفوذ المتزايد فى داخل البلاد القبلى. اُلحقت مستوطنة عدن بحاكمية بومباى تأكيداً لأهميتها بالنسبة للهند وظلت هكذا حتى أصبحت مستعمرة ملكية. وبذلك أصبح هناك تحالف أمر واقع بين بالمرستون والسلطان محمود- ضد محمد على. وفى صيف عام1839م أعلن السلطان الحرب على نائبه الطموح وأرسل جيشاً عبر الفرات إلى شمال سوريا. وبالرغم من التدريب الجديد للقوات العثمانية على يد البعثة العسكرية الألمانية التى قادها مولتك إلا أنها قد هُزمت تماماً مرة أخرى فى معركة نصيبين على يد إبراهيم الذى نجح فى رشوة بعض القوات العثمانية لتهرب من المعركة وفى نفس الوقت قرر قائد الأسطول العثمانى- الذى كان قد تلقى الأوامر بالتدخل - أن يبحر بالأسطول كله إلى الإسكندرية ويستسلم لمحمد على . مات السلطان محمود فجأة قبل أن تصله أنباء كارثة نصيبين وخلفه ابنه عبدالمجيد - ذو الستة عشر عاماً - وأصبح السلطان الطفل وحكومته تحت رحمة محمد على. أراد إبراهيم تدعيم إنتصاره بالتقدم داخل الأناضول ولم يكن هناك شئ يمنعه ولكن والده طلب منه التوقف. لقد كان يعرف أن تدمير الإمبراطورية العثمانية سوف يثير القوى الأوربية وكان مازال يأمل فى أنها قد تقبل بطموحاته الأقل فى إستمرار سيطرته على أملاكه فى الليفانت وشمال إفريقيا والجزيرة العربية. ومع ذلك فإن هذا لم يعد ممكناً. فقد أصبح بالمرستون يعتبره تهديداً خطيراً وقد كتب إلى السفير البريطانى فى باريس ( إننى أكره محمد على- الذى لاأعتبره أكثر من مجرد همجى جاهل إستطاع بالخديعة والجرأة والذكاء الفطرى أن ينجح فى عصيانه- إننى أنظر إلى حضارته المصرية المزعومة كهراء مطلق وأعتقد أنه طاغية وظالم بالشكل الذى يتسبب دائماً فى شقاء أى شعب ). كان لدى بالمرستون نصيبه من الهراء أيضاً. فقد كان يعرف أن السلطان العثمانى لم يكن أقل إستبداداً من محمد على أو إبراهيم بل وذو سجل أسوء فى معاملة الأقليات.
كان الفرق هو أن الدكتاتورية المصرية كانت فعالة نسبياً أما السلطان الضعيف فقد كان من الممكن السيطرة عليه. عزم بالمرستون على حشد القوى الأوربية الخمس ( بريطانيا وفرنسا وبروسيا والنمسا وروسيا ) وراء تحرك سياسى بهدف طرد محمد على من الليفانت. كانت فرنسا هى مشكلته الكبرى حيث أنها كانت لم تزل تعتبر محمد على حليفا هاماً يمكن لقوته البحرية خاصة إذا ماتحالفت مع قوات فرنسا أن تمثل عامل توازن فى مواجهة بريطانيا فى شرق البحر المتوسط. إستخدم بالمرستون مزيجاً من الدبلوماسية والإبتزاز للتغلب على الرفض الفرنسى- وبرغم خوف حوالي نصف أعضاء وزارته من أنه قد يثير حرباً أوروبية - فقد لعب على حقيقة أن ملك فرنسا لويس فيليب كان حتى أكثر حذراً نتيجة لخوفه من محاولة إنقلابية. وفى مؤتمر لندن فى يوليو 1840م وافقت القوى الخمس بما فيهم فرنسا – الكارهة- على تأمين الليفانت والذى بموجبه يصبح محمد على مضطراً لسحب كل قواته من سوريا ورد الأسطول التركى إلى السلطان على أن يعترف السلطان لأسرته بحق النيابة الوراثية على مصر دون أن يشمل ذلك سوريا. وعندما رفض محمد على- غاضباً- تلك الشروط ظهر أسطول بريطانى قبالة الساحل السورى بقيادة الأدميرال نابيير وأرسل جواسيساً يدعون السكان إلى الثورة. ووجد الحنق ضد التجنيد الإلزامى والضرائب المرتفعة وإستهزاء إبراهيم بالتقاليد المحلية تعبيراً له فى الثورات التى تفجرت فى جميع أنحاء البلاد. وبعد فشل رشوة نائب إبراهيم فى بيروت للتحول عن ولائه قام الأسطول البريطانى بقصف المدينة وتم إنزال قوة إنجليزية تركية. وعندما أبحر نابيير فى إتجاه الإسكندرية أدرك محمد على أنه قد هُزم فقد هجره حلفاؤه الفرنسيون ولم يكن فى مقدوره أن يحارب القوى الأوربية وحده. ومن خلال بنود معاهدة لندن سنة 1841م إختزلت القوى الأوربية طموحات محمد على وأعادته إلى مركز الحاكم التابع فى الإمبراطورية العثمانية كما جُرد من جميع أملاكه فيما عدا السودان مما كان يعنى رد كريت وسوريا والحجاز إلى الحكم العثمانى المباشر. وفى نفس الوقت كان عليه أن يخفض عدد قواته المسلحة- والتى وصلت فى وقت ما إلى حوالي ربع مليون جندى- إلى ثمانية عشر ألفا فقط. وبذلك قضى على وسيلته فى التوسع ولم يعد فى مقدوره أن يهدد بإحتلال إسطنبول مرة أخرى. كان عزاؤه الوحيد هو أن مركزه كحاكم وراثى لمصر قد تأكد. ورغم أن ذلك كان حدود طموحه الأصلى إلا أن آفاق ذلك الطموح كانت قد إتسعت فيما بعد . ولكن لم يعد فى مقدوره الآن السيطرة على طرق التجارة إلى آسيا أو تحدى النفوذ المتزايد للقوى الأوربية فى شرق المتوسط.
كانت مصر شبه المستقلة لم تزل بلداً يملك بعض الأهمية السياسية والإقتصادية. ورغم أن محمد على كان قد أصبح متعباً هرماً حيث كان فى الثانية والسبعين من عمره وقت معاهدة لندن فلم تكن روحه قد إنكسرت تماماً. ومن أجل الإبقاء على جيشه الضخم فقد فرض عبأً مستحيلاً من الضرائب على الشعب المصرى- وكما علق بالمرستون ( تماماً فى مصر مثل كل البلاد أغنياء وفقراء- الأغنياء هم محمد على والفقراء هم كل فرد آخر) . كان محمد على يبحث عن بعض وسائل تخفيض النفقات قبل معاهدة لندن وربما كان يمكن للتخفيض المفترض فى النفقات العسكرية أن يحقق بعض الإنفراج. كانت المشكلة أن خدمة إحتياجات جيشه كانت هى مركز سياسته الإقتصادية كلها والسبب الأساسى فى برنامجه للتصنيع ولذا فبدون طلب على منتجاتها فقد كان من شأن المصانع الحربية أن تنهار. ويمكن القول أن محاولة محمد على لجعل مصر بلداً صناعياً كانت فاشلة فعلاً. فبعكس البلاد الأوربية وفى مقدمتها بريطانيا والتى كانت تحقق ثورة صناعية سريعة فى النصف الأول من القرن التاسع عشر لم يكن لدى مصر أى مصادر طبيعية من الفحم أو الخشب لإنتاج القوة البخارية ولم يكن لديها صناعة حديد. وكان الأربعون الف عامل صناعى- الذين كانت تساعدهم الجمال والحمير- ينتجون تقريباً كل الطاقة الخاصة بهم. أما الآلات المستوردة فقد كانت سيئة الصيانة وعرضة للتعطل بإستمرار. وكان هناك خلل أكبر يكمن فى عدم وجود طبقة من رجال الأعمال المستقلين أو المديرين المدربين فى ظل نظام حكم محمد على المطلق. ورغم أنه كان قد ارسل بعض الشباب المصرى للتدرب فى أوربا فقد كانوا أساساً أفراداً من طبقة الضباط التركية الجركسية الذين كان قد جعلهم مسئولين عن المصانع. وكانت الأعمال المائية الحيوية والأعمال الهندسية الهامة فى ايدى فنيين أجانب كما كانت التجارة يسيطر عليها التجار الأجانب بشكل متزايد. وقد جادل بعض المؤرخين الإقتصاديين المصريين بأنه ربما كان من الممكن بدون التدخل الأوربى إصلاح الأخطاء وكان يمكن لمصر أن تنجز ثورة صناعية حقيقية فى أثر أوربا.ولكن الإحتمالات كانت ضعيفة وكانت تتطلب خلفاً لمحمد على لديه نفس القدر من القوة والقدرة ولكن على قدر أكبر من الإستنارة.
ومنطقيا فقد كان يمكن لإبراهيم أن يلعب ذلك الدور ولذا فإن محمد على عندما بدأت قواه الصحية والعقلية تنهار فإنه قد فوض ابنه كل سلطاته سنة 1847م ولكن فى أقل من سنة مات إبراهيم على أثر حمى وتبعه محمد على فى خلال أشهر قليلة فى 2 أغسطس عام1849م دون حتى أن يدرك أن ابنه قد مات قبله. وبموجب بنود معاهدة لندن فقد خلفه أكبر الذكور من سلالته وهو حفيده عباس ابن ابنه طوسون. كان عباس رجعياً كئيبا وقد رفض كل المؤثرات الأوربية التى أدخلها جده وعمه فطرد المستشارين الأجانب وأغلق المدارس العلمانية. ومع ذلك فقد كان بعيداً عن أن يكون وطنياً مصرياً ولم يكن لديه أى حب للمصريين. ولأنه كان يكره الفرنسيين فقد أعطى البريطانيين بعض الأفضلية وسمح لهم ببناء سكة حديد القاهرة الإسكندرية وكانت الأولى من نوعها فى إفريقيا وآسيا وقد وسعت بشكل كبير طريق بريطانيا الإستعمارى إلى الهند. ولكن عباس كان أساساً عثمانياً يكره الأجانب وكان مخلصاً للسلطان . ولم يكن لديه طموح إستعمارى خاص به بالإضافة إلى ذلك فإن أحد بنود معاهدة لندن كانت تنص على أن تعيين كبار الضباط فى جيشه- المتناقص بشدة- كان يجب إعتماده من إسطنبول . وقد ترتب على ذلك أن أصبحت القيادة العليا فى الجيش فى يد الطبقة الحاكمة التركية الجركسية أكثر مماكانت فى يد المولدين المصريين . حكم عباس خمس سنوات فقط قبل أن يقتل على يد إثنين من عبيده الألبان .كان عمه سعيد الذى خلفه يصغره بتسع سنوات فقط وكان بديناً لطيفاً عاشقاً للفرنسيين. ولكن شخصيته المختلفة لم تعنى مع ذلك أنه كان يعتبر نفسه مصرياً أو أنه كان يهتم بمصالح المصريين. وقد ترتب على موقفه الليبرالى من التجارة والأعمال زيادة كبيرة فى حجم وأهمية الجماعات الأجنبية. وقد أدت صداقته بالمهندس الفرنسى فرديناند ديليسبس إلى بناء قناة السويس التى أصبحت بسبب ملكية الأجانب لها سبباً رئيسياً ومبرراً لخضوع مصر للسيطرة الأوربية. وقد وصف الكاتب الفلسطينى جورج أنطونيوس فى عمله الكلاسيكى ( يقظة العرب ) الذى نشر أولاً فى سنة 1938م تطور مفهوم الأمة العربية فى العصور الحديثة . وقد وضع الفصل الخاص بمحمد على وإبراهيم تحت عنوان ( البداية الكاذبة ) وقد إستشهد بملاحظة أحد معاصريهما بأن ( عبقرية محمد على كانت من ذلك النوع الذى يخلق الإمبراطوريات- بينما كانت لدى إبراهيم الحكمة التى تمكنه من الإحتفاظ بها) والمقصود هو أنه إذا ماكان إبراهيم قد عاش بعد أبيه ولم تتحد القوى الأوربية ضده بقيادة بريطانيا فإن إمبراطورية عربية منبعثة من جديد- تسيطر على وادى النيل والبحر الأحمر وشرق المتوسط كان يمكن أن تحل محل العثمانيين كقوة عالمية إسلامية
ولكن الواقع أن مثل ذلك التطور كان من الصعب تصوره . فلم يكن لدى محمد على أى رؤية لأى بعث قومى عربى. وعندما فكر فى إدعاء الخلافة بدلاً من السلطان لم يكن يعنى أن يردها إلى الأيدى العربية. فقد ظل ألبانياً/تركياً لم يتعلم أبداً اللغة العربية. أما إبراهيم فإنه كان قد أختار فعلاً أن يكون مصرياً- برغم إمتعاض والده من ذلك. كان إبراهيم يتكلم العربية وكان يمكنه التعايش مع جنوده العرب. وقد حلم بإمبراطورية عربية منبعثة من جديد وأحياناً كان يثير حماس جنوده بالإشارة إلى الأمجاد التاريخية العربية. ولكن شيئاً من هذه الإعتبارات لم يكن يعنى كثيراً. فإن قروناً من السيطرة السياسية والعسكرية التركية فى العالم الإسلامى ما كان يمكن محوها بسهولة. فلا محمد على ولا إبراهيم كان لديه الوقت لخلق مؤسسات جديدة يمكن لها أن تدوم. وقد عاشت مملكتهما ولكن أحفادهما كانوا رجالا أقل حجماً منهما بشكل كبير.




























الفصل الرابع

الكفاح من أجل الإصلاح 1840-1900م
























4. الكفاح من أجل الإصلاح

عندما تولى السلطان عبد المجيد - الذى حكم من سنة 1839 إلى سنة 1861م - كان فى السادسة عشرة من عمره وكانت إمبراطوريته فى خطر شديد. كانت إصلاحات والده محمود الثانى قد حطمت النظام القديم و لكن فوائدها لم تكن قد أُدركت بعد. فقد تم إخضاع الإنكشارية- قلب القوات المسلحة- ولكن التسليح والتدريب الذى تم بواسطة بعثة مولتك العسكرية لم يكن قد أثبت فاعليته بعد كما أثبتت الهزائم المخزية على يد جيش فلاحي إبراهيم. كان إصلاح نظام التعليم ومدارس الطب والهندسة والأسطول والجيش الجديدة التى يديرها معلمون أجانب وكذلك بعثات الطلاب إلى جامعات أوربا ووضع الأسس الأولى لتعليم إبتدائى إلزامي على وشك أن يخلق جيلاً جديداً من الشباب العثمانى الذى يستطيع أن يفهم ويساير التقدم العلمى والتكنولوجى العظيم للقرن التاسع عشر. كان السلطان الصغير يفتقد إلى قوة شخصية أبيه - رغم أن أمه ذات الشخصية الجبارة قد ساندته لبعض الوقت - ومع ذلك فقد قرر أن يستمر ويوسع الإصلاحات. واستدعى مصطفى رشيد باشا - وزير الخارجية القدير الذى كان فى مهمة فى لندن عندما أُعلنت وفاة محمود الثانى- إلى العاصمة ليكون مسئولاً عن البرنامج الإصلاحى. وفى3 نوفمبرعام 1839م اُعلن الخط الشريف التاريخى الذى سمى بخط ( الغرفة الحمراء ) وكان الأول فى سلسلة من المراسيم التى عُرفت بشكل عام فى مجموعها بإسم التنظيمات أو إعادة التنظيم. ولأكثر من مرة سقط مصطفى رشيد عن الحكم - فقط ليعود إليه مرة أخرى . وبعد وفاته فى عام 1858م قام آخرون بمتابعة أعماله.
كانت المعارضة المحافظة قوية لأن الإصلاحات كانت ثورية فى الهدف والمضمون. ورغم أنها قد عجزت عن بلوغ الغاية المنشودة منها إلا أنها قد حققت بعض التغييرات الهامة فى طريقة حكم وإدارة الإمبراطورية . وكان إثنان من هذه التغييرات ثوريين فعلاً - بمعنى أنهما كانا يخرقان التقاليد الإسلامية التى كانت تحكم الإمبراطورية دائماً. كان مجرد إعلان هذه التغييرات - والتى إرتبطت ببعضها أشد الإرتباط - صادما للرأى العام التقليدى وكان واحداً منها يقول بأن كل المواطنين العثمانيين يجب أن يتساووا بالكامل أمام القانون بصرف النظر عن جنسهم أو عقيدتهم. والآخر كان هو إدخال نظام قانونى جديد يتميز عن نظام الشريعة الإسلامية الذى يشرف عليه القضاة المسلمون.
كانت مساواة جميع المواطنين أمام القانون مبدأً علمانياً غير إسلامى نبع من حركة الإستنارة الأوربية والمثل القومية للثورة الفرنسية. ورغم أن التقاليد والقانون الإسلامى كانا يأمران بالتسامح وحماية الرعايا غير المسلمين فى الدولة كما كان قد سمح لغير المسلمين تبعاً لهذه المبادئ بدرجة معقولة من الإستقلال فى ظل النظام الملى فإن هذا لم يكن يعنى أن أعضاء هذه الأقليات كانوا يتساوون مع الأغلبية المسلمة. وكان من الطبيعى أن يؤثر مفهوم المساواة الجديد هذا وبشكل حتمى على سيادة الشريعة الإسلامية. ومرة أخرى كان هذا المبدأ على المحك. والواقع أن الحكام المسلمين منذ الأيام الأولى كانوا قد شجعوا وسمحوا فى الواقع بإنشاء محاكم تطبق فيها قرارتهم الإدارية والقانون العرفى. ولكن كان ذلك فى الأطراف فقط ، فقد كانت السيادة لمحاكم الشريعة خاصة فى قلب الإمبراطورية العثمانية. ولكن الآن كانت الخطوات الأولى تتخذ من أجل تنحية الشريعة عن مكانها من خلال خلق كيان قانونى جديد لديه سلطة تشريع القوانين. لم يكن التغيير فورياً فقد حاربته الجهات الدينية وإستطاعت لبعض الوقت منع إدخال قانون تجارى جديد خارج الشريعة. ومع ذلك فإن عملية علمنة القوة الإسلامية الكبرى فى العالم كانت قد بدأت. ولأن السلطان ومستشاريه المصلحين كانوا يدعون أن التغييرات تتفق مع الشريعة الإسلامية فلم تكن جمهرة السكان مدركة لأهميتها. ومع ذلك فقد كانت تلك التغييرات ثورية. والعرب والأتراك اليوم - إعتماداً على وجهة نظر كل منهما الخاصة- قد يعتبرونها كبدايات الطريق إلى الكارثة أو كخطوات نحو تحديث العالم الإسلامى والذى كان ضروريا لمواجهة القوة المعتدية لأوربا المسيحية. كانت إصلاحات التنظيمات تركز على الهدف الأساسى الخاص بإحياء الإمبراطورية . وتم التوسع فى سياسة السلطان محمود فى فتح مدارس عسكرية جديدة بمعلمين أجانب. أما نظام التجنيد الجديد فقد كان على قدر أكبر من الأهمية حيث خفضت مدة الخدمة العسكرية من مدتها اللامحدودة - حتى ذلك الوقت - إلى مدة محددة بخمس سنوات متبوعة بسبعة سنوات فى الإحتياط. وأُنشئ جهاز للشرطة المدنية أو قوة الدرك كما كان يُعرف. كان تحديث القوات المسلحة أمراً بسيطاً بالمقارنة مع مهمة رفع المستويات التعليمية رغم أنه كان يتطلب وقتاً وجهداً.
كان مصطفى رشيد يفهم أن ذلك كان شرطا أساسياً من أجل إنجاح باقى الإصلاحات الأخرى. كانت المؤسسات التعليمية الوحيدة القائمة هى المدارس القرآنية التى يديرها العلماء بتبرعات خاصة. واُطلق مشروع كبير لإنشاء جامعة وطنية وشبكة مركزية من المدارس الإبتدائية والثانوية واُنشئت وزارة للتعليم. ورغم الإدعاء بأن تدريس الدين كان الأولوية فى المناهج ففى الواقع فإن نظام من التعليم العلمانى كان فى سبيل الإنشاء بالفعل. وقد أنشئ عدد أقل مما كان متوقعا من المدارس ولكن مبدأ إنشائها كان هو الأمر الهام. ولكن هذه الإصلاحات كانت باهظة الثمن حيث إرتبطت بأكبر نقطة ضعف فى الإمبراطورية والسبب الرئيسى فى عجزها عن مواكبة قوى أوربا وهى الموارد المالية. ففى القرون العثمانية العظيمة الأولى إستطاعت مصادر الإمبراطورية الكبيرة أن تغذى جيوشها الفاتحة رغم أنه حتى فى ذلك الوقت فإن السلاطين المتعاقبين قد وجدوا أن نقص الموارد المالية قد وضع حدا لطموحاتهم. وعند منتصف القرن التاسع عشر تحول ميزان القوة الإقتصادية إلى صالح أوربا تماماً وخاصة بريطانيا وفرنسا حيث كانا قد عبرا إلى المرحلة الثانية من الثورة الصناعية التى كانت تركيا قد بدأتها بالكاد. كانت الدول الأوربية قادرة على إستخدام قواها السياسية والإقتصادية لإجبار الإمبراطورية على السماح لإقتصادها بالإندماج فى النظام الرأسمالى الحر للقرن التاسع عشر. وبدأت المنسوجات البريطانية والفرنسية والنمساوية ومصنوعات أخرى تتدفق على الشرق الأوسط فى السنوات الأولى لذلك القرن. وفى مواجهة إندفاع جيوش محمد على لم يكن السلطان فى وضع يمكنه من رفض الطلبات الأوربية. وكما رأينا فإن المعاهدة التركية الإنجليزية لعام 1838م قد أزالت كل الموانع على الواردات الأوربية. لم تكن التجارة الحرة ضارة تماماً بالإمبراطورية فعندما بدأت المصنوعات الأوربية تتدفق عليها فقد تأثرت الصناعات اليدوية التقليدية وصناعة النسيج ولكن حدث نمو كبير فى الطلب على المواد الخام مثل الحرير السورى والقطن المصرى والصوف الأناضولى. وقد زاد إنتاج الحبوب والفواكه أيضاً لمواجهة إحتياجات المدن النامية. وإزدهرت طبقة من التجار بدأ معها تطور المؤسسات الرأسمالية مثل البنوك وشركات التأمين والشركات التجارية المحدودة وذلك لأول مرة فى الإمبراطورية. ومع ذلك فقد كان هناك عائقان أمام حكام الإمبراطورية . الأول هو أن كثيراً من الثروة الجديدة كانت من نصيب الأجانب الذين إستفادوا من نظام الإمتيازات الأجنبية أكثر مما إستفاد الرعايا العثمانيون. أما الآخر فكان أن نهاية نظام الإحتكارات الحكومى التقليدى قد قضى على المصدر الأساسى لدخل الدولة. كان مصطفى رشيد وزملاؤه مدركين لأخطار السياسة التقليدية لتخفيض العملة لمواجهة عجز الميزانية المزمن. وقد إتخذوا خطوات لتجنب ذلك بسحب العملة القديمة وإصدار عملة جديدة على النمط الأوربى تتكون من جنيه ذهبى ينقسم إلى مائة قرش. وقد ضمن ذلك بعض الإستقرار النقدى لفترة من الزمن. ومع ذلك فقد لجأوا وفى نفس الوقت إلى الطريقة الخطيرة التى لامفر منها بإصدار سندات على الخزانة كوسيلة لزيادة الدخل. وقبل مضى وقت طويل أصبحت هذه السندات تتداول وكأنها شكل من أشكال العملة محدثة ضغطاً تضخمياً منذراً بالخطر. وبذلك أصبح الإغراء باللجوء إلى أوربا من أجل الحصول على قروض حكومية لسحب هذه السندات أمراً طاغياً. وفى ذلك الوقت وُجدت المؤسسات البنكية التى يمكن من خلالها تحويل مدخرات الطبقات الوسطى الأوربية- الراغبة فى ذلك- إلى إستثمارات أجنبية. وفى سنة1851م وقع مصطفى رشيد إتفاقية مع بنك بريطانى وبنك فرنسى من أجل قرض حكومى قدره 55 مليون فرنك. كانت تلك هى الخطوة الأولى نحو الطريق الذى أدى إلى إفلاس الإمبراطورية بعد عقدين من ذلك التاريخ. ولأن مصانع الأسلحة العثمانية كانت غير فعالة وعتيقة فقد كان لابد من إستيراد معدات جديدة من أوربا. وحتى فى وقت السلم فإن المجهود من أجل إسترجاع التوازن العسكرى مع الغرب قد أحدث ضغطاً ثقيلاً على مالية الإمبراطورية . وعند تلك النقطة كانت الإمبراطورية قد تورطت فى حرب مع عدوها الأوربى التقليدى ، روسيا. لم تكن حرب القرم من إختيارها ولكنها كانت – بشكل أكبر- نتيجة للتنافس بين القوى الأوربية.
كانت روسيا قلقة نوعا ما من إحتمال تحديث وتجديد تركيا ومع ذلك فإن القيصر الأوتوقراطى الطموح- نيقولا الأول- كان يعتقد أن سقوط الإمبراطورية يمكن أن يكون نتيجة محتملة لبرنامج الإصلاح. . وفى سنة 1855م إقترح على حكومة بريطانيا خطة لتقسيم الإمبراطورية تحصل إنجلترا بمقتضاها على كريت ومصر و تجعل من إسطنبول مدينة حرة بينما تحصل دول البلقان على إستقلالها الذاتى تحت الحماية الروسية. وأنكر القيصر أنه مازال يحمل أحلام كاترين العظيمة فى إسترجاع الإمبراطورية البيزنطية وقال أن الروس فى موقف المحظوظ الذى لايجعلهم فى حاجة إلى مزيد من الأراضى ومع ذلك فقد ظلت إنجلترا مرتابة فى نياته بشدة. كانت سياسة بريطانيا - مثلها مثل فرنسا والنمسا - هى الحفاظ على رجل أوربا المريض حياً لأطول وقت ممكن وذلك لمنع أى من أعضائه الحيوية من الوقوع فى أيادى روسية. ولذا كانت إستجابة بريطانيا لعرض القيصر متسمة بحذر شديد. ولقد كان من الممكن أن تترك الإمبراطورية فى سلام لولا ذلك النزاع الذى نشب بين فرنسا وروسيا حول السيطرة على الأماكن المقدسة فى فلسطين. ففى سنة 1740م قام السسلطان محمود الأول - من خلال معاهدة الإمتيازات الأجنبية التى وقعها مع فرنسا - بمنح إمتيازات إلى الرهبان الرومان الكاثوليك فى الأماكن المقدسة كما وضع الحجاج الفرنسيين وكذلك حجاج الأمم اللاتينية الأخرى تحت حماية العلم الفرنسى. ومع ذلك - ونتيجة للتأثير العلمانى للثورة الفرنسية - فقد تراجعت الإهتمامات الفرنسية فى الأراضى المقدسة . وإنتهزت روسيا الفرصة لتوسيع إمتيازات الكنيسة الأرثوذكسية فى الأراضى المقدسة على حساب الكاثوليك اللاتين الرومان. وفى سنة 1850م قرر الملك لويس نابوليون بسبب حاجته إلى تأييد الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية فى صراعه من أجل الحكم أن يعيد تأكيد الحقوق الكاثوليكية فى فلسطين وتقدم بطلب رسمى بهذا الخصوص إلى السلطان. وعندما رفض القيصر التنازل عن أى من الحقوق التى حصلت عليها روسيا هناك إقترحت الحكومة العثمانية حلاً وسطاً يمكن من خلاله لكلا الطرفين الحفاظ على إمتيازاته على أن يتولى السلطان بنفسه حماية الأماكن المقدسة والحجاج المسيحين. ورفضت كل من فرنسا وروسيا ذلك الإقتراح . وبطبيعة الحال كانت بريطانيا قلقة لذلك ولم تكن تسعى إلى الحرب بعكس روسيا وفرنسا ولكن ولأنها كانت تكره الطموح الروسى فى الإمبراطورية أكثر من ذلك الفرنسى فقد مالت إلى تأييد فرنسا وتركيا .
إجتهدت الحكومة البريطانية من أجل الحفاظ على السلام ولكن كان قد أصبح واضحاً أن روسيا كانت تهدف إلى تأمين الوصاية ليس فقط على الرهبان الأرثوذكس ولكن أيضاً على كل الإثنى عشر مليون أرثوذكسى من رعايا الإمبراطورية. وكان السلطان يرفض شيئاً كهذا. وعندما إحتل الروس ولايات الدانوب فى مولدافيا ووالستيا أعلنت تركيا الحرب. وعبرت القوات العثمانية الدانوب وحققت أربعة إنتصارات أولية وذلك لأن القوات العسكرية الروسية رغم ضخامتها قد كانت فى حاجة شديدة إلى التحديث مثلها مثل القوات التركية. وفى البداية بدا كما لو أن الإصلاحات العثمانية كانت تحقق نتائج . ودخل الأسطولان البريطانى والفرنسى مضيق الدردنيل. وكانت بريطانيا تأمل أن يكون ذلك كافياً لإقناع الروس بالإنسحاب ولكن القيصر نيقولا لم يتراجع. وقصف الأسطول الروسى موانئ البحر الأسود وحطم أسطولاً تركياً. وفى 27 مارس 1854م أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على روسيا بتأييد قوى من الرأى العام فى الداخل. إستمرت الحرب لأقل من سنتين وإنتهت عندما هددت النمسا بالتدخل ضد روسيا.
وإذا كانت العمليات العسكرية قد كشفت عن كثير من أوجه القصور فى كل من الجيش البريطانى والفرنسى - حيث بديا فى بعض النواحى وكأنهما مازالا يحاربان الحروب النابوليونية - فإن الروس كانوا فى حالة أسوء. ورغم أن الحرب كانت قد نشبت بسبب الشئون الذاتية للإمبراطورية العثمانية فلم تلعب فيها القوات التركية دوراً هاماً. فبعد النجاحات الأولية التى حققتها فى الدانوب ظلت فرقة تركية واحدة تشترك فى القتال.
نُوقشت بنود إنهاء الحرب فى معاهدة باريس فى مارس عام 1856 م . وتنازلت روسيا عن مطالبها بحماية المسيحيين العثمانيين واُستبدلت الوصايا الروسية الحصرية على ولايات الدانوب بوصاية مشتركة للقوى الأوربية. كما عُهد بالإشراف على حرية الملاحة فى الدانوب إلى إشراف لجنة دولية واُعلن حياد البحر الأسود. وبموجب المعاهدة تعهدت القوى المسيحية بإحترام إستقلال وسلامة أقاليم الإمبراطورية العثمانية- على أن تدعم ذلك بالتدخل العسكرى- إذا ماتطلب الأمر. وقد يمكن إعتبار أن ذلك كان بمثابة قبول لتركيا فيما كان يسمى بالوفاق الأوربى ولكن الطريقة التى تم بها ذلك كانت تنطوى على قدر كبير من الوصايا . والواقع هو أن القوى المسيحية كانت تدعى الحق فى التدخل فى الشئون الداخلية للإمبراطورية إذا ماشعرت أن مصالحها كانت مهددة من أحد منافسيها وفى نفس الوقت كانت تلك القوى تعبر عن موافقتها على الإصلاحات التركية ذات الصبغة الغربية أساساً . واُُعلن عن قانون أو مرسوم إمبراطورى جديد كمقدمة لمعاهدة باريس معيدا التأكيد على التنظيمات ماضياً بالإصلاحات لمرحلة أبعد. وقد تمت صياغة ذلك بالتعاون مع ممثلى القوى الأوربية خاصة السفير البريطانى النشط ستراتفورد كاننج. وبناء على إلحاح القوى الأوربية أُلحقت بنود الميثاق بمعاهدة باريس. وقد أعاد المرسوم الإمبراطورى فى بنود أقوى وأوضح- أكثر من أى وقت مضى- التأكيد على المساواة الكاملة لكل الرعايا العثمانيين بدون تحيز للطبقة أو للعقيدة وذلك فى كل مايتعلق بالضرائب والملكية والتعليم والعدالة. والواقع أنه إذا ماكان ذلك قد طُبق كاملاً فقد كان من شأن ذلك التصور أن يصل إلى حد هدم النظام الإسلامى الذى كان أساس الإمبراطورية ولكن ذلك قد تحقق جزئيا فقط. ومع ذلك فقد كان للميثاق بعض الآثار الهامة حيث اُُدخلت قوانين تجارية وبحرية وقوانين عقوبات جديدة كانت مؤسسة على القانون الفرنسى إلى حد كبير وإنتهت سيطرة الشريعة المقدسة على كثير من مناحى الحياة.
ومع ذلك فإن الإجراء الذى كان له أبعد وأسرع الأثر فى المجتمع العثمانى كان هو قانون الأرض الجديد ، الذى قام على أساس الممارسات الغربية والذى عُقد عليه الأمل فى أن يمكن الإمبراطورية من اللحاق بأوربا المسيحية . فالنظام التقليدى والذى كانت الأرض بموجبه ملكاً للدولة وكان للمزارعين بموجبه مجموعة من الحقوق المؤسسة مقابل دفع ضريبة منتظمة عرفت بإسم الميرى قد اُستبدل بنظام آخر قام على أساس الملكية الفردية بحقوق كاملة فى التصرف والوراثة. ولكن لم يكن من الممكن تطبيق مثل هذا الإصلاح الثورى بالكامل. فقد كان يتم المراوغة فى تنفيذه فى أحوال كثيرة وإستمرت كثير من الممارسات القديمة كما هى. كانت النتائج محبطة للغاية. لقد كان النظام القديم قاسياً وغير عادل فى كثير من الوجوه حيث كان نظام الإلتزام قد اُستخدم ببشاعة وقد كان الغاؤه أحد اهداف الإصلاحات العثمانية المؤجلة منذ زمن طويل. ولكن النتيجة العملية لقانون الأراضى الجديد كان هو تحويل كثير من الملتزمين أصحاب النفوذ إلى ملاك أراضى وتحويل معظم المزارعين إلى مزارعين محاصصين ( يعملون مقابل حصة من المحصول ) أو عمال مأجورين. ومن ثم وجُدت طبقة قوية من ملاك الأراضى ولكن قليلاً فقط من أعضاء هذه الطبقة الجديدة كانوا مستنيرين أو مزارعين تقدميين. ولذا فلم تُخلق تلك الطبقة الفلاحية المزدهرة على النمط الأوربى التى تستثمر وتطور فى أملاكها الخاصة كما أن المجهودات الطيبة التى قام بها المصلحون من أجل زيادة الناتج الزراعى عن طريق التوزيع المجانى للبذور وإنشاء شبكة من البنوك التعاونية الريفية لإمداد الفلاحين بسلف رخيصة وسهلة كان مصيرها الفشل أيضاً حيث اُفتقد النظام الإداري الضرورى وكذلك الخبرة التقنية اللازمة لذلك. كان النجاح الجزئى البسيط هو تسكين بعض مئات الآلاف من اللاجئين من روسيا فى بعض الأراضى الغير مزروعة فى الأناضول ، فى ذلك الوقت . وقد أحاطت مشاكل مماثلة بكل مجهودات المصلحين العثمانيين لزيادة القدرة الإنتاجية لإقتصاد الإمبراطورية كوسيلة أساسية لرفع دخل الدولة كما كان يحث السفراء الغربيون فى إسطنبول. والواقع فقد كانت مبادئ التجارة الحرة التى فرضتها أوربا هى التى منعت المصلحين من توفير الحماية للصناعات العثمانية الوليدة والتى كانت تحتاجها كى تستمر. والحقيقة أنه لم يكن هناك توقع لقفزة قوية فى الإقتصاد العثمانى والتى كان يمكن أن تمكنه من منافسة إقتصاديات القوى الصناعية فى أوربا الغربية. فقد كانت الملامح الأساسية لرأسمالية القرن التاسع عشر المتطورة والخبرة لإدارتها مفتقدة وكان سيلزم أكثر من جيل لتطويرها . وبالإضافة إلى ذلك فإن نظام الإمتيازات الأجنبية كان يعنى أن كثيراً من جوانب الإقتصاد الأكثر تقدماً كانت فى أيادى أجنبية ومن ثم كانت خارج نطاق السيطرة.
وفى سنة 1867م اُدخل تعديل على قانون الأرض يُمكن الأجانب للمرة الأولى من إمتلاك الأرض فى الإمبراطورية . وقد حاول الإصلاحيون تطوير البنية التحتية المتخلفة للإقتصاد العثمانى ، أى الطرق والسكك الحديدية والموانئ . ولكن كل مجهود فى هذا الإتجاه قد زاد فقط من عبء الدين الحكومى. وبرغم بعض التحسن فى تحصيل الضرائب فإن النفقات كانت تتجاوز الدخول دائما. ولم تلبث الحكومة العثمانية أن أصبحت مضطرة لإتخاذ الخطوة القاتلة بإستخدام عائدات القروض الأجنبية لمواجهة عجز الميزانية المتزايد. وأخيراً وفى أكتوبر 1875م أصدرت الحكومة بياناً عاماً أعلنت فيه بأنه يمكن دفع نصف المبلغ المستحق لخدمة الدين نقدا فقط وأن الجزء الباقى سوف يتم تغطيته عن طريق إصدار جديد لسندات حكومية. كان ذلك يساوى إشهار الإفلاس . ورغم أن تجربة القرن التاسع عشر كانت قد أظهرت كيف يمكن للدول المدينة أن تستغل موقفها بمهارة مع دائنيها فقد كان ذلك موقفاً فظيعاً وجد فيه العثمانيون ذوى الكبرياء أنفسهم. ومات السلطان عبدالمجيد فى عام1861م فى الثامنة والثلاثين من عمره. وربما- إذا ماكان شخصية أكثر قوة وكان قد مُنح تأييدا أقوى لرشيد باشا وخلفائه على وفؤاد باشا - فقد كان من المحتمل أن تثمر الإصلاحات نتائج أكثر قوة. ولكن ذلك كان أمراً مشكوك فيه جداً. فقد كان هناك حد ضيق لما يمكن أن تحققه القرارات المتخذة من المركز فى محاولة لتغيير المجتمع فى مثل تلك الإمبراطورية الواسعة.
ومن خلال المدارس والأكاديميات الجديدة فإن أكثر الإنجازات دواماً كان هو توسيع العملية - التى كانت قد بدأت قبل ذلك مبكرا فى نفس القرن- بتطوير نخبة عثمانية إنفتحت على العالم الخارجى للمرة الأولى منذ قرون وأصبحت قادرة على أن تتكلم اللغات الأجنبية وتستوعب أفكاراً جديدة. وبطبيعتها فإن مثل هذه العملية يمكن أن تكون تدريجية فقط ولكن كان أيضاً من الصعب على الرجعيين إيقافها. ونحو نهاية القرن كانت النتائج قد أصبحت واضحة بظهور طبقة هامة من شباب الأتراك المثقفين الذين يفهمون حاجات بلادهم فهما حقيقياً ولم يعد المصلحون مجرد حفنة صغيرة من الرجال المعزولين. وقد كان للتغييرات فى قلب الإمبراطورية وجهها السلبى ، مع ذلك . فجزئياً وكوسيلة لدفع الإصلاحات فقد زاد السلطان محمود من سلطاته الأوتوقراطية فأخضع الإنكشارية وقلل من سلطة الملكيات الإقطاعية والعصبيات المحلية فى الولايات. وقد عُززت هذه العملية بالحد من سلطة العلماء فى مسائل الدين والتعليم والقانون.
وقد أكد السلطان عبد العزيز الذى خلف أخاه عبد المجيد فى عام1861م لقبه كخليفة- والذى أصبح منذ ذلك الحين مجرد لقبا إسميا - وإدعى بأنه القائد الروحى والسياسى للإمبراطوية. أما القوى الموازنة العديدة والتى كان حتى على أعظم السلاطين الأوائل منازعتها فقد اُزيحت واحدة فى أثر الأخرى . ولكن كان حتمياً فى النهاية أن تعمل مفاهيم الحكومة الدستورية الغربية والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية - والتى كانت قد إخترقت الصفوة العثمانية الجديدة - ضد إستبداد السلطان. كان عبدالعزيز ذا شخصية أقوى من شخصية أخيه ولكن قدراته العقلية كانت محدودة. ورغم أنه مبدأيا كان قد أعلن نفسه مصلحاً فسرعان ما أظهر تعاطفه مع الرجعيين. ومع ذلك فقد كان عاجزا عن إيقاف عملية الإصلاح. لقد كان تحت ضغط مستمر من قوى أوربا بقيادة فرنسا وفى ظل ظروف الإمبراطورية المالية السيئة لم يكن فى موقع يمكنه من المقاومة. ولذا فقد سمح على مضض لعلى باشا وفؤاد باشا بمتابعة الإصلاحات التعليمية والقانونية. وبحلول سنة 1871م كان على وفؤاد باشا قد ماتا. أما فرنسا التى كانت الملهم لأفكار الإصلاح الليبرالية فقد كانت قد هُزمت على يد بروسيا وضعف الضغط الخارجى ولم يكن هناك رجال ذوى شأن لمتابعة الإصلاح. ومع ذلك فقد حدث عندئذ أن بدأت الضغوط الداخلية فى الظهور من مستوى أقل. فحتى القرن التاسع عشر لم يكن هناك أى تركى مدركا تماماً للتقدم التقنى والمادى الكبير الذى حققته أوربا المسيحية. فلم يكن الأتراك قد عرفوا بعد التحدث باللغات الأجنبية ولا السفر إلى الخارج كما أن تعليمهم وتربيتهم قد ساعدت على إقناعهم بالتفوق الحتمى للعالم الإسلامى. ومع ذلك فعند منتصف القرن التاسع عشر كان ذلك الموقف قد تغير. لم يكن يهم كثيراً أن الافكار الأوربية عن الحرية والمساواة التى إنبثقت من حركة الإستنارة والثورة الفرنسية كانت قد إخترقت الإمبراطورية من خلال نظام التعليم المحدث والمطابع الجديدة ، لأن هذه الأفكار كانت موجودة فى الواقع فى النظم الأساسية للإمبراطورية التى كانت أساس التنظيمات. ولكن الذى كان يهم فعلاً هو أن الشباب العثمانى الذى كان قد أصبح ملماً بتلك الأفكار آنذاك كان يسافر إلى الخارج بأعداد متزايدة وأصبح قادراً على أن يرى بنفسه ماذا حدث فى البلاد التى إزدهرت فيها مثل تلك الأفكار. وقد عبروا عن رد فعل غاضب خجل بأن المجتمع العثمانى قد أصبح متخلفاً فقيراً ومعدماً للغاية ، بالمقارنة مع الغرب. وخلص بعضهم إلى أن الضرورة الأولى كانت هى إدخال المبادئ الغربية للحكومة الدستورية رغم أنهم قد إستمروا فى زعمهم الدائم بأن ذلك يتوافق مع العقيدة الإسلامية. وبالنسبة للبعض الآخر كان الحل يكمن فى إحياء وإسترجاع المبادئ الحقيقية للإسلام - والتى كان قد سُمح لها بالزوال . وهذه الإتجاهات المتعارضة تتواجد فى أنحاء العالم الإسلامى حتى الوقت الحالى . ولكن فى سنة 1860م إتفقا مؤيدا الإتجاهين على الحاجة الملحة لتقليص السلطات المطلقة للسلطان . وفى عام 1865م تكونت جماعة سرية ثورية عرفت بإسم ( الشباب العثمانى ). وفى الواقع فقد كان ذلك هو أول حزب سياسى فى الإمبراطورية العثمانية. وقد إستمدت إلهامها الفكرى من حركة أدبية جديدة تأثرت بشدة بالمثل والكتابات الفرنسية لكنها كانت شديدة الوطنية أيضاً. كان ناميك كيمال وضياء باشا كاتبين وشاعرين من الدرجة الأولى وعندما نفيا بسبب الإثارة السياسية التى أحدثاها فقد إستمرا فى نشر جرائد معارضة ومنشورات فى العواصم الأوربية وتهريبها إلى تركيا . عانت الإمبراطورية سلسلة من الإهانات على أيدى القوى الأوربية. وفى سنة 1861م وعلى أثر حرب أهلية فى لبنان بين الموارنة المسيحيين وبين الدروز أنزل نابوليون الثالث - بصفته حامى المسيحيين - قواته فى بيروت. وإضطر السلطان لقبول الإستقلال الذاتى للبنان بقيادة حاكم مسيحى تختاره القوى الأوربية بموافقة السلطان. وعندما ثار الصرب فى سنة 1860م أجبر الضغط الغربى تركيا على سحب قواتها من المنطقة. ثم ثار الكريتيون وأعلنوا إتحادهم مع اليونان. ورغم أن القوات العثمانية إستطاعت قمع الثورة فقد عقدت القوى الغربية مؤتمراً فى باريس قبلت فيه تركيا إستقلال كريت الذاتى فى ظل حكام مسيحين.
ولأن السلطان عبدالعزيز شخصيا كان مبذراً متقلب الأهواء فقد ساعد ذلك على إغراق الإمبراطورية فى مزيد من الديون. وقد تدهور الموقف أكثر بسبب الكساد الإقتصادى العالمى آنذاك. وفى سنة 1876م قُمعت بوحشية شديدة ثورة قام بها الفلاحون المجريون. وقد ساعدت الفظائع التى إرتكبها الأتراك على إثارة الرأى العام فى الغرب ضدهم بشكل كبير. وقام السلطان بتعيين مجموعة من رؤساء الوزراء إلا أنه كان يعزلهم فى غضون أشهر قليلة. وعلى يد واحد من هؤلاء كان خراب السلطان. كان مدحت باشا - وهو أعظم رجال الدولة الأتراك فى أخريات القرن التاسع عشر- دستورياً مستتراً شارك العثمانيين الشباب آراؤهم. وفى سنة 1873م أخبر السفير البريطانى أن الطريقة الوحيدة لتجنب الدمار السريع للإمبراطورية يكمن فى جعل وزراء السلطان مسئولين - خاصة فى المسائل المالية - أمام مجلس وطنى حقيقى يخلو من التمييز الطبقى والدينى. كما أن الإمبراطورية يجب أن تصبح لامركزية بتأسيس إشراف إقليمى محلى على الولاة.
وبينما كانت المشكلة السياسية والإقتصادية تزداد عمقاً مع التهديد الروسى بإثارة حرب فى البلقان أجبرت تظاهرة ضخمة قام بها طلاب المدارس الدينية - أمام مقر الحكومة فى إسطنبول- السلطان على إستدعاء مدحت باشا المعزول إلى الوزارة مرة أخرى . ونجح مدحت باشا فى إقناع زملائه الوزراء بضرورة التغيير الدستورى فأقنعوا المفتى العام للدولة بإصدار فتوى بتنحية السلطان على أساس إضطرابه العقلى وجهله بالشئون العامة. وأمام إستعراض قوة قام به الجيش والأسطول لم يبد عبدالعزيز أى مقاومة. لقد كانت قوة الطلبة هى التى إستهلت الإنقلاب مؤسسة بذلك سابقة مشئومة. وعُقدت آمال واسعة على السلطان الجديد – مراد - ابن أخى عبدالعزيز والذى كان يحظى بسمعة جيدة كمؤيد للإتجاهات الدستورية الليبرالية. ولكن مراد أثبت أنه كان يعانى فعلاً من إضطراب عصبى. وكان من الضرورى إستبداله فوراً بأخيه الأصغر عبد الحميد. كان عبد الحميد الثانى- الذى أدى حكمه البالغ ثلاثة وثلاثين عاماً (1876-1919م) إلى المراحل النهائية للإمبراطورية - آخر سلطان ذا أهمية . كانت شخصيته المعقدة مختلفة بشكل ملفت للنظر فى أوجه كثيرة عن معظم أسلافه . ففى حياته الشخصية كان صارماً شديد التدين أما فى عمله فقد كان مثابراً ضارياً. وقبل توليه العرش - والذى لم يكن يتوقعه - كان يدير مزرعة ويتعلم شيئاً عن التعاملات المالية عن طريق الإستثمار فى سوق الأوراق المالية بإسطنبول. وكان يمكن أن يقسو إلا أنه لم يكن قاسياً أومحباً للإنتقام بلا مبرر. وقد كرس طاقاته الهائلة من أجل الحفاظ على الإمبراطورية وكان نهجه فى ذلك هو متابعة تلك الإصلاحات التحديثية التى كان من المحتمل أن تقوى دفاعاتها وتسترجع قوتها بينما تبقى فى نفس الوقت على إستبداد شخصى كان قد عفى عليه الزمن. وقد جعلت نزعته الطبيعية - والضرورة أيضاً - منه مخادعاً إلى درجة كبيرة فى تعامله مع شعبه نفسه ومع القوى الأجنبية المتغطرسة. وقد بدأ حكمه بخداع الإثنين.
كانت البلقان فى أزمة شديدة عندما إستمرت روسيا – العدوانية- فى تأييد ثوار صربيا ومنتينجرو ضد السلطان وإدعاء الحق فى حماية الرعايا العثمانيين المسيحين. وفى محاولة لتجنب الحرب دعت الحكومة البريطانية التى يقودها دزرائيلى- الذى كان متحمساً مثل أسلافه لتجنب تدمير الإمبراطورية - إلى عقد مؤتمر فى إسطنبول لمناقشة المشاكل العالقة. وبينما كان المؤتمر يحقق تقدماً بطيئا ولكن حقيقياً أثناء ديسمبر 1876م أصدر السلطان الشاب دستورا جديداً. نص ذلك الدستور الذى أوصى به مدحت باشا واُسس على الدستور البلجيكى لسنة 1831م على إنشاء برلمان منتخب و نص على مبدأ معاملة كل الرجال من مختلف العقائد بالتساوى وكان الأول من نوعه فى أى دولة إسلامية . وكما حدث فعلاً فقد قلل ذلك الدستور من أهمية مؤتمر إسطنبول حيث بدا أنه يوفر نوع الإصلاحات التى كانت تدعو إليها القوى الأوربية.وإجتمع البرلمان فى مارس عام1877م وأصدر إعلاناً بأنه لاتوجد حاجة للحماية الروسية للمسيحيين العثمانيين. وفى حالة من الإحباط والسخط أعلنت روسيا الحرب على الإمبراطورية العثمانية بعد تأمينها لحياد النمسا عن طريق إتفاقيات سرية قسمت بموجبها البلقان إلى مناطق نفوذ تخص كل منهما.وفى البداية حققت القوات العثمانية لنفسها بعض الإعتبار بإنتصارها فى عدة معارك ضد أعداد تفوقها كثيراً ولكن الخطط المفرطة فى الثقة أدت إلى كارثة. وأُجبر أحد الجيوش الذى حوصر فى بليرنا على الإستسلام. وثارت قوات السلاف فى كل نواحى البلقان. وإحتل جيش روسى المناطق الأرمينية فى شرق الأناضول وتقدم آخر نحو إسطنبول. وإضطرعبد الحميد إلى توقيع معاهدة سان إستفانو المذلة والتى حددت بداية التفكك الفعلى لللإمبراطورية من خلال إنشاء دولتين سلافيتين كبيرتين مستقلتين هما بلغاريا ومونتينجرو( الجبل الأسود ) . فزع دزرائيلى حينما رأى السلطان يتراجع إلى حالة من الخضوع التام لروسيا وجادل بأن كل القوى الأوربية لها حقوق فى البلقان بموجب بنود المعاهدات السابقة. ومع ذلك فقد كان على دزرائيلى أن يعمل بحذر فبرغم أنه كان يحظى بتأييد الملكة فيكتوريا - كارهة الروس- والتى كانت تعتبرهم معوقين لكل حرية أو حضارة قائمة فقد كان نصف أعضاء وزارته يعارض أى حرب من أجل تركيا. أما الرأى العام البريطانى الذى كان قد إستثاره الشجب الخطابى لقائد المعارضة الليبرالية وليم جلادستون للفظائع التركية فقد كان أيضاً بشكل عام ضد تركيا. ولكن الجمهور البريطانى كان متقلبا. فبينما إستمر الروس يتقدمون نحو إسطنبول برغم الهدنة نجح دزرائيلى فى حشد مجلس وزرائه خلف تهديده بالتدخل. وبذلك ألغى مؤتمر برلين الذى جمع كل القوى الأوربية سنة 1878م برئاسة المستشار الألمانى بسمارك- وبفاعلية- معاهدة سان إستفانو وأعاد تقسيم البلقان بشكل يراعى مصالح كل القوى الأوربية وليس روسيا فقط.
وأُعترف بإستقلال رومانيا وصربيا ومونتنجرو ولكن الدولة البلغارية الكبيرة التى أقامتها روسيا من خلال معاهدة سان إستفانو تقلصت وقُسمت إلى ولايتين أصبحت واحدة منهما ولاية عثمانية تتمتع بحكم ذاتى وتسمى الروملى الشرقى ( روميليا الشرقية) . وقد علق بسمارك على ذلك بقوله( مرة أخرى توجد تركيا فى أوربا). لقد كانت مثابرة دزرائيلى- الذى كانت الملكة فيكتوريا قد شرفته آنذاك بمنحه لقب لورد بيكونزفيلد - هى التى فرضت ذلك الإنسحاب الروسى. وقد مكن السلطان أيضاً من إسترداد أقاليم أرمينية كثيرة فى شرق الأناضول - كانت روسيا قد إحتلتها- وذلك مقابل تعهدات صريحة قُدمت لمؤتمر برلين بإصلاحات من أجل السكان الأرمن وضمانات لأمنهم من هجوم المسلمين الجراكسة والأكراد. أما التعويض المقابل للمساعدة التى قدمتها بريطانيا فى حماية أجزاء هامة من الإمبراطورية العثمانية ضد روسيا فقد كان معاهدة إنجليزية تركية سرية قبل شهرين من ذلك التاريخ سُمح لبريطانيا بموجبها بإحتلال وإدارة جزيرة قبرص ، المفتاح إلى غرب آسيا فى تصور دزرائيلى الإستعمارى. ولتهدئة مخاوف فرنسا من أن يكون ذلك قد أعطى بريطانيا كثيراً من النفوذ فى شرق المتوسط فقد سُمح لفرنسا بأن تفهم بأنه يمكن لها أن تطلق يدها فى تونس حيث كان لبريطانيا حتى ذلك الوقت طموحات كبيرة هناك .وبعد ثلاث سنوات على ذلك التاريخ ألزمت فرنسا بريطانيا بكلمتها وقامت بغزو تونس وإعلانها محمية فرنسية. وقد جعل هذا الأمر من الصعب على فرنسا أن تعترض عندما قامت بريطانيا بغزو مصر فى السنة التالية. تابع عبد الحميد ببعض المهارة سياسته الدبلوماسية فى التلاعب بالقوى الأوربية المرتابة فى نيات بعضها البعض وراح يراوغ فى تنفيذ بنود معاهدة برلين بقدر المستطاع ولكن كان هناك حدوداً لما يستطيع أن يفعله . ففى سنة 1885م ثار البلغار فى الرومللى الشرقى(روميليا الشرقية) وإتحدتا الولايتان البلغاريتان فعين السلطان الأمير الكسندر باتنبرج أمير بلغاريا حاكماً للرومللى الشرقى كطريقة دبلوماسية لقبول الإتحاد . كان عبد الحميد أكثر نجاحاً مع اليونان فقد رفض التخلى لها عن منطقة أبيروس التى يسكنها مسلمون وتمكن من الإستمرار فى الإحتفاظ بكريت. ومع ذلك فإن الإمبراطورية العثمانية فى أوربا كانت قد إنتهت فى الواقع. أما فى قلب الإمبراطورية فى الأناضول فقد كان الموقف مختلفاً.
وفى أرمينيا كان هناك غليان من أجل تنفيذ الإصلاحات التى وُعد بها فى معاهدة برلين. ولكن وبوحى من سلسلة الحكومات الغير مسلمة المستقلة التى خلفت الإمبراطورية فى أوربا ذهب الوطنيون الأرمن لأبعد من ذلك وطالبوا بإستقلال وطنى. لم يكن لدى عبدالحميد النية فى السماح للقوى المسيحية بإملاء الطريقة التى يحكم بها ماتبقى من إمبراطوريته. وبمجرد أن إنتهى مؤتمر القسطنطينية فى سنة 1876م أبعد مدحت باشا - القوة الرئيسية خلف الدستور الليبرالى الذى كان عبد الحميد قد قبله - وأرسله إلى المنفى. وفى سنة 1878م عينه حاكماً على سوريا ولكن فى سنة 1881م تم إبعاده مرة أخرى . وبعد السماح له بالعودة إلى تركيا بعد ضغط بريطانى قُدم للمحاكمة بتهمة التآمر ضد السلطان وحُكم عليه بالسجن المؤبد لكنه قُتل بعد ذلك بهدوء فى سجنه بالجزيرة العربية.
وكما رأينا فقد كان عبد الحميد قد سمح للبرلمان التركى بالإنعقاد فى مارس عام 1877م. وقد أظهر البرلمان برغم محدودية سلطته بعض إشارات مقلقة بإستقلاليته لدرجة مطالبته بأن يمثل بعض وزراء السلطان أمامه للإجابة على التهم الموجهة إليهم. ورد عبد الحميد بحله بعد دورة إستغرقت ثلاثة أشهر. وبعد ستة أشهر على ذلك التاريخ إستدعى البرلمان للإنعقاد مرة أخرى آملا فى أنه قد يصبح أكثر إذعاناً فى ظروف الأزمة الدولية المستمرة التى سببها التهديد الروسى. ولكن بمجرد إبرام معاهدة برلين فى يناير 1878م جدد البرلمان إتهاماته ضد بعض الوزراء ومطالبته بضرورة أن يمثلوا أمامه للدفاع عن تلك التهم. وهذه المرة شعر عبدالحميد بأنه كان قويا بالقدر الكافى الذى يسمح له بحل البرلمان وتعليق الدستور إلى أجل غير مسمى. وقد إستمر هذا التعليق لمدة أربعين سنة. وبذلك سُحقت وتحطمت حركة الإصلاح التى قادها العثمانيون الشباب وبنى السلطان الشاب نظامه الأوتوقراطى المميز. وتدريجيا أخذ فى تقليص السلطات التى كانت قد فوضت للصدر الأعظم وأعاد فرض بيروقراطيته الشخصية التى ترفع تقاريرها إليه مباشرة. وقد قادته طبيعته شديدة الريبة إلى الإعتماد على نظام محكم من الجاسوسية جاعلا من إسطنبول قلبا لشبكة عنكبوت من التآمر الإمبراطورى. لم يكن لديه أصدقاء ولم يكن يثق بأحد وكان خوفه من الإختطاف أو الإغتيال هستيريا لدرجة أنه كان يقتلع أسنانه ويستحضر أدويته الخاصة بنفسه. ولم يكن جواسيسه فى الولايات يرسلون التقاريرعن الأفراد والجماعات التى تظهر إشارات تدل على القوة أو الطموح فقط ولكنهم أيضاً كانوا يقومون وبناء على أوامر السلطان ، بتشجيع المنافسات والعداوات المحلية . لقد كان يفضل إستخدام الحبل الحريرى على السيف. لم يكن لدى عبد الحميد أى ميول للدستورية أو للديموقراطية لكنه لم يكن فى نفس الوقت رجعياً ضيق التفكير. وبتعبير معاصر فقد كان مجدداً أكثر منه متغرباً أو تابعاً للغرب - ومثل بعض أسلافه - كان قد قبل بمبدأ الحاجة إلى التعلم من أوربا كى ينهض إلى مستوى قوتها. وفى السنوات المبكرة من حكمه كان مستعداً لتنفيذ التنظيمات ( الإصلاحات ) وقطع شوطاً نحو وضعها موضع التنفيذ فعلاً. كان صدره الأعظم الأول - محمد سعيد باشا المعروف بإسم سعيد إنجليز بسبب ميوله الإنجليزية - قد أعلن فى مذكرة مطولة بخصوص موضوع الإصلاح ( أن تقدم أى أمة يمكن أن يُؤمن فقط من خلال المعرفة والإستقامة ويجب أن يحصل الناس على أفضل تعليم كما أن الدولة يجب أن تكون أكثر عدالة وأقل فساداً ). كان التعليم الوطنى هو المجال الذى حقق فيه الإصلاح نجاحاً أكبر- خاصة فى المستوى العالى. فقد تم تطوير الملكية - التى كان يقصد بها كلية تدريب الخدمة المدنية – والحربية - التى كان يقصد بها كلية الحرب - كما اُسست حوالي ثمانية عشر مدرسة عليا وتخصصية جديدة. أما مشروع جامعة إسطنبول - المؤجل منذ زمن طويل- والتى وُصفت بأنها كانت أول جامعة أهلية حقيقية حديثة فى العالم الإسلامى فقد تم إنجازه رغم أنها لم تفتح أبوابها بالفعل إلا فى سنة 1900م.
كما تم تطوير التعليم الإبتدائى والثانوى أيضاً حيث كان هناك إحتياج لمدارس جديدة لمد كليات التدريب بالتلاميذ. ومع ذلك فقد خدمت تلك المدارس أقلية من مجموع السكان فقط وكان نظام تعليم وطنى حقيقى مازال هدفاً بعيداً فى الواقع. ومع ذلك - فإن الصفوة التركية الجديدة التى تعلمت بلغات وأساليب حديثة كانت قد أصبحت أكثر عددا عند نهاية القرن. كان إنتشار التعليم ونمو التعليم العالى وتوسع الطباعة قد غير من حياة المدن الثقافية والفكرية. ومع ذلك - وفى ظل حكم عبدالحميد - فإن الرقابة التى كانت موجودة قبله بالفعل قد شُددت إلى حدود غير منطقية. وبرغم تضاعف عدد الصحف فقد كان يتم تفريغها من محتواها بواسطة الرقيب. ولأن السلطان كان يرتعد خوفا من الإغتيال – مثلا - فلم يكن مسموحا بنشر أى تقرير عن قتل رئيس أى دولة. وعندما قُتل ملك وملكة صربيا فى سنة 1903م أخبر قراء الصحف التركية بأنهم ماتوا من سوء الهضم. وقد كان من شأن حظر النشاط السياسى والمناقشة أن إنحصر مجال الجيل الجديد من المثقفين الأتراك فى الكتابة الأدبية والأكاديمية. ومع ذلك فلم يكن هناك طريقة يمكن من خلالها عزلهم عن الأفكار الثورية والعلمانية. والذى حدث فقط هو أن المشاعر السياسية قد دُفعت للإختباء تحت الأرض. وغذى التآكل المستمر المذل للقوة العثمانية على يد أوربا من مشاعر السخط برغم كل مجهودات السلطان وصدره الأعظم. ولأن الإمتيازات الأجنبية كانت أحد أهم مظاهر الضعف العثمانى فقد إجتهدت الحكومة العثمانية من أجل السيطرة عليها.
كانت الحقوق الخاصة الناتجة عن الإمتيازات الأجنبية قد مُنحت لغير المسلمين فى الإمبراطورية فى القرن السادس عشر عندما كانت قوة العثمانيين فى ذروتها . فمن أجل دفع وتشجيع التجارة والصناعة فقد أعفى غير المسلمين من الضرائب ومُنحوا حق المحاكمة أمام محاكمهم القنصلية الخاصة. ولكن عندما إضمحلت قوة العثمانيين فقد دعمت هذه الإمتيازات واُسئ إستخدامها بشكل صارخ. فلم تعد الجماعات الأجنبية محمية ومميزة فقط بل أصبحت فوق القانون فى الواقع. وجادلت القوى الأوربية بأنه برغم الإصلاحات التى تم إدخالها فى سنة 1869م فإن النظام القانونى العثمانى لم يكن مناسباً بأى حال للتطبيق على رعاياها فى الإمبراطورية . وفى السنوات الأولى من حكم عبد الحميد كان قد بُذل بعض الجهد لعلاج هذه الإعتراضات ومُنحت وزارة العدل التى كانت قد اُسست – حديثاً - حق الإشراف على المحاكم التجارية أولاً وبعد ذلك على كل المحاكم غير الدينية. كما حاول قانون جديد تنظيم المحاكم المختلطة التى كانت قد اُسست قبل ذلك فى أوائل القرن التاسع عشر لمعالجة القضايا بين الرعايا العثمانيين المسلمين وغير المسلمين. ولكن كل هذه الجهود قد فشلت. فقد رفضت القوى الأوربية بفظاظة الإعتراف بهذه النظم الجديدة. و لذا لم تمس الإمتيازات الخارجة عن التشريع الوطنى وإستمرت فى النمو. وبذلك زال الدافع وراء كل إصلاح قانونى. وفى سنة 1888م حل السلطان لجنة الصياغة الرسمية التى كان قد أسسها سلفه لإعداد القوانين الجديدة. لقد كانت الحقيقة بأن إمتيازات القوى الأوربية القانونية الخارجة عن التشريع الوطنى ظلت كما هى لم تمس - مؤسفة جداً - وكان الأسوء أن الإمبراطورية نفسها كانت مفلسة ومضطرة للخضوع لإجراء الإشراف المالى الخارجى. وفى الواقع فقد اُعلن إشهار الإفلاس فى سنة 1875م فى السنة الاخيرة من حكم السلطان عبدالعزيز ، عندما أعلنت حكومته إنه بناء على حجم عجز الميزانية فإنها سوف تخدم فقط نصف الدين الخارجى نقداً على أن تعوض النصف الباقى بإصدار جديد لسندات خزانة. وكان ذلك العجز قد حدث جزئياً بسبب سلسلة من الحصاد الزراعى السئ فى الأناضول ولكن بشكل أكبر بسبب النفقات العسكرية الباهظة التى ترتبت على إخضاع ثورات البلقان والحرب ضد روسيا.
كان هناك صعوبة بين القوى الأوربية فى تنسيق سياساتها تجاه إسطنبول لكنها كانت تتحرك بصلابة بإتجاه فرض شروطها المالية على الإمبراطورية . وقد جعل مؤتمر برلين الموقف أشد سوءً بإجبار السلطان على التنازل عن أغنى مقاطعاته البلقانية. وقد حضرت المؤتمر لجنة تمثل الأوربيين أصحاب السندات العثمانية من أجل فرض مطالبهم فى ظل تأييد شديد من حكوماتهم. وفى حاجته اليائسة لإرضاء دائنيه الأوربيين أصدر عبدالحميد فى سنة 1881م مرسوم محرم بإنشاء مجلساً للدين العام بالإتفاق مع حاملى السندات لتأمين الإستمرار فى خدمة الدين العثمانى و كان من المفترض أن يضم المجلس كل من حاملى السندات والمندوبين العثمانيين. ورغم أن ذلك المجلس لم يكن لجنة دولية كاملة ذات مندوبيين خارجيين رسمين - كما كانت الدول الأوربية تقترح - ورغم أن السلطان كان يستطيع أن ينكر أنه ينتهك السيادة العثمانية فقد كان من الصعب حجب حقيقة أن الإمبراطورية أصبحت تخضع بدرجة كبيرة للسيطرة المالية الأجنبية وأن ذلك كان يتضح بشكل متزايد على مر السنين. ورغم أن كثيراً من الدول الأوربية المتخلفة إقتصادياً - وكثير من دول أمريكا اللاتينية قد فشلت فى سداد ديونها فى الوقت المستحق وأن الدول الكبرى كانت تمنح حاملى سندات هذه الدول درجات متفاوتة من التأييد لحل الموقف فإن قبول هذا الإذلال كان أمراً مختلفا تماماً بالنسبة للخليفة السلطان قائد القوة الإسلامية الكبرى الوحيدة. كانت البضائع الصناعية الأوربية قد بدأت تتدفق فعلاً على تركيا فى النصف الأول من القرن التاسع عشر بعدما فشلت محاولات الحماية العثمانية. وقد ساعد الإشراف المالى الأوربى على تدفق هذه الواردات. وكان هناك ثلاثة بنوك رئيسية- يسيطر عليها الأجانب - مستعدة دائماً لتقديم العون لسياسات مجلس الدين العام وهى بنك تركيا الوطنى والبنك الإمبراطورى العثمانى وبنك ديتشى بالإضافة إلى السفارات الأجنبية. ومع ذلك فإن القوى الأوربية لم تكن تحاول خنق الصناعات التركية المحلية بل على العكس كانت تشجع مجهودات الإصلاح العثمانية لزيادة الإنتاج كأفضل وسيلة لزيادة القدرة الضريبية للسكان ومن ثم زيادة قدرة الحكومة العثمانية على دفع ديونها. وكان كل من عبدالعزيز وعبد الحميد مدركاً لأخطار الإعتماد الإقتصادى المتزايد على أوربا وقد حاولت إصلاحات التنظيمات معالجة هذه المشكلة. ولكن كانت الإجراءات فاترة وتم إدارتها بشكل سئ ولم تكن الصناعات الوليدة تفتقد فقط إلى الحماية ولكنها أيضاً - وبشكل غريب - كانت ماتزال تعانى من الضرائب العثمانية الداخلية على حركة البضائع والتى اُُزيلت بالتدريج وعلى مضض فيما بعد. ولم تكن الصناعات المحلية القائمة فعلاً قادرة على منافسة واردات المنتجات الأوربية المتطورة بشكل كبير. فقد كانت مصانع السلاح - على سبيل المثال - قاصرة على إنتاج الأسلحة الصغيرة والذخيرة والملابس العسكرية.
أما محاولات زيادة الناتج الزراعى والصادرات فقد كانت أكثر نجاحاً نوعاً ما. ولم يكن ذلك النجاح يعود إلى سياسة الحكومة ولكن لأن الرخاء المتزايد لأوربا الغربية الصناعية كان قد زاد بالفعل من الطلب على صادرات المحاصيل التركية. وقد حصلت الواردات البريطانية بشكل خاص على دفعة قوية بإلغاء قوانين الحبوب سنة 1841م كما أن الحرب الأهلية الأمريكية قد سببت رواجا للقطن التركى الذى لم يختف بعد ذلك تماماً عندما إنتهت الحرب. وإزدهرت المناطق الزراعية الأكثر خصوبة فى السهول الساحلية وأودية نهر الأناضول.كانت المعضلة هى تعارض الهدفين التوأمين للإصلاحات العثمانية فى القرن التاسع عشر. فخلق طبقة مزدهرة من ملاك الأراضى الزارعيين كان لايتناسب مع الرغبة فى حكومة مركزية قوية من شأنها إعادة تأسيس حقوق الدولة عندما كانت هذه الحقوق تتآكل . كان تقدم الإصلاح بطيئاً وأينما كانت تتأسس حقوق ملكية زراعية فإنها كانت تذهب إلى الأغنياء و إلى ألأفراد الأكثر قوة أو أصحاب الصلات الأفضل. أما العامل الجديد فى الموقف فقد كان هو الحق الممنوح للأجانب بملكية الأرض والعقارات بموجب قانون الإصلاح لسنة 1867م. وقد كان العثمانيون يأملون ويتوقعون أنه فى مقابل ذلك فإن الأوربيين الذين حصلوا على أراضى فى الإمبراطورية سوف يتخلون عن إمتيازاتهم التى حصلوا عليها بموجب قوانين الإمتيازات الأجنبية. لكن أملهم قد خاب فقد أصر الأوربيون على الإحتفاظ بحقهم فى الحصانة من تدخل البوليس أو دفع الضرائب العثمانية. كان المصلحون العثمانيون ومستشاريهم الأوربييون لايراودهم شكاً فى أن أكبر عقبة وحيدة فى مواجهة تحسين الإقتصاد العثمانى كانت هى نظم الإتصالات الفقيرة. فعندما إعتلى عبد الحميد العرش كان هناك فقط عدة مئات من الأميال من السكك الحديدية كما كان نظام الطرق غير متطور وكانت الموانى بدائية. ولذلك كانت تكاليف نقل الناتج الزراعى عبر البلاد – بهدف التصدير- عائقاً فى سبيل ذلك.
كانت خطط بناء الطرق فشلاً ذريعاً لأنه لم يحسن صيانة تلك الطرق التى بنيت وسرعان ماأصبحت فى حاجة إلى ترميم. أما بناء السكك الحديدية والذى قام بالجزء الأكبر منه حاملو الإمتيازات من الأجانب - فقد حقق نتائج أكبر. ومنذ ثمانينينات القرن التاسع عشر ربط الرواج فى بناء السكك الحديدية أقاليم الأناضول بأوربا كما إمتدت السكك الحديدية من تركيا إلى الولايات العربية فى الإمبراطورية . كان إمتداد هذه السكك الحديدية متواضعا بالنسبة للمقاييس الأوربية ومع ذلك فقد كانت ذات أهمية رمزية كبيرة. وفى سنة 1888م غادر فيينا أول قطار سريع متوجها إلى إسطنبول. والواقع أنه يمكن أن نلاحظ أن كثيراً من تطور القرن التاسع عشر الذى حدث فى قلب الإمبراطورية كان يعود إلى الأجانب أصحاب الإمتيازات فقد بنى الأوربيون السكك الحديدية كما كانت البنوك والموارد المالية فى أيدى الأجانب بشكل كبير وكان المستثمرون الأجانب مسئولين حتى عن الإستثمار فى تأسيس الميكنة الصناعية التى حولت القطن إلى أجمل صناعات تركيا التصديرية. ومع ذلك فقد كان هناك مظهر من مظاهر التقدم فى القرن التاسع الذى صمم عبدالحميد ووزرائه على الإحتفاظ به فى أيدى تركية. كان ذلك هو التلغراف. فعندما إعتلى عبد الحميد العرش فى سنة 1876م قام صاحب إمتياز فرنسى بربط الإمبراطورية كلها بإسطنبول بشبكة تلغراف. وفى البداية تم تشغيل ذلك النظام التلغرافى بواسطة أجانب مستخدماً اللغة الفرنسية ولكن منذ سنة 1860م فصاعداً بدأ العثمانيون يقومون بجهد خاص من أجل تتريك النظام ووضعه تحت إشراف وزارة البريد والتلغراف الجديدة. أدرك عبدالحميد على الفور أهمية التلغراف كوسيلة للحفاظ على سيطرته الإستبدادية المركزية على الإمبراطورية حيث كان يستطيع إصدار أوامر فورية إلى موظفيه فى أبعد الولايات ، والذين وجدوا أنه لم يعد بإمكانهم التصرف كما لوكانوا شبه مستقلين. وسرعان ما أدرك السفراء الأجانب للحكام المستبدين الآخرين نفس الشئ. أجبرت مديونية تركيا وضعفها العسكرى النسبى عبدالحميد على إستخدام التآمر والدبلوماسية لإبقاء القوى الأوربية منقسمة فى سياساتها الشرقية. وقد حقق بعض النجاح فى هذا المجال فى أعقاب مؤتمر برلين فى سنة 1878م. ورغم أن الدول الكبرى كانت قد صُدمت - ولو بدرجات متفاوتة - لنكوص السلطان عن وعوده فيما يتعلق بمعاملة رعاياه الأرمن فإن أى عمل مشترك بهذا الخصوص فيما بينها قد اُحبط لأن بسمارك رئيس المؤتمر قال أنه سوف يتعاون فى أى موضوع بإستثناء فرض الإصلاح المتعلق بأرمينيا على السلطان.
كان الموقف فى أرمينيا قد تدهور بشدة فى العقدين التاليين. وبينما إستخدم عبدالحميد الأكراد - الذين كانوا يرغبون فى معظم نفس الإقليم وذلك من أجل قمع العصيان الأرمينى - فقد زاد الأرمن من نشاطاتهم السياسية المنظمة ووصلوا إلى درجة المطالبة بوطن كامل الإستقلال فى شرق تركيا كما إستطاعوا تدويل حركتهم بتأسيس فروع لها فى عواصم غرب أوربا كانت أكثر أشكالها تطرفا هى حركة الهونساك أو الجرس التى تأسست فى جنيف سنة 1881م وكانت أول حركة إشتراكية ثورية فى الإمبراطورية العثمانية. وفى سنة 1890م تأسس الإتحاد الثورى الأرمينى فى تفليس الحالية بجورجيا الروسية. وبدأت العصابات المسلحة فى الإغارة على الأقاليم العثمانية. ورد السلطان بتشجيع النشاطات المتزايدة المعادية للأرمن بين القبائل الكردية التى دربها وجعلها فى فرق فرسان. لم يكن هناك محاولة لإخفاء الحقيقة بأن دورهم كان قمع الأرمن. كان رد الأرمن الغاضبين محاولة غير حكيمة تماماً لإثارة ثورة بين رعايا السلطان المسلمين فى الأناضول. وأعطى ذلك المبرر لعبدالحميد للقيام بسلسلة من المذابح الرهيبة التى حدثت بين الأعوام 1895 و 1896م وإشتركت فيها كل من القوات التركية النظامية والقوات الكردية الغير نظامية. وفى بعض الأماكن تم إثارة السكان المسلمين العاديين من خلال إثارة شائعات بأن الأرمن كانوا ينوون الفتك بهم وهم يؤدون الصلاة فى المسجد. ولاذ الأرمن بكنائسهم طالبين الحماية ولكن دون جدوى. كان إطلاق صوت نفير هو الإشارة ببدء المذبحة. تأثرت معظم تركيا الشرقية بذلك حيث ذبح حوالي مائة ألف أرمينى أو ماتوا من أمراض نتجت عن المذبحة أو من الجوع. وأمكن حجب حجم تلك المذابح عن العالم الخارجى. وقد تسربت بعض الأنباء فقط لكنها كانت غالباً ماترفض كشائعات مبالغ فيها.ولكن فى أغسطس 1896م قامت مجموعة شديدة التهور من الثوار الأرمن بمد صراعها إلى قلب إسطنبول حيث أغاروا على البنك العثمانى وإحتلوه بهدف لفت إنتباه السفارات الأوربية لمأساة شعبهم. وفى الرد الحتمى على ذلك سمح لغوغاء إسطنبول يقودهم المتهوسون الدينيون بالقتل والنهب خلال الإقليم الأرمينى. وحينذاك لم تستطع القوى الأوربية تجاهل ماكان يحدث.
وفى سلسلة من المذكرات المشتركة إستنكروا تلك المذابح وأعلنوا عن رأيهم بوضوح بأنها لم تكن إضطرابات طائفية ولكنها قد أثيرت عمداً من قبل السلطان وعملائه ثم صرحوا - بشكل ينطوى على التهديد المقنع بالتدخل- بأن السلطان ومملكته كانا فى خطر. كانت ردود عبدالحميد مراوغة وغير مرضية. وإنتشرت شائعة فى العاصمة بأن الأسطول البريطانى قد يقتحم الدردنيل وينزل قوات . ولكن مرة أخرى اُنقذ السلطان بسبب تنافس وتحاسد الدول الكبرى. وفى إنجلترا ثار وليم جلادستون العجوز ضد الأتراك - سيئى الذكر- والذين كان يعتبرهم كوصمة عار فى جبين الحضارة ، وطالب بأن تتحرك بريطانيا وحدها إذا لزم الأمر. ولكنه كان فى المعارضة وكان رئيس الوزراء الحريص لورد سالزبورى مثله مثل مليكته- الملكة فيكتوريا- يكره الأتراك دائما ولكنه كان يخاف الروس أكثر ولذا فلم يكن لديه أى نية فى مثل ذلك التصرف. ورغم أن الرأى العام كان ثائراً ضد الإمبراطورية فى كل أنحاء أوربا فإن حكومات تلك الشعوب لم يكن قد توفرت لديها النية بعد فى رؤيتها مفككة. كما أن روسيا لم تكن ترغب فى رؤية أرمينيا قوية مستقلة على حدودها. ولم تكن فرنسا تريد المخاطرة بإستثماراتها الكبيرة فى الإمبراطورية العثمانية والتى كانت قد تجاوزت إستثمارات بريطانيا فى ذلك الوقت. وكان لدى ألمانيا طموحاتها فى التوسع السياسى والتجارى إلى الشرق والذى كان يمكن أن يتحقق فقط من خلال تحالف مع السلطان وحكومته. وإنتهى مؤتمر دولى عُقد بشأن المسألة ألأرمينية فى سنة 1897م بالفشل. وتجنبت الإمبراطورية السقوط مرة أخرى . وترك الأرمن الذين لم تكن أهدافهم واقعية أبداً إلى مصيرهم المحتوم. كان عبدالحميد منذ إعتلائه العرش يعطى لألمانيا- وقد توحدت آنذاك بقيادة بسمارك - الأفضلية الأولى بين الدول الكبرى. فلم تكن مجردة من طموحات بريطانيا وفرنسا وروسيا فى العالم الإسلامى فقط ولكنها كانت تعمل أيضاً على قمع هذه الطموحات. كانت ألمانيا الإمبراطورية بقوتها الإقتصادية الصاعدة والتى سرعان مافاقت قوة بريطانيا- وبتحالفها مع النمسا والمجر- قد خلقت مركزاً جديداً للقوة فى وسط أوربا. ولكن حدود طموحات بسمارك كانت ضيقة جداً حيث كان يرى أن أى تصور للتوسع نحو الشرق لم يكن سوى حلم عقيم. وقد قال فى أحد أشهر تعليقاته ( إن كل المسألة الشرقية لاتستحق عظام جندى ألمانى واحد) ومع ذلك فقد تغيرت السياسة الألمانية بشكل كبير عندما إعتلى القيصر الشاب ويلهلم الثانى العرش فى سنة 1888م على أثر موت والده المبكر.
كان وليهم ذكيا إلا أنه كان متقلباً مستبداً شديد الطموح. ورغم أنه كان نصف إنجليزى من امه ابنة الملكة فيكتوريا فقد كان وطنيا ألمانياً متحمساً. وعلى الرغم من نصيحة بسمارك فقد إقتنع بسهولة برأى الماريشال فون دير جولتز - رئيس البعثة العسكرية الألمانية فى إسطنبول - بأن تركيا الآسيوية كانت جاهزة لنمو النفوذ الألمانى. وعلى ذلك ولدت سياسة التوجه نحو الشرق. رحب عبد الحميد بالإهتمام الألمانى الجديد وقد كان يرتاب دائما فى المؤثرات الليبرالية التى تأتى من لندن وباريس والتى لم يكن يرى مثلها فى برلين. وفى سنة 1889م إستقبل القيصر الشاب والقيصرة إستقبالاً حافلاً عندما قاما بزياراتهما الأولى إلى إسطنبول. وقد إنضم المهندسون والعلماء الألمان آنذاك إلى الخبراء العسكريين فى المهمة الصعبة لتحديث الإمبراطورية العثمانية. كانت مساهمة ألمانيا الرئيسية هى بناء الخط الحديدى عبر الأناضول إلى بغداد مع تصور بمده من خلال البصرة إلى الكويت على الخليج الفارسى. وفى سنة 1898م وبعد رفضه لنصيحة بسمارك وإستغنائه عن خدماته قام بزيارة ثانية إلى إسطنبول كانت ذا مغزى أعظم. فهذه المرة توجه من تركيا إلى الولايات العربية فى الإمبراطورية . وبرمزية مثيرة للشك دخل أورشليم مرتدياً زى فارس صليبى بعد صلاته خاشعاً على ركبتيه خارج جدران المدينة المقدسة. لكنه ذهب بعد ذلك إلى دمشق حيث تعهد فى خطبة تذكارية على قبر صلاح الدين بالحماية المجردة من الغرض للثلاثمائة مليون من رعايا السلطان الخليفة. وبذلك وضع الأساس لتحالف عثمانى ألمانى كان من شأنه أن يؤدى إلى تدمير الإمبراطورية العثمانية بعد عقدين من ذلك التاريخ. ومع ذلك، فقد كان من المفهوم تماماً فى ذلك الوقت ، أن عبد الحميد كان يجب أن يتعلق بألمانيا كحليف يساعده على الإحتفاظ بممتلكاته ألآسيوية العربية من الطموحات الإستعمارية البريطانية الفرنسية حيث كانت تلك الممتلكات هى كل ماتبقى من إمبراطوريته فى الواقع. فلم تكن مراكش عثمانية أبداً كما كانت فرنسا قد إستولت على الجزائر سنة 1830م وكذلك على تونس سنة 1881م. وكان الولاة الأتراك مازالوا يحكمون ولاية ليبيا الصحراوية إلا أنه وفى النهاية ومن خلال المصادفة والتخبط كانت مصر قد وقعت تحت السيطرة البريطانية الدائمة.








الفصل الخامس



بريطانيا فى مصر
1882- 1914م.

























5. بريطانيا فى مصر
1882-1914م

فى سنة 1841م أجبر الضغط الأوربى العثمانى المشترك محمد على (حاكم مصر) على التخلى عن كل أحلامه فى إمبراطورية عدا ملكية السودان . ومع ذلك فقد ترك لخلفائه دولة متماسكة شبه مستقلة أعطاها موقعها الإستراتيجى أهمية كبيرة فى شرق المتوسط ، إلا أنهم قد ورثوا كذلك مشاكل ضخمة كانوا فى النهاية غير قادرين على معالجتها. وكانت بعض هذه المشاكل إنعكاساً لنفس مشاكل السلطان تقريباً. فإلغاء نظام محمد على الإحتكارى وفتح أبواب مصر إلى التجارة والأعمال الأوربية ( وهو مايساوى سياسة الإنفتاح التى إستنها الرئيس السادات بعد حوالي قرن من ذلك التاريخ ) لم تقض فقط على أساس إيرادات الدولة ولكنها قد جعلت – أيضاً- من المستحيل على حكام مصر الإحتفاظ بسيطرتهم على التطور الإقتصادى للبلاد. لم يكن هناك شك فى أن تصبح مصر قوة صناعية. ومع ذلك فقد كان هناك أيضاً إختلافات هامة عن مشاكل تركيا.
كان التخفيض الإجباري للقوات المسلحة إلى 18000 جندي بموجب معاهدة لندن قد خفف من الحاجة للنفقات العسكرية الكبيرة التي إستنزفت البلاد . ولكن هذا كان يعنى أيضاً أن مصر لم تعد قوة عسكرية ذو أى إعتبار فى الوقت الذى لم يكن السلطان العثمانى راغباً ولا قادراً على تقديم الحماية ضد إحتلال أى قوة كبرى لها. وقد دفعت سياسة الباب المفتوح فى مصر نحو تطور إقتصادى أكثر كثافة وشمولية مما حدث فى تركيا. ففى المساحة تساوى مصر مساحة فرنسا أو أسبانيا ولكن فقط ثلاثة فى المائة من تلك المساحة كانت مأهولة وكان مجموع سكانها يبلغ آنذاك حوالي عشر السكان الآن. كان بناء وتركيب وسائل إتصالات جديدة وإنشاء بنية تحتية حديثة أمراً سهلاً نسبياً و بحلول سنة 1870م أصبحت الأراضى الغير واسعة - ولكن الخصبة جداً لوادى النيل ودلتاه - تنتج محاصيل ذات قيمة للتصدير كان القطن أهمها. ولسوء الحظ فإن ذلك لم يكن له أى أثر يذكر فى تحسين ظروف جموع المصريين وذلك لسببين - الأول هو أن المستثمرين الأجانب الذين كانوا مسئولين عن هذا التطور الجديد كانوا يساهمون بقدر قليل فى إيرادات مصر فى ظل حماية الإمتيازات الأجنبية حيث لم يكونوا يدفعون أى ضرائب فى الواقع. والثانى هو أنه بينما كان الإتجاه إلى منح حقوق الملكية الخاصة للأرض أكثر تقدماً عنه فى تركيا العثمانية - فإن النتيجة النهائية كانت أن مزيداً من الأراضى قد تركزت فى ملكيات كبيرة تملكها الطبقة التركية الجركسية الحاكمة وخاصة أفراد أسرة محمد على كثيرى العدد وفى نفس الوقت فإن كثير من صغار المزارعين كانوا قد فقدوا فى الواقع سيطرتهم على ألأراضى التى كانت عائلاتهم تفلحها لعدة أجيال سابقة. ورغم أن الكرباج لم يعد مستعملاً لإجبارهم على الإلتحاق بصفوف جيوش إبراهيم باشا إلا أنه ظل مستخدماً لتجنيد عمال من صفوف الفلاحين الذين لايملكون أرضاً . كان عباس خليفة محمد على المباشر (1844-1854م) رجعياً متزمتاً فطرد كل مستشارى جده الفرنسيين وأغلق المدارس متعمداً كما عطل ألأشغال العامة. ورغم أنه كان يكره ألأجانب بشكل عام فقد كان يحب الإنجليز بشكل غريب وقد سمح لجيمى ستيفنسون ببناء سكة حديد القاهرة الإسكندرية فى سنة 1850-1851م وكانت الأولى فى إفريقيا وآسيا. ورغم بخله الشديد فقد أجبرته قلة إيرادات مصر إلى الإقتراض. وبعد مصرعه على يد إثنين من عبيد القصر( ربما كعمل إنتقامى من قبل عمته الأميرة زهرة التى كان قد طردها بسبب بعض التصرفات الغرامية ) خلفه رجل ذو مزاج مختلف تماماً وهو عمه اللطيف والمحب لفرنسا سعيد( 1854-1863م).
وبدأ سعيد بتشجيع برنامج مكلف جداً وجديد للأشغال العامة فشق قنوات جديدة ورمم السدود ومد السكك الحديدية ووسائل النقل البخارى على النيل. وقد أسس سابقة بالتفاوض على قرض من مصرف فرهلنج وهوشن بنسبة فائدة 8%. و بينما كان المستثمرون الأوربيون - تؤيدهم قناصلهم وتحميهم الإمتيازات الأجنبية - ينتزعون إمتيازات غالية أحادية الجانب من الحكومة المصرية أخذت ديون مصر ترتفع بشكل خطير. لكن قراراً واحداً فاق تبعات ذلك الإسراف وكان شؤماً على مصر. كان فرديناند ديليسبس واحداً من أقرب أصدقاء سعيد الأوربيين فى شبابه وكان مهندساً شاباً وابنا لعميل سياسى فرنسى. كان ديليسبس مهتماً بمشروع يقضى بشق قناة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر عبر برزخ السويس. لم تكن تلك فكرة جديدة. فقد كان نابوليون قد أراد تنفيذها من أجل االسيطرة على البحر الأحمر لصالح فرنسا ولكن مهندسيه أخبروه أن ذلك كان مستحيلا بسبب المستويات المختلفة للبحر المتوسط والبحر الأحمر. ولكن فى سنة 1830م عارض مهندس بريطانى ذلك ففضل محمد على ومستشاروه الفرنسيون تنفيذ المشروع . لكن بالمرستون قد عارض ذلك بشدة ، خاصة أن القناة كانت ستبنى بواسطة مهندسيين فرنسيين. لقد جعلت المصالح البريطانية من السيطرة على القناة أمراً حتميا. وكان ذلك يعنى إحتلال مصر. وقد علق بالمرستون على ذلك صراحة فى تعليق مشهور قائلاً ( نحن لانريد مصر أو نرغبها لأنفسنا فأى رجل عاقل يملك مزرعة فى شمال إنجلترا ومسكن فى جنوبها كان لابد أن يرغب فى أن يمتلك النزل التى تقع على الطريق. وكل مايمكن أن يريده هو أن تُحفظ هذه النزل بعناية وأن يسهل الوصول إليها دائما لتزوده عندما يحضر بشرائح الضأن وجياد البريد ). كانت بريطانيا تفضل أن يفتح الطريق المار عبر مصر إلى الشرق بمد خط حديد القاهرة الإسكندرية إلى السويس. كان توقيع إتفاقية إمتياز قناة السويس مع ديليسيبس واحدا من أولى أعمال سعيد على أثر توليه العرش. كانت الشروط مجحفة بمصر إلى حد كبير إذ كان على مُصر أن تقدم سخرة من عشرين ألف عامل سنويا بدون أجر وتدفع مصروفات كل الأعمال الإضافية الكبيرة وتتنازل عن حقوقها فى الأراضى الواقعة على ضفتى القناة . وبالإضافة إلى ذلك فقد أقنع ديليسيبس سعيداً بأنه يجب أن يشترى حوالي نصف أسهم القناة التى قد تُركت غير مباعة. كانت بريطانيا مازلت تعارض المشروع وحاولت ممارسة نفوذها لدى السلطان العثمانى ولكن سعيداً كان مستقلا بشكل كاف كما كان ديليسيبس يتمتع بالتأييد الحار للإمبراطور نابوليون الثالث. وفى إبريل 1859م بدأ العمل . كان نصف بناء القناة قد إكتمل عندما مات سعيد وخلفه إسماعيل ابن إبراهيم باشا، كنائب للسلطان. كان إسماعيل رجلا ذا طموح وذكاء وجرأة ولكن إخفاقاته حطمت آمال مصر فى الإستقلال. وإستمر العمل فى بناء القناة وإكتمل بحلول عام 1869م حيث لعب إسماعيل دور المضيف الكريم للإمبراطورة يوجينى وشخصيات ملكية أوربية أخرى من أجل الإفتتاح الرسمى( أهم الشخصيات التى دعاها إسماعيل لحضور إحتفالات إفتتاح قناة السويس فى نوفمبر 1869م هى الإمبراطورة يوجينى إمبراطورة فرنسا والإمبراطور فرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا والأمير فردريك ويلهلم ولى عهد بروسيا والأمير هنرى أخو ملك هولند وقرينته بالإضافة إلى عدد كبير آخر من أمراء وسفراء الدول الأوربية/المترجم) . كانت التكاليف باهظة بالنسبة لمصر. وأصر السلطان وبتشجيع من بريطانيا على الإحتفاظ بحقه فى الإعتراض على الإمتياز. ورغم أن ديليسيبس قد أقنعه بأن يحيل النزاع إلى نابوليون الثالث للتحكيم فإن حكم الإمبراطور الفرنسى- والذى كان من شأنه أن يقرر بشكل نهائى موقف شركة قناة السويس- قد وضع عبئاً لايطاق على مصر. كان على إسماعيل أن يدفع للشركة مبلغاً باهظا يساوى 130 مليون فرنكاً كى تتنازل عن حقوقها فى الأرض والملاحة والعمل المجانى المنصوص عليهم فى الإمتياز الأساسى . أصدر السلطان فرماناً بالموافقة ولكن مصر كانت تقترب من الإفلاس بسرعة.
كانت قناة السويس هى أهم تكلفة مفرده تكبدتها مصر ولكن كان هناك أكثر من ذلك. فأثناء حكم إسماعيل تم حفر 8400 ميلا من القناة وتم مد نظام السكة الحديد من 275 ميلا إلى 1185 ميلاً. وقد أعطى التلغراف والجسور وأحواض السفن والمنارات- مصر- البنية التحتية لدولة حديثة من القرن التاسع عشر. وفى ملاحظة مازال يتذكرها المصريون قال إسماعيل مدعياً( أن بلادى لم تعد تتبع إفريقيا - إنها جزء من أوربا). وحتى مراسل التايمز قد كتب فى سنة 1876م ( إن مصر هى نموذج رائع للتقدم - ولقد تقدمت فى سبعين سنة كما تقدمت بلاد عديدة أخرى فى خمسمائة سنة ). وزادت المساحة المنزرعة بنسبة 15%. وبين السنوات 1862و1879م تضاعفت قيمة الصادرات والواردات ثلاث مرات تقريباً. ولكن كان هناك نقطتا ضعف قاتلتان فى ذلك الرخاء الظاهرى. الأولى هى أنه كان يعتمد على تصدير منتج رئيسى وحيد هو القطن أما البضائع المصنعة فقد كانت تستورد كلها تقريباً. ومثل تركيا إستفادت مصر من آثار الحرب الأهلية الأمريكية على ناتج محصول القطن من الولايات الجنوبية. وقد شجع ذلك الرواج - الذى خبا بسرعة- إسماعيل على مزيد من الإسراف. أما نقطة الضعف الثانية فكانت هى مقدار الدين الضخم الذى بُنى عليه ذلك الرخاء الظاهرى. فخلال خمسة سنوات من فترة إمتياز القناة فى عهد إسماعيل تم إقتراض 25 مليون جنيه إسترلينى بمعدل فائدة إسمية يتراوح بين 7و12 % ولكنه كان يصل فى الواقـع الى12و26 %. كانت إحدى مشكلات إسماعيل أنه كان نائباً يعينه السلطان أكثر من كونه عاهلاً مستقلاً ولذا فلم يكن لديه الحق القانونى فى رهن دخل الدولة ومن ثم كانت الشروط التى يستطيع الإقتراض بها أكثر كلفة نسبياً. وفى سنة 1867م إستطاع أن يحصل من السلطان على لقب خديوى مع الحق فى تغيير نظام وراثة الحكم لصالح أحفاده المباشرين بدلاً من أن تؤول وراثة العرش - كما كان فى السابق - إلى أكبر الإحياء من أسرة محمد على. وفى سنة 1873م حصل على مرسوم إمبراطورى جعل منه فى الواقع عاهلاً مستقلاً لديه الحق فى عقد القروض وتقديم الإمتيازات بدون الرجوع إلى السلطان. وبالطبع فقد تمكن من تحقيق كل ذلك من خلال الرشاوى الضخمة فقط . وكان ذلك يعنى أيضاً أن ماكان يعد سابقا مسئولية شخصية لنائب السلطان قد أصبح الآن مسئولية الدولة المصرية وفى النهاية مسئولية فلاحيها التعساء. وبحلول سنة 1875م أصبحت ديون إسماعيل كبيرة جداً لدرجة إضطرته لبيع الأربع والأربعين فى المائة من أسهم القناة التى كان يملكها إلى الحكومة البريطانية مقابل مبلغ متواضع يبلغ 4 مليون جنيه إسترلينى.
دبر رئيس الوزراء دزرائيلى- الذى كان قد سبق وأيد بالمرستون فى معارضته لبناء القناة - سلفة لتأمين شراء الأسهم من خلال مصرف روتشيلد فى لندن. أما جلادستون- قائد المعارضة الليبرالية - فقد كان يرى أن تورط بريطانيا بهذه الدرجة الكبيرة فى الشئون المصرية عملاً شديد الحماقة والخطر. وكان الفرنسيون – بالطبع - غاضبين جداً.
لم يكن بيع أسهم القناة كافياً لإنقاذ إسماعيل أومصر من الإفلاس. وبالإضافة إلى ذلك فإن إنهيار الإمبراطورية العثمانية كان وشيكاً وبالرغم من إستقلال مصر النسبى - فقد كان لذلك تأثيراً مدمراً على مصداقية مصر الدولية. وفى الواقع فإن إعلان إفلاس مصر الرسمى فى أبريل عام1876م كان قد تبع إعلان إفلاس تركيا بسبعة أشهر فقط . وكانت النتائج المترتبة على ذلك شبيهة بما حدث فى تركيا ولكنها كانت أكثرعمقاً. ففى حالة تركيا وبلاد أخرى لم تستطع الوفاء بديونها لم تلزم بريطانيا نفسها بأكثر من التأييد المعنوى لحاملى السندات ورفضت التورط بشكل مباشر لكن مصر كانت مختلفة لأنها تقع على الطريق إلى الهند. وكما تنبأ بالمرستون( فإن الطريقة التى تحكم بها قد أصبحت ذا أهمية كبرى للإمبراطورية البريطانية). وعندما طلب إسماعيل مساعدة بريطانيا أرسلت الحكومة البريطانية بعثة رفيعة المستوى برئاسة أحد الوزراء. وتركزت آمال حاملى السندات والرأى العام البريطانى آنذاك فى أن تفرض بريطانيا نوع من الرقابة المالية على مصر. ولكن الفرنسيين لم يكونوا مستعدين أبداً للسماح لبريطانيا بإحتكار التدخل الخارجى فى شئون مصر وأرسلوا بدورهم بعثتهم المالية الخاصة. إقترحت كل من بريطانيا وفرنسا حلولاً تراعى مصالح حاملى السندات فى كل منها. وبعد بعض الجدل الدبلوماسى تم التوصل إلى تسوية حل وسط تقضى بإنشاء صندوق للدين العام تجمع من خلاله كل ديون مصر ويعاد دفعها بنسبة فائدة تبلغ 7% مستنفذة بذلك حوالي ثلثى إيرادات البلاد. ومثلت كل من حكومة بريطانيا وفرنسا بمراقب عام تنفيذى مستقل. وبذلك بدأت السيطرة الإنجليزية الفرنسية المزدوجة على مصر. كان المفوض الإنجليزى فى الصندوق سكرتيراً لنائب الملك فى الهند - وهو الكابتن إيفلن بيرنج - والذى كان عليه أن يضع الأساس لعلاقة بريطانيا الخاصة بمصر فى الجيل التالى.
وشرع المراقبون العامون فى إثبات جدارتهم ومن خلال مجموعة من الضرائب المتنوعة بدأت مصر فى دفع ديونها بمعدل الفائدة الذى تقرر فرضه. ولكن الموظفين البريطانيين والفرنسيين سرعان ماأدركوا أن الضغط على السكان قد أصبح مستحيلاً. وقد أضاف إنخفاض فيضان النيل والوباء الذى ضرب محصول القطن إلى معاناة الفلاحين ولم يعد حتى يمكن للإستخدام الحر للكرباج إنتزاع أى ضرائب إضافية منهم. وخلص المراقبون العامون إلى أنه قد أصبح هناك حاجة إلى لجنة تحقيق دولية لمراقبة الإدارة المالية للخديوى. وعلى مضض وافق الخديوى. وكما كان متوقعا - فقد خلصت اللجنة إلى أن منبع مشاكل مصر يكمن فى سلطة الخديوى الغير محدودة وإلى أنه يجب أن يفوض بعض من سلطاته إلى وزراء مسئولين. وفى نشوة زعمه بأن مصر قد أصبحت آنذاك جزءً من أوربا - وافق إسماعيل وعين مجلسا للوزراء برئاسة الداهية ألأرمنى نوبار باشا ضم وزيراً بريطانيا للمالية ووزيراً فرنسيا للأشغال العامة. لكن الواقع أنه لم يكن لدى إسماعيل نية حقيقية فى أن يصبح ملكاً دستورياً. وعندما إتخذت وزارته الأوربية إجراءات غير مقبولة شعبياً - كما كان من المحتم أن تفعل فى ظل ظروف مصر المالية - رفض المشاركة فى المسئولية وعبر عن سلطته بإخضاع - وبشكل حاد - عصيان قام به بعض الضباط الذين لم يكونوا قد إستلموا رواتبهم منذ ثمانية عشر شهراً ثم عزل نوبار بحجة أنه لم يكن قادراً على حفظ النظام العام.
لم تكن بريطانيا وفرنسا مستعدتين بعد للتدخل العسكرى المباشر حيث لم يكن الرأى العام فى بلديهما متعاطفا جداً مع حاملى السندات وكانوا مازالوا يأملون فى إقناع إسماعيل بالحفاظ على الحكومة الدستورية. وفى ظل هذه الظروف - وبتحريض من إسماعيل - تكون تكتل من ضباط الجيش والباشوات والعلماء فيما يشبه حزب وطنى مصرى كان مصمماً على إثبات أن مصر يمكن أن تحكم نفسها بنفسها. وأمكن تحقيق نوع من التوازن بين الخديوى وشكل من أشكال المؤسسات النيابية. وإختار إسماعيل- بذكاء- شريف باشا وهو دستورى رائد كرئيس جديد لوزرائه. ولكن الإعتراض جاء من جهة غير متوقعة. فقد غضبت ألمانيا والنمسا من الإجراءات التى إتخذتها حكومة شريف لتخفيف عبء الدين المتصاعد على حساب حاملى السندات الذين كان معظمهم من الجنسية الألمانية والنمساوية وأقنعت بريطانيا وفرنسا - الغاضبتين بدورهما آنذاك - بأن إسماعيل يجب أن يذهب. وقاما بالضغط سويا على السلطان عبدالحميد ليستخدم بقايا سلطته لإجبار إسماعيل على التنازل عن العرش لصالح ابنه توفيق. وبالفعل أبحر إسماعيل إلى المنفى غير مأسوف عليه. ونسيت إنجازاته الحقيقية بسبب ماجلبه حكمه من كوارث فبعد تدعيمه لإستقلال مصر حطم ذلك الإستقلال من خلال تبذيره.
كان الخديوى الشاب الجديد يفتقد إلى شجاعة إسماعيل وتصميمه ولم يكن لديه الرغبة فى قبول أى نوع من الدستور الليبرالى. ومع ذلك فلم يعد الموقف السياسى فى مصر سهلاً بحيث يمكن السيطرة عليه. وبرغم أن الحركة الوطنية الصاعدة تكونت من عناصر متفرقة غير متوافقة فقد كانت قد أصبحت آنذاك قوة رهيبة حيث إتحدت تلك العناصر مؤقتاً ضد أخطار السيطرة الخارجية والحكومة الإستبدادية. كان التيار الإيدولوجى فى الحركة يتشكل من الإصلاحيين السياسين الدينين تلاميذ جمال الدين الأفغانى - وهو إيرانى جبار من أصل غير معروف - وقد مثل أحد أقوى المؤثرات الفكرية فى العالم الإسلامى فى القرن التاسع عشر. دعا الأفغانى إلى ضرورة العودة إلى المبادئ الإسلامية الصحيحة. ولكنه كان يدعو أيضاً إلى ضرورة الوحدة الإسلامية والقومية كدفاع ضد التدخل الأوربى المسيحى. ومع ذلك فلم يكن لديه ثقة فى الدولة العثمانية وكان يعارض سلطتها ويفضل الحكومة الدستورية. وبعد أن نُفى من تركيا - بما لايثير الدهشة - حضر إلى مصر حيث إحتمله إسماعيل. لكن توفيق نفاه بعد إعتلائه العرش بفترة قصيرة - وبتشجيع من هيئة المراقبة الإنجليزية الفرنسية المشتركة تقريباً - ولكن تأثيره عاش بعده. وقد عاش بعد ذلك فى باريس حيث أسس جمعية سرية ونشر مجلة كرسها لموضوع الإصلاح فى العالم الإسلامى.
أما التيار الثانى فى الحركة الوطنية فقد كان يتكون من الباشوات والعلماء وبعض الوجهاء الذين كانوا يفضلون الإصلاح الدستورى. وكان كثير منهم من الأتراك والجراكسة الذين وحدوا أنفسهم بمصر وبأمانى شعبها. ولكنهم أيضاً كانوا ملاك أراضى أغنياء وكانوا يرتعدون خوفا من شبح التطرف أو الثورة الشعبية. أما العنصر الثالث فى الحزب الوطنى فقد كان يتكون من الضباط المصريين الأصيلين أو الفلاحين - كما كانوا يوصفون بإصطلاح يميزهم عن التركى الجركسى. وقد كان إسماعيل يفضل غير المصريين – بشكل واضح - والذين كانوا يشغلون كل المناصب العسكرية الكبرى مما جعل الضباط الفلاحين فى حالة من السخط الشديد. ثم وجد هؤلاء فى العقيد أحمد عرابى زعيماً - وكان ابناً لمزارع صغير من الوجه البحرى. ورغم تعليمه المحدود فقد نجح فى الوصول إلى قيادة الفرقة الرابعة. كان عرابى شجاعاً مهيباً إلا أنه لم يكن ذكياً ولا حاسماً ولكنه إستهوى جموع المصريين لأنه كان على إتصال دائم بهم وكان يستطيع التعبيرعن آلامهم فى لغة يفهمونها.
حاول وزير الحربية الجركسى- المكروه شديد الرجعية - عثمان رفقى القبض على العقيد عرابى وبعض زملائه ومحاكمتهم عسكرياً بتهمة العصيان ولكن عرابى كان يتمتع بتأييد الفرق الرئيسية فى العاصمة ففشل التدبير. وإضطررت الحكومة للتراجع وعزل رفقى . وأصبح عرابى وزملاؤه القادة الطبيعين لحركة لاقت تأييداً شعبياً هائلاً. وكما علقت صحيفة التايمز فى 12 ديسمبر 1881م (يجب أن نتذكر أن الجيش هو المؤسسة الوطنية الوحيدة التى تملكها مصر الآن). فكل شئ آخر كان قد سُيطر عليه وتغير على يد المفوضين المعتمدين لفرنسا وإنجلترا. لكن الموقف كان مازال قابلاً للحل السلمى ، فلا عرابى ولا الإصلاحيون الإسلاميون - أمثال الشيخ محمد عبده تلميذ ألافغانى والذى إنضم إلى صفوف عرابى كانوا ثوريين مهيجيين - وكذلك كان ملاك الأراضى فى الحركة الوطنية . كانت الحكومة البريطانية برئاسة ويليام جلادستون - المعروف بسمعته الكبيرة فى عداء الإستعمار - مازلت كارهة للتدخل . وكان المندوبون البريطانيون فى مصر - والذين كانت معلوماتهم عن الطبيعة الحقيقية للمشاعر الشعبية فى البلد غير دقيقة فى الغالب - يعتقدون أنه مازال يمكن إنقاذ الموقف إذا ماتصرف الخديوى بحزم وحكمة تبعا لنصيحتهم . ولكن ولسوء الحظ فقد كان توفيق غير مؤهل تماماً لتلك المهمة. فبينما أظهر أنه كان يبدى بعض التعاطف مع مطالب عرابى مثل تلك الخاصة بضرورة زيادة حجم الجيش المصرى وضرورة تقليل عدد الموظفين الأوربيين فى مصر برواتبهم المرتفعة فإن هدفه الحقيقى كان هو التخلص من العقيد الثائر حتى أنه قد أرسل مبعوثاً إلى السلطان عبد الحميد ليخبره بأن عرابى كان يهدف إلى تكوين إمبراطورية عربية بموافقة بريطانيا. ولكن عبد الحميد كان أكثر من كفء لتوفيق فى الخداع المزدوج فأخبر عرابى بأنه كان راضياً عن ولائه وأمره أن يدافع عن مصر من الغزو مهما كلف الأمر خشية أن تتعرض لمصير تونس والتى كانت فرنسا قد إحتلتها منذ زمن قريب. والحقيقة أن حكومة جلادستون كانت تفضل لو أن السلطان قد تحمل المسئولية من أجل الحفاظ على سلطة الخديوى ولكن كان من سياسة جلادستون أيضاً أن يحافظ على وفاق قريب مع فرنسا فى وجه طموحات بسمارك المتنامية فى أوربا. وكان الفرنسيون يعارضون تماماً أى تدخل تركى خشية أن يقوم عبد الحميد بالتخطيط من خلال مصر بإثارة حركة مقاومة إسلامية يمكن أن تهدد سيطرتهم على تونس.
ومع ذلك - فقد كانت بريطانيا لاتزال تأمل فى أن لايكون هناك ضرورة لأى تدخل بأى حال- وذلك عندما سقطت الحكومة الفرنسية فى ديسمبر 1881م وخلفتها حكومة برئاسة جمبيتا البطل القومى الرئيسى للمقاومة الفرنسية ضد بروسيا سنة 1871م.
صمم جمبيتا على إجراء قوى وأجبر وزير خارجية بريطانيا الكسول اللورد جرانفيل على إرسال مذكرة إنجليزية فرنسية مشتركة إلى قنصلى بريطانيا وفرنسا العامين فى مصر. طالبت المذكرة التهديدية- فى الواقع- بإعادة الأوضاع كما كانت عليه قبل تمرد الضباط والحفاظ على بقاء الخديوى على العرش بموجب البنود الواردة فى فرمانات السلطان والمعترف بها رسمياً من الحكومتين الإنجليزية والفرنسية لأن ذلك كان هو وحده الكفيل بتأمين النظام الجيد- سواء فى الحاضر أو المستقبل- وتطور رخاء مصر التى تهتم بهما فرنسا وبريطانيا العظمى بنفس الشكل. كانت نتائج هذا الإستبداد متوقعة. فقد زاد من إثارة الشعور الوطنى فى مصر. وعُين عرابى وكيلاً لوزارة الحربية وطالب مجلس الأعيان ( شبه البرلمان ) ببعض الإشراف على ميزانية مصر- والتى كانت فى أيدى المراقبين الماليين الإنجليز والفرنسيين. سقط جمبيتا بعد شهرين فقط وخلفه دى فريسينيه - الأكثر إعتدالاً - ولكن الضرر كان قد وقع فعلاً وسيطر الجيش المصرى - فى ذلك الوقت - على الأمة ومنحه جمهور الناس تأييداً حاراً. وأمل الفلاحون فى سذاجة بأن تحكم مصر من الآن فصاعداً بواسطة مصريين وبأن لا يظلموا من أجل الضرائب بعد اليوم. وشارك بعض الأعيان فى تلك المشاعر ولكن كثيراً منهم كان خائفاً يخشى الإضطراب الإجتماعى وتردد فى تأييده. وفى نفس الوقت إستمر الخديوى العصبى الساخط فى التآمر على عرابى ولكنه لم يجرؤ على مواجهته صراحة كما إستمر السلطان عبدالحميد فى سياسته بإعطاء الطرفين الإنطباع بأنه كان يؤيدهما. وبينما كان الشعور الوطنى المصرى يزداد غليانا كانت حكومتا بريطانيا وفرنسا وممثليهما يفعلان نفس الشئ أيضاً. وقد أفادت ألأخيرة فى تقرير أن البلد كان يتجه نحو الفوضى رغم أن ذلك لم يكن هو الواقع - فقد كانت مصر فى حالة غليان ولكن ليس فى حالة فوضى. وأقنع بعض أعضاء مجلس الوزراء البريطانى أنفسهم - متأثرين بحالة من شبه العصيان فى إيرلندا - أن الوطنيين المصريين كانوا غير قادرين على حكم أنفسهم وأن الأتراك العثمانيون فقط كانوا جنسا حاكماً بطبعه ولذلك فقد إعتبروا أن المصالح البريطانية الحيوية كانت فى خطر. وحتى جلادستون المعادى للإستعمار والمشهور بعدائه للأتراك قد قبل بوجهة النظر تلك. وفيما بعد أخبر مجلس العموم ( لقد كان يُعتقد بإخلاص- حتى فى هذا البلد- أن الحزب العسكرى كان هو الحزب الشعبى الذى يناضل من أجل حريات مصر، ولكن لايوجد أقل مايمكن أن يؤكد هذا الزعم ). كان هذا الكذب الصارخ محاولة لإرضاء ضميره. وبينما كانت بريطانيا وفرنسا ماتزالا تأملا فى تدخل تركى تحت إشراف إنجليزى فقد أرسلتا قوة بحرية مشتركة رست قبالة ساحل الإسكندرية. ولكن سرعان ماوقع حادث بعد ذلك بدا أنه يبرر كل مخاوف المحذرين - فقد حدث شغب فى الإسكندرية خلف ورائه عدة مئات من القتلى بينهم نحو خمسين أوربيا. وبالتأكيد فقد كانت العلاقات قد تدهورت بشدة بين الأوربيين والمصريين حيث ألهبت خطابات المشايخ المسلمين مشاعر المصريين الوطنية وأصبح كل أوربى مشتبها بكونه يأمل فى غزو أوربى لمصر. و قد كان أمراً بعيد الإحتمال أن يكون الشغب قد حدث بتحريض من العسكريين كما أدعى الموظفون الأوربيون فوراً فى بداية الامر- على الأقل فقط - لأن ذلك كان من شأنه أن يقدم المبرر للإحتلال الأوربى . والواقع أن الشغب قد حدث على أثر مشاجرة ثم إنتشر بعد ذلك. وكان وجود القطع البحرية الإنجليزية الفرنسية هو الذى أشعل الموقف. وبذلك بدا عمل أنصار التدخل مبرراً تماماً. وغادر الأوربيون المذعورون الإسكندرية بالآلاف. وأصبح موقف الحكومة البريطانية أشد تصلباً من موقف الحكومة الفرنسية. وتأكدت شكوك بريطانيا من أن دى فريسينيه كان يرتب صفقة سرية مع عرابى عندما رفض رئيس الوزراء الفرنسى إقتراحاً بريطانياً بحماية إنجليزية فرنسية مشتركة لقناة السويس على أساس أن الخطر الوحيد على القناة قد يجئ من تدخل خارجى .
وفى 19 يوليو 1882 م عندما أصدر الأدميرال البريطانى إنذارا لعرابى بقصف الإسكندرية إذا لم يفكك التحصينات التى كان قد أقامها حول المدينة- سحب دى فريسينيه الأسطول الفرنسى. ولم يعد أى غزو إنجليزى فرنسى مشترك لمصر ممكناً. وقرر مجلس الوزراء برئاسة الخديوى وحضور مندوب السلطان أنه من العار أن لايرُفض الإنذار. كان كل من توفيق وعبدالحميد مازالا غير متأكدين إذا ماكانت قوات عرابى قادرة على المقاومة أم لا وكانا يحاولان المراوغة فى إتخاذ قرار بالإنحياز إلى أى طرف . قصف الأسطول البريطانى الإسكندرية لمدة عشر ساعات محطماً كل القلاع وجزء من المدينة فأخلى عرابى قواته تاركاً الإسكندرية تحترق.
وفى النهاية وافق السلطان عبدالحميد وبدأ فى إرسال القوات التركية لإعادة النظام لكنه ظل يماطل ويساوم السفير البريطانى حول الشروط التى قد يتدخل بموجبها . ولأنه كان مازال يأمل فى أن يبدو أمام المصريين كأنه حاميهم ضد الكفار ، فلم يستطع إعلان عرابى خارجا عن القانون. كان عرابى مازال يتمتع بتأييد شعبى فى البلد وكان مازال يحافظ على درجة معقولة من النظام والأمن. وأثناء ذلك كان المزاج الوطنى فى بريطانيا يتجه نحو التطرف الشديد لكن جلادستون وبعض أعضاء وزارته كانا مازالا ضد الغزو خوفاً من العواقب. أما فرنسا والقوى الأوربية الأخرى فلم تكن غير سعيدة بقصف الإسكندرية لكنهم كانوا يعارضون تماماً أى إحتلال بريطانى لمصر من جانب واحد. وفى النهاية إنتصر الإستعماريون فى المجلس يؤيدهم الرأى العام البريطانى. وصادق مجلس العموم بالإجماع على طلب جلادستون لميزانية لتمويل إنفاذ حملة عسكرية إلى مصر. وقد برر موقفه بأن عرابى وزملاؤه كانوا عسكريين معادين للمسيحين وليس لديهم أى إهتمام بحريات الناس. وقال أن إنعدام الأمن فى القناة كان مجرد عرض ( لأن مركز المرض كان فى داخل مصر- فى حالتها الفوضوية المضطربة). لم يكن عرابى قائداً عسكرياً عظيماً لكنه قد توانى فى تجهيز دفاعات مصر لأنه كان يعتقد أن بريطانيا سوف تتفاهم. وأيضاً فقد كان يعتقد -بإخلاص- بأن بريطانيا سوف تحترم حيادية قناة السويس كما أنه وافق على الإلتماسات الملحة للعجوز ديليسيبس بأن يفعل نفس الشئ ففشل فى تغطية جناحه الشرقى وظهرت السفن الحربية البريطانية فى بورسعيد والسويس وأغلقت القناة.
لم يكن جيش عرابى المكون من عشرة آلاف جندى نظامى ومجموعات من دهماء الفلاحين الذين تم تجنيدهم على عجل كفء لقوات الحملة البريطانية المكونة من ثلاثين ألف جندى نظامى. وفى موقعة التل الكبير فى 13 سبتمبر 1882م اُخذ المصريون على غرة وسُحقوا وخسروا حوالي عشرة آلاف رجل مقابل سبعة وخمسين قتيلاً وإثنين وعشرين مفقوداً بريطانياً. وكتب القائد البريطانى فى تقريره الرسمى عن المعركة ( لا أعتقد أنه فى أى فترة سابقة من تاريخنا العسكرى إستطاعت قوات المشاة البريطانية أن تحقق لنفسها الشهرة والشرف أكثر مما حققت فى هذه المناسبة ). وإحتلت القوات البريطانية القاهرة وإستسلم عرابى وزملاؤه وأتباعه واُسترجعت سلطة الخديوى رسمياً وخضع مجلس الوزراء.
وفى مرسوم مختصر أعلن توفيق حل الجيش المصرى. ومع ذلك فلم يكن من الممكن العودة إلى الوضع السابق لأن عرابى- وبرغم كل إخفاقاته - كان قد غير مصر بشكل دائم من خلال حركتة الغير ناجحة. فلأول مرة يحاول شعب شرقى خاضع إزاحة سيطرة قلة متميزة ليؤسس شكل الحكومة الدستورية الخاصة به متحدياً القوى الأوربية فى نفس الوقت. وقد علق الجنرال جوردن- أحد معجبى عرابى- قائلاً ( أنه سوف يعيش لقرون قادمة ولن يكن المصريون خدمك المطيعين مرة أخرى ). ولم تحجب حقيقة أن معظم السياسين السابقين حلفاء عرابى قد هجروه وأخذوا جانب الخديوى أن الخديوى كان قد أصبح آنذاك دمية بريطانية. وتحطم الحزب الوطنى ولكن سلطة الخديوى الحقيقية قد ذهبت معه أيضاً . ولم يسمح له حتى بإعدام عرابى رمياً بالرصاص كمتمرد دون محاكمة حيث أصرت بريطانيا على ضرورة أن يحصل الكولونيل على محاكمة عادلة دفع نفقاتها بعض المتعاطفين من الليبرالين البريطانيين. وحُكم عليه أخيراً بالنفى إلى سيلان حيث قضى هناك ثمانية عشر عاماً. وآنذاك واجهت بريطانيا معضلة. فبرغم الظنون الفرنسية والعثمانية الشديدة بأنها كانت تسعى دائماً للسيطرة على قناة السويس والوجه البحرى فإن بريطانيا كانت تعرف أن الإستيلاء على مصر وضمها إلى الإمبراطورية كان أمراً غير ممكن وذلك لسبب واحد هو أن ذلك كان من شأنه أن يثير- بالتأكيد- حرباً أوربية لم تكن الحكومة البريطانية بجيشها الصغير وإستغراقها الدائم بالشئون الإيرلندية مستعدة لها أبداً. وبعد شهر من موقعة التل الكبير وفى الإجابة على إستفسار فى مجلس العموم بخصوص إذا ماكانت بريطانيا قد نظرت فى موضوع إحتلال مصر بشكل دائم أجاب جلادستون( بلاشك- من بين كل الأشياء فى العالم- لن نفعل هذا الشئ أبداً.) ومن جهة أخرى فإن الجلاء الفورى كان أيضاً أمراً غير ممكن لأن نظام الخديوى الصورى كان قد أنقذ بالكاد وكانت المصالح البريطانية الحيوية فى خطر. وأرسلت حكومة جلادستون اللورد دوفرين - وهو رجل دولة محنك وكان حاكماً عاماً سابقاً لكندا ونائب الملك المستقبلى فى الهند - إلى القاهرة كى يجد حلاً. وقـد خلص وبصراحة قاسية إلى ( أن وادى النيل لايمكن أن يدار من لندن لأن ذلك من شأنه أن يثير ريبة وكراهية المصريين الدائمة). كما رفض كل من الحكم المباشر كما هو الحال فى المستعمرات والحكم الغير مباشر من خلال مقيم بريطانى كما هو الحال فى ولايات الهند الأميرية. ولكن حل دوفرين حسن النية كان غامضاً أيضاً. فقد كان عبارة عن كيف يمكن إقناع المصريين بأن كل ماتريده بريطانيا هو مساعدتهم على حكم أنفسهم فى ظل الرعاية الدائمة للصداقة البريطانية. ولكن فى النهاية لم يحصل المصريون على حكم مباشر أو غير مباشر وإنما على هجين فريد غريب. لم تُضم مصر إلى الإمبراطورية لكنها أصبحت أهم حلقة فى النظام الإستعمارى البريطانى ، وإستمر ذلك الوضع حتى الحرب العالمية الثانية. كان نفوذ بريطانيا فى مصر كاسحاً ولكنه كان يمارس بتحفظ واضح - ولسبب واحد - وهو أن القوى الأوربية الأخرى وعلى رأسها فرنسا كانت تحسد بريطانيا بمرارة على سيطرتها على النيل والقناة وظلت تحتفظ بحقوق هامة فى مصر. وإنتهى نظام المراقبة الإنجليزية الفرنسية المزدوجة ولكن صندوق الدين العام والإمتيازات الأجنبية والوضع الدولى للقناة ظلوا كما هم.
كان الشخص المختار لإدارة هذا النوع من العلاقة الغير مسبوقة بين الدول هو إيفلن بارنج الذى كان قد عاد إلى الهند بعد فترة خدمته الأولى فى مصر فى صندوق الدين ولكنه اُستدعى آنذاك باللقب المتواضع المضلل - المندوب السامى والقنصل العام فى مصر.ورغم منصبه الغير عادى فقد قدر لبارنج - الذى أصبح اللورد كرومر فيما بعد - أن يصبح النموذج التقليدى للبروقنصل الإمبراطورى فى ذروة الإمبراطورية . كان بارنج مستقيما ومتفان فى عمله لكنه كان مغرورا بعض الشئ وكان يكنى ( فوق بارنج ) كناية عن غروره ذلك. وكان تعاطفه الصادق مع المصريين وخاصة الفلاحين تفضليا دائما. وفى سنواته الأربع والعشرين كحاكم فعلى لمصر لم يتعلم أبداً أى لغة عربية - تاركا ذلك لسكرتيره الشرقى- ولم يكن يحب الوطنيين المصريين الذين كانوا يعتقدون أن شعبهم قادراً على حكم نفسه بنفسه. وقد حصل على نفوذ غير عادى فى لندن حيث جاء وزراء الخارجية البريطانيون وذهبوا ولكن كرومر بقى. وعندما وصل كرومر( كما أصبح يدعى آنذاك) فى سنة 1883م إعتقد أنه يستطيع إقامة نظام حكم مستقر بمستشارين بريطانيين مما قد يجعل من الممكن للقوات البريطانية أن تنسحب بشرط أن تستطيع الحكومة البريطانية أن توقف كل تدخلات الدول الكبرى. ولكن ذلك كان غير عملى تماماً ، كما أدرك بسرعة. وبالإضافة إلى ذلك ، فقد كانت مصر تحت تهديد خطر عسكرى حقيقى من الجنوب. فقد ظلت شبه الإمبراطورية التى أسسها محمد على فى السودان تحت الحكم التركى المصرى لحوالي ستين سنة حتى سنة 1881م حين حطمها تمرد قام به القائد السياسى الدينى الملهم - محمد بن عبدالله المهدى - واُكتسح الحاميات المصرية . وفى ربيع سنة 1883م وعند وصول كرومر إلى مصر- بالضبط - أُبيدت قوة سودانية مصرية كاملة كان يقودها ضباط بريطانيون بواسطة ضباط المهدى وأصبحت مصر نفسها مهددة.
كانت حكومة جلادستون مدركة تماماً لما كانت بصدده آنذاك بمصر. فلم يكن على بريطانيا أن تثبت النظام فقط ولكن أن تحميه أيضاً. لم يكن أمر إسترداد السودان من المهدى- بالقوات المتاحة آنذاك - وارداً. ولذا وبموافقة كرومر فقد فرضت سياسة الإخلاء على الخديوى الكاره لذلك ووزرائه. ومع ذلك فلم يوافق كرومر على قرار الحكومة بإرسال الجنرال - غريب الأطوار جوردن- للإشراف على الإخلاء المنظم لبقايا الحاميات المصرية المتناثرة.
كان جوردن يتمتع بتأييد شعبى هائل فى بريطانيا فقد كان بطلاً شعبياً خدم فى أماكن عديدة من الإمبراطورية كما كان قد عمل كحاكم عام للسودان فى عهد إسماعيل حيث كان قد حاول - عبثا- وضع حد لتجارة الرقيق. وكما علق كرومر( فقد إتحد الآن المتطرفون الوطنيون والإنسانيون لمتابعة سياسة سودانية أكثر تطرفا ). وكما توقع كرومر- فعندما عُين جوردن لهذه المهمة فإنه بدلاً من تنفيذ سياسة الإخلاء فقد تباطأ فى الخرطوم المحاصرة معتقدا أنه يستطيع التوصل إلى تفاهم مع المهدى وينهى عصيانه. وفشلت حملة إنقاذ أُرسلت من مصر فى الوصول إليه فى الوقت المناسب. وفى يناير 1885م إكتسحت قوات المهدى الخرطوم وطعن جوردن بالرماح حتى الموت على درج دار الحكم. ومات المهدى نفسه أثناء الحصار وأصبحت السودان آنذاك - تحت حكم خليفته الذى تسمى بالخليفة ولمدة ثلاث عشرة سنة حتى تم إستعادتها ببطء بواسطة جيش إنجليزى مصرى بقيادة الجنرال كتشنر. وعُلق الموضوع السودانى عندئذ على الرف مؤقتاً. لم تستطع قوات المهدى إختراق مصر العليا - كما كان يخشى- وكانت القوات البريطانية فى مصر والتى كانت قد بدأت فى إعادة تنظيم الجيش المصرى قادرة على تولى الدفاع عن البلد ولكن إنسحابها الفورى لم يكن وارداً. ومع ذلك - فالحكومة البريطانية التى كان يقودها آنذاك لورد سالزبورى - المحافظ البارد الحذر- كانت ماتزال تحاول التوصل إلى إتفاق مع السلطان والقوى الأوربية والدول الأوربية يسمح بإنسحاب بريطانى خلال سنوات قليلة بشرط تأمين المصالح البريطانية. وأرسل سالزبورى السير درموند ولف كمندوب له فى إسطنبول لمفاوضة السلطان. وعاد ولف ومبعوث السلطان إلى مصر لترتيب إتفاق يسمح للقوات البريطانية بالإنسحاب من مصر فى فترة مناسبة.
ولكن القوى الأخرى - تقودها فرنسا - إعترضت بشدة على إصرار سالزبورى بأن تملك بريطانيا الحق فى الرجوع إلى مصر متى شاءت. وكلما راوغ السلطان عبد الحميد بطبعه المميز إزداد موقف سالزبورى تصلباً. وبينما إستمر فى إعطاء الأولوية إلى الحفاظ على توازن القوى الأوربية فقد تنبأ بالصراع القادم على إفريقيا وكذلك بأهمية مصر الحاسمة كبوابة للهند ومخرج للنيل. وبينما لم يتخل عن إعتقاده الذى ورثه عن دزرائيلى فى أن بقاء الإمبراطورية العثمانية كان أفضل حماية ضد التقدم الروسى فى شرق البحر المتوسط فقد بدأ ينظر إليها ككيان مصاب بمرض قاتل وإلى مصر كبديل لها. وفى مايو 1887م قرر ولف والمبعوثون الأتراك جلاء الحامية البريطانية و ترك مصر كإقليم محايد. ومع ذلك ، فقد نصت المادة الخامسة من مسودة المعاهدة الإنجليزية التركية على أن ألقوات البريطانية لن تنسحب إذا ظهر أى خطر داخلى أو بدون ذلك. وواجهت عبدالحميد معضلة فإذا ماصادق على المعاهدة فإنها قد تصبح سابقة للدول الأخرى لإحتلال أجزاء من إمبراطوريته وعندئذ يمكنهم إدعاء حق العودة حتى قبل المغادرة وإذا مارفض التصديق فإنه سوف يكون قد تخلى فى الواقع عن سيادته الإسمية على مصر. لكنه فى خضم الأحداث قرر أن يرفض المعاهدة ففقد بذلك أهم جزء من إمبراطوريته فى العالم العربى.
وإبتهج كرومر بقرار السلطان و شعر أنه قد نجح فى السيطرة على الشئون المصرية وأنه كان يعيد البلاد إلى قدرتها على الوفاء بديونها. وكما كتب بعد تقاعده بأسلوب يميزه ( كل التاريخ كان هناك ليثبت أنه بمجرد أن تضع قوة متحضرة يدها على دولة ضعيفة فى حالة بربرية أو شبه متحضرة فإنه من النادر أن ترخى قبضتها عليها ). لقد حدث الإحتلال االبريطانى لمصر- والذى إستمر لنحو أربع وأربعين سنة - مصادفة فلم يكن مخططاً ولامتوقعاً. ومع ذلك ، فقد كانت بريطانيا تؤكد بين الحين والآخر نيتها فى الإنسحاب . ( وتبعاً لأحد الاحصاءات فقد بلغ عدد المرات التى أعلن فيها العديد من الوزراء بأن الإنسحاب سيحدث فوراً مالايقل عن إثنتين وسبعين مرة أثناء تلك السنوات). ولكن البريطانيين راحوا وعلى نحو متزايد يعتبرون الإستيلاء على مصر كأمر مسلم به. ورغم إنها لم تأخذ اللون الأحمر على الخريطة فقد كان كل تلميذ بريطانى يفهم أنها كانت كذلك بشكل ما. لقد كان من غير المتصور أن تتخلى بريطانيا عن سيطرتها على البوابة إلى إمبراطوريتها فى آسيا وإفريقيا. ومع ذلك -وكما رأينا - فإن سيطرة بريطانيا على مصر كانت مازالت بعيدة عن أن تكون مطلقة.
كان ضم مصر أمراً غير وارد لأن القوى الأوربية الكبرى وعلى رأسها فرنسا كانت قد أوضحت بجلاء أن هذا قد يؤدى إلى الحرب. وظل صندوق الدين العام وظلت الإمتيازات أدوات للسيطرة على مالية مصر. وإستغرق الأمر إثنتين وعشرين سنة قبل أن ينهى الإتفاق الودى بين بريطانيا وفرنسا عدداً من الخلافات العالقة بين الدولتين الإستعماريتين فى إفريقيا وآسيا والذى قد مهد الطريق أيضاً للتحالف الإنجليزى الفرنسى ضد ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى. وقد نص الإتفاق بشكل خاص على أن تتخلى بريطانيا أو تتنازل عن حقوقها ومصالحها فى مراكش ( المغرب ) ممهدة بذلك الطريق لإحتلال فرنسا لمراكش ( المغرب ) بعد سنوات قليلة من ذلك التاريخ. وقد فعل الفرنسيون مثل ذلك بالنسبة لمصر وقبلوا بعدم ضرورة تحديد مهلة للإحتلال البريطانى لها. ولم يتم تصفية صندوق الدين العام ولكن تم تقليص سلطته. وأطلق اللورد ملنر- وهو بروقنصل إستعمارى بريطانى كبير آخر- على الحكم البريطاني فى مصر تسمية( الحماية المقنعة ) وهو النظام الذى حكم يموجبه كرومر من خلف ستار يمثله الخديوى عباس ومجلس وزرائه الذى كان لكل أعضائه مستشارين بريطانيين فى وزاراتهم. كان هناك إتجاهان رئيسيان فى تفكير كرومر ففى السياسة كان إستعمارياً أصيلاً - وفى المسائل المالية والإقتصادية كان يتبع مذهب جلادستون الليبرالى. ولحسن الحظ - ففى مصر- كان من الممكن مزج الأيدولوجيتين بسهولة. لم يكن كرومر يؤمن بأن المصريين يمكن أن يحكموا أنفسهم أو حتى أن يصبحوا كذلك فى المستقبل - وفى إستخدامنا لأحد عباراته المفضلة ( فقد كانوا شعباً خاضعاً بطبيعته - بعكس الجنس ألانجلوسكسونى النموذج الإسمى للجنس الحاكم ). كان لدى الأرستقراطية التركية بقايا من القدرة على الحكم ولكن أعضاء هذه الطبقة كانوا منحلين وفاسدين بشكل لاأمل فيه. ومثل كثير من زملائه فقد كان متعاطفاً - بشكل تفضلى- مع الفلاحين المقهورين تماماً لكنه لم يكن يرى أى منطق فى تدريبهم لإدارة شئونهم الخاصة وكان يرى أن الأموال ألتى تنفق على تعليمهم - فيما بعد المراحل الإبتدائية - كانت إهداراً خطيراً للمال. ولم يكن لديه شك فى أن مصر قد تستفيد من أوربا كل ناحية من نواحى الحياة رغم أنه كان يدرك بأسف أن ذلك كان مستحيلاً. إستهلكت التزامات مصر لدفع ديون إسماعيل أكثر من نصف دخلها وتطلبت درجة كبيرة من التدبير المالى والتى لائمت مبادئ كرومر الجلادستونية فى أى ألاحوال. ومن واقع تجربته فى الهند كان كرومر يعتقد فى الفرضية العلمية لجون ستيوارت ميل - والتى تبناها جلادستون - بأنه يجب فرض أقل قدر ممكن من الضرائب كى نسمح للمال بأن يثمر فى جيوب الطبقات المنتجة.
وبناء على ذلك فلم يكن هناك زيادة فى الضرائب حيث لم يكن من الممكن للشعب أن يتحملها وذلك مع الإستثناء ذو المغزى بأنه وتبعا لمبدأ التجارة الحرة فقد فرضت الضرائب الموازية على الصناعات المصرية وذلك لمعادلة أسعارها بأسعار الواردات الأجنبية. وقد دمر ذلك فعلياً صناعة التبغ المصرية. وببطء وألم إستعاد الإقتصاد عافيته. وبحلول التسعينيات ( من القرن التاسع عشر ) بدأت الميزانيات تظهر بعض الفوائض . كان السبب الرئيسى فى هذا الإنتعاش هو الزيادة فى ناتج المحصولات الزراعية- خاصة القطن- والحبوب والبقول والأرز أيضا ً. وقد ساعد إصلاح نظام الرى على هذه الزيادة والذي كان النوع الوحيد من ألأشغال العامة التى كان كرومر مستعداً لتشجيعها. وشرع المهندسون البريطانيون- وكان معظمهم ذا خبرة سابقة فى الهند - فى ترميم سدود وقنوات الدلتا الكبيرة التى بنيت زمن محمد على وإسماعيل ووسعوا نظام الرى فيها. وتمثلت ذروة إنجازاتهم فى بناء سد جديد فى أسوان فى مصر العليا . وقد وفر هذا السد الذى إكتمل بنائه فى سنة 1902م - ورفع أكثر وطور بين الأعوام 1907و1912م - كميات كبيرة من المياه وذلك بمعادلة تدفق مياه النيل بين موسم الفيضان فى الخريف وبقية السنة. وشرع كرومر ومعاونوه - وبعد أن عجزوا عن خفض الضرائب كما كانوا يتمنون - فى تحسين أحوال الفلاحين وذلك بإستبدال نظام السخرة بنظام العامل الأجير ومنع إستخدام الكرباج. وقد تحقق ذلك تدريجياً أثناء العقد الأول من الحكم البريطانى . لم يكن هناك شك فى أن مصر قد أصبحت آنذاك تدار بشكل أفضل عن ذى قبل. كانت قرارات الحكومة تنفذ بشكل عادى وتمت الخطوات الأولى لتأسيس هيئة خدمة مدنية فعالة تخلو من الفساد ، بشكل مقبول . كان أحد أهم العوامل فى ذلك النجاح هو أن الموظفين البريطانيين فى جهاز الخدمة الإنجليزية المصرية كانوا يجمعون نوع المعلومات الإحصائية التى بدونها يصبح وجود الحكومة الفعالة مستحيلاً. وفى هذا الخصوص كانت مصر فريدة فى الإمبراطورية العثمانية. وبإستثناء عدد قليل من النواب الليبراليين والراديكاليين فى ويستمنستر فإن الشعب البريطاني - متشجعاً بدليل تدفق عشرات الآلاف من السياح على مصركل شتاء - لم يكن لديه شك بأن المصريين كانوا ممتنين تماماً لمجهودات كرومر من أجلهم. ولكن رد فعل المصريين كان أكثر تنوعاً وتعقيداً. فالخديوى ووزرائه ومعهم الطبقة الحاكمة التركية الجركسية التى جاءوا منها - حصرياً تقريباً - كانوا سعداء لإسترداد سلطتهم ولتجنب إضطراب وطني متطرف.
كما شاركهم رؤيتهم تلك هؤلاء الذين كانوا قد تملكهم الحماس مؤقتاً لثورة عرابى ، فقد قرر الشيخ محمد عبده - وكان أهم مؤيدى عرابى من المدنيين - التعاون مع المحتلين البريطانيين عندما سُمح له بالعودة من المنفى سنة 1884م ووافق على أن يصبح قاضياً وبدأ العمل من أجل الإصلاح وتحديث التعليم الإسلامى فى مصر وقد أحبه كرومر وأحترمه لكنه كان يشعر بأن مهمته كانت مستحيلـة.
وإذا كانت الطبقة الحاكمة المصرية قد قبلت بوجود القوات البريطانية مؤقتاً- فقد كانت مع ذلك - أقل تحمساً لما أطلق عليه نوبار باشا - أول رئيس وزراء بعد سنة 1882 - بالإحتلال الإدارى. حاول نوبار أن يحتفظ بالسيطرة المصرية على جهاز البوليس المدنى ، لكنه فشل وفشل خلفه رياض باشا - وبنفس القدر- فى منع سيطرة الأوربيين على النظام القانونى حيث تم تعيين مراقبيين أوربيين فى المحاكم الوطنية. وفى كلتا هاتين المسألتين كان كرومر عنيداً لا يلين. والحقيقة أنه كان داخل كل مصرى - وبالرغم من كل ماإستفاده مادياً من الإحتلال البريطانى - درجة من الإمتعاض لإحتلال بلاده من قبل قوة مسيحية أوربية. وكان حتميا أن ينمو ذلك الإمتعاض مع السنين. وفى السنوات المبكرة الأولى من الإحتلال البريطانى كان هناك إزدياد ملحوظ فى عدم الإستقرار وأعمال قطع الطريق فى الريف. وقد أزعج ذلك كرومر المولع بالنظام وحيره. لقد كان ذلك جزئيا نوع من رفض الريف - قاعدة المجتمع - للإحتلال لكنه كان يعكس أيضاً إنهيار النظام التقليدى الذى كان يستطيع فيه العمد أو رؤساء القرى الذين كانت تعينهم الحكومة حفظ القانون والنظام فى الريف بالتعاون مع القضاة الإسلاميين. ورغم أن العمد كانوا أحياناً متعسفين وقساة فإنهم كانوا وبشكل عام يعبرون عن وجهة النظر المحلية. لقد كان ذلك نظاماً يستطيع الفلاح أن يفهمه. والواقع أن المبادئ العلمانية الأوربية للقانون كانت قد دخلت مصر بزمن طويل قبل الإحتلال البريطانى. فقد كان محمد على قد بدأ هذه العملية التى وُسعت بإدخال قانون العقوبات العثمانى الجديد المؤسس على القانون الفرنسى فى سنة 1863م. وبحلول سنة 1880م كانت قوانين الشريعة قد إقتصرت على مسائل الأحوال الشخصية - مثل الطلاق والميراث والقتل وإلى آخره. ولكن المشكلة كانت أن هذه المبادئ كان يجرى تطبيقها آنذاك وبشكل موسع فى الأمور المتعلقة بالحكم والقانون فى ظل حماية قوى إستعمارية مسيحية أوعلى الأقل كانت هذه هى النظرية. وفى سنة 1883م إستطاع اللورد دوفرين إقناع توفيق بإصدار قانوناً أساسياً يكفل حق الإقتراع العام للذكور من المصريين الذين تجاوزوا العشرين من عمرهم.
ولكن كرومر حرص على أن تظل السلطة التشريعية المنتخبة والمجالس البلدية بلا قوة. وكما رأينا ، فلم يكن لديه إقتناع بقدرة المصريين على حكم أنفسهم وإعتبر المؤسسات النيابية غير ملائمة أبداً لحكومة جنس خاضع. ولم يكن كرومر مقتنعاً أن هناك أى هدف من وراء تدريب نخبة وطنية مصرية لتولى المراكز التنفيذية العليا- وفى الواقع - ففى أثناء الأربع وعشرين سنة التى قضاها فى مصر كانت أعداد هؤلاء فى المراكز العليا قد تناقصت بالفعل بينما إزدادت بالنسبة للإنجليز وآخرين من الأوربيين. وبناء على ذلك - فقد كان قليل الإهتمام بنشر التعليم فوق المستوى الإبتدائى. ومن تجربته فى الهند إستخلص أن توسيع نظام التعليم العالى الغربى يصنع طبقة من الديماجوجيين الساخطين الباحثين عن مكـان لأنفسهم والمنفصلين عن شعوبهم. وكما كتـب فـى إختصار قبل إعتزاله ( إننى أفعل كل ماأستطيع لدفع التعليم الإبتدائى والفنى . أريد أن يكون كل الجيل التالى من المصريين قادراً على القراءة والكتابة. كذلك أريد أن أؤهل أكبر عدد ممكن من النجارين والبنائين والنقاشين - إلى آخره- وأكثر من ذلك لا أستطيع). ولسوء الحظ ، فحتى هذه المجهودات لم تكن ناجحة تماماً. فعند إعتزاله كان حوالي واحد ونصف فى المائة من السكان يستطيعون الحصول على التعليم الإبتدائى بالمقارنة مع واحد وسبعة من عشرة فى المائة فى سنة 1873م وظلت الغالبية العظمى من السكان أمية لاتقرأ ولاتكتب. وقد نقض كرومر سياسة محمد على وإسماعيل فى توفير التعليم المجانى فى مدارس وكليات الحكومة. فقد علمته مبادئه الليبرالية أن توفير التعليم لم يكن واجب الدولة وقد توافق ذلك أيضاً مع هدفه العام فى التوفير وضغط النفقات. والنتيجة أن التعليم العالى أصبح إمتيازاً مقصوراً على ألأغنياء. ومثل الغالبية العظمى من زملائه البريطانيين فى مصر- لم يكن كرومر متعاطفاً مع الإقتراحات بتأسيس جامعة والتى كان يعتقد أنها قد ترعى نشأة حركة وطنية خطيرة. ومع ذلك ، فلم يتدخل فى عمل المؤسسات العليا للتعليم التى إستمرت منذ عهد إسماعيل مثل مدرسة الطب والهندسة والقانون. ولأن النظام القانونى المحدث كان مؤسساً على القانون الفرنسى فقد كان المدرسون فى مدرسة القانون فرنسيين وقد أصبحت تلك المدرسة فى غياب الجامعة مركزاً للحركة الوطنية.
أما الجانب ألآخر الناتج عن إهمال التعليم فى عهد كرومر فقد تمثل فى عدم وجود حركة منظمة لفرض الثقافة الإنجليزية فى مصر بالشكل الذى هدف إليه الفرنسيون فى خلق نخبة متفرنسة فى ممتلكاتهم فى شمال إفريقيا. فقط خضع النظام التعليمى جزئيا وتدريجيا للإشراف البريطانى وأصبح إنجليزياً. وبالرغم من أن إستخدام اللغة الإنجليزية أصبح بطبيعة الحال أكثر شيوعاً - اذ كان الشباب المصرى الطموح يحتاج لمعرفته - فقد ظلت الطبقات العليا المصرية تتحدث الفرنسية. وكان هذا جزئياً بسبب قيود الحماية المقنعة وجزئياً لأن كرومر كان يعتبر محاولة تحويل المصريين الوطنيين إلى أشباه إنجليز محاولة عقيمة فلم يكن يشعر بغير الإحتقار للقلة من المصريين الذين حصلوا على تعليم جامعى فى الخارج وتمثلوا بالأوربيين. ومن ثم فقد كان طبيعياً أن لايحاول كرومر التدخل فى نظام التعليم الإسلامى الذى وُجد فى كتاتيب القرى والمدارس القرآنية والمدارس الملحقة بالمساجد التى كانت تخدم التعليم الثانوى فقد كان من شأن ذلك أن يثير أكثر ردود ألافعال عداءاً. ومرة أخرى خدم مبدأ عدم التدخل كل أهدافه. ورغم أنه كان يحترم قوانين الإسلام فقد عبر عن وجهة النظر القائلة بأنه كان فاشلا كنظام إجتماعى متقدم. وكثيراً ماصرح بأن مصر لن تستطيع أبداً أن تحقق المجتمع المتحضر فى ظل الإسلام - فوضع المرأة فقط - يجعل ذلك مستحيلاً ومع ذلك فلم يكن لديه أى رغبة فى أن يرى المصريين يتخلون عن عقيدتهم. لقد كان يشعر أن المصرى المتبنى للثقافة الأوربية - والذى كان يحتقره بشدة - كان بشكل عام إنساناً لاادرياً لايفهم أكثر من الأمور المادية المحسوسة. ورغم تعاطفه مع مجهودات محمد عبده - الذى أصبح المفتى الأكبر لمصر- فى إصلاح وتحديث النظام التعليمى فى جامع ألازهر العظيم فى القاهرة فقد كان متأكداً أنها مجهودات عقيمة ، لأن الإسلام المحدث لن يكون إسلاماً بعد تحديثه . كان كرومر يعبر عن إستبداديته بشكل سلبى فى الغالب. فقد فضل مبدأ عدم التدخل بدلاً من مبدأ الإجراء الحكومى الصارم. وكان يعتقد أن مصر بلداً زراعياً بطبيعته وأن الفلاح المصرى كان جيداً وأفضل من نظيره الهندى حيث يستطيع بقدر كاف من الأرض وضرائب منخفضة أن ينتج إنتاجاً جيداً . كما كان يعتقد فى أن طموح محمد على فى تحويل مصر إلى بلد صناعى كان غير واقعى حيث كان ذلك يتطلب تعريفات حماية جمركية مرتفعة وبرنامج تدريب صناعى مكلف للمصريين ، وكان بطبيعته يعارض ذلك. ومن خلال التدبير المالى الدقيق - ومع نهاية القرن - إزدهرت مصر وأصبح الدخل الحقيقى للفرد ربما أعلى من مثيله فى أى فترة لاحقة. ولكن كان هذا يخفى بعض أوجه الضعف الأخرى .
كانت درجة الإعتماد على محصول واحد – هو القطن - خطيرة كما كان هناك مشاكل فنية نتجت عن طفح مياه الفيضان بسبب نقص المصارف وكذلك العديد من أوبئة القطن التى كانت الحكومة المقترة مترددة فى معالجتها. وبرغم أن كرومر كان يهدف إلى خلق طبقة كبيرة من صغار المزارعين المصريين والذين كان يمكن أن يعملوا كسد محافظ للمجتمع فقد كان الإجراء الحكومى الصارم هو فقط الذى يمكن أن يمنع هذا الرخاء الجديد من أن يذهب إلى هؤلاء الذين كانوا أغنياء بالفعل - أى كبار ملاك الأراضى - وأن لا يغرق الفلاحون أكثر فى الديون. وبعد أربع وعشرين سنة من الكرومية فإن ثمانين فى المائة من هؤلاء الذين كانوا يملكون أراضى أصبحوا يملكون خمسة وعشرين بالمائة فقط من مجموع الأرض فى مصر - بينما وعلى الجانب الآخر من الميزان - فإن واحد فى المائة كانوا يملكون أكثر من أربعين فى المائة من مجموع هذه ألاراضى. وفيما بعد سوف يرى الوطنيون المصريون أن كرومر قد خطط عمداً لجعل مصر مزرعة قطن كبيرة تنتج مواد خام رخيصة لورش القطن فى لانكشاير. ولكن الواقع أنه لم يكن لديه هذه النية - فبالنسبة إليه - كان ذلك دوراً طبيعياً بالنسبة لجنس خاضع. ورغم أنه ماكان يحب أن يعترف بذلك فقد كان كرومر مستمراً فى إتباع سياسات إسماعيل فى كثير من النواحى. ومات الخديوى توفيق سنة 1892م وخلفه ابنه ألأكبر عباس حلمى الثانى ذو السابعة عشرة من العمر ، والذى كان يتابع دراسته فى أوربا. وإعتقد كرومر فى البداية أن عباساً قد يكون مطيعاً كوالده ولكن الواقع أنه كان ذكياً قوياً يقترب أكثر من طبيعة جده إسماعيل عنه من طبيعة أبيه. وسرعان ماحاول إثبات وجوده برفض إختيار كرومر للوزراء وإنتقاد مستوى الجيش المصرى ذو التدريب البريطانى. ولأن ولايته للعرش قد تصادفت مع أولى إندفاعات المشاعر الوطنية الجديدة منذ إنهيار ثورة عرابى بدأ عباس يرى نفسه وكأنه يقود تحدياً للحكم البريطانى. وقد أزعج ذلك كرومر تماماً. ولكن الواقع أن مخاوفه كانت غير ضرورية. فقد كان عباس يأمل فى المساعدة من إسطنبول حيث كانت مصر لم تزل إسميا جزء من الإمبراطورية العثمانية. ولكن كالعادة فلم يعط السلطان عبد الحميد أكثر من وعود شفوية بالتأييد حيث لم يكن مستعداً أبداً للمخاطرة بعلاقاته ببريطانيا والدول الأوربية الكبرى الأخرى والتى ربما لم تكن تحبذ إحتلال بريطانيا لمصر ولكنها - وبنفس القدر- لم تكن ترغب فى رؤية أى إحياء لحركة الإستقلال المصرى. وكان عباس يأمل أيضاً فى أن تساعده عودة السلطة إلى حكومة جلادستون الليبرالية فى بريطانيا لأن الليبراليين كانوا يعبرون عن فهم أكبر للحركة الوطنية المصرية عنهم من المحافظين. ولكن ولسوء الحظ فإن وزير خارجية جلادستون كان اللورد روزبيرى- وهو ليبرالى إستعمارى - أعطى كل تأييده لكرومر.
وعندما رأى عباس أنه قد يُجبر على التنازل عن العرش ، إستسلم ذليلاً. وإستمرت الحماية المقنعة وكرومر يجذب الخيوط من خلف الستار. وعندما إنتقد عباس كفاءة الجيش المصرى هدد قائده العام - كتشنر الغاضب - بالإستقالة. فمنذ حل الجيش فى سنة 1882م قام الضباط البريطانيون بتدريب قوة جديدة من حوالي خمسة عشر ألف جندي - تتضمن خمس كتائب سوداء من رجال القبائل السودانيين الجنوبيين. وتحملت الخزانة المصرية التكاليف بمساهمة إضافية لنشر قوات الإحتلال البريطانية. كان الهدف الأول للجيش الجديد هو المساعدة فى الدفاع عن حدود مصر. ولكن بحلول عام 1892م كان كل من كرومر والحكومة البريطانية قد أصبحا مقتنعين بأن إعادة غزو السودان كان أمراً حيويا. فقد كانت إيطاليا قد إخترقت أثيوبيا وأصبحت تهدد بالسيطرة على مياه النيل الأعلى - وكما كتب كرومر إلى لندن ( أن أى قوى تسيطر على وادى النيل الأعلى فلابد ولمجرد قوة موقعها الجغرافى أن تستطيع السيطرة على مصر أيضا ً).
وبدأت إعادة الفتح فى عام 1895م- بحذر وبإقتصاد - وتقدم جيش كتشنر مدعوماً بثمانية آلاف جندى بريطانى فى أعالى النيل وفى النهاية تمكن من سحق القوات المهدية خارج عاصمتهم أم درمان. ثم نشأ السؤال الصعب عن الوضع المستقبلى للسودان. فقد تم إعادة الفتح بإدارة بريطانية ولكنه نُفذ بإسم الخديوى وبقوات مصرية أساساً. ومع ذلك فلم يكن هناك مجال لإعادة الوضع السابق على الثورة المهدية. وكما قال سالزبورى ( فقد كان لدى الحكومة البريطانية كل النية فى الإحتفاظ بالصوت الأعلى فى كل المسائل المتعلقة بالسودان ) . وكانت النتيجة هى القرار بتأسيس حكم إنجليزى مصرى مشترك. وقد اُعتبر هذا النظام الذى إستمر بنجاح مناسب لعدة سنوات كأحد روائع الواقعية البريطانيه. كان أحد مميزات هذا النظام أنه منع نظام الإمتيازات الأجنبية من الإمتداد إلى السودان. ولكن المساواة النظرية لبريطانيا ومصر فى حكم السودان لم تكن أكثر من واجهة حيث كانت المستويات العليا من الإدارة فى أيادى بريطانية كما كان الحاكم العام الذى كان يعينه الخديوى بناءً على توصية بريطانية دائماً رجلاً إنجليزياً. لم يكن المصريون قد تنازلوا بعد عن مطلبهم فى حكم السودان وبمجرد أن حصلوا على إستقلالهم من بريطانيا أصبحت تلك هى المسألة الأكثر تعقيداً بين بريطانيا ومصر. وقد إكتسبت الصحوة الوطنية التى أمل الخديوى عباس فى إستثمارها- عبثاً- بعض القوة فى سنوات كرومر ألأخيرة قبل إعتزاله سنة 1907م.
وجدت مصر زعيمها فى شاب نحيل عاطفى إسمه مصطفى كامل - كان قد درس القانون فى القاهرة وفرنسا مثل العديد من الوطنيين المصريين - حيث حصل هناك على دعم لآرائه. كان كرومر ميالاً لتجاهل الوطنيين على أساس أنهم عديمى الجدوى. لقد كان حقيقياً بالفعل أنهم جميعاً كانوا يحملون صفات مثقفى الصالونات شديدى الفصاحة لكنهم كانوا ضعفاء فى إقتراحاتهم العملية التى قد تفى بحاجات المصريين العاديين والذين إنعزلوا عن مشاعرهم. كان هذا الضعف جزئياً بسبب نوع تعليمهم ولكنه نشأ أيضاً لأن الحماية المقنعة قد حرمتهم أى أمل فى المشاركة فى الحكم. وكذلك كان الوطنيون غير واضحى ألهدف.
كان مصطفى كامل يعتقد أن حركة الجامعة الإسلامية هى أفضل سلاح ضد الإحتلال البريطانى. وكان قد حصل على بعض الدعم السرى والتمويل لحزبه الوطنى من السلطان. ولكن عدم منطقيته فى ربط الجامعة الإسلامية بالوطنية المصرية الإقليمية قد إتضح عام 1906م عندما أنزل عبد الحميد - الذى كان يبنى خط سكة حديد عبر الجزيرة العربية إلى المدينة - قواتاً عند رأس خليج العقبة وطالب بكل شبه جزيرة سيناء. أطلق كامل وحزبه حملة واسعة لتأييد السلطان بينما ترك لكرومر أن يدافع عن تبعية سيناء لمصر. لقد كان إهتمامه ينصب فى الواقع على حماية قناة السويس من الأتراك - ولكن كان هو وليس الوطنيون - الذى دافع عن قضية الوحدة الإقليمية المصرية.
سمح كرومر بإزدهار الصحافة الحرة فى مصر. فقد كان يتمتع بمسحة ليبرالية لكنه من حيث المبدأ لم يكن يعتقد أن المقالات الوطنية الملتهبة يمكن أن تمثل أى تهديد لنظامه (كان مصطفى كامل قد أسس صحيفته الخاصة فى1900م). وكانت النتيجة أنه قد أصبح هناك حرية أكبر للكلمة المسموعة والمكتوبة فى مصر أكثر منها فى سائر الولايات العثمانية العربية. وأسس المسيحيون العرب المهاجرون من سوريا صحيفتين رائدتين فى القاهرة. لم تكن الصحافة معادية لبريطانيا كلية ولا كان كل السياسين النشطين المؤيدين لمصطفى كامل وطنيين . فبعضهم كان شديد التعاون مع الإحتلال البريطانى ولايرى أى فائدة فى إنهائه. كما كان هناك معتدلون منحهم كرومر تأييده على أنهم جيروند الحركة الوطنية المصرية (فى ذلك تشبيه بكتلة الجيروند البرلمانية التى دخلت الجمعية التشريعية الفرنسية فى أكتوبر 1791م فى أعقاب الثورة الفرنسية وكانت تمثل إتجاه الوسط فيها بينما مثل اليعاقبة بزعامة روبسبير أقصى اليسار و تمثل اليمين فى الملكيين بزعامة لافاييت وقد سُميت هذه الجماعة بالجيروند نسبة إلى إسم الإقليم الفرنسى الذى جاء منه معظم نوابها و كان برسو وجاديه ورولان من أشهر قياداتها /المترجم). وكان من هؤلاء الشيخ محمد عبده الذى مات سنة 1905م ، وأتباعه الروحيون فى حزب ألأمة. و كانوا قد أبدوا عدم إقتناعهم بتقديرات مصطفى كامل السياسية ، خاصة أثناء حادثة العقبة. وكان سعد زغلول أيضا - وهو محامى شاب - أحد المعتدلين. وقد سمح له كرومر بأن يصبح رئيس إدارة التعليم - المنشأة حديثاً- وعندما غادر مصر أثنى عليه بحرارة بصفته النموذج المثالى للوطنى المعتدل. ولكن سعد زغلول سوف يصبح ممثلاً للتيار الوطنى المتشدد وعدو بريطانيا اللدود. وفى سنة 1906م - وبرغم تأثير مصطفى كامل القوى - فإن حركته كانت تخسر موقعها.
ثم وقع حادث وحد المشاعر الوطنية لجميع المصريين. وبرغم أنه لم يكن ضخماً فى ذاته فقد كان نقطة تحول فى الإحتلال البريطانى. وربما يمكن مقارنة تأثيراته بتأثيرات مذبحة امريتسار سنة 1919م على حركة إستقلال الهند. ففى دنشواى وهى قرية صغيرة من قرى الدلتا هُوجمت مجموعة من الضباط البريطانيين كانت تطلق النار وُضربت بواسطة الفلاحين الغاضبين الذين إعتقدوا أنهم كانوا يقتلون الحمام الذى كان يمثل قوام غذائهم المحلى. وأثناء ذلك مات أحد الضباط - الذى كان قد أسرع لمساعدة زملائه - من جراء إرتجاج فى المخ وضربة شمس. ووجد بعض الجنود البريطانيين أحد الفلاحين الذى كان يحاول مساعدة ذلك الضابط فتصوروا أنه هو الذى قتله فأخذوا فى ضربه حتى الموت. ورأى كرومر وزملاؤه الحادث - تؤيدهم الصحافة البريطانية - كدليل على التعصب ضد الأجانب الذى كان يجتاح الريف ويزكيه بعض الوطنيين. وكان لابد من عقاب تحذيرى. وحكمت محكمة خاصة على أربعة بالإعدام وسبعة عشر آخرين بالسجن والجلد. وتم تنفيذ العقوبات فى موقع الحادث وأُجبر الأهالى على رؤيتها. لم يكن هذا الفعل عملاً إستثنائياً من أعمال القمع الإستعمارى بحيث يمكن إعتبار رد الفعل المذعور للمثقفين المصريين على أنه كان بمثابة ثناء على الإعتدال المادى العام الذى تميز به الإستعمار البريطانى بحيث بدا ذلك الحادث مصدما إلى هذا الحد. ولكن الصدمة والغضب حتى بين هؤلاء الذين كانوا قد قبلوا بالإحتلال البريطانى قد أعطيا قوة دفع دائمة للحركة الوطنية. وعند إعتزال كرومر فى السنة التالية راقبته الجموع المصرية الصامته الغاضبة فى طريقه إلى محطة القاهرة من خلف الحراب المثبتة للقوات البريطانية. ظلت سمعة كرومر جيدة فى بريطانيا كما أن تقريره الذى مدح فيه إنجازاته كان مقبولاً بشكل عام رغم أن بعض المراقبين عن كثب شعروا بأنه كان قد أصبح منعزلاً- بشكل متزايد - يحيط نفسه بالسفهاء مثل أى مستبد.
وفى سنة 1906م وصلت حكومة ليبرالية إصلاحية إلى السلطة فى بريطانيا وأصبح من الواضح أن ذلك هو وقت التغيير. ووقع الإختيار على خلف له فى شخص ايلدون جورست وهو دبلوماسى قديم قضى حوالي عشرين سنة فى مصر وبحكم موقعه كمستشار مالى للحكومة المصرية فقد قاد المفاوضات التى أدت إلى الإتفاق الودى مع فرنسا. ( وقع الإتفاق الودى بين إنجلترا وفرنسا فى أبريل سنة 1904م وهو يعُتبر من أهم أحداث التاريخ الحديث لأوربا حيث أطلق يد كل منهما - القوتين الأعظم فى ذلك الوقت - فى مستعمراته وحدد فترة من الهدنة سبقت قيام الحرب العالمية الأولى وتحالف الدولتين ضد قوة ألمانيا الصاعدة فى أوربا /المترجم).
كان جورست صغير الحجم شديد الطموح متألق أكاديميا لكن شعوره الخارجى بالتفوق كان يخفى نقصاً داخلياً من إنعدام الثقة بالنفس. فلم يكن لديه هيبة كرومر لكنه - على العكس منه - كان يتكلم العربية بطلاقة. ولم يكن يحظى بحب كبير بين الموظفين الإنجليز الآخرين فى مصر. إبتهج جورست بتعيينه وكتب بأنه ( لايوجد مكان فى كل أنحاء الإمبراطورية البريطانية يمكن أن يتمتع فيه المستعمر بحرية أكبر فى التصرف أكثر من المندوب والقنصل العام البريطانى فى مصر). فالقنصل العام كان الحاكم الفعلى للبلاد لايعيقه برلمان أو شبكة من المجالس مثل نائب الملك فى الهند. وحيث أنه جاء فى أعقاب خروج كرومر فقد كان يشعر بأنه لابد من احداث تغيير فى الإتجاه. فقال ( أريد أن أجعل حكمنا أكثر تعاطفاً مع المصريين بشكل عام وللمحمديين بشكل خاص وذلك بمنع العنصر البريطانى من معاملة المصريين بدون احترام وبالسيطرة على الغزو السنوى للموظفين البريطانيين الجدد بإعطاء تشجيع كبير لطبقة الموظفين المصرية وأخيراً - ولكن ليس آخراً - بإعطاء صفة أكثر وطنية للنظام التعليمى). لم يكن جورست يحاول إنهاء الإحتلال ولكنه كان يحاول جعله مقبولاً. وبتحقيق ذلك كان يمكن له القضاء على الغليان الوطنى. وبرغم حنق زملائه فقد بدأ فى تقليص سلطاتهم لصالح المديرين المصريين ( ضباط الأقاليم ) كما حاول أن ينفخ الحياة فى المجالس المحلية المحتضرة كى يكون أعضاؤها بمثابة مستشارين للمديرين. ولكن إستراتيجية جورست الأساسية كانت هى إعادة سلطة الخديوى الذى أذله كرومر. وقد سمح تقاربه مع عباس للخديوى بأن يغير الوزراء من محاسيب كرومر بآخرين أقرب إليه. ولكن الخديوى لم يكن ديموقراطياً وقد كان يشارك جورست هدفه بتقليص نفوذ الوطنيين الذين تحدوا سلطته. ولكن مع ذلك- وكما كان يحدث فى الغالب - فإن درجة الحرية البسيطة قد أعطت مطالب الوطنيين زخماً وإزداد الغليان الوطنى وإنهالت الصحف بسيل من الإهانات على الوزراء المصريين وعلى المحتلين الإنجليز على السواء. ووجد جورست نفسه يسترد قوانين قمع الصحف التى صدرت سنة 1881م والتى لم يجد كرومر إستخدامها ضرورياً لانه كان يحتقر الصحافة المحلية ويعتبرها مجرد مخرجاً مفيدا تنفس فيه مصر الشابة عن نفسها. وفى الريف كان هناك موجة جديدة من الجريمة المنذرة بالخطر والتى كانت تعكس ولو جزئياً روح التمرد فى ألأمة.
أدخل جورست قانوناً للإبعاد يسمح بسجن المشتبه فيهم من قطاع الطرق بدون محاكمة فى قانون عقوبات جديد فى الواحة الخارجة. وفى تشابه مع كثير من المتميزين أكاديمياً كان جورست يفتقد إلى الخيال السياسى. كان خطأه التالى أنه حاول فى سنة 1910م تمديد إمتياز شركة قناة السويس الأصلى الذى كانت مدته 99 عاما يفترض أن تنتهى فى سنة 1968م وذلك لمدة أربعين سنة أخرى مقابل حصة من الأرباح. وأقنع المجلس التشريعى الصورى بقبول عرض الشركة ولكن حتى تجمع الكهول المحافظين هذا لم يكن قادراً على قبول شيئاً مثيراً للرأى العام المصرى كهذا. كانت شركة القناة تعتبر فعلاً دولة أجنبية داخل الدولة. وتجرأ عضو واحد من المجلس التشريعى على التصويت فى جانب قبول العرض. وإضطر جورست أن يصرف نظر عن الموضوع. وبعد يومين من ذلك التاريخ اُغتيل بطرس غالى- الوجيه القبطى الذى إختاره الخديوى كرئيس وزراء - على يد وطنى مصرى. كان بطرس غالى يعتبر- ظلماً - كعميل بريطانى لأنه - وكوزير للعدل - كان قد ترأس محكمة دنشواى. وعندما رفض جورست إرجاء حكم الإعدام فى قاتله أصبح الأخير بطلاً فى شوارع القاهرة. وبدا أن سياسات جورست كلها قد فشلت. كان هناك غضب شديد فى بريطانيا وإستغل آرثر بلفور - رئيس المعارضة المحافظة فى مجلس العموم - تلك المناسبة لإلقاء خطبة فلسفية عن عدم ملائمة نظام الحكم الذاتى - بشكل عام - للشرقيين. وأخبر الرئيس الأمريكى السابق تيودور روزفلت الذى كان يمر بمصر خلال عودته من رحلة صيد فى إفريقيا - البريطانيين - بأن عليهم أن يحكموا أو يرحلوا. ورغم أنه كان يفتقد إلى الحاسة السياسية فإن حسن النية جورست كان أيضاً غير سعيد الحظ وكان يواجه معارضة معيقة من معظم زملائه البريطانيين. وقد صاحب بداية فترة توليه منصبه إنهيار مالى وركود حاد. ومع ذلك فربما كان يمكن له إصلاح الموقف إذا ما كان إستطاع تسخير كل طاقته وإهتمامه ولكنه كان يواجه موتاً موجعاً من سرطان العمود الفقرى. وفى سنة 1911م كان عليه أن يرحل. وكان كتشنر بطل موقعة أم درمان هو خلفه المتوقع. وعندما بددت حكومة الليبراليين طموحه بأن يصبح نائب الملك فى الهند - حيث كان يعمل كقائد عام للقوات البريطانية- فقد كان سعيداً بقبول منصب المندوب البريطانى فى مصر والذى كان يعتبره على نفس القدر من الأهمية. وسرعان ماأخذ يستمتع بتصورات عن ضم مصر إلى بريطانيا وبنفسه كأول نائب للملك فى مصر والسودان.
كان كتشنر يشارك سيسل رودس حلمه بإفريقيا حمراء على الخريطة من القاهرة إلى الكاب. وحذرت الحكومة البريطانية بأنه فى الوقت الذى يجب أن يسترد فيه النظام فلا يجب أن يكون هناك أدنى تبديل للحكم المدنى بحكم عسكرى. كان أسلوب كتشنر أقرب إلى أسلوب كرومر منه إلى أسلوب جورست. فمرة أخرى قلص دور الخديوى ، عدوه القديم. ورد سلطة المستشارين البريطانيين وزاد فى أعدادهم. كانت هيبة كتشنر شبه الملكية أعظم حتى من هيبة كرومر الذى كان قد عبر عن مخاوفه من معتزله من أسلوب كتشنر. كان قناع الحماية قد اُزيل فى الواقع. وبسلسلة من الإجراءات القمعية نجح كتشنر فى تفريق الوطنيين الذين لم تكن معنوياتهم قد تعافت بعد من صدمة موت مصطفى كامل المبكر فى سنة 1908م. لكنه لم يعتمد على القمع فقط. فقد أظهر مثل كرومر تعاطفاً مع الفلاحين ولكنه إتخذ خطوات أكثر عملية لمساعدتهم محاولاً أن يقترب من مشاكلهم فى سلسلة من زيارات شبه ملكية إلى الريف. وقد أمر بالإنشاء الذى تأخر لأول وزارة زراعة مصرية. وحاول أن يعالج مشكلة طفح مياه الفيضان الحادة فى الدلتا بوسائل الصرف ومشكلة ديون الفلاحين بقانون جديد يجعل من غير الممكن أن تسترد أى أموال بواسطة المحاكم - يكون أى فلاح ممن يملك أقل من خمسة فدادين قد إقترضها. وكان هذا يعنى حوالي تسعين بالمائة من الفلاحين. أما الفوائد الإقتصادية لهذا الإجراء فقد كانت محل شك لأنها قوضت البنك الزراعى الجديد الذى كان قد أنشئ ليحرر الفلاحين من قبضة مستغليهم. ولكنه على الأقل قد رفع من معنويات الفلاحين مؤقتاً والذين أظهروا بدورهم رضى مناسباً عن سياسات كتشنر. وبعد أن أمن الريف - وهو الشئ الهام فى مصر تبعاً لرؤية كل من كتشنر وكرومر- شعر بأنه يمكن أن يتجاهل طبقة المثقفين الحضرية التى كان يحتقرها حتى أنه شعر فى سنة 1913م بالثقة الكافية التى تسمح له بإجراء بعض التغييرات الدستورية كى يرضى كل من الحكومة الليبرالية فى أرض الوطن والوطنيين المعتدلين فى مصر. ومنح مجلس تشريعى جديد شبه منتخب بعض الصلاحيات فى فرض الضرائب وحق إستجواب الوزراء. وكان ذلك تقليداً مضحكاً لانه لم يكن لدى كتشنر أى إعتقاد أكثر مما كان لدى كرومر أو بلفور فى قيمة المؤسسات النيابية بالنسبة للشرقيين لكنه كان يشعر أن ذلك قد يكون مهدىءً مفيداً وأن هؤلاء الذين كان يسميهم بالمتطرفين المزعجين ، قد يصبحوا معزولين. ولكنه كان مخطئاً فقد أنتخب سعد زغلول - الذى كان نجمه آخذا فى الصعود كوطنى عنيد - كأول نائب رئيس للجمعية الوطنية.
وأظهر سعد زغلول أنه برلمانى ماهر وقام المجلس التشريعى – بقيادته- بنقد وفضح وزراء الحكومة لدرجة جعلتهم يشعرون بالسعادة لإنتهاء الدورة البرلمانية. وجعل نشوب الحرب العالمية الأولى وقبل أن تبدأ الدورة الثانية للبرلمان التجربة الأولى فى الحكومة الدستورية تصل إلى نهايتها. شعر كتشنر بالثقة لإعادته النظام إلى مصر ولكن التجربة التالية أظهرت أنه كان محظوظاً فقط وأن حظه ماكان ليدوم. فإذا لم تكن الحرب - التى أعطت بريطانيا الحجة للإنقضاض على النشاط السياسى- فما كان من الممكن إحتواء الغليان الوطنى الجديد بسهولة. وعندما جعلت الحرب العالمية الأولى بريطانيا وفرنسا وروسيا فى نزاع مع ألمانيا ودولة النمسا والمجر فقد أملت بريطانيا بأن تظل تركيا على الحياد وأن تُحفظ مصر بعيدة عن الحرب. كان هم بريطانيا الإستراتيجى الوحيد هو تأمين قناة السويس. وعندما قررت تركيا أن تنضم إلى القوى المركزية - ألمانيا ودولة النمساوالمجر فى نوفمبر عام1914م - أصبح وضع مصر يمثل مشكلة لأنها كانت ماتزال إسمياً جزءً من الإمبراطورية العثمانية. كان هناك أصوات قوية فى مجلس الوزراء - الذى أصبح كتشنر وزيراً للحرب فيه - فى صالح ضم مصر وإلغاء ملكية محمد على. ولكن الموظفين البريطانيين الباقين فى مصر إعترضوا على فكرة الحكم المباشر.ولأن ألمانيا كانت تتهم بالضرب عرض الحائط بالمعاهدات الدولية فقد إعترضت وزارة الخارجية على خرق التعهدات التى لاحصر لها بشأن عدم ضم مصر. وكانت التسوية البريطانية النموذجية هى أن تعلن مصر محمية فى ديسمبر 1914م وأن يزاح ببساطة وهم السيادة العثمانية. كان الخديوى عباس المؤيد للعثمانيين يستمتع بجولة أوربية حيث تم إشعاره بأنه قد تنازل عن العرش - أو عُزل فى الواقع. ووجد البديل فى عمه اللطيف والأكبر سناً حسين كامل. ولكن ظل هناك بعض المشاكل فلم يكن من الممكن منح حسين كامل نفس لقب سيده الجديد جورج الرابع ملك إنجلترا. ومن ثم فقد تم التوصل إلى تسوية من خلال لقب سلطان على أن يخاطب بصاحب العظمة بدلاً من صاحب الجلالة.
مات السلطان الجديد فى سنة 1917م وخلفه أخوه ألأصغر الأمير أحمد فؤاد. لكن فؤاد لم يكن مرضياً - مع ذلك - وبرغم أنه لم يكن يكره الإنجليز فقد كان قد تعلم فى إيطاليا حيث عاش مع أبيه المنفى - الخديوى إسماعيل- وكان يتكلم قليلاً من العربية لكنه لم يحاول أبداً إخفاء عدم إهتمامه بمصر وبمشاكلها. كذلك ظل سؤال إذا ماكانت مصر قد أصبحت جزءً من الإمبراطورية البريطانية والمصريين رعايا بريطانيين بدون إجابة.
وإعتبر كرومر فى معتزله أن مصر قد أصبحت- آنذاك - جزءً من الإمبراطورية ولكن الواقع أن المسألة كانت قد تُركت معلقة وفقط صحب قرار إعلان الحماية عبارة ( أن كل الرعايا المصريين سوف يكون من حقهم أن يحظوا بحماية حكومة جلالته ). ظلت مصر محايدة إسمياً تتحمل بريطانيا مسئولية الدفاع عنها ولكن كان يتوقع أن يساهم المصريون بدورهم فى المجهود الحربى. وبالفعل ساعدت القوات المصرية فى الدفاع عن قناة السويس ضد هجوم الأتراك الأول والوحيد كما خدم أكثر من عشرين ألفا فى مواصلات الجمل ووحدات العمال فى فلسطين وفرنسا وعانوا خسائر فادحة. أما الضرر من جراء الفشل فى ضم مصر فكان عدم قدرة بريطانيا على إلغاء الإمتيازات الأجنبية والإلتزامات الدولية الأخرى . ومن ناحية أخرى ، فإن حقيقة أن بريطانيا لم تستعمر مصر أبداً كما إستعمرت فرنسا الجزائر كان يعنى أن الإستقلال المصرى النهائى المقبل لن يشترى بثمن من حرب دامية طويلة. ظل البريطانيون غير واضحين فى تصورهم للأمة المصرية ، كما كان كثيراً من المصريين أنفسهم برغم إختلاف ألأسباب. وصف كرومر مصر بأنه بلد يصعب وصفه لأن المصرى الحقيقى كان يتعذر تعريفه ومن ثم كانت سياسة مصر للمصريين مجرد عبث . فإذا ماإستطاعت مصر فى أى وقت أن تحقق لنفسها كياناً من الحكم الذاتى فإن كل الجماعات يجب أن تمثل وحيث أن الأوربيين وأهل الليفانت من الإيطاليين والإغريق والملطيين وغيرهم من الذين أسماهم كرومر بطبقة البراهما المصرية قد ساهموا بأكبر قدر فى ثروة البلد فإنهم يجب أن يمثلوا على قدر قيمتهم و بصرف النظر عن أعدادهم. وتم تقنيين هذه الافكار أثناء الحرب على يد المستشار القضائى البريطانى فى دستور مقترح كان من شأنه أن يعطى المستشارين البريطانيين والجماعات الأجنبية سيطرة دائمة على كل التشريع. ولكن فى ذلك الوقت لم تكن مثل تلك ألافكار أفكاراً بليدة فقط ولكنها كانت غير واقعية تماماً. فقد بُعثت روح القومية المصرية متجددة بقوة عندما إنتهت الحرب - رغم أنها كانت قد أُكرهت على الإختباء تحت الأرض أثناء الحرب - وأصبح وجود أمة مصرية شيئاً لايمكن إنكاره.


















الفصل السادس

أتراك وعرب























6. أتراك وعرب

جعل إستقلال اليونان الذى أعقب الإنسحاب التركى الإضطرارى من معظم البلقان أثناء القرن التاسع عشر مركز الجذب فى الإمبراطورية العثمنانية ينتقل بشكل قاطع إلى الشرق. ولأن السلطان الخليفة لم يعد يحكم ملايين من المسيحيين الأوربيين فلم يعد يمثل تهديداً أو تحدياً للقوى الأوربية ولكن كان يمكن له التطلع إلى القيادة فى آسيا. وإزدادت عملية التحول إلى آسيا بخسارة السيطرة على شمال إفريقيا والتى كانت قد حققت فعلاً قدراً كبيراً من الإستقلال قبل ذلك الوقت. كانت الجزائر وتونس قد ذهبتا إلى الفرنسيين فى سنة 1830م وسنة 1881م أما الجائزة المصرية العظيمة والتى كان جامعها الأزهر يعضد سلطة الخليفة الروحية فقد كانت قد فُقدت لبريطانيا بلاضرورة تقريباً فى سنة 1882م.
وبالنسبة لطرابلس آخر موطئ قدم عثمانى على ساحل شمال إفريقيا فقد كان الإيطاليون قد إستولوا عليها سنة 1912م بعد أن أمن اللورد كتشنر فى القاهرة حياد مصر فى الحرب التركية الإيطالية. ومع ذلك ، فقد كان السلطان عبد الحميد مازال يسيطر على قلب الأراضى العربية والمراكز العظيمة الأولى للحضارة العربية الإسلامية من مكة والمدينة إلى بغداد وأورشليم ودمشق وحلب. كما كانت تركيا تسيطر على معظم المناطق الداخلية فى الجزيرة العربية ، برغم أن البريطانيين كانوا قد أسسوا مستعمرة فى عدن وسيطروا على مياه الخليج الفارسى وشرعوا فى ترتيب إتفاقيات تعاهدية خاصة مع مشيخات الساحل. ومن المثير للسخرية أن إفتتاح قناة السويس قد جعل من السهل إرسال قوات لإعادة تأسيس السيطرة العثمانية على اليمن. وقد تنوعت سيطرة العثمانيين في الشكل وفى الكثافة على هذا الإقليم الواسع بسهوله وسلاسله الجبلية وأنظمته النهرية. وفى كثير من المناطق كان قد ُسمح للممالك المحلية الوراثية- التى قويت بنأيها الجغرافى فى الجبال والأودية- بقدر كبير من الإستقلال مقابل توفير قوات مناسبة لحفظ ألأمن فى المناطق الريفية المحيطة وجمع الضرائب. وفى بعض الحالات- مثل شمال العراق - كان يُحتاج إلى هذه الممالك الوراثية لحماية حدود الإمبراطورية ضد الإمبراطورية الفارسية المنافسة. وفى بعض الجهات ألأخرى - مثل جبل لبنان حيث كانت تلك العصبيات من سكان البلاد الأصليين وليسوا طبقة عسكرية مملوكية- فقد كان هؤلاء أكثر العصبيات الحاكمة كفاءة لأنهم كانوا يتمتعون بولاء شعوبهم.
ولكن كان هناك أيضاً مساحات واسعة من السهوب والصحارى تسيطر عليها مجموعات قوية من القبائل الرحل مثل شمر أو بنى صقر والذى لم يكن من الممكن منعهم من نهب طرق الحج والتجارة التقليدية. كانت الحياة فى المدن الكبرى مستقرة وآمنه بشكل معقول ولكنها كانت تتغير فى الريف بدرجة كبيرة ودائمة تبعاً لكفاءة وقدرة الحكام المحليين. لقد كان داخل ذلك النظام المتنوع أن حدثت محاولة من سنة 1820م فصاعداً لإدخال الإصلاحات التى عُرفت بإسم التنظيمات من أجل مركزة وتنظيم إدارة الدولة. كان الهدف الكلى هو تحديث وتقوية الإمبراطورية فى وجه التهديد الأوربى. وحيث ان تلك الإصلاحات كانت قد اُسست على تصور مثالى أكثر منه عقلانى فقد كان من المحتم أن تكون نتائجها غير هامة وكثيراً ماتعرضت للتغيير على مدى خمسين سنة كما أنها كانت تتوقف أحياناً. وحيث أنها أيضاً كانت تطرح أفكاراً علمانية حديثة مثل المواطنة والمساواة العالمية أمام القانون فقد كانت تواجه بمعارضة السلطات الدينية القوية كما أنها قد قوضت العلاقات الدقيقة التى صمدت أمام إختبار الزمن بين الأقليات المتعددة التى شكلت الإمبراطورية الآسيوية. وبالإضافة إلى ذلك ، فقد كان هذا التوقف يسمح أيضاً للقوى الأوربية التى كانت آخذة فى زيادة نفوذها الإقتصادى فى أرجاء الليفانت والعراق فى القرن التاسع عشر بأن تمد نفوذها السياسى أيضاً. ومن ثم فقد كان هناك عمليتان تجريان مقدراً لهما أن تتصادما فى النهاية وهى المركزة العثمانية والإختراق الأوربى. وقدم جبل لبنان بأكثريته المسيحية المارونية الكبيرة المسرح الأكثر ملائمة للتدخل الأوربى. فقد كان الحكام المحليون- الأمراء الشهابيون- قد تحولوا من الإسلام السنى ليصبحوا مارونيين فى نهاية القرن الثامن عشر. وقد ضرب الأمير بشير الثانى المشهور طبقة الفلاحين الموارنة بطبقة الفلاحين الدروز وتحالف مع المصريين خلال فترة حكم إبراهيم باشا (1831 -1840م ). وعندما اُُسترد الحكم العثمانى ُاُزيح الأمراء الشهابيون. وفى مواجهة الصراع المارونى الدرزى المفتوح قسم العثمانيون جبل لبنان بتشجيع من القوى الأوربية إلى وحدتين إداريتين ، واحدة للموارنة وواحدة للدروز. وحصلت لبنان بذلك على أول حكومة طائفية. ولكن هذا لم يفد لسبب واحد هو أن الموارنة كانوا يشكلون أغلبية قائمقامية الدروز بالإضافة إلى أن الإقليم كله كان فى حالة من التمزق حيث كان الإقتصاد التقليدى يتفكك بسبب غزو المنتجات الأوربية الذى بدأ أثناء فترة إبراهيم.
وإزداد التوتر وعدم الإستقرار حتى نشبت الحرب الأهلية فى سنة 1860م. فقد رغب ملاك الأراضى الدروز فى جبل لبنان التضييق على المستأجرين الموارنة - الذين كانوا يزدادون فى العدد والثروة - فهاجموهم وذبحوا آلاف منهم. وأشعل ذلك موجة من إضطهادات المسيحيين فى أجزاء أخرى من سوريا. وقامت فرنسا التى كانت - وبدرجات متفاوتة من تشجيع السلطان العثمانى تعتبر نفسها حامية لإخوانها الموارنة الكاثوليك - بإنزال قوات فى بيروت وغزت معقل الدروز القوى فى الشوف. ونتيجة لذلك عقدت الدول الأوربية التى وقعت معاهدة باريس فى أعقاب حرب القرم بالإضافة إلى الإمبراطورية العثمانية - مؤتمراً فى بيروت للتدبر فى كيفية حكم لبنان. وكانت النتيجة هى خلق سنجاق أو ولاية جبل لبنان برئاسة والى مسيحى يختاره السلطان من خارج لبنان ويساعده مجلس ذو أغلبية مارونية يختار على أساس طائفى على أن يكون ذلك النظام تحت حماية القوى الست ، بريطانيا وفرنسا وروسيا وبروسيا والنمسا وإيطاليا. كان لبنان المستقل ذاتياً يشغل جزءً فقط من مساحة الجمهورية اللبنانية الحالية ، فلم يكن يشمل بيروت ولاصور ولاصيدا على الساحل ولا وادى البقاع فى الشرق وكان الموارنة يسكنونه بكثافة بلغت حوالى تسعين بالمائة من سكانه. ورغم أنه إزدهر لمدة نصف قرن تالية فقد كان إنشاؤه هو الخطوة الأولى نحو تقويض النظام الملى ، أى الشبكة القديمة من الجماعات التى من خلالها كانت الأقليات الدينية تشارك فى إدارة الإمبراطورية. كانت فرنسا هى الحامى الرئيسى للروم الكاثوليك فى الليفانت العربى ( الساحل اللبنانى ) وكانت روسيا هى راعى المسيحيين الأرثوزكس. وتُركت بريطانيا كحامية للدروز ولجماعة اليهود الصغيرة الذين كانوا يشكلون حوالى أربعة بالمائة من سكان فلسطين. أما الأرمن التعساء - الذين كانوا يعيشون فى قلب الإمبراطورية - فقد إفتقدوا إلى أى حامى خارجى فاعل. لم يكن هناك أى مسيحى بروتستنتى فى الإمبراطورية ولكن البعثات التبشيرية البروتستنتينية الأمريكية قد لعبت دوراً حاسماً فى إدخال النفوذ الثقافى الغربى لتلك المنطقة. وقد ساعد تأسيس الكلية البروتستنتينية السورية سنة 1866م والتى أصبحت الجامعة الأمريكية فى بيروت - فيما بعد - على دفع الفرنسيين الكاثوليك المتوجسين من النفوذ البروتستنتى إلى تأسيس جامعة سانت جوزيف فى سنة 1874م. وقد قدر لهاتين المؤسستين أن تلعبا دوراً قيادياً فى النهضة الثقافية فى الإقليم. وفى فلسطين وهى الإقليم الذى كان الغرب المسسيحى يعرفة بإسم الأراضى المقدسة - والذى أُعطى حدوداً واضحة بعد ذلك فى القرن العشرين - كانت المنافسة الأوربية شديدة - كما يتوقع - ولكن تأثيرات تلك المنافسة كانت تميل إلى تحييد بعضها البعض.
كان المسيحيون العرب أقلية - رغم أنها أقلية هامة - وكانت العلاقات الطائفية بين المسلمين والمسيحين واليهود متوافقة بشكل عام. ومنذ إنتهاء الحكم المصرى فى سوريا سنة 1840م أصبح العثمانيون قادرين على متابعة إصلاحاتهم المركزية الخاصة بالتنظيمات. وكان هذا يعنى إعادة فرض السيطرة العسكرية التركية وتقليص نفوذ السادة الإقطاعيين المحليين الذين كانوا قد أصبحوا مستقلين فى الواقع ، يفرضون ضرائبهم الخاصة ويتقاتلون فيما بينهم. كان تأثير الإصلاحات مفيداً بشكل عام. فقد إستتب الأمن وإزداد عدد السكان وإزدهر الإقتصاد بحيث أصبح إسم يافا إسماً مألوفاً فى أوربا من خلال صادرات البرتقال من المزارع الكبيرة حولها. وبرغم أن القوة المباشرة للعائلات الإقطاعية قد قُلصت فقد ُسمح للكثير منهم بالإحتفاظ بقدر كبير من النفوذ. ومع التقدم والتوسع الإقتصادى إزدادت أهمية المدن وسيطر ممثلو هذه العائلات على مجالسها ، مثل أسرة النمر وتوقان والخالدى والحسينى. وبرغم السياسات المركزية لإسطنبول فقد إحتفظ الأعيان بقدر كبير من الحرية فى إدارة شئونهم. وجُعلت أورشليم بسبب أهميتها الكبيرة سنجاقاً مستقلاً فى سنة 1874م . وكان من نتيجة ذلك أن أصبح حاكم أورشليم مسئولاً مباشرة أمام السلطان فى إسطنبول. ولم يكن فى فلسطين فقط أن ساعد إستتباب الأمن على إزدهار الإقتصاد وزيادة السكان. ففى السهول الواسعة فى غرب وشمال سوريا سجل رحالة أخريات القرن التاسع عشر الأوربيين رؤية أعداداً لامحدودة من حقول الحنطة الذهبية ، كانت قبل عدد قليل فقط من السنين ، قفاراً قاحلة. ومع ذلك فلم يخلو هذا التقدم من إنتكاسات. فحتى أراضى الهلال الخصيب القديم كانت تعتمد على قدر غير مضمون من الأمطار وشهد عام 1870م سلسلة من الحصاد الكارثى. وأثر الإفلاس العثمانى فى قدرة الطبقات الأكثر ثراءاً على الإستثمار. وفى النهاية جند كثير من الشباب السورى - قوى البنية- قهرا فى الجيوش العثمانية خلال الحروب الروسية والبلقانية. ومع ذلك ، فبحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر كان الموقف قد تحسن وإتجهت الإمبراطورية العثمانية من البلقان إلى الشرق. وطور إدخال السكك الحديدية من الإتصالات بشكل كبير. وإزدادت صادرات الحرير والفواكه والصوف من الموانئ السورية - بثبات - عند نهاية القرن.
وظلت ميزوبوتاميا- أو العراق - هى الأكثر تخلفاً والأسوء حكماً فى كل الولايات الناطقة بالعربية فى الإمبراطورية العثمانية. وقد تُركت مواردها الواسعة غير مستغلة. وبعد سنة 1830م عندما اُعيد فرض الحكم المباشر من إسطنبول بموجب إصلاحات التنظيمات لم يستطع الولاة العثمانيون تحقيق تقدم يذكر فى السيطرة على القبائل المتمردة ورؤساء الجبال الأكراد لتأمين الريف وتحسين المواصلات. وقد تحقق معظم ذلك على يد الوالى المستنير- مدحت باشا - الذى وصل إلى هناك سنة 1869م. فرض مدحت باشا التجنيد الإجبارى وأسس الهيئات البلدية والمدارس والمستشفيات كما حاول تنظيف ممر شط العرب المائى ، المخرج المشترك لنهرى دجلة والفرات على الخليج وفتحهما للملاحة البخارية المنتظمة. ولكن كان هناك حدود لما كان يمكن أن يفعله فى خلال مدة ولايته التى بلغت ثلاث سنوات فقط. أما بغداد التى كانت يوماً مجد العصر الذهبى للإسلام فقد ظلت مدينة قذرة فقيرة بالمقارنة مع القاهرة أو حلب أو دمشق والتى إحتفظت بالكثير من عظمتها السابقة. ومع ذلك وبالرغم من فقر العراق وتخلفه فقد كانت الدول الأوربية مدركة تماماً لأهميته الكامنة وبصفة خاصة بريطانيا التى كانت تسيطر بالفعل على مياه الخليج الفارسى فقد كانت تراه كبوابة إلى الهند وساعدت على تأسيس خدمات التلغراف والبريد رابطة بغداد بإسطنبول والخليج والهند. وتدريجياً أخذت تعتبر وسط وجنوب العراق مجالاً للنفوذ البريطانى. ولكن الدول ألأخرى كانت تسبر غور الإقليم أيضاً. كان لفرنسا مصالح فى الموصل فى شمال العراق وكانت روسيا تتطلع إلى المياه الدافئة للخليج الفارسى وبحلول نهاية القرن ظهرت ألمانيا الإمبراطورية - الحليف الجديد للسلطان - على المسرح. كانت بريطانيا تسيطر بالفعل على مياه الخليج وفى سنة 1861م أسست قاعدة أرضية عندما وقعت معاهدة مع حاكم البحرين لحماية جزيرته من المطالب الخارجية من فارس وتركيا مقابل السيادة الإسمية البريطانية وإقصاء كل الدول الأخرى .
ولكن منذ القرن التاسع عشر بدأ العثمانيون يستوعبون داخل الإمبراطورية ونظامها الإدارى المحدث ، كـل الإمارات العربية المستقلة فى نجد ( وسط الجزيرة العربية ) وساحل الخليج. كانت السيادة العثمانية قد إنهارت فى ذلك الإقليم منذ إنسحاب الأسطول التركى فى القرن السابع عشر. وفى سنة 1819م غزت قوات محمد على المصرية الدولة السعودية الوهابية فى نجد بالنيابة عن السلطان ومدت السلطة التركية المصرية إلى إقليم الحسا الساحلى. لكن القوات المصرية ظلت هناك حتى سنة 1840م فقط عندما قُلص طموح محمد على شبه الإمبراطورى وتم إحياء الدولة السعودية من مركزها الجديد فى الرياض. وفى سنة 1851م ظهرت فرصة جديدة للأتراك العثمانيين عندما إنتهى الحكم الطويل السلمى للأمير السعودى فيصل بن تركى ونشب صراع عنيف على وراثة العرش بين ولديه. قبل مدحت باشا عرض التبعية من أحدهما مقابل التأييد العثمانى وفى سنة 1871م اُُرسلت قوة تركية بالبحر لتأسيس حاميات على ساحل الخليج. ومع ذلك فقد كانت النتيجة الأساسية لذلك هى إثارة مخاوف الحكومة البريطانية بدرجة كبيرة. لم تكن بريطانيا قد تدخلت حتى هذه المرحلة فى الشئون الداخلية للمشيخات العربية لكنها كانت قد أصبحت تعتبر الخليج بحيرة بريطانية ومن ثم فقد كان ظهور الأسطول التركى فى أى شكل من الأشكال يمثل سبباً للقلق. وساور الشك حكومة الهند البريطانية - والتى كانت معنية بالأمر بصفة خاصة - فيما إذا كان ذلك قد يحفز الرؤساء العرب المحليين أو الفرس للحصول على قدراتهم البحرية الخاصة لتحدى التفوق البريطانى. ولكن الواقع أنه لم يكن هناك حاجة لذلك القلق. فقد حصر الأتراك إهتمامهم بالبر بينما قوت بريطانيا من معاهداتها مع حاكم البحرين لتدارك طموح الأتراك والفرس. أما إمارة الكويت بمينائها الطبيعى الكبير عند الموقع الإستراتيجى لرأس الخليج فقد كانت سبباً للقلق. فمنذ تأسيسها على يد أسرة الصباح التى أتت من نجد فى منتصف القرن التاسع عشر فقد نمت وإزدهرت كمركز تجارى ومركز لتجارة اللؤلؤ تحت مجموعة من الحكام الأكفاء وأصبحت مركزاً قوياً للإهتمام البريطانى. ومع ذلك فقد نجح الصباح فى أن يظل مستقلاً بشكل فعلى مقابل إعتراف إسمى بالسيادة العثمانية. وفى سنة 1899م فقط قبلت بريطانيا طلب أمير الكويت مبارك الكبير 1895-1916م للحماية البريطانية الرسمية ولم يكن ذلك بقصد إقصاء الأتراك ولكن لتدارك المخطط الألمانى بمد خط حديد برلين _ إسطنبول _ بغداد إلى الكويت. وبموجب المعاهدة الإنجليزية الكويتية قبل مبارك - فى بنود مشابهة لإتفاقيات أخرى عُقدت مع حكام خليجين عرب - بأن لايتنازل أو يبيع أو يؤجر عقاراً أو يعطى بهدف الإحتلال أو أى هدف آخر أى جزء من إقليمه لحكومة أو رعايا أى دولة أخرى . كانت منطقة الحجاز هى أغلى الولايات الناطقة بالعربية فى الإمبراطورية العثمانية. وقد كانت الأقل تطوراً من الناحية الإقتصادية ولكنها كانت تحتوى على مدن الإسلام المقدسة ، مكة والمدينة.
وهنا تم الحفاظ على السيطرة التركية بعد طرد الوهابيين بين الأعوام 1811و1819م ولكنها لم تكن سيطرة آمنة حتى بعد أن جعل إفتتاح قناة السويس إرسال قوات من إسطنبول أمراً أكثر سهولة. شارك الولاة العثمانيون السلطة مع كبار أشراف مكة المبجلين والذين كانوا ينحدرون تبعاً لتقليد قديم من بنى هاشم ، أنبل العشائر العربية والذين يرجع نسبهم إلى ابنة النبى. كان الحفاظ على النظام العام أمراً بالغ الصعوبة فكثيراً ماقُتل القناصل الأجانب كما كان لدى الحجاج المسلمين التعساء قليلاً من وسائل الدفاع ضد قطاع الطرق. وكما رأينا فقد صمم السلطان عبد الحميد - بعد خسارة معظم رعاياه المسيحيين فى البلقان والجزء الأفضل من إمبراطوريته فى شمال إفريقيا - على تأكيد زعامته على ماكان مازال يعتبر أكبر قوة إسلامية فى العالم. كان السلطان مستعداً للإستفادة من إصلاحات التنظيمات حيثما كان ذلك يخدم أهدافه فى تحسين إدارة الولايات البعيدة ولكن التصورات داخل هذه الإصلاحات عن حقوق المواطنين والمساواة أمام القانون كانت مثيرة لإشمئزازه أكثر حتى مما كانت بالنسبة لأجداده. لقد كان يهدف إلى حكومة أوتوقراطية غير مقيدة لكنه كان يتابع أهدافه بالدبلوماسية الماهرة والخديعة والمناورة بدلاً من القوة الغاشمة. كان الخلفاء العثمانيون فى القرن الثامن عشر قد أحيوا لقب الخلافة ورغم أن ذلك اللقب قد أصبح يحتوى فقط على قليل من معناه الأصلى- أى خليفة النبى والمرشد الروحى والسياسى والقائد لكل المسلمين- فإن العالم قد إعترف به كشكل من التأدب الدبلوماسى فقط. وشرع عبد الحميد فى تأكيد نفسه كسلطان وخليفة وقائداً للعالم الإسلامى السنى كما شرع فى نشر فكرة الجامعة الإسلامية. لقد كان من شأن ذلك أن يخدم الهدف المزدوج بتقوية مركزه داخل ماتبقى من إمبراطوريته من جهة وحشد مواردها البشرية فى مواجهة الإختراق المتزايد من الغرب المسيحى من جهة أخرى . وبعكس كثير من أسلافه كان عبد الحميد متديناً رصيناً بطبيعته وكان يؤكد على هذه المظاهر فى بلاطه . وقد أنفق بسخاء على المساجد والمؤسسات الإسلامية فى جميع أنحاء الإمبراطورية كما أحاط نفسه بأكثر العلماء المسلمين ثقافة وأنشأ مدرسة تبشيرية لنشر أخبار عقيدة إسطنبول المجددة وتقواها فى جميع أنحاء العالم. لم يكن لدى عبد الحميد مايدعو إلى القلق فى ولاء فلاحى الأناضول لخليفتهم السلطان ولكن طبيعته الميالة إلى الشك جعلته يشك فى القبول التام بقيادته بين رعاياه العرب الأكثر عدداً. وأصبح مقتنعاً بأن هناك حركة لإسترجاع الخلافة العربية.
ولكن لم يكن هناك دليل قوى على ذلك. لقد كان حقيقياً أن بعض المفكرين المسلمين غير الأتراك فى الإمبراطورية كانوا قد نحوا باللوم على القرون الأخيرة من الحكم العثمانى كسبب لحالة التخلف الراهنة آنذاك فى العالم الإسلامى.وكان تلاميذ جمال الدين الأفغانى- أمثال المصرى محمد عبده والسورى رشيد رضا وعبدالرحمن الكواكبى- شديدى الحماس لإحياء وتوحيد الأمة الإسلامية كوسيلة لمقاومة هيمنة الغرب وأفكاره. وكانوا يشعرون بأن ذلك الإحياء كان يمكن أن يأتى فقط من خلال العرب الذين ظهر الإسلام بينهم أصلاً. ورغم أن هؤلاء الرجال قاموا بتأسيس الصحف ونشر البيانات فى باريس أو القاهرة ( حيث كانوا تحت الحماية البريطانية ) فقد كانوا مثقفين أكثر منهم نشطاء سياسين. لم يكن الإنشقاق السياسى داخل الإمبراطورية العثمانية فى تلك المرحلة يتبع خطوط قومية أو عرقية إلا فى النادر- فالزعيم المصرى مصطفى كامل مثلاً - كان يتطلع فى تسعينيات القرن التاسع عشر إلى السلطان على أنه القائد الطبيعى لحركة الجامعة الإسلامية التى كان يتبناها ضد البريطانيين. كانت كراهية وعداء العرب للأتراك آخذة فى الظهور فقط والواقع إن إستعمال إصطلاح العرب كان مازال مقصوراً - بشكل عام - على شعب الجزيرة العربية نصف البدوى فقط. وكان رجال من أمثال ، رشيد رضا ، يعتقدون بأن الحركة من أجل الإحياء الإسلامى يجب أن تبدأ من الجزيرة العربية. والواقع فعلاً أن أول جهد عملى لطرد العثمانيين كحكام غير أكفاء للوطن الإسلامى كان قد بُذل على يد القوات السعودية الوهابية فى بداية القرن التاسع عشر. ولكن السعوديين قد هُزموا ولم يتجدد تحديهم مرة أخرى إلا عندما أصبحت الإمبراطورية على شفا الإنهيار. كانت مخاوف السلطان عبد الحميد وشكوكه من التخريب بين رعاياه غير الأتراك قد جعلته يتبع سياسة مزدوجة ، فكان يرقى بعضهم إلى المناصب العليا فى حكومته ويغدق الهدايا وحسن الضيافة على الشخصيات العربية الكبيرة الزائرة فى الوقت الذى كان يتآمر فيه بإستمرار لمنع القادة السياسين المحليين من أن يصبحوا قوة ذات شأن. وحيثما كان ضرورياً فقد كان يشجع المنافسة والعداء بين العشائر والقبائل. وقد حرص على أن يكون على إطلاع دائم بكل مايجرى فى الإمبراطورية من خلال شبكته الواسعة من الجواسيس ونظام التلغراف الجديد الذى أسسه المهندسون الفرنسيون والبريطانيون والذى وصل إلى أبعد المقاطعات. ولذلك فقد كان يمكن تحييد أى قائد محلى محتمل الخطورة أو أى مثير متاعب حقيقى- حتى بالقوة - إذا ما لزم الأمر. كان الحسين بن على أحد هؤلاء وكان عضواً من كبار أسرة إشراف مكة الهاشميين وبسبب هذه المنزلة العالية فقد كان يجب أن يُعامل بتأدب.
وبناء على ذلك أصدر له عبد الحميد دعوة فى سنة 1893م - ماكان يستطيع أن يرفضها - وذلك كى يحضر ليستقر فى إسطنبول مع أولاده الصغار الثلاثة - علي وعبدالله وفيصل. كان حدس عبد الحميد حقيقياً لأن حسين وأبناءه سوف يكونون أحد الأدوات الرئيسية فى إسقاط الإمبراطورية. أما أهم العرب الذين رفعهم عبد الحميد فقد كان السورى عزت باشا. ففى السنوات الأخيرة من حكم السلطان عبد الحميد وصل إلى مركز على قدر عظيم من القوة والنفوذ بحيث أصبح القوة الرئيسية خلف أهم أداة مفردة فى سياسة عبد الحميد الخاصة بالجامعة الإسلامية ، أى بناء خط حديد الحجاز. وقد إمتد هذا الخط من دمشق إلى المدينة ولكن لم تمتد الإضافة التى خطط لها إلى مكة أبداً. وقد كلف ذلك الخط الذى بناه مهندسون من ألمانيا - الحليف الجديد للسلطان - بين سنة 1901 وسنة 1908م حوالى ثلاثة ملايين جنيه إسترلينى . ولأنه قد قُدم للعالم على أنه وسيلة سامية للتقوى الإسلامية حيث كان من شأنه أن يقلل من أخطار الحج إلى مكة فقد تم تحصيل ثلث التكلفة من المساهمات الطوعية من كل أنحاء العالم الإسلامى بالإضافة إلى بعض الضرائب الخاصة التى تم فرضها فى الإمبراطورية . والواقع أن المشروع قد أضاف كثيراً إلى سمعة السلطان - الخليفة التقى - كزعيم للعالم الإسلامى السنى ولكنه كان ذا ميزة إستراتيجية سياسية إضافية فى تجاوز قناة السويس التى سيطر عليها البريطانيون حيث جعل من الممكن إرسال قوات من سوريا إلى الحجاز فى أيام قليلة. وبرغم مجهودات عبد الحميد لتأمين ولاء المؤمنين المسلمين فقد كان هناك تحريض على معارضة الحكم العثمانى التركى فى الولايات العربية. لقد كان هناك بعض الأسباب الخاصة لدى بعض القادة المحليين أو للعشائر للنفور بسبب تفضيل السلطان لمنافسيهم أحياناً ولكن وبشكل عام فقد كان هناك نفور من أساليب عبد الحميد الإستبدادية والمجردة من المبادئ فى الحكم. أما بين الجماعات العربية المسيحية المتمركزة فى لبنان المارونية فقد كان هناك - وبصفة خاصة - شعور قوى بالعداء للعثمانيين تغذيه الروابط الثقافية والتجارية مع الغرب وإنتشار التعليم وإدراك وجود الحماية الفرنسية. ولكن – وبالضبط - لأن المسيحيين العرب كانوا أقلية ولأن كراهيتهم قد نشأت عن إحساسهم بحالة الدرجة الثانية التى كانوا يحتلونها فى الإمبراطورية فلم يكن هناك شك فى توحيدهم لقواهم مع رفقائهم المسلمين العرب فى حركة عصيان. والواقع أن تصور أمة عربية واحدة كان مقصوراً على بعض المثقفين فقط بينما تلك الخاصة بالمواطنة العثمانية المشتركة التى تقوم على مبدأ الحقوق المتساوية والتى نشأت عن إصلاحات التنظيمات فقد كانت قد حققت قليلاً من التقدم فى ظل نظام الجامعة الإسلامية الذى تبناه عبدالحميد. كانت الولاءات الدينية مازلت أقوى من الأفكار الغربية العلمانية. لم يكن السوريون العرب يفكرون فى إسقاط الإمبراطورية التى كانت البطل والحامى للأمة الإسلامية على مدى أربعة قرون. وقد جاء العصيان الحقيقى ضد عبد الحميد من مصدر مختلف تماما،ً أكثر قرباً من إسطنبول. فقد كان الجانب الأكثر أصالة وفعالية من الإصلاحات التى ورثها عبد الحميد عن أسلافه هو تحسين وتطوير التعليم المدنى العسكرى. وقد أنتج هذا طبقة وسطى مثقفة جديدة وحقيقية. كان الشباب العثمانى الذين أرادوا وضع نهاية لإستبداد السلطان متناثرين ومضطهدين - فى الواقع - فى السنوات الأولى من حكمه. ولكن أفكارهم عاشت وعـادت إلى الظهور حوالى نهاية القرن فى حركة ثورية عرفت بإسم ( تركيا الفتاة) وقد إنتشرت تلك الحركة بسرعة بين الطلاب فى الكليات العسكرية والطبية والقانونية فى العاصمة والولايات. وقد قام طلعت بك وهو طالب حقوق وكان أيضاً موظفا كبيراً فى مكتب بريد سالونيك ورحمى بك وهو أحد الوجهاء المحليين- مع عدد قليل من الرفقاء- بتأسيس جمعية سرية أسموها جمعية الإتحاد والترقى للتأكيد على مبدأ الوحدة والمساواة لكل الأجناس والمعتقدات داخل الإمبراطورية . وقد جذب هذا المثل الأعلى تأييد الماسونيين واليهود الذين قُدر لهم أن يلعبوا دوراً قيادياً رئيسياً فى الحركة. وتم تأسيس الإتصالات مع المنفيين الأتراك فى باريس. ورغم أن الأتراك الشباب قد حاولوا القيام بإنقلاب فى سنة 1896م فقد تم قمعه بسهولة. لم يكن لدى السلطان أقل فكرة عن الخطر المحدق به وبدا أن شبكته التجسسية كانت أقل فاعلية بالقرب من الوطن. فزع الثوار لسوء معالجة السلطان لشئون مقدونيا - آخر ولاية عثمانية فعلية فى أوربا - كما أحنقهم ضعف الإمبراطورية المخزى فى علاقتها مع الدول الأوربية. وقد أثارتهم التقارير التى وصلت سنة 1908م بأن ملك إنجلترا إدوارد السابع وقيصر روسيا نيقولا كانا يخططان لإقتسام تركيا فى إجتماعهما فى طالين لدرجة جعلت بعض ضباط الجيش أمثال أنور بك وجمال باشا ومصطفى كمال (كمال أتاتورك مستقبلاً ) يلتحقون بالحركة الجديدة واضعين قيادة الوحدات العسكرية فى الجيش المقدونى تحت إمرتها. ومن روح الرغبة فى إنقاذ أرض الآباء رفع الأتراك الشباب لواء الثورة فى سالونيك ، العاصمة المقدونية سنة 1908م والتى أصبحت المقر الرئيسى لجمعية الإتحاد والترقى. وإنتشر التمرد سريعاً ووصل حتى إلى الوحدات الألبانية التى كان عبد الحميد يعتبرها موالية.
وطالب الشباب الترك- يقودهم أنور بك - بإسترداد الحكم الدستورى. وإضطر السلطان للتراجع عندما إكتشف أن شيخ الإسلام - وهوأعلى سلطة دينية - وأغلبية وزرائه كانوا يتعاطفون مع الثوار فإسترجع الدستور قصير العمر الذى كان قد سبق وألغاه قبل أربعين عاماً بالضبط . ونيابة عن العثمانيين الشباب أعلن أنور بك نهاية الحكومة الإستبدادية وأعلن عن مبادئ النظام الجديد وبأنه ( من الآن فصاعداً فنحن جميعاً إخوة ، فبعد الآن ليس هناك بلغار ولا إغريق ولا رومان ولا يهود أو مسلميـن فتحت نفس السماء الزرقاء سوف نتساوى جميعاً ونفتخر بكوننا عثمانيين ) . اُستقبل الإعلان بإبتهاج شعبى شديد فى إسطنبول. ولكن عبد الحميد الماكر لم يعدم الحيلة فتظاهر بالحماس للنظام الدستورى الحر - الذى كان قد ضرب به عرض الحائط بمجرد إعتلائه العرش- وأعاد عقد البرلمان الذى كان قد عُلق لواحد وأربعين سنة. وراحت الجماهير التى ملأت الشوارع تصيح يحيا الدستور فى نفس الوقت الذى كانت تصيح فيه بيحيا السلطان. وأيضاً رحب العرب فى إسطنبول والوجهاء فى الولايات العربية بالحقبة الجديدة وأملوا أن تعنى روح المساواة العرقية المعلنة نهاية السيطرة التركية ونهاية فرض اللغة والثقافة التركية على العرب فى الإمبراطورية . ومن ثم تحقق شهر العسل التركى العربى القصير والذى لم يستمر لأسباب عديدة. ففى المقام الأول لم تراع الروح العثمانية الكامنة فى دستور مدحت باشا مبدأ المساواة العرقية بين المسلمين. وقد أشار أنور بك فى إعلانه إلى المسلمين أكثر مما أشار إلى العرب أو الأتراك. لكن النظام الإنتخابى قد ضمن التفوق الكبير للأتراك فى البرلمان حيث شكلوا مائة وخمسين عضواً من مجموع أعضاء البرلمان البالغ عددهم 243 بالمقارنة مع 60 من العرب برغم حقيقة أن عدد المواطنين العثمانيين الناطقين بالعربية كانوا - بالتأكيد تقريباً - يفوقون عدد الأتراك فى الإمبراطورية. وثانياً فإن ضباط الجيش الذين وصلوا إلى قيادة الشباب الترك لم يكونوا ديموقراطيين ليبراليين. والواقع أن إعلانهم عن الإيمان فى الوحدة والمساواة على أنه الروح العثمانية لم يكن نفاقاً لكن فهمهم لهذه المبادئ لم يكن عميقاً. لقد كانوا يكرهون حكم عبد الحميد لفساده وعدم صلاحيته وليس لمجرد إستبداديته. وعندما ووجهوا بالتركة المرعبة من سوء الحكم وبالخزانة الفارغة وضغط الدول الأوربية الذى لا يلين فى البلقان وأخيراً بالغزو الإيطالى لليبيا - آخر ولاية عثمانية فى إفريقيا - لم يعد لديهم الوقت الكافى لتطبيق مبادئ الحرية الدستورية.
وبالإضافة إلى ذلك ، وبعكس المثقفين العثمانيين الشباب - فلم يكن لديهم إهتمام بالنظريات السياسية فقد كان مدخلهم إلى الحكم واقعياً وعملياً كما كان هدفهم الملح هو تقوية دفاعات الإمبراطورية وإذا كانوا قد أظهروا الإحترام لمثل الثورة الفرنسية فقد كان ذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن شعارات الحرية والمساواة والإخاء قد صهرت شعب فرنسا فى تلك القوة القادرة التى إكتسحت أعداء الثورة. وقد إعتقدوا أن مواطنى الإمبراطورية العثمانية كانوا بلاشك سيتصرفون على نفس النحو. وكانت محاولة للثورة المضادة هى أول ماصادفهم من مشاكل. فبينما قبل عبد الحميد الدستور الجديد ظاهرياً فقد راح يشجع سراً العناصر الرجعية الغاضبة التى عارضت النظام الجديد . وفى أبريل عام1909م تمردت قوات حامية إسطنبول وذبحت ضباطها وإقتحمت البرلمان. وعندما عفى عبد الحميد عن قادة الثورة وشكل مجلس وزراء جديد أرسل العثمانيون الشباب جيشاً من سالونيك لإعادة النظام ومعاقبة المتمردين وإسترجاع سلطة جمعية الإتحاد والترقى. وبعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ إجتمع البرلمان وأعلن تنازل عبد الحميد ثم أعلن أخوه رشاد سلطاناً حاملاً لقب محمد الخامس. وكان ذلك الرجل الرقيق المتواضع والبالغ من العمر 64 سنة مستعداً لأن يقبل بدور الملك الدستورى. وقررت جمعية الإتحاد والترقى وبحكمة الإبقاء على حياة عبد الحميد وتم تحديد إقامته فى فيلا خاصة فى سالونيك. وعبر رعاياه السابقون عن مشاعر مختلطة - بشكل غير عادى - عن حكمه الطويل. فبالنسبة للأتراك فإن سجل الإصلاحات الحديثة التى حققها فى بعض النواحى المحدودة قد طغى عليها عدم قدرته على منع الإذلال النهائى لبيت عثمان الذى مثًل يوماً قوة أوربية عظمى. ولكن كان هناك إنطباع مختلف ظل بين المسلمين الغير أتراك فى الإمبراطورية . ففى بعض الحالات كان هؤلاء شعوباً أو قبائل ناصرها عبد الحميد على منافسيها ، مثل الأكراد ضد الأرمن أو السنة ضد الشيعة فى العراق. ولكن على المدى الأبعد فقد كان سجله المناصر لسياسات الجامعة الإسلامية هو الذى عاش بعده. لم يكن يهم أن تلك الأهداف قد اُُستخدمت فى الغالب لتعزيز أهدافه الإستبدادية فالمهم أن تلك الشعوب قد رأته على أنه كان آخر الحكام الذين دافعوا عن قضية الأمة الإسلامية. فالعرب – مثلاً - سوف يشيرون دائماً بعد ذلك إلى حقيقة أن السلطان هو الذى رفض طلب النمساوى الدكتور تيودور هيرتزل مؤسس الصهيونية السياسية من أجل إستئجار جزء من فلسطين كوطن قومى لليهود. والواقع أن عبد الحميد كان ميالاً لقبول الطلب مقابل قروض ضخمة من اليهودية العالمية ولكن وزراءه أقنعوه بأن ذلك قد يكون كارثة على سياساته للجامعة الإسلامية وعلى سمعته وهيبته بين رعاياه العرب. وفى النهاية كان رفض السلطان هو الذى ظل يتذكره الناس. وإذا لم يكن هناك فى سنة 1908م – تقريباً- أى عرب يفكرون فى الإنفصال عن قلب الإمبراطورية التركى الذى ظل الحامى الوحيد للعالم الإسلامى السنى فقد كان هناك بلاشك كثير منهم ممن فكر فى اللامركزية والحكم الذاتى للولايات العربية وفى القبول بالمساواة بين الأتراك والعرب. والواقع لم يكن الترك الشباب يصرون كثيراً على أن التفوق التركى أمراً مسلماً به. فقد حدث هذا فقط عندما شعروا بأنهم كانوا مهددين بالمشاعر القومية المتزايدة بين العناصر الغير تركية الباقية فى الإمبراطورية مثل اليونان والأرمن والأكراد وكذلك العرب بحيث عمدوا إلى تفوق تركى خالص. وقد هدف ذلك فى شكله الأضيق إلى تماسك الأمة التركية داخل الأناضول أو داخل حدود الجمهورية التركية الحالية تقريباً.
ولكن كان هناك حركة أوسع وهى الجامعة الطورانية التى كان مفكرها الكاتب ضياء جوقلب وكانت تدعو إلى وحدة كل الشعوب الناطقة بالتركية بما فى ذلك شعوب وسط آسيا التركية حيث نشأ الأتراك أصلاً. ورغم أن جمعية الإتحاد والترقى لم تتبنى رسمياً البرنامج الطورانى فقد كانت الفكرة شديدة الجاذبية لبعض قادتها ، مثل أنور بك. لكن الواقع أن الفكرة كانت خيالية وغامضة كما كانت عنصرية أساساً. وقد كانت أيضاً ضد الإسلام من حيث أنها كانت تدعو إلى العودة إلى زمن لم يكن الأتراك قد إعتنقوا فيه الإسلام بعد. ولذا فإن منظور التفوق بالنسبة لجماعة الإتحاد والترقى كان علمانياً قومياً أكثر منه إسلامياً. فقد كان كثير من قادتها من الماسونيين وكانوا مرتبطين بقوة بيهود سالونيكا ، الذين لعبوا دوراً هاماً فى حركة تركيا الفتاة. ولكن هذا لم يعنى أنهم كانوا قادرين أو مستعدين للتخلى عن دور الإمبراطورية فى قيادة العالم الإسلامى والذى كان وبعد أربعة قرون مازال معترفاً به من قبل رعاياها المسيحيين والمسلمين على السواء. وقد أدرك طلعت بك العقبة التى يمثلها ذلك الدور لهدف الشباب الترك فى إمبراطورية أكثر مركزية وأكثر عثمانية مما كانت عليه أيام السلطان عبد الحميد. وفى خطبة سرية إلى جمعية الإتحاد والترقى فى سالونيكا فى أغسطس عام 1910م قال أنه بينما يوفر الدستور المساواة بين المسلمين وغير المسلمين فقد كان الجميع يعرف أن تلك مثل لايمكن إدراكها أو تحقيقها. فالشريعة التى تمثل كل تاريخنا الماضى ومشاعر مئات الآلاف من المسلمين وحتى من غير المسلمين - والذين يقاومون بشدة أى محاولة لعثمنتهم - تمثل حاجزاً لايمكن إختراقه لتأسيس مسساواة حقيقية. وقد قمنا بمحاولات غير ناجحة لتحويل الغير مسلمين إلى عثمانيين أوفياء وكان حتماً أن تفشل كل هذه المجهودات طالما أن الدول المستقلة فى شبه جزيرة البلقان ظلت على موقفها فى بث الأفكار الإنفصالية بين سكان مقدونيا. فهذه الدول المستقلة - اليونان وصربيا وبلغاريا - كانت فى الواقع تخشى إنه إذا ماتم تجديد الإمبراطورية العثمانية بواسطة الشباب الترك فقد تحاول إسترداد سيطرتها على البلقان مرة أخرى . وبدون أى تشجيع من الدول الأوربية- بإستثناء روسيا - شكلت هذه الدول تحالفاً سرياً وفى أكتوبر 1912م قاموا بشن حرباً ضد تركيا. وبحلول ديسمبر إستطاعوا إحتلال سالونيكا وتراقيا الغربية مجبرين جمعية الإتحاد والترقى على نقل مقارها الرئيسية إلى إسطنبول. وتراجع الجيش التركى إلى خطوط الدفاع عن العاصمة. وعندما تنازع الحلفاء البلقانيون على تقسيم الغنائم وحاربوا بعضهم البعض إستطاعت تركيا إسترداد جزء من مقدونيا ومدينة أدرنة الهامة ولكنها تنازلت عن كريت ومعظم جزر بحر إيجة لليونان. وإنتهى تقريباً دور تركيا فى أوربا.
لم يتوقع الترك الشباب أن تمثل عثمنة الرعايا المسلمين فى الإمبراطورية نفس المشاكل. كانت المشكلة هى أن العثمنة بالنسبة إليهم فى روح الوطنية التركية النشطة الجديدة كانت تعنى فى الواقع ، التتريك. وليس هناك حاجة أو داعى للقول بأن أفكار الجامعة الطورانية لم يكن محتملاً أن تكون مقبولة لدى العرب العثمانيين. كانت التركية هى دائماً اللغة الرسمية العثمانية ولكن اللغة العربية إحتفظت بمكانها بين جموع العرب العثمانيين. وكلغة للعقيدة فقد كانت اللغة العربية أيضاً سائدة فى التعليم. وكان الترك الشباب يهدفون آنذاك إلى تحويل الإمبراطورية المتعددة الخواص إلى أمة ذات لغة واحدة. ولذا فقد جُعلت اللغة التركية موضوعاً إلزامياً فى كل مدرسة. وأصبح من الواجب إستخدامها فى قاعات المحاكم وحتى أسماء الشوارع فى المدن تحولت إلى التركية رغم أنها لم تكن مفهومة بالنسبة للغالبية العظمى من السكان فى الولايات العربية. كانت نتيجة سياسات التتريك تلك هى إثارة حافز عميق للوعى العروبى بين العثمانيين العرب لكن ذلك كان مازال يقع بعيداً عن القومية العربية العلمانية التى ظهرت فيما بعد. لقد كان متأصلاً فى فخرهم باللغة العربية أنها اللغة التى تحدث بها الله إلى العالم من خلال النبى وعلى المكان الفريد الذى يحتله العرب فى تاريخ الإسلام.
كان ذلك الوعى العربى قد طُُمس لكنه لم يمت أبداً بقبول اللغة التركية والقيادة العسكرية خلال عدة قرون. وكان أحد ردود الفعل العربية على فكرة تفوق الجنس التركى هو تأسيس العديد من الجمعيات أو الأحزاب المكرسة لحماية الحقوق العربية وتحقيق الإستقلال الذاتى العربى داخل الإمبراطورية . وكان على هذه الجمعيات أن تظل تحت الأرض فى بيروت وبغداد والبصرة ولكن أكثرها أهمية وهى جمعية الشباب العربى أو الفتاة والتى أسسها جماعة من الطلاب العرب فى باريس قد إستطاعت سراً أن تحشد التأييد فى كل الولايات العربية. وكان شريف مكة الكبير هو القائد العربى صاحب افضل فرصة لتحدى سيطرة العثمانيين داخل الإمبراطورية. وكحارس للأماكن المقدسة والمشرف على الحج الإسلامى فقد كان من الصعب أن يكون موضوعاً للتريك. وكان على مراكز القوى فى إسطنبول أن تعامله ببعض الإحترام. وكان يشغل ذلك المنصب آنذاك - الحسين بن على - العضو المشاكس من أسرة ألإشراف الهاشمية الوراثية والذى دعاه السلطان عبد الحميد فى سنة 1893م للإستقرار فى إسطنبول حيث كان يمكن مراقبة نشاطاته. وكبادرة حسن نية خلال شهر العسل التركى العربى القصير بعد ثورة 1908م عينته جمعية الإتحاد والترقى شريفاً أعظم متجاهلة تحذيرات السلطان عبد الحميد الثاقبة. وسرعان ماندموا على ذلك. كان الشريف حسين آنذاك فى منتصف عقده الخامس- مهيباً أبيض اللحية شديد الطموح - وقد أخفى أسلوبه الرقيق والمهذب إرادة حديدية كان يقويها إحساسه بقدره. لكنه كان أيضاً حريصاً بطبيعته فلم يسع إلى المشاكل مع الأتراك فوراً بل أنه قد قام بإنفاذ حملة عسكرية نيابة عنهم لقمع عصيان فى منطقة عسير جنوب غرب الجزيرة العربية. وفى المقابل شجعته الحكومة العثمانية على مد سلطانها إلى المناطق الداخلية. وقد ورطه ذلك فى صراع مع خصم عربى رهيب هو بيت سعود الذى سيكون السبب فى إسقاط الأسرة الهاشمية فى الجزيرة العربية كلية كما سيكون الهاشميون هم الأداة لإسقاط الحكم التركى فى الولايات العربية فى الإمبراطورية . كان بيت سعود قد تعافى من الإنشقاقات الداخلية فى ستينيات القرن التاسع عشر والتى كانت قد أعطت الأتراك الفرصة لإحتلال شرق الجزيرة العربية ولكنه لم يلبث أن عانى الهزيمة على يد خصومه الدائمين فى شمال نجد( بيت الرشيد). وفى سنة 1891م إضطر عبد الرحمن كبير بيت سعود - آنذاك- إلى الهرب من الرياض والإلتجاء لأمير الكويت.
وقد صاحبه أكبر أبنائه الخمسة - عبدالعزيز- البالغ من العمر ستة عشرة عاماً والذى عرف بإسم الأسرة - ابن سعود - وقدر له بعد ذلك أن يكون أحد الشخصيات البارزة فى التاريخ الحديث للشرق الأوسط . وعندما بلغ سن الشباب تفوق ابن سعود على رفاقه بهيئته وهيبته . وفى سنة 1902م نجح فى إعادة إحتلال العاصمة السعودية الرياض بقوة صغيرة وشرع فى إسترجاع الدولة السعودية الوهابية السابقة. كانت قوة بيت الرشيد فى إضمحلال فأعاد عبد العزيز غزو نجد وفى سنة 1913م مضى ليحتل إقليم الحسا فى شرق الجزيرة العربية والذى كان الأتراك يسيطرون عليه بصعوبة . وإعترفت به بريطانيا كسلطان على نجد ومايتبعها ولكنه لم يستطع أن يمضى لأبعد من ذلك لأن كل منطقة الساحل الفارسى من الكويت حتى عمان كانت تحت النفوذ البريطانى المنفرد. أما فى غرب الجزيرة العربية فقد عانى إنتكاسة حيث نجح الشريف حسين فى أسر الأخ المفضل له مما إضطر ابن سعود لقبول بسيادة عثمانية إسمية من أجل إفتدائه. وأقسم على الإنتقام من الهاشميين. وبعدما نجح الشريف حسين فى جعل نفسه طرفاً لايمكن الإستغناء عنه بالنسبة للأتراك شرع فى تأكيد حقوقه ومكانة مركزه فى مواجهة الوالى العثمانى فى الحجاز. لكنه كان يتطلع إلى أبعد من ذلك ، إلى جعل الحجاز ولاية عربية مستقلة يمكن لها أن تصبح نواة لإستقلال كل الولايات العربية داخل الإمبراطورية فى ذلك الوقت. وكان أولاده الذين بلغوا آنذاك سن الرجولة يشاركونه طموحه. كان عبدالله - الابن الثانى والأكفأ - نائباً عن مكة فى البرلمان العثمانى الجديد وكان محل شك كبير من قبل جماعة الإتحاد والترقى الذين حاولوا أن يكسبوه إلى جانبهم بعرض منصب الحاكم العام لليمن عليه حيث كانت سلطة العثمانيين قد اُُعيد تأكيدها هناك حديثاً ، ولكنه رفض بذكاء. ولأنه كان أقل حذراً من أبيه فقد زار القاهرة فى فبراير سنة 1914م ليستكشف رأى المندوب البريطانى لورد كتشنر وسكرتيره الشرقى- السير رونالد ستورز- فى إمكانية تأييد الحكومة البريطانية لطموح أسرته نيابة عن العرب. ولكن بالرغم من أن بريطانيا لم تكن تعرف فى ذلك الوقت كيف يمكن تدارك الحرب مع منافستها الإستعمارية الكبرى - ألمانيا - فإنها لم تكن ترى أن التحالف العثمانى مع ألمانيا هو أمر حتمي. كانت سياسة بريطانيا التقليدية فى إعتبار إستمرار بقاء الإمبراطورية العثمانية مفضلاً للمصالح البريطانية مازالت مستمرة ولذا فلم يلزم كتشنر نفسه بأى تعهد لعبد الله الذى رجع خائب الأمل.
وبعد محاولة الإنقلاب المضاد الغير ناجحة التى قام بها السلطان عبد الحميد سنة 1909م أصبحت جمعية الإتحاد والترقى منفردة السيادة فى الإمبراطورية وحرة فى متابعة سياساتها المركزية الغير ليبرالية. وعلى الفور حظرت تكوين الجمعيات السياسية القائمة على جماعات عرقية أو قومية وأغلقت نوادى وجمعيات الأقليات كما أستخدمت عقوبة الإعدام على نطاق أوسع حتى مما كان يمكن لعبد الحميد إستخدامها فيه. ومع ذلك فلم تمض سياسات جمعية الإتحاد والترقى دون مواجهة أى تحدى. ففى داخل حركة الأتراك الشباب كان هناك إتجاه ليبرالى مختلف يفضل لامركزية السلطة ولايرى العثمنة بمعنى فرض السيادة السياسية والثقافية التركية ولكن فى خلق إمبراطورية جماعية متعددة الأديان تصان فيها حقوق الأقليات القومية والدينية فى الحكم الذاتى.
وقد تمثل ذلك الإتجاه فى أكثر صوره وضوحاً فى العصبة اللامركزية العثمانية التى يقودها الأمير صباح الدين ابن أخ السلطان عبد الحميد والذى كان قد رحل إلى المنفى هرباً من طغيان عمه. ومن خلال برنامجه لنقل السلطة إلى ولايات مستقلة تحت العلم العثمانى وكذلك برنامجه لحماية الجيش العثمانى فقد لاءم العرب بنفس القدر الذى لاءم به الأتراك الليبراليين. وإنتشرت فروع من عصبته فى جميع أنحاء الإمبراطورية . وقد قامت جمعية الإتحاد والترقى بحلها بوقت قصير بعد ثورة 1908م على أساس أنها جمعية تخريبية لكن الجمعية إستمرت تحت الأرض وظهرت فى سنة 1912م كحزب اللامركزية الإدارى العثمانى والتى تشكلت فى القاهرة تحت الحماية البريطانية على يد جماعة من السوريين المهاجرين البارزين. ورغم أن عصبة الأمير تلك قد قُمعت على يد جمعية الإتحاد والترقى فقد كان هناك عدد أكبر فى البرلمان العثمانى ممن كان يفضل الحكومة الدستورية ودرجة من اللامركزية. وقد شعر هؤلاء بالخوف من أن جمعية الإتحاد كانت تثبت أنها حتى أكثر إستبدادية فى أساليبها من عبد الحميد. وقد حصلوا على تأييد سياسيين ليبراليين محترمين - أكبر سناً - من عهد السلطان عبد الحميد وإتحدت كل هذه الجماعات مع بعض الأفراد فى سنة 1911م لتشكيل جبهة معارضة واحدة تحت إسم الإتحاد الليبرالى. وأظهر ذلك الإتحاد فوراً أنه يحظى بتأييد شعبى كبير فبادرت جماعة الإتحاد والترقى بحل البرلمان وإستخدام كل وسائل القمع فى الإنتخابات التالية التى عُرفت بإسم إنتخابات العصا الغليظة كى تضمن أن يتبع المعارضة ستة فقط من مجموع أعضاء البرلمان البالغ عددهم 275 عضواً. وترتب على ذلك التصرف المستبد مزيداً من المعارضة الخطيرة لجمعية الإتحاد والترقى داخل القوات المسلحة.
وطالبت مجموعة تسمى الضباط المنقذون بإنسحاب الجيش من السياسة وبتأييد من الوحدات الألبانية قامت بتحركات تهديدية للقوات العسكرية بتنفيذ إنقلاب عسكرى أبيض أجبر الحكومة التى تسيطر عليها جماعة الإتحاد والترقى على الإستقالة وإستبدالها بحكومة أخرى يقودها المحارب الليبرالى القديم كامل باشا. ولكن الفترة الليبرالية دامت عدة أشهر فقط. كانت حرب البلقان تصل إلى أكثر مراحلها كارثية والأعداء على أبواب إسطنبول. وكانت تلك هى المناسبة التى إستغلتها جمعية الإتحاد والترقى لإسترداد السلطة. وفى 23 يناير سنة 1913م شق أنور بك وجماعة من الضباط طريقهم داخل مقر مجلس الوزراء وأردوا وزير الحرب قتيلاً. وإستردت حكومة الإتحاد والترقى السلطة وإختفت الليبرالية التركية تحت الأرض لفترة طويلة وأصبحت الإمبراطورية فى ذلك الوقت تحكم فعلياً بواسطة ديكتاتورية ثلاثية يشكلها الباشوات أنور وطلعت وجمال. كان أنور وهو أصغر الثلاثة شجاعاً متباهياً متوهجاً وكان مازال يعتبر البطل الشعبى الأكثر شهرة بين الشباب الأتراك وكان يطالب بتقديس الخدمة العسكرية ويركز على إحياء وتطوير القوات العسكرية العثمانية والتى كانت معنوياتها تعانى أقصى إنخفاض لها على أثر كوارث البلقان. وقد جعله إعجابه بالقوة العسكرية الألمانية والتى كانت تساعد فى تدريب الجيش العثمانى أكثر أعضاء القيادة الثلاثية ميلاً لألمانيا. وبعكس أنور- كان جمال باشا بارداً هادئاً واثقاً من نفسه يخفى تأدبه الارستقراطى نزعة من القسوة الشديدة.
أما طلعت وكان المدنى الوحيد بينهم فقد كان أقدرهم وأكثرهم ذكاءاً كما كان مفكراً ساحراً خفيف الظل ولكنه لكنه متعصباً لايلين فى وطنيته التركية العنيفة. وبحلول عام 1914م كانت جمعية الإتحاد والترقى تحكم الإمبراطورية لحوالى ستة سنوات تقريباً وكانت فترة الإنقطاع الليبرالى قصيرة جداً بحيث ماكان يمكن أن تؤثر على سياساتها. وقد سبب ذلك تدهوراً شديداً فى العلاقات التركية العربية فى الولايات العربية ولكن فى الأراضى التركية كان هناك بعض الإنجازات الحقيقية والتى ترتبط فى الغالب بالديكتاتوريات الفعالة المجددة التى لاتهتم كثيراً بالحريات السياسية. ومن ثم فقد تحسنت الحكومة البلدية والإقليمية بشكل كبير وأصبحت المدن أكثر نظافة وأمناً كما تم تنظيم وسائل المواصلات العامة. ولم يستطع جافيد باشا - وزير المالية اللامع ذو الأصل اليهودى - أن يفعل الكثير من أجل تخفيف عبىء الدين الخارجى على الإمبراطورية - خاصة وأن الحروب المكلفة كانت ماتزال مشتعلة - لكنه نجح فى إصلاح نظام الضرائب وزيادة دخول الدولة. وقد فشلت مجهودات الجمعية فى تصفية الإمتيازات الأجنبية وكان على ذلك أن ينتظر لحين إشتراك تركيا في الحرب الأوربية العظمى.
وربما كان التوسع فى التعليم هو أكبر إنجازات جماعة الإتحاد والترقى. فقد قاموا – تأسيساً على مجهودات إصلاحى القرن التاسع عشر - بقطع شوطاً أبعد فى خلق نظام تعليمى حديث متقدم على كل المستويات بما فى ذلك تأسيس كليات جديدة لتدريب المدرسين ومعاهد متخصصة كما كانوا أول حكام لدولة إسلامية مستقلة يعملون على خلق نظام تعليمى وطنى يفتح أبوابه للبنات. فقبل ذلك كانت بنات الطبقات الثرية فقط تستطيع الحصول على تعليم خاص. ومن ثم أصبح الطريق مفتوحاً أمام المرأة التركية للدخول إلى الحياة العامة كمحامية وطبيبة وإدارية. أما درجة نجاح أنور بك فى تجديد القوات المسلحة العثمانية فمن الصعب تقييمها. فقد كانت القوات المسلحة ضخمة الحجم حيث كان هناك مليون رجل تحت السلاح عندما وصل الشباب الترك إلى السلطة وقد إزداد هذا العدد بإدخال نظام التجنيد الإجبارى. ولكن كان رفع مستويات العسكرية وتحديث الأسلحة هو الشئ الأكثر إلحاحاً. وقد عين الجنرال الألمانى ليمان فون ساندرز مفتتشاً عاماً للجيش العثمانى كما كلف الأدميرال البريطانى ليمبوس بمهمة إعادة تنظيم الأسطول. وعندما نشبت الحرب وجد أعداء تركيا- والذين لم يشكوا أبداً فى شجاعة الجنود الأتراك - أن هؤلاء قد أصبحوا بالتأكيد أكثر إستعداداً للحرب الحديثة أكثر مما كانوا يتوقعون.
لم تكن جماعة الإتحاد والترقى غير حكيمة فى سياستها الخارجية بأى حال. كان الهدف الملح هو الحفاظ على الإمبراطورية التركية الآسيوية وتقوية دفاعاتها. وقد تركت لهم المنافسة بين الدول الأوربية فرصة للمناورة. كان كل من طلعت وجمال حريصاً على تأمين تحالف مع الإئتلاف الثلاثى لكل من روسيا وفرنسا وبريطانيا والذى كان يهدف إلى الحفاظ على توازن القوى فى أوربا ضد طموح القوى المركزية لألمانيا الإمبراطورية وإمبراطورية النمسا والمجر. وكانت روسيا هى الأكثر تحمساً لذلك التحالف لأنها كانت قد أصبحت مدركة – آنذاك- للمركز الممتاز الذي وصلت إليه ألمانيا فى إسطنبول وكانت تخشى أن تتمكن ألمانيا من السيطرة على مضايق الدردنيل. ورغم أن بريطانيا وفرنسا كانت قد أظهرتا بعض الكرم تجاه ثورة الترك الشباب فلم تكونا مستعدتين لإدخال دول البلقان فى أى ضمانات إقليمية لمركز تركيا الباقى فى أوربا. وكانا يتوقعان أن تظل تركيا محايدة فى أى حرب قادمة وأن تظل مصالحهما من ثم مضمونة. لم تعد بريطانيا تعتبر إستمرار بقاء الإمبراطورية مسألة ذات أهمية كبيرة حيث وفر التحالف مع روسيا الحماية الكافية للمصالح الحيوية البريطانية فى الخليج الفارسى.
وبرغم مجهودات طلعت وجمال المتكررة فلم يستطيعا تحقيق التحالف مع دول الإتفاق الثلاثى. ولأنهما كانا يشعران بأنهما فى حاجة ملحة لحماية أى من القوى الكبرى فقد قبلا بوجهة نظر أنور باشا بأن تلك القوة كان يجب أن تكون ألمانيا. وفى 2 أغسطس 1914م وبعد خمسة أيام من إغتيال الأرشيدوق النمساوى - فرانسيس فرديناند فى سراييفو والذى أدى مباشرة إلى قيام الحرب العالمية الأولى- وقعت تركيا تحالفاً سرياً مع ألمانياً يسمح لتركيا بأن تظل محايدة إذا تدخلت روسيا فى النزاع النمساوى الصربى والذى كان قد تفجر لتوه فعلاً. وفى 4 أغسطس أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا. وحتى عند ذلك الوقت فلم يكن كل شئ قد فقد بعد و ظل طلعت يفضل الحياد. كانت العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا مازلت جيدة وكانت البعثة البحرية التى يقودها الأدميرال ليمبوس والسفير البريطانى سير لويس ميليت تحتل منزلة رفيعة فى إسطنبول. وفى لندن نجح السفير العثمانى- حقى باشا- بحلول صيف 1914م فى التفاوض حول سلسلة من الإتفاقيات كان من شأنها أن تسوى بشكل مرضى كل الخلافات العالقة بين تركيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا حول مصالحهم فى الخط الحديدى فى العراق وسوريا وبشأن الملاحة فى دجلة والفرات. كما حددت إتفاقية بريطانية عثمانية الحدود بين الكويت ونجد والعراق. وفى النهاية تخلت تركيا عن سياسة الحياد لأن أنور - وكان العضو الأقوى فى الحكومة الثلاثية - كان مقتنعاً أن ألمانيا سوف تكسب الحرب القادمة. وتبدد أى شك حول أخذ جانب ألمانيا عندما إستولت بريطانيا على سفينتين حربيتين تركيتين كانت على وشك الإكتمال فى أحواض بناء السفن البريطانية. وسبب هذا السلوك التعسفى موجة من المشاعر العدائية لبريطانيا فى جميع أنحاء تركيا. وعندما أرسلت ألمانيا كثير من السفن والرجال إلى إسطنبول حاصر الأسطول البريطانى الدردنيل وطلب من تركيا تأكيد حيادها بطرد البعثة الألمانية. وفى 28 أكتوبر أخذ الأدميرال الألمانى الأسطول التركى إلى البحر الأسود لقصف الموانئ الروسية. وفى 3 نوفمبر قصف الأسطول البريطانى الموانئ التركية الواقعة فى مدخل الدردنيل. ورغم أنهم كانوا غير راغبين فى الإشتراك فى الحرب قبل أن يكون لديهم الوقت للإستعداد فإن أنور وزملائه لم يستطيعوا التراجع. وأعلنت تركيا الحرب على الحلفاء فى 5 نوفمبر 1914م.




























الفصل السابع

العامل الفارسى




















7. العامل الفارسى

قاد الإنشقاق الوحيد فى الإسلام - بين السنة والشيعة والذى أعقب وفاة النبى- إلى صراع طويل من أجل السيادة فى العالم الإسلامى بين فرعى الدين. وظل من الممكن أو من المحتمل - ولحوالى أربعة قرون - أن ينتصر الإسلام الشيعى حيث كان قد وصل إلى أقصى قوته حوالى سنة 1000م. ولكن حدث أولاً أن السلاجقة الذين سيطروا على قلب الأراضى الإسلامية فى القرن الحادى عشر ثم خلفائهم العثمانيون بعد أربعة قرون من ذلك التاريخ كانوا من السنة المتشددين. ورغم أن المذهب الشيعى قد إستمر فى البقاء والإزدهار فى فارس والعراق فمنذ ذلك التاريخ فصاعداً - أصبح يشكل أقلية آخذة فى التراجع فى الأمة الإسلامية.
وليس هناك خلاف عقائدى كبير بين إسلام السنة وإسلام الشيعة - فكلاهما يوافق على المركزية المطلقة للنبى فى الدين الإسلامى وعلى معظم التفاصيل التاريخية لحياته - وليس هناك خلافات رئيسية فى الشعائر كما يوجد إجماع كبير فى المسائل اللاهوتية. ولكن الخلاف هو تاريخى وسياسى. فالشيعة يعتقدون أن علياً - ابن عم النبى وزوج ابنته - كان يجب أن يخلف النبى بحيث كان يمكن الإحتفاظ بالوراثة لسلالة محمد المباشرة من خلال ابنته فاطمة وزوجها على. والخليفة عند الشيعة أو الإمام - والذى هو أيضاً مفسراً للإسلام - كان معصوماً من الخطأ وكان وبشكل عام يسمى من الإمام السابق ومن بين أبنائه. ويعتقد معظم الشيعة أن هناك إثنا عشر إماما وهم على وأبنيه الحسن والحسين ثم تسعة أبناء من نسل الحسين كان الأخير منهم هو محمد المولود فى سنة 873م والذى إختفى بشكل غامض. ويعتقد الشيعة الإثنا عشرية الذين يشكلون أغلبية الشيعة فى العالم فى القرن العشرين أن الإمام محمد مختفياً فقط وأنه سوف يظهر مرة أخرى كالمهدى أو الرجل الصالح كى يستعيد العصر الذهبى. وهناك فرقة شيعية أخرى وهى الزيدية وتقتصر فقط على بلاد اليمن . أما الفروع الشيعية الأخرى مثل الدروز والعلويين والإسماعيلين فهى صغيرة العدد رغم أن لها أهمية سياسية محلية قوية. وقد إعتبر شاه فارس إسماعيل الأول - الذى حكم من سنة 1501م إلى سنة 1524م وأسس المملكة الصفوية (1501-1736) م - المذهب الشيعى مذهباً رسمياً للدولة. ومن المحتمل أن الأغلبية من رعاياه كانوا من السنة ولكنه إستخدم العقيدة الجديدة بمهارة كى يجمع شعوبه المتباينة معاً.
وقد أصبح الإسلام الشيعى الأساس لوطنية فارسية شديدة الكبرياء وشديدة الكراهية للأجانب ولم تزل تلك المشاعر فى نمو فى العصر الحديث حيث ظلت فارس والتى أُعيد تسميتها بإيران سنة 1953م وعلى مدى القرون الأربعة الماضية الدولة القومية الهامة الوحيدة التى كان المذهب الشيعى هو عقيدتها الرسمية. كان لإسماعيل طموحات أكبر بشأن عقيدته وعندما إضطهد السلطان العثمانى السنى المتعصب - سليم الأول - أتباعه من الشيعة ، حاول إسماعيل أن يساعدهم . ولكن قواته سيئة التدريب لم تكن نداً لقوات الإنكشارية العثمانية ومن ثم فقد هُزم ولكنه نجح مع ذلك فى منع الأتراك من الإستيلاء على أى من أراضيه وإستطاع حتى الحفاظ على مقاطعات الموصل وبغداد والتى كان قد إستولى عليها فى حملات سابقة وتمكن كذلك من صد الأزبك السنة فى تركستان إلى الشمال الشرقى. كانت فارس فى موقف دفاعى ولكن التهديد الذى مثله الأعداء السنة قد ساعد فى عملية صهر الأمة. ودام الصراع بين المتنافسين - إمبراطورية العثمانيين السنة وإمبراطورية الفرس الشيعة - لأكثر من قرنين عبر حدودهم المشتركة والتى إمتدت لحوالى 1500 ميلا من البحر الأسود إلى الخليج الفارسى. وظلت المعركة من أجل العراق سجالاً بين الطرفين إلى أن حُسمت لصالح العثمانيين حوالى نهاية القرن السابع عشر فقط. وحتى آنذاك فقد ظلت العراق غير آمنة تماماً من أى هجوم فارسى وظلت حدود فارس الغربية تقريباً كما هى حتى الوقت الراهن. وقد عملت الحاجة إلى الإحتراس من الوجود الفارسى المعادى على حدود الإمبراطورية العثمانية الشرقية ككابح للتوسع التركى بإتجاه الغرب مما أكسب فارس إمتنان الدول الأوربية المسيحية. وبالمثل فإن الإمبراطورية العثمانية قد ساعدت فى عزل الإمبراطورية الفارسية عن الغرب. وبإستثناء بعض فترات الصحوة القصيرة نسبياً فقد دخلت المملكة الصفوية فى مرحلة إضمحلال علمانى طويل مع وفاة مؤسسها. مثلت فترة حكم الشاه عباس الكبير(1587 -1629م) أكبر فترة إزدهار فى مملكة الصفويين. فبمساعدة المغامر الإنجليزى - السير روبرت شيرلى - إستطاع عباس تنفيذ الإصلاحات الأكثر إلحاحاً فى جيشه فأسس قوات فرسان خاصة كانت تقارن بقوات الإنكشارية العثمانية وكانت فترة حكمه تمثل الفترة التى عاكس الحظ فيها العثمانيين. كان عباس إدارياً قديراً وبناءً عبقرياً. وقد جعل من مدينة أصفهان - التى أصبحت أحد الأعمال الفريدة فى العمارة الإسلامية - عاصمة له كما شجع التجارة والصناعة. وبرغم أنه كان شيعياً متعصباً فقد شجع الأرمن المسيحين على سكن أحد أركان عاصمته.
وقد نمت أصفهان لدرجة لاحظ معها زواره الإنجليز أنها أصبحت تنافس لندن فى الحجم. وعندمـا مات الشـاه عباس كان قد ترك بلاده أقـوى مما كانت عليه - كثيراً - عندما إعتلى عرشها فى سن السادسة عشرة. لم يكن الإختراق الأوربى للإمبراطورية الفارسية قد بدأ تماماً. وبمساعدة أسطول شركة الهند الشرقية البريطانية فى الخليج نجح فى صد البرتغاليين والذين كانوا قبل قرن من ذلك التاريخ وفى زمن الشاه إسماعيل قد حصلوا على موطئ قدم لهم فى جزيرة هرمز وعلى الأراضى المتاخمة لها. وفى مقابل مساعداتها فقد منح الشركة إمتيازات قيمة فى بندر عباس والذى سمى بإسمه بعد وفاته. ولكن السيطرة البريطانية على الخليج كانت لم تزل شيئاً بعيداً فى المستقبل. كان مبعوثو الدول الأوربية الكبرى يستقبلون بحفاوة فى بلاط عباس ولكنه كان يرفض إقتراحاتهم للدخول معهم فى تحالف ضد الأتراك العثمانيين حيث كانت عزلة فارس عن الغرب خير ضمان لوحدة وسلامة إمبراطوريتها. لكن عباس مع ذلك قد ترك لبلاده ميراثاً واحداً قاتلاً حيث سن تقليداً شابه مثيله فى البلاط العثمانى بسجن الوريث المحتمل وغيره من الأمراء الملكيين فى جناح الحريم من أجل سلامتهم. وكانت النتيجة هى نشأة الأمراء ضعفاء بدنياً عديمى الخبرة تماماً فى فن الحكم. ولذا فلم يكن خلفاؤه قساة مستبدين فقط بل كانوا غيرأكفاء أيضاً مما جعل خصيان البلاط يحصلون على قوة ونفوذ شديدين. وفى سنة 1709م أعلن الأفغان السنة العصيان وراحوا - وبشكل متكرر- يوقعون الهزيمة بالقوات الفارسية سيئة القيادة التى كانت ترسل ضدهم ونجحوا فى الإستيلاء على أصفهان وإجبار الشاه على الفرار. سيطر الأفغان على جزء من البلاد فقط و ظلت غالبية الشعب مخلصة للصفويين. كانت فارس فى حالة ضعف شديد للغاية. وكان قيصر روسيا بطرس الأكبر يبحث منذ زمن طويل عن وسائل لتأسيس طريق تجارى إلى الهند عبر بحر قزوين وماوراءه فقام بغزو البلاد فى سنة 1722م متعللاً بالهجوم الذى وقع على بعض التجار الروس فى شمال فارس أثناء أحد الثورات القبلية. وقد أثار عمله هذا مخاوف العثمانيين الأتراك والذين قاموا بدورهم عندئذ بغزو فارس ليمنعوا روسيا من السيطرة على أقاليم على حدودهم. وتم تجنب الحرب بين روسيا وتركيا بتسوية عام 1724م والتى بمقتضاها وافقت القوتان على إقتسام شمال وغرب فارس فيما بينهما تاركين الباقى منها إلى المغتصبين الأفغان فى الوسط وللصفويين فى الشرق. ومنذ ذلك التاريخ فصاعداً أصبح الضغط الروسى ملمحاً أساسياً فى الوجود الفارسى.
وفى سنة 1729م عاد الصفويون إلى العرش. لكن ذلك قد تحقق فقط بمساعدة نادر قولى بك- أحد أفراد قبيلة الأصفر- والذى كان فى السابق زعيماً لإحدى عصابات اللصوص ثم أصبح جنرالاً لامعاً. وفى سنة 1736م قام بعزل الشاه الشاب عباس الثالث منهياً بذلك حكم الأسرة الصفوية ووضع نفسه على العرش تحت لقب نادر شاه. وقبل أن يعتلى العرش كانت مهارته العسكرية قد أجبرت كلاً من الأتراك العثمانيين والروس على التخلى عن غزواتهم. وأعاد إحتلال قندهار من الأفغان وإسترد بذلك الحدود السابقة لفارس. ولكن هذا الرجل شديد الطموح لم يقنع بكل ذلك فإستدار بجيوشه فى إتجاه الشرق لغزو الهند ، والتى كانت تحت حكم مملكة المغول غارقة فى الفساد والإنحلال ولكنها كانت ماتزال غنية بشكل كبير. وبعد تجاوز ممر خيبر الحصين إستطاع أن يهزم الإمبراطور المغولى محمد شاه وفى مارس 1739م دخل دلهى منتصراً. وكانت الغنائم ضخمة للغاية. وقد علق أحد المؤرخين الهنود بأن الثروة التى جُمعت فى 348 سنة غيرت مالكيها فى لحظة واحدة. وعلى قائمة الغنائم المستولى عليها كان عرش الطاووس والذى نقله نادر إلى فارس حيث اُُستخدم فى تتويج شاهات المستقبل. وقد نجح نادر حيث فشل الإسكندر. ومع ذلك فلم يحاول الإحتفاظ بالهند ولكنه رد إلى محمد شاه معظم أراضيه بينما إحتفظ بالأقاليم الواقعة على الضفاف الجنوبية لنهر الأندوز التى كانت تتبع الإمبراطورية الفارسية زمن دارايوس العظيم. لكن شهيته إلى الفتح لم تكن قد اُُُشبعت بعد فإستدار نحو الدويلات الأزبكية فى تركستان الواقعة إلى الشمال الغربى وإستولى على سمرقند وبخارى وتوغل فى القوقاز لإيقاف الروس المتقدمين. وفى حوالى سنة 1740م لم يكن فقط قد إسترد ووسع حدود فارس ولكنه أيضاً كان قد جعل منها قوة عسكرية كبرى. ومع ذلك فقد كانت عبقريته مجرد عبقرية عسكرية فلم تكن الإدارة العادلة الفعالة للإمبراطورية تعنيه. كان بونابرتاً فارسياً ولكن بدون قوانين نابوليون. كان جافا قاسياً شكاكاً مما جعله مكروهاً من رعاياه. وفى سنة 1747م قُتل على يد جماعة من ضباطه دون أن يحزن عليه أحد. وأعقب ذلك حوالى خمسين سنة من الفوضى النسبية بسبب تنازع المطالبين بالعرش. وفى سنة 1794م تمكن أغا محمد من قبيلة القجر من هزيمة أعدائه وجعل من نفسه شاها. ورغم أنه كان خصياً ( حيث كان قد خصى عندما أخذ أسيراً فى طفولته ) فقد كان مؤسس مملكة القجر التى عاشت حتى سنة 1925م. وبعد إستيلائه على مدينة طهران جعلها عاصمته.
وبعد إغتياله فى سنة 1797م خلفه ابن أخيه فتح على الذى حكم حتى سنة 1834م. ومع بدايات القرن التاسع عشر إنتهت عزلة فارس الطويلة عن الغرب. كانت الإمبراطورية العثمانية المعادية لفارس والتى عملت كحاجز حماية لها من الغرب فى حالة إضمحلال لايمكن علاجه. كانت بريطانيا تسيطر على الهند كما سيطر أسطولها على مياه الخليج. وكانت الإمبراطورية الروسية تواصل توسعها الإستعمارى الكبير شرقاً فى عمق آسيا والذى كان قد بدأ فى حكم بطرس الأكبر. وعلى مدى القرن التاسع عشر كله حُصرت فارس بين ضغط شقى كماشة تلك القوتين.
ومع ذلك فقد كانت فرنسا - وبصفة خاصة الطموح الكبير لنابوليون بونابرت - هو الوسيلة التى أدخلت فارس فى مدار السياسات الأوربية. فبعدما فشل فى محاولته إستخدام مصر كمنطلق للهجوم على بريطانيا فى الهند خطط نابوليون فى سنة 1800م لغزو الهند عبر أفغانستان بالتحالف مع بول قيصر روسيا. وربما كانت الخطة غير عملية بالمرة ولكنها مع ذلك قد أثارت مخاوف حكام الهند البريطانيين للغاية. وقد أُجهضت هذه الخطة بسبب إغتيال القيصر بول فى سنة 1801م ومع ذلك فقد إستمر التهديد الفرنسى. وعندما ضم الروس المتقدمون مقاطعتى جورجيا ثم أعلنوا الحرب على فارس سنة 1805م وإحتلوا ديربنت وباكو لجأ الشاه الفارسى فتح على إلى فرنسا طلباً للمساعدة. وبموجب معاهدة فينكشتين الفرنسية الفارسية سنة 1807م تعهد نابوليون بإسترداد الأقاليم التى إحتلتها روسيا. ولكن سرعان ماعقد بونابرت السلام مع القيصر إسكندر وتُركت فارس لتواجه روسيا وحدها. وبموجب معاهدة جوليشتان سنة 1813م والتى أنهت حرباً ميئوساً منها تنازلت فارس عن جورجيا وباكو وأقاليم أخرى لروسيا. ولكن النزاع لم يكن قد إنتهى بعد حيث ظلت ثلاث مقاطعات حدودية محل نزاع. وعندما قامت روسيا بإحتلالها قسراً فى سنة 1827م وجد الشاه نفسه مضطراً بسبب ثورة الرأى العام الفارسى إلى إعلان الحرب على روسيا. وبعد بعض النجاحات المبدأية إنتهت تلك الحرب أيضاً بكارثة على فارس -وبشكل أساسى- بسبب رفض الشاه دفع رواتب جنوده أثناء فصل الشتاء. وبموجب معاهدة التركمان المذلة سنة 1828م لم تتخل فارس فقط عن مطالبها فى جورجيا وأقاليم أخرى كانت قد فُقدت فى الحرب السابقة ولكنها دفعت أيضاً تعويضات باهظة ومنحت كثيراً من الإمتيازات التشريعية للمواطنين الروس فى الأراضى الفارسية والتى تشبه الإمتيازات الأجنبية فى الإمبراطورية العثمانية. كانت تلك المعاهدة ومعاهدة أخرى تزامنت معها تنص على مبدأ التجارة الحرة بين روسيا وفارس وقد وضعت الأساس للعلاقات المستقبلية بين فارس والقوى الأوربية الأخرى .
كان إهتمام بريطانيا الأساسى فى الإقليم فى بداية القرن التاسع عشر هو الحفاظ على أفغانستان كحاجز ضد الطموحات الفرنسية والروسية فى الهند. وفى سنة 1800م أرسلت بريطانيا بعثة إلى فارس كانت الأولى منذ أيام الملك شارل الثانى وكان يقودها ضابط إسكتلندى شاب هو الكابتن فالكوم وكانت تهدف إلى إقناع الشاه بإخضاع أمير كابل الأفغانى الطموح للنفوذ الفارسى وذلك لمواجهة أية مخططات فرنسية أو روسية محتملة وكذلك لتوقيع معاهدة سياسية وتجارية مع فارس. كانت البعثة ناجحة ولكن المعاهدة إنهارت سنة 1807م عندما رفضت بريطانيا تقديم المساعدة ضد العدوان الروسى على حدود فارس الشمالية الغربية. ومع ذلك - إستمر الإهتمام البريطانى وفى سنة 1814م وُقعت معاهدة أخرى وافق بموجبها الشاه على عدم توقيع أى معاهدات أو التعاون عسكرياً مع أى دولة تعادى بريطانيا وفى المقابل تقرر أن تحصل فارس على معونة سنوية بمائة وخمسين ألف جنيه إسترلينى ، تنتهى إذا ماتورطت فارس فى أى حرب عدائية. وبالفعل سُحبت المعونة فى سنة 1827م وعندما كانت فارس عمليا هى الطرف المعتدى فى حربها الكارثية الثانية ضد روسيا. وعندما مات فتح على خلفه حفيده محمد شاه (1834-1848م) .
كان الشاه الشاب مصمماً على إكتساب شهرة بإسترداد بعض أقاليم فارس المفقودة. ومع ذلك فقد كان حكيماً لدرجة تكفى لتجعله يرى أنه لن يستطيع شيئاً لإيقاف إندفاع روسيا الإستعمارى فى إقليم تركستان والذى كان قد توقف مؤقتاً فقط بسبب حرب القرم لكنها ظلت تتابعه بلا هوادة خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر. وبدلاً من ذلك - وبتشجيع من روسيا - إستدار الشاه شرقاً محاولاً غزو إقليم هرات فى شمال غرب أفغانستان والأقاليم الواقعة خلفه. وشعرت بريطانيا بالخطر فوراً. لم تعد فرنسا تمثل أى خطر على الهند ولكن روسيا التوسعية بدت فى منتهى الخطورة. وكانت المعاهدة الفارسية الروسية فى سنة 1828م تعطى للروس الحق فى تعيين قناصل فى كل الإقليم الفارسى. قدمت بريطانيا المساعدة لحكام هيرات الأفغان ومارست ضغطاً على الشاه بإحتلال جزيرة خرج فى الخليج. وإضطر محمد شاه للتخلى عن حصار هيرات.
تابع ناصر الدين شاه الذى خلف أباه محمد شاه فى سنة 1848م - وكان فى السابعة عشرة من عمره و حكم ثمانية وأربعين عاماً - نفس السياسة محاولاً أن يسترد الأقاليم الواقعة إلى الشرق بتشجيع من روسيا. وإعترضت بريطانيا وفرضت معاهدة على فارس تعهد الشاه بموجبها بالإمتناع عن أى تدخل فى أفغانستان. وعندما سيطر ناصر الدين شاه على هيرات سنة 1856م من خلال أحد المرشحين الأفغان للحكم - وبالرغم من وجود المعاهدة مع بريطانيا – قامت بريطانيا مرة أخرى بإحتلال جزيرة خرج وأنزلت قواتاً بالقرب من بوشاير ثم تقدمت براً وهزمت قوة فارسية كبيرة. وعندئذ إنسحب البريطانيون وأبحروا إلى أعالى شط العرب عند رأس الخليج وإستولوا على ميناء المحمرة. وبموجب معاهدة اُبرمت فى باريس سنة 1857م وافقت فارس على أن تنسحب من هيرات وأن تعترف بمملكة أفغانستان. وفى السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر أكملت روسيا غزوها لوسط آسيا وتاخمت حدودها حدود فارس فى الشمال الشرقى وكذلك فى الشمال. وإمتد الحد المشترك بينهما لألف ومائتى ميلاً من جبل إرارات وحول بحر قزوين إلى حدود أفغانستان. وبالنظر إلى ضعفها فقد أضحت كل وسائل فارس فى مواجهة الضغط الروسى هى طلب مساعدة بريطانيا وقد إستدعى ذلك تقديم سلسلة من التنازلات للمصالح التجارية البريطانية. وعلى مدى القرن التاسع عشر كله حكم شاهات فارس حكماً مطلقاً وبقليل من الحدود على سلطاتهم الشخصية. وإحتفظت قبائل الرحل فقط التى كانت تساوى حوالى ربع السكان وتسكن سلاسل الجبال على طول حدود فارس الغربية والشرقية ببعض الشعور بالإستقلال ، ونظرت إلى الملكية ببعض الإزدراء. أما الغالبية العظمى من باقى السكان فقد تألفت من مزارعين فلاحين أميين يعيشون قريباً من مستوى الكفاف فى قرى طينية صغيرة. ورغم أنهم كانوا أحراراً من الناحية القانونية فقد كانوا عملياً مقيدين بالأرض.
أما معظم ملاك الأراضى- الذين كانوا يقيسون ثرواتهم بعدد القرى التى يملكونها- فكانوا غائبين عنها يعيشون فى المدن الكبرى تاركين إدارة قراهم فى أيادى وكلائهم. وبرغم ثرائهم وسلطتهم على الفلاحين فإنهم لم يشكلوا طبقة إقطاعية متماسكة يمكن لها أن تتحدى سلطة العرش المطلقة. وكان الشاهات وكملاك نهائيين لجميع الأراضى لايترددون فى مصادرة ممتلكات اى من الملاك ، عندما يكونون فى حاجة إلى المال. لم يكن هناك أى نوع من الطبقة التجارية أو المهنية الأوربية. ففى فارس الشيعية كانت الهرمية الدينية التى تتكون من الملالى وطبقة عليا أفضل تعليما من المتحدثين المثقفين فى القانون الإسلامى أكبر كثيراً من نظيرتها طبقة العلماء فى العالم الإسلامى السنى. ولكن وعلى الرغم من تأثيرها على الناس فنادرا ماكانت تختار أن تتحدى سلطة العرش. أما النظير الأقرب للطبقة الوسطى فقد مثله التجار الذين تراوحوا من الباعة المتجولين إلى مصدرى السجاجيد والمنسوجات الأثرياء والتى كانت فى الواقع هى كل بضائع فارس المصنعة. ومع ذلك فإن فقدان هذه الطبقة للتماسك كان يعنى أن نفوذها السياسى كان محدوداً جداً. وقد أتى التحدى الأكبر للشاهات من قادة الفرق الدينية.
وفى الأربعينيات من القرن التاسع عشر حدث عصيان بقيادة أغا خان الزعيم الروحى للإسماعيلية ثم حدث عصيان آخر بقيادة حركة بابى التى أسسها ميرزا على - وهو ابن تاجر شيرازى - وقام بعد أن حج إلى مكة بإعلان نفسه (بوابة إلى الحقيقة المقدسة) وقد إنتشرت حركته وأصبحت على قدر كبير من القوة لدرجة إضطرت ناصر الدين شاه لشنق ميرزا على سنة 1850م. وبعد سنتين من ذلك التاريخ قامت جماعة بابى بمحاولة لإغتيال الشاه مما أدى لتعرض الفرقة لإضطهاد عنيف إضطر معظم من بقى من أفرادها على قيد الحياة إلى الهرب خارج البلاد. ومع ذلك فقد إستمر فصيل من حركة بابى ممثلاً فى الباهيز ( حركة بابى ). ولم تهدد تلك الأخيرة الشاهات لكنها ظلت موضع شكوكهم. أسس ميرزا تاكى خان الوزير القدير والمخلص الذى عينه ناصر الدين شاه عند إعتلائه العرش النظير الأقرب لحركة الإصلاح الإسلامى فى فارس القرن التاسع عشر. وحيث تأثر بإصلاحات التنظيمات فى تركيا العثمانية فقد أقنع الشاه بإعادة تنظيم القوات المسلحة وضمان دفع رواتبهم بالشكل المناسب ووضع حداً لبيع الألقاب والوظائف وكثيراً من السلبيات الأخرى . وكان مسئولاً أيضاً عن تأسيس ( إيكولى بوليتيكنيك) أو دار الفنون فى طهران وكذلك عن تأسيس أول صحيفة فارسية. ولكن إصلاحاته كانت قصيرة العمر. فقد نجحت أم الشاه- الرهيبة- فى إقناعه بان تاكى خان قد أصبح قوياً بأكثر مما يجب بحيث أمر بإعدامه. ورغم بعض أفعاله الوحشية – العرضية - فقد كان الشاه ناصر الدين وبشكل عام حاكماً إنسانياً لكن إتجاهاته الإصلاحية والليبرالية والتى شجعها تاكى خان لم تستمر. فقد تأثر بفشل الحركة الدستورية فى تركيا العثمانية بسبب عودة عبد الحميد الثانى السريعة إلى الحكم المطلق سنة 1878م. وفى السنوات الأخيرة من حكمه مارس الشاه الحكم بشكل مطلق كأى من أسلافه. كان إنجازه الأعظم هو إقرار الأمن فى جميع أنحاء الإمبراطورية . كان هناك بعض أوجه التحديث المحدودة فى شكل الطرق المعبدة وفى التلغراف الكهربى- الذى أسسته الشركة الهندية الأوربية للتلغراف - والتى كانت تعمل نيابة عن الحكومة البريطانية فى الهند لخدمة مصالحها الإستعمارية. أما دار الفنون فى طهران فقد كانت تدرس العلوم والهندسة بالأساليب الحديثة كما كان هناك نمو طفيف فى نشر الصحف والكتب. ومع ذلك ، وبشكل عام ، فإن نظم الإدارة والتعليم والعدالة - والتى كانت تطبق كل من القوانين الإسلامية والتقليدية المتعارف عليها قبل الإسلام - قد ظلت فى مستويات العصور الوسطى. وكان الشاه يستمتع بالسفر إلى أوربا ولكنه منع الطبقة العليا الفارسية من تعليم أبنائها فى الخارج خشية أن يتأثروا بالأفكار الغربية.
كان الشاه وبلاطه كثيرى التبذير والمطالب. فلكى يحمى عرشه إحتفظ بقوات عسكرية كبيرة مرتفعة التكاليف رغم عدم فعاليتها وفسادها وضعف رواتبها. ولأن التطور الإقتصادى كان ضعيفاً جداً كما أن العائدات من بيع المناصب الحكومية كانت محدودة فقد كان دخل الدولة قليلاً للغاية. ومن ثم لجأ الشاه إلى منح الإمتيازات إلى المصالح الأجنبية وكان أهم تلك الإمتيازات هو الإمتياز الذى منح للبارون جوليوس دى رويتر- أحد الرعايا البريطانيين المتجنسين - سنة 1873م. ولأن الإمتياز كان يشمل كل فارس فقد اُعطى البارون إحتكاراً لمدة سبعين عاماً فى بناء وتشغيل كل السكك الحديدية والترامواى وإستغلال كل المصادر المعدنية والغابات الحكومية بما فى ذلك الأراضى غير المزروعة وحق الإختيار على كل المشروعات المستقبلية المرتبطة ببناء الطرق وخطوط التلغراف والطواحين والمصانع والورش والأشغال العامة من كل نوع وكذلك الحق فى جمع العائدات الجمركية الفارسية لمدة خمس وعشرين سنة. وفى المقابل كان على دى رويتر أن يدفع للحكومة الفارسية 20% من أرباح السكة الحديد و15% من أرباح كل مشروع آخر. وقد علق لورد كيرزون على ذلك بقوله ( أن ذلك يمثل أكمل وأغرب وقوع لكل الموارد الصناعية لمملكة فى أيدى أجنبية والذى – ربما- لم يُحلم بمثله أبداً وليس له نظير فى التاريخ ). وقد إعتقد الشاه بسذاجة أنه بمنح ذلك الإمتياز يكون قد أمن بعض العائدات وفى نفس الوقت يكون أيضاً قد عهد إلى بريطانيا بعملية الإنعاش الإقتصادى لبلاده. إلا أن رد فعل روسيا العنيف قد أجبره على إلغاء الإمتياز. ولكنه إضطر فى سنة 1899م تحت الضغط البريطانى إلى تقديم إمتيازاً أكثر محدودية مكن دى رويتر من تأسيس بنك فارس الإمبراطورى مع حق إصدار أوراقه المالية وحق التنقيب عن النفط. ولكن بسبب إستعداده الكبير هذا لرهن موارد بلاده فقد ناصر الدين شاه شعبيته فى سنواته الأخيرة وبدأت حركة ليبرالية إصلاحية فى الظهور. ورغم أن فارس كانت منعزلة عن الغرب أكثر من تركيا العثمانية فقد كان هناك نوع من الإختراق للأفكار والأساليب الغربية عن طريق البعثات العسكرية الأجنبية وموظفى البنوك والقنصليات والمبشرين المسيحين الذين سُمح لهم بتأسيس مدارس ومستشفيات. وقد إكتسبت حركة الإصلاح دافعاً قوياً آخر من مصدر آخر هو المصلح والمبشر بأفكار الجامعة الإسلامية ، جمال الدين الأفغانى. إنجذب الشاه إلى كتابات الأفغانى الصادرة من منفاه فى باريس فدعاه فى سنة 1886م إلى فارس حيث أصبح عضواً شرفياً فى المجلس الملكى.
ومع ذلك ، فسرعان مابدأ الأفغانى فى بث الأفكار الهدامة والثورية مما أثار مخاوف الشاه ووزرائه ولذا فعندما قام الأفغانى فى سنة 1890 بقيادة الإستنكار الشعبى لمنح إمتياز خاص بالتبغ لمجموعة بريطانية ، تم نفيه إلى باريس. ولكن حركته إستمرت وفى سنة 1896م قام أحد تلاميذه بإغتيال ناصر الدين شاه.
وإشتدت حركة الإصلاح خلال حكم ابن ناصر الدين- مظفر الدين- المريض الضعيف والذى فاق أبيه تبذيراً. وظهر قيادى جديد هو مالكوم خان- السفير الفارسى فى لندن- الذى قاد حملة ضد رئيس وزراء الشاه. وعندما طُرد من الخدمة قام بإصدار صحيفة أطلق عليها اسم ( القانون ) دعى فيها إلى إصدار مجموعة قوانين ثابتة والدعوة إلى عقد برلمان. وبرغم أن الصحيفة قد مُنعت فى فارس فقد حققت مع ذلك إنتشاراً واسعاً فى البلاد. وفى سنة 1903م عين الشاه صهره القدير إينودولا - شديد الرجعية مع ذلك - ليستأنف السيطرة على شئون الحكومة. ولكن أفعاله أثارت مزيدا من المعارضة ووصلت الأزمة إلى ذروتها فى سنة 1905م حيث قامت جماعة من التجار الذين أغضبهم تبذير وفساد البلاط ومديونية البلاد المتزايدة - التى إضطرت الحكومة إلى إدخال تعريفة جمركية باهظة جديدة - بالإعتصام بمسجد طهران تبعاً لعادة قديمة من أجل التعبير عن شكواها. وإنضم إليهم بعض الملالى البارزين وعندما وعد الشاه بالإستجابة إلى بعض مطالبهم ثم تراجع وزاد فى القمع قامت جماعة أكبر تضم كثيراً من وجهاء البلاد من التجار ورجال البنوك والموظفين بالإعتصام فى أفنية دار البعثة البريطانية للمطالبة فى إصرار بإدخال نظام قانونى وأيضاً وللمرة الأولى بدستور. وفى أكتوبر 1906م إستجاب الشاه - المتدهور الصحة- ولكن كارها. وعلى أثر ذلك عُقد مجلساً صاغ القانون الأساسى للدستور. ونالت الثورة الدستورية- كما عُرفت- دعم كل الأمة بالفعل وكانت علامة بارزة فى تاريخ فارس. حاول الشاهات التالون تغيير ذلك ولكن أحدا منهم لم ينجح وإستمر فى فارس شكلاً من أشكال الحكومة الدستورية النيابية حتى اليوم. كان الدستوريون الفرس قد إستمدوا بعض الإلهام من محاولة نظرائهم الروس إنهاء الحكم الأوتوقراطى للقيصر سنة 1905م. كما كان هناك حافز آخر ولدته الحرب الروسية اليابانية فى نفس السنة والتى هزمت فيها وللمرة الأولى دولة آسيوية مُحدثة أحد القوى الأوربية العظمى.
وقد مثل ذلك أيضاً - وفى نفس الفترة - إلهاماً للقائد الوطنى المصرى مصطفى كامل. كان لحركة الإصلاح فى فارس بالمزيج العلمانى والدينى الذى مثلته شخصية فارسية حقيقيه . وفى سنة 1907م تولى بعد مظفر الدين ابنه محمد على الذى حكم لسنتين فقط فى خضم إضطرابات مستمرة. ومثل أبيه راح يكرر الوعد بقبول الإصلاحات ثم يتجاهل ماوعد به بعد ذلك. وفى أحد المراحل قام بقذف البرلمان بالقنابل - بعدما فشل فى حله- فقتل وجرح كثير من النواب. وأدى هذا إلى وقوع إضطرابات عنيفة فى تبريز عجزت قواته عن قمعها. وتدخلت القوات الروسية - ظاهرياً - من أجل حماية المواطنين الروس. وإستجمعت القوات الوطنية قواها وزحفت على طهران وعندما عجز الشاه عن المقاومة هرب إلى دار البعثة الروسية. وبعدما غادر إلى المنفى فى روسيا قرر المجلس أن يخلفه على العرش ابنه الأكبر - البالغ من العمر أحد عشرة سنة - أحمد ميرزا.
لم تكن ثورة المشاعر الشعبية بسبب أفعال الشاه فقط ولكن أيضاً بسبب الإتفاقية الإنجليزية الروسية فى أغسطس 1907م والتى صُممت لتسوية الخلافات العالقة بين فارس وأفغانستان. كانت كلتا القوتين تتوقعان بالفعل الصراع القادم مع ألمانيا الإمبراطورية والذى كان يحمل إحتمالات قوية بأن تصبح فيه تركيا العثمانية حليفاً لألمانيا. وقسمت الإتفاقية – عملياً- فارس إلى مناطق نفوذ روسية وبريطانية تحصل فيها روسيا على الشمال والوسط وتحصل بريطانيا على الجنوب الشرقى على أن يبقى الجنوب الغربى منطقة محايدة. أُصيب الرأى العام الفارسى بالإحباط والغضب عندما أصبحت هذه الإتفاقية معروفة وكان يُعتقد أن بريطانيا وبشكل خاص تتعاطف مع الثورة الدستورية. ولكن المصالح الإستراتيجية الأوسع للقوى الكبرى لم تأبه للشعب الفارسى ومن ثم اُعتبرت روسيا وبريطانيا ، القوتان الإستعماريتان اللتان كانتا تنشدان تحطيم إستقلال فارس. ويمكن أن يقال أن بريطانيا قد حصلت على أسوأ مافى إتفاقية 1907م لأن جنوب شرق فارس كان يتكون أساساً من صحراء. ومع ذلك فإن المصالح البريطانية فى فارس كانت على وشك تحقيق مكسب كبير. فقد تخلى دى رويتر عن إمتيازه التعدينى بعد سنتين بعد أن فشل فى العثور على النفط ولكن فى سنة 1901م كان الشاه مظفر الدين قد منح رجلاً إنجليزياً يدعى ويليام نوكس دى آرشى إمتيازاً يتعلق بالنفط والغاز لمدة ستين سنة يشمل كل الإمبراطورية الفارسية. وضغطت الحكومة البريطانية بقوة لصالح دى آرشى من خلال البعثة الدبلوماسية فى طهران وإستطاع رئيس الوزراء الفارسى- الذى نجحت بريطانيا فى إستمالته- الإحتفاظ بالصفقة سراً عن الروس حتى تم توقيعها.
بحث دى آرشى عن النفط لعدة سنوات دون أن يحرز أى نجاح وبعد أن اُُستهلكت موارده المالية تقريباً بدأ يبحث فى العالم عن مستثمرين جدد. وعند هذه المرحلة تدخلت الأدميرالية البريطانية. كان وزير البحر البريطانى - النشط مستقل التفكير - الأدميرال جون فيشر قد عزم منذ وقت طويل على أن يحول السفن البريطانية من إستخدام الفحم إلى إستخدام النفط. وقد رأى أن ذلك قد يزيد من قدراتها القتالية بمعدل خمسين بالمائة. ولكن90% من نفط العالم كان ينتج آنذاك فى الولايات المتحدة وروسيا كما أن الباقى كانت تشمله الإمتيازات بالفعل. كانت شركتا ستاندرد أويل وشيل الهولندية الملكية تسيطران على السوق العالمى. وكان من الضرورى إيجاد مصدر مستقل يدخل فى نطاق السيطرة البريطانية. وفى سنة 1905م أقنعت الأدميرالية البريطانية شركة النفط البورمية البريطانية بالإنضمام إلى دى آرشى وتوفير إعتمادات مالية جديدة. وفى سنة 1908م نجح مهندسو دى آرشى - وهم على وشك التخلى عن التنقيب يائسين - فى الوصول إلى واحد من أكبر حقول النفط فى العالم فى منطقة مسجد آى سليمان فى شمال غرب فارس. وتكونت شركة النفط الإنجليزية الفارسية وطرحت أسهمها للبيع على جمهور شديد الحماس. ولكن ظل هناك صعوبات فلم تكن تلك الحقول واقعة فى نطاق النفوذ البريطانى ولكن فى المنطقة المحايدة. وكان شيخ المحمرة العربى- شبه المستقل - يعتبر هذه المنطقة ضمن إقليمه. وهددت القبائل المغيرة خط الأنابيب الذى اُُحتيج إلى وجوده من أجل تصدير النفط إلى الخليج. وبناء على ذلك وقعت بريطانيا إتفاقية إعترفت فيها بالشيخ وحلفائه كحكام شرعيين للمحمرة مقابل أجر سنوى وتعهد الشيخ بموجب ذلك بحماية منشآت النفط. وفى سنة 1911م أصبح الشاب ونستون تشرشل وزيرا للبحر فى حكومة بريطانيا الليبرالية وبدأ فى مباشرة برنامج تنموى ضخم باهظ التكاليف من ثلاث سنوات من أجل تطوير الأسطول. وبالإضافة إلى الأهمية الإستراتيجية القصوى لفارس فى الإمبراطورية البريطانية كان النفط الفارسى ذا أهمية عسكرية حاسمة. وفى يونيو 1914م تماماً قبل إندلاع الحرب العالمية بشهرين قدم تشرشل لمجلس العموم إتفاقية تضمن شركة النفط الإنجليزية الفارسية بموجبها توفير إمدادات النفط لمدة عشرين سنة على أن تشترى الحكومة البريطانية الحصة الأكبر من أسهم الشركة- التى عرفت فيما بعد بإسم شركة النفط الإنجليزية الإيرانية وأخيراً بشركة النفط البريطانية - مقابل 2.2 مليون جنيه إسترلينى. وبالرغم من مخاوف قليل من أعضاء مجلس العموم من أن ذلك قد يثير الروس ومن ثم يضعف أكثر موقف الحكومة الفارسية فقد تم التصديق على الإتفاقية بأغلبية ساحقة.
وقد قدر تشرشل بعد ذلك بأن ذلك الإستثمار قد جلب مدخرات بلغت 40 مليون جنيه إسترلينى ومول التطويرات العملاقة للأسطول البريطانى دون أى تكلفة على دافع الضرائب البريطانى. ومع وجود الشاه أحمد ميرزا - ذو الأحد عشر عاماً - على العرش أصبح الوضع الداخلى فى فارس أكثر فوضوية. وإنشق الوطنيون المنتصرون إلى حزبين ، ثوريين و معتدليين. وأرسل الروس قوات إلى زفين فى إقليم طهران رغم الإعتراضات البريطانية مستعملين نفس الحجة المتكررة بحماية مواطنيهم. وأظهر نقص الخبرة الإدارية فى النظام الفارسى الجديد الحاجة الملحة للمستثمرين الأجانب. ولكن لأن لا البريطانيون ولا الروس كان يمكن أن يوافقوا على تعيين أى من مواطنى الدولة الأخرى فقد كان لابد من البحث عن هؤلاء فى مكان آخر. ولذلك تم تعيين بلجيك كمسئولين عن الجمارك كما قُدم طلب من أجل ذلك إلى الولايات المتحدة وأوصى الرئيس تافت بالمحامى الخبير والناشط المدنى وليام شوستر والذى عُين بالفعل سنة 1911م مسئولاً عن المالية الفارسية بسلطات كاملة لمدة ثلاث سنوات. ورغم أن الولايات المتحدة لم تكن بأى حال قوة إستعمارية فى الشرق الأوسط فى تلك الفترة فقد إعترض الروس بشدة وأصروا على معارضتهم إلى درجة هددوا معها بإحتلال طهران. وعلى ذلك قام الوصى على العرش- ناصر الملك - بإنقلاب وحل المجلس وخضع للمطالب الروسية بطرد شوستر وزملائه فى يناير 1912م. كانت مجهودات شوستر على وشك أن تؤتى ثمارها ولكن البلاد أصبحت آنذاك فى حالة إضطراب أكبر. وذهبت إعتراضات حكومة الولايات المتحدة والرأى العام الحر فى بريطانيا سدى لأن الحاجة إلى ضم روسيا فى الحرب المحتملة مع ألمانيا كانت أهم للحكومة الليبرالية فى بريطانيا. وعندما نشبت الحرب فعلاً وتحالفت تركيا مع ألمانيا إضطر التهديد التركى للإقليم الروسى ولآبار النفط فى الجنوب روسيا وبريطانيا لإحتلال جزء من فارس رغم إعلانها الحياد.





























الفصل الثامن


الرجل المريض يحتضر1918م




























8 - الرجل المريض يحتضر 1918م .

تقرر مصير الإمبراطورية العثمانية فى نوفمبر 1914م عندما دخلت تركيا الحرب الأهلية المسيحية الأوربية فى تحالف مع قوى المحور ، ألمانيا ودولة النمسا والمجر ضد بريطانيا وفرنسا. وكما رأينا فإن الدول الأوربية الكبرى - وبالإستثناء المتقطع لروسيا - كانت تفضل أن تحافظ على وحدة تركيا الآسيوية وممتلكاتها العربية. فرغم أنهم كانوا يتدخلون للضغط على السلاطين المتتابعين من أجل تعزيز مصالحهم إلا أنهم لم يفكروا فى إقتسام الإمبراطورية . كان إحتلال بريطانيا المنفرد لمصر فى سنة 1882م إضطرارياً وعرضياً تقريباً كما إن إسترجاع السلطة العثمانية على مصر كان أمراً مفضلاً ولكنه لم يكن عملياً. ومع ذلك فبمجرد ، أن تم ذلك الإحتلال أصبحت مصر حلقة حيوية هامة جداً فى النظام الإستعمارى العالمى البريطانى وماكان يمكن التخلى عنها. وبصرف النظر عن إستراتيجيتهم فى الحرب فقد كان على الحلفاء الثلاثة أن يتحسبوا لرد فعل ملايين الرعايا المسلمين فى إمبراطوريتهم - مثل العرب فى شمال إفريقيا الفرنسية والشعوب الإسلامية فى الهند البريطانية وفى وسط آسيا الروسية - وإذا ماكانوا على إستعداد للحرب من أجل حكامهم المسيحيين ضد السلطان الخليفة. لقد كان هناك إعتقاد شائع بأن أى مسلم كان فقط ينتظر الدعوة إلى الجهاد أو الحرب المقدسة كى يذبح الكفار. وقد تعجلت الحكومة الثلاثية التى كانت تحكم تركيا فى إصدار مثل ذلك النداء.
كان لبريطانيا إهتمامان إستراتيجيان عاجلان فى الشرق الأوسط وهما حماية قناة السويس وحماية الخليج الفارسى حيث كان كلاهما يمثل رابطة حيوية مع الهند كما كان يجب أن تظل القناة مفتوحة من أجل نقل القوات إلى أوربا. وكان إقليم الخليج قد أصبح آنذاك ذا أهمية إضافية تكمن فى منشآت النفط فى عبدان. كان جمال باشا هو عضو الحكومة الثلاثية العثمانية الذى تولى القيادة فى سوريا. وقد أعلن عند دخوله القطار فى إسطنبول ( لن أرجع حتى أدخل القاهرة ) . كان جمال قائداً قديراً وكان يساعده رئيس أركان ألمانى لامع هو فون كريشنشتين. كانت مصر قد خلت من القوات البريطانية التى أُرسلت إلى فرنسا وإقتصرت القوات المدافعة عنها على بعض القوات الأسترالية والهندية التى جُمعت على عجل تساندها بعض قوات المدفعية المصرية وطوافتان فرنسيتان تصادف وجودهما فى القناة.
تم صد هجوم جمال الأول على القناة فى يناير 1915م وتبددت آماله فى ثورة الجماهير المصرية ضد المحتلين البريطانيين. ومع ذلك وبمساعدة رجال قبائل البدو فى سيناء إستطاع فون كريشنتشين أن يُجبر القوات البريطانية على المرابطة على حدود القناة لمدة عامين. ونجح الألمان أيضاً فى إثارة رجال القبائل السنوسيين- محبى القتال- فى سيرينكا ( قورينة). ورغم أن هؤلاء لم يمثلوا تهديداً عسكرياً فعلياً فقد إضطروا أيضاً قسماً كبيراً من القوات البريطانية لأن يظل مرابطاً على الحدود. وبمجرد أن نشبت الحرب مع تركيا تم إنزال فرقة هندية فى البصرة حيث إستولت عليها بدون صعوبة وبدأت فى الزحف على بغداد. اُصيبت بريطانيا بنكسة خطيرة عندما اُحيط بقوة إنجليزية هندية كبيرة عند منطقة الكوت واُجبرت على الإستسلام. ولكن بغداد سقطت فى مارس 1917م وعند نهاية الحرب كانت القوات البريطانية تسيطر على معظم أراضى العراق الحالى. وبالنسبة للأتراك فقد كانت الحرب قد بدأت بشكل مأساوى لأنه وبرغم نصيحة الألمان فقد قام أنور باشا - الذى كان قائداً أعلى للقوات المسلحة ووزيراً للحرب فى نفس الوقت - بدفع قواته للهجوم على روسيا فى القوقاز آملاً فى إحداث ثورة بين مسلمى وسط آسيا تساعده على تحقيق أحلامه فى الجامعة الطورانية. أفاق الروس من صدمة الهجوم الأول وبدأت القوات التركية تعانى من البرد المرعب بالإضافة إلى إنتفاضات الرعايا الأرمن الحانقين - على إمتداد الأناضول الشرقية - والذين قاموا بالتشويش على الإتصالات وشكلوا مجموعات متطوعين لمساعدة الروس وإلتحق بعضهم بالقوات الروسية الأرمينية. وإتخذ الأتراك إجراءً إنتقامياً عنيفاً وأمروا بتهجير كل السكان الأرمن من شرق الأناضول إلى شمال سوريا وقُتل منهم مئات الآلاف لكن الأكثرية ماتت من الجوع والعراء والمرض. وقد هلك فى هذه العملية مابين مليون وربع إلى مليون ونصف نفس. و لهذ السبب ، مازال الوطنيون الأرمن يسعون إلى الإنتقام من ممثلى الدولة التركية حتى اليوم. وبرغم النكبة على جبهة القوقاز فقد كانت تركيا مازلت بعيدة عن الهزيمة. وبتعطل الحرب فى فرنسا وصد ألمانيا والنمسا للتقدم الروسى ، حاولت بريطانيا إخراج تركيا من الحرب بإنزال قوات كبيرة تشمل وحدات استرالية فى جزيرة جاليبولى لتهديد إسطنبول. كان المفتش العام الألمانى ليمان فون ساندرز مسئولاً عن الدفاعات التركية وكان مصطفى كمال ( كمال أتاتورك مستقبلاً ) هو التالى له فى القيادة. وبرغم النقص فى الذخيرة فقد حارب الأتراك بإصرار ولم ينجح أى من الطرفين فى زحزحة الآخر عن مواقعه.
ولكن بحلول الشتاء كانت بريطانيا هى التى قبلت بالفشل وسحبت قواتها. إرتفعت معنويات الأتراك وبحركة تجنيد ضخمة زادت قواتهم إلى إثنتين وخمسين فرقة أى حوالى 800000 رجل. ومع ذلك فإن النجاح فى صد بريطانيا فى العراق كان يقابله التقدم المستمر للروس نحو الأناضول الشرقية. كانت القوات التركية مبعثرة حول جبهات عديدة. كان دور مصر فى حملة غاليبولى هو دورمعسكر حربى كبير ومستشفى للحلفاء. وعبر الشعب المصرى عن رد فعله تجاه غزو عشرات الآلاف من قوات الحلفاء الطليقة بمودته اللامبالية التقليدية برغم أن وجود هذه القوات قد سبب إرتفاعاً حاداً فى الأسعار. وأيضاً تم إرسال فيلق عمال من حوالى ثلاثة آلاف مصرى إلى الدردنيل حيث أثبتوا نجاحاً باهراً فى حفر الخنادق. وفى صيف 1916م شن فون كريشنشتين هجومه الأخير على قناة السويس ولكنه ُرد خاسراً. وأصبحت القوات البريطانية التى يقودها الجنرال موراى فى موقف يسمح لها بطرد الأتراك من سيناء. وبحلول ديسمبر 1916م وصلت القوات البريطانية إلى العريش مقابل غزة. اُُجبر الشعب المصرى على الهدوء السياسى بسبب الوجود الضخم للقوة العسكرية البريطانية وإستطاع الفلاحون التعبير فقط عن بعض المقاومة السلبية ضد المطالب المستمرة والمتزايدة للحكومة العسكرية لتسليم أسلحتهم النارية والتطوع لفرقة النقل على الجمال أو فرقة العمال المساعدة. وقد خدم منهم بالفعل عدة آلاف فى فلسطين وفرنسا ومات البعض منهم هناك. أما المشاعر المؤيدة لتركيا والإسلام والتى كانت تخشاها بريطانيا فلم يكن لها وجود تقريباً. وكتب السكرتير الشرقى فى القاهرة السير رونالد ستورز أن المسلمين المتدينين كانوا يهزون رؤوسهم ويقولون ( نتمنى للأتراك كل النجاح ) لكن من بعيد . وقد حدث فقط فى منطقة قناة السويس أن فر بعض المسلمين فى كتيبتين هنديتين من دفاعات القناة وإنضموا إلى الأتراك. ولكن قُبض عليهم وأعدموا رمياً بالرصاص. وأمكن منع إنتشار مثل هذه المشكلة. وتم إحضار دفعات متتالية من الأمراء الحكام المسلمين الهنود ليساعدوا على تقوية معنويات القوات. ولكن قمع الشعور المؤيد لتركيا لم يكن يعنى أن الحركة الوطنية المصرية قد ماتت. وبرغم أنها كانت مضطربة وبدون قيادة فقد كان الطلاب شديدى الوطنية وكانت نواديهم تغلى بمعارضة شديدة للإحتلال وقد شجعوا سرا محاولتين غير ناجحتين لإغتيال السلطان حسين كامل. ومع ذلك فقد عالجت الحكومة البريطانية الموقف ببعض المهارة.
وعندما مات السلطان فى صيف سنة 1917م عارضت الحكومة البريطانية المطالب بضرورة ضم بريطانيا لمصر التى نادى بها بعض أعضاء البرلمان والتى كان يؤيدها السير ريجنالد ويجنت - المندوب السامى الجديد فى القاهرة. كانت بريطانيا مازلت معنية برد فعل بعض القوى الكبرى الأخرى فى المتوسط. وبدلاً من ذلك تم إستدعاء الأمير أحمد فؤاد ابن الخديوى إسماعيل - والذى كان يبلغ 49 سنة من العمر - ليحل محل حسين كامل. لم يمثل الشعور المؤيد لتركيا فى مصر مشكلة كبيرة للبريطانيين وكان هناك إمكانية لتشجيع المشاعر المعادية للأتراك فى ممتلكاتها العربية. لقد كان معروفاً أنه كان لدى العرب سبباً جيداً للإستياء من حكامهم الأتراك خاصة فى أعقاب شهر العسل العربى التركى القصير الذى أعقب الثورة التى قامت بها حركة تركيا الفتاة ولكن المعلومات الإستخبارية التفصيلية عن ذلك لم تكن متوفرة. فقبل أن تدخل تركيا الحرب بستة أسابيع تقدم لورد كتشنر بناء على نصيحة رونالد ستورز إلى الشريف حسين فى مكة ليعرف منه أى طريق قد يتخذه العرب إذا ما تحالفت تركيا مع ألمانيا. كان الشريف حذرا كماً كان كتشنر نفسه مع الأمير عبدالله قبل ثمانية أشهر من ذلك التاريخ فألمح أنه قد يستطيع أن يجعل الحجازيين يثورون ضد الأتراك إذا ماحصل على وعد بتأييد بريطانى كاف. وفى رسالة تالية من كتشنر- الذى كان قد أصبح آنذاك وزيرا للحرب فى مجلس الوزراء البريطانى- وعد الشريف حسين بأنه إذا ماتحرك ضد تركيا فإن بريطانيا سوف تضمن إحتفاظه بلقب الشريف الأكبر وتدافع عنه ضد أى عدوان خارجى. وقد ألمحت الرسالة إلى أنه إذا ما اُُعلن الشريف خليفة فإنه سيحصل على تأييد بريطانيا. كما إشتملت الرسالة على وعد بمساعدة العرب فى الحصول على حريتهم. كانت الرسالة كافية لجعل الشريف حسين يفكر فى الهدف الأكبر لثورة عامة ضد الأتراك بقيادته. ولكن من أجل ذلك فقد طلب مزيداً من الضمانات الأكثر تحديداً من الحلفاء. وإنقضت سنة 1915م وهو يحاول الحصول عليها من القاهرة فى نفس الوقت الذى إستمر فيه فى جس نبض بعض القيادات العربية الأخرى فى الجزيرة العربية ممن كان على إتصال بهم. ولم يكن لدى مجلس الوزراء البريطانى بدوره سياسة واضحة تجاه العرب أو تجاه مستقبل الولايات العثمانية فى آسيا بعد أن تُهزم تركيا. لقد كان من المرغوب فيه - وبشكل واضح - أن تخرج تركيا من الحرب مهزومة بأسرع مايمكن و لكن ذلك فى المقام الأول كان من أجل إعطاء بريطانيا وفرنسا مدخلاً إلى روسيا ورومانيا لتطويق قوى المحور.
لقد كان هناك إفتراض بأن الأتراك قد يتخلوا عن القسطنطينية/إسطنبول ومضيق الدردنيل وأنه من أجل مصالح الإسلام - حسب تعبير وزير الخارجية ادوارد جرى - يجب أن يكون هناك وحدة سياسية إسلامية مستقلة فى مكان آخر . لقد كان من الطبيعى أن يكون مركزها فى الأماكن الإسلامية المقدسة فى الجزيرة العربية ولكن ظل السؤال عما يجب أن تحتوى عليه تلك الأماكن أيضاً ليقرر فيما بعد . كانت سياسة بريطانيا العربية قد تطورت بشكل كانت بريطانيا نفسها تعتبره عملياً ولكن كان العرب يعتبرونه مجرداً من المبادئ. كان السير بيرسى كوكس القائد السياسى والعسكرى لقوات الحملة العراقية التى إحتلت البصرة فى بداية الحرب مدركاً لأهمية كسب ابن سعود - القوة الجديدة فى الجزيرة العربية - إلى جانب بريطانيا. وقد أرسل الكابتن دبليو اتش آر شيكسبير كمبعوث بريطانى إلى البلاط السعودى. وبالفعل أقام شكسبير صداقة مع ابن سعود أثناء رحلاته البطولية الإستكشافية فى الجزيرة العربية. و أصبح الرجل الإنجليزى الذى نال اعجاب الحاكم الوهابى للغاية. ولكن شكسبير قُتل فى مناوشة مع آل الرشيد أعداء السعوديين فى يناير 1915م. وقد بدد موته إمكانية أن تستثمر بريطانيا السعوديين - الذين كانوا يعبرون منذ زمن طويل عن إستقلالهم عن الأتراك ، وكقادة لثورة عربية .
أما بالنسبة للمكتب العربى وهو مجموعة رفيعة من الخبراء البريطانيين المتجمعين فى القاهرة فقد كان هناك أسباب سياسية قوية للتطلع إلى الهاشميين فى الحجاز لقيادة العرب. فقد كان موقف الشريف حسين كحامى للأماكن الإسلامية المقدسة يجعل منه الشخص المناسب لمعارضة دعوة العثمانيين للجهاد ضد الكفار. ولكن فى هذه المرحلة كان لدى بريطانيا قليل من المعرفة عن حالة الرأى العام فى العراق وسوريا برغم أنها كانت فى موقف يسمح لها بسبر مشاعر القيادات العربية فى القاهرة. وبالإضافة إلى ذلك - فقد كان على بريطانيا ان تأخذ بعين الإعتبار مصالح حليفتيها الرئيستين - روسيا وفرنسا. وفى سنة 1915م كان هناك بالفعل مخاوف من أن يؤدى وقوع خسائر روسية كبيرة فى الحرب إلى تراجع الشعب الروسى عن تأييده للحرب. أما فرنسا التى كانت تتحمل الجزء الأكبر من عبء الحرب على الجبهة الغربية فقد كانت تطالب بوضع خاص لها فى سوريا تأسيسا على الروابط السياسية والثقافية الطويلة التى إعترفت لها بها بريطانيا قبل الحرب. وأثناء سنة 1915م بدأت بريطانيا مفاوضات سرية مع حليفيتيها بخصوص مستقبل كل الأراضى العثمانية. وبرغم كونها بريطانية فقد كان لدى حكومة الهند أيضاً مصالحها الخاصة ووسائلها للضغط على لندن وكانت تعتبر ميزوبوتاميا والخليج والجزيرة العربية إهتماماً خاصاً لها. ولذا فإنه ليس مما يثير الدهشة أن بريطانيا كان ينقصها سياسة متماسكة تجاه العرب.
ناقشت الحكومة البريطانية الإتفاقية مع الشريف حسين ليبدأ ثورته ضد الأتراك من خلال مراسلات تمت بين يوليو 1915م وفبراير 1916م بواسطة سير هنرى مكماهون المندوب السامى البريطانى فى مصر. كان هدف الشريف هو ضمان تأييد بريطانيا للإستقلال العربى فى كل الولايات فى الإمبراطورية العثمانية من ميرسين فى الشمال والحدود الفارسية فى الشرق والبحر المتوسط فى الغرب والبحر الأحمر والمحيط الهندى فى الجنوب. كان الإستثناء المؤقت الوحيد الذى كان الشريف مستعداً لقبوله هو عدن. وبلاشك فقد كان يعرف أن بريطانيا ماكانت تقبل كل مطالبه ولكنه كان يطرح الحد الأقصى لموقفه التفاوضى. كان خطاب مكماهون الحاسم هو خطابه الثانى المؤرخ فى 24 اكتوبر 1916م والذى وعد فيه بتأييد بريطانيا للإستقلال العربى فى المناطق التى إقترحها الشريف مع بعض التحفظات وهى أن مقاطعات ميرسين والإسكندرونة وأجزاء من سوريا تقع إلى الغرب من أقاليم دمشق وحمص وحماة وحلب لايمكن أن يقال أنها عربية تماماً وعلى هذا الأساس يجب أن تُستثنى من التحديد المقترح. وكما قال فى بعض فقرات الخطاب ( وبناء على هذا التعديل ودون تجاوز المعاهدات المعقودة بيننا وبين بعض الرؤساء العرب فنحن نقبل التحديد التالى وهو أن الأقاليم التى تقع داخل الحدود المقترحة والتى تكون فيها بريطانيا العظمى حرة فى العمل بدون إضرار بمصالح حليفتها فرنسا فأنا مفوض بأن أعطيك الوعود التالية نيابة عن حكومة بريطانيا العظمى وأن أجيب بالآتى على ملاحظاتك بأنه بناء على التعديلات السابق ذكرها فإن بريطانيا العظمى مستعدة لأن تعترف وتؤيد إستقلال العرب فى كل الأقاليم الواقعة داخل الحدود التى إقترحها شريف مكة ). وفى فقرات أخرى فى نفس الخطاب قال مكماهون ( أنه كان قد أصبح مفهوماً أن العرب قد قرروا فعلاً مشورة ونصيحة بريطانيا العظمى وحدها فقط وأن المستشارين الأوربيين والموظفين الذين يمكن أن يُحتاج إليهم لتأسيس نظام متين من الإدارة سوف يكونوا بريطانيين ) وأضاف ( أنه يعتبر أنه قد تم الموافقة على أنه بخصوص ولايتى بغداد والبصرة يدرك العرب حقيقة أن موقف بريطانيا العظمى ومصالحها المؤسسة هناك سوف يستدعى إقامة ترتيبات إدارية خاصة لحماية هذه الأقاليم من العدوان الخارجى ولتنمية رفاهية سكانها وحماية مصالحنا المشتركة ) .
كان الغموض فى بعض هذه العبارات متعمداً بلا شك وكان الشريف الفطن مدركا لأسباب ذلك وقد إعترض بشدة على إستثناء ساحل المتوسط السورى من منطقة الإستقلال العربى قائلاً أن ولايتى حلب وبيروت لايمكن إعتبارهما أى شئ إلا ولايات عربية. وقد وافق بصعوبة على تعليق تلك المسألة أثناء فترة الحرب ولكنه أعرب عن ثقته بأن بريطانيا سوف تقنع حليفتها فرنسا فيما بعد بتسليم تلك الولايات إلى العرب. وقد كان أكثر إستعداداً للقبول بحل وسط بشأن الولايات العراقية مدركاً للأمر الواقع للإحتلال العسكرى البريطانى ولكنه أوضح إلى أنه بسبب أن هذه الأماكن كانت جزء من الإمبراطورية العربية السابقة ومقر الخلفاء والمركز الأول للثقافة العربية ( فسوف يكون من المستحيل أن نقنع أو نُجبر الأمة العربية على إنكار ذلك الإرتباط الشريف ). وقد وافق على أن نهاية الإحتلال سوف تقرر عن طريق المفاوضات ولكن بدون إجحاف بحقوق أى من الطرفين أو بالثروة الطبيعية وموارد هذه الأماكن. أما الغموض الذى غرس أكبر المشاكل فى المستقبل فكان يخص فلسطين. لم يذكر إسم فلسطين فى المراسلات لأن فلسطين لم تكن وحدة إدارية عثمانية رغم أنها كانت تعبيراً جغرافياً مستخدماً فى العالم المسيحى. وبالتأكيد فإن أعضاء مجلس الوزراء البريطانى كانوا يشيرون إلى فلسطين فى مناقشاتهم. فبدون حاجة إلى كثير من التفكير فقد كان يمكن لإستثناء مكماهون لأجزاء من سوريا تقع إلى الغرب من مناطق دمشق وحمص وحماة وحلب - والذى كان محاولة غامضة لإستيعاب المصالح الفرنسية فى لبنان- أن يُشير إلى سنجاق أورشليم الذى كان يغطى ثلثى فلسطين ويقع فعلاً إلى الجنوب. وقد يقال أن الشريف كان يفهم ذلك ويدرك أن فلسطين كانت مستثناة من منطقة الإستقلال العربى. ولكن لايوجد دليل على ذلك كما أنه لم يقبل ذلك القول أبداً. وقد كان يمكن لبريطانيا أن توضح الموقف ببساطة بالقول بأن فلسطين لابد ان يكون لها وضعاً خاصاً لأنها كانت مكاناً مقدساً لليهودية والمسيحية والإسلام ولكنهاإختارت أن لا تفعل. فالوضوح لم يكن هدفاً. كان ضعف الشريف يكمن فى أن إدعائه بالقيادة كان من الصعب أن يعترف به العرب خارج الحجاز. فبإستثناء إمام اليمن والذى ظل موالياً للأتراك و مشايخ العرب على حواف الجزيرة العربية - والذين كانوا فى علاقات تعاهدية مع بريطانيا - وابن سعود فى الداخل الذى كان منافس الشريف الأكثر عداءً - فإن عرب العراق كانوا يتطلعون إلى إستقلالهم الخاص بينما كان لدى الشريف قليل من الإتصال بعرب سوريا الذين كانوا يرزحون تحت الحكم التركى الحديدى.
عندما وصل جمال باشا إلى سوريا لأول مرة - لقيادة الجيش الرابع - كبح جماح طبيعته الإستبداية وأعلن سياسة من التسامح والإعتدال تجاه العرب. وقال ( إننى فى موقف يمكننى من أن أؤكد لكم أنه لايوجد صراع بين المثل العليا للأتراك والمثل العليا للعرب ). كما قال فى دمشق فى يناير 1915م ( إنهم إخوة فى كفاحهم وربما تكون جهودهم مكملة لبعضها البعض ) . ومع ذلك فبعد فشله فى غزو مصر وإطلاعه على تقارير مخابراته عن درجة النشاط المعادية للأتراك فقد لجأ إلى سياسة القمع وراح- أولاً - يتخذ كل فرصة ممكنة لإرسال الوحدات العربية من الجيش العثمانى خارج سوريا وإستبدالها بوحدات تركية ثم بدأ فى محاكمة بعض الشخصيات العربية البارزة التى تورطت فى نشاطات خيانية بموجب الوثائق التى ُضبطت فى القنصليات الفرنسية. وتم إعدام واحد وعشرين منهم علناً فى أغسطس 1915م وواحد وعشرين آخرين فى مايو التالى فى الميادين الرئيسية فى دمشق وبيروت. ومع ذلك ، فإذا كان السوريون قد شعروا بعداء شديد نحو تركيا فى ذلك الوقت فإن هذا لم يعن أبداً انهم كانوا يرون خلاصهم فى فرنسا. وقد أذهل رد الفعل العدائى التى أثارته إمكانية الحكم الفرنسى لسوريا حتى المخابرات البريطانية والتى أرجعت ذلك إلى بعض نواحى السياسات الإستعمارية الفرنسية فى شمال غرب إفريقيا. فقط كان موارنة لبنان ينظرون إلى فرنسا كحام لهم . وبحلول ربيع 1916م أصبح الشريف حسين مدركا بأن عليه أن يعمل حيث كانت قوة تركية ألمانيا كبيرة على وشك الوصول إلى الحجاز فى طريقها إلى اليمن. وفى 16 يونيو رفع علم الثورة العربية وإنتزع مكة من حاميتها التركية الصغيرة. وكان يأمل فى إنزال متزامن يقوم به الحلفاء فى الإسكندرونة لتشجيع حركة تمرد ضد الأتراك فى سوريا ولكن هذا المشروع كان قد رفضه مجلس الحرب البريطانى برغم التأييد الكبير له من القيادة العسكرية وذلك بسبب المعارضة الفرنسية لأى إنزال فى سوريا لغير القوات الفرنسية. ولذا فقد ظلت الثورة منحصرة فى الحجاز. وفى 2 نوفمبر 1916م تم إعلان الشريف حسين ملكاً على البلاد العربية من قبل أتباعه ولكن بريطانيا وفرنسا لم تقبلا بذلك. وتم التوصل إلى تسوية وفى يناير 1917م إعترف كلاهما به ملكاً على الحجاز فقط. لم تكن بريطانيا بصف خاصة قد وعدت بالإعتراف بإدعاء الشريف حسين بالقيادة على العرب برغم أنها كانت قد شجعته على الإعتقاد بأنها ستفعل ذلك. والحقيقة هى أن المفاوضات السرية البريطانية مع فرنسا على مستقبل الأملاك العربية فى الإمبراطورية العثمانية كانت بالفعل قد أثمرت عن إتفاقية فى اوائل سنة 1916م.
كان الحليفان قد قبلا قبل ذلك وببعض التردد أن تحصل روسيا على القسطنطينية والدردنيل وكانت مهمة المفاوضات قد أوكلت إلى جورج بيكو عن فرنسا والسير مارك سايكس عن بريطانيا وقسمت إتفاقية سايكس بيكو التى توصلا إليها كل من سوريا والعراق وجزء كبيراً من جنوب تركيا إلى مناطق للنفوذ المباشر وغير المباشر الفرنسى البريطانى. كانت المنطقة الفرنسية تقابل الدول التى أصبحت سوريا ولبنان فيما بعد أما المنطقة البريطانية فكانت تقابل العراق والأردن على أن تكون منطقة السيطرة الفرنسية المباشرة هى أقاليم ساحل المتوسط و بالنسبة لبريطانيا ولايتى البصرة وبغداد بالإضافة إلى مينائى حيفا وعكا. وبالنسبة للداخل - والذى سوف يكون تحت السيطرة الغير مباشرة للقوتين الكبيرتين - فقد كانت فرنسا وبريطانيا مستعدتين لأن تعترفا وتدعما دولة عربية مستقلة أو إتحاد من الدول العربية تحت السيادة الاسمية للقائد العربى ، أى الشريف حسين. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان هناك منطقة تشمل أورشليم ومعظم فلسطين وكان من شأنها أن تقع تحت شكل من أشكال الإشراف الدولى. فقط كانت المنطقة التى تشمل اليوم المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية اليمنية سُتترك مستقلة.وظلت بريطانيا تحتفظ بعدن وبعلاقتها الخاصة بمشيخات الخليج العربية. ولأسباب مفهومة إختارت بريطانيا وفرنسا أن تظل تفاصيل معاهداتهما سرية. وفى أوائل 1917م أرسلت وزارة الخارجية البريطانية السير مارك سايكس إلى جدة لتهدئة مخاوف الشريف حسين. وبرغم أنهما ناقشا موضوع الجيوش الفرنسية فى لبنان وإقليم الساحل السورى مع إصرار الشريف حسين على مبدأ أن هذه الأقاليم عربية الشخصية بنفس قدر الأقاليم الداخلية فإن السير سايكس لم يخبره عن الجوانب الأوسع لإتفاقية سايكس بيكو.
وأثناء ذلك وبرغم أن الثورة العربية التى أشعلها الشريف قد أثارت رد فعل ضعيف فى العراق وسوريا - و اللذان كانا مازالا خاضعين للسيطرة التركية - فقد حققت هذه الثورة مساهمة فعالة للحرب فى الشرق الأوسط حيث جمدت حوالى30000 ألف جندى تركى على طول خط حديد الحجاز من عمان إلى المدينة ومنعت القوات التركية الألمانية فى سوريا من الإلتقاء بالحامية التركية فى اليمن. وقد كان يمكن حدوث أوخم العواقب على الحلفاء إذا ماإستطاعت قوات العدو ان تتصل بالألمان فى شرق إفريقيا والنجاح فى إغلاق البحر الأحمر فى وجه سفن الحلفاء. كانت القوات العربية - التى تتكون أساساً من رجال القبائل المسلحين مع نواة صغيرة من القوات النظامية- تحت قيادة الأمير فيصل الابن الثالث للشريف حسين. كان فيصل يفتقد إلى الذكاء الحاد الذى ميز أخاه الأكبر- الأمير عبدالله- ولكنه وبمنظره المهيب ووقاره الشديد بدا للكولونيل تى إى لورانس - وهو أحد الضباط البريطانيين الذين أرسلهم المكتب العربى فى القاهرة لمساعدة الثوار - أنه يملك الصفات المناسبة للقيادة.
وفى ربيع سنة 1917م كان الهجوم البريطانى ضد تركيا فى سوريا وفلسطين يسير بشكل سئ. ففى إبريل صُدت حملة الجنرال موراى بشدة وتعطل تقدمها لمدة ثلاثة أشهر. ثم ومع نهاية يونيو اُستبدل موراى بالجنرال اللنبى- وهو قائد لامع قدير كان يلقب بالثور- فقام فوراً بنقل مركز العمليات من القاهرة إلى فلسطين ونجح فى رفع المعنويات بسرعة. وفى نهاية أكتوبر قام بشن هجومه وبدأ الزحف على أورشليم. وكانت المعنويات مرتفعة أيضاً فى معسكر الأمير فيصل. ففى يوليو إحتلت قواته ميناء العقبة بضربة جريئة مفاجئة. والواقع أن العرب كانوا يقدمون مساهمة فعالة فى هزيمة تركيا. ولكن بينما كان اللنبى يتقدم إستولى البلشفيك ( الشيوعيون الروس الذين قادهم لينن فى الثورة على حكم آل رومانوف القياصرة فى أكتوبر سنة 1917م وتأسيس الإتحاد السوفيتى الذى إستمر حتى ماقبل العقد الأخير من القرن العشرين حتى سقط فى عهد ميخائيل جورباتشوف آخر سكرتير عام للحزب الشيوعى الروسى سنة 1990م ). على السلطة فى روسيا وإكتشفوا أوراقا تتعلق بمعاهدة سايكس بيكو فى الأرشيف الإمبراطورى فقاموا بإشعار الأتراك بذلك. ولم يضيع جمال باشا وقتاً فقام بتمرير الأوراق إلى العرب كدليل على الخيانة ضد الشعوب الإسلامية فى الإمبراطورية العثمانية من قبل القوى المسيحية. وعلى الفور طلب الشريف حسين توضيحاً من السير رونالد وينجت الذى خلف مكماهون فى القاهرة فأعاد وينجت تقديم وثائق بتروجراد على أنها تشير إلى إتفاقيات مؤقتة بين البريطانيين والفرنسيين والروس أكثر من كونها إتفاقية ثابتة وقال بأن نجاح الثورة العربية وإنسحاب الروس من الحرب قد خلق موقفا جديداً تماماً. كانت هذه النقطة الأخيرة حقيقية ولكن نتيجتها الأساسية كان تخليص الحلفاء من وعدهم بالقسطنطينية والمضايق لروسيا. أما نجاح الثورة العربية فلم يحسن من موقف الشريف حسين التفاوضى فى مواجهة الحلفاء إلا قليلاً حيث ظلت مصالحهم المشتركة والمستقلة كما هى. وبقاعدتها الكبيرة فى مصر وبجيوش اللنبى فى فلسطين وبالسيطرة على العراق أصبحت بريطانيا هى القوة الأكبر فى المنطقة. كانت أولوية بريطانيا هى تأمين إمبراطوريتها فى الحاضر والمستقبل.ولكن فرنسا كانت الشريك الأساسى الوحيد لبريطانيا فى الحرب الكاملة ضد ألمانيا. وقد تكبدت خسائر فادحة فى أوربا أكثر من خسائر بريطانيا وفى سنة 1917م بدأت عزيمتها تهتز.
لم تكن بريطانيا مستعدة لإحباط الطموحات الشرق أوسطية لحليفتها من أجل الهاشميين الذين كانوا يعتمدون تماماً على الأموال والأسلحة والمشورة العسكرية البريطانية. وتقدم اللنبى لإحتلال أورشليم فى 9 ديسمبر . وبذكاء دخل المدينة المقدسة فى هدوء ثم توقف هناك بفعل قسوة الشتاء و صلابة القوات التركية الألمانية بقيادة الجنرال ليمان فون ساندرز الذى إستفاد من إنسحاب روسيا من الحرب. ولكن فى سبتمبر 1918م إستأنف اللنبى تقدمه وطرد الأتراك من سوريا. وسقطت دمشق فى أكتوبر. كانت أولى قوات التحالف التى وصلت المدينة عبارة عن قوة من سلاح الفرسان الإسترالى ولكن لورانس إستطاع تمكين القوات العربية من تحقيق دخول المنتصر إلى المدينة وإقامة حاكمهم عليها. وإستدعى ليمان فون ساندرز إلى ألمانيا ووقع على عاتق مصطفى كمال أتاتورك الذى عرقل تقدم الروس فى الأناضول سنة 1916م مهمة تحرير الجيش السابع. وبالفعل إستطاع إعادة ذلك الجيش إلى حلب حيث إستطاع فى النهاية ترتيب إنسحاب منظم له عبرجبال طوروس. وسقطت حلب فى أيدى الحلفاء فى 26 أكتوبر وبعد يومين من ذلك التاريخ أوقفت الحكومة العثمانية الحرب ووقعت إتفاقية الهدنة فى ميدروس. لم يكن كشف إتفاقية سايكس بيكو هو السبب الوحيد للشكوك العربية فى نيات بريطانيا بخصوص مستقبل الولايات العربية فى الإمبراطورية العثمانية . ففى 2 نوفمبر 1917م وقبل عدة أيام من إطلاع جمال باشا للشريف حسين عن الإتفاق السرى الأنجلوفرنسى نُشرت أيضاً رسالة من وزير الخارجية البريطانى آرثر بلفور إلى يهودى صهيونى بريطانى بارز هو اللورد روتشيلد. جاء فى الرسالة ( إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين وسوف تبذل مساعيها الحميدة لتسهيل تحقيق ذلك الهدف وأنه من المفهوم والواضح أنه لن يحدث ما من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للجماعات الغير يهودية الموجودة فى فلسطين أو بالحقوق والمركز السياسى لليهود فى أى بلد آخر ) . ومن الواضح أن تلك الوثيقة التى عُرفت بإسم وعد بلفور قد وضعت البذور لصراع إستمر حتى نهاية القرن الحالى والذى من غير المحتمل أن ينتهى قبل أن يمر قرن آخر. وبرغم أن قليلين كانوا مدركين لهذا فى ذلك الوقت فقد كان هذا الوعد نتيجة طبيعية لتسوية بين بريطانيا والأهداف الصهيونية.
ولكن كانت نتائج تلك التسوية أكبر كثيراً من نتائج الإتفاقية الإنجليزية الفرنسية والتى فقدت مغزاها بسبب زوال القوة الإستعمارية الفرنسية والبريطانية خلال عقود قليلة من ذلك التاريخ . فمنذ فشل آخر محاولة لإسترداد الإستقلال اليهودى فى فلسطين سنة 134م أصبح اليهود متناثرين فى جميع أنحاء العالم. وظل فقط بضعة آلاف من اليهود المتدينين فى أورشليم وبعض الجماعات الصغيرة فى أماكن أخرى فى الأراضى المقدسة. عرف اليهود فى باقى أنحاء العالم درجات متفاوتة من الإضطهاد والرفاهية ومن التمييز والتسامح ولكن منذ القرن الثامن عشر بدأوا يستفيدون من التطور الإقتصادى لأوربا الغربية والإتجاه نحو التسامح الدينى. وفى خلال القرن التاسع عشر بدأت الليبرالية والإندماج تكتسب أرضا - بثبات - فى غرب أوربا وبصفة خاصة فى روسيا وفى بولندا الروسية حيث بلغ تركز السكان اليهود أقصاه. وفى الوقت الذى بدأت فيه الحركات المضادة لليهود والمتأثرة بالمزاج القومى للقرن التاسع عشر فى التأكيد على الجنس أكثر من العقيدة راح اليهود كذلك متثأثرين ببيئتهم تلك وضغط الإضطهاد يفكرون فى مصطلحات وطنية يهودية جديدة .ومع ذلك فإن تطوير فكرة الرجوع الجماعى الكبير للإثنى عشر مليون يهودى فى العالم إلى فلسطين قد إستغرق حوالى الفين سنة تقريباً ولم يكن الدعاء اليهودى( العام القادم فى أورشليم ) أكثر من تعبير عن أمل روحى أو خلاصى وليس شعاراً سياسياً. وفى النصف الثانى من القرن التاسع عشر بدأت حركة ثابتة لليهود من شرق أوربا للإستقرار فى فلسطين. وقد ذهبوا إلى هناك بشكل رئيسى - تشجعهم المساعدات الخيرية اليهودية- لتأسيس مستعمرات زراعية. لقد كانوا رواد الصهيونية العملية. وكانوا أقل كثيراً من هؤلاء الذين ذهبوا إلى أوربا الغربية والولايات المتحدة ولكن بحلول 1914م أصبح هناك حوالى 80000 يهودى – بما فى ذلك الجماعات المحلية فى فلسطين- مقابل حوالى 650000 عربى . اُسست الصهيونية السياسية أو فكرة تحويل فلسطين إلى دولة يهودية قومية على يد تيودور هرتزل وهو صحافى سياسى نمساوى بارز نشر فى عام 1896م كتابه ( الدولة اليهودية - محاولة حديثة لحل المشكلة اليهودية) والذى أعلن فيه بأن المسألة اليهودية لم تكن إجتماعية أو دينية ولكنها قومية. ورغم أنه نفسه كان يهودياً لاأدرياً ( وهو الشخص الذى يعتقد فى إمكانية وجود الله ولكن فى عدم إمكانية إقامة الدليل على ذلك ) متجنساً فقد كان يعتقد أن التجنس والإنصهار فى المجتمع لم ينجح.
كان العداء للسامية فى نمو. لم يكن هرتزل يعتقد أنه يجب إجبار كل اليهود على العودة إلى الدولة اليهودية الجديدة فقد كان الشئ الهام هو أن يتمتع اليهود بالسيادة على جزء من إقليم يناسب إحتياجاتهم القومية. فإذا ماكانت تلك الأرض هى فلسطين فإن اليهود قد يساعدوا فى إدخال الحضارة إلى الإقليم المحيط بهم. نظم هرتزل المؤتمر اليهودى الأول فى بازل عام 1897م حيث دعى الحاضرين إلى إستعمار فلسطين بعمال صناعيين وزراعيين يهود وبتنظيم وتوحيد كل الملة اليهودية. ولأسباب تكتيكية تكلم الصهيونيون الأوائل عن وطن أكثر مما تكلموا عن دولة فى فلسطين رغم أنه كان مازال عليهم تأمين الموافقة العثمانية على ذلك. وكما رأينا كان السلطان عبدالحميد قد رفض طلب هرتزل. وعندئذ فكر هرتزل فى سيناء وقبرص التى كان يسكنها أتراك وإغريق ولكن هذه أيضاً أنكرها عليه كرومر والمكتب الإستعمارى البريطانى. وفى سنة 1903 قدمت الحكومة البريطانية عرضا فاترا بإقليم فى أوغندا إضطر هرتزل للتفكير فيه على مضض ولكن المؤتمر الصهيونى السادس رفض ذلك العرض قبل وفاة هرتزل بوقت قصير عام 1904م. وتلى ذلك عقد من الإحباط بالنسبة للصهيونية السياسية. كانت المنظمة الصهيونية العالمية المتمركزة فى فيينا قد اُنشئت على أساس قوى وكان يمكن لها دفع عملية الصهيونية العملية أولاً حيث سمح قادة حركة تركيا الفتاة بتخفيف القيود على هجرة اليهود إلى فلسطين .وتأسس صندوق مالى قومى يهودى لشراء الأراضى فى فلسطين سنة 1910م. ولكن هدف تحويل فلسطين إلى وطن قومى لكل اليهود بدا آنذاك بعيداً كما لم يبدو من قبل. لم تكن اليهودية العالمية قد كُسبت بعد إلى الحركة الصهيونية. وكان كثير من اليهود البارزين والأثرياء فى وسط وغرب أوربا يعارضون مارأوا فيه حركة تمزيقية. وكان اليهود الأمريكيون يبدون قليلاً من الإهتمام بذلك المشروع كما كان القادة الدينيون منقسمين بإعلان الحاخام الأكبر لفيينا بأن الصهيونية لم تكن موافقة لليهودية. وأتى التأييد الأكبر للحركة الصهيونية من جموع يهود أوربا الشرقية. ومع ذلك ففى السنوات التى أدت إلى الحرب العالمية الأولى نقلت المنظمة الصهيونية مركزها إلى بريطانيا حيث كان يمكن لها العمل بحرية أكبر وحيث كان العداء للسامية هناك أقل ، كما كان يرى هرتزل. وفى ذلك الوقت كان إثنان من أكبر معاونى هرتزل من يهود شرق أوربا وهما حاييم ويزمان وناحوم سوكوف يعيشان هناك. وبحلول عام 1914م أصبح وايزمان بصفته رئيساً للإتحاد الإنجليزى الصهيونى على معرفة بنصف أعضاء مجلس الوزراء البريطانى.
كان مثل هؤلاء الصهاينة يفهمون تماماً أهمية تأمين تأييد أقوى الشعوب غير اليهودية وكذلك اليهودية العالمية. و لكن فى بعض الحالات الهامة لم يكن هناك حاجة لإقناع هؤلاء حيث ساهم العديد من الأفراد المختلفين فى خلق وعد بلفور. فاليهود غير البريطانيي - فيما بينهم - كان يحركهم مزيج عجيب من الواقعية السياسية والمشاعر الرمانسية التاريخية. كان هربرت صموئيل هو العضو اليهودى فى الحكومة البريطانية الذى إقترح فى 15 يناير 1915م على مجلس الوزراء فكرة فلسطين اليهودية التى يمكن أن تُلحق بالإمبراطورية البريطانية. ولكن القضية الصهيونية لم تحقق أى تقدم إلا بعد أن تمكن ديفيد لويد جورج من قيادة مجرى الحرب فى نهاية 1916م كقائد للتحالف الوطنى من الليبراليين والمحافظين. وأمكن إقناع رئيس الوزراء بسهولة وكان صديقاً مقرباً لسى بى سكوت رئيس التحرير الصهيونى غير اليهودى لصحيفة ألمانشستر جارديان وكذلك الحال بالنسبة لأعضاء آخرين فى مجلس الوزراء مثل وزير الخارجية بلفور ولورد ملنر القنصل الإمبراطورى السابق فى إفريقيا وعدد كبير من موظفى وزارة الخارجية ومستشارى الحكومة بما فى ذلك السير مارك سايكس. كان هؤلاء غير يهود وقد رأوا مزايا كبيرة فى فلسطين يهودية كجزء من الإمبراطورية . وكان ذلك النداء الرومانسى بعودة اليهود إلى صهيون والذى اُسس على مسيحية العهد القديم وكان جزء من تربيتهم الفكرية يقوى من معتقداتهم الإستعمارية. وكان للصهيونية كذلك تلك الجاذبية الثنائية بالنسبة لتشرشل الذى لم يكن فى مجلس الوزراء عام 1917م لكنه كان على وشك العودة إليه.
كان مجلس الوزراء البريطانى قد تراجع بالفعل عن الإلتزام المقرر فى معاهدة سايكس بيكو بجعل فلسطين تحت الإشراف الدولى. وكما أخبر رئيس الوزراء سى بى سكوت فإن ( بريطانيا يمكن أن تعتنى بالأماكن المقدسة أفضل من أى طرف آخر) أما فلسطين فرنسية فلم يكن من الممكن التفكير بها. لقد كان من المثير للسخرية ولكن ليس من المستغرب - فى ظل الظروف القائمة آنذاك - أن اليهودى الوحيد فى مجلس الوزراء مستر إدوين مونتاجو الذى كان وزير دولة لشئون الهند كان هو المعارض الأكثر صراحة لوعد بلفور. كان مونتاجو عضواً فى الأرستقراطية اليهودية الإنجليزية التى إندمجت فى المجتمع بشدة وكان كثير منهم يخشى من تأثير القومية اليهودية على مركزه الخاص وكان لمونتاجو نظرائه فى بلاد أخرى مثل هنرى مورجينتاو وهو سفير أمريكى سابق لدى تركيا وكان يجهر بمعارضته للصهيونية. ومع ذلك فقد كان مجلس الوزراء البريطانى مقتنعاً بأن اليهودية كانت تؤيد الصهيونية بشكل كاسح وأنها قد أعطت ثقتها لبريطانيا من أجل دعم القضية. ويعتقد أن ذلك قد ساعد على إدخال الولايات المتحدة إلى الحرب فى إبريل 1917م وعلى تحمسها للقضية الصهيونية منذ ذلك التاريخ فصاعداً.
وربما كان البريطانيون قد بالغوا فى تقدير ثروة ونفوذ اليهود الأمريكيين فى واشنطن فى تلك الفترة ولكن كان إعتقادهم فى هؤلاء هو الذى يهم. وأيضاً كان الألمان مدركين للمكاسب التى يمكن الحصول عليها بكسب تعاطف اليهود خاصة بين العديد من اليهود الأمريكيين المنحدرين من شرق أوربا والذين كانوا يكرهون الحكومة الروسية. كانت ألمانيا تحاول إقناع الأتراك بالتخلى عن معارضتهم للإستقرار الصهيونى فى فلسطين إلا أنها لم تنجح فى ذلك. وأخيراً فقد كان يؤمل أن يؤدى تبنى بريطانيا للصهيونية إلى إستمالة الإشتراكيين اليهود الروس الذين كانوا يحاولون التأثير على حكومة كيرنيسكى لإخراج روسيا من الحرب. وقد تجمعت كل هذه الإتجاهات الواقعية والمثالية معا لخلق وعد بلفور.
كان البرلمان البريطانى يعتقد أنها وثيقة متوازنة على نحو رائع. وعندما طلب بلفور من روتشيلد ووايزمان أن يضعا وثيقة فقد ذكرا فيها أنه يجب إعادة تأسيس فلسطين كوطن قومى لليهود. لكن ذلك كان قوياً جداً وتقرر أن تنص المسودة النهائية فقط - كما رأينا- على أن الحكومة البريطانية تفضل تأسيس وطن قومى لليهود فى فلسطين. واُضيفت أيضاً التحفظات المتعلقة بالحقوق المدنية والدينية لغير اليهود فى فلسطين والحقوق والمركز السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر. وحتى هذه الصياغة الحذرة قد زادت من مخاوف الشريف حسين بشأن نيات الحلفاء. وهذه المرة اُرسل الضابط دى جى هوجارت- رئيس المكتب العربى- لمقابلته فى جدة. عرض هوجارت قضية عودة اليهود إلى فلسطين ولكن الشريف حسين وكان قد أصبح آنذاك ملكاً على الحجاز أظهر بالفعل قلقاً بصيراً بأنه ربما كان وعد بلفور إنذاراً بدولة يهودية فى فلسطين. وقد قال هوجارت بأن الملك ماكان ليقبل بدولة يهودية مستقلة فى فلسطين ولم أكن مبلغاً بإشعاره بأن ذلك كان محل تفكير فعلاً. قبل حسين بالضمانات وإنتهى الأمر بأن أظهر تحمسه للميزات التى يمكن أن تجلبها الهجرة اليهودية إلى البلاد العربية. لم تضيع الحكومة البريطانية وقتا فى تنفيذ بنود وعد بلفور. ففوراً وبعد الإستيلاء على أورشليم من الأتراك وصل وايزمان على رأس المفوضية الصهيونية وأسسوا مقراتها هناك. ووجدت المفوضية أن عرب فلسطين كانوا قد إستشعروا الخطر تماماً وأنهم كانوا يعتبرون بقاء فلسطين بلدا عربياً تماماً أمراً مسلماً به.
وكانوا قد بدأوا قبل الحرب يعبرون عن إستيائهم من نشاطات الإستعماريين الصهاينة وتأسيسهم للتجمعات اليهودية الخاصة. ولكن تلك التجمعات لم تكن تمثل تهديدا خطيرا حيث كانت السلطات العثمانية قد حدت من توسعها بأقل قدر ممكن. والآن فى سنة1918م كان العرب قد أصبحوا يعتقدون أن الصهاينة كانوا يهدفون للسيطرة على البلد وجعلهم فى مركز الخاضع . ورغم أن العرب كانوا يشكلون حوالى90% من سكان فلسطين فقد أشار إليهم وعد بلفور بصفة التجمعات القائمة غير اليهودية والتى ماكان ليضر بحقوقها المدنية والدينية وليس السياسية . شعر وايزمان والمفوضية أن السلطات العسكرية البريطانية لم تكن تعمل بالقدر الكافى كى تجعل العرب الفلسطينيين مدركين لعزم بريطانيا على تنفيذ وعد بلفور . ومن جانبهم ، فإن المسئولين البريطانيين فى فلسطين كانوا يعتقدون بأنهم يجب أن يبذلوا المزيد كى يطمئنوا الأغلبية العربية عن نياتهم الحقيقية. و مع ذلك ، فإن السؤال عن ماذا كانت تلك النيات الحقيقية قد ظل بغير إجابة . ورغم أن الصهاينة كانوا مستعدين لتسويات تكتيكية من النوع الذى أنتج وعد بلفور فلم يكن هناك شك فى أن هدفهم الحقيقى كان هو تحويل فلسطين إلى وطن قومى لليهود يرغب معظم يهود العالم فى الهجرة إليه. وربماإختلفوا حول حدوده القاطعة ولكن فلسطين كانت فى رؤيتهم لابد أن تصبح دولة قومية يهودية بأغلبية يهودية حقيقية. ومع ذلك فقد كانوا مدركين لمدى صعوبة تحقيق ذلك. وقد دُهش وايزمان عندما رأى الدرجة التى أصبحت فيها أورشليم وفلسطين غير يهودية. وغادر بعد أشهر قليلة معتقداً أنه قد يكون من المستحيل منع فلسطين من أن تكون دولة عربية. وكانت مواقف الوزراء البريطانيين أكثر تعقيدا فرغم أنه كان لديهم أكثر من مجرد المعرفة السطحية بالأهداف الصهيونية فإن معظمهم كان جاهلا بالموقف الحقيقى الفعلى فى فلسطين ومشاعر شعبها رغم أن بعضهم كان يعتبر ذلك على قدر عظيم من الأهمية بالنسبة لمصالح الإمبراطورية البريطانية. وبالتأكيد فلم يستطيعوا التنبؤ بأنهم كانوا يساعدون على خلق واحدة من أقل المشاكل السياسية قابلية للحل فى ذلك القرن. وقد شعر بعضهم بالقلق عندما أصبح واضحا من تقارير المسئولين البريطانيين فى فلسطين عدم التوافق بين طموحات الصهاينة والمشاعر الغالبة للسكان العرب. ولكن صاحب وعد بلفور لم يكن لديه مثل هذه الشكوك وقد كتب بعد سنة من الحرب ( إن القوى العظمى الأربعة ملتزمة بالصهيونية وأن الصهيونية سواء كان ذلك صواباً ام خطأً ، خيراً أم شراً هى عميقة الجذور فى تراث طويل قديم فى حاجات الحاضر وآمال المستقبل وذات أهمية أكثر عمقاً من رغبات أو إضطهادات السبعمائة ألف عربى الذين يستوطنون الآن تلك الأرض القديمة) .
لم تمنع المخاوف التى اُثيرت بشأن نيات الحلفاء الفرح العربى الجارف بتحرير سوريا. كان السكان قد عانوا من الحرب بشكل مرعب ومن وباء الجراد والمشقة الطبيعية للحرب كما أن فساد المسئولين الأتراك والتجار السوريين قد سبب مجاعة واسعة الإنتشار. ومات مايتراوح بين 300000 و 500000 من السكان البالغ عددهم أربعة ملايين. ورغم أن سياسة اللنبى كانت هى السماح لقوات الأمير فيصل- كلما كان ذلك ممكناً - بالدخول فى إنتصار إلى المدن المحتلة وتولى الإدارة فيها فإن الوفاق مع فرنسا كان هو هم بريطانيا الأول ولذا فعندما إعترضت فرنسا على نشر علم فيصل فى بيروت أمر اللنبى بإنزاله. وأسرع الفرنسيون بإنزال قوات إلى بيروت عند نهاية الحرب ووقعت كل المنطقة الساحلية الممتدة من عكا إلى سيليشيا فى آسيا الصغرى تحت الإدارة العسكرية الفرنسية. وغطت المنطقة الإدارية الجنوبية من أراضى العدو التى تحتلها بريطانيا فلسطين بينما كانت المدن الرئيسية فى سوريا الداخلية تحت سلطة فيصل ولكن مع بعض الضباط البريطانيين الملحقين والذى إعتمد عليهم العرب كلية بسبب خبراتهم الإدارية المحدودة. وتم الحفاظ على العراق كوحدة مفردة تحت إدارة إنجليزية هندية وبدا أن معاهدة سايكس بيكو كانت بالفعل فى طور التنفيذ بعد أن عُدلت لتعكس حقائق الموقف الجديد. واجه اللنبى وإداريوه العسكريون مشهداً شديد الصعوبة كانت التعليمات المتناقضة التى يتلقونها من الحكومة البريطانية تزيده صعوبة. وبإستثناء فرنسا والصهاينة بمطالبهم فإن الحليف الأمريكى الجديد قد دخل إلى المشهد. كانت حقيقة عدم وجود طموحات إستعمارية للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط قد أضافت بشكل كبير إلى القوة المعنوية لخطابات الرئيس ويلسون - الشبيهة بالعظات - عن تسوية مابعد الحرب. وقد إختار أن يُزم بريطانيا بكلمتها. وعندما قام مجموعة من سبعة من الشخصيات العربية البارزة التى كانت تعيش فى القاهرة بتقديم مذكرة يطلبون فيها تحديد واضح للسياسات البريطانية كان الرد البريطانى الذى عُرف بالرد على السبعة ونُشر على نطاق واسع هو( أن الحكومة المستقبلية للأقاليم العربية التى تحررت بفعل الجيوش العربية سوف تقوم على مبدأ موافقة المحكومين) .
وقد ضمن ويلسون عبارة حق تقرير المصير فيما بعد إلى أهدافه الأربعة للسلام والتى ضُمنت فيما بعد وتحت تأثيره إلى ميثاق عصبة الأمم. و قد إكتسبت فيما بعد قوة دفع أكبر بواسطة إعلان إنجليزى - فرنسى فى 7 نوفمبر 1918م فى الأسبوع الذى تلى توقيع إتفاقية الهدنة مع تركيا وألمانيا ونص على أن هدف حكومتى بريطانيا وفرنسا كان هو التحرير الكامل والنهائى للشعوب التى قهرها الأتراك وإقامة حكومات وطنية وإدارات تستمد سلطتها من الممارسة الحرة ومبادرة وإختيار السكان الوطنيين. وحتى مع الأخذ فى الإعتبار لتأثير الضغط الأمريكى فإنه من الصعب أن نرى لماذا شعرت بريطانيا وفرنسا بأن مثل ذلك النفاق المكشوف كان ضرورياً. فقد كانت تركيا قد هُزمت فعلاً ولم يعد هناك حاجة لدعم الثورة العربية. لم يكن هناك نية فى لندن أو باريس بالسماح للسكان الوطنيين فى الأقاليم العثمانية السابقة بالإختيار الحر لحكامهم. وحتى موافقة المحكومين قد كانت مجرد عبارة فارغة.














الفصل التاسع

الفترة الأنجلوفرنسية 1918م- 1939م





























9- الفترة الأنجلوفرنسية 1918-1939م

تقسيم المشرق العربى .

كانت نهاية أربعة قرون من الحكم التركى فى الشرق الأوسط مفاجئة تماماً. ولأن الحكم التركى كان قد قُبل كنظام طبيعى لمدة طويلة فإنه ليس من المستغرب أن زواله قد ترك الغالبية العظمى من السكان حائرين مرتبكين. فقد وفرت الطبقة العثمانية الحاكمة القيادات للمجتمع العربى ، حتى فى مصر التى كانت تحت الحكم البريطانى لمدة أربعين سنة قبل ذلك التاريخ. وكما رأينا فإن الحكومات العثمانية وممثليها فى الولايات العربية كانوا يوفرون أحياناً السبب لجعلهم مكروهين ولكن هذا لم يعن أبداً أن القيادة السياسية لقلب العالم الإسلامى كانت قد أصبحت تبدو غير طبيعية. وبرغم بعض من إعادة كتابة التاريخ - والذى حدث فيما بعد - فإن تصور أمة عربية منفصلة أو تصور القومية العربية العلمانية لم يكونا قد تطورا بعد. كان إدعاء الهاشميين للقيادة العربية قد ولد جزافاً تقريباً فى ظروف الحرب ولم يُقبل أبداً من جميع العرب وكان من الطبيعى أن يتعثر بتبنى البريطانيين له.
ولكن الإنهيار العثمانى الكامل قد أعطى بريطانيا وفرنسا فترة قصيرة شعراً خلالها أنهما كانا يستيطيعان التصرف كما يحلو لهما. وبغير ذلك كان هذا شيئاً لايمكن تصوره بالنسبة لقوتين مسيحيتين غازيتين. وتجنبت الأراضى التركية المركزية للإمبراطورية العثمانية التمزيق بصعوبة من خلال قيادة لاتقهر لرجل واحد هو مصطفى كمال. فبعد توقيع إتفاقية الهدنة فى ميدروس قام السلطان الجديد محمد الخامس ( كان محمد الرابع قد مات فى يوليو 1918م) بحل البرلمان التركى وشكل حكومة جديدة من رجال مستعدين لقبول شروط الحلفاء. وإلى جانب المشاركة فى إدارة الحلفاء المشتركة لإسطنبول فقد كان الفرنسيين يحتلون سيليشيا وأذنة وكانت القوات البريطانية تسيطر على مضيق الدردنيل و كان الإيطاليون وهم رابع الحلفاء الغربيين قد نزلوا فى أنتاليا. وفقط لم يكن للروس أى مطالب.
وبموجب معاهدة برست ليتوفسك ( 9 مارس 1918م ) بعد الثورة البلشفية كانت تركيا قد إستردت كل الأقاليم التى فقدتها لروسيا فى الحرب وكذلك تلك التى كانت قد تنازلت عنها لها فى سنة 1877م. ولكن كان من شأن ذلك أن يعنى القليل إذا إنتهت تركيا نفسها من الوجود. كانت جماعة الإتحاد والترقى قد إنهارت وهرب قادتها وعندئذ قرر السلطان أن يقضى على بقايا الشباب الترك (تركيا الفتاة) . كان مصطفى كمال الذى كان يتمتع بشعبية واسعة فى تركيا يسبب للسلطان وحكومته المتاعب بتنظيم المقاومة ضد الحلفاء فى إسطنبول ولذا قام بتعيينه مفتشاً عاماً للجيش التاسع المتمركز فى سامسون مع أوامر بحل ماتبقى من الجيش العثمانى. نزل مصطفى كمال فى سامسون فى 9 مايو 1919م وبدلاً من حل الجيش قام بجمع المؤيدين لإعلان دولة تركية حرة من السيطرة الأجنبية. ولكن الحلفاء فى تصميمهم على محاربة القومية التركية المنبعثة فقد سمحوا لقوة إغريقية كبيرة بالنزول فى أزمير وإحتلال الإقليم المحيط بها. كانت الطموحات الإغريقية تمتد إلى كل إقليم غرب الأناضول والذى كان به أقليات إغريقية كبيرة بحيث كان يمكن إسترجاع إمبراطورية القسطنطينية المسيحية السابقة. وبينما أمر السلطان القوات التركية بأن لاتقاوم الإغريق كان كمال يحشد سريعاً التأييد لقضية الإستقلال التركى. وبرغم الاجهاد الذى لحقه من ثماني سنوات متصلة من الحرب المتواصلة تقريباً فإن التقدم الإغريقى إلى قلب الأناضول قد أثار الشعب التركى لمتابعة الكفاح. وفى أغسطس 1920م رفض الشروط الصعبة لمعاهدة سيفرس والتى كان من شأنها أن تترك تركيا عاجزة ومجردة من بعض أغنى مقاطعاتها. أما بالنسبة للسلطان -والذى كان قد أخذ يفقد سمعته بشكل متزايد- فقد أصبح مجرد دمية . إمتدت الحرب الإغريقية التركية عامين من 1920م إلى 1922م وفى البداية كان الأتراك غير قادرين على إيقاف التقدم الاغريقى ولكن فى سنة 1921م إنعكس التيار بإنتصار تركى كبير على نهر سكارياى 1922 بعد أن ضعف الإغريق نتيجة لإنشقاق داخل الوطن أخذوا يتراجعون سريعاً وفى سبتمبر 1922 إحتل مصطفى كمال أزمير. وبصعوبة تجنب مواجهة مع بريطانيا عندما تمكنت قواته من عبور الدردنيل لطرد الإغريق من تركيا الأوربية أيضاً. وتراجع الحلفاء وبموجب شروط الهدنة التى إلتزمت بها اليونان أيضاً إعترفوا بالسيادة التركية على إسطنبول والمضايق وتراقيا الشرقية. وأسفر مؤتمر السلام الذى تلى ذلك عن معاهدة لوزان فى 24 يوليو 1923م. وقد إعترفت هذه المعاهدة بالسيادة التركية -الكاملة تقريباً- على كل الأقاليم التى تشكل الجمهورية التركية الآن.
وفى تلك العملية فقد الأرمن- الذين طالت معاناتهم - آمالهم فى الإستقلال. فبعد الثورة البلشفية أعلنت أرمينية الشرقية أو الروسية إستقلالها. ولكن آمال أرمينية الغربية أو التركية بالإنضمام إلى الجمهورية الجديدة قد تحطمت بسبب تقدم قوات مصطفى كمال. وفى ديسمبر 1920م قامت الحكومة فى العاصمة الأرمينية يريفان بتسليم السلطة سلميا إلى البلشفيك. وهرب الباقى من الأرمن الأتراك إلى سوريا ولبنان بصفة رئيسية حيث منحوا الجنسية بعد عدة سنوات. عانى الأكراد خيبة أمل شديدة مماثلة. إعترفت معاهدة سيفرز بكردستان دولة كردية مستقلة ولكن ذلك اُلغى بمعاهدة لوزان سنة 1923م. وظلت المشكلة الكردية تقلق سياسات الدول الثلاث التى يشكل فيها الأكراد أقليات هامة وهى تركيا وإيران والعراق. كان مصطفى كمال مصمماً على التخلص من السلطان رغم أن قطاع كبير من الرأى العام التركى كان يفضل الإحتفاظ بالملكية الدستورية ولكن هيبة مصطفى كمال وسمعته مكنته من تحقيق هدفه فى النهاية. وفى 1 نوفمبر 1922م أقر المجلس الوطنى قانوناً بإلغاء السلطنة فهرب محمد الخامس إلى المنفى. وفى 29 أكتوبر اُعلنت تركيا جمهورية وكمال رئيساً لها. كانت الخلافة الإسلامية تحظى بنفس قدر الولاء الذى حظيت به السلطنة ورغم أن مصطفى كمال كان يحب أن يلغى منصبى السلطان والخليفة معا فقد خضع للرغبة الشعبية فى هذه المسألة فوافق على أن يصبح عبد المجيد- ابن أخ محمد الخامس- الزعيم الروحى للإسلام . ولكن رغم أن الخليفة قد جُرد من أى قوة سياسية فقد أصبح مقره مركزاً لتآمر الملكيين. وعندما قام هنديان مسلمان بارزان هما عامر على ومصطفى خان بإصدار إعلان يدعوان فيه الشعب التركى إلى الإحتفاظ بالخلافة إستغل مصطفى كمال رد الفعل التركى غير المشجع لذلك التدخل الأجنبى وألغى الخلافة. وتم إقرار قانون بهذا الخصوص فى الجمعية الوطنية فى 3 مارس 1924م. ولم يتم إحياء لقب الخليفة منذ ذلك الوقت. وفى مايو 1926م عُقد مؤتمر بشأن موضوع الخلافة فى القاهرة حضره مندوبون عن ثلاث عشرة دولة إسلامية لم تكن تركيا بينها ولكن مشاوراته لم تكن حاسمة. ومنذ ذلك الوقت لم تعد مسألة الخلافة تمثل مشكلة فى سياسات العالم الإسلامى.
كان مصطفى كمال قوميا علمانياً إعتقد أنه يجب هجر كل تراث الإمبراطورية العثمانية وأن تركيا يجب أن تتحول إلى دولة أوربية عصرية. ولم يبدو أن ذلك كان إنفصالاً مفاجئاً عن الماضى. كانت إصلاحات التنظيمات قد وضعت الأسس لدولة علمانية كما كان الأتراك الشباب حتى وهم يحاولون الحفاظ على الإمبراطورية قد أعطوا قوة دفع كبيرة لقضية القومية التركية. وأثناء سنوات الحرب إزدادت علمنة التعليم كما فُتحت أبواب الجامعات والمناصب العامة للنساء . ووضعت بعض المحاكم التى كانت تخضع للسلطات الدينية تحت سلطة وزارة العدل كما ساعد قانون صدر فى عام 1916م على تحديث قوانين الزواج والطلاق. وقد حمل مصطفى كمال عملية التحديث إلى حدود أبعد. وأحل نظام قانونى جديد تأسس على تنويعات من الأنظمة القانونية الأوربية محل الشريعة الإسلامية. وفى سنة 1928م أصبح الدستور رسمياً علمانياً وحُذفت الفقرة التى تنص على أن الإسلام هو عقيدة الدولة التركية. واُعتبر فصل الدين عن الدولة واحدا من المبادئ الستة الرئيسية للدولة. كما اُستبدلت الحروف العربية التى كانت تستخدم فى تركيا العثمانية بأبجدية ترتكز على اللاتينية. وأخيراً فى 1935م اُدخلت اسماء العائلة على النمط الأوربى. وحصل مصطفى كمال على لقب أتاتورك أو أبو الأتراك. وبسبب تأثير مصطفى كمال فوق العادى على شعبه كانت هذه الإصلاحات عميقة وبعيدة الأثر. ولكن ذلك لم يكن يعنى أن الشعب التركى كله قد تخلى عن الإسلام. فرغم ضعف نفوذ العلماء فإن الجماهير التركية والتى كان يتكون معظمها من مزارعين فلاحين قد ظلت تحتفظ بعقيدتها الإسلامية. وحتى الطبقة المثقفة فقد كانت تسخر من فكرة أنها لم تعد مسلمة و كانت ترى أن هناك فقط إصلاح تركى للإسلام.
كان تأسيس الجمهورية التركية والتخلى عن الإمبراطورية يعنى أن تركيا قد إنتهت فجأة عن كونها عاملاً فى التطور السياسى للشرق الأوسط.( وفقط ظلت المنازعات الإقليمية التى تشمل ولايتى الموصل وحلب قائمة) حتى سويت فى العشرينيات والثلاثينيات بمساعدة إنجلترا وفرنسا. وقد أثر نجاح أتاتورك فى تأسيس دولة قومية قوية قادرة على التعامل بالتساوى مع الدول الأوربية الكبرى على القوميين العرب والفرس وعلى الفرس بشكل خاص ولكن ظروف فارس المختلفة كانت تعنى أن تركيا كانت إلهاماً أكثر منها مثالاً. فبرغم أن تركيا كان يمكن أن تُغزى هذا الطموح فلم يرغب الفرس ولاكانوا يستطيعون أن يأملوا أن تكون بلادهم جزءً من أوربا ، حتى ولو بدا ذلك غير حقيقي للبعض. وبعد إلغاء السلطنة والخلافة نظم أتاتورك الجمهورية الجديدة كديموقراطية برلمانية علمانية. وضمن دستور 1924م المساواة أمام القانون وحرية التفكير والكلام والنشر والإجتماع. ونظريا كانت السيادة للشعب وكانت تمارس بإسمه بواسطة البرلمان المكون من هيئة واحدة هى الجمعية الوطنية الكبرى والتى كانت تنتخب رئيس الجمهورية الذى كان يختار رئيس الوزراء بدوره كما اُفترض أن يكون الوزراء مسئولين أمام البرلمان. ومع ذلك ظلت الديموقراطية محظورة بدرجة كبيرة. إستخدم أتاتورك نفوذه الضخم ليتجاوز الدستور حينما يشاء. وفى عام 1924م جمع مؤيديه فى حزب الشعب الجمهورى الذى سيطر تماماً على الحياة السياسية حيث كان كل أعضاء الجمعية الوطنية أعضاء فيه وحكم تركيا لمدة سبع وعشرين سنة. ومع ذلك وبرغم سلطته المطلقة ووسائله التعسفية فقد زرع أتاتورك بذور الحكومة الدستورية الليبرالية. فقد كان لدى الجمعية الوطنية سلطة حقيقية وكان أتاتورك يحاول تمرير مايريده بالإقناع وليس بالقوة. وفى الميدان الإقتصادى ركز أتاتورك على تطوير مصادر تركيا المعدنية الغنية والصناعية والإتصالات. وبسبب الذكرى الحية لخضوع تركيا العثمانية للسيطرة المالية والإقتصادية الأوربية من خلال نظام الإمتيازات الأجنبية فقد وضع سياسة مشاريع الدولة الضخمة لتقوم بالإشراف عن قرب على عملية التخطيط والتنمية. وبرغم أن هذه المشاريع قد أثبتت بشكل كبير أنها بيروقراطية وغير فعالة فقد حققت تقدماً كبيراً فى تصنيع تركيا فى فترة مابين الحربين. ولأنها لم تكن ذا أسس أيدولوجية ماركسية فلم يمثل تحريرها فى النهاية أى صعوبات كبيرة .
وبعد وفاة أتاتورك 1938م قُويت حركة المعارضة ضد الدكتاتورية المنتخبة وسمح خليفته عصمت إينونو جزئياً وبسبب تأثير المثل الديموقراطية للحلفاء الغربيين فى الحرب العالمية الثانية بتأسيس نظام متعدد الاحزاب.وظهر الحزب الديموقراطى كمنافس رئيسى لحزب الشعب الجمهورى منادياً بحرية النشاط الإقتصادى وبالنظام المتعدد الأحزاب. وبدأ يكتسب شعبية بشكل ثابت حتى حصل على نصر مؤزر فى إنتخابات عام 1950م وظهرت أصالة الديموقرطية العلمانية التركية عندما سمح إينونو بالإنتقال السلمي للسلطة.
كانت تجربة الرعايا العرب السابقين لتركيا مختلفة تماماً. فعند نهاية الحرب العالمية الأولى كان الإهتمام الأساسى للحلفاء الغربيين عندما كانوا يستعدون لمؤتمر السلام فى باريس هو تسوية مابعد الحرب فى أوربا بعد هزيمة ألمانيا والإمبراطورية النمسوية المجرية. لم يكن مستقبل الشرق الأوسط يحتل مركزاً متقدماً فى جدول أعمال المؤتمر وكنتيجة لهزيمتها لتركيا حصلت بريطانيا على نفوذ فائق فى الإقليم ولم تعد تهتم إلا بالتزاماتها تجاه حليفها الفرنسى فقط. كانت الحرب فى الصحراء قد ألهبت خيال الرأى العام البريطانى ووفرت المآثر الرومانسية التى إنتشرت بشكل كبير لتى إى لورانس بعض التخفيف من الرعب القذر لحرب الخنادق على الجبهة الغربية. لم تكن فكرة ضم الولايات العربية العثمانية السابقة كمستعمرات تحظى بتشجيع كبير إلا من قبل قليل من المسئولين المستعربين حيث كان عصر التوسع الامبريالى الأوربى يصل إلى نهايته بالفعل. ولكن العرب الذين كان قد حكمهم الأتراك كل ذلك الوقت الطويل كانوا يعتبرون جنساً خاضعاً وليس جنسا حاكماً وذلك إذا ماإستخدمنا تصنيفات كرومر - المندوب السامى فى مصر - للجنس البشرى. ولكن البدو العرب- النبلاء المستقلين- كانوا مختلفين عن ذلك رغم أنهم لم يكونوا يعيشون فى إقليم ذى أهمية سياسية أو إقتصادية. كان الصراع بين تعهدات بريطانيا للشريف حسين وتعهداتها لفرنسا يهم فقط أقلية من المتخصصين مثل تى إى لورانس نفسه والذى كان يكره الفرنسيين كلية. وبشكل عام فقد كان هناك شعور بأن العرب يجب ان يكونوا ممتنين لتحريرهم من الأتراك، كما كان معظمهم يشعر بالفعل. ورغم أنه من الناحية النظرية كان المبدأ الجديد بحق تقرير المصير الذى تأسس على مُثل الرئيس ويلسون هو المبدأ المرشد لتسوية مابعد الحرب فلم يكن لذلك أى تأثير فى الواقع ً. لقد كانت مصر وهى البلد الذى كان يخضع للسيطرة البريطانية منذ حوالى أربعين عاماً هى التى قدمت الصدمة الأولى. فبالمقارنة مع السوريين فقد عانى المصريون بشكل أقل من الحرب ومع الإرتفاع الكبير فى أسعار القطن فقد زادت ثروة مصر الطبيعية بالفعل وتحققت أرباح طائلة من إمداد قوات الحلفاء بالسلع. ولكن ذلك الرخاء كان يخفى تحته مظالم إجتماعية شديدة. فرغم أن تجنيد الفلاحين وجمالهم وحميرهم فى فرق العمل والمواصلات كان إفتراضاً يتم طوعاً فإن الواقع أنه كان يتم إجباراً بموجب الأحكام العسكرية كما أنه كان مكروها جداً. وقد تحصلت الثروة الجديدة لطبقة كبار ومتوسطى ملاك الأراضى الذين إمتلكوا 75% من المساحة المنزرعة ولطبقة رأسمالية صغيرة جديدة فى المدن. أما الواقع بالنسبة لبقية السكان فقد كان إرتفاع حاد فى تكاليف المعيشة. وقد سمح إفتقاد الحكومة لأى سياسة إقتصادية أو إجتماعية لطبقة كبار الملاك بترك زراعة المحاصيل الغذائية إلى زراعة القطن ليخلقوا بذلك مايشبه المجاعة وإرتفاع حاد فى معدلات الوفيات والتى تجاوزت فى الواقع معدلات المواليد أثناء الحرب.
وعادت إلى السطح تلك الوطنية الثائرة التى كانت الأحكام العسكرية تحجبها. وسمح المندوب السامى البريطانى - سير ريجنالد وينجت - بتشكيل لجنة يرأسها المستشار القانونى البريطانى للنظر فى الإصلاح القانونى وفى وضع مصر السياسى بعد الحرب. وتوصلت تلك اللجنة بأنه يجب أن يكون لمصر مجلس تشريعى من هيئتين تكون فيه الهيئة الكبرى هى الهيئة الأكثر أهمية. وأن تشمل تلك الهيئة الوزراء المصريين والمستشارين البريطانيين وممثلى الجماعات الأجنبية التى تنتخبها هيئات إنتخابية خاصة. وقد كانت وجهة نظر المستشار القانونى هى انه طالما كانت مصالح مصر المالية فى أيدى أجنبية إلى حد كبير فلم يكن للمصريين الحق فى أى صوت ترجيحى فى التشريعات الخاصة بهم. وقد أثارت تلك التصريحات غضب القيادة الوطنية المصرية عندما تسربت فى نوفمبر 1918م. وقد كانوا مدركين تماماً بأن مبدأ ويلسون فى حق تقرير المصير للشعوب التى تحررت من الحكم التركى قد تم إقراره من قبل الحلفاء. وبالفعل كان عرب الجزيرة العربية والذى كان المصريون يعتبرونهم - ببعض الحق - أكثر منهم تخلفاً يستعدون لإرسال ممثل عنهم إلى مؤتمر السلام فى باريس. وبعد يومين من إعلان الهدنة قدم سعد زغلول باشا نفسه فى مقر المعتمد البريطانى على رأس وفد وهو الإسم الذى سيرتبط فيما بعد بمؤيديه ليقول أن الشعب المصرى يريد إستقلاله كاملاً و أنه يطلب السفر إلى لندن لعرض قضيته. وكان وينجت قد أبعد سعد زغلول عن الحكومة ولكنه كان قد أصبح بلا شك الزعيم الغير منازع للحركة الوطنية المصرية. وقد قام بلفور وزير الخارجية البريطانى الذى كان يتطلع بالفعل إلى مؤتمر السلام فى باريس برفض الزيارة بفظاظة وعندما إقترح رشدى باشا رئيس الوزراء بأن يحضر إلى لندن بدلاً من سعد زغلول فقد كرر رفضه قائلا فى رسالة إلى وينجت ( إن الحكومة البريطانية ترغب فى العمل بالمبدأ الذى إتبعته دائماً بإعطاء المصريين قدراً متزايداً فى حكم بلادهم - لكن وكما تدرك تماماً - فإن المرحلة التى يكون فيها الحكم الذاتى ممكناً لم تدرك بعد وإن بريطانيا ليس لديها النية فى أن تتخلى عن مسئوليتها عن النظام والحكومة الجيدة فى مصر وكذلك عن حماية حقوق ومصالح كل من السكان الوطنيين والأجانب) . وإنتهز سعد زغلول فرصته وأشار إلى أنه حتى رئيس وزراء مصر قد حقر بإزدراء وقام بتنظيم حملة على مستوى الوطن كله للإعتراض ولتأييد مطلبه بأن يكون ممثل مصر الحقيقى فى مؤتمر السلام. وأذعن بلفور ودعى رشدى إلى لندن لكنه رفض إصراره على أن يصحب معه سعد زغلول. وعلى ذلك إستقال رشدى ومجلس وزرائه فى مارس 1919م بموافقة السلطان فؤاد الكاملة. ورغم أن سعد زغلول قد صعد من إثارته فإن المفوضية العليا كانت تعتقد بأن الإضرابات سوف تخبو وإقترحت نفيه. وافق بلفور على ذلك وتم شحن سعد زغلول وثلاثة من رفاقه فى قطار إلى بورسعيد ومن هناك أخذوا إلى مالطا فى مدمرة بريطانية.
كان رد فعل الجماهير فورياً وعنيفاً. وأيدت إضرابات موظفى الحكومة والأطباء والمحامين الطلبة المتظاهرين فى القاهرة وتوقفت الحياة فى العاصمة بشكل تام. ولدهشة البريطانيين فقد إنتشرت الإضطرابات إلى المدن الصغرى وإلى الريف لتأخذ شكل إنتفاضة وطنية أطلق عليها الوطنيون المصريون بعد ذلك ثورة 1919م. وقد اُخضعت تلك الإنتفاضة فى خلال أسابيع قليلة بواسطة إجراءات عسكرية قوية شملت إستخدام أسراب طائرات إلى عمق الريف وغارات جوية على أى تجمعات يشتبه بها. ولكن الحكومة البريطانية أدركت أن القمع لن يكون كافياً وحده لوقف الإنتفاضة. لم تكن أخبار الإنتفاضة سارة ولامتوقعة فى وقت كانت فيه الحكومة منشغلة بالإضطرابات الأيرلندية الأكثر قرباً إلى الوطن كما كانت منشغلة بمجريات مؤتمر باريس. وقرر رئيس الوزراء لويد جورج فى واحدة من تجلياته البديهية النادرة بأن الجنرال اللنبى - والذى كان قد وصل إلى باريس للتعبير عن وجهة نظره فى شأن سوريا - كان هو الرجل المناسب لإقرار الوضع فى مصر.
وفى مارس 1919م اُرسل اللنبى على الفور ليحل محل وينجت. كان هدف اللنبى هو إقرار الأمن والنظام والقيام بكل ماهو ضرورى للحفاظ على حماية ملك بريطانيا على مصر على أساس آمن وعادل. وبرغم المظهر العسكرى الخارجى الخداع وأحياناً الفظ لللنبى(الثور)- كما كان يدعى- فقد كان لديه عقل سياسى حاد ذو إتجاهات ليبرالية.
كان اللنبى قد إعترض فعلاً فى باريس على فرض الحكم الفرنسى على سوريا ضد رغبة ألسكان التى عبروا عنها بوضوح. وكان يعتقد- على الأقل نصف إعتقاد- فى مبدأ حق تقرير المصير والذى كان يزيد خمسين فى المائة عن إعتقاد السياسيين البريطانيين والفرنسيين الذى تبنوه علانية. وفور وصوله طمأن اللنبى المصريين وأعلن عن نيته فى معالجة شكواهم . وبإستخدام نفوذه الشخصى أجبر لويد جورج- الكاره - على الموافقة على إطلاق سراح سعد زغلول وزملائه وهو عمل أثار ذعر المسئوليين البريطانيين فى مصر. إستأنف سعد زغلول - غير نادم- مطالبته بإنهاء الوصاية واُستؤنفت بعض الإضرابات وأعمال الإثارة مرة أخرى. وتصرف اللنبى بحزم - كما كانت لندن تتوقع - لكنه مع ذلك كان يفهم وبعكس الحكومة البريطانية بأن الوصايا يجب أن تنتهى. ورحب آنذاك بقرار الحكومة بإرسال لجنة على مستوى عال يرأسها السكرتير الإستعمارى اللورد ملنر برغم ان هدف اللجنة مرة أخرى كان هو دراسة سبب الإضطرابات وإقتراح شكل الدستور الذى ( وتحت الحماية سوف يوضع بأفضل شكل ممكن بحيث يعزز من سلام ورخاء مصر ومن التطور التقدمى لمؤسسات الحكم الذاتى وحماية مصالح الأجانب ). وبكلمات تنبؤية أخبر بلفور مجلس العموم فى 17 نوفمبر أن مسألة مصر ومسألة السودان ومسألة القناة تشكل كلاً لايتجزء وأن إنجلترا لن تتخلى عن أى من مسئولياتها وأن السيادة البريطانية قائمة وانها سوف تستمر. والحقيقة كانت هى أن مجرى الحرب العالمية الأولى بدا أنه يبرر إحتلال بريطانيا لمصر وتغيير مركز السياسة البريطانية فى الشرق الأوسط من إسطنبول إلى القاهرة والذى حدث مصادفة تقريباً فى القرن التاسع عشر.ولذا فلم يكن مستغرباً أنه فى سنة 1919م لم يكن أى رجل دولة بريطانى مستعداً للتفكير فى التخلى عن مصر.
وعندما إتضحت نيات الحكومة البريطانية أمر سعد زغلول بمقاطعة لجنة ملنر - والتى كانت قد قضت ثلاثة أشهر محبطة فى مصر وكانت تقابل بمظاهرات عدائية فى كل مكان- وبالمطالبة بإستقلال مصر التام. ومع ذلك توصلت اللجنة إلى بعض النتائج الثابتة والواقعية وإلى أنه ( حيث أن مصر لم تكن أبداً جزء من الإمبراطورية البريطانية فإنه لايمكن ضمها فى عالم مابعد الحرب ويجب أن يعترف بها كملكية دستورية مستقلة ) .
أما الحفاظ على الحقوق والمصالح البريطانية فسوف تؤمن بواسطة معاهدة إنجليزية مصرية تحل محل الوصاية. وقد أثار ذلك السؤال عمن سوف يوقع عن مصر. كان عدلى باشا رئيس الوزراء سياسياً رفيعاً لكنه كان يعرف أنه لن يستطيع أن يكسب تأييد الأمة بدون تأييد سعد زغلول. أقنع عدلى سعد زغلول بأن يذهب إلى لندن مع وفده ليبحث فى التفاصيل وبعد مناقشات دامت عدة أسابيع قدم كلا الطرفين خلالها تنازلات تم التوصل إلى أساس لمعاهدة بأن تكون مصر مستقلة بممثليها الدبلوماسين الخاصيين وأن تدافع بريطانيا عن مصر فى حالة الحرب وأنه برغم أن بريطانيا سيكون لها الحق فى الإحتفاظ بقوات على الأراضى المصرية من أجل حماية مواصلاتها الإستعمارية فإن هذا لن يشكل بأى حال إحتلالاً عسكرياً للبلاد أو مساساً بحقوق حكومة مصر. حقق سعد زغلول ووفده معظم أهدافهما ولكن ليس كلها. وآنذاك أظهر سعد زغلول إفتقاده الكامل لموهبة رجل الدولة فلإنه كان غير مستعد للإعتراف بفشله فى تحقيق إستقلال مصر الكامل فقد رفض حث جموع مؤيديه فى البلاد على قبول شروط المعاهدة. وعندما ذهب عدلى باشا إلى لندن بصفته رئيساً للوزراء فى يوليو 1921م لإكمال المعاهدة بدون سعد زغلول - الذى أصر على قيادة الوفد إلى هناك - فإنه لم يجرؤ على تقديم التنازلات التى طلبها مجلس وزراء لويد جورج الذى كان آخذاً فى تشديد مواقفه. كان عدلى يعرف أن سعد زغلول يمكن أن يُخرج الشارع لوصمه بالخيانة. وعندما عاد عدلى من لندن خالى اليدين ضاعف سعد زغلول وأتباعه من معارضتهم بإضرابات ومظاهرات عنيفة . وعندئذ تصرف اللنبى بحزم وأمر بنفى سعد زغلول للمرة الثانية ، إلى سيشل هذه المرة وذلك بعد أن ضمن - بإستخدام مفرط للقوة- أنه لن يكون هناك تكرار لإنتفاضة 1919م. ثم إقترح بأنه على بريطانيا أن تصدر إعلاناً من طرف واحد بشأن إستقلال مصر فى نفس الوقت الذى تحافظ فيه على مصالحها الحيوية. كان مجلس الوزراء منقسما بين معتدلين يقودهم وزير الخارجية لورد كيرزون ومتشددين يمثلهم وينستون تشرشل - وزير الدولة الجديد -الشاب - لشئون المستعمرات. وأسرع اللنبى إلى لندن مهدداً بالإنسحاب إذا لم تُقبل إقتراحاته. وتراجع لويد جورج وفى 28 فبراير أصدرت بريطانيا إعلانا إعترفت فيه بمصر دولة مستقلة ذات سيادة لكنها إحتفظت بحق التصرف فى أربع نقاط تكون محل مفاوضات إنجليزية مصرية فى المستقبل.
كانت تلك النقاط هى تأمين المواصلات الإمبراطورية البريطانية فى مصر والدفاع عن مصر ضد أى إعتداء أو تدخل خارجى- مباشر أو غير مباشر- وحماية المصالح الأجنبية فى مصر ومصالح الأقليات و السودان. وبعد أسبوعين من ذلك الإعلان إتخذ السلطان فؤاد لقب الملك فؤاد الأول ووضعت لجنة دستورية دستوراً مؤسساً على نمط الدستور البلجيكى ينص على مجلس شيوخ ومجلس منتخب للنواب. ورغم أن ذلك الدستور قد أعطى الملك سلطات واسعة بما فى ذلك حق حل البرلمان وتعيين بعض الشيوخ فلم تكن هذه السلطات واسعة بالقدر الذى كان يتمناه الملك وكان اللنبى مضطراً للتدخل للحيلولة دون تأسيس دكتاتورية ملكية .كانت النتيجة النهائية لذلك هى أنه لمدة الثلاثين سنة التالية أصبحت مصر تحكم بتوازن قوى غير سهل وغير عملى فى نهاية الأمر. فقد كان هناك القصر حيث اُستردت ولو جزئياً معظم سلطات أسرة محمد على. وكان هناك البرلمان والسياسيون ومنهم حزب الوفد - الذى كان متفوقاً فى العادة ولكن ليس دائماً - وهناك المفوضية البريطانية ودار المندوب السامى والتى برغم الإستقلال لم تكن قد أصبحت سفارة بعد . وقد تحطمت الجهود المتكررة للتوصل إلى معاهدة إنجليزية مصرية لتسوية الخلافات الباقية لأن الحد الأدنى من المطالب البريطانية لم يكن مقبولاً للكبرياء الوطنى المصرى .
كان أكثر هذه الخلافات دواماً هو الخلاف المتعلق بالسودان والذى إتحد الملك وحزب الوفد فى إدعاء تبعيته لمصر. وهو إدعاء رفضته بريطانيا بحزم. والواقع أن مشكلة السودان هى التى سببت الإنهيار النهائى للمفاوضات بين بريطانيا وسعد وزغلول. كان قد سُمح للزعيم البالغ من العمر سبعين عاماً بالرجوع من المنفى حيث كسب إنتصاراً ساحقاً لحزب الوفد فى أول إنتخاباات برلمانية. وكرئيس للوزراء أصر على مطلب مصر بملكية السودان. وكان قد حدث عصيان واسع قام به طلاب المدارس العسكرية السودانيون والذين كانوا وطنيين سودانيين لكنهم كانوا مستعدين للتعاون مع نظرائهم المصريين ضد بريطانيا. وكان طبيعياً أن يلوم المسئولون الإنجليز فى السودان مصر على هذه الإضطرابات. وفى هذا الجو المحتقن فى صيف 1924م اُغتيل السير لى ستاك قائد الجيش المصرى والحاكم العام للسودان على يد مجموعة من تسعين متطرفا مصريا. وإندفع اللنبى الحانق إلى البرلمان المصرى مع حامية من الفرسان ليوجه إنذارا قاسيا تضمن منع المظاهرات ودفع تعويض - وأهم من كل ذلك - سحب كل القوات المصرية من السودان . وإستقال سعد زغلول بعد أن رفض الإنذار. وبرغم أنه ظل زعيم مصر الوطنى فلم يسترد سلطته مرة أخرى ومات فى سنة 1927م . حل الملك البرلمان وأصبح قادراً لبعض الوقت على تأسيس ملكية شبة أوتوقراطية بوزراء ضعفاء لكن سلطاته لم تكن كافية للحفاظ على ذلك وإستمر الوجه الكاذب الغير مستقر للديموقراطية البرلمانية.
كانت بريطانيا تحكم مصر عملياً لحوالى أربعين سنة ولكنها هنا كانت تتعامل مع شعب قد شكل أمة لحوالى خمسة آلاف سنة حتى عندما كان خاضعا لحكم سلسلة من الإمبراطوريات المتعاقبة ولكن فى بقية الولايات العثمانية السابقة فقد ووجه الحلفاء المنتصرون بموقف مختلف تماماً. فبإستثناء مملكة اليمن البعيدة الجبلية لم يكن هناك دولة قومية. كان المطلب الطموح للشريف حسين بأن يصبح حاكماً لمملكة موحدة قد رُفض فوراً من قبل الحلفاء وُحدد مطلبه ضمن مملكة الحجاز الضعيفة القاحلة فقط . وبرغم المعارضة الفرنسية القوية ضمن الأمير فيصل ابن الشريف حسين مكاناً فى مؤتمر السلام فى باريس برغم أنه قد جعل من الواضح له أنه يمثل الحجاز فقط وليس العرب ككل. ومن هذا الموقف الضعيف فى باريس حاول أن يحقق مايُمكن من الأمانى العربية. ومن منطلق تصريحات الحلفاء المتعددة بحق الشعوب فى تقرير المصير إقترح فيصل إرسال لجنة تقصى حقائق إلى سوريا وفلسطين لإستطلاع رغبات السكان . ووافق الرئيس ويلسون على الإقتراح بحماس وأقر المؤتمر إقتراحه بأن تتكون اللجنة من مندوبين فرنسيين وبريطانيين وإيطاليين وأمريكيين. ولكن الواقع أن الفرنسيين كانوا عدائيين بشدة تجاه تلك اللجنة بينما كان البريطانيون غير مبالين بها. وفى النهاية إنسحب جميع الاطراف ماعدا الأمريكيين. قرر المعينان الأمريكييان هنرى كنج وتشارلز كرين أن يمضيا فى طريقهما وشرح تقريرهما عداء بريطانيا وفرنسا التام للجنة . وقد وجدا أن سكان سوريا وفلسطين يعارضون بأغلبية ساحقة إقتراح وضعهم تحت إنتداب الدول الكبرى والذى كانوا يعتبرونه شكلاً مقنعاً من الإدارة الإستعمارية . وقد إعترفوا بالحاجة إلى المساعدة الخارجية بشرط أن تأتى من الولايات المتحدة أو بريطانيا كإختيار ثان . ولم يريدوا مساعدة من فرنسا على الإطلاق . وكانت لجنة كنج كرين ُمحبذة للصهيونية بقوة ولكنها خلصت بسرعة إلى أن البرامج الصهيونية يجب تعديلها بشكل كبير إذا ما أُريد لوعود بلفور فى حماية حقوق غير اليهود فى فلسطين أن تنفذ .
وبعد مناقشة مع الزعماء الصهاينة فى أورشليم ( القدس ) لم يعد لديهم شك فى أن الصهاينة كانوا يتطلعون إلى نزع ملكية السكان غير اليهود تماماً . تجاهل الحلفاء تقرير لجنة كنج كرين . كان التقرير منفرا جداً لبريطانيا وفرنسا أما الولايات المتحدة وبعد أن أثارت كثيراً من الآمال فقد كانت على وشك أن تنسحب إلى عشرين سنة من العزلة . ولكن إمكانية حدوث هوة خطيرة بين الحلفاء بدا ممكناً أيضاً حيث إعتبرت الحكومة البريطانية الطموحات الفرنسية مبالغاً فيها جداً وهى وجهة نظر تبناها بقوة معظم المستعربين البريطانيين مثل تى إى لورانس . كانت بريطانيا تشعر أيضاً ببعض الإلتزام تجاه الهاشميين وهو شعور لم تكن تشاركها إياه فرنسا بأى حال من الأحوال . وعندما أرادت فرنسا تعبئة سوريا بقوات عسكرية لم توافق بريطانيا على ذلك . وأثناء ذلك وبعد عودة الأمير فيصل من باريس فى مايو 1919م رتب مؤيدوه إنتخابات حيثما أمكن فى كل أنحاء سوريا رغم أن الفرنسيين قد منعوهم من ذلك فى المناطق الساحلية . ودعى مؤتمر سورى عام عُقد فى دمشق إلى الإعتراف بإستقلال سوريا - بما فى ذلك فلسطين والعراق - وإلى رفض معاهدة سايكس بيكو ووعد بلفور ونظام الإنتداب . ولكن حقائق الأمر الواقع التى تفرضها القوة سرعان ماأعادت تأكيد نفسها . إقنعت بريطانيا فيصل بأنه يجب أن يصل إلى تسوية مع الفرنسيين . وفى نوفمبر 1919م ذهب فيصل إلى باريس ووصل إلى إتفاقية مع رئيس الوزراء الفرنسى كليمنصو تقضى بإحتلال فرنسى للمناطق الساحلية وإحتكار فرنسى فى مساعدة الدول العربية الوليدة فى المناطق الداخلية . لم يستطع فيصل بأى حال إقناع أتباعه بأن يقبلوا تجزئة سوريا . وفى 8 مارس 1920م أصدر المؤتمر السورى العام فى دمشق قراراً بإعلان إستقلال سوريا وفلسطين مع حكم ذاتى للبنان . وفى نفس الوقت أعلن إجتماع مشابه للقادة العراقيين إستقلال العراق والأمير عبدالله ملكاً عليه . ردت بريطانيا وفرنسا سريعاً برفض قرار دمشق وعقدا إجتماعاً عاجلاً للمجلس الأعلى لعصبة الأمم الذى أعلن قراره فى 5 مايو 1920م . وبموجبه تقرر تقسيم سوريا إلى منطقتى إنتداب فرنسى وبريطانى بحيث يشمل الإنتداب الفرنسى سوريا ولبنان والإنتداب البريطانى فلسطين بينما بقى العراق غير مقسم كمنطقة إنتداب بريطانى . وقد حمل الإنتداب البريطانى على فلسطين معه الإلتزام بتنفيذ وعد بلفور.
أثارت تلك القرارات عرب سوريا فأخذوا فى حث فيصل على إعلان الحرب على الفرنسيين ورغم إدراكه لضعفه العسكرى فقد سمح فيصل للمتحمسين من ضباطه الشباب بمهاجمة المواقع الفرنسية على الحدود اللبنانية . وبعث القائد العام الفرنسى الجنرال جورو بإنذار نهائى فى 14 يوليو مطالباً بالسماح للقوات الفرنسية بإحتلال حلب وحمص وحماة وسهل البقاع . قبل فيصل الإنذار ولكن كان قبوله بلا معنى لأن الفرنسيين كانوا قد قرروا فعلاً إحتلال سوريا و تقدم طابور فرنسى يشمل جنودا سنغاليين وعربا من شمال إفريقيا وإحتل دمشق فى 25 يوليو 1920م . لم تستطع المقاومة الشجاعة لقوات فيصل سيئة التدريب أن تفعل شيئاً فى مواجهة الدبابات والطائرات الفرنسية . ودعت فرنسا فيصل لمغادرة سوريا فرحل إلى المنفى حيث إستقبلته الحكومة البريطانية المستاءة . وأخبر الوزير الإستعمارى ونستون تشرشل مؤتمر المستعمرات فى1921م ( بأن العمليات الفرنسية ضد سوريا كانت مؤلمة جداً ولكن لدينا روابط قوية مع الفرنسيين و كان لابد أن ينتصروا ولم يكن فى إستطاعتنا أن نفعل شيئاً لمساعدة العرب فى ذلك الأمر) . وبعد أن حصلت فرنسا على حق الإنتداب على سوريا ولبنان أصبح توسيع لبنان على حساب سوريا واحداً من أهم أهدافها. كانت نية فرنسا هى جعل لبنان مركزاً لعملياتها فى الشرق الأوسط . كان الموارنة فى لبنان يتطلعون إلى فرنسا تقليديا كحام لهم بينما كانت سوريا قد أصبحت مركزاً للقومية العربية. وفى قراره الصادر فى 31 أغسطس 1920م أعلن الجنرال جورو إقامة لبنان الكبير والذى يتكون من السنجاق المتمتع بالحكم الذاتى فى جبل لبنان بالإضافة إلى سهل البقاع شرقاً والمدن الساحلية فى طرابلس شمالاً وصيدا وصور جنوباً . كان للمسيحيين فى لبنان أغلبية طفيفة ولكن هذه الأغلبية كانت مهددة بإستمرار بالإتجاه ألمسيحى القوى نحو الهجرة ومعدلات المواليد الإسلامية الأعلى . لم تنفذ قرارات الحلفاء بشأن تقسيم الإمبراطورية العثمانية فى سلام . وبصرف النظر عن الصراع فى سوريا فقد كان هناك إنتفاضة ضد اليهود قام بها العرب فى فلسطين والذين كانت مخاوفهم قد إزدادت عندما بدت أهداف القادة الصهاينة تتضح . وفى العراق حيث اُحبطت الآمال العربية بسبب تأسيس إدارة إنجليزية هندية على النمط الإستعمارى بلا مشاركة عربية فعلية قامت قبائل وسط الفرات بعصيان تم قمعه بثمن باهظ جداً . وإضطرت الحاجات الملحة لإقتصاد مابعد الحرب بريطانيا إلى التصرف فعقد تشرشل ومعه تى اى لورانس كمستشار مؤتمراً فى القاهرة فى مارس 1921م.
لم يكن هناك أى ممثلين عرب فى المؤتمر ولكن حضره المندوب السامى فى العراق السير بيرسى كوكس والمندوب السامى المُعين حديثاً فى فلسطين السير هربرت صموئيل - الذى كان أول من قدم الفكرة الصهيونية إلى مجلس الوزراء البريطانى . وتقرر تنفيذ الترتيب ألذى كان قد جرى الإتفاق عليه فى لندن بجعل فيصل ملكاً على العراق . ولكن مستقبل الأمير عبدالله خلق مشكلة . ولأن آماله فى أن يكون ملكاً على العراق قد خابت فقد وصل من الحجاز إلى معن بالقرب من العقبة فى نوفمبر 1920م على رأس بعض القوات القبلية معلناً عن نيته فى مهاجمة الفرنسيين فى سوريا للإنتقام لأخيه فيصل . سافر تشرشل من القاهرة إلى أورشليم ( القدس ) يحمل هدفاً مزدوجاً هو طمأنة الفلسطينين العرب بعدم وجود نية للسماح بجعل فلسطين دولة يهودية وللتباحث فى نفس الوقت مع عبدالله . رفض تشرشل إقتراحات عبدالله العديدة بضم عبر الأردن (أى المنطقة الواقعة إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن ) سواء إلى العراق أو إلى فلسطين تحت إدارة عربية ولكن تم التوصل إلى ترتيب مؤقت وافقت بريطانيا بمقتضاه أن تعترف بعبدالله كأمير لعبر الأردن مع تقديم معونة بريطانية سنوية إلى حين تتمكن بريطانيا من إقناع فرنسا بإسترجاع دولة عربية فى سوريا يكون عبدالله على رأسها. و لكن لأن الفرنسيين كانوا متشددين إزاء ذلك فقد أصبحت الإتفاقية المؤقتة دائمة وخُلقت دولة الأردن إلى الوجود حتى ضمت بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى سنة 1948-1949م إلى الضفة الغربية للأردن ليشكلا المملكة الأردنية الهاشمية .
تم التصديق على الإنتداب على فلسطين وسوريا ولبنان والعراق رسمياً من قبل مجلس عصبة الأمم فى يوليو 1922م وأصبح سارى المفعول فى سبتمبر 1923م. وفى 1924م أبدت الولايات المتحدة - والتى لم تكن عضواً فى عصبة الأمم - موافقتها على ذلك. واُضيفت الأردن إلى منطقة الإنتداب البريطانى على فلسطين ولكن سُمح للمنتدب أن يستثنيها - وفى الواقع أنه قد فعل - من منطقة الإستيطان اليهودى. وبهذا ترتب على تجزئة الإمبراطورية العثمانية خلق خمس دول جديدة هى سوريا ولبنان والأردن والعراق وفلسطين وكانت جميعها تحت الوصايا البريطانية أو الفرنسية - واللتان كانتا مسئوليتين بشكل رئيسى أيضاً عن ترسيم حدوده . ومع معاهدة ميدروس سنة 1918م إنتهت السيادة الاسمية التركية على اليمن- والتى لم تكن فاعلة جداً فى الواقع. فقد ضمن بعدها وصعوبة الوصول إليها ورغبات حكامها أن تظل متخلفة ولكن مستقلة.
أمامملكة الحجاز- الدولة الجديدة الأخرى - التى كانت كل ماتبقى من حلم الملك حسين بإتحاد عربى مستقل تحت الحكم الهاشمى ، فقد كان عمرها قصير . وفى الجزء الباقى من الجزيرة العربية كان ابن سعود سلطان نجد وتوابعها يوسع دائرة حكمه. فبعد أن إستطاع فى النهاية إخضاع آل الرشيد - أعدائه فى الشمال - قام فى سنة 1920م بإرسال ابنه فيصل ذى الخمسة عشر عاماً إلى المرتفعات العربية الجنوبية الغربية لمنطقة عسير لضمان ولاء شعبها. وفعل نفس الشئ مع إقليم الحوف على حدود إمارة الأردن حديثة الوجود. ولكن ابن سعود كان يواجه مشكلة متكررة تكمن فى كون محاربييه القبليين - عديمى الإنضباط شديدى الشراسة - لم يكن لديهم أى إحترام للحدود الدولية. فكانوا يقومون بشن الغارت فى عمق إقليم الأردن والعراق . وقد شاركت الطائرات البريطانية والعربات المدرعة رجال القبائل المحليين فى صدهم ولكن بخسائر فادحة . لم تكن الحدود بين نجد وكل من الكويت والعراق قد رسمت بشكل دقيق بعد . كان ابن سعود يعتبر ترسيم الحدود أمرا مثيرا للسخرية فى منطقة كان يفتقد فيها السكان الرحل إلى أى شعور بالوطنية حيث كانوا معتادين على التجوال على مساحات واسعة من الصحراء بحثا عن المرعى لقطعانهم. ولكن حماة العراق والكويت البريطانيين كانوا مصممين على تأسيس حدود لايسمح للقوات الوهابية بتجاوزها. وعند أوقير - الميناء البحرى للحساء على الخليج - توصل السير بيرسى كوكس - المندوب السامى فى العراق - إلى إتفاقية مع ابن سعود ضُم بمقتضاها جزءً كبيراً من الإقليم الذى كانت العراق تدعى ملكيته إلى مملكة العراق الجديدة. ولكى يسترضى ابن سعود فإن حوالى ثلثى الأرض التى كانت تعتبر تابعة للكويت وقت معاهدة 1913م مع الحكومة العثمانية أصبحت جزء من نجد. وقد شرح كوكس- المستاء - إلى أمير الكويت فيما بعد أنه ماكان يمكن فعل شئ لمنع ابن سعود من أخذ كل الأقاليم إذا أراد. كانت بريطانيا أقل نجاحاً فى ترتيب تسوية بين ابن سعود ومنافسه القديم - ملك الحجاز- والتى كانت كل طموحات الوهابيين قد توجهت نحوها آنذاك .
كان الملك العجوز الحانق قد رفض مسودة معاهدة 1921م والتى كانت تعنى قبول حقيقة أن سوريا ولبنان وفلسطين كانت كلها قد خرجت من حكم أسرته . كانت معونته السنوية من بريطانيا قد خُفضت ومع ذلك فقد كان مازال يأمل فى إثبات وجوده . وقام بإظهار سلطته على عائلته من خلال زيارة رسمية إلى العقبة حيث إستقبله ابنه عبدالله - الأمير الجديد للأردن - بالإحترام اللائق . لكنه إرتكب خطأً قاتلاً بعد ذلك.
فلإن مصطفى كمال رئيس الجمهورية التركية الجديدة كان قد ألغى لتوه مؤسسة الخلافة الإسلامية فقد أعلن حسين إتخاذه لقب أمير المؤمنين وخليفة النبى . وفى وقت مبكر أثناء الحرب كانت بريطانيا قد أيدت فكرة إسترجاع الخلافة العربية لكنها لم تعد مهتمة بهذا الأمر بعد ذلك . وفى العالم الإسلامى ككل وبصرف النظر عن بعض الموالين للهاشميين فى فلسطين وسوريا فقد تراوح رد الفعل لإعلان حسين بين اللامبالاة و الغضب أما بين مقاتلى ابن سعود الوهابيين فقد كان هناك غضب شديد . وقد كان عند هذه النقطة أن قررت بريطانيا إنهاء معونة الستين ألف ( 60000) جنيه إسترلينى التى كانت تدفعها لابن سعود منذ عام 1915م. وعلى ذلك فلم يعد لدى ابن سعود أى دافع لكبح جماح مقاتليه الذين إنقضوا فوراً على الحجاز . وأراد حسين الذى ظل شجاعا مبجلاً - مهما كانت أخطائه - أن يقاتل حتى النهاية ولكن الحجازيين أقنعوه بالتنازل لصالح ابنه الأكبر على الذى كان قد تراجع لتحصين نفسه مع قواته فى جدة آملاً فى التوصل إلى شروط أفضل مع الوهابيين. أبحر حسين إلى المنفى فى قبرص آخذا معه ماتبقى من كنوزه . صمد على فى جدة لمدة سنة حتى إستسلم فى النهاية وتنازل عن الحكم . ومالبثت قوات ابن سعود أن إجتاحت بقية الحجاز إلا أنه ظل حريصاً على كبح جماح رفاقه المحاربين التى أثارت التقارير عن تجاوزاتهم فزع السكان . أعطى ابن سعود الأولوية لإقرار الأمن فأعاد فتح طريق الحج الإسلامى وأخذ يُظهر أنه يستطيع ضمان أمن الأماكن المقدسة بعد قرون من الفوضى . وقد كتب أحد الإنجليز المسلمين الذين أدوا الحج فى سنة 1925م عن ابن سعود( أنه ربما يكون أفضل حاكم عرفته الجزيرة العربية منذ أيام الخلفاء الأربعة (الراشدين).
وبتنازل على عن الحكم فى ديسمبر 1924م أصبح ابن سعود حاكماً على كل الحجاز بإستثناء بعض الأماكن التى إحتفظت بها السلطات البريطانية فى بعض المناطق فى أقصى الشمال الغربى وذلك بإرسال قوات وعربات مدرعة لإحتلال شريط الأرض الواقع بين معن والعقبة على أساس أنه كجزء من ولاية دمشق العثمانية السابقة كان يجب أن يتضمن آنذاك فى منطقة الإنتداب على فلسطين . والحقيقة أنه كان أساسياً لإمارة الأمير عبدالله للأردن أن يكون لها مخرج على البحر. لم يقبل ابن سعود أبداً بذلك الأمر الواقع لكنه لم يكن قادراً على منعه وكان ابن سعود قد أصبح يسيطر آنذاك على الأماكن الإسلامية المقدسة.
كان السؤال هو كيف سيكون رد فعل العالم الإسلامى . لقد كان من المحتمل أن تنزع الغالبية العظمى من المسلمين - والذين لم يكونوا عرباً - إلى الشك فى أن ينجح قائد قبلي من وسط الجزيرة العربية فى حماية وتأمين الأماكن المقدسة حيث فشل الحكام الأشراف والأتراك العثمانيون فى ذلك بجلاء. وكان قد إنتابهم الخوف فعلاً بتحطيم الوهابيين لمقابر الأولياء المسلمين. تصرف ابن سعود بمهارة وحرص . فقد عين ابنه الثانى الأمير فيصل كنائب على الحجاز كما عين عبدالله دملوجي - وهو عراقى خبير - فى خدمته كمدير للشئون الخارجية . وزار الحجاز مبعوثون مسلمون هنود وفرس مرموقون ووضعوا تقاريراً مشجعة . كما تأثر سكان الحجاز أيضاً بمقدرة ابن سعود على حفظ الأمن وبإستعداده للتكيف مع طرائق معيشتهم الأكثر تحضرا. وفى 8 يناير تقدم وجهاء الحجاز إليه بطلب رسمى لقبول ولائهم كملك للحجاز فوافق على أن يحكم بمساعدة الله من خلال الشريعة المقدسة. وبالإضافة إلى أنه كان ملكهم فقد كان ابن سعود إماماً للناس أيضاً فكان يقودهم فى الصلاة ويقدم لهم القدوة فى التقوى الدينية ولكنه لم يذهب لأبعد من ذلك - بعكس الشريف حسين أو فاروق ملك مصر فيما بعد - فلم يتطلع ابن سعود إلى لقب الخليفة وظل فقط معارضاً بإصرار لأى فرد آخر يحاول إتخاذ اللقب.
كان الإتحاد السوفيتى أول الدول الكبرى التى إعترفت بالنظام السعودى الجديد وتبعته بريطانيا سريعا . كان على الولايات المتحدة أن تنتظر لعقد آخر قبل أن تبدى أى إهتمام بالجزيرة العربية . كان الإتحاد السوفيتى يرى فى ابن سعود قوة مستقلة معادية للإمبريالية وكان يأمل فى أن يستخدم دولته الجديدة كقناة للإختراق السياسى والتجارى للشرق الأوسط والذى كان حتى ذلك الوقت مازال تحت السيطرة البريطانية والفرنسية . وبحلول سنة 1938م أدرك السوفيت خطأهم واُغلقت البعثة السوفيتية فى جدة وصُفى معظم من عمل بها فى تطهيرات ستالين . وظلت المشاكل مع بريطانيا لأن ابن سعود ظل يرفض الإعتراف بالإنتداب البريطانى فى العراق وفلسطين و الأردن حتى يُستجاب إلى مطلبه فى إقليم معن والعقبة . وبموجب معاهدة جدة لعام 1927م وُضعت هذه المسألة على الرف ولكن بريطانيا إعترفت بالإستقلال الكامل والمطلق لمناطق ابن سعود والذى وافق بدوره على أن يحترم معاهدات الحماية البريطانية مع مشيخات الخليج العربية.
ومع ذلك فقد كان ابن سعود مازال يواجه مهمة توحيد وإدارة أقاليمه الواسعة قليلة السكان والتى تبلغ حوالى ثلثى مساحة الهند فعين ابنه الأكبر نائباً له فى نجد وفيصل نائبا له فى الحجاز . ولكنه كان يحتاج إلى المساعدة الخارجية أيضاً وقد قصر ذلك على المسلمين العرب فقط من عراقيين وسوريين ومصريين . كانت سياسته هى جعل كل رئيس قبلى مسئولاً عن الأمن فى منطقته الخاصة على أن يكون مسئولاً عن ذلك أمامه - بينما ظل الجيش الوهابى فى خلفية الصورة - كرادع نهائى. وعقد أيضاً عدة زيجات ملكية على بنات مجموعات هامة من القبائل والذى يفسر جزئيا لماذا ترك بعده أربعة وأربعين ابنا ولماذا يوجد اليوم حوالى أربعة أو خمسة آلاف أمير سعودى ينحدرون من نسل الملك مباشرة. وقد أظهر حكمة فى نواح عديدة وبرغم أنه ظل حاكماً مسيطراً ذا هيبة شديدة فلم يتجاهل الرأى العام أبداً . وكان مصمماً على أن تحصل مملكته على تلك الإختراعات الغربية التى من شأنها جعل الحياة أسهل لشعبه - بشرط أن لاتقوض أسلوب حياتهم . ولم يحاول أن يفرض سرعة التغيير ولكنه كان يستخدم الإقناع كلما كان ذلك ممكناً. وقد أقنع تجمعاً من رجال الدين بأن التليفون لم يكن آلة الشيطان عنما أسمعهم عليه صوتاً يتلو القرآن الكريم. وبعد جيل آخر إستخدم ابنه فيصل نفس الوسائل للتغلب على المعارضة للتليفزيون وتعليم البنات. وبرغم براعته ومهارته السياسية فقد ووجه ابن سعود فى سنة1929-1930م بثورة شاملة بين بعض إخوانه المحاربين الذين إستنكروا إختراعاته الغربية وطالبوا بحق الإغارة عبر الحدود إلى الأردن والعراق والذين كانوا يعتبرون سكانهما من الكفار. وفى النهاية إضطر ابن سعود لقتالهم وقمع التمرد . وأصبحت سلطته آنذاك غير منازعة فى كل أنحاء إقليمه وفى 8 سبتمبر 1932م ضُمت مملكة الحجاز وسلطنة نجد رسمياً فيما عرف بإسم المملكة العربية السعودية . وظلت حدود المملكة الجديدة مع مشيخات الخليج العربية غير محددة ولكن ذلك لم يسبب أى مشاكل إلا فى حقبة النفط فيما بعد . ومن جهة أخرى قاد النزاع مع الإمام يحيى - حاكم مملكة اليمن القديمة - فيما يتعلق بإقليم عسير الساحلى على البحر الأحمر إلى حرب سعودية يمنية قصيرة فى سنة 1934م. وبعد أن إحتلت قوة سعودية بقيادة الأمير فيصل ميناء الحديدة اليمنى أمر ابن سعود بالتوقف. وفى مفاوضات السلام بعد ذلك تصرف بكرم وشهامة وإمتنع عن أى مطالب فى الإقليم اليمنى.
وأصبحت معاهدة الصداقة الإسلامية والأخوة العربية أساساً لعلاقات لايعكر صفوها شئ بين البلدين للثلاثين سنة التالية. وفى العقود الثلاثة الأولى التى أعقبت تفكك الإمبراطورية العثمانية كانت المملكة العربية السعودية واليمن هما الدولتان الوحيدتان كاملتا الإستقلال فى المشرق العربى . وتحت حكم الإمام يحيى الذى حكم من سنة 1940 إلى سنة 1948م إستطاعت اليمن الجبلية أن تحفظ نفسها - عملياً - غير قابلة لإختراق العالم الخارجى ونادرا ماتدخلت فى سياسات المنطقة . أما المملكة العربية السعودية وبسبب إحتوائها على الأماكن الإسلامية المقدسة وعلى ابن سعود حاكماً ذا هيبة فريدة فقد مارست تأثيرا أكبر. ومع ذلك فقد ظلت الجزء الأقل تطوراً فى المنطقة - فخورة - لكنها شديدة الفقر. وبسبب تحسن الإدارة زاد الدخل القومى فى سنة 1920م حيث إزداد عدد الحجاج إلى 100000 سنويا وكان كل حاج يدفع رسوم تبلغ خمسة دولارات ذهبية . ولكن فى عام 1930م تناقص عدد الحجاج بشدة نتيجة للكساد الكبير وإنخفض إلى 20000 فقط فى سنة 1933م. وإضطر وزير مالية ابن سعود فى سنة 1931م إلى إعلان التوقف عن دفع كل ديون المملكة وإلى مصادرة كل مخزون البنزين لشركتين خاصتين فى جدة من أجل توفير السيولة النقدية. وعلى مضض منح ابن سعود فى سنة 1933م إمتيازاً نفطياً فى إقليم المملكة الشرقى لشركة ستاندرد أويل فى كاليفورنيا . واُكتشف النفط بكميات تجارية فى سنة 1938م فيما ثبت أنه واحد من أكبر حقول النفط فى العالم ولكن بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية فقد كان فى سنة 1950م فقط أن أصبحت المملكة السعودية هى المنتج الرئيسى فى الإقليم وبدأت فى تحصيل ثروة هائلة.

سنوات مابين الحرب .

1- مصر.

كان الإعلان البريطانى أحادى الجانب عن إستقلال مصر- بتحفظات هامة تحمى المصالح البريطانية - قد وفر لمصر إطاراً سياسياً غريبا غير مستقر. لم تعد المعتمدية البريطانية هى مركز السلطة الحقيقى الوحيد فى البلاد ولكن واحدا فقط من ثلاثة إلى جانب القصر وحزب الوفد . وطالما إستمرت القوات البريطانية فى إحتلال مصر فقد ظل من الممكن ممارسة السلطة البريطانية دائما ولكنها كانت تمارس بصعوبة متزايدة وفعالية متناقصة. وتكرر نفس نمط الأحداث عدة مرات . فقد إعتاد الملك الذى كان يملك سلطات واسعة بموجب الدستور- وكان يأمل ان تكون أوسع - على حل البرلمان والحكم بدونه. وعندما كان يفشل فى تحقيق ذلك كانت تجرى إنتخابات يفوز فيها الوفديون بإكتساح - إذا ماكانت نزيهة تماماً . وفى السنوات التالية بدأ الوفد يفقد تماسكه والشعور بالهدف وأصيب بالإنشقاق والفساد . ولكنه كان فى ثلاثينيات القرن العشرين – وبلاشك - يمثل التعبير السياسى عن مصر كما كان حزب المؤتمر فى الهند خلال سنوات الكفاح من أجل الإستقلال عن االحكم البريطانى . وفى عام 1925م عينت حكومة المحافظين البريطانية اللورد لويد محل اللنبى كمندوب سامى و كان صديقا مقربا لتشرشل وكان مثله يرفض الإعتراف بأن الإمبراطورية كانت فى إضمحلال . قبل لويد الموقف الدستورى فى مصر وإستخدم نفوذه ليمنع الملك فؤاد من محاولة إبعاد الوفد عن السلطة . ولكنه كان مصمماً على الحفاظ على تحفظات بريطانيا على إستقلال مصر ومن أجل ذلك إعتبر أنه من الضرورى عدم إنقاص عدد وصلاحيات المسئولين البريطانيين فى مصر - سواء المدنيين أو العسكريين - إلى الدرجة التى كان يعتبرها الحد الأدنى . وقد قاوم جهود الوفد - بشكل خاص- لتطوير القوات المسلحة وإستبدال القيادة العليا الإنجليزية بضباط مصريين . وخوفا من تكرار مثال ثورة عرابى كان لويد مستعدا دائما لإستدعاء السفن الحربية البريطانية إلى الإسكندرية فى أوقات الأزمات . وبشكل عام تمكن لويد من تنفيذ رؤيته السياسية لكنه كان محبطاً غاضباً وقد كتب لأحد أصدقائه ( إن موقفنا الحالى مستحيل فنحن لانستطيع أن نستمر كثيراً كما نحن هكذا إذا نملك ضخامة بلا موقف وقوة بلا سلطة ومسئولية بدون سيطرة ويجب أن أضمن أن لاتتدخل قوة أجنبية فى التعليم والطيران والإتصالات اللاسلكية والسكك الحديدية أو الجيش حيث يحاول الجميع أن يفعل ذلك ويجب أن أحقق ذلك دون زعزعة النظام البرلمانى الذى فرضناه على البلاد ضد رغبات الملك ).
كان تحليل لويد لغرابة الموقف البريطانى فى مصر صحيحاً. فقد ظل هدف الحكومة البريطانية هو تأمين معاهدة تحالف مصرية إنجليزية كان على مصر- وفى مقابل بعض الإمتيازات – أن تقبل بالحدود المفروضة فيها على الإستقلال المصرى والتى كانت بريطانيا تعتبرها أساسية بما فى ذلك الإدعاء بالسيادة على السودان . وعندما قام الملك فؤاد بزيارة رسمية إلى لندن فى سنة 1927م حاولت وزارة الخارجية البريطانية أن تبادر بمفاوضات من أجل معاهدة مع رئيس الوزراء المصرى ثروت باشا بدون علم لويد . شعر لويد بالرضى عندما رأى صحة تنبؤه بعدم إستعداد أى رئيس وزراء مصرى لتسويق مثل تلك المعاهدة للبرلمان المصرى . وعندما مات سعد زغلول باشا أثناء تلك السنة كان النحاس خليفته فى قيادة الوفد متلهفاً على أن يظهر أنه كان بطلاً غيوراً على إستقلال مصر التام مثل سلفه . وبعد عدة أسابيع من المناورات السياسية عديمة الهدف رفض البرلمان المصرى المعاهدة المقترحة . وعندما وصل رمزى ماكدونالد إلى الحكم فى بريطانيا على رأس حكومة العمال تم إستبدال لويد. كانت نوعيته الرمانسية اليمينية المحافظة شيئاً لايمكن أن تتحمله حتى حكومة ستانلى بلدوين المحافظة . وبُذلت محاولة أخرى للتوصل إلى إتفاقية وبدا النجاح فى الأفق هذه المرة حيث كانت بريطانيا مستعدة حتى لسحب قواتها من منطقة قناة السويس - ولكن وليس للمرة الأخيرة - إنهارت المفاوضات حول طلب مصر لمراجعة إتفاقية عام 1899م بشأن الحكم الإنجليزى المصرى المشترك للسودان . كان السودان مسألة قادرة على إثارة البلاد كلها لأنه حتى الفلاحين الأميين كانوا مدركين لأهمية فيضان النيل الذى تعتمد عليه حياتهم . لم يفقد الملك فؤاد الأمل فى إضعاف سيطرة الوفد على حياة مصر السياسية وعندما رفض الموافقة على قانونين قدمهما الوفد للبرلمان إستقال النحاس معتقداً أن الملك لن يستطيع مقاومة قوة الوفد الشعبية . وإتجه الملك إلى صدقى باشا وكان مليونير أوتوقراطى تولى مناصب وزارية فى حكومات عديدة – بكفاءة - لكنه كان يتبع طريقه الخاص دائماً . لم يكن صدقى رجل الملك لكنه كان مستعدا تماماً لأن يكرس حالة شبه دكتاتورية تحت الرعاية الملكية . وبمساعدة القوات البريطانية قام بقمع المظاهرات الشعبية وذهب إلى حد تعديل دستور 1923م والقانون الإنتخابى ليزيد من سلطات الملك ويضمن هزيمة الوفد فى إنتخابات 1931م . كان موقف صدقى قوياً بحقيقة أنه لم يكن فى الواقع ألعوبة فى يد بريطانيا أو القصر أو أى جهة أخرى . قام صدقى بتكميم الصحف وأنقص من قوة الوفد بمنعه من إستخدام أقوى أسلحته وهو السيطرة على الشارع . وفى نفس الوقت إنتهز فترة توقف ألنشاط السياسى ليظهر عبقريته فى المجال الإقتصادى.
كان صدقى واحدا من المشجعين الأساسيين للمشروع الرأسمالى المصرى أثناء الحرب العالمية الأولى وكانت قدراته بحجم مواجهة نتائج الكساد العالمى والتى إستطاع حماية مصر منها بقدر الإمكان . وقد تميز نظامه ببداية التحرك نحو الإبتعاد عن ليبرالية التجارة الحرة التى اُسست فى عهد كرومر وذلك نحو تمصير الإقتصاد . وفى المعارضة كان حزب الوفد يزداد شعبية وعندما اُجبر صدقى فى 1933م على التنازل عن رئاسة الوزراء بعد إصابته بسكتة دماغية خلفه رجال أقل حجما وأصبح الوفد قادراً على إثارة البلاد مطالباً برد دستور 1923م والذى كان من شأنه أن يعيده إلى السلطة حتما ً. وواجهت بريطانيا معضلة. كان المزاج الشعبى سيئاً للغاية. وفى نوفمبر 1935م حدثت مظاهرات ضخمة مؤيدة للوفد قام بها الطلاب فى القاهرة. وفى هذه المظاهرات جُرح قائد طلبة المدارس الثانوية- الرصين ذو السبعة عشر عاماً - جمال عبد الناصر فى جبهته من رصاصة أطلقها البوليس. ولكن بريطانيا كانت مازلت تكره رؤية عودة حكومة وفدية. ومع ذلك فقد كان هناك حل وشيك ، فرغم أن الوفد لم يكن قد فقد شيئاً من شهيته للسلطة فقد أصبح آنذاك أكثر إستعداداً للتوصل إلى تسوية . كان الوفد قد تعلم أنه ماكان يستطيع أبداً الإحتفاظ بالسلطة لفتر طويلة ضد مشيئة بريطانيا وفى نفس الوقت فقد كان يشارك بريطانيا مخاوفها المتزايدة بشأن الطموحات الإستعمارية الإيطالية فى إفريقيا والتى كانت قد إتضحت فى غزو إيطاليا للحبشة وإحتلالها .
كانت مصر تعتمد على بريطانيا فى مسائل الدفاع . وحيث تخلى الوفد عن مطلبه بالجلاء البريطانى الفورى والكامل فقد تحسنت علاقاته مع المندوب السامى البريطانى . وأصبح النحاس على علاقة طيبة بالمندوب السامى الرهيب - سير مايلز لامبسون - الذى كان يملك أكثر من سمة من سمات كرومر وكان قد عُين مندوبا ساميا فى 1933م وقدر له أن يبقى فى مصر لنحو ثلاثة عشر عاماً . وحتى الملك فؤاد - وكان مازال يكره الوفد - فقد أصبح مستعدا لتصور عودته إلى الحكم حيث كان من شأن ذلك أن يوفر للملك بعض شعبية كان فى أشد الحاجة إليها . وفى ديسمبر 1935م وافق على إسترجاع دستور 1923م. وبعد أربعة أشهر من ذلك التاريخ مات وخلفه ابنه الرقيق فاروق - ذو الستة عشر عاما ً- الذى عاد من فترة تعليم قصيرة وغير كافية قضاها فى إنجلترا. كان أول حدث هام فى الحكم الجديد هو توقيع معاهدة التحالف الإنجليزية المصرية فى 26 أغسطس 1936م والتى كان قد بُذل للتوصل إليها مالايقل عن ست محاولات غير ناجحة على مدى الأربعة عشر عاماً السابقة . وإذا ماكان تصريح 1922م قد أعطى مصر شبه إستقلال فقد حققت معاهدة 1936م بعض الباقى من هذا الإستقلال وأصبح السير مايلز مبسون سفيرا بدلاً من مندوب سامى وكفلت بريطانيا دخول مصر إلى عصبة الأمم كما تعهدت بإلغاء الإمتيازات الأجنبية سريعا. وفى مؤتمر مونتريه فى 1937م حصلت مصر من الدول الكبرى صاحبة الإمتيازات على حقوق كاملة فى فرض التشريع والضرائب على كل المقيمين. كانت المعاهدة لمدة عشرين سنة وتعهد الطرفان بتحالف أكبر فى 1956م على أن يكون من حق مصر الإحتكام إلى طرف ثالث فيما إذا كان وجود القوات البريطانية سيكون ضروريا فى مصر آنذاك. وبشكل رسمى كان الإحتلال قد إنتهى و كان على القوات البريطانية أن تنسحب إلى منطقة القناة وسيناء فقط طالما أن قدرات مصر الدفاعية كانت تتحسن. وأصبح لمصر السيطرة على قوات الأمن للمرة الأولى منذ عام 1882م وإسُتبدل المفتش العام البريطانى للجيش المصرى بآخر مصرى كما تم تمصير المخابرات العسكرية . وإنخفض عدد الأوربيين فى قوة البوليس رغم أن رسل باشا ظل على رأس قوة بوليس القاهرة حتى تقاعده بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ.
كان على مصر أن تتخلى عن طموحاتها فى إسترجاع سيطرتها على السودان ورغم أن شروط إنذار اللنبى عام1924م قد اُلغيت فلم يعد هناك قيود على الهجرة المصرية إلى السودان كما أصبح لزاماً أن توضع القوات المصرية - مثل القوات السودانية تماماً - تحت تصرف الحاكم العام . وأصبح من الممكن توظيف مسئولين مصريين فى الأماكن التى لايتوفر سودانيون لشغله ا. لكن ذلك لم يعنى أن الموقف السابق على سنة 1924م قد اُسُترجع تماماً لأنه فى ذلك الوقت كانت قد تطورت حركة وطنية سودانية كماأصبح مزيداً من السودانيين مؤهلين لإدارة شئونهم . كان الحكم الإنجليزى المصرى المشترك فى السودان خيالاً حيث ظلت بريطانيا هى الطرف المسيطر بشكل واضح . وكما بينت الأحداث فإن تنازلات المعاهدة لمطالب الوطنيين المصريين كانت قد عُطلت إلى حد كبير بالفقرة التى أعطت لبريطانيا الحق فى إعادة إحتلال البلد مع الإستخدام الغير مقيد للموانئ المصرية والمطارات والطرق فى حالة تورط بريطانيا فى الحرب . وقد مرت ثلاث سنوات فقط قبل الإضطرار إلى اللجوء لهذه الفقرة . ومع ذلك ففى سنة 1936م فإن رد الفعل الفورى للجماهير المصرية كان فى صالح المعاهدة . وهُتف بإبتهاج شديد بحياة الملك الشاب فى الشوارع وحتى السير مايلز لامبسون قد مُدح أيضاً. أصبح هناك آمال فى حقبة جديدة عندما أعطى الملك الإنطباع بأنه سوف يولى حالة الفلاحين المعدمين إهتماماً خاصاً. وفى ظل توجيهاته سوف يباشر الوفد بعض الإصلاحات بالفعل.
ولكن الحقيقة كانت مختلفة إلى حد ما. لم يكن فاروق يفتقد إلى الذكاء أو النية الحسنة ولكنه كان قد دُرب لمهمته بشكل سيئ كما أنه كان يشارك والده فى بغضه للوفد وفى ميله للتآمر السياسى . ظل الوفد هو حزب الجماهير والتعبير الحقيقى عن مصر السياسية. ومع ذلك- فقبل المعاهدة - كان عداؤه لبريطانيا هو البند الحقيقى فى أجندته السياسية. كانت صفوفه تحتوى على كل الإتجاهات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ولكن مركز ثقله كان يميل نحو اليمين بشكل كبير. وكانت الغالبية العظمى من هؤلاء الذين كانوا يصوتون له من المناطق الريفية التى كان يسيطر عليها كبار ومتوسطى ملاك الأراضى . كانت قلة قليلة فقط من أعضاء الوفد فى البرلمان ترغب فى إحداث تغيير فعلى فى النظام الإقتصادى والإجتماعى لمصر وبصفة خاصة فى أى إصلاح لنظام ملكية الأرض الغير عادل - بشكل خيالى- والذى كان يعنى أن6% من الملاك كانوا يملكون 63% من الأرض المزروعة. ومن جانب آخر فإن القطاع الصناعى المصرى الصغير- النامى مع ذلك - كان ملكا لعدد قليل من أثرياء المصريين خارج الوفد مثل صدقى باشا وطلعت حرب الذى تعاون مع عدد من الصناعيين ورجال المال الأوربيين فى تأسيس إتحاد الصناعات المصرية عام 1924م. فقط فى ميدان واحد هو ميدان التعليم كان يمكن للوفد أن يدعى أنه قد حقق بعض الإصلاح ليعوض تقصير حقبة كرومر. كان واحد من أول أعمال حكومة سعد زغلول فى سنة 1923م هو إعلان التعليم مجاناً وإلزاميا. كانت ميزانية التعليم آخذة فى الزيادة بشكل ثابت فى العشرينيات والثلاثينيات كما إرتفع عدد التلاميذ من الجنسين بشكل سريع. كان التوسع ملحوظا أكثر فى التعليم الثانوى والجامعى. ولكن كان هناك عيوب خطيرة. فحيث بُنى عدد قليل من المدارس الجديدة فقد إكتظت الفصول وإنحدر المستوى التعليمى بالإضافة إلى أنه لم تُبذل أى محاولة لتكييف النظام التعليمى مع حاجات مصر. وكما أصبح بعد ذلك مميزا لكثير من الدول حديثة الإستقلال فإن عدد كبير من خريجى المدارس الثانوية الحكومية والجامعات كان غير قادر على إيجاد وظيفة . وقد تضاعفت المشكلة بوجود شبكة منفصلة تماماً من المدارس الأجنبية العلمانية والدينية مع نظام التعليم الحكومى المصرى. كان لهذه المدارس سمعة كبيرة لكنها كانت تؤكد الفوارق الإجتماعية بقوة حيث كان أبناء وبنات الطبقة المصرية العليا الذين يرسلون إليها ينشئون وهم يتكلمون الفرنسية ويشعرون بالقليل المشترك مع الغالبية العظمى من أبناء بلدهم.
وبدأ الطلبة يظهرون عدم صبر وتذمر متزايد تجاه الوفد وشكل الديموقراطية البرلمانية المصرية المعوقة. وإعتبر الكثير منهم المعاهدة الإنجليزية المصرية خيانة وتطلع البعض منهم إلى قائد جديد بليغ جذاب كان مدرساً سابقاً يسمى حسن البنا الذى أسس جماعة الإخوان المسلمين فى الاسماعيلية سنة 1928م. وفى سنواته الأولى كان البنا يجذب الفقراء والأميين ولكن فى سنة 1934م بعدما نقل مركزه الرئيسى إلى القاهرة بدأ فى جذب مؤيدين أكثر تعليما من بين الطلاب والمدرسين والموظفين المدنيين وضباط الجيش. وإنتشرت فروع من حركة الإخوان فى جميع أنحاء مصر. كان مدخل البنا بسيطاً ومثالياً . فقد كان يدعو إلى دولة إسلامية تؤسس على القرآن الكريم حيث أن تقاليد الإسلام توفر كل شئ يحتاجه النظام الإجتماعى. ولكن وبرغم أن الإخوان كانوا يفتقدون إلى برنامج سياسى فقد كان لهم تنظيم يتكون من شبكة من الفروع. وبدأت جماعات الشباب فيها تتلقى تدريبا عسكرياً. كان هناك منافسون للإخوان فى توجههم إلى الشباب المصرى. كان هناك مصر الفتاة حزب أحمد حسين والذى كان إسمياً حزباً إشتراكياً لكنه كان بزيه الخاص من القمصان الخضر- على نمط قمصان موسولينى- ذا شخصية فاشية إلى حد كبير. وفى مواجهة ذلك شكل الوفد جماعة منافسة من القمصان الزرق دخلت فى سلسلة من المعارك الضارية مع القمصان الخضر فى الجامعات. لم يمض وقت طويل قبل أن تتكون حركة شبابية ملكية على النمط الفاشى وتدخل إلى ميدان الصراع. كانت الحياة السياسية المصرية فى تدهور شديد. ورغم أن المعاهدة الإنجليزية المصرية لم تكن مقبولة بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يرغبون فى وضع نهاية لكل آثار الإحتلال البريطانى فقد كان لها أثر جانبي ساعد على تحقيق هدفهم ذلك. كان الجيش المصرى قد أصبح آنذاك حليفاً من الناحية النظرية للبريطانيين ولذا فقد كانت بريطانيا متلهفة على تحسينه وفى نفس الوقت كان الوفد يحتاج إلى تأييد الجماهير. وللمرة الأولى أصبحت الأكاديمية العسكرية مفتوحة للشباب المصرى من غير طبقة ملاك الأراضى الأرستقراطيين. وأصبح فى مقدور شباب من أمثال جمال عبد الناصر وأنور السادات وعشرات من الشباب المصرى الطموح أن يسلك طريق المهنة العسكرية ومن ثم يلعب دوره فى حركة الضباط الأحرار التى قامت بثورة 23 يوليو بعد سبعة عشر عاماً من ذلك التاريخ والتى وضعت نهاية لكل من الملكية والإحتلال البريطانى معاً . كان الوفد فى إضمحلال بطئ لكنه ثابت لايمكن إيقافه ولم يعد يملك السيطرة الغير منازعة على الجماهير كما كان الحال أيام سعد زغلول.
قام الملك فاروق والذى أصبح آنذاك يتمتع بميزة على أبيه فى سيطرته على بوليسه السرى الخاص وعلى حركة الشباب البرلمانية بتعيين السياسى المستقل على ماهر باشا رئيساً لوزرائه. وفى ديسمبر 1937م شعر أنه قوي لدرجة كافية فقام بطرد الوفد من الحكم بحجة أنه قد تعدى على روح الدستور. وفى الإنتخابات التى تلت ذلك - والتى زُورت إلى حد ما- عانى الوفد هزيمة ثقيلة. وفى أغسطس 1939م قبل أسبوعين تقريباً من إندلاع الحرب العالمية الثانية شعر الملك بأنه قادر على تعيين على ماهر رئيساً للوزراء. ومع ذلك ورغم أن قوة الوفد كانت فى إنحدار فقد كان مازال على الملك أن يضع إعتباراً للسفارة البريطانية وكانت تلك قد أصبحت آنذاك فى تحالف أمر واقع مع الوفد. وبالرغم من أن لامبسون نظريا لم يعد يملك نفس درجة كرومر من السلطة فقد كان يتصرف كما لو أنه يملكها بالفعل وقد أعادت ذكرى معاملته للملك الشاب ذكرى معاملة كرمر للخديوى المتمرد عباس حلمى الثانى قبل أربعين سنة من ذلك التاريخ . كان لامبسون يشير إلى الملك بإحتقار بصفة الولد وكان يُطمئن وزارة الخارجية بأنه كان قادراً تماماً على التعامل معه. أما فاروق الذى كره لامبسون من اللحظة التى وصل فيها الأخير إلى مصر فقد كان يفتقد إلى الشجاعة وقوة الشخصية للتمسك بموقفه ضد السفارة البريطانية فى المسائل ذات الأهمية السياسية الحقيقية وكان فقط يستطيع أن يثير غضب لامبسون فى المسائل الصغيرة كجعله ينتظر فترات طويلة قبل السماح بمقابلته.ومع ذلك فربما كان من الممكن التوصل إلى تسوية مؤقتة إذا لم تنشب الحرب فى سنة 1939م حيث زاد ذلك من أهمية مصر بشكل كبير كقاعدة عسكرية بالنسبة لبريطانيا وفى نفس الوقت فقد شددت من قبضة لامبسون فى تعامله مع الملك.

2- الإنتدابات .

كان نظام الإنتداب الذى وضعته عصبة الأمم بموجب الفقرة 22 من ميثاقها شيئاً غير مسبوق. وكان أيضاً نوعا من التسوية لأن القوى المنتصرة فى الحرب العالمية قد رغبت فى الإحتفاظ بالمستعمرات الألمانية السابقة وبأقاليم الإمبراطورية العثمانية والتى كانت قد بذلت فى معظم الحالات تضحيات كبيرة من أجل غزوها و أصدرت تعهدات متكررة بعدم رد سكانها إلى أسيادهم السابقين. كما أصدرت أيضاً تعهدات قوية بأن ضم هذه ألأقاليم لم يكن هدفها من الحرب.
وكان النموذج على ذلك هو الإعلان الإنجليزى الفرنسى عن الأقاليم العثمانية السابقة الصادر فى 5 نوفمبر 1918م. لم تكن الإنتدابات مستعمرات ولكن شكلاً من أشكال الثقة التى تقوم الدولة صاحبة الإنتداب من خلالها بإدارة الإقليم تحت إشراف عصبة الأمم من خلال اللجنة الدائمة للإنتداب. وكان المجلس الأعلى لعصبة الأمم يحدد شروط الإنتداب وحدود المناطق الخاضعة له. لم تكن الولايات المتحدة عضواً فى عصبة الأمم ولكنها كاحد الحلفاء السابقين فقد أصرت على ضرورة موافقتها على الإنتدابات. ومن ثم فقد عُرضت كل إقتراحات الإنتدابات على الولايات المتحدة والتى وافقت عليها بشرط ضمان المعاملة الحرة والمتساوية أمام القانون - وفى الواقع - لتجارة كل الأمم. والواقع أن بعض رجال الدولة البريطانيين والفرنسيين قد إعتبروا أن التمييز بين الإنتداب والمستعمرات لم يكن أكثر من خيال. وكان اللورد كيرزون وزير الخارجية البريطانى أكثرهم صراحة حين قال أمام مجلس اللوردات فى 25 يونيو 1920م ( أنه من الخطأ تماماً أن نفترض بأنه بموجب ميثاق عصبة الأمم أو أى وسيلة أخرى فإن هبة الإنتداب تقع فى يد عصبة الأمم لأنها ليست كذلك فهى تقع بيد الدول الكبرى التى غزت المناطق التى سقطت بأيديها لتوزعها فيما بينها الآن وقد كان فى مثل هذه الظروف أن مُنحنا وقبلنا الإنتدابات على فلسطين والعراق كما مُنح وقبل الإنتداب الفرنسى على سوريا ).
كانت المناطق المنتدب عليها والتى تشمل المستعمرات الألمانية السابقة فى إفريقيا والباسفيك فى مراحل مختلفة من التطور السياسى والإجتماعى وحيث أن أساس الإنتداب كان هو حصولها على الإستقلال بمجرد أن يصبح ذلك ممكناً عملياً فقد تم تقسيمها إلى ثلاث فئات وضُمنت الولايات التركية السابقة فى العراق وفلسطين وسوريا فى الفئة الأولى التى يمكن التنبؤ بإستقلالها المبكر. وصدرت الإنتدابات عليها لبريطانيا وفرنسا فقط بعد أن وُضعت معاهدة لوزان موضع التطبيق فى أغسطس سنة 1924م حيث كان الحليفان قد قاما فى ذلك الوقت بعمل العديد من ترتيبات الأمر الواقع من أجل تأسيس الحدود وأشكال الإدارة والتى لم تكن عصبة الأمم فى موقف يسمح لها بالإعتراض عليها أو إلغائها. كان هناك كثير من حقائق الأمر الواقع التى كان يجب قبولها .لقد كان من المفترض أن تتمتع عصبة الأمم بحق مطلق فى الإشراف على الإنتدابات كما كان لزاما على القوى المنتدبة أن تقدم تقاريرا سنوية عن مماراسات وصايتها وبالإضافة إلى ذلك كان يمكن للعصبة أن تستقبل أى إلتماسات من سكان المناطق المنتدب عليها ومن الأطراف الأخرى صاحبة الإهتمام. لكن أضعف نقطة فى النظام كانت تكمن فى إستحالة التحقيق المستقل للتقارير الإنتدابية والتى إختلفت فى إكتمالها ودقتها.

1. العــراق .

كانت مملكة العراق الجديدة تعانى من مشاكل عديدة ترتبط بوحدتها الوطنية وكانت القوى الطاردة قوية جداً . كانت الأقلية الكبيرة المتمردة للأكراد فى الشمال تشعر بأنها قد جُردت من آمالها فى حق تقرير المصير بتسوية مابعد الحرب . كان هناك أيضاً أقليات هامة من التركمان والأشوريين المسيحيين . وكان السكان العرب ينقسمون إلى سنة وشيعة وكان الشيعة أكثر عدداً ولكن السنة كانوا مسيطرين سياسياً . ومع ذلك فربما كانت العراق الأكثر نجاحاً بين أنظمة الإنتداب . ورغم أن الملك فيصل الأول كان قد فُُرض على البلاد من الخارج فقد أثبت أنه كان قوة توحيد فعالة . وتمت السيطرة تدريجياً على خروج الأكراد والقبائل البدوية على القانون . كما تمت السيطرة على المرجعيات الشيعية الدينية والتى كانت من أصول فارسية بشكل أساسى . لم تكن العلاقات مع فارس ودية ولكنها ظلت سلمية . ولكن النزاع الحدودى مع ابن سعود والذى تفاقم بسبب المنافسة السعودية الهاشمية كان قد إزداد حدة ولكن تم التوصل إلى درجة من التفاهم من خلال الوساطة البريطانية . كانت العلاقة مع الأسياد الأتراك السابقين هى الأشد صعوبة . ففى مؤتمر لوزان سنة 1923م طالبت الجمهورية التركية بإسترداد معظم ولاية الموصل والتى كان يعتقد بشكل كبير أنها غنية بالنفط . وبعد سنتين من النزاع داخل عصبة الأمم قبلت تركيا على مضض - ولكن بوضوح - بأحقية العراق للموصل . وبعد هزيمة المسئولين البريطانيين الذين كانوا يفضلون ضم العراق إلى الإمبراطورية - فى أعقاب الحرب مباشرة - اُتبعت سياسات ليبرالية نوعاً ما. وتم تقليص صلاحيات المسئولين البريطانيين تدريجيا والتى كانت كثيرة فى البداية . وفى سنة 1924م إجتمعت جمعية تأسيسية وأقرت فى العام التالى معاهدة إنجليزية عراقية وقانون أساسى جعل الوزراء العراقيين مسئولين أمام برلمان مكون من مجلسين . ومع ذلك فإن تلك المعاهدة والتى إحتفظت لبريطانيا بحقوق حصرية هامه فى العراق كانت قد اُقرت تحت ضغط بريطانى ثقيل ضد المعارضة الراديكالية التى كانت تطالب بإستقلال غير مقيد.
وفى أواخر العشرينيات أصبحت بريطانيا مستعدة لإنهاء الإحتلال بسرعة بشرط إمكانية الحفاظ على المصالح البريطانية . ولكن تأخر الوصول إلى معاهدة جديدة بسبب المعارضة الوطنية المستمرة لأى وصاية بريطانية فى شكل مقنع . وقد أصر بعض أعضاء عصبة الأمم أيضاً على أن العراق لم يكن بعد مستعداً للإستقلال الكامل . وكانت فرنسا- بشكل خاص- تخشى أن يكون ذلك سابقة محتملة تؤثر على إنتداباتها نفسها . وأخيراً تم التوصل إلى معاهدة إنجليزية عراقية فى سنة 1930م تنص على تحالف لمدة خمس وعشرين سنة يتعهد خلالها كلا البلدين بالتشاور من أجل التوفيق بين مصالحهما المشتركة فى مسائل السياسة الخارجية . وكان لبريطانيا الحق فى أن تستخدم بعض القواعد الجوية فى العراق والوسائل المتاحة للإتصالات وفى المقابل كان عليها أن تقدم مساعدة عسكرية فى تدريب الجيش العراقى . وفى عام 1932م إنتهى الإنتداب البريطانى رسمياً وأصبح العراق مستقلا وإنضم إلى عصبة الأمم تحت الرعاية البريطانية . ومع ذلك ظل قسم كبير من الرأى العام العراقى غير راضي معتقدا أن البلاد كانت مازالت تحت السيطرة البريطانية . وكان يرى أن ذلك الخضوع قد تفاقم بسبب نفوذ شركة النفط العراقية التى كانت تحتكر مصادر النفط العراقى . وفى أغسطس 1933م كان قيام وحدة من الجيش العراقى بذبح ثلاثمائة قروى آشورى فى شمال العراق بمثابة فاتحة مشئومة للإستقلال . كان معظم الرأى العام العراقى قد إستحسن المذبحة ولم تتم معاقبة الجنود الذين إرتكبوها أبداً . وغادر قسم كبير من الأقلية الآشورية إلى سوريا .
مات الملك فيصل الأول فجأة فى عام 1933م وخلفه ابنه غازى . كان غازى أنيقا محبوبا يحظى بسمعة جيدة كقومى عربى ولكنه كان يفتقد إلى قوة شخصية والده . وفى عام 1927م كان النفط قد اُكتشف فى كميات تجارية بالقرب من كركوك فى الشمال وفى عام 1934م بدأ الإنتاج الذى حقق أولى العائدات الهامة وحققت مجالات الرى والإتصالات والخدمات العامة كلها تقدماً وبدأ تطوير المصادر الكامنة الواسعة للبلاد. ومع ذلك فإن غياب الملك فيصل قد جعل من تطوير نظام سياسى قابل للحياة أمرا أكثر صعوبة. كان يخدم البلاد بعض الوزراء القديرين والمخلصين وبعض المسئولين الذين إستمروا بعد الفترة العثمانية وكان نورى السعيد أبرزهم. ولكن الديموقراطية البرلمانية فشلت فى أن تغرس لها جذورا ولم تتطور أى أحزاب سياسية حقيقية. كانت الإنتخابات تحت السيطرة بشكل كبير وظلت الجماعات المحافظة والمصالح الطبقية هى المسيطرة . وخلفت مجموعة من الوزارات الغير كفؤة والرجعية الإستبدادية بعضها البعض. لم يكن لدى السياسين أى تردد فى تدبير تمرد قبلى- قد لايمكن السيطرة عليه تماماً - ضد الحكومة التى يكون فيها منافسوهم.
وقد عارض تحالف من مثقفى وإصلاحيى الطبقة الوسطى وبعض ضباط الجيش و الشباب الوطنى الذى ألهمه نموذج كمال أتاتورك ، هذا النموذج القديم من السياسيين.
وفى عام 1936م إستولى هؤلاء على الحكم بقيادة الجنرال بكر صدقى . إنتهت الحركة بعد عشرة أشهر كما كانت قد بدأت بإغتيال وإنقلاب عسكرى وقد فشلت لأن العناصر الإصلاحية فيها سرعان مانُحيت جانبا فإنقسم الجيش ونفر معظم الشعب من الحكام الجدد. ولكن الإنقلاب كان حدثا ذا مغزى كبير لأنه أسس سابقة للإنقلابات العسكرية فى العالم العربى. وبرغم فشله فقد إكتسب الجيش العراقى من تلك التجربة ثقة جديدة بالنفس ورغبة فى التدخل فى الحياة السياسية. ظلت جماعة الجيش التى أطاحت ببكر صدقى فى السلطة من خلف ستار قادرة على تشكيل وفض الوزارات . ومع ذلك ففى عام 1938م كانت هذه المجموعة التى عُرفت بإسم مجموعة السبعة وسيلة فى إيصال مدنياً إلى السلطة هو نورى السعيد . وكان من شأن نورى وهو محافظ مؤيد لبريطانيا أن يسيطر على الدولة العراقية - من خلال شخصيته القوية ودهائه السياسى- للسنوات العشرين التالية.

2- سوريا ولبنان.

بعد توسيع لبنان على حساب سوريا أقامت فرنسا سياستها فى الإنتدابين على أساس تقوية وترقية العناصر المسيحية المارونية الفرانكفونية التقليدية ضد السكان العرب المسلمين. ففى السنوات الأولى من الإنتداب تصرفت فرنسا فى كلا البلدين بأسلوب الحكومة الإستعمارية التى تدعمها القوة العسكرية الفائقة ، فأخضعت الصحف للرقابة كما تم قمع المظاهرات الوطنية على الفور. كانت شروط الإنتداب قد نصت على دستور للبلدين فى خلال ثلاث سنين ولكن فرنسا كانت تعتبر خلق دولة متحدة مستقلة فى سوريا هو هدف بعيد جداً. وإعتبر الجيش الفرنسى أن السيطرة على الإقليم أمراً أساسياً كما كان السياسيون الفرنسيون قلقين بشكل دائم بالأثر المحتمل للتنازلات على ممتلكات فرنسا فى شمال إفريقيا. وقد قبل بعض أفراد من الأقليات وقسم صغير من الأكثرية المسلمة السنية إمكانية أن يكون للحكم الفرنسى بعض الإمتيازات ولكن الأغلبية العظمى خاصة النخبة المثقفة طالبت بالإستقلال الفورى وذهب الكثير منهم إلى أبعد من ذلك وأصروا على أن تشمل الدولة المستقلة فلسطين والأردن أيضاً.
وقامت فرنسا من جهة أخرى - وبهدف واضح فى تقسيم سوريا من أجل أن تحكمها بسهولة- بتقسيم البلد إلى أقاليم منفصلة مستقلة ذاتياً - واحد فى جبال العلويين فى الشمال الشرقى والتى تسكنها بصفة رئيسية طائفة من العلويين شبه الشيعة( النصيرية) وواحد فى جبل الدروز فى الجنوب حيث كان معظم السكان من الدروز وواحدا فى الجزء الباقى من سوريا وعاصمتها دمشق . وفى المنطقة الأخيرة اُعطى إقليم الإسكندرونة وضعاً خاصاً بخليطه من السكان العرب والترك والأرمن . وكان لكل الأقاليم الثلاثة إدارات مستقلة ذاتيا لها مستشارون فرنسيون ولكن كان هناك إدارة إشراف عليا يرأسها المندوب السامى لسوريا ولبنان فى بيروت . وسرعان ماإهتز ذلك الإطار الهش عندما أدت ثورة قامت فى جبل الدروز سنة 1925م بسبب بعض المظالم المحلية إلى تحالف بين الدروز ووطنى دمشق الذين كانوا قد بدأوا فى تنظيم أنفسهم فى حزب الشعب .إخترق محاربو الدروز لبنان ووصلوا حتى ضواحى دمشق مما سبب يومين من القصف الفرنسى . وإستمر التمرد لفترات متقطعة لمدة سنتين مخلفاً كثيراً من المرارة ولكنه أجبر الفرنسيين على إتباع سياسة أكثر توفيقية فسمحوا فى سنة 1928م بالإنتخابات من أجل جمعية تأسيسية فاز فيها الوطنيون بنسبة كبيرة وأسسوا مجلسا للوزراء . كان الدستور الذى وضعت الجمعية مسودته غير مقبول من الفرنسيين - كما كان يتوقع - لأنه أشار إلى وحدة سوريا الجغرافية ولم يشر إلى الإعتراف بالسيطرة الفرنسية . وفى سنة 1930م قام المندوب السامى الفرنسى - ومن طرف واحد - بإعلان دستور جديد جعل من سوريا جمهورية برلمانية مع الإحتفاظ بسيطرة فرنسا على الشئون الخارجية والأمن . وأعقب ذلك مفاوضات متقطعة غير ناجحة من أجل صياغة معاهدة فرنسية سورية يمكن أن تكون مقبولة للطرفين. ومع ذلك وبحلول عام 1936م نشأ موقف جديد . فقد وصلت حكومة جبهة شعبية يسارية إلى الحكم فى فرنسا كما قدمت بريطانيا سابقة بمنحها الإستقلال للعراق وتوصلها لإتفاقية معاهدة مع مص ر. ومثلهم مثل نظرائهم المصريين كان الوطنيون السوريون - الذين كانوا قد نظموا أنفسهم فى كتلة تحالف وطنى - معنيين بالتوترات المتصاعدة فى إقليم البحر المتوسط بسبب الطموحات الإستعمارية الإيطالية . كانت المفاوضات قد حققت تقدماً فى ذلك الوقت وفى سنة 1936م وُقعت معاهدة تمنح سوريا الإستقلال مع التشاور الفرنسى السورى فى السياسة الخارجية وإعطاء فرنسا الأولوية فى تقديم النصيحة والمساعدة لسوريا وإحتفاظها بقاعدتين عسكريتين هناك . كما تقرر ضم إقليمى الدروز والعلويين إلى سوريا.
ومع ذلك ورغم أن البرلمان قد صادق على المعاهدة فإن مجلس النواب الفرنسى لم يصادق عليها أبداً ومن ثم ظلت غير مفعلة. وسقطت حكومة الجبهة الشعبية وحل محلها مجلس وزراء شديد اليمينية فأصر على الإحتفاظ بسيطرته على دول الليفانت لأسباب إستراتيجية وإقتصادية.
كان هناك إحتمالات لإكتشاف النفط فى الشمال الشرقى من سوريا كما كانت سوريا ولبنان تقعان عبر الطرق الجوية إلى الشرق الأقصى . ومع التهديد المتجدد للحرب مع ألمانيا أصبح التأثير المحتمل للإستقلال السورى على شمال إفريقيا أكثر أهمية حيث كان يمكن لفرنسا بتعداد سكانها البالغ أربعين مليونا أن توازن تعداد ألمانيا البالغ ثمانين مليون نسمة فقط بالإعتماد على القوى البشرية لشمال إفريقيا. وقد قاد إحتمال الحرب مع ألمانيا فرنسا إلى التفاهم أيضاً مع تركيا حول إقليم ألكسندريتا التى كانت تركيا تدعى ملكيته. وفى سنة 1937م منحت فرنسا المقاطعة وضع الحكم الذاتى الكامل وبعد أن ضمنت لجنة فرنسية تركية أغلبية تركية فى الإنتخابات البرلمانية ( رغم تفوق العرب والأرمن العددى على الأتراك ) وافقت فرنسا على دمج إقليم ألكسندريتا فى تركيا فى يونيو 1939م. واُعيد تسمية الإقليم بإسم هاتاى. والواقع أن تركيا ظلت محايدة أثناء الحرب العالمية الثانية لكنها على الأقل لم تكن حليفاً لألمانيا كما حدث فى الحرب الأولى. ولكن حتى الوقت الحاضر مازلت الخرائط الرسمية للجمهورية العربية السورية تظهر إقليم ألكسندريتا (الإسكندرونة) كجزء من سوريا . وبحلول عام 1939م أصبح واضحا أنه لم يكن لدى الحكومة الفرنسية النية فى التصديق على المعاهدة الفرنسية السورية وإستقال الرئيس السورى عشية الحرب العالمية الثانية وعُلق الدستور .
كانت فرنسا تتوقع أن تكون لبنان بأغلبيتها الفرانكفونية المسيطرة أسهل فى الحكم من سوريا. ومع ذلك فإن خلق لبنان الكبير والذى إحتوى على كثير من المسلمين والمسيحين غير الموارنة قد سبب تغييرا فى ميزان السكان . ورغم أن الموارنة قد ظلوا أكبر جماعة مفردة فإن أغلبيتهم الضعيفة كانت تتآكل نتيجة معدلات مواليدهم الأكثر إنخفاضاً وإتجاههم المتزايد نحو الهجرة عن غيرهم من الجماعات . وفى عام 1926م - وبقليل من التشاور مع اللبنانين- صيغ دستور جديد فى باريس ، ينص على برلمان ذو مجلسين تشريعين ورئيس.
وفى محاولة لتخفيف التوترات الطائفية تأسس المبدأ القاضى بتوزيع مقاعد البرلمان ومجلس الوزراء على أساس التوافق الدينى. كان الرئيس مارونياً ورئيس الوزراء مسلماً سنياً ورئيس مجلس النواب شيعياً . وتقرر أيضاً أن يوجد دائماً عضو أرثوزكسى يونانى وعضو درزى فى مجلس الوزراء . ومع ذلك كان الرئيس الذى كان ينتخب لدورة مدتها ستة سنوات ويملك الحق فى تعيين رئيس الوزراء يتمتع بالقدر الأعظم من الصلاحيات وظل الموارنة مسيطرين سياسياً وإجتماعياً فى البلاد. ولكن- عاطفياً - فإن قسما كبيراً من السكان اللبنانيين رفض بقوة السيطرة الفرنسية وكان يرى نفسه سواء جزء من سوريا أو من أمة عربية أوسع . كان نمو الذات الوطنية اللبنانية المرتبطة بالأرض نموا هشا وأصبح أكثر صعوبة بسبب الأساس الطائفى للنظام السياسى ولكنه قد يكون من الخطأ أن نفترض أن مثل تلك الذات الوطنية لم توجد . فلم يتفق سكان طرابلس وصيدا والبقاع على الرغبة فى الإنسحاب من الجمهورية اللبنانية . لقد كان يمكن أن تتقوى وحدة الأمة اللبنانية بشكل كبير وكذلك تجنب كثير من المشاكل فى المستقبل إذا كان الموارنة قد وافقوا على مشاركة أكثر مساواة فى السلطة بالسماح - على سبيل المثال - بتداول الرئاسة بين المسيحين والمسلمين . ومع ذلك فإن إزدهار بيروت كمركز للتجارة والخدمات قد ساعد على نمو طبقة وسطى من كل من المسلمين والمسيحين لديها بعض المشاعر المشتركة بمصالح وطنية تجاوزت الولاءات الطائفية إلى حد ما . وقد إنضم بعض الموارنة البارزين إلى الحركة الوطنية الوليدة المطالبة بالإستقلال والناقدة للتدخل الفرنسى المتزايد فى الحكم . وفى عام 1936م إذاع البطريرق المارونى مجموعة من المذكرات التى عبرت عن هذه الانتقادات بالتفصيل . وفى نفس السنة إقترحت الحكومة الفرنسية معاهدة فرنسية لبنانية تماثل تلك التى عُقدت مع سوريا - ولكن تماماً كما حدث فى حالة سوريا - فرغم أن هذه المعاهدة قد تم التصديق عليها بسرعة من قبل البرلمان اللبنانى فإن الحكومات اليمينية التى خلفت الجبهة الشعبية فى فرنسا لم تصادق عليها أبد اً.
أما خارج النطاق السياسى فلم تكن إنجازات الإنتداب الفرنسى بسيطة . فقد أدخل نظام إداري حديث نسبيا وتم تنظيم الجمارك وتسجيل الأراضى على أساس نظام جديد لمسح الأراضى وأُنشئت كثير من الطرق وحُسنت الخدمات المدنية وفى دمشق وحلب بُودر ولأول مرة بإدخال نظام تخطيط المدن . كان أحد أكبر إنجازات الإنتداب هو تأسيس إدارة للآثار لحفظ وإدارة الميراث الأثرى الفريد لدول ألليفانت . وقد مُنحت الزراعة بعض التشجيع خاصة فى إقليم الجزيرة فى شمال شرق سوريا ولكن التأثيرات الإقتصادية للإنتداب قد تأثرت بالضعف المزمن للفرنك الفرنسى التى كانت تعتمد عليه العملات السورية واللبنانية. وأيضاً فقد سببت سياسة منح الإحتكارات للشركات الفرنسية - التى كانت تحول أرباحها إلى فرنسا - كثير من الإستياء . وقد نال التعليم دفعة قوية رغم أن السياسة التعليمية كانت محل خلاف فى بعض الحالات . وتم تشجيع اللغة والثقافة الفرنسيتين . وتعلم الأطفال العرب الرؤية الفرنسية للتاريخ وتعلموا حتى نشيد المارسليز . وحصلت مدارس البعثات الأجنبية على الحماية وظل النظام التعليمى فى لبنان ومعظم التعليم العالى تقريباً فى أيدى الفرنسيين مع التدريس باللغة الفرنسية أو الإنجليزية فى الغالب . وكنتيجة لذلك كان المستوى التعليمى للشعب اللبنانى ككل أعلى من أى مكان آخر فى الإمبراطورية العثمانية السابقة . ومن ناحية أخرى فإن عدم وجود نظام تعليمى رسمى قد أثر سلباً على تطوير الوحدة الوطنية . وفى سوريا حيث كانت مدارس البعثات أقل أهمية كثيراً فقد تم تأسيس نظام تعليمى رسمى فى ظل الإنتداب كما تأسست جامعة دمشق وكانت الدراسة فيها باللغة العربية بشكل أساسى.

3- فلسطين والأردن.

عندما تولت الحكومة البريطانية الإنتداب على فلسطين فى 1919م لم تكن مدركة أنها مقبلة على الإضطلاع بمهمة مستحيلة وكان من شأن فشلها فى حل المشاكل الناجمة عن ذلك الإنتداب أن يُفسد علاقات بريطانيا مع العرب لمدة جيل تقريباً . كانت المادة السادسة من وعد بلفور - التى ضُمنت فى شروط الإنتداب - تنص على أن إدارة فلسطين - وفى الوقت الذى تضمن فيه أن حقوق ومراكز القطاعات الأخرى من السكان لن تضار - سوف تُسهل فى نفس الوقت الهجرة اليهودية فى ظل ظروف مناسبة وسوف تُشجع التعاون مع الوكالة اليهودية المشار إليها فى المادة الرابعة وكذلك الإستيطان المستقل لليهود فى الأراضى الغير مطلوبة للأغراض العامة بما فى ذلك أراضى الدولة والأراضى المهجورة .
كان السيد هربرت صموئيل - أول مندوب سامى فى فلسطين فى الفترة بين سنة 1920م إلى سنة 1925م - يهودياً وكان أول من أن إقترح فكرة فلسطين اليهودية على مجلس الوزراء البريطانى فى 1914م. لكنه لم يكن أبداً عضواً نشطاً فى الحركة الصهيونية وكمندوب سام فقد قام بمجهودات كبيرة لإنصاف قطاعات السكان الأخرى مسبباً فى النهاية خيبة أمل وحتى بغض الصهاينة . وقد أنشأ إدراة تتكون من مسلمين ومسيحين ويهود كما عمل لبعض الوقت مع مجلس إستشارى بنفس التكوين وكان يأمل أن يؤدى فى النهاية إلى مجلس تشريعى منتخب جزئياً لجماعة مشتركة ولكن العرب الذين كانوا قد رفضوا أصلاً كل من الإنتداب ووعد بلفور قد قاطعوا الإنتخابات وطالبوا بحكومة وطنية . ونتج عن ذلك أعمال شغب عنيفة . وبناء على إصرار صموئيل أصدرت الحكومة البريطانية ورقة بيضاء معلنة عن نيتها فى حفظ التوازن بين الجماعات العربية والجماعات اليهودية. ومع ذلك فقد كان العرب مقتنعين أن النية الحقيقية بذلك كانت هى الإنتظار على منح الحكم الذاتى لحين نمو اليهود فى فلسطين بالقدر الكافى فى العدد والعدة التى تسمح بتفوقهم وإستمروا فى مطالبتهم بحكومة وطنية فوراً مستشهدين بالوعود التى اُعطيت للعرب أثناء الحرب ورفضوا إقتراح صموئيل بتكوين وكالة عربية للتوازن مع الوكالة اليهودية . كان لأحد أفعال صموئيل ذات النية الحسنة تجاه العرب نتائج خطيرة . فلكى يحافظ على التوازن بين العائلتين الكبيرتين فى أورشليم فقد حول إنتخابات مفتى القدس لصالح وطنى شاب هو الحاج أمين الحسينى . ومن موقعه ذلك تمكن الحاج أمين - وكان وطنيا صلبا لكن تنقصه الخبرة السياسية- من تحقيق الزعامة على عرب فلسطين . ومع ذلك فقد كانت السنوات بين1923 و1929م هادئة نسبياً وبصفة خاصة لأن المخاوف العربية كانت قد تراجعت بسبب إنخفاض الهجرة اليهودية . ففى سنة 1927م لم يكن هناك أى هجرة إلى فلسطين وفى سنة 1928م بلغ حجم الهجرة الكلية عشرة أشخاص فقط . وإستمر الصهاينة فى تقوية مستوطناتهم ووجودهم السياسى ولكن تراجعت آمالهم فى التفوق . وتساهلت سلطات الإنتداب البريطانية وعملت على تخفيض الحامية العسكرية بشكل مفاجئ رغم تحذيرات اللجنة الدائمة للإنتداب. وفى سنة 1929م تدهور الموقف بشكل شديد . ففى أغسطس وافقت بريطانيا على تأسيس وكالة يهودية موسعة وظُف نصف أعضائها من المتعاطفين مع الصهاينة من خارج فلسطين فإكتسب الصهاينة إحساساً جديداً بالثقة.
وفى نفس الشهر أدى نزاع يتعلق بالمماراسات الدينية فى حائط المبكى بأورشليم إلى مواجهات طائفية واسعة نتج عنها خسائر جسيمة . ودُفع بقوات فوراً وتمت السيطرة على الموقف . قام العرب بذبح المستوطنين اليهود فى حبرون ( الخليل ) أما خسائر العرب فقد حدثت من قبل الجنود البريطانيين بشكل أساسى. ووجهت بريطانيا بالتناقض التام فى شروط الإنتداب وإقترح المندوب السامى الجديد السير جون سانسلور (1928-1931م) أنه يجب إعادة صياغة شروط الإنتداب لإزالة الإمتيازات الخاصة باليهود ولتقييد شرائهم للأراضى - والذى كان يحدث بسرعة كبيرة بمساعدة التمويل الصهيونى والبيع بأسعار مخفضة من قبل ملاك الأراضى العرب الغائبين - وكذلك لمنح العرب درجة من الحكم الذاتى . وقد قرر نص بريطانى فنى على أنه لم يعد يوجد هامش متاح من الأرض يسمح بمهاجرين جدد بدون تمويل فعال حقيقى ، والذى لم تكن بريطانيا مستعدة أبداً لتقديمه فى وقت الكساد العالمى آنذاك. وفى سنة 1930م أصدر وزير المستعمرات فى حكومة العمال البريطانية ورقة بيضاء أعطت بعض الأولوية لإلتزامات بريطانيا تجاه العرب بتقييد الهجرة اليهودية وإنهاء شراء اليهود للأرض . وفى خضم الغضب الناتج عن ذلك إستطاع الصهاينة - الذين كانوا يرون آمالهم فى فلسطين يهودية تتبدد - الإستعانة بالمتعاطفين معهم من كل الأحزاب فى البرلمان البريطانى كى يجعلوا مجلس وزراء رمزى ماكدونالد - الضعيف المتوتر- يلغى الورقة البيضاء . وأصبح الفلسطينيون العرب مقتنعين بأن أى تزكية فى صالحهم سوف تلغى دائما من مركز السلطة . وبدأوا فى محاولة تدبير التأييد الدولى الخاص بهم.
وفى ديسمبر 1931م دُعى إلى مؤتمر إسلامى فى القدس حضره ممثلو إثنين وعشرين بلداً إسلامياً من أجل التحذير ضد خطر الصهيونية. ولكن وبرغم أن الأشقاء العرب فى البلاد المجاورة كانوا قد بدأوا يشعرون بالغضب لحالة الفلسطينين العرب فقد كان هناك القليل من الدعم الفعلى الذي يستطيعون تقديمه. كانت مقاطعة البضائع البريطانية والصهيونية التى دُعى إليها فى عام 1933م عديمة الفاعلية بشكل كبير. وفى النصف الأول من الثلاثينيات كان هناك إرتفاع حاد فى الهجرة اليهودية من أربعة آلاف فى عام 1930م إلى ثلاثين ألفا فى عام 1933م ثم إلى إثنين وستين ألفا فى عام 1935م . وكان ذلك يرجع بشكل جزئى إلى الخوف من وصول هتلر إلى الحكم فى ألمانيا ولكن بشكل أكبر إلى الثقة المتزايدة فى مستقبل فلسطين والذى كان وبرغم الكساد يتمتع بشئ من الرواج المرتكز على صناعة الموالح . وفى عام 1935م طالبت الأحزاب العربية بشكل جماعى - برغم عدم إتحادها- بإيقاف الهجرة اليهودية وبمنع تحويل الأراضى وبإقامة مؤسسات ديموقراطية.
إقترح البريطانيون مجلساً تشريعياً مكوناً من ثمانية وعشرين عضواً يحتل فيه العرب أربعة عشر مقعداً واليهود ثمانية على أن تحجز المقاعد الستة الباقية للمسئولين البريطانيين. وقد رفض معظم العرب - وليس كلهم - هذا الإقتراح لأنهم لم يكونوا ممثلين بالنسبة لعددهم. وكذلك فقد رفضه اليهود بشدة لأنهم إعتقدوا أنه قد يوفر للعرب سيطرة دائمة على تطور الوطن القومى لليهود . ولهذا السبب ندم بعض الفلسطينين بعد ذلك على رفضهم لهذا الإقتراح . كانت ثورة العرب ضد الإنتداب بين السنوات 1936و 1938م - والتى كانت فى البداية دخاناً سرعان ماتحول إلى لهيب - قد تحركت بسبب المخاوف المستمرة من أن تؤدى الهجرة اليهودية إلى سيطرة صهيونية وبسبب اليقين بأن بريطانيا ماكانت لتمنع ذلك بجدية. ووفرت الأخبار بمعرفة تهريب اليهود للأسلحة من أجل الدفاع عن النفس الشرارة الأولى لإندلاع تلك الثورة. وفى ابريل 1936م شكلت الأحزاب العربية اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسينى والتى دعت إلى إضراب عام دام لمدة ستة أشهر وفى نفس الوقت لجأ الثوار العرب مع من إنضم إليهم من متطوعين من البلاد المجاورة إلى التلال وبدأت إنتفاضة وطنية شاملة . ولم يكن للمرة الأولى ولا الأخيرة أن أرسلت بريطانيا لجنة لتقصى الحقائق.
وصلت لجنة اللورد بيل فى سنة 1937م إلى إستنتاج بأن إلتزامات بريطانيا تجاه العرب واليهود كانت متناقضة وأنه لايمكن تنفيذ الإنتداب . ومن ثم إقترحت وللمرة الأولى تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولةعربية على أن تبقى أورشليم وحيفا تحت الإنتداب البريطانى وتحدد الهجرة اليهودية السنوية بإثنى عشر الفاً لمدة الخمسة سنوات المقبلة وعلى أن تُضم الدولة العربية الصغيرة إلى الأردن برئاسة الملك عبدالله . كان رد الفعل اليهودى متناقضا. فللمرة الأولى تحدثت بريطانيا عن دولة يهودية كما إقترحت الترحيل الجبرى لقسم من السكان العرب ولكن الحدود المقترحة للدولة اليهودية لم تعجب الصهاينة لأنه كان من شأنها أن تستثنى أورشليم كما كرهوا أن توضع حدود على الهجرة اليهودية . لقد كانو مازالوا يأملون فى السيطرة على فلسطين واحدة غير مقسمة . أما العرب وعلى الجانب الآخر- فقد كانوا غاضبين جميعاً - ماعدا الأمير عبدالله ملك الأردن الذى حث على قبول الإقتراح. إشتدث الثورة برغم الإستخدام المفرط للقوات البريطانية ومنع نشاط اللجنة العربية العليا. وتم نفى معظم أعضاء اللجنة إلى سيشل ولكن الحاج أمين الحسينى تمكن من الهرب إلى بغداد حيث إستمر من هناك فى بذل بعض الجهود من أجل المطالب العربية.
ومن ثم خُولت عصبة الأمم بالإستعداد لخطة تقسيم مفصلة . ومع ذلك فإن اللجنة الفنية التى قدمت تقريرها فى نوفمبر 1938م أعلنت أن إقتراح لجنة بيل هى إقتراحات غير عملية. وافقت الحكومة البريطانية ودعت إلى مؤتمر مائدة مستديرة عُقد فى لندن خلال فبراير ومارس عام 1939م. لكنه كان مؤتمراً فاشلاً تماماً كما كان المؤتمران المنفصلان اللذان عقدا مع العرب واليهود - كل على حدا - بعد ذلك المؤتمر. وقد شمل المؤتمر مع العرب ممثلين عن كل البلاد العربية كإعتراف بأن فلسطين كانت ذات أهمية لكل العرب. وبدأت الثورة العربية فى الخفوت تدريجياً فى الشهور الأولى من عام 1939م. وفى أعقاب أزمة ميونيخ سنة 1938م وإبتعاد التهديد الوشيك بالحرب أصبحت بريطانيا قادرة على إرسال مزيداً من القوات الإضافية. وقد ترك الصراع الطويل - الغير موفق - عرب فلسطين مجهدين واهنيين. كانت الحكومة البريطانية معنية بشكل أساسى بإقتراب الحرب العالمية والتى بدت لامفر منها آنذاك. كانت الأولوية هى أن تؤمن على الأقل التأييد السلبى للعرب الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من السكان فى منطقة الشرق الأوسط شديدة الأهمية الإستراتيجية (بما فى ذلك فلسطين حيث كانوا مازالوا يشكلون حوالى سبعين فى المئة من السكان) . وكان يفترض أن اليهود سيكونون حتما إلى جانب بريطانيا فى أى حرب ضد هتلر.
ونصت ورقة بيضاء لحكومة بريطانية جديدة فى مايو 1939م على حدود الهجرة الصهيونية بخمسة وسبعين ألفا للخمسة سنوات التالية وعلى أن تخضع أى هجرات إضافية لموافقة العرب و على أن الهدف كان هو( تأسيس دولة فلسطينية مستقلة خلال عشرة سنوات تكون فى علاقة تعاهدية مع المملكة المتحدة مما قد يكون مرضياً لكل من مصالح البلدين التجارية والإستراتيجية ). لقد كان واضحاً أن العرب كانوا سيظلون فى تفوق عددى كبير فى ذلك الوقت. ورغم أن هذه السياسة الجديدة كانت أكثر موافقة للعرب فقد رفضها حزب المفتى وبصفة خاصة على أساس ما أظهرته التجربة من أنه لايمكن الوثوق بأن الحكومة البريطانية سوف تقوم بتنفيذها ضد المعارضة اليهودية. وقد شاركهم تلك الشكوك كثير من العرب المعتدلين أيضاً. أما الصهاينة - وعلى الجانب الآخر- فقد شعروا بالفزع والغضب وإعتبروا ذلك ضربة قاتلة موجهة لطموحاتهم وخيانة لإعلان بلفور. وقد أصبحوا حتى أكثر تصميما على إقامة دولتهم فى فلسطين . وبالفعل كانت الجماعة اليهودية فى فلسطين تحكم نفسها بشكل كبير من خلال مجلس منتخب كان يفرض ضرائبه الخاصة. وكانت الإتحادات التجارية اليهودية الخالصة متحدة فى إتحاد كبير يسمى الهستادورت والذى كان يمارس وظائف أخرى كثيرة ، كمصرفى ومقاول ومالك أراضى.
وبين الأعوام 1922و 1939 م إزدادت المستعمرات اليهودية من سبعة وأربعين إلى مائتين وتضاعفت ملكية الأرض اليهودية إلى أكثر من الضعف. وكانت الجامعة العبرية التى اُفتتحت فوق جبل سكوبوس فى أورشليم ( القدس ) سنة 1925م تلعب الدور الرئيسى فى تدريب القيادات الأكاديمية والثقافية للبلاد . كان التطور الأكثر أهمية للمستقبل هو تأسيس الهجانة وهى الجيش السرى اليهودى ، المجاز رسمياً رغم سريته. وقد إكتسب هذا الجيش الخبرة فى الدفاع عن المستوطنات الإسرائيلية ضد الهجمات العربية كما ساعد بعض أعضائه القوات البريطانية فى قمع الثورة العربية . أصبح اليهود فى فلسطين قوة مهولة وكانوا مصممين على معارضة سياسة بريطانيا الجديدة . ولكن بدت الظروف ضدهم بقوة.
وإلى الشرق من نهر الأردن فى إمارة الأردن حديثة التأسيس تحت حكم الأمير عبدالله كانت المشاكل أقل تعقيداً إلى درجة كبيرة . فبعد أن أمنت موافقة عصبة الأمم إستثناء الأردن من سياسة الوطن القومى لليهود إعترفت بريطانيا فى 25 مايو 1923م بالأردن كدولة مستقلة تخضع لإلتزاماتها البريطانية بموجب الإنتداب على فلسطين . وتحت الضغط الفرنسى اُمر القادة السوريون - الذين كانوا قد إتخذوا من الأردن ملجأً لهم - بالمغادرة ووضعت كل القوات تحت قيادة ضابط بريطانى . وبمساعدة بريطانيا أصبحت القوات الأردنية الوليدة قادرة على التعامل مع بعض الإنشقاقات القبلية الداخلية وهجمات المحاربين الوهابيين من نجد فى أوائل العشرنيات . كان البلد فقيراً غير متطور وقليل السكان ولكنه كان يملك التماسك الإجتماعى والسياسى التى كانت تفتقده فلسطين . وفى الواقع فقد أملت بريطانيا شروط معاهدة 1928م والتى بموجبها ومن خلال مقيم بريطانى تعينه اللجنة العليا لفلسطين كان على الأمير عبدالله أن يسترشد بالنصيحة البريطانية فى مسائل مثل العلاقات الخارجية والمالية والتشريعات الخاصة بالأجانب . كان هناك العشرات من المستشارين البريطانيين ومعونة بريطانية متواضعة تبلغ 101000 جنيه إسترلينى من إجمالى ميزانية الدولة التى بلغت 257000 جنيه إسترلينى فى سنة 1925-1926م . وبرغم الفقر فقد تحقق تطور بطىء وثابت . واُنشئت الطرق والمدارس رغم أنه قد مر خمس عشرة سنة قبل أن يصبح هناك أكثر من مدرسة ثانوية واحدة.
وفى سنة 1931م وبعد عشر سنوات من التجربة فى العراق وصل الكابتن جون باجوت - الذى أصبح يعرف بإسم جلوب باشا - وذلك كى يؤسس دورية الصحراء كفرع من الجيش الأردنى أو الفيلق العربى الذى عهد إليه بمهمة حفظ النظام فى الصحراء. كان الجديد فى الفيلق العربى أنه إستخدم رجال القبائل لحفظ الأمن بين أشقائهم البدو . حقق جلوب نجاحا باهرا فى كسب ثقة البدو وإقناعهم بمزايا الإستقرار والنظام . وبهذه الطريقة أصبحوا موالين للدولة الأردنية و حضر كثير منهم للخدمة فى القوات المسلحة النظامية. وفى مواجهة المشكلة الفلسطينية كانت بريطانيا سعيدة بالسماح بإستقلال عبدالله المتزايد كقائد غير منازع للأردن . ورغم أن إدعائه للحكم كان يرتكز على الرؤية الخاصة لأسرته الهاشمية فى القومية العربية فإن مهاراته السياسية المميزة قد مكنته من ضمان الولاء الشديد لمعظم قادة القبائل المحلية لنفسه ولأسرته . وفى عام 1934م وافقت بريطانيا على أنه يمكن للأمير أن يعين مندوبين قنصليين فى الدول العربية الأخرى وفى سنة 1939م وافقت على تشكيل مجلس وزراء يتولى إدارة أقسام الحكومة ويكون مسئولاً أمام الأمير. وفى سنة 1946م أصبحت الأردن مستقلة رسمياً رغم أنها ظلت تعتمد بشدة على المعونة والتأييد البريطانى . وإتخذ الأمير عبدالله لقب ملكا ً. ورغم أن الأردن كانت تتطور بشكل منفصل ومختلف فإنها لم تكن بعيدة عن مجريات الأحداث فى فلسطين غرب نهر الأردن. كان هناك كثير من روابط الدم بين شعبى الضفتين كما كان لمستوى التعليم المرتفع بين الفلسطينين أثر فى توظيف بعضهم كمسئولين فى الإدارات الوليدة فى عمان . كانت الأردن تشعر أنها مرتبطة وجدانياً بمأساة الشعب الفلسطينى الواضحة المعروفة . ومع ذلك فقد كان هناك عنصر من الوطنية الإقليمية ينمو فى الأردن كما حدث فى أماكن أخرى فى الولايات العربية السابقة للإمبراطورية العثمانية . وإكتسبت هذه الروح فى الأردن بعض الشرعية التاريخية من خلال الإحساس بأن الأردنيين كانوا ينحدرون من أنباط البتراء . وفى نهاية الأمر تُرجم الشعور بأن الأردن للاردنيين فى قانون قصر وظائف الحكومة على الأردنيين فقط . وقد عارض القوميون العرب هذا الإتجاه وأصروا على أنه لايجب أن يزيد أى شئ من الإنقسامات المفروضة ظاهرياً على العرب ومع ذلك ومن الناحية العملية فإن التطور المنفصل للأردن كان يحظى بدعم الغالبية العظمى فى البلاد . ركز عبدالله على بناء قاعدة قوته فى الأردن ألتى ورغم أنها كانت أصغر وأفقر من فلسطين أو سوريا فقد كان لديها ميزة أنه كان يستطيع أن يحكمها من خلال سلطته الشخصية . ولكن لم يعنى هذا أبداً أنه كان قد تخلى عن طموحات أسرته الهاشمية فى القومية العربية .
لم يشمل ذلك مصر أو الجزيرة العربية - التى كان الهاشميون قد خسروها لابن سعود سنة 1925م - لكن عبدالله لم يتخل أبداً عن مطالب أسرته فى سوريا الكبرى . والواقع أنه كان لديه فرصة ضئيلة فى سوريا التى كان الفرنسيون يحكمونها ولكن فلسطين كانت مختلفة. ففى بداية الإنتداب كان قد قام بتقييم ذكى وواقعى لقوة الصهاينة وطموحاتهم وكان مستعداً تماماً للتفاوض معهم . وقد تنبأ بوقت فى المستقبل يحتاج فيه الفلسطينيون العرب إلى حمايته ويصبحون مستعدين لقبول حكمه . ولذلك السبب كان قد حث على قبول إقتراحات لجنة بيل عام 1937م من أجل تقسيم وضم فلسطين العربية إلى الأردن . ولم يكن هناك مفر من أن يخلق موقف عبدالله كثيراً من الاعداء بين صفوف القوميين العرب الذين كانوا يعارضون الهاشميين إبتداء من أسرة الحاج أمين الحسينى فى فلسطين إلى الجمهوريين فى سوريا رغم أنه فى كلا هذين البلدين كان لديه مؤيدون لكنهم لم يكونوا غالبية . كان أبناء عمومته الهاشميون فى العراق أكثر مودة لكنهم لم يكونوا مستعدين للقبول بزعامته ولذا فقد كان مستعداً لإنتظار ماتسفر عنه الأحداث فى فلسطين.


4- فارس/ايران.

برغم أن فارس كانت قد أعلنت حيادها عند قيام الحرب العالمية الأولى فإنها لم تستطع تجنب التورط فيها . فقد أدى إعتداء تركيا على الأراضى الفارسية من أجل مهاجمة روسيا وكذلك أدى التهديد التركى لحقل ومصفاة شركة النفط الأنجلوفارسية فى جنوب البلاد إلى إحتلال مساحات واسعة من الأراضى الفارسية بواسطة القوات البريطانية والروسية . وقد زاد هذا من تعاطف الشعب الفارسى مع الجانب الألمانى التركى فى الحرب . وعند نهاية الحرب إنضمت فارس إلى عصبة الأمم كدولة مستقلة ولكن البلاد كانت فى فوضى . فقد كانت قواتها المسلحة منقسمة والخزانة خاوية . وقد ساعد هزيمة روسيا فى الحرب والثورة البلشفية التى تلت ذلك على أن تتحرر فارس من الضغط الروسى لبعض الوقت . وقد أغرى ذلك بريطانيا بأن تحاول إدخال فارس إلى دائرة نفوذها . و كتب اللورد كيرزون وزير الخارجية فى عام 1919م بأنه ( طالما أننا على وشك أن نضطلع بالإنتداب على العراق والذى سوف يجعلنا متاخمين للحدود الغربية لفارس فلن نستطيـع أن نسمح بوجود مرتع لسوء الحكم وتآمر العدو والفوضى المالية والسياسية بين حدود إمبراطوريتنا الهندية وحدود محميتنا الجديدة وبالإضافة إلى ذلك فإننا نمتلك فى الركن الجنوبى الغربى من فارس أصولاً ضخمة تتمثل فى حقول النفط التى تعمل للأسطول البريطانى والتى تحقق لنا المصلحة الأعلى فى هذا الجزء من العالم ) .
حرك كيرزون الإتفاقية الأنجلوفارسية لعام 1919م والتى أعادت التأكيد على إستقلال فارس ووحدتها الإقليمية وفى نفس الوقت نصت على تعيين مستشارين عسكريين ومدنيين بريطانيين وعلى التعاون فى تطوير المواصلات وعلى قرض بقيمة 2000000 جنيه إسترلينى. كان من شأن الإتفاقية أن تؤمن هيمنة بريطانيا على فارس ولذا فقد تم إنتقادها بشدة من قبل الولايات المتحدة . ومع ذلك ونتيجة لعنف المشاعر التى أثارتها فى البلاد فقد رفض المجلس التصديق عليها واُعيد المستشارون البريطانيون الذين كانوا قد تولوا وظائفهم إلى بريطانيا. وعلى العكس ففى 26فبراير 1921م وقعت معاهدة سوفيتية فارسية شجبت الحكومة السوفيتية بمقتضاها السياسة الإستبدادية لروسيا القيصرية وتنازلت عن كل الديون الفارسية كما تخلت عن الإمتيازات التشريعة للمواطنين الروس. كما تخلت المعاهدة أيضاً عن كل الإمتيازات التى كانت الحكومة الروسية والمواطنون الروس قد حصلوا عليها فى ذلك الوقت رغم أنها قد حافظت - تحت الضغط - على الإمتياز القيم الخاص بمصايد أسماك بحر قزوين والذى كان قد إنتهى أجله . وتم التصديق على هذه المعاهدة سريعاً . ولم يُهتم كثيراً بالفقرة التى كانت تخول روسيا حق إرسال قوات إلى فارس - إذا رأت فى أى وقت مستقبلاً - أنها قد أصبحت قاعدة لعملية عسكرية ضد روسيا . وفى ظل حكومة ضعيفة فاسدة وشاه عديم الكفاءة صغير السن تدهور الموقف الداخلى أكثر. وعند هذه المرحلة كان الكولونيل رضا خان- القائد القوى والبارز لفرقة القوزاق الفارسية - قد أقنع من قبل جماعة من الإصلاحيين بالزحف برجاله على طهران . وبالفعل دخل العاصمة فى 21 نوفمبر 1921م وإستقالت الوزاة وتشكلت حكومة جديدة أصبح فيها رضا خان وزيراً للحرب وقائداً عاماً للقوات المسلحة . ثم سيطر على الحكومة بعد ذلك بوقت قصير وأصبح رئيساً للوزراء . كانت مهمة رضا خان الأولى هى إعادة توحيد وبناء القوات المسلحة . إستولى رضا خان على أموال الدولة لضمان دفع رواتب الجنود بإنتظام وبهذه الطريقة تمكن تدريجياً من إنشاء جيش قوى كفء ومنظم نسبياً من حوالى أربعين ألف جندى هدف من خلاله إلى تأسيس سلطة الحكومة المركزية فى جميع أنحاء البلاد.
وفى سنة 1924م قام بقمع تمرد قام به شيخ المحمرة المتمتع بالحكم الذاتى والذى كان يقع إمتياز شركة النفط الأنجلوفارسية فى أراضيه ، واُعيد تسمية المحمرة بكوم شهر. وللمساعدة في إعادة تنظيم أحوال البلاد المالية الفاجعة دعى خبير مالى أمريكى يدعى إيه سى ميلزبوف والذى إستطاع مع جماعة صغيرة من المستشارين تحقيق تقدماً كبيراً . وفى سنوات مابين الحرب أصبحت فارس منتجاً رئيسياً للنفط . وإرتفع الإنتاج من 12مليون برميل فى عام 1920م إلى 46 مليون فى عام 1930م جاعلاً من فارس رابع أكبر منتج للنفط فى العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا وفنزويلا .
وبسبب خيبة أمل الرأى العام مع التجربة الطويلة من الفساد والملكية عديمة القدرة فقد كان هناك تأييد واسع للجمهورية ولكن الزعماء الدينيين الذين كانوا يخشون من تبعات إزالة كمال أتاتورك للخلافة وإقامة جمهورية علمانية قد عارضوا مثل ذلك التغيير. وبناء على ذلك قرر رضا شاه أن يبقى على الملكية ويجعل من نفسه شاها . وفى 31 أكتوبر 1925م وبأغلبية كبيرة أعلن المجلس نهاية مملكة القجر. وقام مجلس تأسيسى جديد بنقل التاج إلى رضا خان مع حق الولاية لورثته وإتخذ رضا شاه إسم بهلوى لمملكته . وفى سنة 1935م غير إسم البلاد رسمياً من فارس إلى إيران . ورغم أن الملالى كانوا هم الذين ساعدوا على أن يجعلوا منه شاها فقد كان يعتبر معظمهم متخلفين رجعيين . وفى الواقع ومن نواحى كثيرة فقد جعل نظام حكمه على غرار نظام أتاتورك حيث شرع فى سياسة التغريب فأدخل نظام تشريعى فرنسى تحدى صلاحيات المحاكم الدينية وفُتحت المكاتب المدنية للزواج وتم إعادة تنظيم التعليم على أسس غربية وإزدادت المعرفة بالقراءة والكتابة بشكل ثابت . وفى سنة 1935م اُسست جامعة طهران وبهيئتها التدرسية عدد من الأوربيين . وفى سنة 1936م اُجبرت المرأة على خلع الحجاب وجُعل الزى الأوربى إجبارياً لكلا الجنسين.
تابع رضا شاه سياسته فى تأمين وتوحيد البلاد - وكانت تلك مهمة فوق طاقات شاهات القجر - فقام بقمع القبائل شبه المستقلة ووضع قبائل البختياري والقشجر تحت حكم ضباط عسكريين . كانت المواصلات المتطورة هامة لتوحيد أقاليم الإمبراطورية الواسعة فقامت شركة جنكرز الألمانية بتنظيم خدمة جوية داخلية وطُورت الخدمات البريدية والإتصالاتية بشكل كبير كما ساعد المهندسون الأمريكيون والأوربيون فى بناء الطرق والمواصلات.
وكان بناء خط حديدى عبر إيران كلها من بحر قزوين إلى الخليج مشروعاً ضخماً أثار له الشاه حماس الأمة كلها . كان التقدم يعنى التصنيع ولذا فقد اُنشئت سلسلة من المصانع الجديدة للنسيج والصلب والأسمنت وغيرها . وقد إستطاع بعضها تحقيق أرباحاً
وكان من أثر حكم رضا شاه الحازم والإصرار الوطنى أن إرتفعت مكانة إيران وإزدادت قوتها التفاوضية فقام بإنكار كل المعاهدات التى تعطى لرعايا الدول الكبرى حقوقاً قانونية خارج التشريع الوطنى . وفى نزاع مع الحكومة السوفيتية حول مصايد بحر قزوين إستطاع تأمين تسوية بتأسيس شركة روسية فارسية لإستغلال المصايد . ولكى يحقق هدفه فى زيادة العائدات الضعيفة من شركة النفط الأنجلوفارسية كان مستعداً لأن يخاطر بإلغاء الإمتياز فى سنة 1932م. وعرضت بريطانيا المسألة على عصبة الأمم وإنتهى النزاع فى 1933م بتسوية حصلت فارس بمقتضاها على شروط أفضل كثيراً . وأجبر إصرار رضا خان الشديد على الحقوق الوطنية الفارسية بريطانيا على تحويل مقر سلطتها فى الخليج إلى البحرين على الساحل الغربى فنقلت محطتين بريطانيتين للتزود بالفحم من الأراضى الفارسية كما حول سلاح الجو الملكى طريقه فى السفر إلى الهند من فارس إلى الساحل العربى ولكن إستمر الإحتكاك حيث ظل رضا خان بين فترة وأخرى يعيد التأكيد على حق فارس فى البحرين .
ومع ذلك فقد كان لنجاح رضا خان أوجه سلبية. فقد ترك حكمه العسكرى المسرف المستبد مساحة صغيرة للحرية الشخصية أو المبادرة . وقد أبقى على المجلس( التشريعى) ولكنه كان قد أصبح مجرد واجهة . كما كانت كثير من السياسات الإقتصادية سيئة التقدير خاسرة وقد اُهملت الزراعة بشكل خطير كما كانت سياسة توطين العشائر فشلاً زريعاً حيث لم يتم توفير الوسائل الملائمة من أجل الحفاظ على قطعانهم فى أماكن إستقرارهم الجديدة . ولكن الأكثر خطورة لسمعة رضا خان كان هو حصوله على مساحات واسعة من أفضل الأراضى لنفسه سواء بالمصادرة بحجج الإتهام السياسى أو بأساليب شراء وصلت فى الواقع إلى حد مصادرة الأراضى.

النفط والشرق الأوسط.

اُكتشف النفط لأول مرة فى الشرق الأوسط فى فارس ، ولتلك العقود الأولى من القرن العشرين ظلت فارس هى الدولة الوحيدة المنتجة للنفط فى الإقليم . وربما يكون اللورد كيرزون قد بالغ قليلاً عندما صرح بأن الحلفاء قد طافوا إلى النصر فى الحرب العالمية الأولى على موجة من النفط ومع ذلك وبالنسبة لبريطانيا وبحصتها الأكبر فى شركة النفط الأنجلوفارسية فقد كان النفط أهمية إستراتيجية وإقتصادية أساسية فى المنطقة بجانب قناة السويس . وحتى قبل الحرب العالمية الأولى فقد كان هناك قليل من الشك بأن شمال العراق كان هو أيضاً منطقة يحتمل أن تكون غنية بالنفط . كان النفط المتسرب إلى السطح يؤخذ على ظهور الحمير لتوفير الوقود المحلى فى تركيا . وفى عام 1904م كتب كلوست جلبينيكان وهو رجل مال أرمينى ثرى تقريراً عن الإمكانيات التجارية لنفط شمال العراق والذى جعل السلطان عبد الحميد يحول تلك الأراضى المملوكة للدولة إلى ملكيته الخاصة. وعشية الحرب العالمية الأولى منحت الحكومة العثمانية إمتيازاً إلى شركة النفط التركية( تى بى سى) كان لشركة النفط الأنجلوفارسية به نصف حصة مع شركة شيل الهولندية الملكية وبنك دتشى الألمانى . وتعهد المشاركون فى شركة النفط التركية فيمابينهم بأنهم لن يهتموا - سواء بطريق مباشر أو غير مباشر - بإنتاج وتصنيع النفط فى الإمبراطورية العثمانية فى أوربا أو آسيا إلا من خلال شركة النفط التركية بإستثناء بعض المناطق التى تم تحديدها على خريطة بخط أحمر فيما أصبح يعرف بإسم إتفاقية الخط الأحمر . ومن ثم وعند نهاية الحرب كانت بريطانيا بقواتها تحتل الموصل وبعد أن إستولت على الحصة الألمانية فى شركة النفط التركية أصبحت فى وضع قوى يمكنها من السيطرة على نفط العراق . ومع ذلك فقد كان على بريطانيا إلتزامات لفرنسا بموجب إتفاقية سايكس بيكو السرية عام 1916م والتى كانت فى صيغتها الأصلية قد جعلت الموصل فى دائرة النفوذ الفرنسى . وفى عام 1919م أقنعت بريطانيا فرنسا بأن تحول الموصل إلى المنطقة البريطانية مقابل دور مضمون فى تطوير نفط الموصل . ووافقت فرنسا كذلك على بناء خطى أنابيب منفصلين من أجل نقل النفط من العراق وفارس عبر مناطق النفوذ الفرنسية إلى البحر المتوسط . وكان عند هذه النقطة أن تدخلت حكومة الولايات المتحدة . وبرغم أن الولايات المتحدة كانت منسحبة إلى عزلة سياسية دامت حتى الحرب العالمية الثانية فقد كانت مصممة على أنه فى الوقت الذى تقبل فيه بالإنتداب الإنجليزى - الفرنسى فلابد من إتباع سياسة الباب المفتوح فى المسائل التجارية فى المناطق المنتدب عليها . وكان هذا يعنى المعاملة المتساوية أمام القانون - وفى الواقع - لتجارة جميع الأمم ولكن النفط كان الإهتمام الرئيسى .
ولكن الحكومة البريطانية كانت - وعلى الجانب الآخر - تشعر بأن الولايات المتحدة لديها مايكفيها من نفطها الخاص فى تكساس فنتج عن ذلك مراسلات مطولة وقاسية أحياناً بين وزارة الخارجية الأمريكية ووزاة الخارجية البريطانية . كانت النتيجة النهائية أن صناعة العراق النفطية أصبحت إحتكارا لشركة نفط العراق(آى بى سى) وريثة شركة النفط التركية (تى بى سى) والتى كانت أسهمها مملوكة بالتساوى بنسبة 23.75% لشركة النفط الأنجلوفارسية التى عُرفت بعد ذلك باسم ( بى بى) وشركة شل الهوندية الملكية ولمجموعة أمريكية اُختصرت فى النهاية فى شركة ستاندرد أويل فى نيوجرسى وشركة سوكوتى فاكوم التى عُرفت بإسم موبيل فيما بعد وشركة النفط الفرنسية ( سى فى بى) وبقيت نسبة الخمسة فى المائة الباقية ملكا لرجل الأعمال الأرمنى جلبينكيان . وبذلك حققت الولايات المتحدة الأمريكية مدخلاً للشركات الأمريكية فى ميدان نفط الشرق الأوسط ولكنها بفعل ذلك كانت فى الواقع تقبل بشروط إتفاقية الخط الأحمر التى كانت بريطانيا تعتبرها مازلت سارية المفعول والتى كانت تستثنى كل الأطراف عدا المشاركين فى شركة نفط العراق . وبحلول عام 1934م أصبح إنتاج النفط يساهم بنسبة كبيرة فى دخل العراق القومى . وفى عام 1927م اُكتشف حقل نفط كبير بالقرب من كركوك.
وعلى مدى العشرينيات أظهرت شركة النفط الأنجلوفارسية والتى إستمرت تسيطر على مسرح نفط الشرق الأوسط قليل من الإهتمام بالإحتمالات النفطية للأقاليم الواقعة على السواحل الغربية للخليج أى فى الكويت والبحرين والإقليم الشرقى للمملكة العربية السعودية ( المستقبلية ) وكان ذلك- جزئياً - يرجع إلى أن جيولوجى الشركة كانوا مقتنعين بأنه وبرغم تسرب القار على سطح التربة فى الكويت فإن الجانب الشرقى من الخليج فقط كان يمكن أن يثمر نفطاً فى كميات تجارية . كانت السواحل الغربية من الخليج تفتقد للمكونات الصخرية لعصر الأوليجوسين والميسوين ( العصر الحجرى الحديث والأوسط ) التى وجدت فى فارس والعراق . ومع ذلك فلم يكن هذا يعنى أن الحكومة البريطانية وشركة النفط الأنجلوفارسية كانتا ستبدوان سعيدتين لرؤية إمتيازاً يمنح لشركة غير بريطانية على الساحل الغربى . ونيابة عن الشركة قاومت الحكومة البريطانية الضغط الأمريكى لجعل أمراء الكويت والبحرين يسمحون بمنح إمتيازات لشركات غير بريطانية. وفى سنة 1931م منح أمير البحرين إمتيازاً لشركة ستاندرد أويل فى كاليفورنيا والتى اُشرفت على تنظيم شركة نفط البحرين ( بابكو) كشركة كندية تابعة لها وذلك كى تجعلها تبدو وكأنها شركة إنجليزية . وعندما إكتشفت بابكو النفط فى كميات تجارية فى مايو 1932م وبعد ستة أشهر فقط من الحفر تغير الموقف . فقد أصبحت الإحتمالات النفطية للساحل الغربى من الخليج ظاهرة للعيان . وتقدمت ستاندرد أويل إلى الملك ابن سعود من أجل إمتياز نفطى- وفى حاجته الشديدة إلى المال - إستجاب الملك.
وأرسلت الشركة الأنجلوفارسية مبعوثاً لتقديم عطاءً مضاداً ولكن حيث كان لدى الشركة أكثر مما يكفى من النفط فى أراضيها بالفعل فقد كان همها الأساسى هو فقط إبعاد المنافسين من الإقليم ولذا فقد خول المبعوث أن يعرض تقديم دفعة مقدمة من خمسة آلاف جنيه إسترلينى فقط بينما قدمت ستاندرد أويل - وبعد بعض المساوامات الشاقة - مبلغ خمسين ألف جنيه إسترلينى . وفى 29 مايو 1933م وقع إمتياز شركة ستاندرد أويل كاليفورنيا - شاملاً كل الأجزاء الشرقية من المملكة العربية السعودية . وبهذه الطريقة وُضعت أسس العلاقة القوية بين المملكة العربية السعودية وبين الولايات المتحدة والتى كان لها تأثير عميق على التاريخ الحديث للشرق الأوسط . وبصرف النظر عن عرضها الأكثر سخاءً - ورغم عدم كراهيته لبريطانيا - فربما كان الملك عبدالعزيز ميالاً لمحاباة الشركة الأمريكية لانه لم يكن لدى الولايات المتحدة سجل إستعماري فى الشرق الأوسط. وكحاكم لدولة مستقلة تماماً فقد كان محظوظا لأنه كان قادراً على أن يقوم بإختيار حر.
وبعد ذلك باعت ستاندرد أويل كاليفورنيا حصصاً من إمتيازها إلى شركة تكساس وفى سنة 1944م أخذت الشركة التى تنفذ الإمتياز إسم الشركة العربية الأمريكية للنفط ( أرامكو ) . وكان لحقيقة أن شركات النفط الأمريكية هى التى طورت المصدر الطبيعى الأساسى للملكة العربية السعودية تأثيراً هاماً على المملكة . لم تكن أرامكو أبداً أداة بسيطة فى سياسة الولايات المتحدة الخارجية لأنها فى الواقع قد كانت دائما على طرفى نقيض مع واشنطن . ولكن الشركة ساعدت فى تدريب الشباب السعودى وبدأ إتجاه أدى إلى أن أصبحت الغالبية العظمى من النخبة السعودية الجديدة تتلقى على الأقل جزءً من تعليمها فى الجامعات الأمريكية . وكان طبيعياً أن تلعب الشركات الأمريكية - والتى كانت شركة بيكتل الأبرز بينها - الدورالرئيسى فى تطوير البنية التحتية الجديدة للمملكة . وعندما أصبح معروفاً أن السعودية كانت تملك ربع الإحتياطى العالمى المؤكد من النفط أصبحت العلاقة السعودية الأمريكية حتى أكثر أهمية. كان حاكم الكويت الفطن الأمير أحمد يقوم بمفاوضات مطولة حول إمتياز نفطى مع كل من شركة النفط الأنجلوفارسية وشركة نفط الخليج الأمريكية . ولكن تلك المساوامات أصبحت بلاهدف لأن شركات النفط كانت تخفض من إستثماراتها خلال فترة الكساد العالمى وكان إصرار بريطانيا على إقصاء الشركات غيرالبريطانية أيضاً حجر عثرة . ومع ذلك وفى سنة 1932م وبعد السابقة التى حدثت مع البحرين خضعت بريطانيا فى النهاية لضغط أمريكى شديد وقبلت بسياسة الباب المفتوح لشركات النفط الأمريكية فى الكويت.
ومع إكتشاف النفط فى البحرين وإبرام الإتفاقية السعودية مع شركة ستاندرد أويل كاليفورنيا فى السنة التالية تطورت الأمور بسرعة . وبعد مفاوضات سرية طويلة إتفقت شركة النفط الأنجلوفارسية وشركة الخليج الأمريكية على دفن خلافاتهما وعلى تشكيل تحالف ليتفاوضا بشكل مشترك كشركاء متساويين من أجل إمتياز. ولهذا الهدف كونا شركة نفط الكويت ( كى أو سى) على أساس المناصفة بخمسين فى المائة لكل من الطرفين . وبعد مزيد من المفاوضات التى إجتهد خلالها الأمير أحمد - بنجاح- من أجل تحديد قدر السيطرة السياسية التى كانت بريطانيا تصر على إبقائها على شركة نفط الكويت من خلال الإتفاقية المنفصلة التى كانت قد توصلت إليها مع الشركة تم توقيع إتفاقية إمتياز يغطى كل إقليم الكويت لمدة خمس وسبعين سنة وذلك فى ديسمبر 1934م . كان لدى جميع مشيخات الخليج العربية الباقية على الجانب الغربى من الخليج إتفاقيات حصرية مع بريطانيا . ولكن الحكومة البريطانية كانت مازلت تخشى إمكانية أن يحذو أى من حكام هذه المشيخات - من ذوى النزعة الإستقلالية - حذو الملك ابن سعود فى سابقته بمنح إمتياز لشركة أمريكية خالصة. وعلى ذلك تشكلت شركة للتفاوض أطلق عليها إسم شركة الإمتيازات النفطية المحدودة ملكت فيها الشركات الأنجلوهولندية والأمريكية والفرنسية حصصا متساوية مثل شركة نفط العراق . وفى سنة 1935م منحها حاكم قطر إمتيازا ولكن حكام الإمارات الستة لساحل الهدنة (الساحل المتصالح/ دولة الإمارات العربية الآن) والتى سميت هكذا منذ هدنة سنة 1853م مع بريطانيا - والتى تعهدوا بمقتضاها بالكف عن الحرب البحرية - كانوا أكثر صعوبة . فقد ساوموا وماطلوا من أجل شروط أفضل مما إقتضى ممارسة أشكال متعددة من الضغط عليهم بما فى ذلك التهديدات بمصادرة أساطيلهم الخاصة بصيد اللؤلؤ - على أساس أنهم كانوا مازالوا متورطين فى تجارة العبيد - حتى خضعوا فى النهاية . كان آخر من خضع منهم فى سنة 1939م هو حاكم إمارة أبوظبى غريب الأطوار شديد الدهاء - الشيخ شخبوط - والذى تحول إلى مايشبه الأسطورة فى الخليج حيث نجح بعد توليه فى سنة 1928م فى إسترجاع الإستقرار إلى أبي ظبى بعد عشرين سنة من الصراع العائلى العنيف . لقد كان مقتنعاً بوجود نفط فى أراضيه حيث كانت فقاقيع النفط تُرى حول بعض جزر أبوظبى المائتين . ووافق رجال النفط أنها كانت الأكثر وعدا بين إمارات ساحل الهدنة. ومن ثم قاد مساومة شاقة من أجل إمتياز نفطى وكان عليه أن ينتظر عشرين عاماً قبل أن يثبت أنه كان على حق . ولكن النفط آنذاك كان قد إكتشف فى كميات ضخمة . كان النفط قد إكتشف بكميات تجارية بعد الحرب العالمية بفترة قصيرة فى المملكة العربية السعودية والكويت وقطر ولكن عملية تطويره كان لابد أن تتوقف إلى مابعد الحرب . ومع ذلك وفى سنة 1939م كان قد أصبح واضحا أن الأقاليم المحيطة بالخليج الفارسى سوف تصبح ذات أهمية إستراتيجية وإقتصادية ضخمة.
وفى الواقع وبحلول النصف الثانى من القرن العشرين فقد وصلت إحتياطياتها من النفط والغاز الطبيعى إلى مايقرب من ثلثى كل ما أصبح معروفا منهما.






























الفصل العاشر

الحرب العالمية الثانية ومابعدها































10- الحرب العالمية الثانية ومابعدها.

كان الشرق الأوسط متورطا بشدة فى نزاع سنوات 1939-1945م - وهو قمة ماوصف بدقة بالحرب الأهلية الأوربية ذات الثلاثين عاماً - تماماً كما كان فى نزاع سنوات 1914-1918م. كانت الجمهورية التركية محايدة ولم تكن الدول القومية شبه المستقلة التى تكونت من الولايات العربية فى الإمبراطورية العثمانية مشتركة فى الحرب ولكنها كانت تحت الإحتلال البريطاني أو الفرنسى ومن ثم فقد كانت تقع داخل دائرة الحرب . كانت الحياة السياسية مجمدة إلى حد كبير أثناء فترة الحرب - وكما حدث فى الحرب العالمية الأولى - كان الحفاظ على الهند ذا أهمية سياسية وإستراتيجية بالغة لبريطانيا وكان حماية إمدادات النفط من إيران شأنا إضافيا هاما أيضاً . ومرة أخرى أصبحت مصر قاعدة بريطانيا البحر متوسطية الكبرى . ومع تركيا وإيران المحايدتين - بدا إقليم الشرق الأوسط آمناً بشكل معقول . أدركت بريطانيا – بإرتياح- أنه كنتيجة للورقة البيضاء لعام 1939م بشأن فلسطين فإن الفلسطينيين العرب لن يكونوا مصدر إزعاج لها أثناء الحرب مع ألمانيا. وتحول الموقف بدخول إيطاليا الحرب بجانب ألمانيا فى يونيو 1940م . أصبحت القوات البريطانية فى مصر مشغولة بمنازلة الإيطاليين فى ليبيا كما كانت القوات البريطانية فى السودان تقاتل الحاميات الإيطالية فى أثيوبيا .أغارت الطائرات الإيطالية على مصر وتوقعت البلاد غزواً إيطالياً شاملا ً. وكما حدث فى عام 1915م فقد جىء بالمدد من أستراليا ونيوزلند وجنوب إفريقيا . وكان بسبب إصرار بريطانيا على أن تحتفظ بقوى المحور خارج شرق المتوسط أن جعلها تحول المدرعات من جبهة الوطن إلى مصر حتى عندما كان الخطر بغزو هتلر لبريطانيا فى ذروته . تأرجحت المعركة فى صحراء مصر الغربية تقدماً وتراجعاً. وفى سبتمبر 1940م دخل الإيطاليون مصر ووصلوا حتى سيدى برانى ولكن مع نهاية السنة ردتهم بعض الإنتصارات البريطانية خلفا إلى ليبيا ولكن ومع التعزيزات الألمانية إستطاعت قوات المحور- التى أصبح يقودها آنذاك الجنرال روميل- دخول مصر مرة أخرى فى ابريل 1941م . وفى الشهر التالى إحتل الألمان كريت وأصبحت سيطرة بريطانيا على شرق المتوسط فى وضع خطير .
كان الموقف فى سوريا والعراق قد ضاعف من الخطر بالنسبة لبريطانيا . ورغم أن العراق كان قد قطع العلاقات مع ألمانيا فى سبتمبر 1939م فإن جماعة من القوميين الكارهين لبريطانيا من المدنيين والعسكريين - تشجعهم إنتصارات ألمانيا على فرنسا - قد سيطروا على الوضع السياسى فى البلاد . وفى مارس 1941م وصلوا للحكم فى حركة عصيان مسلح وأصبح رشيد عالى الكيلانى رئيساً للوزراء فى حكومة موالية للمحور. وإضطر نورى السعيد الوصى على العرش - وآخرين من كبار السياسيين - إلى الهرب من البلاد. وأدى رفض تلك الحكومة لطلب بريطانى لتحريك القوات البريطانية عبر العراق تبعاً لشروط المعاهدة الأنجلوعراقية إلى مواجهات مسلحة مفتوحة ، أمكن السيطرة عليها بسهولة مع ذلك . أحاطت القوات العراقية بالقاعدة البريطانية فى الحبانية ولكن الرأى العام العراقى كان منقسما ومذبذباً كما أن المساعدة التى وعد بها المحور كانت صغيرة جداً ومتأخرة جداً. نزلت قوة هندية صغيرة فى البصرة لتنضم إلى القوات العربية التى وصلت من الأردن بقيادة جلوب باشا وإنهارت الثورة بعد أسابيع قليلة وهربت حكومة رشيد عالى ورجع الوصى على العرش. وتعاونت حكومات عراقية متعاقبة مع الحلفاء أثناء الفترة الباقية من الحرب. وبعد سقوط فرنسا فى عام 1940م أصبحت سوريا ولبنان تحت سيطرة حكومة فيشى. أعلنت بريطانيا على الفور أنها لن تسمح بإحتلال ألمانى لدولتى الليفانت( سوريا ولبنان ) ولكن حكومة فيشى فى تلهفها للحصول على أكبر قدر ممكن من الإمتيازات من ألمانيا أمرت المندوب السامى فى بيروت بالتعاون كلية مع المحور. وجاءت قمة ذلك التعاون فى يونيو 1941م عندما سُمح للطائرات الألمانية وهى فى طريقها لمساعدة رشيد عالى الكيلانى بإستخدام المطارات السورية . وفى 8 يونيو 1941م شنت قوة مشتركة من قوات فرنسا الحرة التابعة للجنرال ديجول والقوات البريطانية هجوماً ذا ثلاث محاور من فلسطين. وبالرغم من بعض المقاومة الشديدة من قوات فيشى فقد إستمر القتال لستة أسابيع فقط وفى نهايته وُقعت إتفاقية للهدنة ومُنحت قوات فيشى حق الإختيار بين أن تنضم إلى قوات فرنسا الحرة أو أن ترحل إلى فرنسا. و قد ضمن دخول الإتحاد السوفيتى الحرب فى يوليو 1941م وبعده الولايات المتحدة فى ديسمبر من نفس العام التأكيد بإنتصار الحلفاء فى النهاية . وفى شتاء 1941-1942م دُفعت قوات المحور مرة أخرى إلى ليبيا . ولكن الساعة الأكثر ظلاماً بالنسبة لبريطانيا فى الشرق الأوسط لم تكن قد أتت بعد. ومع الإنتصارات اليابانية فى الشرق الأقصى وتهديدها لماليزيا والهند جاء الدور على القوات البريطانية فى الصحراء الغربية كى تتجرد من المدرعات والتى حُولت إلى الشرق الأقصى. وفى يناير 1942م بدأ روميل فى التقدم نحو مصر مرة أخرى .
أما بالنسبة للشعب المصرى فقد كانت المواقف تجاه الحرب مختلطة . كانت الغالبية العظمى من السياسيين ضد إعلان الحرب على ألمانيا- سواء لأنهم كانوا يشعرون أنها ليست حربا مصرية أو لأنهم كانوا غير واثقين تماماً من إنتصار الحلفاء . ومن جهة أخرى فقد كانت مصر قد وفت بأكثر من إلتزاماتها المنصوص عليها فى شروط المعاهدة الإنجليزية لسنة 1936م وتم التحفظ على المواطنين الألمان ووضعت الممتلكات الألمانية تحت الحراسة . لم يكن لدى الملك فاروق حباً خاصاً لألمانيا ولكن كثيراً من أفراد دائرته المقربين كانوا إيطاليين كما كان على ماهر رئيس وزرائه المفضل معروفا بميوله تجاه المحور . وعندما فشل ماهر فى إتخاذ موقف ضد المواطنين الإيطاليين ضغط السفير البريطانى السير مايلز لامبسون على الملك لإبعاده . أذعـن فاروق على مضض وغير ماهر برؤساء وزراء متعاقبين كانوا أكثر تعاطفاً مع قضية الحلفاء . وفى أغسطس 1941م تولت القوات المصرية مهمات الحراسة فى منطقة قناة السويس . ومع ذلك فقد كان هناك الكثيرون فى مصر- غير الملك - ممن كانوا شديدى الشك بشأن نهاية الحرب وكانوا يشعرون أنه يجب أن يكون لمصر حكومة محايدة كتأمين ضد أى نصر للمحور. وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك معتقدين أن مصر يجب أن تؤيد مثل هذا النصر تماماً . وقد شمل هؤلاء الجنرال عزيز المصرى قائد أركان الجيش ونقيب شاب هو أنور السادات . كان السادات قد اُوقف وهو يعمل لصالح جماعة سرية موالية لألمانيا على يد المخابرات البريطانية واُعتقل . لم يكن لدى رئيس الوزراء البريطانى تشرشل - فى أى وقت - كثير من سعة الصدر مع المشاعر الوطنية المصرية ولم يكن لديه أى قدر منها فى زمن الحرب . وكان يشكو بإستمرار من أن المصريين لايأخذون موقفا كافياً من عملاء العدو المتفشين فى منطقة القناة . وبمجرد أن أصبح تشرشل مدركاً للولاء المزدوج للجيش المصرى تجاه قضية الحلفاء فقد أصر على رجوع القوات المصرية من الصحراء الغربية إلى الدلتا وعلى إبعاد الجنرال عزيز المصرى كما اُستبعدت أى إمكانية للسماح للملك فاروق بإعادة على ماهر إلى الحكم . وفى بدايات سنة 1942م وصلت الأزمة بين بريطانيا والملك ذروتها . وتحت ضغط الحلفاء قررت الحكومة المصرية قطع العلاقات مع فرنسا فيشى . غضب فاروق بشدة ، لأنه كان غائبا عن القاهرة ولم يستشر فى الأمر وأجبر رئيس الوزراء على الإستقالة. وحيث كان من شأن إستبداله بعلى ماهر أن يثير غضب بريطانيا فقد عبر الملك عن نيته فى أن يجعله عضواً فى مجلس وزراء ، على أن يكون له فيه السلطة الفعلية.
وعلى الجانب الآخر كان لامبسون يريد إقامة حكومة وفدية . كان روميل يتقدم فى سيرينكا ( برقة ) وكانت صيحة يعيش روميل تسمع فى شوارع القاهرة . كان لامبسون يعرف أنه طالما أن الوفد مازال يتمتع بشعبية واسعة فإنه سوف يقدم أكبر عون للحلفاء . وكان يعرف أيضاً أن فاروق سوف يقاوم عودة الوفد الذى يكرهه بشدة . ضمن لامبسون تأييد الحكومة والقادة العسكريين لإستخدام القوة ثم قدم للملك إنذاراً بأنه إذا ما رفض أن يسأل النحاس باشا تشكيل وزارة حتى السادسة من مساء اليوم التالى ( 2فبراير ) فإن عليه أن يتحمل تبعات ذلك . وعندما إنتهت مدة الإنذار بدون إجابة أحاطت القوات والمدرعات البريطانية بقصر عابدين بناء على أوامر لامبسون الذى شق طريقه إلى الداخل لرؤية الملك حاملاً معه وثيقة تنازل عن العرش . وبعد تردد تراجع الملك عند الساعة الثالثة عشرة ووافق على إستدعاء النحاس . شعر لامبسون بخيبة الأمل لأنه كان يأمل أن يتخلص من فاروق نهائياً. كان ذلك الإذلال للملكية حدثاً ذا تبعات هامة فى التاريخ المصرى الحديث . فقد كان الملك - وبرغم كل أخطائه - مازال يمثل مصر وقد أثار ذلك الشعور الوطنى بقوة وطلب أحد كبار الضباط وهو الجنرال محمد نجيب موافقة الملك على إستقالته من الجيش المصرى وكذلك كان الملازم جمال عبد الناصر ذو الرابعة والعشرين من العمر والذى كان متمركزاً فى السودان ، واحداً من جماعة من الضباط الشبان الذين بدأوا يحلمون بإتخاذ موقف يستردون به إستقلال الجيش المصرى . وعند هذه النقطة الحاسمة فى حرب الصحراء أصبحت بريطانيا معنية فقط بتأمين الجبهة الداخلية المصرية . واصلت قوات روميل تقدمها حتى وصلت إلى حوالى ستين ميلاً من الإسكندرية . وبسبب الإرهاق وإنخفاض المعنويات هرب عدة آلاف من القوات البريطانية وإختبأوا داخل الدلتا . وعندما بدأت السفارة البريطانية تحرق ملفاتها أصبح المدنيون البريطانيون فى مصر فى حالة شديدة من الرعب واُرسلت النساء والأطفال بالقطار إلى فلسطين . ولكن النحاس وحكومته وبعد أن ألقوا بحظهم مع بريطانيا قد إحتفظوا بأعصابهم وقاموا بإعتقال كل المشتبه بتعاطفهم مع المحور بما فى ذلك على ماهر . ورفضوا قبول حتمية الإحتلال الألمانى حتى عندما كان راديو روميل يعلن فى إنتصار عن وصوله الوشيك إلى القاهرة . وفى أغسطس 1942م حضر تشرشل إلى القاهرة و اُتفق على ضرورة أن يتولى الجنرال مونتجمرى قيادة الجيش الثامن . وفى 23 أكتوبر حددت معركة العلمين - والتى كانت نقطة تحول فى الحرب - بداية إنهيار المحور فى الشرق الأوسط . وفى خلال سبعة أشهر غادر الباقى من القوات الألمانية والإيطالية شمال إفريقيا.أخذت الحرب فى الإنحسار عن مصر ولكن البلاد أصبحت حتى قاعدة حربية أكثر اتساعاً للحلفاء وذلك بوجود حوالى 200000 جندى سواء متمركزين أو عابرين أو فى أجازة فى مصر. وأصبح الوجود الأمريكى محسوساً أيضاً . وجعل مركز الإمداد الأنجلوأمريكى من مصر مركزاً لمجهودات الحلفاء الحربية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا .
كان رضا شاه (حاكم إيران ) أقل حظاً من فاروق . كانت بلاده ذا أهمية إستراتيجية بالنسبة للحلفاء مثل مصر . وقد زاد التقدم الألمانى الكبير بعد غزو الإتحاد السوفيتى فى يونيو 1941م من إحتمال إحتلال ألمانى لإيران وحقولها النفطية . ولأن روسيا وبريطانيا كانت منذ زمن طويل القوى الامبريالية العدوانية فى العيون الإيرانية فإن المشاعر القومية خاصة بين أفراد الطبقة الحاكمة وكبار ضباط الجيش كانت تميل مع المحور. وكان النظام النازى قد بدأ يستفيد من هذه الميزة قبل الحرب . ولعبت الشركات الألمانية دوراً رئيسياً فى التصنيع الإيرانى كما كانت الدعاية الألمانية والعملاء النازيين نشطاء فى جميع أنحاء البلاد. وبمجرد أن دخل الإتحاد السوفيتى الحرب بدأ يطالب بضرورة إخضاع العملاء والمخربين الألمان . وناشد رضا شاه الولايات المتحدة من أجل تأييد حياد إيران ولكن الولايات المتحدة وبرغم أنها كانت لم تزل غير مشاركة فى الحرب فقد كانت بالفعل مرتبطة بقانون الإعارة والتأجير لعام 1941م والقاضى بمساعدة بريطانيا فى إمداد الإتحاد السوفيتى بالأسلحة من خلال إيران . لم تكن واشنطن متعاطفة مع حياد إيران وحثت رضا شاه على مساعدة الحلفاء فى إيقاف طموحات هتلر فى غزو العالم . ووصلت الأزمة ذروتها عندما رفضت الحكومة الإيرانية رسمياً طلباً سوفيتياً بريطانياً مشتركاً لإرسال إمدادات الأسلحة عبر إيران إلى الإتحاد السوفيتى . وفى 25 أغسطس قامت القوات السوفيتية والبريطانية بغزو إيران بالتزامن من الشمال والجنوب . وقد وفرت العراق قاعدة مناسبة للغزو البريطانى بعد إستبدال حكومة رشيد عالى الكيلانى بنظام موالى لبريطانيا . لم تستطع القوات الإيرانية المقاومة كثيراً وفى 16 سبتمبر تنازل رضا شاه عن العرش لصالح ابنه ذى الثالثة والعشرين من العمر - محمد رضا بهلوى . وفى يناير1942م تم التوصل إلى معاهدة تحالف ثلاثية مع بريطانيا والإتحاد السوفيتى وبموجبها تعهد كل منهما بإحترام الوحدة والسيادة والإستقلال السياسى لإيران وبالدفاع عنها بكل الوسائل المتاحة لهما من أى إعتداء . وحددت بريطانيا والإتحاد السوفيتى مناطق نفوذهما النسبية بحيث تحتل بريطانيا الجنوب والوسط والغرب وأن يسيطر الروس على الأقاليم الشمالية الثلاث فى أذربيجان وجيلان وماذاندران.
طالب الروس بحق التدخل بموجب شروط المعاهدة الفارسية السوفيتية لعام 1921م . ومع ذلك فقد نصت الإتفاقية الجديدة على أن لا تشكل القوات السوفيتية والبريطانية - التى يسمح لها بالبقاء - إحتلالاً وعلى أن تنسحب فى أقل من ستة أشهر بعد نهاية الحرب . وفى المقابل تعهدت إيران بتقديم مساعدة عسكرية غير محددة للحلفاء . وفى سبتمبر1943م أعلنت إيران الحرب على ألمانيا . وفى ديسمبر وبعد أن عقد ستالين وروزفلت وتشرشل مؤتمرهم المشترك الأول فى طهران أصدروا إعلانا يعبر عن رغبتهم فى الحفاظ على إستقلال وسيادة ووحدة أراضى ايران . وتزايد دور الولايات المتحدة فى إيران بشكل ثابت أثناء الحرب وبحلول عام 1945م أصبح هناك حوالى 30000 جندى أمريكى فى البلاد رغم أنهم لم يكونوا مشتركين فى الحرب وكانوا قد وظفوا فى إرسال الإمدادات إلى روسيا وإدارة سكة حديد إيران كما كانوا يعملون كقسم من القوت البريطانية المسئولة عن الأمن والنظام فقط.

ردود الفعل فى الشرق الأوسط/الوطنية والقومية العربية والإسلام.

قوى إستسلام إيطاليا فى عام 1943م والقضاء على خطر تهديد الغزو الألمانى للشرق الأوسط من موقف بريطانيا فى الإقليم . ومع ذلك قد كان الموقف الجديد يعنى أيضاً أن بريطانيا لم تعد قادرة على إستخدام الضرورات الطاغية للحرب من أجل السيطرة على التطورات السياسية كما حدث فى زمن الحرب . كانت الأقلية من الشرق أوسطيين من العرب والإيرانيين الذين كانوا قد توقعوا نصرا للمحور يحقق لهم مطالبهم الوطنية قد شعرت بخيبة الأمل . لكن هذا لم يعن أن الغالبية قد تخلت عن هدفها فى إزالة السيطرة الأوربية. كان الموقف فى سوريا ولبنان غير عادي حيث أن بريطانيا كانت قد ساعدت قوات فرنسا الحرة التابعة لشارل ديجول فى طرد نظام فيشى فى سنة1941م على أساس أن تعترف فرنسا بإستقلال البلدين . وقد أعلن الجنرال كاتروكس- مندوب ديجول - ذلك قبل غزو قوات فرنسا الحرة للإقليم كما كانت بريطانيا قد وافقت فى صيغة مبهمة نوعاً ما بأنها سوف تعترف لفرنسا بمركز متفوق على القوى الأوربية الأخرى فى هذا الإقليم بمجرد أن يتم تنفيذ وعد الإستقلال. ومع ذلك فلم يكن ديجول يعتقد أن فرنسا الحرة قد حررت سوريا ولبنان من أجل أن تتخلى عنهما بعد ذلك . وكان يأمل فى تأمين معاهدات ترتكز على أساس إتفاقيات عام 1936م والتى لم تصل إلى حد الإستقلال . وقد رفض السوريون بالإجماع تقريباً فكرة عقد أى معاهدة آملين أن يصلوا بذلك بالأمور إلى حد الأزمة فى الوقت التى كانت فيه القوات البريطانية مازلت حاضرة . وحتى فى لبنان وبرغم الإعتماد التقليدى للموارنة على الحماية الفرنسية فقد كانت الرغبة فى الإستقلال هى الأكثر سيطرة على المشاعر. كانت الطبقات التجارية الجديدة المسيحية منها والمسلمة تشعر أنها كانت قوية لدرجة تكفيها للإعتماد على نفسها بدون الحماية الفرنسية كما كرهت تلك الطبقة الحدود التى وضعها الإنتداب على نشاطاتها . وفى عام1943م تم التوصل إلى ميثاق وطنى غير مكتوب بين بعض القادة المسيحيين والمسلمين ينص على أن لبنان يجب أن يظل مستقلاً ضمن حدوده القائمة وأنه يجب أن يتبع سياسة خارجية عربية مستقلة . وأدت الإنتخابات التى عُقدت فى نفس العام إلى إنتصار هؤلاء المعارضين للإنتداب وإقترحت الحكومة الجديدة أن تحذف من الدستور تللك الفقرات التى تجيز السيطرة الفرنسية . رد الفرنسيون على ذلك بإعتقال رئيس الجمهورية ومعظم أعضاء الحكومة . ولكن الفرنسيين أذعنوا عندما ووجهوا بإضطرابات شعبية وإحتجاجات من كل أنحاء العالم وبإنذار بريطانى . واُفرج عن الوزراء وتم تعديل الدستور . أثمرت الإنتخابات فى سوريا فى عام 1943م أيضاً عن نصرواضح للقوميين . وتدريجياً وعلى مضض بدأ الفرنسيون ينقلون سلطات الإنتداب إلى الحكومتين . لكنهم لم يتخلوا تماماً عن كل أمل وظلوا يحتفظون بالقوات المسلحة المحلية اللبنانية والسورية تحت سيطرة القيادة العليا الفرنسية كوسيلة لتأمين معاهدات مابعد الإستقلال . وعندما هبطت فرقة سنغالية فى بيروت فى مايو1945م إستنتج السوريون بشكل صحيح إلى أن الفرنسيين كانوا يهدفون إلى الحفاظ على السيطرة العسكرية بعد رحيل البريطانيين . وإشتعل القتال فى دمشق وضرب الفرنسيون المدينة بالمدافع حتى أجبر إنذار بريطاني آخر القوات الفرنسية على العودة إلى الثكنات . ورغم أن هذه القوات قد بقيت لمدة سنة أخرى فإن حكم فرنسا فى الليفانت كان قد وصل إلى نهايته. وفى سنة 1946م إنضمت سوريا ولبنان إلى الأمم المتحدة كدولتين مستقلتين . وبعد أن إعترفت الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى بإستقلال سوريا ولبنان لم تعدا مستعدتين بالإعتراف بالمركز المتفوق لفرنسا هناك وإعتبرت فرنسا بريطانيا مسئولة عن إقصائها من الليفانت. وقد قام الجنرال ديجول بعد عشرين سنة على ذلك التاريخ بإجراء إنتقامى عندما صوت ضد دخول بريطانيا إلى السوق الأوربية المشتركة.
كانت مصر هى مركز قوة بريطانيا فى الشرق الأوسط ولكن بعد إقامة حكومة الوفد لم تعد سياسات البلد الداخلية إهتماماً رئيسياً لبريطانيا . ورغم أن الوفد كان مازال واثقاً من أنه يعبر عن الإرادة الشعبية فقد أصبح حساسا تجاه الإتهام بأنه قد جاء إلى الحكم بواسطة البريطانيين . كان الوفد يناصر قضية تمصير البلاد . وقد أثار جعله اللغة العربية إجبارية كلغة للمراسلات الرسمية والمحاسبة التجارية حنق بريطانيا والجاليات الأجنبية الأخرى بشدة . ولكن الواقع أن النحاس كان مازال يعتمد على تأييد لامبسون لمنع الملك الحانق من طرده . والواقع أن الوفد وقد إمتلأ بالفساد والفضائح العامة كان قد بدأ يفقد سيطرته على الشارع المصرى .
كان هناك قوى غير برلمانية آخذة فى التنامى كان الإخوان المسلمون أهمها وأخطرها . وكان التضخم المتفاقم والذى زاده وجود قوات الحلفاء تفاقما يسبب سخطا شعبيا متزايدا على الحكومة . كانت طبقة ملاك الأراضى تزداد غنى - وكما حدث فى الحرب العالمية الأولى - فقد نمت طبقة ثرية جديدة من التجار والصناعيين من خلال تزويد القوات الأجنبية بالسلع والخدمات . ولكن الغالبية العظمى من المصريين كانت تغرق فى الفقر أكثر فأكثر . وفى عام 1944م إنتهز الملك فرصة غياب لامبسون من البلاد وطرد النحاس وإستبدله بأحمد ماهر- أخو على ماهر- رقيق الجانب والمختلف عنه تماماً . وأصر رئيس الوزراء الجديد على أن تعلن مصر - وعلى الأقل - الحرب على ألمانيا كى تضمن عضويتها فى منظمة الأمم المتحدة المقترحة . وفى 24 فبراير 1945م أعلن أحمد ماهر فى البرلمان الحرب على ألمانيا فأغتيل بمجرد مغادرته مبنى البرلمان . ومن المؤكد تقريباً أن الحادث قد تم بتدبير الجناح الإرهابى الجديد لجماعة الإخوان المسلمين . كان الإغتيال السياسى على وشك أن يصبح سمة من سمات الحياة السياسية المصرية . وشعر المصريون من كل الأحزاب أنه وكمكافأة على مساهمة مصر فى مجهود الحلفاء الحربى فإن بريطانيا يجب أن تخلى البلاد بالكامل وتقبل بوحدة مصر والسودان . ولكن وبرغم الأمل فى أن تكون حكومة العمال - التى كانت قد وصلت إلى الحكم لتوها - أكثر تعاطفاً مع الطموحات الوطنية المصرية فقد كانت حكومة العمال الجديدة معنية بصفة رئيسية بالحفاظ على المركز العسكرى المتفوق لبريطانيا فى الشرق الأوسط ولم تكن مستعدة لمراجعة معاهدة 1936م التى شعرت أنها كانت قد صمدت فى مواجهة إختبار الزمن.
كانت القوات البريطانية الدائمة فى القاهرة تذكر المصريين بالإحتلال المستمر. وأصبح الوفد وهو فى المعارضة متلهفا على تجديد أوراق إعتماده الوطنية ولذا فقد راح يشجع الثورة ضد بريطانيا . وفى فبراير 1946م أدت الإضرابات والمظاهرات إلى أحداث شغب عنيفة لعب فيها الإخوان المسلمون والشيوعيون بالإضافة إلى الوفد دوراً . وإستدعى صدقى العجوز- الذى كان مازال رهيباً - إلى الحكم . عمل صدقى على السيطرة على المظاهرات ولكن بعض الهجمات على الجنود والمدنيين البريطانيين إستمرت . وأصر صدقى على أن تتفاوض بريطانيا وآنذاك كانت حكومة العمال قد أصبحت مستعدة للتجاوب . كان الجيش البريطانى وحكومة المحافظين بقيادة ونستون تشرشل يصران على أن مصر كانت قاعدة غربية أساسية لنظام الدفاع عن ذلك الإقليم . وحددت أزمة مع الإتحاد السوفيتى حول إيران بداية الحرب الباردة . ولكن وزير الخارجية أرنست بيفن كان مستعدا لأن يوافق على مبدأ الجلاء التام بشرط أن يمكن إعادة تنشيط قاعدة القناة فى حالة تجدد الحرب فى الشرق الأوسط - والتى أصبحت تعنى آنذاك بالنسبة للقوى الغربية غزوا سوفيتيا لأحد بلاد الإقليم - ووافق الفيلد مارشال مونتجمرى الذى زار مصر فى صيف 1946م على أن بريطانيا يمكن أن تخلى قاعدة القناة بشرط أن تحتفظ بقوات فى فلسطين وليبيا وقبرص . ولكنه أصر أيضاً- وبإستمرار - على أن بريطانيا يجب أن تظل قوية فى السودان تحسبا لأى متاعب مع المصريين . وقال ( أنه كان ضرورياً أن نسيطر على النيل شريان الحياة لمصر) . ولكن الإعتراض القديم على إنهاء الإحتلال البريطانى لمصر إستمر . ورغم أن صدقى كان قد توصل بسهولة إلى إتفاقية مع بيفن على جلاء بريطانى تام فى خلال ثلاث سنوات فقد موها حول مسألة السودان قائلين أن إتفاقية الحكم المشترك لعام 1899م سوف تستمر حتى يتم التوصل بعد التشاور مع السودانيين إلى إتفاقية مشتركة جديدة على وضع السودان المستقبلى فى إطار الوحدة بين السودان ومصر تحت التاج المشترك لمصر . وقد فسر المصريون ذلك على أنه كان يعنى أن بريطانيا قد قبلت بفاروق كملك لمصر والسودان . ولكن الحكومة البريطانية وبتأييد قوى من المسئولين البريطانيين فى السودان أوضحت فوراً بأنه لم يكن لديها مثل هذه النية. وبدلاً من ذلك بدأت بإتخاذ خطوات بإتجاه تأسيس الحكم الذاتى للسودان. وظلت العلاقات الإنجليزية المصرية سيئة كما كانت دائماً وقامت بريطانيا من جانب واحد بتنفيذ قسم من بنود إتفاقية صدقى بيفن حيث سحبت كل القوات من الدلتا إلى منطقة قناة السويس. ومع ذلك - فقد كان هناك أكثر من سبعة أضعاف عدد العشرة آلاف جندى المنصوص عليه فى معاهدة 1936م . وفى مارس عام 1946م تأسست جامعة الدول العربية بمباركة بريطانية . وأصبح مقرها الرئيسى فى القاهرة ولها سكرتير عام مصرى . ولكن الأعضاء المؤسسين وهم الدول العربية السبع التى كانت قد حصلت على إستقلالها وهى مصر والعراق والسعودية والأردن واليمن وسوريا ولبنان أكدت أن الجامعة لم تكن أبداً إتحاداً فيدرالياً . وإحتفظ كل عضو بسيادته الكاملة وكانت القرارات التى يتخذها مجلس الجامعة ملزمة فقط لهؤلاء الأعضاء الذين يصوتون لصالح تلك القرارات . ورغم أن الجامعة كانت نظريا إستلهاماً من فكرة الوحدة العربية فقد ظلت تلك الفكرة أيدولوجية هشة غير متطورة . فطالما كانت الإمبراطورية العثمانية مستمرة فى الوجود فإن الغالبية العظمى من العرب - وبصرف النظر عن شكواهم من الأتراك - كانت تفترض أن الإمبراطورية سوف تظل قائداً للعالم الإسلامى . فقط مسيحى الليفانت العرب- والذين لم يكن لديهم مثل هذا الولاء - كانوا يفكرون فى الإنشقاق بجدية لكنهم لم يجدوا التجاوب الكافى من رفاقهم المسلمين العرب . كان قليل من المثقفين أمثال رشيد رضا وعبدالرحمن الكواكبى يجادلون بأن الأتراك قد أضاعوا حقهم فى القيادة الإسلامية وأن الإسلام قد يخدم أفضل من خلال العودة إلى خلافة عربية لكن ذلك لم يرتق إلى مستوى برنامج للعمل السيا سى . وكانت فكرة الجامعة العربية التى دعى إليها الشريف حسين عندما قاد ثورته العربية عرضية غير مكتملة النضج وتنبع بقوة من طموحاته الشخصية وطموحات عائلته ، ولم يعترف بمطلبه فى أن يكون ملكاً على العرب الا من قبل عدد محدود جداً من العرب . وفى الفترة السعيدة القصيرة التى كان فيها الأمير فيصل ملكاً على سوريا حاول أن يحتفظ بفكرة الجامعة العربية حية . وقد قال فى مايو1919م ( نحن شعب واحد نعيش فى الإقليم الذى يحده البحر من الشرق والجنوب والغرب وجبال طوروس من الشمال ). والأكثر أهمية أنه كان مغرماً بقول ( نحن عرب قبل أن نكون مسلمين ومحمد هو إنسان عربى قبل أن يكون نبياً ). وكان ذلك نواة القومية العربية العلمانية . ولكن وفى خلال سنة كان فيصل قد ُطُرد من سوريا وبرغم أن البريطانيين قد نصبوه فى العراق فإن الشعوب العربية التى تحدث عنها كانت قد إنقسمت فى حدود قومية جديدة.
ولذلك ففى السنوات التى تلت الحرب العالمية الأولى كان هناك إتجاهان متعارضان بين العرب الشرقيين . كان أحد هذه الإتجاهات هو تطور الوطنية الإقليمية فى الدول القومية الجديدة أثناء إنهماكها فى الصراع من أجل الإستقلال التام عن بريطانيا وفرنسا حيث نتج عن ذلك خلق هوية وطنية غذتها طموحات وتنافس الزعماء المحليين . كان آل سعود عدائيين ومرتابين تجاه الهاشميين كما كان هناك منافسة بين هاشمى العراق وهاشمى الأردن . أما الإتجاه المعاكس فكان التطلع نحو وحدة عربية شاملة ترتكز على الشعور- الذى إشترك فيه العرب جميعاً بدرجة ما - وهو أنهم كانوا قد قُسموا ظاهرياً بهدف إضعافهم والإحتفاظ بهم تحت الوصاية الغربية . كانت الوحدة ضرورية للحماية والنهضة العربية الذاتية . وقد إكتسب هذا الإتجاه قوة دفع شديدة من الأحداث فى فلسطين . كان الإدراك المتنامى بأن الصهاينة وبمساعدة الغرب كانوا يهدفون إلى الإستيلاء على أكبر قدر ممكن من فلسطين العربية هو أقوى العوامل فى تعبئة الرأى العام العربى والذى كان محبطاً - ولكن ليس خامداً - بحقيقة أن الذى كان يمكن أن يقدمه لمساعدة الفلسطينيين كان قليلاً جداً فى الواقع .
كان الإسلام ومازال عنصرا فعالاً - بشكل فريد - فى القومية العربية. ومع ذلك فقد كان الجهاديون الإسلاميون مثل الإخوان المسلمين يؤكدون على أن الإسلام والقومية لايلتقيان حيث أن كل المسلمين ومن كل الأجناس من الصين إلى الغرب هم من نفس الأمة الإسلامية العظيمة . وبالعكس فقد كان أنصار الجامعة العربية من المثقفين العرب يحاولون التعبير عن أن العروبة والإسلام هما شىء مشترك واحد . وكما قال عبد الرحمن عزام - أول أمين عام للجامعة العربية - فى خطبة له فى سنة1943م ( أن مُثل الإسلام كانت هى مُثل القومية العربية الحديثة وأن الأمة العربية تهدف إلى أن تأخذ مكانها الصحيح فى العالم وأن تستأنف الرسالة التى بدأها محمد ). ولكن ذلك الجدل كان زائفاً إلى درجة كبيرة . فقد وجه الجهاديون الإسلاميون فى البلاد العربية نداءهم من أجل إحياء النهضة الإسلامية إلى أشقائهم العرب بشكل أساسى أما القومية العربية وعلى الجانب الآخر فلم يكن من الممكن أبداً أن تكون علمانية فى شكل ودرجة جمهورية أتاتورك التركية أو حتى إيران رضا شاه لسبب بسيط هو أن الإسلام كان جزء لايتجزء فى الحضارة والثقافة العربية . ولذا فقد أكد ميشييل عفلق- المدرس المسيحى السورى الشاب وأيدولوجى حزب البعث العربى الذى قام بتأسيسه فى دمشق سنة 1940م - بأن الإسلام كان إتجاهاً دائماً فى حياة الأمة العربية. وكما قال لأحد رفاقه( كان محمد عنواناً لكل العرب اذن دع كل العرب اليوم يكونون محمدا).ً و من جانب آخر ، لم يكن لدى ممثل آل سعود خادم الأماكن المقدسة للإسلام أى مشكلة فى موافقة طموحاتهم العربية والإسلامية فقد كانوا يذكرونها بنفس المعنى .
وفى العشرينيات والثلاثينيات نأت مصر بنفسها إلى درجة كبيرة عن أى حركة للجامعة العربية وذلك بموافقة أشقائها العرب . وقد كان هناك صراع بين وطنية دولة تعرف فى مصر بالفرعونية وأفكار الجامعة الإسلامية . وإقترح الكاتب المصرى العظيم طه حسين رؤية جريئة جداً حين قال أنه برغم أن مصر يمكن أن تكون جزءً من أوربا إستناداً إلى ثقافتها الحالية فإنها فرعونية بتقاليدها كما أنها وبالتأكيد لم تكن جزءً من الشرق الإسلامى. ولكن كان لدى معظم المصريين مشاعر مختلطة تجاه ذلك فقد إستطاعوا أن يظلوا وطنيين مصريين فى نفس الوقت الذى كانوا يجدون فيه إلهاماً فى تصور الوحدة الإسلامية. كان مصطفى كامل القائد الوطنى المصرى عند نهاية حقبة كرومر من ذلك النوع . ولكن فكرة الجامعة العربية لم تكن قد إنتشرت بعد . وقد قاطع سعد زغلول عزام باشا عندما كان يتحدث إليه عن الوحدة العربية متسائلاً ( إذا ما أضفت صفراً إلى صفر آخر ثم إلى صفر آخر ماهو الرقم الذى سوف تحصل عليه ؟ ). ولكن منذ أواخر الثلاثينيات فصاعداً بدأ الموقف يتغير تدريجيا . فقد أصبح عدد كبير من المصريين - كان عزام أبرزهم- قادراً على تصور الدور المحتمل لمصر فى الشرق الأوسط بمجرد تحررها من السيطرة البريطانية كما كان هناك آخرون من العرب الذين توصلوا إلى نفس الإستنتاج . ففى سنة 1936م قال ساطع الحصرى الكاتب المولود فى حلب و الذى رحل مع الأمير فيصل من سوريا إلى العراق وقُدر له أن يقوم بأكثر مما قام به غيره فى نشر فكرة الجامعة العربية بأن الطبيعة قد حبت مصر بكل المؤهلات التى تجعل لزاماً عليها أن تأخذ على عاتقها قيادة حركة القومية العربية . لم يكن التحول نحو رؤية القاهرة كنواة لحركة الجامعة العربية قد إنتشر بعد بين القادة العرب أو الجماهير العربية أو حتى بين المصريين أنفسهم . ولم يكن قد إتفق أبداً على أن المصريين يمكن حتى أن يعتبروا عرباً . ففى ديسمبر 1942م وضع نورى السعيد مشروعاً لتوحيد سوريا ولبنان وفلسطين والأردن مع شبه إستقلال ذاتى لليهود فى فلسطين كخطوة أولى نحو الوحدة العربية . ولم يكن ذلك المشروع يشمل مصر. وكان هناك مشروع آخر إقترحه صديق ومستشار الملك ابن سعود - المستشرق إتش سان جون فلبى - وكان يقضى بأن يترأس الملك السعودى إتحاداً عربياً بدولة يهودية مستقلة فى فلسطين. وقد وجد ذلك المشروع ترحيباً من الصهيونى غير اليهودى ونستسون تشرشل ومن القيادة الصهيونية. ومرة أخرى كانت مصر مستثناة من هذا المشروع. ومع ذلك ورغم السمعة الكبيرة لابن سعود والتى جعلت كل من تشرشل وروزفلت يتخيلانه كملك للعرب فإن كل تلك المشاريع كانت غير عملية بسبب العداء بين السعوديين والهاشميين حيث لم يكن من الممكن أن يقبل أحدهما بقيادة الآخر أبداً. ولكن وزارة الخارجية البريطانية كانت تفضل فى الواقع فكرة الروابط الأقوى بين الدول العربية بشرط إمكانية الحفاظ على المصالح الغربية. وكان الأمل فى أن يكون حل المشكلة الفلسطينية داخل إطار عربي أوسع – أسهل - أحد العوامل الرئيسية فى هذا الإتجاه.
ومنذ مايو1941م فصاعداً أخذ أنتونى ايدن وزير خارجية بريطانيا يصدر بيانات متكررة بأن بريطانيا كانت تفضل أى مشروع يحقق إتفاق عام بين العرب من أجل تقوية الروابط الثقافية والإقتصادية والسياسية بين الدول العربية. وعندئذ رأت بريطانيا أن مصر وهى موقع لمركز إمدادات الشرق الأوسط ومركز مجهود الحلفاء الحربى فى الإقليم قد تكون أفضل مقر رئيسى لأى إتحاد عربى يرعاه الغرب . وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت حكومة الوفد بقيادة النحاس - وكانت فى تحالف مع بريطانيا زمن الحرب - قد بدأت تُجذب إلى فكرة إتحاد عربى تقوده مصر . وكان الملك فارق أيضاً مصراً على أن لاتترك مصر خارج ذلك المشروع . وعلى مضض إضطر نورى السعيد وغيره من القادة أن يقبلوا بهذه الحتمية ، فلم يكن هناك بديل عن مصر. كان آخر عمل قام به الوفد قبل أن يُقصى عن الحكم فى أكتوبر 1944م هو توقيع بروتوكول الإسكندرية مع الدول العربية الستة المستقلة والذى أدى إلى قيام الجامعة العربية فى السنة التالية . وبينما كانت الغالبية العظمى من العرب والإيرانيين تسعى إلى إزالة الحماية والسيطرة الغربية فى أعقاب الحرب كان هناك جماعة واحدة فى الشرق الأ وسط ذو أولويات مختلفة وهم اليهود الصهاينة. فعندما بدأت الحرب كان حلمهم فى دولة يهودية مستقلة فى فلسطين قد زوى كنتيجة للتغيير فى السياسة البريطانية والذى ضُمن فى الورقة البيضاء لعام 1939م. كان غضب الصهاينة وإحساسهم بالمرارة عميقاً. ومع ذلك فلم يكن من الممكن أن يكون هناك أى إحتمال بعدم مساعدتهم لبريطانيا فى حربها ضد النازى . وصاغ ديفيد بن جوريون- القائد الصهيونى الذى أصبح أول رئيس وزراء إسرائيلى فيما بعد - الشعار بأن اليهود سوف يحاربون الورقة البيضاء كما لو أنه لم يكن هناك حرب والحرب كما لوأنه لم يكن هناك ورقة بيضاء.
وسجل حوالى 27000 يهودي فلسطيني أنفسهم فى القوات البريطانية أثناء الحرب ولكن إعتقد آخرون أنهم كانوا يستطيعون خدمة قضيتهم بشكل أفضل عن طريق بناء الهجانة ، الجيش الصهيونى شبه السرى فى فلسطين . وأعطت الحرب دفعة قوية لتطوير صناعة العتاد الحربى اليهودى والتى أخذت تمول القوات البريطانية فى سنة 1942م وإستطاعت أن تقوى من موقف الصهاينة مستقبلا ً. وإستمر البريطانيون فى رفض المطالب الصهيونية بتكوين جيش يهودى يرفع العلم الصهيونى ليقاتل بجانب الحلفاء . وعندما إنتهى خطر الغزو الألمانى بهزيمة روميل فى العلمين فى الوقت الذى بدأت تتسرب فيه الأخبار من أوربا عن فظائع هتلر الرهيبة ضد اليهود تحول صهاينة فلسطين بشكل حاسم ضد بريطانيا بسبب الغضب من ترحيل بريطانيا للعدد المحدود من المهاجرين اليهود غير الشرعيين الذين كانوا قد إستطاعوا الوصول إلى فلسطين وأخذوا فى لوم بريطانيا وحدها على فشل إنقاذ اليهود الأوربيين . وتضاعفت الأعمال المعادية لبريطانيا . وإنضمت جماعة منشقة عن التيار الرئيسى للهجانة إلى عصابة ستيرن الأكثر تطرفا فى هجمات واسعة بلغت أقصاها بإغتيال اللورد ميون وزير الدولة البريطانى فى القاهرة فى نوفمبر 1944م . وقد أثار ذلك حنق تشرشل وكان صديقاً حميما لميون وجعله يتراجع مؤقتاً عن تأييده المستمر والثابت للصهيونية . وقد حددت الحرب أيضاً إنتقالاً نهائياً لمقر الصهيونية العالمية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة . كان حاييم وايزمان مازال يعتقد فى أن أفضل الآمال فى تحقيق الأهداف الصهيوية يقع فى يد بريطانيا لكنه غُلب بواسطة الجيل الجديد والذى كان يمثله ديفيد بن جوريون الذى كان يتطلع إلى القوى العظمى الأمريكية القادمة لإجبار بريطانيا على الموافقة على تحقيق آمال اليهود . وفى مؤتمر مُثلت فيه كل إتجاهات الرأى العام الصهيونى فى فندق بلتيمور فى نيويورك فى مايو 1944م تم إختيار برنامج يقضى بهجرة يهودية غير محدودة وبجعل فلسطين جمهورية يهودية ضمن بناء العالم الديموقراطى الجديد .
وعلى الجانب الآخر- ظل الفلسطينيون هادئين بشكل كبير أثناء الحرب . وإنضم منهم حوالى 12000 إلى القوات البريطانية . وهرب الحاج أمين الحسينى من بغداد بعد سقوط رشيد عالى الكيلانى وذهب إلى ألمانيا حيث حاول من هناك تعبئة الرأى العام الإسلامى من أجل قضية المحور لكن تأثيره كان محدوداً . ومع وصول حكومة عمال إلى الحكم فى بريطانيا عام 1945م إرتفعت آمال الصهاينة لأن حزب العمال كان قد عارض الورقة البيضاء لعام 1939م كما كان قد أجاز قراراً فى مؤتمر للحزب عام 1944 يقترح بضرورة أن يرحل العرب عن فلسطين وأن يرحل اليهود إليها.
لكن حكومة إتلى ووجهت بحقائق معقدة رهيبة بمجرد وصولها إلى السلطة . كانت بريطانيا إسمياً أحد القوى الكبرى الثلاث التى كسبت الحرب ولم يكن لدى حكومة العمال النية- بأكثر مما كان لدى المعارضة المحافظة - فى أن تتخلى بريطانيا عن موقعها على القمة فى إقليم الشرق الأوسط حيث كانت الطرف المنتصر بلا شك . وبدت بريطانيا كأنها القوى الأعظم ولكن الواقع أن بريطانيا التى أجهدتها الحرب وأفقرتها كانت تواجه فعلاً إضمحلالاً لدورها كما كان من شأن قرار حكومة العمال الخطير بمنح الإستقلال للهند عام 1947م أن يقوض من مركز بريطانيا كقوى عالمية . وفى نفس الوقت كانت المشاكل تحيط بها فى أوربا بسبب توسع الإمبراطورية السوفيتية وإنهيار تحالف زمن الحرب مع ستالين والذى حدد قيام الحرب الباردة . وفى الشرق الأوسط كانت بريطانيا تواجه مطالب مصر بإنهاء الإحتلال البريطانى . لقد كان من الممكن إيجاد قواعد عسكرية بديلة فى شرق المتوسط ولكن لم يكن من شأن ذلك أن يوفر حلاً للمشكلة الفلسطينية التى أصبحت آنذاك مستعصية على الحل .
كان التصور الذى قدمته الورقة البيضاء لعام 1939م بأن تصبح فلسطين دولة مستقلة ذات قوميتين عربية ويهودية يكون فيها الأغلبية فى الحكومة للعرب قد تحطم على يد هتلر. كان هتلر قد هُزم ولكن قد أصبح هناك ضغط كبير من أجل السماح للناجين من الهولوكست (محرقة اليهود) باللجوء إلى فلسطين . ولم تكن الدول الغربية مثل الولايات المتحدة ولا القيادة الصهيونية تريدهم أن يذهبوا إلى أى جهة أخرى . كان أرنست بيفن وزير الخارجية البريطانى مازال يعتقد بأنه يمكن التوصل إلى حل عن طريق المفاوضات. وقد أخبر مجلس العموم – بشكل غير حكيم - بأنه سوف يراهن بمستقبله السياسى على حل القضية الفلسطينية . ولكنه أراد جعل الولايات المتحدة تشارك فى المسئولية . وبمجرد أن إنتهت الحرب أبرق الرئيس ترومان إلى الحكومة البريطانية طالباً السماح بالدخول الفورى لمائة ألف يهودى إلى فلسطين . أراد الكونجرس الأمريكى هجرة غير مقيدة وفى نوفمبر 1945م أعلن بيفن تكوين بعثة إنجليزية أمريكية لتقصى الحقائق . وفى إبريل 1946م طالبت تلك اللجنة بإستمرار الإنتداب وبدولة واحدة متحدة وبإلغاء القيود على بيع الأراضى وبالسماح الفورى لمائة ألف يهودى بدخول فلسطين وكان ذلك يعنى فى الواقع عودة إلى سياسة عام 1922م.
إنتقدت اللجنة وجود القوات اليهودية السرية والتى قدرت عددها بنحو 65000 وأوصت بضرورة نزع سلاحها . وجدت الحكومة البريطانية هذه المقترحات غير عملية كما بدت فى شكلها المكتوب ولكنها وافقت على بعض الإقتراحات الخاصة بالإستقلال الذاتى لليهود والعرب . وبينما إستمرت بريطانيا فى محاولة منع الهجرة اليهودية غير الشرعية زادت الجماعات الصهيونية من أنشطتها والتى بلغت ذروتها بتفجير فندق الملك داوود فى يوليو 1946م فى أورشليم ( القدس ) والذى كان يضم المكاتب العسكرية والمدنية البريطانية . وفى أثناء ذلك كانت الدول العربية السبع المستقلة تحاول العمل من أجل أن تمنع كارثة عربية فى فلسطين . وأعاد تأكيد إجتماع قيادات هذه الدول فى مصر فى مايو 1946م على الهوية العربية لفلسطين وأقر إجتماع آخر فى يونيو فى سوريا ( فى نفس العام ) قراراً سرياً بتهديد المصالح البريطانية والأمريكية فى الشرق الأوسط إذا ما اُهملت حقوق العرب فى فلسطين . واجهت الحكومة البريطانية معضلة مستحيلة . وإنقسم الرأى العام فى بريطانيا بين هؤلاء المتعاطفين مع الصهاينة وبين هؤلاء الذين أثارتهم الفظائع التى إرتكبوها . كان من شأن المصالح البريطانية فى الشرق الأوسط أن تصبح مهددة إذا ماسمح للصهاينة بالإستيلاءعلى فلسطين ولكن بريطانيا كانت تتعرض لضغط لايلين من الولايات المتحدة من أجل السماح بهجرة يهودية كبيرة كما كانت - فى أعقاب الحرب- معتمدة إقتصادياً على واشنطن . وفى تأييد ماعرف بإسم مبدأ ترومان الخاص بتدخلات الولايات المتحدة الخارجية والذى قدمه فى خطاب للكونجرس فى12مارس 1947م طلب الرئيس ترومان من الكونجرس توفير المعونة التى لم يعد فى مقدور بريطانيا تقديمها وذلك كى تتمكن اليونان وتركيا من الإحتفاظ بإستقلالهما فى مواجهة الخطر السوفيتى .
وبعد محاولة عقيمة من أجل الحصول على موافقة العرب واليهود على خطة مشتركة سلمت بريطانيا المشكلة إلى الأمم المتحدة فى فبراير1947م. وفى أغسطس 1947م أوصى تقرير بأغلبية للجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية على أن تظل موحدة إقتصادياً وتدول فيها القدس وضواحيها. وبموافقة 33 عضواً ورفض13عضواً وإمتناع 10عن التصويت وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذه التوصيات بقوة فى قرارها رقم 181 الصادر فى نوفمبر1947م. وقد تمت الموافقة على هذا القرار لأن كلاً من الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى اللذين كانا يسيطران على الأمم المتحدة آنذاك قد صوتا فى صالحه وكانا مستعدين لممارسة ضغط من أجل تنفيذه . كان الإتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت يعتبر الكفاح الصهيونى فى فلسطين كأحد حركات التحرر ضد الإمبريالية . وفقط صوتت الدول الآسيوية والإسلامية ضد القرار.
ورُفض إقتراح - بنسبة ضئيلة - قدمه العرب لوضع مسألة أحقية الأمم المتحدة فى تقسيم بلد ضد رغبة سكانه أمام محكمة العدل الدولية حيث كان هناك حوالى 1269000 عربي مقابل 678000 يهودي فى فلسطين سنة 1946م. كان الصهاينة قد رحبوا بتقسيم البلد لأنه كان يعترف بدولة يهودية كانت برغم إحتوائها على مساحة صحراوية كبيره فى الجنوب- صحراء النقب - تغطى55% من مساحة بلد لم تكن تزيد فيه ملكية الأراضى الصهيونية عن8% من المجموع الكلى للأرض . وعارض العرب التقسيم كالعادة بمرارة شديدة لكنهم غضبوا بشكل خاص لأن الدولة اليهودية المقترحة كانت ستضم قريباً عدداً متساوياً من العرب واليهود . كانت بريطانيا قد أعلنت بالفعل فى سبتمبر1947م عن نيتها فى التخلى عن الإنتداب على فلسطين فى 15 ابريل 1948م. لم تكن الأمم المتحدة قد قدمت أى إقتراحات عن كيفية تنفيذ تقسيم فلسطين أو تمويله كما رفضت بريطانيا تنفيذ سياسة لم تكن مقبولة لكلا الطرفين أو الإشتراك فى لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين والتى كان يفترض أن تشرف على الفترة الإنتقالية . وأخذت بريطانيا فى تسليم السلطة إلى أى جماعة محلية تأخذ فى الظهور فحسب - ولأن الكوادر العربية كانت بعكس الكوادر اليهودية قليلة- فإن حفظ النظام تم بشكل أفضل فى المناطق اليهودية . وعلى الفور إشتعل إقتتال طائفى سرعان ماتطور إلى حرب أهلية شاملة بينما كانت الإدارة البريطانية تتأهب للرحيل . وعند مواجهة هذه الكارثة تراجعت الولايات المتحدة وأعلنت معارضتها للتقسيم الإجبارى وفى 3 مارس دعت إلى هدنة وإلى مزيد من تدارس المشكلة فى الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولكن الصهاينة وفى قلقهم من جراء تحول السياسة الأمريكية ضاعفوا من جهودهم لتأسيس دولتهم . كانت جماعة أرجون الصهيونية المتطرفة وعصابة ستيرن قد أصبحت تتعاونان مع الهجانة ووُضعت الخطة الرئيسية التى عُرفت بإسم خطة دلتا للسيطرة على معظم فلسطين موضع التنفيذ . وشُنت العمليات العسكرية ضد القرى العربية التى تقع فى أماكن إستراتيجية وإستطاع جيش عربى للتحرير يتكون من ثلاثة آلاف متطوع من خارج فلسطين تحقيق بعض النجاحات المبدئية ولكنه لم يستطع فعل الكثير فى مواجهة القوات الصهيونية شديدة التفوق . إنهارت المعنويات المدنية العربية على أثر ذلك الهجوم والهجوم السيكولوجى الذى إستغل تقارير عن مذبحة قامت بها جماعة الأرجون فى10 مايو فى مائتين وخمسين من سكان قرية دير ياسين.
سقطت طبرية وحيفا وعكا ويافا ومعظم القدس العربية وفر نحو ثلاثمائة إلى أربعمائة ألف لاجئ فزعين نحو البلاد العربية المجاورة . وفى14 مايو غادر آخر مندوب سامى بريطانى فلسطين وإنتهى الإنتداب رسميا . وأعلن الصهاينة على الفور قيام دولة إسرائيل وفى خلال ساعات أعلن الإتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الإعتراف بالأمر الواقع . ومبكراً فى 15 مايو عبرت وحدات من القوات المسلحة النظامية من سوريا والأردن ومصر حدود فلسطين على أمل رد الموقف لصالح العرب . وقد أخفى ذلك العمل الحاسم ظاهرياً من قبل الدول العربية المستقلة عدم وحدتها القتالية . لقد كان قرار الجامعة العربية بالتدخل فى فلسطين قراراً جماعياً ولكن الوحدة لم تكن أكثر من واجهة كاذبة فلم يكن هناك إتصال فعال بين الجيوش العربية كما لم تكن هذه الجيوش تعمل فى تنسيق . ولم تكن قدراتهم العسكرية تعبر عن تفوفقهم العددى الكبير حيث كان هناك حوالى أربعون مليون عربى يواجهون حوالى ستمائة ألف يهودى صهيونى فقط . وفى الواقع وحسب تقارير الميدان فقد كان لدى مصر حوالى 10000من القوات النظامية وكان لدى الفيلق العربى الأردنى حوالى4500 جندى وسوريا 3000 ولبنان 1000 والعراق 3000 وكانت كلها ذات تسليح بريطانى وفى حالة الأردن كان القائد الأعلى الجنرال جلوب وكبار الضباط بريطانيين . وقد ذكر أحد السياسين العرب- الباقين على قيد الحياة - أن الجيوش العربية كانت مفيدة فى أداء الإستعرضات العسكرية فقط . وقد كانوا يواجهون حوالى60000 من القوات اليهودية والتى برغم عدم الإعتراف بها رسمياً أبداً من سلطة الإنتداب فقد كانت مسلحة ومدربة وكان لدى الكثير من أفرادها خبرة قتالية بالفعل . كان بعض القادة العرب - وخاصة فى سوريا والعراق - شديدى الجهل بالموقف لدرجة أنهم توقعوا مجرد نصر سريع وسهل . كان لدى الملك عبد الله التقدير الأكثر عملية عن القوة الصهيونية . وقد كان منذ فترة فى مفاوضات سرية مع قادة الصهاينة وكون معهم ماوصل إلى مستوى التحالف الإستراتيجى الذى كان من شأنه أن يمكنه من السيطرة على الجزء العربى من فلسطين ويقصى القادة الوطنيين الفلسطينين مثل أسرة الحسينى المعادين للهاشميين . كذلك كان لدى النقراشى باشا - رئيس الوزراء المصرى - الذى كان يفتقد إلى ثقة النحاس الأقوى طموحاً - شك فى إنتصار عربى ولم يكن لديه أى أوهام بشأن كفاءة القوات المسلحة المصرية . ولكن الرأى العام المصرى كان ثائراً وكانت جماعة الإخوان المسلمين تريد القتال من أجل فلسطين . ومارس الحاج أمين الحسينى الذى كان آنذاك فى مصر تأثيراً كبيراً كما كان لتصميم الملك فاروق على ضرورة دخول الجيش المصرى الحرب أهمية أكبر.
ومع ذلك ، وبإفتراض أن المقاومة الصهيونية كان يمكن أن تنهار فإن هناك قليل من الشك بأنه حتى الملك عبدالله كان سيكون مضطراً لأن يستمر فى الحرب حتى تخنق دولة إسرائيل فى مهدها. كان الهدف المعلن للحكومات العربية هو إسترجاع الأمن وحماية الخمسة وأربعين فى المائة من فلسطين الذى كان قد خُصص للعرب بموجب خطة الأمم المتحدة للتقسيم فقط . وفى البداية سار كل شئ على مايرام بالنسبة للعرب حيث إحتلوا مناطق لم يكن اليهود قد سيطروا عليها بعد . دخل المصريون غزة وبئر سبع وإلتقوا مع الفيلق العربى بالقرب من بيت لحم . وكان الفيلق قد سيطر مع حلفائه العراقيين على القطاع الأوسط من فلسطين وحاول محاصرة أورشليم الغربية اليهودية إلا أنهم لم يستطيعوا قطع الطريق من تل أبيب إلى أورشليم مما كان كارثة على العرب . إستطاع وسيط الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت (السويدى) تأمين وقف لإطلاق النار لمدة أربعة أسابيع تبدأ من11 يونيو وقدم بعض المقترحات لتسوية رفضها الطرفان . وعندما إستؤنف القتال إخترق اليهود حصار أورشليم الغربية وحققوا مكاسباً بسيطة فى كل القطاعات تقريباً محتلين نازاريث والجليل الغربية والتى كانت قد خُصصت للعرب . وكان وقف إطلاق النار الثانى الذى دُعى إليه فى18 يونيو غير فعال وعندما إنتهى القتال فى النهاية فى يناير 1949م كان اليهود قد إحتلوا كل صحراء النقب حتى الحدود المصرية الفلسطينية السابقة بإستثناء قطاع غزة على الساحل . وسيطر العراقيون والأردنيون على جزء بسيط من أماكن إلى الشمال والجنوب من أورشليم القدس . وظل21% فقط من أراضى فلسطين بأيدى العرب . وإنخفض عدد العرب فى المناطق التى إستولت عليها إسرائيل إلى مابين 700000 و 750000 نسمة .
وبين فبراير ويوليو 1949م نجح وسيط الأمم المتحدة الجديد الأمريكى رالف بونش فى تأمين إتفاقيات هدنة عسكرية منفصلة بين إسرائيل ومصر والدول العربية الأخرى بإستثناء العراق الذى سحب قواته - مع ذلك . وتم الإتفاق بشكل عام على تثبيت حدود مؤقتة حيث كانت الخطوط فى بداية المفاوضات بينما اُتفق على تجريد بعض المناطق الحدودية المعينة من السلاح . وقُسمت القدس إلى جزء شرقى وجزء غربى ووقع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية . ولم يتم توقيع إتفاقية سلام . وفى ديسمبر1948م عينت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة مصالحة من ثلاثة أعضاء من أجل التوصل إلى تسوية نهائية وترتيب نظام دولى لأورشليم ولكن ضاعت كل مجهوداتها سدى لأن الدول العربية رفضت التفكير فى معاهدة سلام إلا إذا وافقت الحكومة الإسرائيلية على قبول كل اللاجئين الراغبين فى العودة إلى اسرائيل. كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تعيد بإستمرار تأكيد القرارات التى تطالب بمنح اللاجئين حق الإختيار بين العودة أو التعويض عن ممتلكاتهم وقد كان على هذا الأساس أن قبلت إسرائيل كعضو فى الأمم المتحدة فى11 مايو1949 م. ولكن إسرائيل أصرت على أن مستقبل اللاجئين كان يمكن أن يناقش فقط كجزء من إتفاقية سلام عامة. كان المأزق تاماً. وأصبح نصف الفلسطينيين العرب لاجئين . ولم تستطع دولة إسرائيل الجديدة ولاحتى جيرانها العرب أن يتوقعوا حتى الحد الأدنى من الأمن والإستقرار.

























الفصل الحادى عشر


دخول القوى العظمى وحقبة ناصر1950-1970م


























11- دخول القوى العظمى وحقبة ناصر 1950-1970م

ُشعر بصدى الكارثة الفلسطينية فى كل أنحاء الشرق العربى وتوزع اللوم على بريطانيا والولايات المتحدة والقادة العرب الذين ساهم عجزهم ومنافساتهم المفرقة فى الأداء العربى التعس . أصبح الرأى العام العربى متطرفاً بشكل عام . ففى سوريا وقع إنقلاب عسكرى حتى قبل توقيع الهدنة وبرغم أنه اُفشل بسرعة وعاد إلى الحكم شكل من الحكومة البرلمانية الدستورية فقد أصبح لدى القوات المسلحة السورية ولعاً بالسلطة السياسية لم يتناقص أبداً بعد ذلك . أصبحت سوريا مثلاً لعدم الإستقرار السياسى . وتمكنت الملكية الأردنية ورغم أنها كانت فى وجه العاصفة من الإستمرار بتأييد من جيشها الوفى . وإستطاع الملك عبد الله تحقيق طموحه فى توحيد ماتبقى من فلسطين فى مملكته الأردنية الهاشمية المعلنة الجديدة. ورأت أغلبية سكان الضفة الغربية وهم بغير دفاع وفى خطر من أن يبتلعهم الصهاينة أنه لايوجد بديل آخر وفى ديسمبر1948م دعى مؤتمر من حوالى مائتين من الوجهاء العرب فى أريحا الملك عبد الله لتوحيد فلسطين والأردن . و قد عارضت أغلبية الدول العربية الأخرى هذه الخطوة بشدة وحاولت إعاقتها ولكن بغير نجاح . وحاولت الدول العربية إحياء قرار الأمم المتحدة بتدويل القدس إلا أنها فشلت لأن ذلك كان غير مقبول لإسرائيل . وظل الملك عبد الله مسيطراً على المدينة العربية القديمة . وأصبح لدى الأردن عدداً من السكان الفلسطينيين يساوى ضعف السكان الأردنيين ولكن كان نصف مليون منهم عبارة عن لاجئين معدمين . قبل الفلسطينيون ضم الملك عبد الله لأراضيهم نتيجة لظرف قاهر ولكن كان لدى معظمهم تحفظاته على حكم الأردنيين والذين كانوا يعتبرونهم أقل تقدماً منهم . كذلك فقد كان هناك أقلية تكره الهاشميين بشدة . وقد عالج الملك عبد الله هذا الموقف الحساس بغموض بارع.
حاول الملك هو وحكومته تحقيق الإندماج السياسى للسكان الجدد وكانت الأردن هى الدولة العربية الوحيدة التى قدمت للاجئين حق المواطنة الكاملة ولكنها مثل بقية الدول العربية الأخرى فقد ظلت مصرة على أن اللاجئين كانوا فى المقام الأول مسئولية إقتصادية وسياسية دولية وعلى أنهم لن يتخلوا عن حقهم فى العودة أبداً . وعلى ذلك فقد كانت الأردن تهدف إلى محاربة الإنفصالية الفلسطينية والإحتفاظ بحقها فى التحدث بإسم الفلسطينيين فى نفس الوقت الذى راحت تعلن فيه أن فلسطين العربية سوف تسترد يوما ما . كان من شأن هذه الجنة الأردنية أن تدوم لحوالى ثلاثين عاماً تقريبا ً. وقد سببت مشاكل سياسية حادة ولكن الملكية الأردنية تمكنت من الإستمرار من خلال خليط من حسن الحظ والمساعدة الخارجية والإنشقاق فى صفوف أعدائها ومرونة وتصميم حكامها . اُغتيل الملك عبدالله على يد شاب فلسطينى عند دخوله المسجد الأقصى فى أورشليم فى 20 يوليو1951م. كان ابنه طلال غير مستقر عقلياً فاُُقصي عن العرش بعد سنة واحدة وخلفه ابنه حسين البالغ من العمر سبعة عشرعاماً وكان آنذاك يتلقى تعليمه فى أحد مدارس إنجلترا . وبعكس كل التوقعات أصبح حسين أكثر قائد دولة عربى تمكن من البقاء فى الحكم .
كانت مصر هى الدولة العربية التى أحدثت فيها الكارثة الفلسطينية أعمق الأثر. فقد أصبح صغار الضباط الذين خدموا فى الحرب مقتنعين بالعجز المجرم للرجال الذين يحكمون مصر. كانت إمدادات الغذاء والدواء غير كافية بينما كانت الأسلحة عتيقة وعديمة الجدوى فى بعض الأحيان . كان كبار الضباط يصدرون أوامر متناقضة عديمة المعنى بينما أظهر البعض عجزاً تاماً . كان الجنرال محمد نجيب - الذى كان قد جرح أثناء الحرب - إستثناءً بارزاً فى ذلك . أما جمال عبدالناصر والذى كان قد رُقى حديثاً إلى رتبة الرائد وكان قد جرح أيضاً فقد كان قد حقق لنفسه شهرة فى إشتباك دفاعى وكانت أشد ذكرياته توقداً عن تلك الحرب هى كلمات أحد رؤسائه المحبوبين قبل أن يقتل بفترة وجيزة ( تذكر المعركة الحقيقية فى مصر ) . ولعدة سنوات بعد ذلك تكونت حركة سرية بين صغار الضباط الوطنيين . وبرز ناصر- الجاد ، عميق التفكير ، شديد الجاذبية - كقائد ومنظم طبيعى لهذه الحركة . كان كثير من زملائه المقربين قد خدموا معه فى فلسطين وبعد عودتهم زادوا من نشاطاتهم وأصبحوا مقتنعين أكثر مما مضى بالحاجة الملحة لتغيير جذرى فى النظام . كان الإنقلاب العسكرى فى دمشق قد أحدث سلسلة من ردود الفعل أثرت فى كل الدول العربية . ففى مصر شكل الضباط الأحرار- كما أصبحوا يسمون أنفسهم آنذاك - لجنة مركزية اُنتخب ناصر الذى كان قد أصبح مقدماً – رئيساً لها.
أسس الضباط الأحرار سلسلة من الخلايا فى جميع أنحاء القوات المسلحة وبدأوا فى توزيع منشورات مصورة يشهرون فيها بالنظام . كانت الديموقراطية البرلمانية فى إنهيار فعلي بسبب نمو القوى السياسية غير الشرعية . كان الإخوان المسلمون أحد أبرز هذه القوى وكانوا قد إكتسبوا شعبية جديدة من الأعمال الجريئة لأعضائها كمتطوعين فى فلسطين . وفى نوفمبر 1948م إستغل النقراشى باشا الأحكام العسكرية ليعلن حل جماعة الإخوان المسلمين وإغلاق فروعها. وبعد شهر من ذلك التاريخ أغتيل النقراشى باشا وبعد شهرين من إغتياله اُغتيل حسن البنا نفسه - المؤسس والمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين- - تقريباً بواسطة أحد أجنحة بوليس الدولة لمكافحة الإرهاب . كان الملك فاروق يفقد فى الواقع ماتبقى من شعبية شبابه . وقد حول مزيج من الإختلال الجسدى والإنغماس فى الملذات الملك الصبى الوسيم إلى رسم كاريكاتورى هزلى لرجل فاسق فى منتصف العمر. وقد أضر طلاقه من زوجته المصرية فريدة فى ذروة حرب فلسطين بشعبيته كما بدت الرفاهية العابثة لحياته فى منتجعات المتوسط أثناء أزمات مصر كإهانة قاسية لرعاياه المعدمين . ورغم أن إذلال البريطانيين لفاروق قد جعل منه متشائماً بشكل كبير فإنه لم يتخل عن ولعه الموروث بالتآمر السياسى أو رغبة التشبث بالسلطة . وفى يناير1950م إستدعى عدوه القديم النحاس وسمح بإنتخابات عامة أثبت فيها الوفد أنه كان مازال قادراً على تحقيق إنتصاره الكاسح المعتاد . كان كل من الطرفين يأمل من خلال ذلك التحالف المستحيل - بين القصر والوفد - أن يحتفظ بنصيبه فى نظام حكم مصر الآيل للسقوط .
وكانت بريطانيا تأمل فى تحسين العلاقات الإنجليزية المصرية وفى إنتظار إتفاق نهائى لم يكن قد اتضح بعد - قامت بإعطاء بعض الإشارات المتناقضة . كانت الحكومة البريطانية تعمل على إقامة قيادة شرق أوسطية مشتركة مع الولايات المتحدة وتركيا وفرنسا وكانت تأمل فى أن تنضم مصر إليها . كان ذلك أساساً من ترتبيات الحرب الباردة التى كانت تهدف إلى إبعاد الإتحاد السوفيتى عن شرق المتوسط ولكن كان الفشل مقدراً عليها . كان الشعور الحيادى فى مهده فى الشرق الأوسط حيث كان معظم السكان يعتبرون القوى الإستعمارية تهديداً أخطر من الشيوعية السوفيتية . وعندما عرضت بريطانيا المشروع على مصر فى أكتوبر1951م رُفض بشكل قاطع . والواقع أن حكومة الوفد كانت قد قررت بالفعل إلغاء المعاهدة الإنجليزية المصرية لسنة 1939م وإعلان فاروق - من جانب واحد - ملكاً على مصر والسودان.
كان الوفد متلهفاً على تأكيد مصداقية وطنيته المطلقة . ورغم أن تحركه كان يحظى بشعبية كبيرة فى البلاد فقد كان خطيراً لأنه فى صراعها ضد بريطانيا كانت الحكومة المصرية مضطرة لأن تضمن تأييد كل القوى حتى التى كانت تهدف إلى الإطاحة بالنظام الدستورى . لم يكتف النحاس بإعلان حالة الطوارئ وإتخاذ خطوات لقطع إمدادات التموين وإمدادات العمال المصريين عن القوات البريطانية فى القناة ولكنه ذهب إلى أبعد من ذلك وشجع تشكيل فرق التحرير التطوعية للقيام بعمليات تخريب وحرب عصابات . وكان من البديهى أن يكون متطوعو هذه الفرق من الإخوان المسلمين والشيوعيين وأى جماعات أخرى ذات خبرات إرهابية قيمة . وساعد بعض الضباط الأحرار فى تدريب هذه الجماعات سراً . وفى بريطانيا كان المحافظون قد كسبوا إنتخابات أكتوبر1951م وقُدر لهم أن يستمروا فى الحكم للثلاثة عشر عاماً التالية . عاد تشرشل رئيساً للوزراء وأصبح إيدن وزيراً للخارجية . وظلت مصر تحتفظ بأهميتها الكبرى بالنسبة إليهم ولكن لم يكن هناك حل واضح للأزمة. وتم الحفاظ على إدارة قاعدة قناة السويس من خلال إستيراد العمال من شرق إفريقيا لكن ذلك لم يكن مجدياً لأن الثمانين ألف جندى بريطانى المرابطين فى القناة أصبحوا مشغولين بالدفاع عن القاعدة ضد عمليات التخريب . كان البديل هو إعادة إحتلال القاهرة ولكن ذلك كان أمراً يصعب التفكير فيه حتى على إستعمارى مثل تشرشل . وعندما زادت حدة الهجمات وسع البريطانيون من إجراءاتهم المضادة وقاموا بالقبض على المشتبه بهم والذين شملوا البوليس المصرى نفسه . ثم وفى 25 يناير 1952 حاصرت قوة بريطانية كبيرة مقر البوليس فى الإسماعيلية عند الفجر وطلبوا من شاغليه الإستسلام . ولكن وزير الداخلية طلب منهم المقاومة فنفذوا ذلك بشجاعة كبيرة وقُتل منهم حوالى الخمسين وجرح عدد أكبر. وفى اليوم التالى الذى - أصبح يعرف بالسبت الأسود - قامت جماعات مسعورة من العامة بحرق وسط القاهرة . وقد ركز هؤلاء بصفة خاصة على تخريب الممتلكات البريطانية والمحلات والفنادق والمطاعم التى يملكها الأجانب ولم يمكن أبداً تحديد الجهة المسئولة عن ذلك الحدث . ولكن الإخوان المسلمين وتنظيم مصر الفتاة شبه الفاشى وبعض الجماعات المسلحة الأخرى كانت تقود الجماهير فى ذلك اليوم . وربما تكون الحكومة قد غضت الطرف عن الهجمات الأولى ولكنها لم تكن تتوقع أن تنتشر تلك الهجمات بذلك الشكل الخطير . ولم يحاول الملك- الذى كان يستضيف بعض كبار الضباط على الغذاء- أن يتدخل. ولم يُتخذ أى إجراء حتى المساء حين إستُدعيت القوات النظامية لتعيد السيطرة على الوضع فى المدينة . وراح الملك والحكومة يلومان بعضهما البعض على ذلك.
وقد شجع الخوف من تدخل القوات البريطانية من قاعدة القناة على الإسراع بالإجراء - الذى كان قد تأخر - فى إستدعاء الجيش . لم يكن مصرى واحد قد نسى أن الإحتلال البريطانى لمصر فى سنة 1882م قد شجعته أحداث الشغب فى الإسكندرية . وفى الواقع فقد كان لدى البريطانيين خطة للتدخل لحماية أرواح وممتلكات البريطانيين ولكن الشغب كان قد إنتهى قبل إتخاذ أى قرار بتنفيذ ذلك . وإستخدم الملك ذريعة سوء تعامل الحكومة مع الأزمة لإقصاء النحاس . وإستدعى رجله المفضل- على ماهر- الذى لم يستمر مع ذلك لأكثر من خمسة أسابيع فى الحكم ثم توالى على مصر أربعة حكومات مختلفة فى عدة أسابيع . لقد كان من الصعب للغاية العثور على أى شخص له مايكفى من القوة لتشكيل مجلس وزراء. أدرك الضباط الأحرار أن النظام كان ينهار. وقبل الأزمة كانوا قد خططوا للتحرك فى عام 1954 أو 1955م . ولأنهم كانوا يحتاجون إلى ضابط كبير ذو إسم معروف كى يكون واجهة لهم يعطى لحركتهم وزناً واحتراماً فى الداخل والخارج فقد جاءوا باللواء محمد نجيب الذى كان معروفاً بتعاطفه معهم وأصبح رئيساً للجنة التنفيذية للضباط الأحرار فى يناير 1952 ولكن السرية كانت ضرورة . كان الملك يكره نجيب وقد إشتعل غضبه لإنتخابه فى نفس الشهر رئيساً لنادى ضباط الجيش ضد مرشح الملك نفسه . ورغم مجهوداتهم لحفظ أمرهم سراً فقد أدرك الضباط الأحرار أن بوليس أمن الدولة كان على وشك إكتشاف منظمتهم السرية . ولكن من حسن الحظ كان الملك مازال يعتقد أن الغالبية العظمى فى الجيش كانت مازلت على ولائها له . وفى يوليو سافر كالعادة إلى قصره الصيفى بالإسكندرية . وفى ليلة 22/23 يوليو 1952 سيطرت وحدات الجيش الموالية للضباط الأحرار على كل المواقع الرئيسية فى العاصمة فى مواجهة مقاومة رمزية فقط . وأعلن أنور السادات نجاح الثورة عبر راديو القاهرة . وبسبب إقتناعهم بأن البريطانيين قد يتدخلون لإنقاذ الملك فقد تحرك الضباط الأحرار بسرعة من أجل السيطرة على الإسكندرية . وتغلب ناصر على مطالبة بعض زملائه بضرورة محاكمة فاروق وإعدامه ، وبدلاً من ذلك سمح له بالتنازل عن العرش والرحيل إلى المنفى مع زوجته الجديدة ناريمان وابنهما الرضيع . وقد حسن ذلك من سمعة الثوار فى الوقت الذى زاد فيه سوء تصرف الملك فى المنفى من تشويه سمعة الملكية. ونجحت صورة اللواء نجيب - الأبوية ذات الغليون- فى طمأنة القوى الكبرى صاحبة المصالح فأسرعت بالإعتراف بالنظام الجديد .
حول الضباط الأحرار لجنتهم المركزية إلى مجلس قيادة للثورة (آر سى سى) ونجيب كرئيس له. ومضى أكثر من سنة قبل أن يصبح واضحاً للعالم الخارجى أن الكولونيل ناصر- ذو الأربعة وثلاثين عاماً الطويل المؤثر والمكتئب نوعاً - كان هو القائد الحقيقى للثورة . كان الضباط الأحرار يخططون لثورتهم منذ عقد من الزمان وكان لديهم تصور واضح عما كانوا يريدون فعله من تخليص البلاد من النفوذ الأجنبى وخاصة البريطانى وتصفية قوة ملاك الأراضى والملكية والقضاء على فساد الحياة السياسية . ومع ذلك فلم يكن لديهم أفكار سياسية متطورة أو برنامج سياسى . كان للقليل منهم تعاطفه مع الإخوان المسلمين وكان القليل ماركسيين ولكن الأغلبية منهم كان يمكن وصفها فقط بالوطنيين . وقد تحركوا بسرعة من أجل تجميع قواهم . كان الوفد قد ظل تهديداً لهم لأنه فى ظل الدستور القديم كان يستطيع أن يكسب أى إنتخابات برلمانية . ولذلك قُدم كبار السياسيين الوفديين وأصدقاء الملك السابق للمحاكمة واُتهموا بالتآمر مع قوى خارجية وبالفساد وحُكم عليهم بعقوبات سجن مختلفة . وفى يناير1953م شعر مجلس قيادة الثورة بأنه كان قادراً على حل كل الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها . وأعلن عن دستور مؤقت وضع السلطة العليا فى يد مجلس قيادة الثورة للسنوات الثلاث المقبلة . ومن هنا أصبح هناك خطوة واحدة قصيرة نحو إلغاء الملكية . واُعلنت الجمهورية المصرية رسمياً فى 18يونيو1953م واُلغيت الألقاب العثمانية القديمة - بك وباشا. وكما علق نجيب ( إن أقدم ملكية فى العالم قد أصبحت مؤقتاً أحدث جمهورية فى العالم ). لم يكن نجيب يعتبر نفسه شخصية صورية فقد كان يشعر أنه قد دُعى لكى يقود فعلاً وصمم على أن يحتفظ بمنصبي الرئيس ورئيس الوزراء لنفسه. وأقنع ناصر نفسه مؤقتاً بالإكتفاء بمنصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية . إتخذ مجلس قيادة الثورة إجراءً سياسياً إجتماعياً هاماً فى الأسابيع الأولى بعد الثورة هو إجراء الإصلاح الزراعى . ففى سنة 1952م كان أقل من نصف فى المائة من ملاك الأراضى يملكون فيما بينهم أكثر من ثلث كل الأراضى المزروعة بينما كان 72 فى المائة من المزارعين يملكون أقل من فدان واحد لكل منهم مما يصل إلى حوالى ثلاث عشرة بالمائة فقط من الأراضى . وقبل سنة1952م قام العديد من الإقتصاديين والسياسيين المصريين بتقديم إقتراحات تفصيلية عن الإصلاح الزاعى . وقد وصل حتى بعضها إلى البرلمان كمشارع قوانين ولكنها كانت تُخنق بسهولة . حدد قانون الإصلاح الزراعى الذى أصدره مجلس قيادة الثورة ملكية الأرض بمائتى فدان وأعاد توزيع الأراضى المصادرة على الفلاحين فى حصص تتراوح من إثنين إلى خمسة.
وكذلك تم تخفيض الإيجارات بشكل كبير . كان الإصلاح راديكالياً وليس ثورياً وقد أسماه الماركسيون (إصلاحاً أمريكياً). إستفاد عشرة فى المائة فقط من الفلاحين من إعادة توزيع الأرض . ومع ذلك ولأنه كان ناجحاً بشكل عام فى تجنب إنخفاض كبير فى الدخل فقد خدم كنموذج لبعض الدول النامية الأخرى . فقبل أى شئ آخر فقد كان قد نجح فى إضعاف القوى السياسية الطاغية لكبار ملاك الأراضى والذين إستطاعوا بنجاح ولعقود طويلة إعاقة الإصلاحات الإجتماعية والسياسية . لم يكن النظام السابق هو التهديد الوحيد لمجلس قيادة الثورة . فقد جاء التهديد الرئيسى من جماعة الإخوان المسلمين والشيوعيين - ومن الإثنين كان الإخوان المسلمون بمنظمتهم التى إنتشرت فروعها فى جميع أنحاء البلاد- هم الأشد خطراً. ولأنهم كانوا قد لعبوا دوراً فى تقويض الملكية فقد كانوا يشعرون أنهم يستحقون نصيباً- على الأقل - من السلطة فى النظام الجديد. ولكن ناصر أحبط مناوراتهم وهزمهم وأثبت أنه كان تكتيكياً سياسياً بارعاً. وفى أثناء سنة 1953م أصبح ناصر منهمكاً فى صراع على السلطة مع كل من محمد نجيب والإخوان المسلمين. ورغم إخلاصه وشهرته فلم يكن نجيب قائداً ثورياً بطبيعته. ولأنه كان محافظ النزعة فقد كان يشعر أن منصبه يسمح له بممارسة السلطة على الضباط الصغار المتهورين فى مجلس قيادة الثورة كما أنه كان ساذجاً من الناحية السياسية. وبدا أن ناصر يفسح له المجال ليضع نفسه فى موقع يبدو فيه وكأنه يدعو إلى عودة النظام السياسى السئ لما قبل الثورة والذى ماكان الجيش- بشكل خاص - ليحتمله. وفى أبريل 1954م خضع نجيب لناصر الذى أصبح رئيساً للوزراء وظل نجيب رئيساً بدون أى سلطة حقيقية. أما الإخوان فقد كان ميلهم إلى العنف هو سبب دمارهم . فقد وفرت محاولة لإغتيال ناصر فى أكتوبر 1954م الذريعة لقمع التنظيم ولأنه قد ثبت أن نجيب كان على علاقة بالإخوان - رغم عدم إتهامه بالتورط فى محاولة الإغتيال بأى حال - فقد اُُقصى من منصبه ووضع تحت الإقامة الجبرية . وفى نهاية سنة 1954م أصبح ناصر يسيطر على مصر بغير منازع وقدر له أن يظل كذلك حتى وفاته فى سنة 1970م . كان ناصر أول مصرى حقيقى يحكم البلاد منذ أيام الفراعنة . وكان أبوه الذى أتى من أسرة ريفية فقيرة من صعيد مصر قد حصل على الشهادة الإبتدائية مما مكنه من دخول طبقة الموظفين كموظف فى مكتب بريد.
كان ناصر قد إجتاز المرحلة الثانوية ليدخل الكلية العسكرية عندما فُتحت لأبناء غير الباشوات والبكوات نتيجة لمعاهدة 1936م. وقد عبر مبكراً عن إمكانياته القيادية وحبه الشديد لمصر. و كان قد إقتنع من خلال القراءة الواسعة فى التاريخ العربى والإسلامى والتاريخ الغربى والسيرة الذاتية أن الشعب المصرى يملك إمكانيات طبيعية رفيعة تنتظر الخلاص الوطنى بعد قرون من الخضوع للقهر . وفى سنة 1954 إزدادت حرية التحرك السياسى لدى ناصر بدرجة كبيرة وذلك بسبب التسوية التى تمت آنذاك للمسألتين السياسيتين الكبيرتين اللتين أحاطتا بمصر لأكثر من خمسين عاماً وهى مسألة الإحتلال العسكرى البريطانى والسودان. وكان الفشل فى حل الأخيرة قد منع لفترة طويلة حل الأولى. وكان قرار مجلس الثورة بمجرد إستيلائه على الحكم بفصل المسألتين قد مضى بحل كل من المسألتين إلى منتصف الطريق . وقد تم معالجة مسألة السودان أولاً وتم التوصل فى12 فبراير 1953م إلى إتفاقية إنجليزية مصرية لحكم ذاتى سودانى فورى يتبعه إستفتاء حق تقرير للمصير بعد ثلاث سنوات . وبشكل ما ، فقد كان كلا الطرفين يخادع لأنه لم يكن أى منهما يستطيع أن يرفض مبدأ السودنة والحكم الذاتى عندما يقترحه الطرف الآخر. فقد كان المصريون يأملون ويتوقعون بأن سوداناً مستقلاً سوف يميل للإتحاد مع مصر وكان البريطانيون يعقدون الأمل على إنتخابات سودانية ينتج عنها نظام موالى لبريطانيا ومعادى لمصر بقيادة حزب الأمة المحافظ . صدم البريطانيون عندما كسبت الأحزاب الموالية لمصر الإنتخابات ولكن مجلس قيادة الثورة قد صُدم بدوره عندما عزمت الحكومة السودانية الجديدة على الإستقلال التام ضد الوحدة مع مصر. واُعلن إستقلال السودان فى 1يناير1956م. شعر مجلس قيادة الثورة بخيبة أمل شديدة فى موضوع السودان ولكن الإتفاقية جعلت من الممكن أن تبدء المفاوضات حول قاعدة السويس البريطانية.
إستمرت المحادثات بشكل متقطع خلال عام 1953م وبدايات عام1954. كان أحد العقبات الرئيسية للإتفاق هو أن بريطانيا كانت مازالت تعتبر مصر جزءً من منطقة النفوذ الغربى ولكن المفاوضات قد أصبحت أسهل بواقع أن مصر لم تعد مركزاً لسياسة بريطانيا فى الشرق الأوسط حيث كانت تركيا قد إنضمت للناتو فى خريف 1952م ونُقل مقر قيادة القوات المسلحة المشتركة البريطانية من السويس إلى قبرص فى ديسمبر1952. ورفض ناصر طلباً بريطانياً لإبقاء سبعة آلاف جندى فى السويس ولكنه وافق على إعادة تشغيل القاعدة فى حالة حدوث هجوم خارجى على أى دولة عربية أو على تركيا.
وبينما إستمرت المفاضات- فى تعثر- فقد سُمح بحرب العصابات فى منطقة القناة لممارسة ضغط على بريطانيا . وأخيراً وفى يوليو1954م تم التوصل إلى إتفاقية على أساس الإقتراح البريطانى بإخلاء كل القوات البريطانية والإحتفاظ بالقناة مستأجرة لمدة سبع سنوات بهيئة موظفين متعاقدة مع شركات بريطانية . وحسب بنود الإتفاقية غادر آخر جندى بريطانى مصر فى31 مارس 1956م وكتب مراسل التايمز فى2 ابريل 1956م ( كان رحيلهم صامتاً وخالياً من أى إحتفال تقريباً مثلما كان النزول الليلى لقوات الجنرال ولسلى التى كانت قد إحتلت بورسعيد قبل أربعة وسبعين عاماً ).
ومع توقيع الإتفاقية فى القاهرة تكلم ناصر عن حقبة جديدة من العلاقات الودية فقال ( نريد أن نتخلص من الكراهية فى قلوبنا ونبدأ فى بناء علاقتنا مع بريطانيا عل أساس متين من الثقة المتبادلة التى أفتقدناها فى السبعين عاماً الماضية ). لكن هذه الآمال لم تتحقق. فإن الحكومة البريطانية وخاصة وزير الخارجية أنتونى ايدن الذى حل محل تشرشل كرئيس للوزراء فى أبريل1955م كان قد نمى لديه نوع من الكراهية الغريزية الشديدة تجاه ناصر أثناء المفاوضات القاسية حول السودان وقاعدة السويس حيث بدا ناصر بشعبيته إلى كانت تزداد فى كل أنحاء الشرق الأوسط وكأنه يشكل خطراً على كل المصالح البريطانية فى الإقليم. وتفاقمت الكراهية البريطانية بواقع أن المصريين - ورغم كل تراثهم النبيل - كانوا مازالوا يعتبرون كأحد أجناس اللورد كرومر الخاضعة . كانت قيادة أرستقراطى صحراوى مثل ابن سعود مقبولة لكن قيادة كولونيل من أصول ريفية لم تكن مقبولة . وفى كتابه الصغير- فلسفة الثورة الذى نشر فى عام1954م - أظهر ناصر بالفعل إدراكه لنوع الدور الذى كان يمكن أن تلعبه مصر . فقد كتب عن وقوعها عند ملتقى ثلاث دوائر- العربية والافريقية والإسلامية . وقد رأى مصر- ولم يزل ذلك فى عبارات مبهمة - كمركز لحركة كبيرة لمقاومة إستعمارية الغرب . ومبدئياً ، فلم يكن يرى الدائرة العربية بمفردات الوحدة العربية - لأنه فى الواقع كان متشككا فى الجامعة العربية التى كان يعتبرها تصوراً إستعمارياً خداعاً و كان قد أضعف من تأثيرها بإقصاء سكرتيرها العام العروبى الفصيح ، عبد الرحمن عزام . لكنه كان يرى الدول العربية كحلفاء محتملين فى القضاء على السيطرة الغربية . ومن سوء الحظ فإن الدولة العربية المستقلة الوحيدة الأخرى والتى كان لها صفات القوى المستقلة المستقرة - وهى العراق- كان يقودها رجل كان ناصر يعتبره حليف الغرب الإستعمارى الأول هو نورى السعيد .
ومما زاد الأمر سوء أن نورى السعيد كان أيضاً رجلاً ذا شأن حقيقى وشخصية . كانت تلك المنافسة المريرة مع نورى السعيد والتى كانت أكثر من مجرد صراع شخصى هى العامل الرئيسى فى توريط مصر بعمق فى سياسات القومية العربية . ووصلت الأمور إلى ذروتها فى عام 1955م بالتوصل إلى سلسلة من الإتفاقيات العسكرية بين العراق وتركيا وإيران وبريطانيا والتى أصبحت تعرف بإسم حلف بغداد . كانت فكرة ذلك التحالف المعادى للسوفيت قد نشأت فى الولايات المتحدة التى صرفت النظر عنها عندما أدركت بأن العرب كانوا معنيين بإسرائيل أكثر من أى تهديد سوفيتى . كانت بريطانيا قد إنضمت إلى الحلف كوسيلة للحفاظ على بعض من مركزها المتفوق فى المنطق . حاول ناصر بكل وسيلة منع العراق من الإنضمام إلى الحلف لأنه كان يراه بإرتباطاته بحلف الناتو من خلال تركيا كوسيلة لإستمرار النفوذ الغربى . ولكنه فشل فى إقناع نورى السعيد - عدو السوفيت والموالى للغرب - الذى لايكل . كانت الغالبية العظمى من أصحاب الرأى فى العالم العربى فى جانب ناصر فى هذه المسألة وكان نفوذه كافياً لمنع الأردن من الإنضمام إلى الحلف رغم أن الملك الشاب- حسين - كان ميالاً لذلك. ولكن بينما كانت شعبية ناصر تزداد بين العرب كانت العداوة التى أثارها فى الغرب تزداد أيضاً .
كان أفق ناصر آخذا فى الاتساع وكان تأثير بانديت نهرو- رمز إستقلال الهند - أحد التأثيرات الحاسمة عليه. وكان قد زاره فى القاهرة فى فبراير 1955م وإتفق معه على معارضة كل التحالفات العسكرية مثل حلف بغداد . كذلك كان قد نمى لدى ناصر اعجاب دافئ بتيتو رئيس يوغوسلافيا . وبينما نجح نهرو فى إنتهاج سياسة غير منحازة فى الوقت الذى ظل فيه عضواً فى الكومنولث البريطانى فقد تحدى تيتو الزعامة السوفيتية للكتلة الشيوعية ( حتى أثناء حكم ستالين ) وقبل المعونة الأمريكية دون أن يضطر للتنكر للشيوعية . وقدر لنهرو وتيتو وناصر أن يصبحوا الأعضاء المؤسسين لمجموعة دول عدم الإنحياز. وفى أبريل1955م ترأس ناصر بعثة مصر إلى المؤتمر الآفروآسيوى فى باندونج فى إندونيسيا وكان حدثاً شديد الأهمية فى وقته حيث كان يرمز إلى محاولة قوية من قبل معظم الجنس البشرى الملون لإزاحة سيطرة الدول الغربية البيضاء . واُُُعترف بأهمية مصر وثورتها حيث عومل ناصر كند من قبل الساسة الآسيويين مثل نهرو ورئيس الوزراء الصينى شواين لاى. كان أحد أسباب ذلك يعود إلى صفاته الشخصية حيث تصرف - وبالنسبة لسنه وعدم خبرته - بمهارة وثقة ملحوظتين . كان ناصر فى طريقه لأن يصبح بطل القومية العربية وبدت صورته معلقة فى كل مكان فى أنحاء المشرق العربى . ولكن مركز البطل جلب معه مخاطر ومسئوليات جديدة لأنه بدأ يثير كثيراً من الآمال بين العرب . ولأنه كان يناصر قضية عدم الإنحياز فى الحرب الباردة فقد بدأ يثير شك وعداء الولايات المتحدة . وفى نفس الوقت كانت إسرائيل قد بدأت تعتبر مصر ناصر تحديها الخارجى الأساسى . ورغم أن بريطانيا بدت وكأن



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملحمة جلجاميش وجذور الفكر الدينى
- مختصر تاريخ مصر فى العصور القديمة
- الحلف السعودى الإسرائيلى المصرى والشرق الأوسط الجديد
- ثورة المعرفة والصراع الطبقى
- المسيحية من الإستبداد ، إلى الإصلاح ، الى الثورة العلمانية
- أساطير العهد القديم وأصل الإسلام
- محمد والقبائل والرسالة المزعومة
- صلاح الدين بين السنة والشيعة
- أنور السادات وسيد قطب ودستور الإرهاب المصرى
- هيكل بين سيد قطب وطه حسين
- الميراث الإبراهيمى وأغلال المرأة


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - تاريخ الشرق الأوسط-تأليف بيتر مانسفيلد-ترجمة عبدالجواد سيد