أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - مصر والبحر المتوسط















المزيد.....



مصر والبحر المتوسط


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 5198 - 2016 / 6 / 19 - 23:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مصر والبحرالمتوسط
مقدمة

كتبت هذه الدراسة قبل عدة سنوات فى محاولة لإستشراف المستقبل ، إن الأحداث التى يعيشها الشرق الأوسط اليوم تؤكد أنه فى حاجة للذوبان فى حضارة أكبر، وأن هذه القصة القديمة هى قصة دائمة التجدد ، فقصة مصر والبحر المتوسط ، هى نفس قصة الدول العربية ، المشاطئة لهذا البحر المبدع ، حتى لو إختلفت التفاصيل والمسميات ، فمجرى التاريخ واحد.

1-العصر القديم

تعود العلاقات المصرية المتوسطية إلى بداية التاريخ الفرعونى، تقريباً مع عهد الملك مينا مؤسس أول أسرة فرعونية حوالى بداية الألف الثالثة ق.م، وبالتحديد مع جزيرة كريت موطن الحضارة المينوية (نسبة إلى مينوس ملك كريت)، حيث عُثر على كثير من الآثار والمؤثرات المصرية فى تلك الجزيرة، والتى يرجح أنها إنتقلت مع مهاجرين مصريين أثناء هجوم الملك الفرعونى على الدلتا فى محاولة توحيد القطرين، وقد تجلى ذلك فى العثورعلى كثير من الفازات الحجرية المصرية التى تعود إلى عصر الملك مينا، والتى أثرت فى صناعة الأوانى الحجرية الكريتية بعد ذلك، وقد تعدى ذلك التأثير المصرى إلى حدود التأثير فى الكتابة الكريتية المينوية نفسها، والتى عُرفت بإسم الكتابة الخطية الأولى وكانت علاماتها تأخذ أشكال الصور كما كان الحال فى الكتابة الهيروغليفية، وكذلك إلى عادات الدفن وعمارة المقابر وتقديم القرابين وعبادة الحيوانات. وقد تطورت تلك العلاقة الثقافية إلى علاقات تجارية، عُثر على أول دلائلها فى مقبرة الملك أوسركاف من الأسرة الخامسة فى أخريات القرن الثالث ق.م، حيث عُثر على آنية يونانية فى معبده الجنازى، وفى حدود الألف الثانية ق.م بدأت المؤثرات اليونانية الكريتية تظهر فى مصر بشكل أكبر إستنتاجاً من العثور على محاولات مصرية لتقليد الأوانى الكريتية بزخارفها النباتية، بل والعثور على كثير من الأوانى الكريتية الأصلية أيضاً، وأكثر من ذلك بوصول أعداد من العمال الكريتيين للمساعدة فى بناء منشآت أحد فراعنة الدولة الوسطى فى بدايات الألف الثانية ق.م.
وبإنتهاء الفترة الأولى من الحضارة المينوية فى كريت حوالى القرن السابع عشر ق.م - ربما نتيجة لزلزال أو غزو أجنبى- وظهور الحضارة الميكينية( نسبة إلى منطقة ميكينى)فى بلاد اليونان الأصلية(حوالى 1600-1100 ق م)، أخذت العلاقات المصرية اليونانية دوراً أكثر تطوراً حيث يرجح أن مصر قد إستعانت بكثير من المرتزقة اليونان الميكيين على طرد الهكسوس، كما تدل على ذلك كميات الذهب المصرى الكثيرة التى وجدت فى أماكن تلك الحضارة ببلاد اليونان، وكما تؤكد المؤثرات المصرية الأخرى التى وجدت هناك، كعادات الدفن المصرية وعادة إتخاذ الأسد رمزاً للقوة وجعله حارساً على قلعة الحكم فيها.
وفى حدود القرن الثانى عشر ق.م دخلت بلاد اليونان فى مرحلة تدهور وإضمحلال نتيجة لغزوات القبائل الدورية، التى إجتاحت جنوب بلاد اليونان وجزر بحر إيجة، ودفعت أمامها سكان تلك المناطق إلى الهجرة إلى شواطئ المتوسط، وقد إستمر ذلك إلى حوالى منتصف القرن الثامن ق.م، حيث هدأت حركة تلك الشعوب وأخذت الملامح الأساسية لحضارة الشعوب اليونانية فى الظهور. ومرة أخرى تظهر التأثيرات المتبادلة بين مصر وبين الشعوب اليونانية، والتى بلغت أقصاها فى عهد الفرعون أبسماتيك الأول، الذى حرر مصر من الآشوريين والسودانيين، وأسس الأسرة السادسة والعشرين الفرعونية سنة 664ق.م بمساعدة مرتزقة يونانيين. ومنذ ذلك الوقت فصاعداً بدأ اليونانيون يفدون على مصر بالآلاف، ليتاجروا ويقيموا بين المصريين أو فى معسكرات خاصة بهم، وإستمر ذلك الإتجاه فى عصر نكاو الثانى خلف أبسماتيك الأول، إلى أن جاء الفرعون أحمس الثانى( أماسيس) حوالى سنة 570ق.م، وأسس لهم مدينة خاصة يقيمون فيها هى مدينة نكراتيس الساحلية ( شرق الإسكندرية)، والتى كانت قائمة بالفعل قبل زمن ذلك الفرعون. وقد وصلت ثقة أماسيس فى الجنود اليونانيين إلى أن جعل منهم الميمنة فى جيشه، وعلم أولاده اللغة اليونانية وثقفهم بها، وقد وصل حبه للحضارة الإغريقية حداً جعله يقوم بتمويل إعادة بناء معبد أبوللو فى دلفى بعد أن أتى عليه حريق فى سنة 548ق.م. وقد إستمرت العلاقات المصرية الإغريقية فى نمو مستمر، حتى إحتلال الفرس لمصر فى عهد أبسماتيك الثالث سنة 525ق.م.
كان الفرس قد ظهروا كقوة جبارة فى الشرق الأدنى بعد أن وحدهم قورش الأول العظيم، وتمكنوا فى خلال القرن السادس ق م من وراثة أملاك البابليين والآشوريين، وبسطوا سيادتهم على العراق وسوريا ومصر حيث كونوا الأسرة السابعة والعشرين فى تاريخ مصر الفرعونية، وذلك فى الوقت الذى كانت فيه الشعوب الإغريقية بميراثها الحضارى المتميز تظهر بدورها على مسرح تاريخ الشرق الأدنى، تعرض تجارتها وتبيع ذكائها وقوتها البدنية لمن يدفع الثمن. ومن صراع هاتين القوتين تكون تاريخ الشرق الأدنى القديم فى القرون القليلة التالية، وكما فى التاريخ الحديث، كان الحال فى التاريخ القديم، حيث دخلت مصر وشعوب الشرق الأدنى القديم بين شقى رحى القوى الكبرى لذلك الزمن، حتى إنتهى الأمر بإحتلال الإسكندر لمصر وطرد الفرس منها سنة 333ق.م، وهو التاريخ الذى يحدد نهاية تاريخ مصر الفرعونية، وبداية تاريخها اليونانى أو المتوسطى إذا صحت التسمية.
كان من الطبيعى أن يزداد إنفتاح الحضارتين المصرية والإغريقية على بعضهما البعض بعد غزو الإسكندر لمصر، وذلك برغم تعصب طبقة الكهنة المصريين ضد كل ماهو أجنبى، وأيضاً برغم القوانين الملكية الإغريقية - والرومانية وبعدها - والتى كانت تحظر زواج الإغريق والرومان بالمصريين،ولذا فإن تفاعلاً حضارياً شاملاً سرعان ماظهر بين المصريين وغيرهم من شعوب جنوب البحرالمتوسط ، وبين الإغريق، والرومان بعدهم ، ليشكل جزءً بارزاً من تاريخ حضارة يمكن تسميتها بحضارة البحر المتوسط.
كان الإسكندر صاحب مشروع حضارى كبير يهدف إلى توحيد الشرق بالغرب، لكنه مات شاباً قبل أن يحقق حلمه، وإنقسمت إمبراطوريته المترامية الأطراف إلى ثلاث ممالك رئيسية، هى مملكة مقدونيا ببلاد اليونان والمملكة السلوقية فى سوريا والعراق ومملكة البطالمة فى مصر، والتى أصبحت من خلالها مصر جزءً من عالم شرق المتوسط الإغريقى، وهو الوضع الذى إستمر حتى ظهور الرومان، وتمكنهم من إسقاط الممالك الإغريقية الثلاث، وبسط سيادتهم على غرب وشرق المتوسط، وتوحيد شعوبه فى إمبراطورية واحدة شملت كل عالم البحر المتوسط، لتصبح مصر بعد ذلك جزءً من العالم المتوسطى الرومانى الكبير، حتى فتح العرب لها سنة 641م وفصلها - وكل جنوب المتوسط - عن ذلك العالم حتى اليوم.
إن قصة ذلك التفاعل الحضارى الذى نشأ بين شمال البحر المتوسط وجنوبه، وإستمر لنحو ألف سنة ظلت قصة ملهمة لكثير من أبناء ذلك الجزء من العالم، كما ظل حلم إعادة الوحدة الحضارية لحوض البحر المتوسط قائماً على مر العصور. لقد عاش سكان هذا الجزء من العالم على تلك المساحة الكبيرة من المكان والزمان، وتفاعلوا وتصادقوا ورحلوا فى طلب الرزق وطلب العلم بدون عوائق أو حواجز، وتصادقوا وتصاهروا وتكاملت اقتصادياتهم وثقافتهم وأديانهم، حتى تركوا لنا ميراثاً حضارياً خالداً لايموت. إن نظرة سريعة على قصة ذلك العصر، سوف توضح لنا كيف عاشت مصر وتفاعلت فى حضن حوض البحرالمتوسط، وكيف تأثرت وأثرت فيه.
بعد ضم الإسكندر لمصر مباشرةً تدفق آلاف من المستوطنيين الإغريق على مدن مصر وريفها وحدث التصاهروالتلاحم بينهم وبين المصريين، فتعلم الإغريق اللغة المصرية كما تعلم المصريون اللغة الإغريقية، وبرزمنهم فريق أجاد اللغة الإغريقية وكتبوا بها تاريخ مصرالقديم، لكى يعلموا مواطنيهم الجدد بحضارة مصر القديمة، لاشك أن أشهرهم هو مانيتون السمنودى، الذى مازال منهجه فى تقسيم تاريخ مصر القديمة إلى أسرات متعاقبة، هو المنهج المعتمد فى دراسة تاريخ مصر الفرعونية حتى اليوم. كما تأثر المصريون بالأدب الإغريقى، وعرفوا كتابة الملاحم على غرار الإلياذة، التى شكلت أساس التعليم الإغريقى فى مصر، مثل ملحمة بت أوزيريس وملكها البطل الأسطورى إيناروس، وكذلك عرفوا كتابة البشارات والنبؤات وأسفار الرؤيا - تاثراً بالأدب الدينى العبرى بشكل أكبر - ففى ذلك التفاعل الحضارى الكبير، تأثر المصريون أيضاً بثقافات الشعوب التى شملها ذلك النطاق الحضارى الضخم، كالبابليين والعبرانيين، فقد تأثروا بعلم التنجيم البابلى وأجادوه وأصبحوا أشهر عرافى البحر المتوسط، وظهر منهم أسماء كبيرة مثل نخبسو وبيتو زيريس، وذاع صيت العرافين المصريين فى البحر المتوسط وأصبحوا مقصد الطالبين لمعرفة مستقبلهم، كما تأثروا بالأدب الدينى العبرى، خاصة بعد ترجمة التوراة إلى اليونانية فى عهد بطليموس الثانى فيلادلفوس(284-246ق.م)، وهى الترجمة التى إشتهرت بالترجمة السبعينية نظراً لإشتراك حوالى سبعين عالم فى ترجمتها، ولقد كان لهذه الترجمة تأثيرها على كل شعوب البحر المتوسط، كما كانت تمهيداً طبيعياً لرسالة المسيح بعد ذلك، كما أثر الفكر الدينى الإغريقى فى رفضه لعبادة الحيوان على العبادات المصرية أيضاً، وكان ظهور الإله سرابيس الإله الرسمى لدولة البطالمة خير مثال على ذلك، فقد أدرك بطليموس الأول سوتير مؤسس الدولة البطلمية (323-284ق.م) أهمية جمع المصريين والإغريق على إله واحد، يجمع بين التراث الدينى المصرى والفكر الإغريقى، فعهد إلى ثلاثة من كبار علماء اللاهوت، منهم مانيتون السمنودى بتحقيق ذلك، ومن تفكير هؤلاء ولدت عبادة أوزيرآبيس أو سيرابيس اليونانى، والذى كان عبارة عن إحياء لديانة أوزيريس زوج إيزيس وأبو حورس، الثالوث الرسمى للديانة المصرية فى العصر الفرعونى ، ولكن ذلك الإحياء جاء فى قالب إغريقى الفكر والفلسفة والصورة( حمل سرابيس صورة بشرية)، ورغم أن المصريين قد رفضوا قبول ذلك الرب المهجن، وإعتبروا ذلك تشويهاً لتراثهم الدينى، وظلوا يعبدون ربهم العتيق أوزيريس، فقد إنتشرت عبادة سيرابيس فى البحر المتوسط وغزت حتى إيطاليا نفسها.
ولاشك أن اكبر نتاج لتفاعل الثقافة الإغريقية والمصرية كان هو اللغة الوطنية المصرية الجديدة، أى اللغة القبطية التى ظهرت إلى الوجود فى العصرالرومانى بعد ذلك، وكُتبت بالحروف اليونانية بعد إضافة سبعة أصوات مصرية إليها، وبهذه اللغة كتب المصريون آدابهم وأرخوا لتاريخهم فى العصر المسيحى.
ولاشك أن مدينة الإسكندرية، بمينائها ومدرستها ومكتبتها ومنارتها وكنيستها، كانت هى أعظم ماأهداه العالم اليونانى الرومانى إلى مصر، فقد أصبحت تلك المدينة أعظم موانئ البحر المتوسط بفضل جهود البطالمة المتوالية من أجل تنشيط تجارة مصر الخارجية، والبعثات الكشفية التى أرسلوها ونشاط علماء مدرسة الإسكندرية فى مجال الدراسات الجغرافية، حيث كانت ترد إلى أسواق الإسكندرية منتجات إفريقيا والهند والصين ومنتجات بلاد اليونان، وكان يوجد فى الإسكندرية مندوبون تجاريون من بلاد كثيرة مثل، فرنسا وإيطاليا وشمال إفريقيا وفارس، كما كانت الإسكندرية مصدراً لتصدير منتجات مصر، وأهمها القمح والزجاج ونسيج الكتان وأوراق البردى.
وقد إحتلت الإسكندرية كذلك مركز الصدارة فى الحياة العلمية والثقافية للبحر المتوسط ، حتى تفوقت على أثينا نفسها، ولاشك أن إنشاء الموسيون( دار إلاهات الفنون والعلوم السبع - الذى إشتهر بإسم المتحف أو المدرسة)، والمكتبة فى عهد بطليموس الثانى فيلادلفوس، كان له أكبر الأثر فى إجتذاب العلماء والدارسين من شتى أرجاء العالم، ففى مجال العلوم والرياضيات بلغت مدرسة الإسكندرية شأناً كبيراً، وإشتهر من علمائها إقليدس، الذى وضع كتاباً فى أصول الهندسة، كما عُرف أرشميدس صاحب قانون الطفو، وفى مجال الدراسات الطبية برع علماء الإسكندرية فى التشريح والجراحة، كما ساعد وجود حديقة الحيوان التى أقامها بطليموس الثانى على تقدم علم الحيوان. وقد أولت مدرسة الإسكندرية إهتماماً كبيراً للدراسات الجغرافية، وتوصل أرستارخوس إلى نظرية دوران الأرض حول الشمس، كما نجح إراتوستثنيز فى قياس محيط الكرة الأرضية، ولم يختلف تقديره عما توصلت إليه الدراسات الحالية إلا بخمسين ميلاً فقط، كما لقيت الدراسات التاريخية نفس الإهتمام، وكانت ثمرة ذلك الإهتمام الكتاب الذى وضعه الكاهن المصرى مانيتون عن تاريخ مصر القديم باللغة اليونانية. وقد شهد الأدب إزدهاراً كبيراً، حتى أن الأدب اليونانى كله فى هذا العصر كان يطلق عليه تسمية الأدب السكندرى، وإشتهر من شعراء هذا العصر كاليماخوس وثيوكريتوس، ويمكن القول بأن علماء مدرسة الإسكندرية هم الذين وضعوا أسس النقد الأدبى، وعكفوا على دراسة الأدب اليونانى القديم، وكانت أعظم إنجازاتهم نشر ملاحم هوميروس، وتاريخ هيرودوت، وكذلك أعمال كبار شعراء الدراما الإغريقية.
وقد إستمرت أهمية الإسكندرية التجارية فى العصر الرومانى نتيجة للنشاط الذى شهدته التجارة الشرقية، وهوالنشاط الذى لعبت فيه الإسكندرية دوراً كبيراً، فقد إستطاعت بفضل موقعها المتوسط فى قلب الإمبراطورية الرومانية، أن تحتل مكانة عظيمة فى اقتصاديات العالم القديم، كما ظلت تحتفظ بمكانتها العلمية والثقافية برغم الأضرار التى لحقت بالمدرسة ( الموسيون) فى أخريات العصرالبطلمى، فى حريق الميناء أثناء حرب الإسكندرية سنة 48 ق.م بين قيصروالجيش البطلمى، ولعبت دوراً كبيراً فى التاريخ الرومانى المسيحى بعد ذلك.
وبدوره كان التأثير الروحى لمصرعلى ذلك العالم المتوسطى الجديد، الذى تشكل من غزوات الإغريق والرومان، كبيراً، فعلى أيدى الإغريق المتمصرين بدأت الثقافة والأفكار المصرية تأخذ طريقها إلى بلدان البحر المتوسط لأول مرة وبشكل منظم، وخاصة فى مجال العقيدة، فمثلاً كان معبد آمون فى واحة سيوة بصحراء مصر الغربية يستقبل مئات الزوار من كافة أقطاروبلدان البحرالمتوسط ، حيث آمنت شعوبه المتأغرقة بصدق النبؤة التى يعطيها ذلك الرب لمن يقصد معبده، بما فيهم الإسكندر نفسه، سيد ذلك العالم الجديد، وكذلك نجد مئات الكتابات المحفورة على حوائط معبد الرب المصرى بس، الذى بناه الفرعون سيتى الأول فى أبيدوس، مكتوبة بكافة لغات شعوب البحر المتوسط، الذين جاءوا من كل مكان ومن كل الطبقات، كى يتوسلوا إلى الآلهة المصرية، كى تحقق لهم أمانيهم أو تهبهم الشفاء أو تعيد السكينة إلى نفوسهم المهمومة. ولقد تطورت فكرة جديدة لإعطاء المشورة الربانية فى العصرين البطلمى والرومانى، وهى تفسير حركات العجول المقدسة، سواء عجل آبيس فى منف او عجل بوخيس فى قرية المدامور بالقرب من الأقصر، كما إنتشرت عبادة إيزيس وسيرابيس فى كثير من أنحاء البحر المتوسط، وخاصة إبزيس التى ظلت متربعة على عرش الديانة حتى إنتتشار المسيحية، وكانت صورتها هى نفس الصورة التى حولها الفن المسيحى بعد ذلك إلى العذراء مريم وهى ترضع المسيح.
وبرغم عمق التأثير الروحى والدينى المصرى فى ثقافة البحر المتوسط، فإن التأثير الحاسم للجنوب على الشمال، قد جاء فى نهاية الأمر من إسرائيل فى فلسطين على يد المسيح الناصرى. كانت المسيحية هى النتاج المشترك الأكبر لحضارة البحر المتوسط، وقد نشأت فلسطينية إسرائيلية، لكنها سرعان ماإنتقلت إلى مصر وسائر بلاد البحر المتوسط.
ولد المسيح خلال عهد الإمبراطور أغسطس فى بداية عصر الإمبراطورية الرومانية، وأُعدم فى عهد خلفه تيبريوس، ورغم أنه قد عاش سنوات قليلة فقط، فقد خلف للبشرية ميراثاً ضخما، ساهمت كل شعوب البحر المتوسط فى الحفاظ عليه وتطويره .
كانت المسيحية أساساً حركة إصلاحية داخل اليهودية، ولكن رسالة المسيح حققت نجاحاً محدوداً بين الشعب اليهودى، ولذا فسرعان ماتم توجيهها إلى العالم اليونانى الرومانى، الذى رحب بها وإعتبرها تصحيحاً وإكمالاً للفلسفة الإغريقية الرومانية، ووجد فيها الخلاص من معاناة العصر الرومانى بكل ضرائبه وإلتزاماته وحروبه، وبذلك إلتقت فيها أفكار وثقافة الشرق الدينية، بأفكار وثقافة الغرب اليونانى الرومانى الفلسفية، فبعد موت المسيح، تحولت قصة حياته ومماته إلى ديانة كبرى، ساهمت كل ثقافة العالم القديم فى صياغتها، ووفرت لها البيئة الرومانية التى شملت كل حوض البحر المتوسط سبل الإنتشار السريع.
وفى ذلك التراث المسيحى المتوسطى ساهمت مصر مساهمة كبيرة. دخلت المسيحية إلى مصر حوالى منتصف القرن الأول على يد القديس مرقس، التى تروى التواريخ المسيحية أنه قد حضر إلى مصر فى حدود ذلك الزمن مبشراً بالإنجيل، لكن الدلائل المسيحية بدأت تظهر فى مصر خلال القرن الثانى، وفى القرن الثالث تأسست كعقيدة، وأصبح لها كنيسة ومدرسة تعليمية فى الإسكندرية. وكما هو معروف، فقد كانت مدينة الإسكندرية قد إكتسبت شهرة فى العالم القديم بأنها مركز للعلم والثقافة، ولكن وبنهاية العصر البطلمى، أصبحت الفلسفة هى أهم النواحى الثقافية لذلك العصر. وفى وقت ظهور المسيحية، ظهر بالإسكندرية حركة فلسفية عُرفت بالغنوصية، كانت تدعو إلى الزهد والتقشف ونبذ الديانات الوثنية القديمة، والبحث عن ذات إلهية واحدة تتمثل فيها كل المثل الإنسانية العليا، وبالطبع فقد ساعد إنتشار هذا المذهب الفلسفى على إنتشار المسيحية بعد ذلك. وقد قُدر لمدرسة الإسكندرية التعليمية، التى تأسست فى القرن الثالث، أن تضطلع بمهمة ذلك التمييز بين الغنوصية والمسيحية، وأن تحدد المعالم الرئيسية للعقيدة المسيحية. ويُرجع التاريخ المسيحى الفضل فى هذا إلى عالمين سكندريين بارزين هما، كليمنت السكندرى (160-215م)، وتلميذه أوريجن (180-253م)، ويعود إلى أوريجن بالتحديد الفضل فى وضع كثيرمن الأدبيات المسيحية الهامة، أشهرها عمله فى اللاهوت المنهجى المعروف بإسم( فى المبادئ الأساسية). وهكذا تحولت مدرسة الإسكندرية الفلسفية إلى مدرسة للمسيحية، تلقى بظلالها الفكرية على كل عالم البحر المتوسط، وإستمرت هكذا لزمن طويل بعد ذلك.
وفى خلال القرن الرابع ظهرت بالإسكندرية واحدة من أكبر الحركات الخلافية فى تاريخ المسيحية، وهى الحركة الآريوسية، التى تزعمها رجل دين سكندرى من أصل ليبى، وكانت حول العلاقة بين الأب والإبن فى الثالوث العقيدى الموحد المسيحى، حيث نادى بأن الأب أقدم من الإبن وأن الإبن مخلوق، ولذا فلا يمكن أن يتساوى مع الأب، ولابد أن يأتى فى مرتبة تالية له، وقد صدمت هذه الآراء القناعات التى كانت قد ترسخت فى العقيدة المسيحية بأن الأب والإبن من طبيعة واحدة، وأن كل منهما قديم وخالد. وقد قامت مصر بالتصدى لهذه الآراء، خاصة خلال العهد الطويل للأسقف أثناسيوس (328-373م)، والذى بذل جهوداً كبيرة فى محاربة الآريوسية، رغم تشيع كثير من الأباطرة البيزنطيين لها، وإعتمد فى معركته على تأييد الرهبان، كما وضع كثيراً من المؤلفات فى تفنيد الآريوسية ، حتى خفتت الحركة الآريوسية بالفعل فى مصر والبحر المتوسط بعد وفاته بسنوات قليلة.
كانت حركة الرهبنة من أكبر المساهمات التى قدمتها مصر للتاريخ المسيحى. وقد ظهرت الرهبنة فى مصر حوالى منتصف القرن الثالث إبان عهد الإمبراطور ديقيوس، وأثناء سنوات الإضطهاد التى شنها هذا الإمبراطورعلى المسيحيين فى الإمبراطورية. وتتحدث التواريخ المصرية عن شخصية شبه أسطورية هى شخصية الأنبا بولس من صعيد مصر، الذى هرب أثناء ذلك الإضطهاد إلى الصحراء الشرقية، وبدأ حياة العزلة والتنسك. ولكن الروايات التاريخية عن بداية حركة الرهبنة المصرية ترتبط بشخصيتين مصريتين أساسيتين هما، أنطونيوس فى مصر الوسطى، وباخوميوس فى صعيد مصر. وقد ولد أنطونيوس فى حدود منتصف القرن الثالث من أسرة ثرية، لكنه بعد فقد أبويه إنتابه إنفعال دينى شديد وشعر بالزهد فى الدنيا، فتخلى عن أملاكه بعد أن ترك جزءً منها لأخته تعيش منه، وذهب للتنسك فى الصحراء الشرقية، وقضى نحو عشرين عاماً منعزلاً فى قلعة مهجورة فى منطقة إسمها برسبير(285-305م) ً، حيث بدأت بعض التجمعات الرهبانية تنشأ حوله، فقام بوضع نظاماً ديرياً لها، كما سمح أيضاً للنساء بالإنخراط فى حركة الرهبنة، وقد إنتشرت حركة الرهبنة الأنطونية وإمتدت إلى مدينة الإسكندرية، وتركزت فى منطقة وادى النطرون بشكل خاص. وقد كتب الأسقف أثناسيوس سيرة حياة القديس أنطونيوس، كما كتب عن حركة الرهبنة، وكتب قواعد وإرشادات للراهبات فى كتاب بعنوان( قواعد التبتل العذرى)، وذلك بناءً على تجارب السنوات التى قضاها مختفيا فى الأديرة بين الرهبان خلال سنوات نفيه المتعددة والطويلة.
وبعد سنوات قليلة من ظهور حركة الرهبنة الأنطونية فى مصر الوسطى، ظهرت حركة الرهبنة الباخومية فى صعيد مصر على يد باخوميوس. كان باخوميوس جندياً فى الجيش الرومانى فى عهد قسطنطين الكبير، لكنه بعد الإنتهاء من خدمة الجيش قرر الإنخراط فى الحركة الديرية، وأسس ديراً خاصاً به غلب عليه الطابع الجماعى العسكرى. وقد تميز النظام الباخومى بجعل العمل والتعليم جزءً أساسياً من حياة الدير، كما سمح برهبنة النساء مثل النظام الأنطونى، وقد أنشأ أول دير له فى منطقة دندرة سنة 323م، وعند وفاته سنة 345م كانت الأديرة الباخومية قد إنتشرت فى كثير من أنحاء الصعيد. ومن هذين النظامين الديرين، إنتشرت الحركة الديرية فى مصر كلها، ومن مصر إنتشرت إلى حوض البحر المتوسط، وإلى العالم كله بعد ذلك.
تجدد الخلاف العقيدى مرة أخرى فى القرن الخامس، ومرة أخرى لعبت الكنيسة المصرية ومعها كنائس سوريا وأرمينيا دوراً بارزاً فى ذلك الخلاف، والذى أدى فى النهاية إلى تصدع وحدة الإمبراطورية البيزنطية، ووقوع الأجزاء الجنوبية منها فريسة سهلة فى يد الغزاة الجدد، الذين ظهروا على مسرح التاريخ. ففى بداية القرن الخامس أكد نسطوريوس أسقف القسطنطينية على أن طبيعة المسيح بشرية من أمه وإلهية من أبيه، وهو تأكيد على القناعات الأرثوذكسية السائدة فى المسيحية، ولكن المصريين ممثلين فى أسقفهم الشهير كيرلس (412-444م) رفضوا هذا الطرح، وأكدوا على أن للمسيح طبيعة إلهية واحدة، وأن طبيعته البشرية قد ذابت فى طبيعته الإلهية - وهو ماعُرف بإسم المذهب المونوفيزيتى فى مصر، وبالمذهب اليعقوبى فى سوريا - وعبثاً ذهبت جهود الأباطرة للتوصل إلى حل وسط حفاظاً على الوحدة الدينية للإمبراطورية، وإشتعلت الثورة فى مصر وسوريا حتى إستطاع الفرس إحتلال تلك المناطق فى أوائل القرن السابع، دون أن يبدى السكان أى مقاومة حقيقية ضد الغزاة، وبعدما تمكن الإمبراطور هرقل من طرد الفرس وإسترجاع وحدة الإمبراطورية، حاول تدعيم ذلك بفرض مذهب جديد عُرف بمذهب الإرادة الواحدة، يقول بأنه سواء كان للمسيح طبيعة واحدة أو طبيعتين فالمهم أن له إرادة واحدة، لكن ذلك لم يفد أيضاً وإستمرت الخلافات الدينية، فولى البطريرك قيرس الذى يسميه العرب المقوقس، ومنحه سلطات دينية وسياسية واسعة من أجل فرض مذهب الدولة الملكانى - أى مذهب الدولة القائل بطبيعتين للمسيح - وتثبيت الأوضاع فى مصر. سام قيرس المصريين العذاب، لكنهم لم يتراجعوا وزاد الخلاف وأصبح كأنه طريق بلا عودة. وفى تلك الأثناء ظهر العرب على مسرح التاريخ، وكونوا دولتهم فى المدينة سنة 622م، وتمكنوا من إجتياح العراق سنة 636م، والشام سنة 638م، ثم مصر سنة 641م. ومرة أخرى لم يبد المصريون أى مقاومة حقيقية للغزاة العرب كراهية منهم للدولة الرومانية، فإستسلموا لهم - أو وقفوا محايدين فى أفضل الأحوال - وإنتزع العرب مصر من الدولة الرومانية البيزنطية، وإتخذوها قاعدة للإنقضاض على جنوب المتوسط، وقبل إنتهاء القرن السابع الميلادى كانوا قد تمكنوا بالفعل من إنتزاع كل جنوب المتوسط من حوزة الإمبراطورية البيزنطية، وفصله عن شماله والقضاء على وحدته الحضارية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.

2-العصر الوسيط :

وهكذا إنفصلت مصر عن حضارة البحر المتوسط وأصبحت قاعدة للحضارة الإسلامية الوليدة، ومنذ ذلك اليوم وحتى عصر محمد على ظلت تتحمل معظم عبأ التاريخ الإسلامى، فمنذ البداية إستغل العرب موقع مصر ومواردها للسيطرة على كل جنوب المتوسط، وتأسيس إمبراطوريتهم الصاعدة . فقد عمل عمرو بن العاص بعد أن تم له الإستيلاء على مصر سنة 21هـ، على إتخاذها قاعدة لغزو برقة وطرابلس إلتماساً لمزيد من الغنائم. وبعد مقتل الخليفة عمر تولى عثمان بن عفان الخلافة وقام بعزل عمرو وتولية أخيه فى الرضاعة عبدالله بن سعد بن أبى السرح سنة 24هـ وأخذ بن أبى السرح يتطلع بدوره إلى غزو إفريقية - ليبيا وتونس- وأخذ يلح على الخليفة عثمان حتى أذن له سنة 27هـ، وأرسل له جيشاً بقيادة الحارث بن الحكم، ضم إليه بن سعد بعض جيوش مصر، وفيهم بعض الأقباط حتى إكتمل عدد الجيش إلى عشرين ألفاً، خرج بهم عبدالله بن سعد إلى إفريقية فى غزوة كبيرة، وصل فيها إلى مدينة قابس الواقعة على الساحل التونسى، حصل فيها على كثير من الغنائم، حملها على مراكب أرسلها إليه نائبه على مصر عقبة بن عامر الجهنى.
وهكذا، ونظراً للأهمية التى إكتسبتها مصر كقاعدة إسلامية فى جنوب المتوسط، قدم أسطول بيزنطى إلى الإسكندرية بقيادة الإمبراطور قنسطانز الثانى بهدف إستردادها من العرب، فخرج عبدالله بن سعد على رأس الأسطول المصرى لصد البيزنطيين، وفى نفس الوقت بعث والى الشام معاوية بن أبى سفيان أسطوله بقيادة بسر بن ابى أرطأة للتعاون مع الأسطول المصرى، وتقابل الأسطولان مع الأسطول البيزنطى فى فونكس، على ساحل ليكيا جنوبى آسيا الصغرى فى معركة ذات الصوارى، التى حقق فيها الأسطول العربى نصراً كبيراً على الأسطول البيزنطى سنة 34هـ - 655م. ثم توقفت حركة غزو إفريقية مؤقتاً بسبب إنشغال العرب بمقتل الخليفة عثمان، والصراع بين على ومعاوية، وذلك حتى تولى عمرو مرة أخرى سنة 38هـ من قبل معاوية، وقرر إستئناف الغزو بعد أن استتب الأمر لمعاوية بمقتل على سنة 40هـ. وبالفعل قام عمرو ببعض الغزوات إنطلاقاً من مصر مرة أخرى لكنه توفى سنة 43هـ وقام الخليفة معاوية بفصل ولاية إفريقية عن مصر، وإعتبرها ولاية مستقلة تتبع دمشق مباشرة، وتوقفت حركة الغزو مؤقتاً مرة أخرى حتى ولى الخليفة معاوية، معاوية بن حديج رئيس حزب العثمانية فى مصر على قيادة الجيوش، وأمره بإستأنف سياسة غزو إفريقية، ولكن الخليفة معاوية سرعان ماعزله، وولى عقبة بن نافع بدلاً منه، فإستأنف الأخير سياسة غزو إفريقية، كما قرر إنشاء مدينة القيروان وإتخاذها قاعدة للجيش العربى فى إفريقية بدلاً من مصر، لكن والى مصر مسلمة بن مخلد الأنصارى طمع فيها، فسعى إلى ضمها إلى مصر مرة أخرى، ونجح فى ذلك سنة 55هـ، وتمكن من عزل عقبة عن ولايتها، وتولية مولاه أبى المهاجر دينار، الذى إستأنف الغزو حتى وصل إلى المغرب الأوسط (الجزائر الحالية). ولكن بعد وفاة معاوية بن ابى سفيان سنة 60هـ، أعاد إبنه يزيد - والذى كان من أنصار مدرسة الشدة فى الغزو - عقبة بن نافع إلى ولاية إفريقية، وقام بفصلها عن ولاية مصر مرة أخرى، فقام عقبة بإكتساح إفريقية حتى المغرب الأقصى، وأفنى من بها من مسيحيين، وأوقع كثيراً من المظالم بسكانها البربر، فكمنوا له فى طريق عودته بقيادة كسيلة بن لمزم - زعيم البربر الحضر - وقتلوه قبل وصوله القيروان. وهكذا خرجت إفريقية مؤقتاً من يد العرب، بعد أكثر من أربعين عاما من الحروب المتواصلة التى خاضوها إنطلاقاً من مصر، وإعتماداً على مواردها. لكن عبدالملك بن مروان، الذى تولى الخلافة بعد وفاة أبيه مروان بن الحكم سنة 65هـ، قد جعل مشكلة إسترداد إفريقية فى مقدمة أولوياته، فبعث فى سنة 69هـ إلى زهير بن قيس البلوى، والى برقة، يأمره بالخروج إلى إفريقية، وإسترداد القيروان، وأرسل له بالإمدادات من الشام، و(أفرغ عليهم أموال مصر) يستعينون بها فى غزوهم، فوفدت جيوش العرب على زهير ببرقة، فخرج بهم إلى إفريقية سنة 69هـ، وتمكن من هزيمة كسيلة وقتله جنوب القيروان، وقد علق المؤرخ السلاوى على هذه الأحداث بقوله( وفى هذه الواقعة ذُل البربر، وفُنيت فرسانهم ورجالهم وضعفت شوكتهم، وإضمحل أمر الفرنجة، وخاف البربر من زهير والعرب خوفاً شديداً، فلجأوا إلى القلاع والحصون، وكُسرت شوكة أوربة من بينهم، وإستقر جمهورهم بديار المغرب الأقصى، وملكوا مدينة وليلى) وهو تعليق يتشابه كثيراً مع تعليق المقريزى على أحداث قمع ثورة الأقباط فى عهد المأمون سنة 216هـ .
وبعد إسترداد القيروان عاد زهير إلى برقة، لكنه لقى مصرعه هناك فى إشتباك مع قوة بيزنطية، ثم توقف غزو إفريقية والمغرب مرة أخرى لإنشغال عبدالملك بن مروان بالقضاء على ثورة عبدالله بن الزبير فى الحجاز، لكن وبعد أن تم له ذلك أخذ يتفرغ لشئون المغرب مرة أخرى، وجهز جيشاً جعل عليه حسان بن النعمان، وأرسله إلى مصر حتى إنتهى من مشكلة إبن الزبير تماماً، ثم أرسل إليه يأمره بالمسير إلى إفريقية، ومرة أخرى إستغل أموال وموارد مصر فى ذلك فكتب إليه قائلاً( إنى قد أطلقت يدك فى أموال مصر، فإعط لمن معك، ومن ورد عليك، وإعط الناس وإخرج إلى بلاد إفريقية على بركة الله) فخرج حسان فى جيش هائل سنة 74هـ، ووصل إلى مدينة قرطاجنة عاصمة البيزنطيين بالمغرب الأوسط، وحاصرها ودمرها، ثم عاد إلى القيروان، وأخذ بعد ذلك فى مواجهة المشكلة الأخرى التى نشأت فى بلاد المغرب، وهى مشكلة البربر البتر- أى البربر البدو- ،الذين كانوا قد إجتمعوا حول زعيمة لهم تُعرف بالكاهنة وتحصنوا بجبال أوراس، فإلتقى معهم حسان فى معركة كبيرة أسفرت عن هزيمة جيش حسان وإنسحابه إلى برقة مؤقتاً، بينما عملت الكاهنة على تدمير مظاهر الحضارة بإفريقية والمغرب، إعتقاداً منها بأن العرب يسعون وراء المغانم والذهب والفضة،كما إستطاع البيزنطيون إسترداد مدينة قرطاجنة وطرد الحامية العربية منها.
أقام حسان ببرقة نحو خمس سنوات حتى إنتهى عبدالملك بن مروان من القضاء على ثورات الخوارج، وفى سنة 80هـ أمده الخليفة عبدالملك بجيش ضخم وأمره بالخروج إلى إفريقية، ثم طلب من أخيه عبدالعزيز بن مروان، والى مصر، أن يلحق به بعد ذلك ألف أسرة قبطية، حتى تقوم بإنشاء دار صناعة للسفن فى تونس، بحيث يمكنه أن يقاتل البيزنطيين فى البروالبحر. وبالفعل تمكن حسان من هزيمة الكاهنة وقتلها فى جبال أوراس سنة 82هـ، كما إسترد مدينة قرطاجنة، وبنى على بعد 12 ميلاً إلى الشرق منها مدينة عربية إسلامية، هى مدينة تونس، حتى تشرف على مدخل قرطاجنة. وحاول حسان أن يفصل ولاية المغرب عن ولاية مصر، ولكن يبدو أن نزاعاً حدث بينه وبين عبدالعزيز بن مروان ،والى مصر، وأخو الخليفة، بسبب رغبة عبدالعزيز فى غنائم المغرب، فعمل على عزل حسان حتى نجح فى ذلك سنة 85هـ، وولى بدلاً منه أحد رجاله، وهو موسى بن نصير، الذى إستأنف الغزو وأهمل سياسات حسان السلمية، وإتبع سياسات عقبة اللاإنسانية. وواصل موسى فتوحاته فى إفريقية والمغرب، فبعث قائده عياش بن أخيل، فأغار على قبائل هوارة وزناتة وصنهاجة، وقتل وسبى كثيراً منهم، وأرسل بعض من رؤسائهم إلى عبدالعزيز بن مروان فى مصر حيث قتلهم. وفى سنة 85هـ غزا موسى فى البحر الغزوة المعروفة بغزوة الأشراف، التى عبر فيها إلى صقلية، وعاد بغنائم كثيرة فى أوائل سنة 86هـ، حيث بلغه نبأ وفاة عبدالعزيز بن مروان، ووفاة عبدالملك بن مروان بعده فى أول سنة 86هـ، فبعث ببيعته إلى الوليد بن عبدالملك، الخليفة الجديد، فكتب الوليد إلى موسى بن نصير يقر له بولاية إفريقية والمغرب، وجعلها ولاية مستقلة عن مصر للمرة الأخيرة.
وتابع موسى غزواته، فأرسل فى سنة 86هـ عياش بن أخيل على المراكب فى البحر، فوصل إلى سرقوسة وسردينيا، وإفتتح مدائنها وعاد بغنائم كثيرة، ثم خرج غازياً بنفسه إلى طنجة، فوجد البربر قد فروا إلى أقصى المغرب خوفاً من بطش العرب، فتتبعهم وقتل وسبى كثير منهم، وذلك حتى وصل بلاد درعة فى المغرب الأقصى سنة 87هـ، فإشتبك موسى مع جيش البربر هناك فى قتال عنيف أسفر عن هزيمة أهل المغرب هزيمة نكراء بعد أن سبى وقتل أعداداً لاحصر لها منهم، أحدثت غزوات موسى هزة عنيفة بين قبائل البربر، وسببت لهم الذعر والهلع، فأخذوا يستأمنون العرب على أنفسهم ويستسلمون لهم، وتسابقوا فى إعلان خضوعهم لهم، والدخول فى طاعتهم وإعتناق الإسلام.
كانت نتيجة كل تلك الحروب والغزوات المدمرة والدماء التى نزفها البربر أثناء غزو العرب لبلادهم - إنطلاقاً من مصر- هى تحولهم فى النهاية إلى العروبة والإسلام مثلما حدث للأقباط فى مصر، وهكذا تأسست قواعد حضارة وثقافة بدوية غريبة عنيفة فى جنوب المتوسط، فصلته عن شماله الطبيعى، وأسست لعلاقة العداء والكراهية بين شاطئيه، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.
إختلف المشهد السياسى تماماً فى حوض البحر المتوسط فى العصر العباسى، فقد إنتقلت عاصمة الدولة الإسلامية الجديدة من دمشق إلى بغداد، ولذلك أصبحت توجهات الدولة الجديدة آسيوية أكثر منها متوسطية، وتُركت شئون العلاقات المتوسطية لولاة مصر والشام، كما توقفت حركة الغزوات العربية هناك بعد أن أصبح جنوب المتوسط بحيرة عربية، وقامت دولة جديدة للأمويين فى أسبانيا(الأندلس)، معارضة بطبيعتها للدولة العباسية، مما خلق توازنات وتحالفات جديدة بين العالمين المسيحى والإسلامى، أو بين الشمال والجنوب، كما حدث مثلاً بين الخليفة العباسى هارون الرشيد والإمبراطور شارلمان إمبراطورالغرب، من تحالف فى مواجهة خطر الأمويين فى إسبانيا،وخطرالبيزنطيين فى الشرق الإسلامى. أما فى مصر، فقد تحولت الأمور إلى فوضى عارمة بسبب ثورات القبائل العربية المستمرة، وصراعات السلطة بين الولاة، وفى ظل تلك الظروف إستمرت ثورات الأقباط وإستمرت سياسات القمع العربية لها. وفى حوالى سنة 200هـ تمكن العرب الأندلسيون، الذين أخرجهم أمير الأندلس الحكم بن هشام الأموى بعد ثورة الربض سنة 198هـ، من إحتلال الإسكندرية وإقامة حكومة مستقلة بها، حتى أجلاهم عنها القائد العباسى عبدالله بن طاهر سنة 211ه، أثناء قدومه إلى مصر للقضاء على ثورات الأقباط والعرب، فرحلوا إلى جزيرة كريت - وكانت فى أيدى البيزنطيين - وإستولوا عليها سنة 212هـ، وأسسوا بها دولة إستمرت حوالى قرن وثلث إلى أن إستعادها البيزنطيون مرة أخرى. وعندما فشلت محاولات العباسيين فى حفظ النظام فى مصر، حضر الخليفة المأمون بنفسه سنة 216هـ وأخمد الثورة وقتل أعداداً كبيرة من الأقباط والعرب. ويبدو أن الأقباط قد إستسلموا للحكم العربى منذ ذلك التاريخ فصاعداً، إذ لم تسجل لهم أى ثورات عامة بعد ذلك. وبعد ذلك بسنة واحدة توفى المأمون وخلفه أخوه المعتصم، الذى إتخذ قراراً بإسقاط العرب من ديوان الجند وإحلال الأتراك محلهم، فنزل العرب على أثر ذلك إلى القرى وإحترفوا الزراعة وإمتهنوا المهن وتزوجوا بالأقباط على نطاق واسع، مما ساعد على سرعة تعريب وأسلمة مصر وفصلها تماماً عن ثقافة البحر المتوسط.
وفى عهد الطولونيين(254-292هـ) والإخشيديين(323- 358هـ)، شهدت أحوال مصر بعض الإستقرار، حيث عملوا على إعادة مركزها القديم فى التجارة بين الشرق والغرب، حتى أن الإخشيد حاكم مصر فى أخريات عصرها العباسى، قد دخل فى معاهدة تحالف وصداقة مع الإمبراطور البيزنطى رومانوس ليكابينوس(919-944م)- بسبب الخطر الحمدانى المشترك فى الشام - سمح بمقتضاها بإستئناف التجارة بين الشمال والجنوب عبر البحر الأحمر، بدلاً من طريق الخليج الفارسى. لكن أحوال مصر لم تستقر تماما،ً فقد بدأ الفاطميون العرب، الذين تمكنوا من تأسيس دولة لهم فى المغرب الأوسط سنة 292هـ - بمساعدة البربر-، محاولات غزو مصر منذ بدايات القرن الرابع الهجرى، وإستمروا فى محاولتهم حتى نجحوا فى غزوها بالفعل سنة 358هـ على يد قائدهم جوهر الصقلى، ثم إنتقلوا إليها بعد ذلك وإتخذوها قاعدة لإمبراطوريتهم الواسعة. وبذلك بدأت مرحلة جديدة فى علاقات مصر - كقاعدة لدولة إسلامية مستقلة - بعالم حوض البحر المتوسط.
نجحت مصر الفاطمية فى السيطرة على الحوض الشرقى للبحر المتوسط، وعلى طرق التجارة العالمية على حساب البيزنطيين، وذلك بإستيلاء الأسطول الفاطمى على جزيرة كريت منهم سنة 350هـ/961م، وعلى جزيرة قبرص وكل جزر الحوض الشرقى سنة 354هـ/965م ، كما نجح الفاطميون فى الإستيلاء على أنطاكية سنة 358هـ/965م، وعلى معظم أملاك البيزنطيين فى سوريا. وقد إنعكس ذلك التفوق على مسرح الأحداث فى الحوض الغربى للبحر المتوسط أيضاً، حيث شهدت الشواطئ الإيطالية هجوماً متزايداً من مسلمى صقلية الكلبيين حلفاء الفاطميين، بدأ منذ سنة 365هـ/975م وإستمر لأكثر من قرنين من الزمان، حين تصدى لهم النورمان وتمكنوا من إنتزاع صقلية منهم سنة 484هـ/1090م. ولكن مع بداية النصف الثانى للقرن الخامس الهجرى - الحادى عشر الميلادى - أخذ الضعف يدب فى دولة الفاطميين، وبالتحديد منذ عهد الخليفة المستنصربالله (427هـ - 487هـ/1035-1094م)، بسبب إزدياد نفوذ طوائف الجند من سودان وأتراك وبربر، وإشتداد الصراعات المسلحة بينهم، مما أثر على قوة الدولة، وأدى إلى سقوطها فى النهاية، وكذلك فى بلاد المغرب التى كانت قد خلعت طاعة الفاطميين وإعترفت بالخلافة العباسية، مما حدا بالخليفة الفاطمى المستنصر ووزيره أبو محمد اليازورى بإطلاق قبائل هلال وسليم البربرية - والتى كانت تعيش فى صعيد مصر- على بلاد المغرب سنة 444هـ/1052م حيث دمرت مظاهر الحضارة بها وخلقت حالة من الخراب والفوضى على طول سواحل بلاد المغرب.
والواقع أن الإمبراطورية البيزنطية قد شاركت العالم الإسلامى ضعفه منذ القرن الخامس الهجرى/ الحادى عشر الميلادى، بسبب ظهور خطر الأتراك السلاجقة الذين إستولوا على الخلافة العباسية، و إنساحوا فى منطقة الأناضول مهددين قلب الدولة البيزنطية، حتى تمكنوا فى سنة 1071م من هزيمة البيزنطيين فى موقعة ملاذكرد، وأسر الإمبراطور رومانوس الرابع والتوغل فى الأناضول، وخلق حالة من الفوضى وتهديد العالم المسيحى بأسره، مما دعى الإمبراطور إليكسيوس الأول، الذى خلف رومانوس، إلى الإستنجاد بالعالم المسيحى الغربى، وقد مهدت هذه الظروف لزوال السيادة الفاطمية والبيزنطية معاً من حوض البحر المتوسط، وظهور دول الغرب المسيحى على مسرح الأحداث، وسيطرتها على جزر البحر المتوسط، وعلى طرق التجارة العالمية مابين الشرق والغرب فى القرون التالية.
كانت هزيمة ملاذكرد نقطة فاصلة فى تاريخ الشرق الأوسط والبحر المتوسط، فقد إستجاب الغرب الأوربى لنداء الإمبراطور البيزنطى، ووجه البابا أوربان الثانى ندائه إلى ملوك وفرسان غرب أوربا فى مؤتمر كليرمونت بفرنسا سنة 1095م، للإنضمام إلى حملة صليبية للإنتقام من المسلمين وتحرير الأماكن المقدسة فى فلسطين، وبذلك بدأت الحرب الأولى فى سلسلة الحروب الدينية الشهيرة التى عُرفت بإسم الحروب الصليبية، والتى مثلت - فى الواقع - أكبر موجة عداء فى تاريخ العلاقات بين شمال وجنوب المتوسط.
وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى سواحل الشام فى عهد الخليفة الفاطمى المستعلى بالله سنة 490هـ/1098م، وتمكن خلالها الصليبيون من إحتلال كل سواحل الشام، وتأسيس أربع إمارات صليبية فى الرها وأنطاكية والقدس وطرابلس، وقد عُرفت هذه الحملة بحملة الأمراء نظراً لإن كل قادتها كانوا من الأمراء، ولم يكن بها ملكاً واحداً من ملوك أوربا.
أما الحملة الثانية، فقد وصلت فى عهد الخليفة الفاطمى الحافظ سنة 542هـ/1147م بقيادة لويس السابع ملك فرنسا وكونراد الثالث ملك ألمانيا، وذلك كرد فعل لإستيلاء عماد الدين زنكى أتابك الموصل على إمارة الرها الصليبية سنة 539هـ/1144م، وقد فشلت هذه الحملة فى تحقيق أهدافها بسبب عدم تعاون الإمبراطور البيزنطى أمانويل الأول (1143-1180م).
أما الحملة الثالثة، فقد نزلت زمن الأيوبيين(569-648هـ/1174-1250م)، الذين خلفوا الفاطميين فى حكم مصر، بسبب نجاح صلاح الدين الأيوبى فى إستعادة القدس من الصليبيين بعد هزيمتهم فى موقعة حطين سنة 583هـ/1187م، وكان الفشل مصير تلك الحملة أيضاً، بسبب غرق الإمبراطور الألمانى فردريك بارباروسا بنهر اللامس بآسيا الصغرى، وتشتت جيشه وعودته إلى أوربا، وكذلك بسبب مرض الملك الفرنسى فيليب أغسطس وعودته إلى فرنسا، وإنتهت الحملة بتوقيع صلح الرملة سنة 588هـ/1192م، ورحيل قائدها الملك الإنجليزى ريتشارد قلب الأسد عن الشام.
أما الحملة الرابعة، فقد إنحرفت عن طريقها وهاجمت أراضى الدولة البيزنطية، وإستعمرتها لحوالى ستين سنة، ولم تصل إلى المشرق الإسلامى.
أما الحملة الخامسة فقد وصلت طليعتها إلى الشام زمن العادل أخو صلاح الدين، بقيادة أندريه الثانى ملك هنغاريا سنة 614هـ/1217م، وكان الهدف من تلك الحملة الهنغارية مهاجمة مصر، لكنها فشلت فى ذلك بسبب عدم توافر السفن، وعودة الملك أندريه إلى بلاده فى يناير سنة 1218م/شوال 614هـ. وعندما وصلت قوات الحملة الرئيسية، قادها الملك جان دى برين ملك القدس، ونزلت بمدينة دمياط سنة 1218م، وأثنائها توفى العادل الأيوبى وتابع إبنه الكامل مواجهة الحملة، التى تمكنت من إحتلال مدينة دمياط، وحاولت التقدم إلى القاهرة، لكن الفشل كان نصيبها فى النهاية بسبب تنازع المندوب البابوى بلاجيوس مع الملك جان دى برين على القيادة، مما أدى إلى حصار فيضان النيل لقوات الحملة فى أغسطس 1221م، وهزيمة الجيش الصليبى.
أما الحملة السادسة، فقد وصلت إلى الشواطئ المصرية مباشرة فى عهد الكامل إبن العادل سنة 1228م، وفيها إقترح الكامل على الإمبراطور الألمانى فردريك الثانى - قائد الحملة - وبسبب المنازعات داخل البيت الأيوبى - رد مدينة القدس وجميع الأراضى التى كان صلاح الدين قد إستولى عليها مقابل الجلاء عن دمياط، وهو نفس العرض الذى كان قد عرضه على بلاجيوس أثناء الحملة الخامسة وكان بلاجيوس قد رفضه، أما فردريك الثانى فقد قبل عرض الكامل بسبب الظروف المحيطة بقيادته للحملة، إذ كان قد تعرض لقرار الحرمان الكنسى من البابا هونوريوس الثانى بسبب تلكئه فى الرحيل على رأس الحملة، مما أضعف من موقفه، وجعله يسارع بقبول عرض الكامل السخى وإسترد القدس، وعقد هدنة لمدة عشر سنوات بين الصليبيين والمسلمين فى فبراير 1229م/ربيع الأول 626هـ، بعد وصوله إلى الشام بأشهر قليلة، وهكذا كانت نتيجة هذه الحملة إنتصاراً كبيراً للجانب لصليبى دون حروب أو إراقة دماء.وقد إستمرت العلاقات الودية بين أبناء وأحفاد الملك الكامل والإمبراطور فردريك لزمن طويل بعد ذلك.
أما الحملة السابعة، فقد خرجت بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، بسبب نجاح الملك الصالح نجم الدين ايوب - إبن الملك الكامل - فى إسترداد القدس سنة 642هـ/1244م، وقد وصلت قبالة ساحل فرع النيل الشرقى فى يونيو 1249م/647هـ، وتمكنت فى نفس الشهر من الإستيلاء على مدينة دمياط، وبعد وقفة قصيرة أخذت فى الزحف على القاهرة، وأثناء ذلك مات السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وتولت زوجته شجرة الدر القيادة، حتى وصل إبنه تورانشاه من حصن كيفا بديار بكر، وإستلم الملك والقيادة فى فبراير 1250م، وبدأ فى تنظيم هجمات عنيفة على المعسكر الصليبى، مما إضطر الملك لويس إلى فتح باب المفاوضات طالباً تسليم القدس، وبعض المدن الساحلية فى الشام، مقابل الجلاء عن دمياط والأراضى التى إستولى عليها، لكن عرضه قوبل بالرفض وإستؤنف القتال، وكانت النتيجة هزيمة الجيش الصليبى وأسر لويس التاسع نفسه وسجنه مع أخويه فى مدينة المنصورة، حيث جرت مفاوضات الصلح التى تم بمقتضاها الإتفاق على الإفراج عن الملك لويس وأسرى الصليبيين مقابل فدية كبيرة من المال، وتسليم مدينة دمياط مع عدد كبير من أسرى المسلمين فى مصر والشام وذلك فى إبريل 1250م.ٍ
كانت حملة لويس التاسع هى الحملة الصليبية الأخيرة على المشرق الإسلامى، لكن لويس قاد حملة صليبية أخرى وأخيرة على تونس سنة 1270م بهدف التقدم منها إلى مصر، لكنه مات هناك وكان مصير حملته تلك الفشل أيضاً، وبها إنتهت قصة الحروب الصليبية.
خلفت هذه الحروب التى دامت لحوالى قرنين من الزمان كثيراً من الدمار، وأراقت كثيراً من الدماء، لكن المثير للدهشة أن تلك الظروف السلبية لم تمنع إستمرار التواصل والتفاعل بين شاطئي المتوسط، بل ربما تكون قد وسعت منه، فقد إستمرت حركة التجارة بين الشاطئين وإزدهرت بشكل كبير - أثناء فترات الهدنة - وقد ساهم ذلك فى ظهور المدن التجارية فى أنحاء أوربا، ونزوح عدد كبير من الفلاحين إليها، مما ساعد على الإسراع بإنهيار نظام الإقطاع الأوربى، وظهور الطبقة الرأسمالية الأوربية فى تلك المدن، وهى الطبقة التى قادت حركة النهضة الأوربية بعد ذلك.
والواقع أن التأثير المتبادل بين شاطئي المتوسط فى تلك العصور قد شمل جميع نواحى النشاط الإنسانى، بحيث لايمكن تفصيله فى مثل تلك الدراسة المختصرة، حيث أنه قد شمل كل شئ حتى الجوانب الإجتماعية، والتى تمثلت فى زواج الصليبيين بالمواطنات المسيحيات، من الموارنة والأرمن وبعض الأسيرات المسلمات، مما أدى إلى ظهور جيل جديد من المولدين عُرف بإسم بولانى، ومن الملفت للنظر، أنه وكما لاحظ الصليبيون وتأثروا بكثير من العادات الإسلامية أثناء إقامتهم بالشرق المسلم، فقد لاحظوا أيضاً إفتقاد المسلمين إلى المؤسسات السياسية الشبيهة بمجالسهم الإقطاعية الإستشارية، وإعتمادهم الكامل على حكم الملك الذى يقودهم، وكأنهم بذلك كانوا قد قد وضعوا أيديهم ومنذ تاريخ مبكر على سر ضعف العالم الإسلامى ، والمستمر إلى اليوم.
خلف المماليك الأيوبيين فى حكم مصر والشام(648-923هـ/1250-1517م)، وقد نجحت دولة المماليك فى تصفية الوجود الصليبى بالشام نهائياً، وذلك بعد أن سقطت عكا، آخر المعاقل الصليبية فى بلاد الشام سنة 690هـ/1291م، على يد السلطان المملوكى الأشرف خليل بن قلاوون. لكن الصراع الدامى بين الشمال والجنوب لم يتوقف عند هذا الحد، وذلك فى نفس الوقت الذى لم تتوقف فيه العلاقات التجارية السلمية بينهما، بل أنها إستمرت فى تزايد مضطرد، وتداخلت وتشابكت مع الإتجاه العدائى الرئيسى فى تناقض يمكن إعتباره واحداً من أكبر أمثلة التناقضات التى تقع فيها العلاقات بين الأمم والشعوب، وذلك عندما تتعارض حتميات التاريخ مع حتميات الجغرافيا. وقد إتخذ الشمال المسيحى من جزيرتى رودس وقبرص قاعدتين للهجوم على الجنوب المسلم، ولعبت الدول الإيطالية التجارية فى جنوة والبندقية دوراً حائراً بين الطرفين، فمرة تنحاز إلى عواطفها الدينية، وأكثر المرات تنحاز إلى مصالحها التجارية. وأيضاً شهدت هذه الفترة العديد من المحاولات المملوكية - والتى نجح بعضها - فى غزو قاعدتى رودس وقبرص، مما مكنهم من الإحتفاظ بطرق التجارة العالمية فى أيديهم، ولكن أتت الضربة القاصمة عندما تمكن البرتغاليون - وكأحد نتائج عصر النهضة الأوربى - من الدوران حول إفريقيا، وإكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح بقيادة بارتلميو دياز سنة 891هـ/1486م، ثم الوصول إلى الهند المصدر الرئيسى للتجارة الشرقية بقيادة فاسكو دى جاما سنة 904هـ/1498م، مما أدى إلى حرمان دولة المماليك من موردها الاقٌتصادى الأساسى، وإضعافها نهائياً خاصة بعد فقدانها لأسطولها الحربى فى موقعة ديو البحرية فى مواجهة الأسطول البرتغالى فى المحيط الهندى سنة 915هـ/1509م ،وضرب سفن فرسان الإسبتارية - فى العام التالى - للسفن المصرية العائدة من البندقية بالأخشاب اللازمة لصنع أسطول بديل. وقد مهدت هذه الأحداث - بالإضافة إلى الصراعات الداخلية الدائمة بين المماليك أنفسهم - لسقوط دولة المماليك بعد ذلك بفترة وجيزة فى يد القوى الإسلامية العثمانية الصاعدة فى الأناضول.
خلف العثمانيون المماليك فى حكم مصر بعد معركة مرج دابق فى سوريا سنة 922هـ/1516م، ومعركة الريدانية على حدود مصر الشرقية سنة 1517م، وأصبحت مصر ولاية عثمانية بعد أن كانت قاعدة لدولة كبيرة تشمل مصر والشام، وكان من الطبيعى أن تتراجع علاقات مصر بالبحر المتوسط بسبب فقدانها لجزء كبير من التجارة العالمية، الذى أصبح يمر عبر إفريقيا، كما أن العثمانيين ورغم أنهم إستطاعوا إنشاء قوة بحرية كبرى، سيطروا بها على البحر المتوسط لفترة طويلة من الزمن، فإن مصر لم تكن من قواعدهم البحرية الكبرى فى ذلك البحر، ومع ذلك فلم تفقد مصر - ومدينة الإسكندرية بوجه خاص - كل أهمية لها فى حركة التجارة العالمية، إذ ظل جزء كبير من تلك التجارة يمر عبر أراضيها. فمنذ بدايات العصر العثمانى، عمل السلطان سليم الأول على إحياء وإنعاش التجارة المصرية، خصوصاً عن طريق الإسكندرية، لذلك فقد عقد إتفاقية بين الدولة العثمانية والبندقية فى المحرم 923هـ/1517م، وذلك لتشجيع البنادقة على القدوم إلى الإسكندرية بسفنهم وبضائعهم لمباشرة النشاط التجارى فى جو من العدالة والأمن والإطمئنان، وتبع هذه الإتفاقية إتفاقيات أخرى مع الدول الأوربية، مثل فرنسا عام 1535م، والتى بمقتضاها حصل الرعايا الفرنسيون على حقوق ومزايا عديدة، مثل حرية الملاحة فى المياه العثمانية، والبيع والشراء بحرية تامة وتحديد الرسوم الجمركية بنسب موحدة ومقررة وهى 5%، وإعفائهم من دفع أى ضرائب أخرى. وتبع ذلك دخول إنجلترا لهذا المجال حيث منح السلطان مراد الثالث فى 1580م براءة للتجار الإنجليز، تضمن لهم إمتيازات كثيرة وحرية واسعة فى البيع والشراء، ومراعاة عادات وأوامر بلادهم. ويتضح من خلال سجلات محكمة الإسكندرية الشرعية، حجم العلاقات التجارية الواسعة بين مدينة الإسكندرية وبين موانئ البحر المتوسط الأوربية مثل، فرنسا وإنجلترا وأسبانيا وغيرها، وكذلك الموانئ العثمانية وبلاد الشام وبلاد المغرب العربى، الأمر الذى يعكس المكانة الاقتصادية الكبيرة التى ظلت الإسكندرية تتمتع بها، كما إمتلأت المدينة بالجاليات الأوربية من جميع الجنسيات، وبالجاليات الإسلامية على السواء.
ومع ذلك فقد كان العصر العثمانى عصراً مظلماً فى تاريخ مصر، على الأقل بالنسبة لما كان يحدث فى شمال المتوسط، من نهضة عظيمة وسعت الفارق الحضارى بين شماله وجنوبه، بشكل لم يكن من الممكن تداركه فى ظل الأوضاع التى سادت مصر فى ذلك العصر، والتى إستمرت حتى وصول القائد الفرنسى الشاب نابوليون بونابرت إلى مصر على رأس الحملة الفرنسة فى يوليو 1789م، مفتتحاً صفحة جديدة من تاريخ العلاقات بين مصر والبحر المتوسط.

3-العصر الحديث :

دفعت ظروف الصراع الأوربى بعد قيام الثورة الفرنسية سنة 1789م بمصر فى طريق فرنسا ونابوليون، حيث إتخذت حكومة الإدارة فى النهاية قراراً بإحتلال مصر، بهدف إتخاذها قاعدة فرنسية فى الشرق لضرب مصالح إنجلترا هناك، وعهدت للقائد الشاب نابوليون بونابرت بالإشراف على تجهيز وتنفيذ المشروع، وسرعان مابدأت الإستعدادات وأصبح كل شئ جاهزاً فى إبريل 1798م، وبشكل مشابه لما قام به الإسكندر قبل أكثر من ألف عام، أبحر نابوليون بجنوده وعلمائه وأدبائه وفنانيه ومترجميه ومطابعه إلى مصر من ميناء طولون الفرنسى فى شهر مايو، وفى أول يوليو وصلت الحملة سواحل الإسكندرية وإستولت على المدينة، وفى 7 يوليو زحف نابوليون على القاهرة - براً وبحراً عن طريق نهر النيل - وإلتقى بالمماليك فى أول مواجهة عند شبراخيت فى 13 يوليو فى معركة بحرية برية هزمهم فيها، وواصل زحفه على القاهرة، حيث إلتقى بهم مرة أخرى بالقرب من الجيزة، وهزمهم فى معركة الأهرام فى 22 يوليو، وفى اليوم التالى دخل القاهرة وبدأ على الفور فى تنظيم أمور مصر، فمنع جنوده من السلب والنهب، وحمى حقوق الملكية، وأعلن إحترامه للشعائر الإسلامية - كما فعل الإسكندر فى معبد الإله بتاح والإله آمون - وأمر بإنشاء ديوان القاهرة من المشايخ والزعماء المحليين، وعقد إجتماعاً مع علماء الحملة لوضع الخطط للقضاء على الطاعون، وإدخال صناعات جديدة، وتطوير نظام التعليم، وتحسين القوانين، وإنشاء خدمات بريدية ونظام مواصلات، وإصلاح الترع وضبط الرى، وربط النيل بالبحر الأحمر، ثم أنشأ المعهد العلمى، وعهد إليه بإجراء دراسة شاملة عن مصر، وهى الدراسة التى خرجت بعد ذلك فى موسوعة وصف مصر، التى وضعها علماء الحملة الفرنسية بين الأعوام (1809-1829م).
هكذا بدأت قصة حملة نابوليون على مصر، لكنها سرعان ماإنتهت برحيل قوات الحملة فى سبتمبر 1801م، بسبب تحالف الإنجليز والعثمانيين ضد طموحات فرنسا فى مصر، ونجاحهم فى إجلائهم عنها فى زمن قصير. كانت الحملة الفرنسية تجربة قصيرة فى حياة مصر والمصريين، لكن آثارها كانت عميقة الأثر، بحيث يمكن أن يقال أن تاريخ مصر الحديث قد بدأ بها، فقد لفتت هذه الحملة أنظار العالم إلى أهمية موقع مصر، كما أنها قد ربطتها بالنهضة العظيمة التى كانت تجرى فى شمال المتوسط، والتى كانت إلهاماً للرجل الذى قُدر له أن يحكم مصر بعد خروج الحملة، ويبدأ وضع أسس نهضتها الحديثة، وهو محمد على باشا.
كانت تولية محمد على باشا حكم مصر سنة 1805م هى نفسها أحد مؤثرات الحملة الفرنسية على مصر، فقد تمسك المصريون بحقهم - وربما لأول مرة فى تاريخهم - فى إختيار حاكمهم، وقاتلوا الولاة الذين حاول السلطان العثمانى فرضهم عليهم، حتى إضطروا الدولة العثمانية فى نهاية الأمر إلى الرضوخ لمطلبهم، وتعيين محمد على باشا والياً عليهم، ولاشك ان الصفات القيادية الكبيرة التى تمتع بها محمد على، والنيات الحسنة التى أظهرها تجاه المصريين كانت أحد أسباب تمسكهم به، لكن النظم والثقافة الأوربية الجديدة التى جلبتها معها الحملة الفرسية، كانت أيضاً إلهاماً لهم فى كفاحهم من أجل إختيار حاكمهم.
بدأ التأثير الفرنسى فى مصر فى عهد محمد على على يد رجال من أمثال دروفتى قنصل فرنسا فى مصر، ومنجان، كبير التجار الفرنسيين ، والضباط الفرنسيين الذين بقوا فى مصر بعد إنسحاب الفرنسيين، أو عادوا إليها بعد سقوط نابوليون، مثل كولونيل سيف( سليمان باشا الفرنساوى-1787-1860م)، الذى تولى إنشاء وتدريب الجيش المصرى فى عهد محمد على، ومثل كلوت بك مستشاره الطبى الفرنسى. وقد كان من الطبيعى أن تكون لتلك المؤثرات الفرنسية أثرها على المصريين، أو بعض منهم على الأقل ، فبينما رفضها معظمهم على أنها جاءت مع جيش كافر،فقد قبلها بعض منهم مثل الشيخ الجبرتى(المؤرخ) الذى لم يخفى إعجابه بمظاهر الحضارة الفرنسية، والشيخ حسن العطار(1766-1835م)، وزميله الشيخ إسماعيل الخشاب.
والواقع أن النهضة العظيمة التى شهدتها مصر فى عهد محمد على قد كانت - وبشكل أساسى - نتيجة لإنفتاح محمد على على حضارة شمال المتوسط وثقافته، سواء من خلال الأوربيين الذين إستعان بهم فى إدارته - خاصة من الإيطاليين والفرنسيين - أو من خلال طلبة البعثات التى أرسلها إلى أوربا،وقد إستطاعت مصر فى عهده تحقيق معجزة سياسية بكل المقاييس، فمن أمة كانت قبل سنوات قليلة تعيش فى ظلام العصور الوسطى، أصبحت فجأة أمة حاضرة ومؤثرة فى أحداث العالم المعاصر، ففى سنوات قصيرة إستطاع محمد على وضع أسس دولة عصرية، وبناء جيش قوى غزا به صحارى الجزيرة العربية المنيعة سنة1811م، وضرب الوهابيين لصالح السلطان العثمانى، الذى عجز عن قمع تمردهم بقواته الذاتية. وفى سنة 1820م تقدم إلى جنوب مصر بإتجاه السودان المجهول، بحثاً عن العبيد والذهب،وفى محاولة للوصول إلى منابع النيل، مؤسساً بذلك للسودان الحديث، ثم إتجه ناحية البحر المتوسط، مشاركاً فى حرب المورة سنة 1824م لإخماد الثورة اليونانية، التى إشتعلت هناك ضد السلطان العثمانى، دافعاً بمصر الحديثة إلى آفاق دولية جديدة، كان من المستحيل أن تصل إليها فى عصر التفوق الأوربى.وبرغم ضرب الأساطيل الأوربية للأسطول المصرى والعثمانى فى معركة نافارين سنة 1827م، فقد عاد محمد على وكون هذا الجيش مرة أخرى، وغزى به سوريا سنة 1831م، وإندفع نحو قلب الإمبراطورية العثمانية نفسها، محاولاً نقل مركز العالم الإسلامى إلى مصر، ولكن ورغم إجتماع الدول الأوربية عليه، وإيقاف زحف الجيوش المصرية المندفعة بقيادة إبنه إبراهيم بإتجاه الأراضى العثمانية، وتقييده بقيود معاهدة لندن سنة 1840م، وتقليص أحلامه وقصرها على مصر، فإن إستمرار نفس الإتجاهات والظروف بعده خاصة فى عهد إسماعيل (1863-1879م) - أى الإنفتاح المستمر على حضارة شمال المتوسط، وإستمرار نزوح الأوربيين للعمل والإقامة فى مصر - قد ظل يدفع بمصر إلى الأمام، وأكد مركزها كدولة كبرى فى الشرق الأوسط فى نهاية الأمر.
والواقع أننا يمكن أن ندرك الآن بسهولة، أن قصة مصر فى عصر أسرة محمد على كانت هى قصة تفاعل مصر والمصريين مع الشعوب الأوربية وثقافتها فى شمال المتوسط، تماماً كما يمكننا أن ندرك أن قصة مصر فى عصر ثورة يوليو - بعد ذلك - هى قصة تفاعل مصر والمصريين مع الشعوب العربية المجاورة وثقافتها، وبالطبع يمكننا أن ندرك - وبسهولة ايضاً - عظم الفارق بين القصتين!.
بدأ نزوح الأوربيين إلى مصر قبل عهد محمد على، ولكن الواقع أن ذلك الوجود كان محدوداً، ويكاد يقتصر على ممثلى الوكالات التجارية الأوربية المقيمين فى الإسكندرية، وبشكل خاص من المدن الإيطالية كجنوة والبندقية وبيزا وفلورنسا، ثم إزداد هذا الوجود الأجنبى بقدوم الحملة الفرنسية، وبإستعانة محمد على بكثير من الأوربيين فى إدارة مصر بعد خروج الحملة، بالإضافة إلى إستعانته بهم فى تصريف منتجاته فى الأسواق الأوربية، حتى بلغ عددهم فى نهاية عهده سنة 1847م حوالى ستة آلاف نسمة، لكن هذا الوجود تناقص فى عهد خلفه عباس حلمى الأول لكراهية الأخير للأجانب بشكل عام، ثم أخذ يزداد مرة أخرى منذ عهد سعيد وإسماعيل لرغبة الأخيرين فى تحويل مصر إلى دولة أوربية، كما أعطى إفتتاح قناة السويس سنة 1869م دفعة قوية لنزوح الأوربيين للعمل والحياة فى مصر، حتى وصل عددهم فى سنة 1871م إلى حوالى 79696 نسمة، وإستمر عددهم فى الزيادة حتى وصل فى بدايات عهد الخديوى محمد توفيق إلى حوالى 90886 نسمة، ثم هيأ الإحتلال الأنجليزى لمصر سنة 1882م الظروف لإستمرار وإزدياد تلك الهجرات، بحيث أصبح الأوربيون وعلى وجه الخصوص - اليونانيون والإيطاليون والإنجليز والفرنسيون - جزءً لايتجزء من المجتمع المصرى، ووصل عددهم فى سنة 1897م إلى حوالى 113000، أى اكثر من 1,16% من جملة السكان فى ذلك الوقت. وظل هذا الإتجاه فى تصاعد مستمر، حتى بلغت أعداد الأجانب فى مصر سنة 1907م إلى حوالى 151414 نسمة، معظمهم من الأوربيين. وإستمرت هجرات الأوربيين إلى مصر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم تراجعت قليلاً لكنها مالبثت أن عادت بقوة بعد إنتهاء الحرب، حتى بلغ تعدادهم سنة 1917م حوالى 181630 نسمة من الأوربيين وحدهم، وحوالى 209178 نسمة من الأوربيين والأمريكيين مجتمعين، أى مايزيد على 1% من مجموع السكان فى ذلك الوقت. ولكن ومنذ سنة 1937م فصاعداً بدأت أعداد الأوربيين فى مصر فى التناقص، ويرجع سبب ذلك بشكل أساسى إلى إلغاء الإمتيازات الأجنبية بموجب معاهدة مونترو سنة 1937م، وتحول أعداد كبيرة من الأجانب إلى الجنسية المصرية، إذ بلغ عدد الأجانب المتجنسين بالجنسية المصرية فى تعداد سنة 1947م حوالى 13102 نسمة، ويرجع كذلك إلى قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، ورحيل كثير من رعايا دول المحور إلى بلادهم، وأيضاً إلى ظهور الطبقة الرأسمالية المصرية، ودخولها إلى الميدان الاقتصادى، خاصة بعد إنشاء بنك مصر وشركاته، بالإضافة إلى صدور القواينن التى أخذت تقيد من نشاط الأجانب الاقتصادى وحركتهم فى مصر. ومع ذلك فإن وجود الجاليات الأوربية ونشاطها السياسى والاقتصادى والاجتماعى ظل محسوساً وفعالاً فى المجتمع المصرى، حيث قُُُدر عددهم أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية بحوالى 230 ألف نسمة، وإستمر ذلك حتى قيام ثورة يوليو سنة 1952م، حيث بدأ الوجود الأوربى فى تناقص حقيقى مضطرد، بسبب الإتجاهات السياسية والاقتصادية الجديدة التى تبنتها الثورة.
والواقع أننا إذا ماحاولنا تتبع أثر تدفق الأجانب على مصر - والأوربيين منهم على وجه الخصوص -على مدى حوالى قرن ونصف، أى طوال عصر أسرة محمد على ، فسوف ندرك عظم التأثير والتطور الذى أحدثوه فى المجتمع المصرى على مختلف أصعدة النشاط الإنسانى. فعلى المستوى السياسى، نجد أن الجاليات الأجنبية فى مصر قد شاركت فى صنع أحد أهم أحداث التاريخ السياسى لمصر الحديثة، فمع قيام ثورة 1919م وقفت بعض الجاليات الأجنبية كالإيطالية والفرنسية - مثلاً- موقف التأييد لها، وتفهمت مطالبها الوطنية ولو بوحى من مصالحها الخاصة، كما كان للجالية الإنجليزية نفسها أثراً كبيرا فى الدفع نحو إصدار تصريح 28 فبراير 1922م، التى أعلنت فيه إنجلترا إستقلال مصر من طرف واحد مع الشروط الأربعة المعروفة، ولقد وضع ذلك التصريح - وبرغم أى تحفظات عليه - مصر على طريق الإستقلال، ومكنها من ممارسة أول تجربة ديموقراطية برلمانية فى تاريخها بموجب دستور 1923م، الذىصاحب النظام السياسى الجديد، الذى نشأ نتيجة لذلك التصريح. ولاشك أن الأفكار الديموقراطية العلمانية قد دخلت إلى مصر عن طريق الأوربيين الذين عاشوا بها، حيث كانت جزءً من ثقافتهم العامة التى تأثر بها المصريون، خاصة هؤلاء الذين ذهبوا لتحصيل العلم فى أوربا، ثم عادوا إلى مصر محملين بتلك القيم والأفكار الجديدة، وبها مجتمعات أوربية تعيش وتتنفس بالفعل تلك القيم، مما ساعدهم فى مهمة التبشير بها. ولم يقتصر الأمر على هذه الحدود التقليدية، فقد نقل الأجانب ثورة الأفكار السياسية والإجتماعية التى كانت تجتاح العالم الأوربى فى شمال المتوسط إلى مصر، بحيث أصبحت مصر - وبدون أى نظير لها فى العالم الإسلامى بإستثناء تركيا - جزءً من حركة تاريخ العالم المتقدم، يحدث بها مايحدث به من أحداث، ويعصف بها مايعصف به من أفكار. وقد كان إنتشار الأفكار الإشتراكية فى مصر خير دليل على ذلك، حيث ظهرت وإنتشرت على يد الأجانب، وظلت فى النمو والتطور حتى بعد رحيلهم، ولعبت دوراً كبيراً فى تاريخ مصر فى القرن العشرين.
وعلى المستوى الاقتصادى، فقد شغل الأوربيون أهم الوظائف فى الإدارات الحكومية والوزارات فى عصر أسرة محمد على، ومهما قيل عن ضخامة رواتبم، وعظم إمتيازاتهم، وإحتكارهم لكبرى الوظائف على حساب أبناء البلاد الأصليين، فمما لاشك فيه أنهم قد أخذوا بقدر ماأعطوا، والموضوع لم يعد يحتاج إلى جدال، فالناظر إلى أحوال مصر عندما كان يديرها هؤلاء الأوربيون وعندما أصبح أبنائها هم المديرين الفعليين، لن يسعه سوى أن يعترف بأسف إن إدارات هؤلاء الأجانب كانت أفضل . ومع ذلك، فإن التأثير الاقتصادى للأوربيين فى مصر يظهر بشكل أكبر فى مجال إستثمارتهم الفردية ومشروعاتهم الخاصة، بدءًً بأول بقال يونانى فتح حانوتاً فى الإسكندرية، نهايةً بالبارون إمبان بانى حى مصر الجديدة. والواقع أن إستثمارات الأجانب قد شملت كل شئ، وكل القطاعات المالية، والصناعية، والتجارية، والخدمية، من البنوك، حتى العقارات، والسياحة، والخدمات، وصناعة السينما، والمواصلات، والمستشفيات، والمدارس والمقاهى، والملاهى، وكل أوجه النشاط الإنسانى، حتى تركوا لنا تلك الآثار العظيمة، والبنايات الشاهقة والقصور الباسقة والفيلل الجميلة، التى مازلت قائمة فى بعض أحياء القاهرة والإسكندرية ومدن القناة وبعض مدن مصر الأخرى، شاهدةً على عظمة ذلك الزمن الذى مازال البعض مصمماً على تسميته بزمن النهب الإستعمارى لمصر، متجاهلاً أنه فى ذلك الزمن كانت مصر دائنة وليست مدينة، ولم يكن بها بطالة ولا أزمة إسكان ولاأزمة مواصلات، بل على العكس فقد كانت مصر قادرة على توفير فرص الحياة والعمل ليس فقط لأبنائها، بل لأشقائها من الدول العربية أيضاً، الذين تدفقوا عليها من بلاد الشام وبلاد المغرب فعاشوا فى رحابها وشاركوا فى صنع نهضتها.
كان أحد نتائج ذلك النشاط الاقتصادى الكثيف الذى قام به الأوربيون فى ذلك الزمن، أن تعلم كبار ملاك الأراضى المصريون معنى الإستثمار الرأسمالى، تماماً كما حدث فى أوربا فى أخريات العصور الوسطى، ومن تلك الطبقة ظهر طلعت حرب، وأسس بنك مصر، وبدأ ومعه كثير من أعضاء الطبقة الرأسمالية المصرية الوليدة، فى المساهمة فى نهضة مصر الاقتصادية. ومع ذلك فإن أكبر الآثار الإيجابية التى نشأت عن إحتكاك شعوب شمال المتوسط بمصر والمصريين فى عصر أسرة محمد على، كان هو الأثر الثقافى والاجتماعى - أى التطور القيمى للمجتمع - أكبر محرك لتطور التاريخ . ومن الطبيعى أن يكون التعليم الأجنبى فى مصر فى تلك الفترة، هو أحد أكبر الأبواب التى دخل من خلالها المصريون إلى ثقافة شعوب شمال المتوسط وقيمها المتطورة وتأثروا بها. وقد كان التعليم الأجنبى معروفاً فى مصر قبل الإحتلال البريطانى عن طريق إرساليات التبشير الكاثوليكية والبروتستانية، لكنه إزداد وتطور بزيادة عدد الأجانب فى مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، حتى وصل عدد المدارس الأجنبية بمصر سنة 1878م إلى 152 مدرسة يتعلم بها 12247 تلميذ وتلميذة، ثم أخذ التعليم الأجنبى دفعة قوية بإحتلال إنجلترا لمصر سنة 1882م، حتى وصل عدد المدارس الأجنبية بمصر فى بدايات القرن العشرين تبعا لإحصاء سنة 1915م إلى 307 مدرسة، ثم إلى 326 مدرسة سنة 1922م بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى وعودة الأجانب إلى مصر وإستئناف أنشطتهم مرة أخرى، وأخذ العدد فى الإرتفاع حتى وصل سنة 1937م إلى 411 مدرسة، إلا أن ذلك العدد أخذ فى التناقص منذ عام 1946م بسبب إلغاء الإمتيازات الأجنبية، وإستمر فى التناقص حتى بلغ سنة 1952م إلى 281 مدرسة فقط . وفى سنة 1955م أخضعت حكومة الثورة المدارس الأجنبية لإشراف وزارة المعارف، ثم وبعد العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956م تم تأميم المدارس الأجنبية كجزء من حركة تمصير المؤسسات الأجنبية فى البلاد، وفى سنة 1958م صدر قانون بتعريب المدارس الأجنبية والتعليم الخاص.
ويمكن الجزم الآن بأن التطور الثقافى الكبير الذى حققته مصر خلال عصر أسرة محمد على يعود بشكل كبير إلى هذه المدارس الأجنبية، وإلى المدرسين الأجانب الذين عملوا بها وحملوا معهم ليس فقط معارف وعلوم شمال المتوسط إلى جنوبه، ولكن أيضاً ثقافته وقيمه، فهؤلاء ومعهم زملائهم الذين عملوا بأعداد كبيرة فى المدارس التابعة لوزارة المعارف، كانوا من أكبر عوامل التطور القيمى للمجتمع المصرى.
وقد لعبت المدارس الفرنسية، والإنجليزية، والأمريكية، أكبر الأدوار فى تاريخ التعليم بمصر فى تلك الفترة، وإشتهرت منها أسماء كبيرة مثل مدارس الليسيه الفرنسية المدنية، ومدارس الراهبات، والفرير، والجزويت الدينية، وكلية فيكتوريا الإنجليزية بالإسكندرية، والمدرسة الإنجليزية بالقاهرة، والكلية الإرسالية الإنجليزية بالقاهرة، والمدرسة البريطانية بالإسكندرية، وكلية البنات الإنجليزية بالإسكندرية، ومدرسة البنين الأمريكية، ومدرسة البنات الأمريكية بالأزبكبة، وكلية البنات الأمريكية بالقاهرة، والكلية التجارية الأمريكية بالإسكندرية، ومدرسة الأمريكان الثانوية بأسيوط، وكذلك مدرسة الأمريكان الثانوية بنات، ومدرسة الأمريكان الإبتدائية بنين، والأمريكان الإبتدائية بنات، كما إنتشرت المدارس الأمريكية فى أنحاء كثيرة أخرى من القطر المصرى، مثل المنصورة، والفيوم، وبنها، والزقازيق، وطنطا، وغيرها من المدن المصرية. ولاشك أن الجامعة الأمريكية بالقاهرة هى أشهر المؤسسات التعليمية الأمريكية على الإطلاق، ويعود تاريخ إنشائها إلى سنة 1920م بواسطة الإرسالية الأمريكية، لكنها فى سنة 1922م أصبحت جامعة مستقلة، وأصبح لها كيانها الخاص المستقل عن الإرسالية الأمريكية.
وكما يمكننا مقارنة الظروف التعليمية السائدة الآن بمصر بما كانت عليه تلك الظروف قبل ثورة 1952م، فى ظل سيادة التعليم الأجنبى، يمكننا الآن أيضاً - وبسهولة - مقارنة الأوضاع والأخلاق الاجتماعية بما هى عليه الآن، وبما كانت عليه قبل ثورة يوليو، فى ظل سيادة المؤثرات الاجتماعية الأجنبية الوافدة من دول شمال المتوسط الأوربية. ومرة أخرى نود أن نؤكد هنا أن تطور التاريخ هو تطور قيم، وأن لكل حضارة ولكل ثقافة قيمها، والتى يمكن أن تحتوى على عناصر إيجابية وأخرى سلبية، لكن السؤال المهم هو أى من تلك العناصر يكون هو الغالب على تلك الحضارة أوتلك الثقافة ؟ ولقد حملت شعوب شمال المتوسط المهاجرة إلى مصر معها عناصر ثقافتها وقيمها الإيجابية والسلبية على السواء إلى المجتمع المصرى والحياة المصرية، وكان من الطبيعى أن تتأثر الحياة المصرية بهذه الثقافة ككل ولكن يمكننا الآن أن نقول - وبإطمئنان - أن العناصر الإيجابية فى تلك الثقافة كانت هى الأقوى، وهى التى تأثر بها المصريون أكثر، وإن هذا هو ماقد يفسر الفارق الكبير بين أخلاقيات الأجيال التى عاشت قبل ثورة 1952م، وأخلاق الأجيال التى تعيش الآن؟
وأقل مايمكن أن نقوله هنا هو أنه قد كان للأجانب تأثيرهم الإيجابى الكبير فى المجتمع المصرى، فهم الذين حملوا معهم قيمهم الإنسانية فى التسامح وقبول الآخر، وفى حرية التفكير وحرية العقيدة، وفى حرية المرأة وفى الذوق الإجتماعى، وهم الذين بشروا بحقوق الطبقات الفقيرة، وبالعدل الإجتماعى، وأنشأوا المؤسسات الخيرية والطبية والإجتماعية، وأنشأوا النقابات العمالية، ونشروا تلك القيم الإنسانية التى تأثر بها المصريون وعملوا بها، حتى أصبحت بلادهم ملاذاً لأى إنسان لايجد الأمان فى وطنه فيرحل إليها يطلب بها الحياة والأمان، حيث عاش الأرمنى، واليهودى، والمسلم، والمسيحى، جنب إلى جنب فى أمان ووئام، جعلت الكاتب اللبنانى الشهير، أحمد فارس الشدياق الذى عاش بمصر فى منتصف القرن التاسع عشر، يبدى دهشته لما رآه من تسامح المصريين الدينى ويصفهم فى كتابه الساق على الساق قائلاً (وبذلك لهم الفضل على غيرهم وكأن هذه المزية وهى حسن الخلق ورقة الطبع أمر مركوز فى جميع أهل مصر)وهو نفس الواقع الذى دفع بالشاعر السورى الشهير الراحل نزار قبانى لوصف القاهرة - فى مذكراته - أثناء الفترة التى كان يعمل ويعيش بها فى الأربعينيات من القرن العشرين، وبعدما لمس بنفسه مدى تطورها الأدبى والحضارى وتفوقها على كل مدن الشرق الأوسط،(بأم مدائن الشرق)فأين ذلك الفضل، وأين أم مدائن الشرق، اليوم؟
وفى إستعراض تلك المؤثرات الثقافية والاجتماعية، يجب أن لاننسى أحد الأفضال الخالدة التى قام بها شركائنا فى الشمال، وهى إكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة، تلك المأثرة الخالدة التى بدأت بإكتشاف جندى فرنسى لحجر رشيد فى زمن الحملة الفرنسية، ثم عكوف العالم الفرنسى الشاب شامبليون على دراسته حتى توصل إلى إكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة، ووضع قاموس لها وأثر ذلك على توافد البعثات الأثرية على مصر ، لكشف أسرار حضارتها القديمة، وإنشاء المتحف المصرى، مما وضع مصر وتاريخها فى صدارة التاريخ الإنسانى مرة أخرى، وأعاد مرة أخرى إلى ذاكرة البشرية ذلك التأثير الرومانسى الخالد للحضارة المصرية القديمة على الجنس البشرى وماكان لكل ذلك المجد من أثر فى إحياء الروح الوطنية المصرية، التى كانت قد دُفنت تحت أقدام الغزاة عبر آلاف السنين، والتى كانت أحد أكبر الإنجازات التى حققتها مصر خلال عصر أسرة محمد على وخلال الحقبة الإستعمارية.
ولاشك أن الباب الكبير الآخر الذى عبر من خلاله المصريون إلى ثقافة العالم المتقدم، وترك أثراً كبيراً على تطور مصر فى عصر أسرة محمد على، كان هو البعثات العلمية المصرية التى قام بإرسالها إلى دول شمال المتوسط، حيث إهتم محمد على بإرسال البعثات العلمية إلى أوربا لإعداد خبراء وصناع مدربين فى كل النواحى المختلفة، التى إحتاجها مشروعه فى إقامة دولة عصرية. وقد بدأ محمد على فى إرسال بعثات علمية إلى أوربا فى سنة 1813م، إذ أوفد إلى إيطاليا عدداً من الطلبة لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن وتعلم الهندسة، وغير ذلك من الفنون. ولكن أول بعثة علمية كبيرة منظمة أرسلت إلى أوربا سنة 1826م، ثم تلاها فيما بين سنة 1826 وسنة 1847م تسع بعثات تكونت من 319 طالباً، ذهب معظمهم إلى فرنسا وإتجه الباقون إلى إنجلترا والنمسا. وقد أُرسلت هذه البعثات لكى يتخصص الطلبة فى الهندسة والرياضيات والطبيعيات، ومختلف الصناعات والنظم الحربية والعلوم السياسية والطب والحقوق، أى أن هدفها كان علمياً عملياً خالصاً، ولكن الواقع أن أعظم أثر نتج عن هذه البعثات كان هو الأثر الثقافى، الذى تجلى فى تأثر الطلبة أعضاء البعثات بقيم وثقافة شمال المتوسط الذين عاشوا ودرسوا فيه، والغريب أن أول من نقل ذلك التأثير وذلك الإعجاب بثقافة فرنسا حيث ذهب مع أولى البعثات، كان شاباً أزهرياً إسمه رفاعة رافع الطهطاوى(1801-1873م)، كان قد أرسل أساساً ليؤم طلبة البعثة فى الصلاة ويحفظ لهم مبادئ دينهم، وليس ليتعلم أى فرع من فروع المعرفة، لكنه عكف هناك على دراسة اللغة الفرنسية، ثم بدأ يتعرف على الأدب والثقافة الفرنسية التى حاذت إعجابه وإستولت على عقله وقلبه، فدرس التاريخ والجغرافيا والفلسفة وقرأ مؤلفات فولتير وروسو ومونتسيكو وراسين، ولما إشتهر أمره ضمه محمد على إلى طلبة البعثة، وبعد عودته إلى مصر سنة 1831م لخص مادرسه وتعلمه هناك فى كتاب وضعه سنة 1834م تحت عنوان (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز)، تحدث فيه عن حياة الفرنسيين وثوراتهم من أجل الحرية، ونظمهم السياسية المتطورة، كما إقترح على محمد على إنشاء مدرسة للترجمة، ووافق محمد على على الإقتراح وتم تنفيذه سنة 1836م، وعُهد إلى رفاعة الطهطاوى بإدارتها، وعُرفت المدرسة فى بادئ الأمر بإسم مدرسة الترجمة، ثم تغير إسمها إلى مدرسة الألسن أو اللغات. ومن تلك المدرسة إنطلقت نهضة مصر الثقافية فى القرن التاسع عشر.
تأثر رفاعة الطهطاوى بالأفكار الوطنية الليبرالية للقرن التاسع عشر الأوربى، وألف كثيراً من الكتب فى هذا الخصوص منها كتابه( مقدمة وطنية مصرية)، وهو أول كتاب من نوعه فى تمجيد الوطنية المصرية، كما طرح الطهطاوى فى كتابه (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز) بعض النظريات السياسية الهامة، ومهد الطريق للتخلص من الولاء لسلطان الدولة العثمانية، الذى كان فى موضع العصمة عند المصريين وسائر أبناء العالم الإسلامى. ورأى الطهطاوى أن الولاء للسلطان العثمانى ليس قدراًً على المصريين، فلقد إستطاع غيرهم من الأمم التخلص من ظلم حكامهم، كالشعب الفرنسى مثلاً فى ثورته الفرنسية الكبرى، وهكذا أوحى رفاعة الطهطاوى إلى المصريين، وإلى محمد على نفسه بالتخلص من السيادة العثمانية. وإستكمل الطهطاوى كل النظريات السياسية والإجتماعية التى ناقشها فى( تخليص الإبريز)، فى كتاب آخر أصدره سنة 1869م بعنوان( مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية 1869م)، ويعتبر هذا الكتاب هو أول كتاب ظهر فى مصر فى الفكر السياسى والاقتصادى المصرى ، فهو كتاب فى الاقتصاد والسياسة، ويشتمل كذلك على فصول تاريخية، دعت الضرورة إلى إدماجها لتوضيح الفلسفة الإجتماعية التى كان رفاعة الطهطاوى يعتنقها ويدعو إليها. ويرى بعض الكتاب أنه إذا كان (تخليص الإبريز) فى أساسه كتاباً عن الحضارة الفرنسية بقلم مفكر، كان يعتقد أن بعث مصر لاطريق إليه إلا بالأخذ بأهم مقومات الحضارة الأوربية فى زمنه، فإن( مناهج الألباب) فى أساسه هو محاولة مصرية لبناء المجتمع المصرى على أسس الديموقراطية البورجوازية، التى كان رفاعة الطهطاوى يؤمن بها . والأفكار التى بشر بها الطهطاوى فى هذا الكتاب تنحصر فى تثبيت فكرة القومية المصرية، وفكرة الدولة العلمانية، وتثبيت مقومات المجتمع البورجوازى سياسياً وإقتصادياً ، مع جنوح للنزعة الليبرالية الإجتماعية، التى سادت العالم الأوربى خلال القرن التاسع عشر.
كما أسهم رفاعة الطهطاوى فى مسيرة الصحافة المصرية، إذ عهد إليه إبراهيم باشا سنة 1842م برئاسة تحرير أول صحيفة مصرية، وهى الوقائع المصرية التى كانت قد صدرت سنة 1828م فى عهد محمد على، فأدخل عليها رفاعة تطويراً وجعل اللغة العربية اللغة الأولى لها بدلاً من التركية، كما أدخل كثيراً من الموضوعات الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ضمن موضوعات الصحيفة، وقد ظل على إدارة تحريرها حتى نفيه إلى السودان فى حكم سعيد باشا سنة 1849م، وفى أخريات حياته تولى رئاسة تحرير مجلة روضة المدارس، التى أنشأها على باشا مبارك سنة 1870م، وقد جعل لها صبغة إجتماعية هامة، وأدخل فى مواد تحريرها كثيراً من الموضوعات الإجتماعية المتعلقة بالمرأة، وهكذا عبر رفاعة عن مجمل أفكار عصره، فى الحرية والوطنية والليبرالية الإجتماعية، وتحرير المرأة، وإستحق بجدارة اللقب الذى أطلقه عليه المؤرخون وهو(مؤسس النهضة الثقافية لمصر القرن التاسع عشر)، وكان أول مفكر عربى مسلم من جنوب المتوسط يأخذ بلا حرج عن ثقافة شمال المتوسط العلمانية التى نشأت عن عصر النهضة الأوربى.
أما المفكرالثانى، الذى يمكن أن نتتبع من خلاله مراحل تأثر الثقافة المصرية بثقافة العالم الأوربى فى شمال المتوسط، فهو على باشا مبارك (1824-1893م)، ومثله مثل رفاعة الطهطاوى، فقد أتم تعليمه العالى فى فرنسا، فى مدرسة أنشأها محمد على هناك لدراسة الفنون الحربية، عُرفت بإسم ( المدرسة المصرية الحربية بباريس)، وقد إختاره سليمان باشا الفرنساوى، فيمن إختارهم للسفر إلى هناك سنة 1844م. وعاد على مبارك من البعثة سنة 1850م، فلم يلحق بحكم محمد على ولا بحكم إبراهيم القصير، ولحق بحكم عباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق، وشغل مناصب هامة، فكان وزيراً للمعارف والأشغال وأنشأ دار العلوم ودار الكتب. وكان على مبارك يؤمن بالتعليم وبأثره فى نهضة الشعوب وإرتقاء الأمم، وكان يحث عليه ويعمل على نشره، ويرى أن تحرر المصريين لايتم بدونه، والتحرر كما كان يراه المصريون حينذاك،هو التحرر من الطغيان التركى وسيطرة الأتراك على أجهزة الحكم. وكان على مبارك مصرياً لم ينسى مصريته، فكتب يقول أن المصريين( أقرب الناس إلى الإصلاح وأسرعها تقدماً فى سبل العلاج إذا وجدوا حاملاً على ذلك)، فحبه لمصر هو الذى دفعه إلى نشر التعليم وحمله على الكتابة والتأليف. ومن أشهر مؤلفاته (موسوعة الخطط التوفيقية لمصر ومدنها والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة)، التى صدرت فى عشرين جزءً فيما بين الأعوام(1877-1889م). والخطط مجموعة من المعلومات والحقائق عن مصر، وتاريخها القديم والحديث، وجغرافيتها، ومدنها وقراها، وترعها وبحيراتها وشواطئها، وسكانها وعاداتهم وتقاليدهم. وكان كتاب الخطط ولايزال وسيظل مرجعاً لتراجم الرجال الذين صنعوا تاريخ مصر الحديثة، وخاصة أولئك الذين عاشوا وبنوا نهضتها فى القرن التاسع عشر. ويعد كتاب الخطط تكملة وتجديداً لخطط المقريزى، ولكتاب تخطيط مصر الذى وضعه علماء الحملة الفرنسية. ومن أهم مؤلفات على مبارك أيضاً قصة علم الدين، التى تعتبر القصة الأولى فى تاريخ الأدب المصرى الحديث، وهى قصة خيالية فى أربعة أجزاء يدور الحديث فيها بين عالم مصرى من الأزهر وعالم أوربى من إنجلترا، وتعتبر بدورها رسالة فى حب الوطن، إذ ينسب فيها المؤلف كل الفضائل والعلوم والفنون إلى وطنه مصر.
ويمكن لنا أن نتتبع فى شخصية قاسم أمين (1863-1908م) العلم الثالث، الذى حمل ثقافة التنوير من شمال المتوسط إلى جنوبه. وقد ولد قاسم أمين لأب تركى وأم مصرية، وبعد أن أنهى تعليمه الإبتدائى والثانوى إلتحق بمدرسة الحقوق والإدارة وحصل منها على الليسانس سنة 1881م، وعمل بعد تخرجه بالمحاماة لفترة قصيرة، ثم سافر فى بعثة دراسية إلى فرنسا، حيث درس القانون بجامعة مونبيليه لمدة أربع سنوات وتخرج منها سنة 1885م. وعاد قاسم أمين إلى مصر محملاً بأفكار التنوير الأوربى، وأخذ يكتب فى جريدة المؤيد عن أسباب المشاكل الاجتماعية فى مصر، وفى سنة 1898م أصدر كتاب ( أسباب ونتائج وأخلاق ومواعظ)، وتبعه بكتاب (تحرير المرأة ) الذى نشره عام 1899م، ودعى فيه إلى تحرير المرأة وخروجها إلى الحياة ومشاركتها فى بناء المجتمع، وقد ترجم الإنجليز ذلك الكتاب ونشروه فى مستعمراتهم بالهند. وقد تعرض قاسم أمين بسبب آرائه الجريئة إلى هجوم كثيرمن قادة المجتمع المحافظين، مثل الزعيم مصطفى كامل، والاقتصادى المصرى محمد طلعت حرب، لكن قاسم أمين لم يتراجع ورد على ذلك بإصدار كتاب آخر بعنوان( المرأة الجديدة) عام 1901م، الذى أهداه إلى صديقه ونصيره الزعيم سعد زغلول. لم يكن قاسم أمين مجرد محرراً للمرأة لكنه كان قائداً من كبار قادة التنوير فى مصر، فقد شارك فى الحركة الوطنية ودعى إلى إنشاء الجامعة المصرية، وقد كان لمجهوداته صدى كبير فى المجتمع المصرى مع غيره من أعلام ذلك الزمان. وقد توفى قاسم أمين فى إبريل عام 1908م وهو فى الخامسة والأربعين من عمره، ولكن بعد أن ترك خلفه تراثاً خالداً فى تاريخ حركة التنوير المصرى. والواقع أن ذلك الزمن الخصب قد أنجب كثيراً من العظماء، ففى نفس الوقت الذى كان فيه قاسم أمين يهز أركان المجتمع المصرى المحافظ بأفكاره الجريئة عن تحرير المرأة، كان زميله أحمد لطفى السيد يهز نفس العروش المحافظة بأفكاره الجريئة عن بعث الروح القومية المصرية.
ولد أحمد لطفى السيد سنة 1872م، وتخرج من كلية الحقوق سنة 1894م، وبعد ثلاث سنوات حصل على الدكتوراة، ورغم أنه لم يتلقى تعليماً أجنبياً فقد تأثر بالأفكار الليبرالية القومية السائدة فى أوربا، وإنعكس ذلك على فكره الوطنى، فكان أول من نادى صراحة بفكرة مصر للمصريين، ودعى إلى التمسك بالقومية المصرية، وفصل مصر- الثقافى - عن العالم العربى والإسلامى، ورغم أنه لم يكن الوحيد الذى دعى إلى مثل هذه الأفكار حيث إرتبط كل عصرالتنوير المصرى بفكرة القومية المصرية، إلا أنه كان من أكبر المناصرين والمعبرين عن تلك الفكرة. ساهم أحمد لطفى السيد فى تأسيس حزب الأمة سنة 1907م، ورأس صحيفته المعروفة بإسم الجريدة، ومن خلالها قام بالدعوة إلى فكرة مصر للمصريين، ومهاجمة الجامعة الإسلامية. وبعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918م، إشترك أحمد لطفى السيد مع سعد زغلول وزملائه فى تأليف الوفد المصرى للمطالبة بالإستقلال، ثم سافر مع الوفد بعد الإفراج عن سعد زغلول لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام فى فرساى، كما ساهم أحمد لطفى السيد فى إنشاء الجامعة المصرية سنة 1908م، وأصبح أول رئيساً لها بعد أن اصبحت جامعة حكومية سنة 1928م، وفى عهده قبلت الجامعة سنة 1929م أول مجموعة للفتيات، والتى تخرجت سنة 1932م، وكان ذلك حدثا كبيراً فى تاريخ مصر الحديث، كما ساهم فى معارك الحرية التى نشأت اثناء رئاسته للجامعة، فقدم إستقالته حين تم إقصاء طه حسين عنها سنة 1932م، وكذلك سنة 1937م حين إقتحمت الشرطة حرم الجامعة. وظل أحمد لطفى السيد رئيساً للجامعة حتى إستقال منها سنة 1941م، وفى سنة 1946م عُين وزيراً للخارجية فى وزارة إسماعيل صدقى، غير أنه خرج من الوزارة بعد فشل المفاوضات بين مصر وبريطانيا، ولم يشترك فى أعمال سياسية أخرى بعد ذلك، وقضى الجزء الباقى من حياته فى رئاسة مجمع اللغة العربية حتى وفاته سنة 1963م. وقد كانت حياة وأفكار أحمد لطفى السيد تعبيراً عن زمن التنوير الذى نشأ وعاش فيه فى ظل الإنفتاح على المؤثرات الأوربية الوافدة من شمال المتوسط إلى جنوبه، والتى أخذ منها وتثقف بها حتى دون أن يرحل إليها.
وعلى درب أحمد لطفى السيد، سار عملاق آخر من عمالقة التنوير المصرى، هو سلامة موسى، وبأفكار أكثر شمولية وأكثر جرأة، أثرى بها الحياة الثقافية والفكرية المصرية على مدى نصف قرن من الزمان. ولد سلامة موسى بإحدى قرى محافظة الزقازيق سنة 1887م لأبوين قبطيين ميسورين، فقد كان أبوه من موظفى الحكومة، كما كان يمتلك حوالى مائة فدان من الأرض الزراعية، وقد توفى فى طفولته، مما مكن سلامة موسى من السفر والتفرغ للتحصيل العلمى، عندما شب عن الطوق، إعتماداً على نصيبه من ميراثه من أبيه. تلقى سلامة موسى تعليمه الإبتدائى فى أحد مدارس الزقازيق، ثم إنتقل إلى القاهرة حيث حصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) سنة 1903م، وحوالى سنة 1906م رحل إلى أوربا لطلب العلم، حيث قضى ثلاثة سنوات فى فرنسا، تعرف خلالها على المجتمع الفرنسى، والثقافة الفرنسية، وقرأ لفولتير ولأعلام النهضة الفرنسية، وأدرك مدى إهتمام العالم الغربى بحضارة مصر الفرعونية، ثم عاد إلى مصر لفترة قصيرة رحل بعدها إلى إنجلترا، حيث قضى أربعة سنوات قبل أن يعود إلى مصر. كان سلامة موسى ينوى دراسة القانون فى إنجلترا، لكنه لم يواصل دراسته وتفرغ للبحث والقراءة والمساهمة فى نشاطات المجتمع الإنجليزى، وإنضم إلى الجمعية الإشتراكية الفابية، التى كان يرأسها الكاتب والمفكر الشهير جورج برنارد شو، والتى تحولت بعد ذلك إلى حزب العمال البريطانى، وتوسع فى قراءات ماركس وداروين وفرويد، وبدأ يرسخ أفكاره الأساسية فى السياسة والفكر، وأثناء وجوده فى إنجلترا أرسل إلى جورجى زيدان رئيس تحرير مجلة الهلال كتابه الأول، الذى صدر سنة 1910م، بعنوان(مقدمة السوبرمان)، متضمناً العناصر الأساسية لتفكيره، الذى تمحور حول القومية المصرية، والإشتراكية، والتمثل بحضارة الغرب العلمانية، ونبذ الفكر الدينى والغيبيات. وحوالى سنة 1912م عاد سلامة موسى إلى مصر، وأصدر كتابه الثانى بعنوان (نشوء فكرة الله)، وفى سنة 1913م أصدر كتابه الثالث (الإشتراكية)، وفى سنة 1914م أصدرمجلة أسبوعية بإسم (المستقبل)، لكنها سرعان ماأغلقت ولم تصدر سوى ستة عشر عدداً فقط، بسبب قيام الحرب العالمية الثانية وفرض إنجلترا الرقابة على المطبوعات، وفى هذه المجلة نشر سلامة موسى أول صورة لطه حسين بعد حصوله على الدكتوراة من الجامعة المصرية، وفى سنة 1921م ساهم هو والمؤرخ محمد عبدالله عنان فى تأسيس الحزب الإشتراكى المصرى، لكنه سرعان ماإنسحب منه وتفرغ للنشاط الفكرى. وفى سنة 1923م رأس تحرير مجلة الهلال لمدة ست سنوات، وفى سنة 1930م أصدر مجلة أسماها المجلة الجديدة، وهى المجلة التى نشر فيها نجيب محفوظ أولى رواياته (عبث الأقدار)سنة 1939م . وقد أصدر سلامة موسى على مدى مسيرة حياته الفكرية الحافلة حوالى أربعين كتاباً، شملت معظم جوانب الثقافة والسياسة والفكر والمجتمع، وكان كل منها يمثل ثورة فكرية كاملة على المجتمع التقليدى المحافظ فى ذلك الوقت ، ومن أهم كتبه، حرية الفكر وأبطالها فى التاريخ الذى صدر سنة 1927م، وكتاب نظرية التطور وأصل الإنسان الذى صدر سنة 1928م ، وكتاب اليوم والغد الذى صدر سنة 1929م، وكتاب النهضة الأوربية الذى صدر سنة 1935م، وكتاب البلاغة العصرية واللغة العربية الذى صدر سنة 1945م، وكتاب مصر أصل الحضارة الذى صدر سنة 1947م، وكتاب تربية سلامة موسى الذى صدر سنة 1947م ، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، وكتاب هؤلاء علمونى الذى صدر سنة 1953م، وكتاب الثورات الذى صدر سنة 1954م، وكتاب المرأة ليست لعبة الرجل الذى صدر سنة 1956م، وغيرها من الكتب الهامة. ولقد توفى سلامة موسى سنة 1958م بعد أن ترك خلفه تراثاً فكرياً خالداً لايموت.
ومن نفس الزمن الخصيب ظهرت شخصية طه حسين على مسرح الحياة الفكرية المصرية. ولد طه حسين سنة 1889م، وبعد أربعة أعوام من مولده فقد بصره بسبب مرض الرمد وفى سنة 1902م إالتحق بالأزهر، وتخرج منه بعد أربع سنوات، وفى سنة 1908م إلتحق بالجامعة المصرية، وفى سنة 1914م حصل على درجة الدكتوراة فى الآداب، وقد أثار موضوع الرسالة ( ذكرى أبى العلاء) أولى معارك طه حسين الأدبية والفكرية، إذ أتهمه المتزمتون بالزندقة والخروج على مبادئ الإسلام. وفى سنة 1914م أوفدته الجامعة المصرية إلى مونبيليه بفرنسا، حيث قضى عاماً فى دراسة اللغة الفرنسية والعلوم الإنسانية، ثم عاد إلى مصر وقضى بها ثلاثة أشهر، حتى أرسلته الجامعة مرة أخرى إلى باريس حيث تابع دراسته هناك وحصل سنة 1918م على دبلوم الدراسات العليا فى القانون الرومانى، وعلى درجة الدكتوراة فى الآداب فى بحث عن إبن خلدون بعنوان (الفلسفة الإجتماعية عند إبن خلدون)، وفى تلك السنة تزوج طه حسين من رفيقة دربه الفرنسية سوزان بريسو، التى قال عنها( أنه منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم).
عاد طه حسين إلى مصر سنة 1919م وعُين أستاذاً للتاريخ اليونانى الرومانى فى الجامعة المصرية الأهلية، ولكن بعدما أصبحت جامعة حكومية عُين طه حسين أستاذاً للأدب العربى فيها، ثم عميداً لكلية الآداب سنة 1928م، لكنه لم يلبث فى العمادة سوى يوم واحد فقط، ثم إستقال بسبب ضغوط من حزب الوفد آنذاك. وفى سنة 1930م أعُيد طه حسين إلى عمادة كلية الآداب، ولكن وبسبب رفضه منح الجامعة الدكتوراة الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية، أصدر وزير المعارف قراراً بنقله إلى منصب جديد فى وزارة المعارف، فرفض المنصب مما دفع بالحكومة إلى إحالته إلى التقاعد سنة 1932م. وعلى أثر ذلك عمل طه حسين فترة بالعمل الصحفى، ثم عاد إلى الجامعة سنة 1934م بصفة أستاذ للأدب، ثم عُين عميداً لكلية الآداب مرة أخرى سنة 1936م، لكنه إختلف مع حكومة محمد محمود فإستقال من العمادة وإنصرف إلى التدريس فى الكلية نفسها حتى سنة 1942م، حيث عُين مديراً لجامعة الإسكندرية، وظل فى منصبه حتى سنة 1952م. وفى سنة 1959م عاد طه حسين إلى الجامعة بصفة أستاذ غير متفرغ، كما عاد إلى الصحافة فتسلم رئاسة تحرير جريدة الجمهورية لفترة قصيرة، ثم إعتزل العمل العام وتفرغ للكتابة ولجهوده فى مجمع اللغة العربية، وذلك حتى وفاته سنة 1973م.
كتب طه حسين فى معظم الموضوعات الثقافية، وخاض كثيراً من المعارك الفكرية، كان أهمها الضجة التى أثارها كتابه( فى الشعر الجاهلى)، والذى أصدره سنة 1926م، وحاول أن يثبت فيه أن الشعر الجاهلى كُتب بعد الإسلام وليس قبله، كما تعرض فيه لقصة إبراهيم وإسماعيل فى القرآن وحاول نفى قصة هجرتهما إلى مكة وبنائهما الكعبة، مما دفع ببعض علماء الأزهر إلى تكفيره ومقاضاته، إلا أن المحكمة أسقطت التهمة لعدم ثبوت القصد الجنائى من موضوع الكتاب، وقد تراجع طه حسين أمام ذلك الهجوم الساحق الذى شنه عليه علماء الأزهر وأصحاب الإتجاهات المحافظة فى المجتمع، فعدل إسم كتابه إلى( فى الأدب الجاهلى) وحذف منه المقاطع التى أثارت الهجوم عليه.
أما كتابه الثانى الذى أثار ضجة كبرى فكان كتاب( مستقبل الثقافة فى مصر)، الذى أصدره سنة 1938م، وقال فيه( يجب أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاءً فى الحضارة ، خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، ومايحب منها وما يُكره ، ومايحمد ومايعاب)، وقد جلب عليه ذلك الكتاب أيضاً سخط المجتمع المحافظ، فصب عليه سيل من الإتهامات بالردة والزندقة والمسيحية واليهودية وكل أنواع الإتهامات. لكن كل ذلك لم ينل من قامته المديدة وقيمته العظيمة، فقد ظل طه حسين نجم عصره بلامنازع ، فى عجزه ، فى صبره ، فى ذكائه ، فى كفاحه ، فى نجاحه ، فى حبه ، فى تمرده على الماضى، ومعه وصل تاريخ الفكر المصرى الحديث إلى نهاية رحلة البحث عن الذات، التى بدأها رفاعة الطهطاوى فى بدايات القرن التاسع عشر، ووصلت العناصر التى تخلقت منها مصر الحديثة أقصى تفاعل لها - حملة بونابرت وماترتب عليها من نتائج، وتدفق الأوربيين على مصر وسفر طلبة البعثات إلى أوربا، وإنشاء قناة السويس وماترتب عليه من تعاظم أهمية موقع مصر فى النظام لدولى، وإنشاء مجلس شورى النواب ونشأة الصحافة المصرية، والإستعمار الإنجليزى لمصر وماترتب عليه من ربط مصر بالعالم الغربى، وسياسات أسرة محمد على الزراعية والتى أدت إلى ظهور طبقة الإقطاع المصرية، وإنشاء الجامعة المصرية وثورة 1919م، وبعث الروح القومية المصرية الحديثة ودستور 1923م، وأول تجربة نيابية فى تاريخ مصر، حتى إنشاء بنك مصر وتحول طبقة الإقطاع المصرية إلى الإستثمار الرأسمالى - ولم يعد يبقى سوى أن يتقدم الجيل الثالث من قادة الوفد بإزاحة ملكية أسرة محمد على، وتصفية نظام الإقطاع، كى تظهر مصر إلى الوجود أمة قومية ليبرالية، لتبدأ رحلة المدنية والتقدم مع شقيقاتها الأوربيات فى شمال المتوسط، لكن قوى الثورة المضادة كانت تعمل بقوة فقد تأسست جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928م، وأخذت تحاول الإبحار بالمجتمع المصرى إلى الماضى، وفى سنة 1948م وبعد حرب فلسطين مباشرة، تشكلت جماعة الضباط الأحرار، ونجحت بالفعل فى القيام بإنقلاب عسكرى فى يوليو سنة 1952م، إستولت به على السلطة فى مصر وطردت الملك فاروق آخر حكام أسرة محمد، وأخذت مصر إلى عالم جديد ورحلة جديدة فى التاريخ، إختلفت تماماً عن رحلتها فى عصر أسرة محمد على.
فمنذ البداية كان واضحاً أن جمال عبدالناصر قائد الإنقلاب، قد أخطأ فى رؤيته لتاريخ ومستقبل مصر، فقد حدد فى كتابه فلسفة الثورة، الذى نُشر سنة 1954م، ثلاث دوائر رئيسية فقط، يمكن أن تلعب مصر من خلالها دورها فى التاريخ، وهى الدائرة العربية والدائرة الإفريقية والدائرة الإسلامية، ناسياً أو متناسياً الدائرة المتوسطية الهامة. وبناء على ذلك التصور المغلوط للتاريخ والجغرافيا، سار جمال عبدالناصر فى الطريق الذى أدى إلى تراجع مصر الحضارى، بعد أن كانت على وشك أن تصبح إحدى دول العالم النامية فعلاً. وقد ساعدت الظروف الإقليمية والدولية جمال عبدالناصر أن يمضى فى طريقه إلى النهاية، ففى الشرق الأوسط قامت دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطينى سنة 1948م، مما سبب إستقطاباً قوياً لمشاعر شعوب المنطقة العربية القومية والدينية، والتى سهلت من جعل جمال عبدالناصر بطلاً للقومية العربية وصلاح الدين الجديد محرر فلسطين من الغرب الصليبى، كما ساعدت ظروف الحرب الباردة بين المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقى بقيادة الإتحاد السوفيتى، على أن يحتمى جمال عبدالناصر والنظام البوليسى الذى خلقه خلف المعسكر السوفيتى .
وفى سعيه المحموم للإنفراد بحكم مصر والسيطرة على العالم العربى، دمر جمال عبدالناصر عن غير وعى الدعامة الفكرية الأساسية التى قام عليها بناء مصر الحديثة، وهى القومية الليبرالية ، التى تفاعلت معها مصر من خلال الإنفتاح على ثقافة شمال المتوسط، فكما حددت حرب السويس علو نجم ناصر وتيار الناصرية فى العالم العربى، فقد بدأ معها أيضا تأميم الممتلكات الأجنبية، ورحيل الأجانب عن مصر. وبدأت مصر - وعن غير وعى - تخسر القوى الرأسمالية والبشرية الثمينة التى كانت قد تراكمت على أرضها أثناء العصر السابق. وفى نفس الوقت الذى بدأ فيه تصفية القدرات البشرية والرأسمالية المصرية، كان جمال عبدالناصر قد بدأ تصفية الديموقراطية والقومية المصرية أيضا، فقبل شهر واحد فقط من إعلان تأميم قناة السويس، كان قد أعلن دستوراً جمهورياً جديداً، أعلن فيه الإسلام عقيدة للدولة ومصر كجزء من الأمة العربية، وإستبدلت فيه الأحزاب السياسية بهيئة سياسية واحدة هى الإتحاد القومى، وهكذا وضع الأسس النظرية لإستيلائه الكامل على مصر ولتدخله المقبل فى العالم العربى، والذى إنتهى بكارثة 1967م ووفاته المبكرة سنة 1970م.
لم يكن جمال عبدالناصر أتاتورك تركيا، فبينما نجح أتاتورك فى إدراك مجرى التاريخ، وهجر الخلافة الإسلامية وتوجه ببلاده إلى الغرب وإلى البحر المتوسط، فقد فعل جمال عبدالناصر العكس، إذ عجز عن إدراك المجرى العام لتاريخ الحضارة الإنسانية، فقد كان إبن عصره، ولذا فقد وقع أسيراً لأوهام ذلك العصر فى الإشتراكية والعروبة، ولم يرى فى الغرب سوى إستعماريته، فهجره وعاد ببلاده إلى محيطها العربى والإسلامى القديم، فجردها بذلك من قوتها الصاعدة، وضرب قواعد نهضتها التى تأسست فى عصر أسرة محمد على.
خلف أنور السادات جمال عبدالناصر فى حكم مصر(1971-1981م)، وفى عهده تغيرت سياسة مصر الخارجية والداخلية تغيراً جذرياً، فقد تخلى أنور السادات عن زعم قيادة مصر للعرب، وبدأ يسلك طريقا منفرداً فى سبيل إستعادة الأرض التى فقدتها مصر فى حرب سنة 1967م، كما تبنى خيار الأسس العامة للنظام الليبرالى فى نمط التنمية، الذى يعتمد على دور القطاع الخاص، وكذلك كأسلوب للحكم الذى يعنى تعدد الأحزاب السياسية - ولو شكلياً فقط - فى شكل منابر سياسية لاقوة لها فى الواقع، لكن ذلك كان يعنى تقليص إرتباط مصر بدول المعسكر السوفيتى، والعودة إلى المعسكر الغربى مرة أخرى، كما كان الحال قبل ثورة يوليو 1952م. لكن إرتباط مصر بالدول الغربية لم يسفر عن إقامة علاقات متوازنة معها، فقد إهتمت القيادة المصرية بتوثيق علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، على وجه الخصوص، بسبب مشكلة الصراع العربى الإسرائيلى، وبسبب قناعة أنور السادات بأن الولايات المتحدة تملك معظم أوراق الضغط على إسرائيل، كما أثبتت ظروف حرب أكتوبر1973م، والدور الذى لعبته الولايات المتحدة فى إتفاقيتى فك الإشتباك الأول والثانى بين قوات مصروإسرائيل سنة 1974م، وسنة 1975م، وفى توقيع إتفاقيات كامب ديفيد بعد ذلك سنة 1978م.
وقد أدى ذلك إلى إرتباط مصر فى عهد السادات، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، بإستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، حيث أصبحت الولايات المتحدة أكبر مصدر للمساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر. لكن ذلك الإرتباط لم يكن يعنى الإغفال التام لدور الجماعة الأوربية والدول المتوسطية فى مساندة مصر سياسياً وإقتصادياً، لكن هذا الدور ظل فى إدراك أنور السادات هامشياً للغاية، وبذلك فإن الدائرة المتوسطية لم تحتل مكاناً مهماً فى سياسة مصر الخارجية فى عهد أنور السادات، تماماً كما كان الوضع فى عهد جمال عبدالناصر، مع فارق أن علاقات مصر مع الدول الغربية فى عهد جمال عبدالناصر قد إتسمت بالتوتر بشكل عام، بينما إتسمت تلك العلاقات فى عهد أنور السادات بالمودة بشكل عام، وذلك رغم تفضيله للتعاون مع الولايات المتحدة وحدها على حساب الدول الأوربية المتوسطية، وهذا التوجه الأخير- أى إلى الولايات لمتحدة وحدها - هو الذى يميز حقبة أنور السادات عن توجهات السياسة الخارجية المصرية قبل ثورة 1952م ، وذلك بالرغم من تبنى نمط الاقتصاد الليبرالى فى كلتا الحقبتين.
لكن عهد حسنى مبارك(1981-2011م)شهد تغييراً جذرياً فى توجهات مصر المتوسطية، ولايمكن الإدعاء أن ذلك التغيير قد أسفر عن نتائج إيجابية فى نهاية الأمر، ولكن المهم هنا هو إدراك القيادة المصرية لأهمية العلاقات المصرية المتوسطية، والتى ساعدت كثير من الظروف الإقليمية والدولية على إبراز أهميتها، ومن هذا المنطلق رحبت مصر بفكرة الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران الداعية إلى إنشاء منتدى المتوسط ( 1988-1989)، كما رحبت بدعوته إلى إحياء الحوار العربى الأوربى بهدف تدعيم العلاقات على مختلف الأصعدة بين الطرفين( 1989م)، كذلك أيدت مصر إقتراح إيطاليا وأسبانيا سنة 1989م بتأسيس مؤتمر للأمن والتعاون فى البحر المتوسط، على غرار مؤتمر الأمن والتعاون الأوربى (هلسنكى1975م).
وبعد حرب تحرير الكويت أخذت مصر زمام المبادرة فى إحياء فكرة الرئيس فرانسوا ميتران الداعية إلى إنشاء منتدى المتوسط، وقد جاء التعبير الرسمى عن الرؤية المصرية للتعاون فى حوض البحر المتوسط فى الخطاب الذى ألقاه الرئيس المصرى فى البرلمان الأوربى فى 20 نوفمبر 1991م، حين دعا إلى إنشاء منتدى للدول المشاطئة للبحر المتوسط من أجل وضع أسس للتعاون بين بلدان المنطقة، وصنع مستقبل مشترك بينها يسهم فى توسيع نطاق التفاهم وتحقيق الأمن والإستقرار فى المنطقة، وتقدمها الاقتصادى والإجتماعى. وقد عكست دعوة مصر إلى إنشاء منتدى المتوسط التحديات التى واجهت مصر من جراء أزمة الخليج الثانية، وتداعيات حرب تحرير الكويت، حيث عكست تلك الأزمة مدى وهم النظام الإقليمى العربى، لإنه بالرغم من إشتراك مصر بفاعلية فى حرب تحرير الكويت، فقد تم حرمانها من جنى ثمار تلك المشاركة. فعلى الصعيد الأمنى تم إستبعاد أى دور لها فى ضمان أمن الخليج فى المستقبل، حيث أن تلك الضمانة أصبحت منوطة بالولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد، وعلى الصعيد الاقتصادى وبالرغم من إسقاط الدول الخليجية لديون مصر لديها، فقد تقلصت القروض والإستثمارات الخليجية فى مصر بصفة عامة، كما حرمت مصر من المشاركة فى عملية إعادة إعمار الكويت، مقارنة بمشاركة الشركات الغربية( وبخاصة الشركات الأمريكية والبريطانية) فى تلك العملية. وماهو أهم من ذلك أن الدول الخليجية بدأت تعيد النظر- لإعتبارات أمنية واقتصادية - فى التركيبة النوعية للعمالة الوافدة إليها، لصالح العمالة الآسيوية على حساب العمالة العربية، ومنها العمالة المصرية بالطبع. وعلى ذلك فقد كان من بين أهداف توجه مصر إلى الدائرة المتوسطية، ودعوتها إلى دعم التعاون مع دول الجماعة الأوربية هو الإستعاضة جزئياً، عن تراجع الإسهامات المباشرة، وغير المباشرة لدول الخليج النفطية فى عملية التنمية الاقتصادية فى مصر، بدور أوربى أكثر فاعلية فى هذا الميدان، بما فيه إفساح المجال أمام العمالة المصرية، للعمل فى دول أوربا الغربية. وقد توجت الدعوة المصرية إلى منتدى المتوسط بعقد أول إجتماع وزارى لعشر دول متوسطية(عرفـت بمجموعة النواة)، بمعنى أن الباب ظل مفتوحا لإنضمام المزيد من الدول المتوسطية مستقبلا، فى الإسكندرية فى يوليو 1994م، أى بعد حوالى أربع سنوات من طرح المبادرة. وفى هذا الإجتماع تم تكوين ثلاث لجان فنية على مستوى الخبراء لبحث الجوانب العملية للتعاون، والخروج بتوصيات وهى اللجنة الثقافية واللجنة السياسية واللجنة الاقتصادية والاجتماعية، وقد عقدت هذه اللجان إجتماعات فى أكتوبر 1994م فى مدريد وروما والقاهرة على التوالى، وعرضت توصياتها على لجنة كبار المسئولين التى إجتمعت فى البرتغال فى ديسمبر 1994م، ومثلت هذه التوصيات أساس المشاورات فى الإجتماع التالى لوزراء خارجية دول المنتدى، الذى عقد فى سان مكسيم بفرنسا فى إبريل 1995م.
ولكن ديناميكية التحرك لإقامة منتدى البحر المتوسط فقدت كثيراً من فاعليتها، حيث تحول الإهتمام إلى الإجتماع الذى عقد فى برشلونة فى نوفمبر 1995م، والذى دعت إليه دول الإتحاد الأوربى بهدف العمل على إقامة مشاركة أوربية متوسطية. ومنذ ذلك التاريخ وبالرغم من أن منتدى المتوسط ظل قائماً جنب إلى جنب مع المشاركة الأوربية المتوسطية( وثيقة برشلونة)، يمكن القول بأن مصر قد قبلت بالإنتقال من صيغة المنتدى التى إقترحتها منذ عام 1991م، إلى صيغة المشاركة كما وردت فى وثيقة برشلونة. والواقع أن هذا التحول من صيغة إلى أخرى قد أملته مقتضيات السياسة العملية، فقد كانت صيغة المنتدى من قبيل التصور العام للتعاون ولاترقى إلى مستوى الإستراتيجية المحددة، كما كانت آلية التعاون فى إطار المنتدى هى الحوار والتشاور، ولاتؤدى بالضرورة إلى إبرام إتفاقات قانونية ملزمة حول السياسات المشتركة التى ينبغى تبنيها، أما صيغة المشاركة الأوربية المتوسطية( وثيقة برشلونة) فكانت برنامج عمل متكامل يتضمن عناصر كثيرة ومتباينة من حيث أهميتها النسبية، ولكنه يهدف فى نهاية المطاف إلى إبرام إتفاقات تعاون ملزمة للأطراف المتعاقدة.
ومع ذلك فلم يقدر لمسار برشلونة أن يستمر طويلاً بدوره، وذلك بسبب غياب الظروف الموضوعية لتحقيق الأهداف بل والأمانى المرجوة من هذه النسخة الثانية من نسخ الشراكة ألأورومتوسطية، فقد تقلصت فرص حلحلة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، والتى بدت ممكنة مع إتفاقيات أوسلو سنة 1993م، مما ممهد الأرضية لتصاعد موجات العنف والتطرف الدينى لدى شعوب جنوب المتوسط، والتى وصلت ذروتها فى أحداث سبتمبر 2001م، كذلك فقد كان لسقوط حائط برلين وإنضمام كثير من دول أوربا الشرقية إلى الإتحاد الأوربى سنة 2004م، دوراً كبيراً فى نقل الإهتمام الأوربى من جنوب أوربا إلى شرقها، لتأمين الإستقرار واالتنمية فى تلك الجبهة الأقرب أولاً، كما كان لتأخر حدوث أى إصلاحات ديموقراطية حقيقية فى دول جنوب المتوسط، وإختلاف منظومة القيم إختلافاً كبيراً بين الشمال والجنوب، أثره فى تعثر إقامة شراكة أورومتوسطية حقيقية.
ومع ذلك فقد ظل الجنوب حيوياً وهاماً للشمال، كما ظل الشمال حيوياً وهاماً للجنوب، بسبب إستمرار نفس الأخطار المهددة لكلا الجانبين، الفقر والإنفجار السكانى والهجرة غير الشرعية والتطرف الدينى الآتى من الجنوب والمهدد للشمال، وأيضاً إستمرار نفس المصالح المشتركة، مناطق التجارة الحرة والإستثمارات المشتركة، ولذا فقد كان لابد من ظهور نسخة ثالثة أكثر وضوحاً وتفصيلاً وطموحاً من نسختى الشراكة الأورومتوسطية السابقتين، وكانت فرنسا ورئيسها ساركوزى هى الرائد مرة أخرى، فبمجرد إعتلاء ساركوزى لكرسى الحكم فى فرنسا سنة 2007، أعلن عن رغبته فى إقامة إتحاد متوسطى تتحقق فيه الشراكة الكاملة على كافة الأصعدة بين دول شمال وجنوب المتوسط، ومن أجل تجنب التناقض بين أهداف ذلك الإتحاد الجديد وأهداف الإتحاد الأوربى، قررت كل دول الإتحاد الأوربى الإنضمام إلى مشروع إتحاد المتوسط المزمع إقامته، وبدا وكأن العالم يشهد إحياءً لعصر السلام الرومانى من جديد، ولكن ذلك الحلم قد ولد ميتاً بدوره، وذلك بسبب إستمرار ظروف الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وإستمرار حالة إرتياب مواطن جنوب المتوسط فى دول الشمال الإستعمارية المؤيدة لإسرائيل، وإستمرار إتخاذ بعض أنظمة الحكم فى جنوب المتوسط من ذلك الصراع ذريعة للسيطرة على شعوبها، وإبعادها عن التفاعل مع أى نظام إقليمى قد يفرض عليها إحداث بعض الإصلاحات الديمووقراطية، ولذا فلم يستطع الإتحاد سوى الإعلان عن وجوده فى مؤتمر باريس فى يوليو 2008م، وذلك فى جلسة وحيدة شهدها رؤساء 42 دولة من دول المتوسط والإتحاد الأوربى برئاسة فرنسا ومصر، جلسة لم تتكرر بعد ذلك أبداً.
ومع ذلك تبقى حقيقة أن تكامل هذه المنطقة الهامة من العالم هو أمر حيوى لايمكن التغاضى عنه أو تجاهله لفترات طويلة أخرى، فقد كانت هذه المنطقة هى مهد الحضارة الإنسانية ومنها إنطلق النور إلى العالم فى الماضى والحاضر، ومن المرجح أن يستمر ذلك فى المستقبل، ولذا فأن التكامل والتعاون بين دولها هو أمرحيوى لسلام وتقدم شعوب هذه المنطقة. ويمكن تحديد مجالات التعاون بين الدول المتوسطية فى محاور ثلاثة رئيسية، وهى المحور الأمنى والسياسى، ثم المحور الاقتصادى والاجتماعى، ثم المحور الثقافى. وعلى المحور الأمنى والسياسى نجد أن المنطقة تشهد مصادر تهديد تقليدية، تتمثل فى النزاعات السياسية ومايترتب عليها من سباق تسلح وإنتشار لأسلحة الدمار الشامل، وأكبر الأمثلة هى قضية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، والذى يعتبر - فى الواقع - أحد القضايا المتوسطية الرئيسية، وذلك رغم إحتكار الولايات المتحدة لعملية إدارته بالكامل تقريباً، وهناك أيضاً مشاكل أخرى أقل تفجراً مثل المشكلة القبرصية، ومشكلة الصحراء الغربية. لكن الواقع أن الأخطار غير التقليدية هى التى تشكل مصدر التهديد الأكبر لأمن وسلامة البحر المتوسط، وهى بالتالى التى تتطلب القدر الأكبر من التعاون والتنسيق بين حكومات وشعوب هذه المنطقة، وتتمثل هذه الأخطار فى إرتفاع موجات الهجرة غير الشرعية من جنوب وشرق المتوسط إلى شماله، بسبب ظروف الفقر والتخلف الاقتصادى والسياسى فى الجنوب، وكذلك وهذا هو الأهم والأخطر، إرتفاع موجات مد الأصولية الإسلامية وحركات العنف السياسى القادمة من الجنوب إلى الشمال، مما يمثل خطراً ليس على أمن وسلام الدول الأوربية فقط، ولكن على مستقبل دول المنطقة كلها وعلى سلام العالم كله. والواقع أن مواجهة مثل هذه التهدديات الخطيرة لايمكن القيام بها بشكل فردى، بل يجب تضافر جهود كل الدول المتوسطية فى مواجهتها بالطرق السلمية والعسكرية على السواء، وذلك عن طريق تشجيع الديموقراطية وتنشيط عملية التنمية الاقتصادية فى دول جنوب وشرق المتوسط بمساعدة دول الشمال، وكذلك من خلال إنشاء قوات ردع مشتركة للرد على أى تهديدات إرهابية محتملة فى المستقبل.
وبطبيعة الحال يعتبر المحور الاقتصادى الاجتماعى هو أهم محاور التكامل والتعاون بين دول المتوسط، ويرتبط الاقتصاد المصرى بدول الإتحاد الأوربى بعلاقات متعددة ومتشابكة على الصعيدين الرسمى وغير الرسمى، وذلك فى شكل إتفاقات بين الحكومة المصرية والأجهزة المسئولة عن إدارة الإتحاد الأوربى، إضافة إلى العلاقات الثنائية بين مصر والدول الأعضاء فى الإتحاد منفردة، وممثلاً أيضا فى نشاط شركات وأفراد من الجانبين فى مجالات عديدة، وتتضح أهمية تلك الإرتباطات فى العديد من المؤشرات الاقتصادية نخص بالذكر منها فى هذا المقام، مؤشر التبادل التجارى، ومؤشر الإستثمار الإنتاجى، ومردوداته التقنية فى تحديث وتنمية الاقتصاد المصرى.
وبالنسبة لتحرير التجارة، وإنشاء منطقة تجارة حرة بين دول المتوسط - ومنها مصر بالطبع- فإن ذلك سيؤدى على المدى البعيد - وبالضرورة - إلى إنشاء منطقة إزدهار مشترك، وذلك رغم عدم التوازن فى الميزان التجارى بين دول الشمال ودول الجنوب، إذ من شأن ذلك أن يزيد القدرات التنافسية للاقتصاد المصرى، حيث لايوجد أمامه بديلاً عن السوق الأوربية المتوسطية، التى تستحوذ على أكثر من 50% من إنتاجه التجارى تصديراً وإستيراداً، بينما مازال حجم نشاطه مع الأسواق الأخرى الآسيوية والعربية محدوداً للغاية. أما بالنسبة للإستثمار فى مجال الإنتاج، أو الإستثمار الإنتاجى، وأثره على تنمية وتحديث الإقتصاد المصرى، فإنه يحتل أهمية خاصة نظراً إلى الضعف الملحوظ فى قيمة الإستثمار المحلى، بالنسبة للناتج المحلى الإجمالى، وكذلك إلى التقدم التقنى الذى يجلبه الإستثمار الأجنبى معه، مما يدفع المشروعات الوطنية إلى الإهتمام بتحديث تقنية وإدارة مشروعاتها، كى تظل قادرة على المنافسة والبقاء فى السوق. إنه ومن المؤكد، وبسبب ضعف نصيب المنطقة العربية بشكل عام من نسبة الإستثمارات العالمية - بإستناء قطاع النفط - والتى لاتتعدى بين 1-2% من حجم الإستثمار العالمى، فإن إتفاقية تعاون وتكامل سياسى بين دول المتوسط من شأنها أن تزيد من هذه النسبة، وهو أمر هام وحيوى للغاية بالنسبة لتطويروتحديث الاقتصاد المصرى، إذ لاتوجد شعوب مجاورة متقدمة ذات تجارب وخبرات مشتركة مع دول العالم العربى، ومنها مصر، سوى الشعوب الأوربية التى يمكن لها أن تعود للعمل والإستثمار والإستقرار فى جنوب المتوسط مرة أخرى، كما كانت أثناء الحقبة الإستعمارية - مع إختلاف الظروف بالطبع - وذلك كما حدث مع تركيا وإسرائيل، اللتان حققتا كثيراً من نهضتهما الاقتصادية إعتماداً على الإستثمارات الأجنبية، حتى أصبحتا بدورهما من أكبر مصادر رأس المال والتكنولوجيا الصناعية المتقدمة.
ومن ناحية أخرى تعتبر دول شمال المتوسط من أكبر مصادر تقديم المعونات المالية والتقنية لمصر، بعد الولايات المتحدة الأمريكية والدول النفطية العربية، ومع ذلك فإن المعونات الأمركية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بموقف مصر من الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، ومن المقرر تخفيضها على المدى البعيد، كما ترتبط المعونات العربية أيضا بشراء مواقف مصر السياسية، وبتقلب أسعار النفط، ولذا فلايمكن الإعتماد على هذين المصدرين كمصدر دائم للمعونات المالية والتقنية، بينما يختلف الحال مع الدول الأوربية المتوسطية، التى تربطها بدول جنوب وشرق المتوسط بشكل عام - وبمصر بشكل خاص - مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية ثابتة وحقيقية، من شأنها أن تزيد بمرور الزمن لا أن تقل. وهكذا يمكن القول إجمالاً بأن العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول الإتحاد الأوربى تحتل مكانة شديدة الأهمية بالنسبة لمصر، حيث أن أوربا تحتل مكان الشريك الأول فى التجارة والسياحة، والمركز الثانى فى مجال الإستثمار( بعد الدول العربية مجتمعة)، والمركز الثالث فيما يتعلق بتقديم المعونات المالية(بعد الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية النفطية).
أما المحور الثقافى فهو لايقل أهمية عن المحورين السابقين، إذ لم يزد عنهما أهمية، حيث أنه من الطبيعى أن يترتب على التعاون بين مصر ودول المتوسط الشمالية المختلفة ثقافياً عن الجنوب، تنمية روح قبول الآخروالتعايش السلمى المفتقدة بشدة لدى الإنسان المصرى اليوم، هذا بالإضافة إلى التعرف على إيجابيات ثقافة الشعوب الأوربية المتقدمة فى الحرية والعدالة والمساواة، وإحترام حقوق الإنسان. ورغم أن الزمن يبدو أنه قد تجاوز فكرة إحياء وتأصيل ثقافة متوسطية مشتركة، التى تبناها كثير من كتاب ومفكرى القرن العشرين، مثل الفرنسيين، بول بالتا وإدجاز بيزانى، والمصريين، طه حسين، وحسين مؤنس، وسلامة موسى، وتوفيق الحكيم وغيرهم، إلى ثقافة إنسانية واحدة تشمل كل العالم ، فمع ذلك فإن التعاون الثقافى المتوسطى لن يقف بطبيعة الحال عقبة فى سبيل تحقيق هذه الأمنية الإنسانية الكبرى، بل إنه سيساهم فى الإسراع بتحقيقها. وأخيراً ، فإن أفضل مايمكن أن نختم به بحثنا المختصر هذا، هو أن نؤكد مرة أخرى، على أن وحدة دول وشعوب البحر المتوسط هو هدف جدير بالسعى إليه، وحلم يجب تحقيقه، مهما كانت العقبات!!!


أهم المراجع :

1-تاريخ مصر القديمة تأليف نيقولا جريمال ترجمة ماهر جويجاتى- دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع - القاهرة
2- مصر وعالم البحر المتوسط / إعداد وتقديم د. رؤوف عباس - دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع - القاهرة
3- اليونان - مقدمة فى التاريخ الحضارى - د. لطفى عبدالوهاب - دار النهضة العربية - بيروت
4- مصر من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربى/ د. مصطفى العبادى- دار النهضة العربية - بيروت
5- تاريخ مصر فى عصرى البطالمة والرومان/ دكتور أبو اليسر فرج - عين للدراسات والبحوث الإنسانية- القاهرة
6- تاريخ المغرب والأندلس/ د. السيد عبدالعزيز سالم - دار النهضة العربية - بيروت
7- مصر فى العصور الوسطى/ دكتور محمود محمد الحويرى - عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية-القاهرة
8- تاريخ الحروب الصليبية/ د. محمود سعيد عمران - دار النهضة العربية - بيروت
9- موسوعة الخطط/ المقريزى - دار الكتب العلمية - بيروت
10- موسوعة النجوم الزاهرة/ أبو المحاسن بن تغرى بردى - دار الكتب العلمية - بيروت
11- بونابرت فى مصر - تأليف هارولد كريستوفر - ترجمة / فؤاد أندراوس
الهيئة المصرية العامة للكتاب
12- موسوعة الرافعى فى تاريخ مصر الحديث
دار المعارف- القاهرة
13- تاريخ الفكر المصرى الحديث/د. لويس عوض
مكتبة مدبولى- القاهرة
14- تاريخ مصر الحديث والمعاصر/ د. عمرعبدالعزيز
دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية
15- الأجانب فى مصر/ د. محمود محمد سليمان
عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية- القاهرة
16- تاريخ الشرق الأوسط/ بيتر مانسفيلد
ترجمة/ عبدالجواد سيد عبدالجواد
مطبعة الفتح/توزيع منشأة المعارف/ الإسكندرية
17- مصر والدائرة المتوسطية/ دكتور بطرس سمعان.
دار الشروق- القاهرة
18- The Early Coptic Papacy- Stephen Davis.The American University in Cairo Press
19 The Midle East-Bernard Lewis - Phoenix Giant-London -



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فى ذكرى جيفارا المصرى، شهدى عطية الشافعى
- أقليات الشرق وخداع الحداثة
- الشرق الأوسط وصراع الحضارات
- مابعد الدين والقومية
- تاريخ الشرق الأوسط-تأليف بيتر مانسفيلد-ترجمة عبدالجواد سيد
- ملحمة جلجاميش وجذور الفكر الدينى
- مختصر تاريخ مصر فى العصور القديمة
- الحلف السعودى الإسرائيلى المصرى والشرق الأوسط الجديد
- ثورة المعرفة والصراع الطبقى
- المسيحية من الإستبداد ، إلى الإصلاح ، الى الثورة العلمانية
- أساطير العهد القديم وأصل الإسلام
- محمد والقبائل والرسالة المزعومة
- صلاح الدين بين السنة والشيعة
- أنور السادات وسيد قطب ودستور الإرهاب المصرى
- هيكل بين سيد قطب وطه حسين
- الميراث الإبراهيمى وأغلال المرأة


المزيد.....




- أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط ...
- -أمل جديد- لعلاج آثار التعرض للصدمات النفسية في الصغر
- شويغو يزور قاعدة فضائية ويعلن عزم موسكو إجراء 3 عمليات إطلاق ...
- الولايات المتحدة تدعو العراق إلى حماية القوات الأمريكية بعد ...
- ملك مصر السابق يعود لقصره في الإسكندرية!
- إعلام عبري: استقالة هاليفا قد تؤدي إلى استقالة رئيس الأركان ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة تبارك السرقة وتدو ...
- دعم عسكري أمريكي لأوكرانيا وإسرائيل.. تأجيج للحروب في العالم ...
- لم شمل 33 طفلا مع عائلاتهم في روسيا وأوكرانيا بوساطة قطرية
- الجيش الإسرائيلي ينشر مقطع فيديو يوثق غارات عنيفة على جنوب ل ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - مصر والبحر المتوسط