أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد هيهات - الإبداع الفني بين الآلهة والشياطين















المزيد.....

الإبداع الفني بين الآلهة والشياطين


أحمد هيهات

الحوار المتمدن-العدد: 5024 - 2015 / 12 / 25 - 00:04
المحور: الادب والفن
    


الإبداع الفني بين الآلهة والشياطين
تعزي نظرية الإلهام والوحي ميلاد الإبداع الفني إلى مصدر علوي يلقي فنه وأفكاره وتوجيهاته إلى الفنان المبدع المختار من بين آلاف البشر بوساطة الوحي والإلهام في ظروف تتراوح بين التلقي أثناء النوم أو في برزخ بين اليقظة والنوم أو من خلال صرع الفنان وصعقه وإفقاده وعيه أو تخليصه من عقله وإصابته بالجنون ، وذلك من أجل تحرير الإلهام من تدخل وتأثير العقل أو الوعي أو اللاشعور أو النفس أو المجتمع أو البيئة أو التاريخ ...
وقد لاحت البوادر والطلائع الأولى لهذه النظرية عند شاعر اليونان "العظيم" هوميروس إذ استهل ملحمته الشهيرة "الإلياذة" باستجداء ربّات الشعر أن تنعم عليه بالإلهام وتتعطّف عليه بمدّه بالعون المادي والمعنوي ، كما أقر "هيراقليطس" مسألة الإلهام من خلال تشبيه نفسه بالعرّافات اللواتي يصدرن في كلامهن عن الوحي والإلهام ، وفي الاتجاه نفسه يسير أفلاطون من خلال إرجاعه مصدر الفن والإبداع إلى الوحي المستمد من عالم مثالي مستعل عن الطبيعة ، ومن ثمة يكون الفنّان انسانا ملهما يستوحي فنه وإبداعه من ربّات الشعر ، فيغدو بذلك الفن ضربا من الوحي والمس والجنون الإلهي أو من قبيل الوجد الصوفي ، وعليه فإنه لا يحمل رسالة هذا الإلهام إلا أفراد ذوو حس شفاف مرهف مشبوب بالعاطفة والتعلق بالملكوت العلوي .
وقد أكدت الأفلاطونية الجديدة بزعامة أفلوطين النظرية السالفة الذكر حين أعلنت بدورها أن الفنّان المبدع موجود بشري غير عادي اختصته الآلهة بهبة الإبداع الفني ، وبالتالي أكدت هذه النظرية أن الفنّان وعمله الإبداعي إنما هو ثمرة ملكة سحرية تنتقي من الخاصة أحسنهم وأكملهم ولا تنحدر إلى مستنقع العامة من الناس لأن أرواحهم غير طاهرة ولا تصلح مكانا لتنزّل الجوهر الإلهي .
ولم يبتعد العرب القدامى كثيرا عن هذا المنحى عندما اعتقدوا في وقوف قوى خفية وراء الشعراء تمدهم بالعون وتلهمهم الأفكار ، وتتسنّم بهم ذرى النبوغ ، وقد اطمأنت نفوسهم وعقولهم إلى وجود شياطين الشعر الذين ارتبطوا بشعراء الجاهلية الفحول ، وذلك في إشارة صريحة إلى عجزهم عن تفسير عملية الإبداع الشعري عموما ،وعجزهم عن ربطها بالآلهة التي تملأ بيوتهم الخاصة والمقدسة ونواديهم العامة وأسواقهم العامرة ، لعدم اقتناعهم بفاعلية هذه التماثيل وضعف قوتها أو انعدامها ومحدودية قدرتها على الفعل والتأثير ، وأنهم قد اتخذوها في الغالب واسطة تقربهم من الله زلفى، فاستسلموا كغيرهم من الأمم والشعوب لتفسيرات ومعتقدات "أسطورية" تم تجسيدها في قوى علوية متعالية أو كائنات خرافية تتجاوز قدراتها طاقة وإدراك البشر العاديين الذين لم يكن في وسعهم إلا الاستجابة لتوجيهات هذه القوى وتقريراتها وإملاءاتها.
وقد أوغلوا في تصديق هذا الاعتقاد وأكدوا " أن مع كل فحل من الشعراء شيطانا يقول ذلك الفحل الشعر على لسانه "1 ، فجعلوا بذلك لكل شاعر من الفحول شيطانا يلهمه الشعر ويكفيه مشقة التفكير والمعاناة ومغالبة اللغة والمعاني من أجل توليد الأفكار ، فهذا أبو النجم – أحد شعراء الجاهلية – يفتخر بجنس شيطانه الذي يتميز عن باقي الشياطين الذين ينتمون إلى دائرة المؤنث قائلا:
إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر2
مما يعني أن الشعر ينبع- في عمومه- من مصدر أنثوي بصيغة المؤنث كما هو الحال عند اليونان الذين استمطروا شآبيبب فيضه من ربات الشعر- الوحي ، فسرّ فحولة هؤلاء الشعراء شيطانات وبعض شياطين الشعر وإليهم يرجع الفضل في انسياب هذه الأشعار المتميزة على ألسنتهم ، وقد وردت - في التراث العربي – أسماء العديد منهم "أما لافظ فصاحب امرئ القيس ، وأما هبيد فصاحب عبيد بن الأبرص وبشر ، وأما هاذر فصاحب زياد الذبياني "3 .
نستفيد مما سبق أن الإبداع الأدبي عند العرب القدماء (الجاهليين) قد كان بمثابة فعل خارق متجاوز للعادي والمألوف ، يقوم به الشاعر – المبدع بتفويض وتحريض من قوى ميتافيزيقية تمكن هذا الانسان المتميز من إنتاج كلام يتسامى بمراحل عن المعتاد والمعروف من الكلام .
وقد استمر سحر وتأثير نظرية الإلهام والوحي - التي أقام بنيانها سقراط وأفلاطون - ليشمل العصر الحديث الذي عرف ظهور الحركة الرومانسية ،والتي نظرت بدورها إلى الفنان باعتباره انسانا ملهما يتمتع بحس رقيق مرهف ،وحدس لمّاع وبصيرة حادة وإدراك نفّاذ ، ومزاج ملائكي – شيطاني لا يشبه أمزجة العامة ، فنظروا - من خلال ذلك - إلى الابداع وصوّروه بصورة الإلهام المفاجئ أو الانجذاب الديني أو الوجد الصوفي ، فلامارتين مثلا يقول " إني لا أفكر على الإطلاق وإنما أفكاري هي التي تفكر لي " كما أثر عن الشاعر الانجليزي كولردج " أنه كان يكتب أشعاره أثناء نومه كما لو كان مسحورا " .
تؤكد طبيعة الإبداع الإلهية أو الشيطانية أن ميزة الإبداع هي الأصالة ، وأن الفنان موجود ميتافيزيقي هبط إلى الأرض من السماء ليشيع فيها النور والسلام وعبق الطهر وأنه ينسج فنه ويحيكه على غير مثال سابق ، وأن إبداعه متعال عن تدخل المجتمع والتاريخ ،ومنفلت من عقال نواميس الطبيعة وحدود الزمان والمكان ، وبالتالي فإنه من شأن فن هذه صفاته أن يستعصي عن التفسير والتقولب والتصنيف .
ومن الملاحظات التي يمكن إبداؤها تجاه الإلهام - ذلك الشعور أو الرغبة أو الرهبة التي تقع في القلب ويطمئن أو ينشرح أو ينقبض لها الصدر وتتحفّز لها الحواس ويتّقد لها الفكر - وربط ذلك بمصادر فوق-طبيعية أن الإبداع يصطبغ بسمة القداسة والتعالي عن البشرية التي تنزع إلى الانحدار ، وتغييب إرادة الانسان – المبدع وحريته في اختيار الابداع وطبيعته و إلغاء إمكانية رفض المبدع للأمر بالإبداع مهما كان متعارضا مع قناعاته وتوجهاته ، ومنه إقصاء تدخل وتأثير العوامل الذاتية والموضوعية المرتبطة بالظروف والسياقات المحيطة بالإنسان المبدع من عقل ولاوعي ونفس ومجتمع وبيئة وتاريخ.
ومن شأن الإبداع العلوي المنزّل أن يغدو منزّها عن المساءلة والمراجعة والنقد ما دام مصدره منزّها عن كل ذلك ،لأنه يمثل لحظة للتأمل والاستمتاع بصورة من العالم المثالي المستعلي الذي يسعى الانسان إلى محاكاته ، وحتّى إن عكس الإبداع الفني لوثات من المس والجنون والاضطراب الذهني والاختلال النفسي فإن مصدرها العلوي الخارق يضفي عليها مسحة من الجلال والعظمة المتأتية من النّفس الإلهي والنفحات القدسية .
كما أن النظر إلى الإبداع من هذه الزاوية سيحيل المبدع إلى إنسان غير عادي ،لنه انسان مصطفى ومختار ليكون وعاء لنورانية الوحي الفني ومنصة بشرية للتبشير بالفيض والرحمة الإلهيين وإذاعتهما بين بني البشر ، ومن ثمة تيئيس الناس من السعي إلى امتلاك ناصية الإبداع وتطوير ملكاته مادامت الآلهة أو الشياطين هي التي تجتبي المبدعين فتلحقهم بالأنبياء والرسل والعرّافين وتشرّفهم بحمل رسالتها والاضطلاع بدور الوساطة بين العالم العلوي المقدّس والعالم السفلي المدنس.
__________________________________________________________
1- الجاحظ ، كتاب الحيوان ،ط2،ص 225 .
2- المرجع السابق ص 229 .
3- أبو زيد القرشي ، جمهرة أشعار العرب ، ص43 .
أحمد هيهات



#أحمد_هيهات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فائدة الإبداع بين أفلاطون وأرسطو
- نظرات في فكر الكواكبي
- عودة المجاهد -الارهابي- محمد بن عبد الكريم الخطابي
- مظاهر الاحتفال بعاشوراء : محاولة في فهم وتفسير أصولها
- النظام العلوي الأسدي من الشروق إلى المغيب
- مأساة الحج بين الموقف الإنساني والتوظيف السياسي
- التعليم المغربي في غرفة العمليات من جديد
- أريد أن أصوت ولكن .. حلفت ألا أبيع الدين بالتين
- الانتخابات المغربية : لا جديد يذكر
- لماذا ضحّى السيسي بالنائب العام ؟
- الحكام العرب وفتنة المال
- هل ينهي الإعدام أسطورة الإخوان المسلمين ؟
- التّسْفيه عنوان جديد للعنف السياسي
- النكتة السياسية :غضب منضبط أم تطبيع مع لاستبداد؟ (22/)
- النكتة السياسية :غضب منضبط أم تطبيع مع لاستبداد؟ (1)
- لماذا ينتخب المغاربة العزوف والمقاطعة ؟
- جائحة إيبولا تجرف -الكان-
- -شارلي-: الإساءة بين الحماقة والإحسان
- عام الحزن 2014
- هل يحكم -الاسلاميون- في المغرب


المزيد.....




- أكشاك بيع الصحف زيّنت الشوارع لعقود وقد تختفي أمام الصحافة ا ...
- الكويت.. تاريخ حضاري عريق كشفته حفريات علم الآثار في العقود ...
- “نزلها لعيالك هيزقططوا” .. تردد قناة وناسة 2024 لمتابعة الأغ ...
- تونس.. مهرجان الحصان البربري بتالة يعود بعد توقف دام 19 عاما ...
- مصر.. القضاء يحدد موعد الاستئناف في قضية فنانة سورية شهيرة ب ...
- المغربية اليافعة نوار أكنيس تصدر روايتها الاولى -أحاسيس ملتب ...
- هنيدي ومنى زكي وتامر حسني وأحمد عز.. نجوم أفلام صيف 2024
- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...
- فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد هيهات - الإبداع الفني بين الآلهة والشياطين