أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي النص الكامل















المزيد.....



أبو بكر الآشي النص الكامل


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4975 - 2015 / 11 / 4 - 12:31
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (19)


د. أفنان القاسم


أبو بكر الآشي
وارث الحب الخالد

ABOU BAKR DE CADIX
L’héritier de l’amour éternel


رواية



إلى أومبرتو إيكو

القسم الأول





































الفصل الأول

في إحدى مطالعاتي عن تاريخ الأندلس وأدبها وثقافتها، لفت انتباهي ما غاب عن أذهان المختصين في هذه الميادين، وذلك عندما قرأت "أن المسيحيين الإسبان الذين كانوا يعيشون بين العرب، والذين عرفوا فيما بعد بالمستعربين (Mozarabes)، كانوا يؤثرون استعمال لغة العرب وأسمائهم وأزيائهم، وقد بلغ بهؤلاء المستعربين الأمر حتى نسيان لغتهم، فنظموا من الشعر العربي ما يفوق شعر العرب أنفسهم في الفن والجمال". من اللازم أن أؤكد ما سبق بشهادة للأسقف ألفارو القرطبي في القرن التاسع الذي يشكو مما يجده إخوانه في الدين من لَذة كبرى في قراءة أشعار العرب وحكاياتهم وفي دراسة مذاهب المسلمين وفلاسفتهم لا ليردوا عليها وينقضوها وإنما ليكتسبوا منها أسلوبًا عربيًا جميلاً قويمًا. وبعد أن يطلق آهات الحسرة يقول: "إن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها ويؤمنون بها ويقبلون عليها بنهم. ينفقون أموالاً طائلة في جمع كتبها، ويصرخون في كل مكان أن هذه الآداب جديرة بالإعجاب. وإذا حدثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك بازدراء أنها غير أهل بلفت انتباههم إليها. واهًا وألف واه! لقد نسي النصارى حتى لغتهم، فلا تكاد تجد بين الألف منهم واحدًا يستطيع أن يكتب إلى صاحب له كتابًا سليمًا من الخطأ، أما عن الكتابة بلغة العرب، فإنك واجد فيهم عددًا عظيمًا يجيدونها بأسلوب منمق...".
الغريب في الأمر أن هذا "العدد العظيم" من المستعربين الذين يتقنون قرض خفايا الصدور باللغة العربية يناقض ما يقوله المختصون بخصوص بعض الجهابذة من المسلمين الذين وصلتنا أشعارهم، فالظاهرة عامة، تكاد تكون مع مرور السنين طبيعية لدى هؤلاء المولعين بلغة تمثل بالنسبة لهم حضارة جديدة أثبتوا أنهم قادرون على استيعابها والتفوق فيها.
ولكن أين ذهبت أشعارهم وباقي إنتاجاتهم الأدبية، غير تلك المنتقاة، التي جمعها كُتاب ارتبطوا ببلاط الأمراء، أي ما لا تسمح به "الرقابة" بلغة عصرنا، أين ذهبت؟ عذبني السؤال، خاصة عندما نعلم أن من بين الإسبان المستعربين من أسلم، وأطلق عليهم العرب اسم المولدين (Muladies) الذين تقول عنهم الكتب مضيفةً: "وقد شكل هؤلاء المسلمون المستجدون طبقة اجتماعية خاصة من أكثر طبقات الشعب انتفاضًا على الحكومة القائمة... ولم يأت آخر القرن الأول بعد الفتح حتى أصبح المولدون –أو المسلمون الجدد- أكثرية السكان في كثير من المدن، وكانوا أول من حمل السلاح، وأعلن الثورة على النظام الجديد". أعلن الثورة على "الغزاة"، ثورة غذتها معتقدات دينية ضد-إسلامية: "مدنسة" للواحد "مقدسة" للآخر، ولكن مقموعة بضراوة، معاقبة بشراسة، في الواقع، وفي التمثيل الأدبي.

لهذا السبب نفهم غياب أدبهم المتمرد، المحتج، الناقم على الأوضاع القائمة، شأن كل أدب معارض، وفي كل أدب أيّةً كانت هويته، ومهما كانت عراقته، فقد مُنع في أوائل عهود الإسلام ما كان يدعى بالشعر الماجن في الجاهلية، وعانى بعد ذلك شعراءُ التجديد الشيء الكثير، وعلى مر العصور كلُّ من كان يُتَّهم بالزندقة. هذا النوع الأخير من الأدب، في الشعر على الخصوص، جعلني أفكر في وجود شعر "مدنس" في الأندلس حتمًا من إنتاج المستعربين عامة والمولدين خاصة، لأن بعضهم ظلَّ يبطن النصرانية رغم اعتناقهم الإسلام، أي أنهم مارسوا "الكفر" خفية أو علانية، إلى جانب أنهم كانوا قادرين على نظم الشعر كالعرب، وربما أفضل منهم. بعد انتزاع صبغته الدينية، وبعد إطلاق العِنان للأهواء، يبقى الشعر المعارض أقرب إلى طبيعة المتمرد أيّةً كانت أصوله. ونحن إن سلمنا بتواضع هذه الأصول، عندما كان ينظر المسلمون العرب إلى المولدين على أنهم من طبقة دنيا، أي جاهلة، طبقة فلاحين مستعبدين للعمل في الأرض وعبيد معتقين وقفوا أنفسهم على الحراثة أو الأعمال اليدوية، إلا أن من بين هؤلاء كان أناس يتحدرون من عائلات عريقة النسب، أبناؤها قادرون على قرض الشعر المدنس الذي أفترض وجوده بكل بلاغة وكل شجاعة.

* * *

كانت جامعة مدريد حيث أعمل أستاذًا للغة العربية وآدابها قد أغلقت في الصيف أبوابها، ومنذ حوالي شهر، وأنا أعمل في مكتبة الإيسكوريال، مع طالب لامع لي اسمه آميديه، بحثًا عن هذا الشعر الذي أدعوه بالمدنس، في محيط مؤلف من آلاف المخطوطات التي قام فيليب الثاني وخلفاؤه بجمعها من مخازن الكتب العربية بعد انتهاء السلطة الإسلامية في إسبانيا. وحدث –كما يقال- في أوائل القرن السابع عشر، عن الشريف زيدان، الذي غدا سلطان مراكش فيما بعد، حين هرب من عاصمته الأندلسية، أنه أرسل كتب مخزنه في سفينة، ولكن الربان أبى أن يوصل الكتب إلى الميناء المقصود لأنه لم يعطَ أجرته سلفًا، واتجه بسفينته نحو مارسيليا، فوقعت في أيدي بعض قراصنة البحر الإسبانيين، ومنهم انتقلت هذه الكتب إلى غيرهم، فغيرهم، فغيرهم، وأخيرًا إلى فيليب الثالث، فأمر بإيداعها في مكتبة الإيسكوريال. وبهذا، أصبحت المكتبة من أغنى المكتبات بالمخطوطات العربية، الشيء الذي لن يسهّل لي الأمور، إذ تعددت المخطوطات في أصولها: من المغرب أم من إسبانيا؟ وفي أنواعها: في الشعر أم في النثر؟ وهل تلك التي من المغرب نسخت في إسبانيا وتلك التي من إسبانيا نسخت في المغرب أم في مصر أم في الشام؟ خاصة أن المؤلف لم يكن معروفًا، هذا ما أسعى إليه، أن أجد مؤلفين غير معروفين، أو تآليف شعبية لا تنتمي إلى أحد.
عزمت إذن على قضاء العطلة الصيفية بين صفحات الماضي المصفرة المغبرة واحتمال الحرارة الشديدة لسلسلة جبال وادي الرامة، هناك حيث يقع قصر ودير الإيسكوريال شمالي-غربي مدريد، على أن يكون ذلك على الشواطئ الجنوبية مع زوجتي وبناتي الثلاث اللاتي تركنني لشغلي الشاغل دون أن يشأن. لكنهن كن يقدّرن قيمة هذا المشروع عندي، ويعرفن أنه إذا ما تحقق افتراضي تحققت بادرة أدبية لا سابق لها، وكذلك حال المنافع التي سأجنيها من هذا الاكتشاف، والتي فيها فوائد مادية لنا كلنا.
في الدير، استأجرت غرفة لي وأخرى لآميديه، كسبًا للوقت، فلا نضيعه في التنقل بين الإيسكوريال ومدريد. عندما علم الراهب دومينيك، المسؤول عن المكتبة، بضخامة العمل الذي أزمع القيام به، تركني أعمل وطالبي في الليل إلى الساعة التي أشاء، حتى أنه استعد لإعانتي في قراءة ما أجده جديرًا بالقراءة بعد فحصي للفهارس، إذ كان يتقن اللغة العربية كأحسن مستشرق، رغم أنه لم يتجاوز الثلاثين من العمر. شَعَرَ بما سبب لي ذلك من استغراب، فقال دون أن يقصد المزاح إنه يتحدر من عائلة أندلسية مستعربة، لكنه ما لبث أن أوضح، وهو يمسح بيده على برنس الصوف الذي يرتديه (ومن هنا جاءت الصوفية اسم مصدر للمذهب المعروف) أن رجال الدين المسيحيين اليوم لا يكتفون بقراءة الشروح اللاتينية التي كُتبت على الأناجيل المقدسة كما كان يحصل في الماضي تاركين لباقي الشعب تعلم العربية، لقد ترك الناس العربية إلى الأبد، أما رجال الدين، وقد انعكست الآية، فهم الذين يلمون بها تمام الإلمام، من أجل جدارة شِعر العرب حقًا وجماله.
وهكذا، تحت سقف مرسوم بريشة الإيطالي بيلليغرينو تيبالدي، كنا ثلاثتنا نعمل ليل نهار على المخطوطات التي تكدست الرفوف بها، وكان للماضي الذي يفوح منها رائحة غريبة خانقة لم نلبث أن اعتدنا عليها، واعتدنا على نسخ الكلمات فيها، وإن كان النسخ يختلف من خطاط إلى آخر اختلاف الطرق في التعبير عما يجيش في صدر كل واحد من تذوق للجمال حين كان رسم الطبيعة أو تمثيل الكائنات الحية ميدانًا محرمًا على الفنان، كيلا ينافس الخالق في خلقه أو يعلو عليه، ويؤدي به ذلك إلى الإلحاد. هل حصل الأمر ذاته لِما أبحث عنه من شعر مدنس فأُحرق أو دُمر؟ وفيما يخص الخط، التعبير الوحيد المسموح للفنان آنذاك، تحضرني هنا قصة الوزير الخطاط الشهير ابن مقلة، الذي أمر الخليفة الراضي بقطع يمناه، فلم يمنعه ذلك من إجادة الخط بيسراه، فقطعوا يسراه، فراح يشد القلم على ساعده، ويكتب بها، فالنسخ كل ما تبقى للفنان. ومع مضي الأيام، أصبح النسخ مبتذلاً، فقلد الخطاطون بعضهم، ولم تبق سوى بعض الخطوط المعروفة.
نعم، كنا في البداية هيابين أمام كل هذه الكتب المزينة المذهبة المجلدة، وعلى الخصوص أمام ضخامة كل مخطوط، ثم بعد ذلك أمام قيمته الأدبية، إلى أن بدأت هذه القيمة تتحدد بالنسبة للموضوع الذي لم يكن يتعدى ما هو معروف في الأدب الأندلسي من مدح وغزل. وعلى الرغم من الجهد الجبار الذي بذلناه في فحص الكثير من المخطوطات إلا أن منها لم يزل العديد من الرفوف، فلم أقطع الأمل، وقلت لا بد من علامة تدل على ما أسعى إليه، وبقيت أحلم بوجود الأدب المدنس –تحت كل معانيه الدينية والدنيوية- في مكان ما من الإيسكوريال، هو بمثابة السرة في الجسد.


الفصل الثاني

لم يكن بحثي أمرًا سهلاً على الرغم من يد العون التي يقدمها آميديه لي والراهب دومينيك، فالأيام تتلاحق، والمخطوطات لم تزل كثيرة، حدائق معلقة من المخطوطات، والخطوط، خطوط لا تعد ولا تحصى، أكبر من المسافة بين الأرض والقمر، إلى أن فاجأني آميديه ذات يوم بإحضار راهبة سمينة قصيرة اسمها زارا، قال إنها إحدى قريباته، التقاها صدفة في الدير، وهي مستعدة لمعاونتي في البحث عن الشعر المدنس خلال أوقات راحتها. لم يرض ذلك الراهب دومينيك، لا أدري لماذا، اغتاظ، وتساءل كيف سيكون عمل الأخت زارا، وهي تجهل اللغة العربية، فقالت إنها تعرف منها ما يكفي لفك كلمات العناوين وقراءتها، فازداد غيظًا، وتذرع باستئذان الأم العليا، وبمشاورة الأم العليا للأب الأعلى، الكاردينال ريفيرا، بوصفه مدير الدير، وصرفها.
لم أول الأمر أدنى اهتمام، وهذا ما بدا لي بالنسبة لآميديه. وبالمقابل، بدا الراهب دومينيك قلقًا، لاحظت أصابعه كيف كانت ترتعش، وهي تقلب صفحات هذا المخطوط أو ذاك، ولم يستطع إخفاء حالته العصبية. انسحب عند هبوط الليل، وكذلك فعل آميديه، متذرعًا بصداع يحول دون بقائه.
داومت، وحدي، على الغوص في بحور الصفحات العريضة المديدة حتى منتصف الليل، وكان آخر ما تصفحت مخطوطًا مغربيًا يحتوي على قصائد لابن سهل في الغزل، جرى تقديمها كالتالي: "ها هو شعر إبراهيم بن سهل، الإسرائيلي، شاعر اشبيلية، أظهر الإسلام، ولم يكن يخلو من قدح واتهام، وكان يجيب، إذا سئل عن إسلامه: للناس ما ظهر ولله ما استتر."
أخذت أقرأ أهم قصائده، وأنا أتمنى أن أجد هذا الذي استتر بين الأبيات التي مطلعها:

سل في الظلام أخاكَ البدرَ عن سهري
تدري النجوم كما يدري الورى خبري

فلم أجد شيئًا.
كانت علاقتي بالنجوم واهية، كما أن البعد الغزلي في القصيدة كان ساذجًا لم يشدني إليه، وكان الشعور بالتعب قد أخذ مني مأخذًا، فنهضت، وأنا أتثاءب. أطفأت ضوء المكتبة، وأغلقت بابها الضخم. بخطى واسعة، عبرت رواقًا بأقواس مرفوعة على أعمدة إلى غرفتي. وأنا أمر أمام غرفة آميديه، وصلتني أطرافٌ من حديثٍ خفيضِ الصوت بينه وبين امرأة يأتي من الباب المنفرج، والذي يخرج منه شعاع ضوء أصفر.
- الوثائق التي تبحث عنها، يا دون آميديه، غير موجودة، صدقني، وقد طُوي الماضي طي السجل، قالت زارا التي عرفت صوتها.
- الماضي لن يُطوى أبدًا، أجاب آميديه، وأقوى دليل على ذلك رد فعل الأخ دومينيك هذا الصباح. ألهذا السبب رفض أن تقومي بمعونة الأستاذ؟ لأنه يعرف ما يخفى من أسرار...
وأغلق آميديه الباب، فلم أستطع متابعة كلامه مع الراهبة زارا.
دخلت غرفتي، وأنا مشغول البال، متفاجئ بما سمعت، فلم أكن لأرتاب يومًا في آميديه، وفي غاية وجوده معي كمعاون. كنت في مدريد قد حدثته حول مشروع البحث عن الشعر المدنس، فأقرني، وشجعني، وأبدى كل استعداد لمساعدتي، لكنه كان يخفي هدفه الأساسي، ألا وهو الوقوع على بعض الوثائق السرية المندثرة في مكتبة الإيسكوريال، ولا بد أن هذه الوثائق من الخطورة الشيء الكثير، وإلا لم الادعاء بإعانتي في البحث عن مادة أدبية، وهذا هو الظاهر فحسب، بينما في الباطن هدفه كان الوصول إلى تلك الوثائق التي ربما كان الراهب دومينيك يبحث عنها هو أيضًا، وإلا لم حال دون مشاركة الأخت زارا في حمل بعض العبء عني؟ من المحتمل أنه كان يرمي إلى إبعادها عن طريقه، فلا تزعجه. والحالة هذه، لماذا لم يفعل الراهب دومينيك ما يفعل قبل وصولنا؟ ألأن آميديه على معرفة بأسرار هذه المخطوطات هو وحده دون غيره؟ ومتى يجد آميديه الوقت لفحصها، وأنا أسحقه طوال الوقت تحت وِزْرِ القصائد أو الفصول التي أختارها في فهارس المخطوطات؟
وبينا أنا أتعارك مع تساؤلاتي، سمعت باب آميديه ينفتح، وخطوات تبتعد في الرواق هي حتمًا خطوات زارا، ولم يلبث آميديه أن خرج، وسار في الاتجاه المضاد، وأنا أتبعه عن كثب. غادر الدير، وقطع الحديقة، باتجاه القصر، والقصر يبدو منعزلاً عن العالم، دون عابر أو حارس. غاب من ناحية القصر الأخرى لبعض الوقت، ثم عاد إلى الدير بسرعة، ومنه استعار طريق المكتبة. فتح بابها بحذر شديد، وأغلقه بهدوء كبير.
تركت آميديه يغرق في العالم السري للحرم الثقافي القديم، وعدت إلى القصر. كانت الأضواء الصفراء تنفذ من النوافذ الواطئة للطابق التحت الأرضي، فاقتربت من إحداها، ونظرت منها. رأيت مجموعة من الرهبان، وهم يتناقشون من حول مائدة مستديرة، ميزت بينهم الراهب دومينيك الذي بقي جالسًا إلى جانب الأب الأعلى، في اللحظة التي انصرف فيها كل من كان معهما. حاولت فتح النافذة، فذهبت كل محاولاتي سدى، ولم أستطع سماع ما يجري بينهما من كلام. كان الغضب يعلو جبين الأب الأعلى، فقذف الراهب دومينيك بنفسه على قدميه، وقبلهما، ثم نهض بارتباك كبير، وغادر القاعة القهقرى.
عدت إلى غرفتي، وأنا شديد الحيرة. كان هدفي من المجيء إلى الإيسكوريال واضحًا وضوح الشمس في وضح النهار، ولو كان سعيي سعي الضائع في الصحراء نحو سراب، فإذا بي أجدني مجروفًا في خضم من الخبايا والأسرار التي لا يعرف كنهها أحد.
فجأة، سمعت طرقات خفيفة على باب آميديه، ثم على بابي، فقمت أفتحه بسرعة، وأنا أنقل كتاب الكوندي لوكانور El Conde Lucanor لأبدي رباطة جأش زائفة. كان الراهب دومينيك. اعتذر، في بداءة الأمر، عن إزعاجي في ساعة جِدّ متأخرة، ثم أوضح أنه كان يود أن يقول لطالبي ما سيقوله لي، لكنه على ما يبدو ينام نومًا عميقًا. أكدت ذلك، وأنا أعلم علم اليقين أن آميديه ليس في غرفته بل في المكتبة، حتى أنني بررت ذلك بالإرهاق الذي أنا من ورائه. عندئذ، قال الراهب دومينيك:
- الحقيقة أنني كلمت الأب الأعلى، الكاردينال ريفيرا، بخصوص معاونة الأخت زارا، بروفسور، ونيافته لا يرى أي مانع في ذلك، بل على العكس، طلب مني أن أسهل الأمر عليك أكثر ما أستطيع عليه، وأن أطلب من أخت ثانية درست العربية في جامعة مدريد حيث تُعَلِّم، اسمها كلارا، أن تنضم إلى الفريق تحت إدارتك، فَهَمُّ الأب الأعلى الوحيد توفير كل أسباب النجاح لك في بحثك، وهو يتمنى لك حظًا طيبًا، وأن يسدد الله خطاك.
أدهشني سماع كل هذا الحماس من طرف الأب الأعلى حول أدب يناقض كل التعاليم الكنسية، لكني شكرته، وأنا غير قادر على أن أخلع من رأسي أن هناك شيئًا غريبًا يجري من حولي، فهل أصبحت لقمة سائغة لبعض المتزاحمين على شيء أجهله؟ عندما لاحظ الراهب دومينيك كتاب لوكانور بيدي، أكد بتواضع أنه مستوحى من ألف ليلة وليلة. تمنى لي ليلة سعيدة، وذهب، بَيْدَ أني بقيت ساهرًا أنتظر عودة آميديه قبل أن أغرق في النوم.













الفصل الثالث

نهضت في ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي، والأفكار غامضة في رأسي. أمام باب آميديه، ترددت في طرق الباب، وأنا أفكر في تركه ينام، فمن المحتمل أنه قضى معظم الليل في المكتبة. كان ميلي إلى المخاطرة لا يعني أنني سأركب الأهوال والأخطار معه، لكني كنت عازمًا على مكاشفته بكل ما اكتشفت من نشاطاته الليلية.
في الكافيتيريا، رِواق المبشرين بالإنجيل قديمًا، طلبت من راهبة المشرب فنجانَ قهوةٍ كبيرًا. أتاني راهب شاب، كان يجلس وراء الصندوق، بصحن كبير من الفطائر باللوز والخبز بالشوكولاطة، وأوضح لي بكلمات خافتة، لا تُسمع أو يكاد، أنها تعليمات نيافة الكاردينال ريفيرا. أتتني الراهبة بفنجان إكسبرس كبير يتصاعد منه خيط من الإبهام، وهي تبتسم، ورفضت أن أدفع مقابله شيئًا: كل طلباتي ومعاوني بما فيها الوجبتان الأساسيتان على حسابهم طوال مدة إقامتنا في الإيسكوريال.
حملت فنجان القهوة وفطيرة باللوز، وأنا أفكر في أسباب كل هذا الكرم المفاجئ، إلى طاولة قرب نافذة تطل على باحة الدير. رأيت بعض الرهبان الجالسين في ظلال بعض الأعمدة، وبعض الزوار المتأملي طنافس الطين المحروق، طنافس ناعمة تتنافر مع أسلوب بناء الدير الكلاسيكي الصارم لبوتيستا دوتوليدو، المهندس الأول للقصر. كانت لمسات المهندس الإيطالي جيامباتيستا كوستيللو واضحة، فلربما كان بوتيستا دوتوليدو متأثرًا بأسلوب النهضة الفلورنسي. ضج الدير بالنور الباهر، فطلب زوجان شابان من أحد الرهبان أن يأخذ لهما صورة قرب تمثال من البرنز حفره النحاتان ليونيه وبومبيو ليوني.
في اللحظة التي أردت فيها مغادرة الكافيتيريا، تبسمت الراهبة الشابة عن لؤلؤ والراهب الشاب، فغبطتهما على هذا الجو النادر لدى الطوائف الدينية الأخرى. ربوت برأسي لما في رأسي، وأنا أؤيد قيام أفراد القسمين الذكوري والأنثوي بأعمال مشتركة غير الصلاة والعبادة، وهذه إشارة، إشارة على إشارة، إلى اعتدال الكاردينال ريفيرا، أساسية، كانت ستغيب عني، وكل همي البحث في الفهارس القديمة، بعد كل ما أبداه من اهتمام بالشعر المدنس. ولأخفف من بلبلة أفكار الليلة الأخيرة، فكرت أن الأب الأعلى ربما يرمي من وراء كرمه نحوي وحسن معاملتي وتسهيل أموري لغاية رد الاعتبار إلى ذاكرة الكنيسة في عهد التفتيش، وإبراز وجه من وجوهها ظل مغيبًا، فالوقوع على مثل هذا الأدب الغاضب "الكافر" أو حتى الفاحش، سيثبت أنه كان في عهدِ التفتيشِ مِنَ القُضَاةِ المُقَدِّرُ مِنَ الكُتَّابِ ما تغلُبُ على كتابتهم القِيمة الأدبية أيًا كان الموضوع المعالج، وأن هذا العهد اليوم قد انتهى إلى الأبد مع كل هذا الانفتاح في النظام الرهباني.
لم يستقم لهذه الخلاصة أساس عندما وجدت آميديه في المكتبة: من وراء كل هذا اللطف وكل ذاك الكرم يحاول الكاردينال ريفيرا الوقوف على شيء لا يعرفه أحد إلا آميديه.
ومن ناحيته، يلعب آميديه لعبة الكاردينال، فالسهر حتى الصباح لم يمنعه من الحضور على الساعة المعتادة. كان يتطلع إلى المستقبل، ربما إلى ما فوق ذلك، وعندما صارحته بما اكتشفت ليلة أمس، نفى كل شيء.
كنا نقف إلى جانبٍ وحدنا لا يسمعنا أحد من قليل الرواد الذين ينكبون على كتبهم أو مخطوطاتهم، وكنا على الخصوص بعيدين عن الأخ دومينيك، قرب باب داخلي دغدغ فضولي للمرة الأولى منذ بدئي العمل في هذه المكتبة العريقة. أخذت أداعب بأصابعي خشبه المحفور، وأنا أقول لنفسي إن في الأمر لغزًا يواصل آميديه إخفاءه عني. تفاجأ الراهب دومينيك بسلوكي، فاقترب مني بسرعة، ودعاني إلى الابتعاد عن الباب:
- لا تقترب من هذا الباب، بروفسور! إنه محظور على الجميع!
وأنا على وشك سؤاله عن سبب الحظر، إذا بالراهبة زارا وبراهبة أخرى، جميلة جدًا، تخترقان قاعة المطالعة، وتتقدمان باتجاهنا. خف الأخ دومينيك إلى استقبالهما، وجاء بهما إليّ:
- أنت تعرف الأخت زارا، وهذه هي الأخت كلارا التي حدثتك عنها، بروفسور!
التفت إلى آميديه قبل أن يضيف:
- السنيور آميديه على علم بالأمر، أخبرته بكل شيء هذا الصباح.
سلمت علينا، أنا وآميديه، الراهبة زارا أولاً، وهي ترمي الراهب دومينيك بنظرة متحدية، وتبتسم ابتسامة متغطرسة. وبالمقابل، سلمت علينا الراهبة كلارا بخجل، وهي تسبل جفنيها، أو تزيح عينيها بعيدًا، كلما تلاقتا بعينيّ، وخاصة بعيني آميديه. سألتها إن كانت فعلاً طالبة في قسم اللغة العربية في جامعة مدريد، فأكدت ذلك، وأضافت أنها تعرفني بالاسم، وأسفت لأني لم أكن أستاذها.
تدخلت الراهبة زارا، وهي تنظر مباشرة في عيني الأخ دومينيك:
- إن الأم العليا تسمح لنا بالتفرغ تمامًا لعمل الأستاذ.
لم يقل الأخ دومينيك شيئًا، وبقي آميديه صامتًا.
قلت:
- هذه لفتة جميلة لا تزعجني.
أحسست أن شيئًا غير طبيعي يجري بين الأخت زارا والأخ دومينيك من ناحية وبين الأخت كلارا وآميديه من ناحية، ولأتحاشى كل سوء فهم، طلبت من الجميع القيام بالعمل.
أخذ آميديه يشرح للراهبتين طريقتي التي يجدر بهما أن تتبعاها، وهو يبتسم خاصة للجميلة كلارا، ابتسامة عاشقة لا تخدع عينًا، إلا أنه نسي نذور الدين نذورها. هي أيضًا كانت تبتسم له، ولكن بخجل، وهي تسبل جفنيها. أراني الراهب دومينيك مخطوطًا لابن هانئ، أمير شعراء الأندلس، الذي اتهم بالكفر لأخذه بمذاهب الفلاسفة، ولتجرده عن الدين، ولمغالاته. تصفحت المخطوط، فوجدت بعض المدائح التي يُصَدَّرُ أكثرها بالغزل، ووجدت بعض المراثي، ولا شيء عن الشعر المدنس، فتساءل الأخ دومينيك عن سبب ذلك، وحاول الإجابة:
- ربما لنقمة المتزمتين من دينه عليه، فدمروا الفاحش من أشعاره.
- أو ربما لموقف المعارضين للملك، صاحب نعمته، وأنا أفترض أن هذا الأخير، كي يفلت من غضبهم، هو من دمر أشعار ابن هانئ المدنسة بعد أن أشار عليه بالتغيب عن اشبيلية لينساه الناس، ولتكون فاجعة موته دون أن يعلم أحد إذا ما كان موته عَرَضًا أم غَرَضًا.
عدت أنظر إلى آميديه وكلارا بعين المدنس، وهما يمارسان الاغتيال على طريقتهما، فتلاشت الحدود بين الغَرَض والعَرَض في فاجعة ابن هانئ. كانت لكل منا فاجعته الخاصة، وَتَسَلُّقُنَا لشجر التفاح شرطنا إلى شبق الموت ولّذة العدم. رأيتهما، وهما يقطفان التفاح، ويرشقان الوجود. وفي مملكة الروح مدينةٌ من الأفكار المجردة من الفضيلة، على ضفافها أطفالٌ لا أب لهم ولا أم، وغير بعيد هناك مومساتٌ يتقنَّ الصلاة، ورائحة المني كرائحة الشواء ألذ رائحة. لم أكن أعرف لماذا ابتسمتُ لابتسامتهما، ولماذا كل هذا المقدس، وأنا أراهما في جهنم يتعانقان عاريين.
مضى الوقت بسرعة، ولم يكن أي منا يشعر بالتعب، ونحن ننتقل، مع أمل الإثم، أو، الأمل بالإثم، من مخطوط إلى مخطوط، ومن مرآة إلى مرآة، ومن هاجس إلى هاجس، لكني سمحت لكل معاونيّ بألا يعودوا إلى المكتبة بعد العشاء، تحت حجة أنه اليوم الأول لعمل الأختين زارا وكلارا، وهما على التأكيد مرهقتان، وكذلك نحن، أنا وآميديه والأخ دومينيك، بعد أسابيع من الجهد المتواصل. كانت غايتي، بالطبع، أن أعطي آميديه فرصة للعودة وحده إلى المكتبة، فأضبطه في حالة تلبس بالجريمة.
ككل مساء، اجتمع الرهبان والراهبات للصلاة في الكنيسة وسط لوحات زورباران ودوتيتيان وديغريغو وغيرهم من مشاهير الرسامين، وغدت الباحة فضاءً رحبًا لقطط الدير السوداء. فتح آميديه باب غرفته بحذر، وكما فتحه أغلقه، وراح يقطع الأروقة الداخلية ثم الخارجية بخطوات سريعة إلى المكتبة التي دخلها دون أن يغلق بابها. أحس، إذن، باقتفائي أثره، وأراد أن أجد نفسي وإياه ليعترف بكل شيء. ترددت في الدخول، لحظةً، وأنا أقف بين دفتي الباب الضخم. أردت العودة من حيث أتيت تاركًا لآميديه حرية فعل ما يشاء طالما أن ذلك لا يعيق عملي، إلا أن حركة مباغتة في الممر جعلتني أعجل في اختراق صمت القاعة المعتمة. درت في أرجائها بحثًا عن آميديه، كمن نكث عهدًا. فجأة، خطر على بالي أنه غادرها من الباب الداخلي إلى جهة أجهلها، فحاولت فتحه دون نجاح، كان موصدًا من كل النواحي ثقيلاً لا يتزحزح: ترك آميديه الباب الرئيسي عن عمد مفتوحًا كي يتسلل منه، فلا يقع في يدي. عدت أدراجي، حائرًا، كعبارة مقتضبة، تحت شراع حيرتي. فتحت غرفة آميديه، فلم يكن موجودًا. دخلت غرفتي، واستلقيت بكامل ثيابي، وأنا أراقب عودته، فانتهى بي الأمر إلى النوم لا أدري كيف، ولم أصح إلا في الغد، حوالي الساعة الثامنة.




























الفصل الرابع

في الليلة التالية، عدت إلى المكتبة بعد أن غادرتها تحت سمع الجميع وبصرهم، وكمنت لآميديه في الظلام بين رفوف الكتب، منتظرًا بين لحظة وأخرى مجيئه. امتزجت أنفاسي بأنفاسها، وغدونا جسدًا واحدًا من الكلمات والصور التي تعانق تاريخ الإنسان، وكأن آلاف السنين من الخيال ليست سوى لحظة انتظار طويلة لا تنفد، إلا أنني كنت أنتظر آميديه، كان موعدًا ضربناه دون اتفاق، وبقيت هكذا دون حراك إلى أن وشوشني اليأس قائلاً إنه لن يأتي، فعزمت على اللجوء إلى غرفتي عندما وصلت أسماعي خطوات متسارعة.
انفتح الباب، ثم انغلق. عجل شبح في الذهاب إلى زاوية من زوايا القاعة، فأشعلت الضوء، لأكتشف الأخت كلارا. كتمت صيحة خلف يدها، فحضوري كان مفاجأة لها. طلبت منها تفسيرًا، فتلعثمت كالسر الشائع:
- سقط صليبي في مكان ما هنا، وأنت تعلم جيدًا، بروفسور، مدى أهمية أن أحمله عند إقامة شعائرنا الصباحية، وإلا عاقبتني الأم العليا أشد عقاب.
- لا، ليس هذا هو سبب إزعاجك لنفسك، يا أخت كلارا.
ارتبكت كشيطان الشعر، وراحت تبحث تحت الطاولة حيث كانت تعمل:
- انظر، ها هو، لقد وجدته!
أرتني الصليب بأصابع مرتعشة، ولتمنعني من التفكير في أنها هي التي رمت الصليب عن عمد، عجلت في الاستئذان:
- عمت مساء، بروفسور!
وغادرت المكتبة بخطوات متعثرة.
لم أنتظر آميديه أكثر مما انتظرت، وأنا أفكر فيما دفع الراهبة كلارا إلى العودة إلى المكتبة، دون أن أصل إلى جواب. بقي شغلها غامضًا... والحال أن آميديه امتنع عن العودة إلى قاعة المطالعة، كما كان يفعل كل الليالي السابقة، جعلني أتخيل عدة فرضيات: هل يخشى من أن يجد نفسه وجهًا لوجه معي، أم أنه الآن في مكان آخر من هذا البناء الضخم، وهو يراقب اجتماعًا رهبانيًا في الطابق التحت الأرضي؟ اتجهت إليه آليًا، كما لو كانت كل هذه الأسرار والألغاز توجب علي التصرف بهذه الطريقة، وتبرر لوجودي في الإيسكوريال.
كان الليل قائظًا، وكل شيء ساكنًا في الحديقة، الأشجار لا تتحرك، النجوم لا تنير، وصرار الليل يحجم عن الصرير. رأيت الأغصان، وهي تتباعد من الناحية المقابلة للحديقة، وظهر لي آميديه، فجأة، فضي اللون، عملاق الظل. كان يبعد بيديه الأغصان المدلاة حتى الأرض، ويفتح طريقًا باتجاهي. هذا على الأقل ما ظننته في البداية، إذ ما لبث أن راح يغذ الخطى باتجاه مدينة الأموات، تلك المقبرة الملكية المحاذية للإيسكوريال، فخبأت نفسي بين شجيرات الياسمين الأسود، تحت قبة سماوية ليلكية مرصعة بالحروف العربية. كانت الحروف العربية كالأحجار الكريمة، وهي لهذا راحت تتلألأ بجرأة العقود التي تحب صدور النساء، وعبرت عن غربة غريبة عن اللغة: الفسق ما هو إلا صفةٌ للجمال، والدنس ما هو إلا جوهرٌ للكلام.
تبعت آميديه بين القبور، ومررت أمام كوخ حفاريها. كانوا ثلاثة من مشوهي الخلقة، حليقي الجمجمة، يعبون النبيذ، ويقهقهون، ولم يكونوا سكارى تمامًا. خرج أحدهم فاحصًا الظلام في الاتجاه الذي أخذه آميديه، لكنه ما لبث أن عاد إلى كأسه: حقًا يحق التساؤل عن القليل مما هو في هذا السلوك! استغللت فرصة انغماسهم في اللهو، ورحت أجري صوب الباب الواطئ لدهليز تحت أرضي دخل منه آميديه. انتظرت عدة دقائق قبل أن أضع قدمي في الدهليز، وآخذ طريقي إلى الوقوف على سره. كان كل شيء من حولي لا يبعث على الراحة، وأخذت أجراس الكنيسة تقرع، فاختلج قلبي. قررت أخيرًا أن أدفع باب الدهليز، واندفعت دون أن أبالي بشيء.
لم ألبث أن توقفت بخشية وحذر على عتبة باب آخر، يتسلل منه ضوء أصفر. دخلت بثبات وَرِباطة جأش، لأجد نفسي وسط أهرامات من مئات الكتب والمخطوطات، و، هناك، من زاوية يضيئها شمعدان، وصلني صوت آميديه:
- أهذه أنت، يا زارا؟ لماذا تأخرت كثيرًا؟
عندما غادر آميديه زاويته ليتأكد إذا ما كانت القادمة بالفعل زارا، كاد ينصعق على مرآي، وأنا أنبثق على بعد خطوتين منه.
- أعتقد أن عليك أن تقول لي كل شيء الآن، ألقيت باتجاهه.
أجلسني حيث كان يجلس قرب مدفئة قديمة في جدار، وأشار بإصبعه إلى ملف كبير من الوثائق المصفرة الشبه البالية:
- أنا أبحث فيها عن اتفاق تم في عهد قديم قبل الريكونكيستا بكثير.
لم أفهم أي اتفاق يقصد، فأشار إلى أهرامات الكتب والمخطوطات والرفوف الملأى بها، وقال لأتواطأ معه، وربما ليحتوي غضبًا كان يتوقعه:
- هذه المخطوطات وهذه الكتب تهمك حتمًا، بروفسور، فنحن في الحجرة المحرمة، وهنا كان يرمي جلاوزة التفتيش بنسخة من كل كتاب يحظرون مطالعته، هذا الفهرس يؤكد ذلك.
سحب من رف على علو رأسه مجلدًا أسود ضخمًا، ووضعه أمامي، قبل أن يفتحه مضيفًا:
- لم أعلم بهذا الفهرس الهام إلا مؤخرًا، وكان ذلك محض صدفة.
ألقيت نظرة خاطفة على الفهرس، وقمت. ذهبت مباشرة باتجاه الباب الداخلي الموصد الفاصل بين المكتبة وهذا المكان الذي دعاه آميديه "بالحجرة المحرمة"، فتابع صوته من ورائي:
- الراهب دومينيك يعرف أن ما تبحث عنه من أدب مدنس ربما كان موجودًا هنا، ومع ذلك أخفاه عنك بسبب وجود كل الوثائق الرسمية للبلد هنا كذلك، والتي بعضها أهميته كبيرة جدًا، فالإيسكوريال، في الواقع، مركز لدراسة أفضل الطرق من الرد على الحركات الإصلاحية، وذلك منذ أيام فيليب الثاني في القرن السادس عشر، إلى يومنا هذا، ولقمع حركات الاستقلال التي ستجتاح ذات يوم كل شعوب إسبانيا، على شاكلة ما يجري في بلاد البشكنش، بلاد الباسك.
- هل أنت باسك، يا آميديه؟
- لا، بروفسور، أنا من أرخذونة، أردني الأصل، واسمي الحقيقي أحمد.
- ماذا؟
- جاء أهل الأردن من بين أول من جاء إلى أرخذونة، واستقروا فيها، مثلما جاء أهل فلسطين إلى شذونة من بين أول من جاء، وعرب حمص إلى اشبيلية، شرح آميديه بلباقة. بعد الريكونكيستا، كنا مضطرين إلى التنصر، خوفًا من التدمير أو التهجير، فأظهرنا غير ما أبطنا، وبقينا نحفظ العروبة والإسلام في صدورنا أبًا عن جد إلى اليوم الذي سنستعيد فيه حريتنا واستقلالنا.
حيرني كلام آميديه حيرة القمر من أمحق وجوهه، فلم أتخيل أن طالبًا لامعًا مثله في الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين قد فعلت السياسة فيه إلى هذا الحد فعلها.
- لقد مهرت وعدًا بدمي، أن أعيد مجد أجدادي، وأن أنتقم لموتاي!
لم أفه بكلمة واحدة، كنت من الذهول أنظر إليه دون أن أحيد النظر عنه، ومنه إلى كل هذا الماضي الذي ظننته قد مات، فإذا به يمور في سواد عيني "أحمد" الكبيرتين.
- لهذا السبب بالذات تجدني هنا، بروفسور، ومعذرة إليك، فما تبحث عنه من شعر لا يهمني لا من بعيد ولا من قريب، لم يكن ذلك سوى غطاء، لسببين، أحدهما لا يقل أهمية عن الآخر. الأول: معرفة ما يحاك ضد حركة استقلال الباسك. الثاني: استرداد معاهدة وقعتها مقاطعة الرية التي كانت عاصمتها أرخذونة، زمن محمد الأول، عام 873، أقر لها فيها بالاستقلال لأول مرة، أو أية وثيقة أخرى تتعلق بهذه المعاهدة. سنحاول، عن طريق هذه الوثائق، الحصول على استقلالنا سلميًا، أما لو فشلنا، فرفاقنا الباسك، سيتكفلون بتعليمنا خير طرق المقاومة والقتال حتى النصر. لهذا تجدني أخاطر بحياتي من أجل تقديم هذه الخدمة لهم، ولكن عما قريب سيكون عملنا المشترك حاسمًا.
سمعنا وقع أقدام خلفنا، فنهض آميديه، وهو يقول بالعربية إنها "زهرة"، وبالفعل، كانت زارا التي تفاجأت قليلاً بحضوري.
- لقد اعترفت للأستاذ بكل شيء، قال آميديه، لأنه أولاً أستاذي، ثم لأنه شخص يوثق به.
قالت زارا:
- دون آميديه يضيع وقته، بروفسور، في البحث عن وثائق لا طائل من الوقوع عليها.
أوضح آميديه:
- زهرة مع الكفاح المسلح، وهي لا ترى أية فائدة من الحوار معهم.
- معهم؟
- الإسبان.
علقت زارا:
- سنفعل تمامًا كما فعلوا أيام الدولة الإسلامية، أظهروا إسلامهم، وأبطنوا نصرانيتهم، ودارت الأيام إلى أن سنحت لهم الفرصة في قلب الأوضاع، فقاموا بالثورات، أولئك هم أنفسهم المولدون والمستعربون الذين تبحث عن شعرهم المدنس، بروفسور! ولكن، أين شعرنا نحن ضد الريكونكيستا ومحاكم التفتيش وملوك قشتالة؟ تساءلت بِحُمَيًّا. هذا هو الشعر الجدير باهتمامك، بروفسور! شعرنا الثوري، شعرنا الشعبي، شعرنا المقدس، والذي لن تجد منه إلا الفتات لضراوة الردع الذي كابدناه.
قلت:
- من العادي جدًا ألا أجد من هذا الشعر شيئًا أو يكاد لهول الحملة التفتيشية التي كانت ضد كل ما هو "مورسكي": لغة، أدب، عادات، تقاليد، قصور، مساجد، ولم تبق من الآثار غير تلك التي استطاعت الصمود بصعوبة أمام همجية الإنسان ومخالب الزمان! لذلك، أنا لن أبحث عن هذا الأدب هنا، سأجده ربما في مكتبات المغرب القديمة، أما هنا، في هذه الحجرة المحرمة على الخصوص، فسأجد، هذا إن وجدت، نتفًا من الأدب المكتوب ضد نظامنا الإسلامي، فكل الأنظمة الظالمة واحدة، وهي تخشى كل شيء، حتى ردود الفعل التي تمسسها مباشرة، حتى ولو لم تكن هي المقصودة. هذا يعني أن معاناتنا كلنا، نحن المضطهدين، تبقى واحدة.
ابتسم آميديه لاستعمالي صيغة الجمع، فصاح بحماس:
- كنت واثقًا من أنك ستتفهم موقفنا بسرعة، بروفسور!
ابتسمت بدوري:
- لا تتسرع، يا آميديه، لم أقل إنني معكم، حقًا أنا أفهم معاناتكم، ولكني ضد سياسة الانسلاخ التي مورست في الماضي. أنتم كلكم إسبانيون اليوم، وبإمكانكم، إذا ما اتحدتم، أن تعيدوا لهذا البلد كل أمجاده الغابرة، وأن تجعلوا منكم أمة عظيمة.
رفضت زارا رفضًا قاطعًا:
- لهذا البلد وجهان، وسيبقى هكذا إلى الأبد! يكفي أن تنظر إليّ: أنا الراهبة زارا تحت الحجاب، والمناضلة زهرة الكاشفة شعرها لكل العالم!
ونثرت شعرها الأسود الطويل.
خفت عليها فجأة، وأنا أتذكر دخول الأخت كلارا سرًا إلى المكتبة تحت ذريعة ضياع صليبها.
- حذار، يا زهرة، نبهتها، الأخت كلارا تراقبك، تراقب كليكما، لقد ضبتُها متلبسة هذه الليلة في المكتبة.
التفت آميديه إلى زارا والشرر يتطاير من عينيه:
- ألم أقل لك؟ هذه الفتاة جاسوسة!
- كلهم جواسيس هنا، ألقت زارا، من الأب الأعلى ريفيرا إلى الأخ الأدنى دومينيك! يرتدون مسبح الرهبان، بينا هم في الحقيقة ليسوا إلا عملاء لمركز المخابرات.
قلت لزارا:
- يجب ألا يشكّوا فيك، وإلا، إذا كانوا حقًا مخابرات، كما تقولين، فسيلحقون بك أذى كبيرًا.
طمأنني آميديه:
- لغاية الآن هم لا يشكون في شيء. منذ عدة أيام، ونحن نعمل في الحجرة المحرمة على أساس أننا في المكتبة، والأمور تجري بشكل عادي.
- ورد فعل الأخت كلارا، كيف تفسره؟
تدخلت زارا:
- اتركوني أهتم بأمرها.
قال آميديه:
- بل أنا من سيهتم بأمرها، وسأحسن الاهتمام.
وهو يبتسم ابتسامة جعلتني أتذكر قوافل الهالكين على أعتاب الجحيم لأجل جمالها النادر في الوسط الرهباني، ولأجل أنوثتها المتفجرة تحت سواد الأردية الثقيلة، فلم أمتنع عن قول:
- أما إذا ما أحسسنا بأدنى خطر، أوقفنا كل شيء، وعدنا إلى مدريد.
ومرة أخرى، ابتسم آميديه لصيغة الجمع التي استعملتها:
- لا تخف، بروفسور، كل شيء من حولنا هادئ، ونحن من الحذر الشيء الكثير.
- كل شيء لغاية الآن، وهذا ما يحيرني.
- الأهم بالنسبة إليهم ألا نخترق مركز دراساتهم الواقع في الطابق التحت الأرضي للقصر، وهم، حتى ولو اكتشفوا وجودنا هنا، فسيغضون النظر عنه مؤقتًا، لأنهم يعرفون تمامًا فحوى كل هذه الأعمال "المحرمة" التي لا تشكل أي خطر مباشر لهم. إنهم واثقون جدًا بأنفسهم، ومع ذلك، يجهلون أن لكل قلعة فجوة كما لكل جواد كبوة! كل واحد يمكنه الخطأ، بروفسور، وهؤلاء ليسوا ممن لا يُقهرون!
























الفصل الخامس

تقلبت كثيرًا في فراشي، وأنا أفكر في مشروع آميديه المجنون. لم أكن بالطبع موافقًا على ما يرمي إليه الشاب الأردني الأصل. شخصيًا، أنا مع محو الحدود، مع نظام كوني، مع عدالة وعولمة بوجه إنساني. وعلى العكس، هو مع إقامة حدود أخرى، مع نظام تقسيمي، مع عدالة حسب القياس، مع تمييز ذي طابع عنصري. خفت عليه من سوء العاقبة، لكني، في الأخير، قلت، فلأدعه يحلم بالوقوع على هذه الوثائق، كما أحلم بالوقوع على الأدب المدنس.
فجأة، خطر على بالي أن وثائق مثل هذه موجودة في الأردن، الوطن الأم، وأن من مسؤولية هذا البلد، فيما لو تطور الوضع، العمل على أن يستمع آميديه ومن هم معه لنداء العقل، وأن ينصحهم بالاتحاد، فيتحاشى إهراق الدماء. عزمت على إقناع آميديه برأيي، فأحول دون تورطه في مأزق الباسك، و"إرهابهم" الذي لن يجدي أي نفع، بل على العكس، سيشوه صورة قضيته. أما إذا رفض الاتصال بالأردن، لانعدام الثقة أو لغرور الشباب، طلبت منه التنسيق مع أهل فلسطين شذونة، بروح المصالحة دومًا، وبوصفي من فلسطين، البلد الأصل، بإمكاني اقتراح وساطتي.
في اليوم التالي، لاحظت أن اهتمام آميديه بالمخطوطات قد تحول إلى اهتمام بالأخت كلارا، فكلما جاءت عينا كلارا في عينيه، كانت تسبل جفنيها، أو تزيحهما بعيدًا، وهي تبتسم له ابتسامة غريبة، وهي، لهذا، كانت تثير جنسيًا. لم تكن أفكاري الدنسة، هناك شيء قذر في ابتسامتها، فجوري، منحرف، مؤقت، عابر، موهن للعزم. حاول الأخ دومينيك فصلهما دون أن يفلح، فآميديه كان يبقى دومًا قربها، وزارا قرب دومينيك. كانت تحركه بمهارة لإبعاده عنهما، وبدلاً من متابعة فحصي للصفحات القديمة، جعلت من نفسي مراقبًا متيقظًا للوجوه المحيطة بي. كان كل هؤلاء الأشخاص يتنافسون على شيء أعرفه في الوقت الحاضر، وأشارك فيه رغم إرادتي. وفوق ذلك، كل هذه المخطوطات والكتب لم تعد تفيدني في تقصيّ، وتقصيّ لم يكن في هذه، وإنما في تلك الموجودة في الحجرة المحرمة التي لم يكن يمكنني اختراقها إلا في الليل، هناك حيث الحظ ربما سيكون بانتظاري، فأبلغ هدفي. كنت إذن أضيع وقتي هنا، متظاهرًا، كما كان يتظاهر آميديه، بالبحث عن شيء مستحيل، بانتظار سقوط الليل، فأسارع بالذهاب إلى حيث تجثم أهرامات الفراعنة الملعونين، في الجهة الأخرى من ذلك الباب المصفح والأصم والموصد إلى الأبد.
كنت أول من حل في الحجرة المحرمة حال حلول الليل، أشعلت الشمعدان، وأخذت أفحص على ضوئه الشاحب مخطوطًا أول، فثانيًا، فثالثًا. كانت كلها ضد نظام الموحدين في مراكش، وبعد بعض التفكير، تأكد لي أن نظام التفتيش قد حرمها خوفًا من أن يقلدها المدجنون، أولئك الذين أبقوا، في البداية، على إسلامهم، حتى أنني لم أتردد عن القول لنفسي إن نظام التفتيش هذا قد أنهى إلى الأبد ما دعوته "الأدب المدنس" الذي أنتجه الإسبان المولدون، للسبب ذاته، خوفًا من الحبك على منواله، وإن جرى شيء من هذا في عهد الريكونكيستا، فقد لاقى المصير ذاته.
ذبرت من الكتب أكثر مما يجب، وعملت منها أهرامًا أمام فوهة المدفأة. نظرت إلى ساعتي، وقد تأخر آميديه، كما أن زارا لم تحضر بعد، وعدت أعمل، على الرغم من كل شيء، متأملاً في الوقوع على مقتطفات من الشعر المدنس أو أخيه، في عهدين متباعدين متشابهين، على شيء موجود عن خطأ أو عن سهو، خاصة وأن عطلتي الصيفية لم تنتصف بعد، فالوقت لم يزل طويلاً أمامي، كما أن آميديه لم يحصل على ما يسعى إليه من وثائق، وقد ارتبط مصير بحثي ببحثه.
أخيرًا وصل آميديه، وهو يبتسم ابتسامة غريبة شبيهة بتلك التي لاحظتها على شفتي الأخت كلارا هذا الصباح. أعلمني أنه آت لتوه من عندها، وأن كل شيء يسير...
قاطعته هاتفًا:
- أنت آت لتوك من عند الأخت كلارا!
قهقه آميديه، وهو يأخذ مجلسًا أمامي:
- لا تندهش، بروفسور! الامرأة امرأة حتى وإن كانت راهبة!
- لا تقل لي إنك...
- بالضبط، كما تظن، بروفسور!
وأخذ يحكي:
- حالما صرفتنا، بروفسور، خففت إلى الذهاب إلى غرفتها، واختبأت وراء ستارة دوشها، دون أن أنتظر طويلاً، إذ ما لبثت كلارا أن وصلت. أوصدت بابها بالمفتاح، وراحت تنزع ثياب الرهبنة الثقيلة اللصوقة في صيف وادي الرامة، وتلقيها أرضًا. اختلست النظر إلى شعرها المنسدل وجسدها المنحوت بإزميل الآلهة، واستعددت، في الوقت ذاته، إلى الانقضاض عليها حالما تزيح ستارة الدوش من أجل حمام بدا أنها عازمة على أخذه بسرعة. وهذا ما حصل بالضبط: استطعت منعها من الصراخ بيد مجرمة على فمها، لكني لم أتوقع أن تكون مقاومتها، في البداية، على مثل تلك القوة، ولولا طرقات الراهب دومينيك على بابها، لموعد ضربه عند منتصف الليل، لما استطعت ترويضها. ما أن غادر الأخ دومينيك، حتى استسلم ذاك الجسد المرتعش لَذة، ككل جسد في خراب ممالك الآلهة، بين ذراعيّ تمامًا. أخذت الأخت كلارا تعانقني عناق كل الملائكة المدنسين، أجمل عناق لبشري يميت الحياة بالحياة ويحيي الموت بالموت طوال حياتي!
بعد أن انتهينا من فعل العشق، اعترفت لي بكل شيء، بأنها مكلفة بمراقبتي بأمر الأب الأعلى ريفيرا. وبعد ذلك، طلبت مني أن أترك الإيسكوريال بأسرع وقت، لأن الخطر داهم، خاصة إذا ما بقينا نتسلل إلى الحجرة المحرمة، وانضمامك إلينا لن يبدل شيئًا.
زرعت جسدي قبلاً، وقمنا بفعل العشق مرة ثانية، فالآلهة لا ترتوي كالشياطين الذين ينفخون الغلمة في أجسادنا، ظمأها أبدي كثغور الشلالات، وصحاريها كبحارها تلفظ الأنبياء من شقوق النساء. أعادت ما قالته لي، أن أعود إلى مدريد اليوم قبل الغد، ووعدتني باللحاق بي في أقرب الأوقات. قلت لها لن أتحرك من هنا قبل الحصول على معلومات عن متمردي الباسك، وكأنها لم تسمعني، عادت تزرع جسدي قبلاً، واعترفت بحبها لي من اليوم الأول. سألتها والرهبنة، قالت الرهبنة قصة أخرى، فهي عميلة للمخابرات، والرهبنة ما هي سوى غطاء. كانت، بروفسور، ذات وجهين، تمامًا كزارا، وككل شيء في هذا البلد. لهذا، لم يدهشني ذلك، وألححت على تزويدي بوثائق عن الباسك، من مركز الدراسات. كانت طريقي الوحيد إلى اختراق قلعتهم، فوعدتني بعمل كل ما تقدر عليه لتحقيق مطلبي شرط أن أغادر الإيسكوريال دون تأخير.
سكت آميديه قليلاً قبل أن يواصل:
- لهذا لن تأتي زارا الليلة. للحيطة، طلبت منها أن تراقب كلارا، وأن ترى أين سيكون موعدها مع الراهب دومينيك.
تأوهت:
- بدأت الأمور تفسد، ومن الأفضل أن نغادر الإيسكوريال صباح الغد.
- لا تستعجل، بروفسور! لا شيء يهددنا إلى حد الآن، ولو حصل، أنا وحدي من سيلحقه الخطر.
- ولكني لا أريد أن يلحقك أي خطر.
- اطمئن بالاً، بروفسور! قالت لي كلارا إنهم يعلمون بوجودنا هنا منذ البداية، وكما ترى، لم يحركوا ساكنًا. الكتب والوثائق الموجودة في الحجرة المحرمة لا تهمهم، بل على العكس، جعلونا نظن أن ما نبحث عنه مدفون بين طياتها، كي يبعدونا أكثر ما يكون عن وثائق مركز الدراسات في الطابق التحت الأرضي للقصر الملكي وكتبه ومخطوطاته. هناك حتمًا كل ما تبحث عنه، أنت، وما أريده، أنا... هل تتابعني؟
- ممكن جدًا. بعد تصفحي لبعض مخطوطات الحجرة المحرمة، لم أجد غير أعمال ضد الموحدين وشعر صوفي إشراقي معروف مثل هذا الذي قرضه ابن الفارض متغنيًا بالجمال اللامتناهي، هدفه أن يحب، وأن يكون موضوع حبه الله. اسمع ما يقول ابن الفارض: إن رؤيته للمحبوب، أي الله، ليست إلا رؤيته لنفسه، وحبه إياه ليس إلا حبه لنفسه، وإن الحب الخالص ليس إلا الفناء في المحبوب:

حليف غرام أنتَ لكن بنفسِهِ
وإبقاك وصفًا منك بعضُ أدلتي
فلم تهوني ما لم تكن فيّ فانيًا
ولم تفنَ ما لم تُجتلى فيك صورتي
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا
من الحب فاختر ذاك أو خلِّ خُلَّتي

- أترى، بروفسور، يعتبرون هذا الشعر مدنسًا كما اعتبره النظام الإسلامي في ذلك العصر، فيحرقونه خشيةً، ويمنعونه.
- لماذا هم يخشونه في رأيك؟ لئلا يلهم حب الله حبًا بين مسلم ومسيحي، فالتصوف لا يبدي أي فرق بين بوذي ويهودي ومسيحي وإسلامي وغيره. الحب الذي يريده ابن الفارض حب فوق كل شيء، فوق كل عرق، فوق كل دين، وهو تعبير عن الوئام الجماعي والخلاص المشترك. دافع الرقابة إذن واحد لكل الأنظمة التي تقمع الأدب أيًا كان، في عهد التفتيش الإسباني كما في عهد الانحطاط الإسلامي، حتى عهدنا الحالي.
- هذا صحيح، بروفسور! ولكن أشرس الأنظمة يبقى ذلك الذي يقمع أدبًا الحب الذي فوق كل شيء موضوعه.
وبما أنه أقر بشراسة النظام القامع للآداب التي تعبر عن الوئام الجماعي والخلاص المشترك، فماذا عن الثورات التي تنادي بالتفكك والانسلاخ؟ اقترحت عليه الاتصال بحكام الأردن من أجل الحصول على حكم ذاتي خاص بأرخذونة، فرفض كل اتصال. ادعى أنهم تخلوا عن أرخذونة منذ قرون، وهم لن يكونوا أكثر حماسًا لمصيره من سابقيهم. طلبت إذن القيام بدور الوسيط قرب حاكم شذونة، الفارس بوعمير، فرفض آميديه من جديد. قال إنه مزروع من طرف الإسبان، وهو لا يهمه سوى السهر على تنفيذ أوامرهم. قال أيضًا إن ثورته لن تكون ضد الإسبان الذين عاش بينهم وارتبط بصداقات عديدة معهم، وإنما من أجل الاستقلال والحب الذي هو فوق كل شيء.
- مات جدي من أجل هذا الحب خلال الحرب الأهلية، تابع آميديه، وذهب أبي إلى آخر الدنيا، إلى أمريكا الجنوبية، ليموت، هو الآخر، إلى جانب الليندي خلال أحداث التشيلي. اشتغل أبي في الاستيراد والتصدير، وجمع ثروة صغيرة نفدت بعد وفاته بوقت قصير. كنت صغيرًا وقتها، ولولا تعاضد إخوتي وأعمامي وأبناء أعمامي، تمامًا مثلما كان حالنا أيام الأندلس، لمتنا جميعًا من الفاقة والحرمان. هذا هو الحب العائلي، نوع آخر من ذلك الحب الأسمى لمواجهة أنياب البؤس ومخالب الموت. إن ثورتنا، لو تفجرت، فمن أجل ألا يحدث شيء من هذا، أن تموت من الفقر وحيدًا بعد أن مات أبوك من أجل الغير.
لم يكن هناك مجال لإقناعه بغير المتغلغل في رأسه، السائل في عرقه، فعدت أسأله عن كلارا:
- ومتى ستأتيك كلارا بالمعلومات التي طلبتها منها؟
- لن يطول ذلك كثيرًا حسبما أعتقد، يوم أو على الأكثر يومان، فهي تريدني أن أغادر الإيسكوريال بأقصى سرعة، كما قلت لك.
- إذن سنساعدها على إتمام ما عليها إتمامه، وذلك بمواصلة الذهاب إلى المكتبة في النهار وإلى الحجرة المحرمة في الليل، فنبعد عنها هكذا كل شك. ولكن حذار، إياك أن يضبطوك معها فيمزقوها ويمزقوك إربًا!
فجأة، تهاوى هرم الكتب المكدسة أمام المدفأة، كانت مكنسة بعصا طويلة حاول أحدهم أن يزحزح بها الكتب، فنهضنا، نحن الاثنان، واثبيْن، وفي رأسنا الفكرة ذاتها: هناك من أراد الاستماع عبر مجرى المدفأة إلى ما يجري من حديث بيننا.
قلت لآميديه:
- من هذه المدفأة، يتنصتون علينا، الآن أفهم لماذا جاءت كلارا إلى المكتبة ليلة أمس.
خففنا إلى قطع الدهليز، فمدينة الأموات، فالحديقة، فالبناء المؤدي إلى المكتبة. تراءى لنا شبح في إطار بابها الضخم، واختفى بسرعة في الرواق، فلم نلحقه. دخلنا المكتبة، واقتربنا من الحائط الذي توجد المدفأة خلفه. أبعدنا الكتب، واكتشفنا كوة تُفتح وتُغلق، يَسمع المرء منها بالفعل كل ما نقول. بدا كل شيء واضحًا لنا. أكدت أن الأمور فسدت كثيرًا، وإلا لِمَ كل هذا السعي الحثيث لمعرفة موضوع ما يجري بيننا من حديث؟








الفصل السادس

لم يكن آميديه يعلم أنه عندما خرج من عند الأخت كلارا، كان الراهب دومينيك يكمن في الظلام وراء أحد الأعمدة. لم يلتق قيّم المكتبة سيئة الحظ عند منتصف الليل، وأخطر من هذا جاء بمعية رجال مركز الدراسات ليصطحبوها عنوة إلى محكمة تفتيش استثنائية.
لمحتُ الأخت كلارا من نافذتي قليلاً بعد عودتي من الحجرة المحرمة، وهي تقطع باحة الدير مع أربعة رجال يرتدون بدلات سوداء ويضعون على أعينهم نظارات سوداء، وعلى الرغم من المسافة الفاصلة بيننا، كان شعرهم المزيت الممشوط للخلف يلمع في الليل مع انعكاس المصابيح، تحت سماء مرصعة بالنجوم.
طرقت الباب على آميديه، كان يستعد لخلع ثيابه، وارتداء برنس الليل. حكيت له ما يقع لكلارا، فهب يغذ السير إلى القصر، قاطعًا الباحة، فالحديقة. كان المجمع الكهنوتي كله حاضرًا، راهبات ورهبان أصعدوا الأخت كلارا على منصة وسطهم، وهم يستجوبونها دون أن نسمع شيئًا.
قلت لآميديه:
- تعال، سندخل القصر من الطابق التحت الأرضي، فلن يفطنوا إلينا، بما أنهم منشغلون.
وبالفعل، لم يكن أحد هناك. دفعنا طاولة إلى جدار توجد في أعلاه نافذة مستطيلة، صعدنا عليها، ونظرنا، وإذا بالمشهد كله أمامنا، وأمام كل راهب بطاقة كتب عليها "القديس دومينيك". كان رجال مركز الدراسات كلهم هناك، ببدلاتهم السوداء ونظاراتهم السوداء وشعورهم المزيتة، وهم يجلسون في صفين تحت سجادة جدارية لجويا. مد آميديه يده، وضغط على قفل النافذة، فانفتحت إلى منتصفها، واستطعنا سماع كل ما يقال.
كانت الخيانة العظمى هي وجه الاتهام، ولم تتوصل كلارا إلى الدفاع عن نفسها أمام كل هذه الرؤوس الدميمة العصبية الشديدة القسوة. نفت كل شيء، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ اعترفت، بعد ذلك، بفعل العشق مع آميديه، واعترفت كذلك بموافقتها على إعطائه كل المعلومات التي طلبها عن... الشعر المدنس.
تنفس آميديه الصُّعَداء، فقد نجحت كلارا في إخفاء حقيقة ما طلب من وثائق تتعلق بالإجراءات التي اتخذت ضد حركة الباسك، وأنقذته من مصير تراجيدي.
اتهمها بعضهم بالنكران، وبعضهم بالإلحاد. أشار الأب الأعلى إلى الأخ دومينيك، فذهب إلى باب داخلي، وصفق بيديه، فإذا بحفاري القبور الثلاثة المشوهي الخلقة يظهرون، وعلى أكتافهم صليب خشبيّ ثقيل. وضعوه على المنصة، ثم أمسكوا بكلارا كالفريسة. أخذت كلارا تبكي، وتزعق إنها بريئة. بصلابة، ردت محكمة التفتيش عليها بالترتيل. خنقت التراتيل صوتها، وطغت الصلوات على توسلاتها. في هذا الجو المحموم، شذ صوت الأخ دومينيك المنفعل، في الوقت الذي راح يعري فيه الأخت كلارا، ويرمي ثيابها هنا وهناك. حملها الحفارون الثلاثة على الصليب عارية، وقيدوها، بينما داومت على الزعيق: أنا بريئة! وهم على الترتيل: اغفر لها يا من أنت في السماء! على صدر المنكل بها، قَبَّلَ الأخ دومينيك صليبها الذهبيّ، وها هي، في الوقت الحاضر، مرفوعة وقوفًا على الصليب الخشبيّ.
طلب مني آميديه أن نفعل شيئًا لإنقاذها، فعبرت عن عجزنا التام، وإلا قطعونا إربًا. لمعت عيناه بالدمع، وبقي ساكتًا. ومن جديد، أشار الأب الأعلى إلى الراهب دومينيك، فتقدم من الصليب الخشبيّ، وبعون الحفارين الثلاثة، وضعوه أفقيًا. همس في أذن واحد منهم، وهذا يبتسم ببلاهة، ولعابه يسيل من زاوية فمه. وبسرعة، خلع أسماله، وأراد أن يلقي بجسده عليها تحت النظرات الداعرة لصاحبيه اللذين راحا يقهقهان، إلا أن الراهب دومينيك قد منعه. كان يريد أن يدنس أولاً هذا الجسد المقدس قبل أن يسلمه للقربان، كما تتطلب الطقوس. تناول أصابع القبار، وضغطها على بطن كلارا، فانشلت تمامًا، ثم على ثديها، ثم على ثغرها. طغت استثارة الأهبل على بلاهته، فانتصب عضوه. دفعه الراهب دومينيك من أمامه حتى حاذى الأب الأعلى الذي مد يده، ووجسه مباركًا، ثم دفعه حتى حاذى الأم العليا التي ترددت في فعل ما فعله الأب الأعلى، إلا أن نظرة رادعة واحدة منه كانت كافية لتعطي هي الأخرى بركتها. هذه الطرائق الخرقاء التي بدت تكتسي أهمية عظمى للمشاركين، عندما أُنجزت، سمحوا للمعتوه بإلقاء جسده بوحشية على الجسد الناعم للضحية ليلتهمه وليمزقه.
خلال فعل العشق البربري هذا، كان الترتيل يرتفع عاليًا أعلى من أجراس الكنيسة، ويتصادى تحت القبة السماوية. سالت الدموع من عيني آميديه، فلم يكن يستطيع أن يفعل شيئًا آخر غير البكاء. والغريب أن ذوي البدلات السوداء والنظارات السوداء لم يتحركوا، ظلوا يتابعون الطقوس، وهم جامدون في مقاعدهم كالتماثيل. ولم يتحركوا عندما أعاد الحفارون رفع الصليب عموديًا، والأخ دومينيك يبتر كلارا الغائبة عن الوعي، بقطع مشفرها وسرتها وحلمتيها. ترامت الراهبات والرهبان على قدمي المنكل بها لما فجأة، نهض الأب الأعلى تتبعه الأم العليا. تقدم من كلارا، وبأسنانه اقتلع شفتها السفلى، وقضمها كخبز الذبيحة، وراح يلوكها، ويلعق الدم السائب من فمه. لم تستطع الأم العليا أن تفعل كما فعل، بسبب سقوط أسنانها المستعارة، فتقدم الأخ دومينيك محمومًا، ومزق بأسنانه الشفة الأخرى، ومن فمه لفمها ألقم المتدينة العجوز إياها، وجسد كلارا، في كل مرة، يختلج من قمة الرأس إلى أخمص القدم. ألبسوها السان-بينيتو، ذاك الثوب الأصفر الذي كان يرتديه المحكوم عليهم في محاكم التفتيش، ثم دفعوها في جرن من أكسيد الكبريت المغلي.
لم أعد إلى الواقع إلا على آميديه، وهو يقع. لم يحتمل متابعة التحكيم الإلهي، فأصابه الغثيان. تقيأ، ووقع، فاقدًا الوعي. حملته إلى مغسلة، ووضعت وجهه تحت الماء. عاد إلى رشده، لكنه بقي جامدًا، تمامًا كرجال البدلات والنظارات السوداء. كلمته بهدوء، وشددت عزمه، وأنا خائف من انكشاف أمرنا. جعلته يرتكز على كتفي، وخرجت به في الممر. أشار برأسه إلى النافذة التي كنا ننظر منها، ففهمت أنه يريد إلقاء نظرة أخيرة. ساعدته على الصعود على الطاولة، وصعدت بدوري. لم يكن أحد هناك! كانت القاعة خالية تمامًا، كما لو لم يكن سوى كابوس رهيب!
ونحن نقطع أروقة الدير إلى غرفتينا، كان آميديه يجر نفسه جرًا إلى جانبي، وأرى أنه لم يزل تحت تأثير الصدمة. أمسكته من ذراعه، لكنه انشل تمامًا. حملق، وارتعد، وهمهم:
- لم تكن زارا معهم! علينا الذهاب لرؤيتها!
أعادت هذه الفكرة لآميديه قوة خادعة، فقادني بخفة إلى غرفة زارا التي لم نجدها فيها. انهار، وأخذ يصرخ:
- لقد فعلوا شيئًا لزارا!
بعد ما شاهدناه من شر شنيع، كل شيء ممكن. هدأته، وطلبت منه الابتعاد عن النافذة. وأنا أجذب الستارة، رأيت الراهب دومينيك، وهو يقطع الباحة إلى الكنيسة. سألت آميديه إن كان يستطيع العودة وحده إلى غرفته، فوقع في سرير زارا، وهو يرتعد. قلت له، وأنا أغطيه:
- سأعود حالاً.
ركضت في أروقة الجحيم المعتمة الصامتة، وأنا أفكر في الأدب المدنس بعد كل ما جرى هذه الليلة. من العبث البحث عن أي شيء كان، هذا الأدب بالفعل غير موجود. إذا استطاع أبناء اليوم ارتكاب جريمة بهذه الشناعة، فأبناء عهد التفتيش كانوا يفعلون الأسوأ. لقد دمروا الكتب الأدبية من كل الاتجاهات، وقضوا على الثقافة اللا مقدسة وكل من يعارضهم من مدنسين وغير مدنسين، بروتستانت ويهود ومسلمين. كان من العبث الاستمرار في البحث عن فكرة كاذبة، فيما يخصني. وفيما يخص آميديه، كان يتعلق بأوهامه معرضًا نفسه للخطر.
قبل أن ألج في رطوبة الكنيسة وأضوائها الضعيفة، عقدت العزم على مغادرة الإيسكوريال مع آميديه وزارا دون التأخر لحظة واحدة. كان عليّ أولاً أن ألتقي الأخ دومينيك، هذا الدموي الذي وجدته راكعًا يصلي، فأمسكته من خناقه، وهززته بعنف:
- أين زارا؟
تصنّع الدهشة:
- في غرفتها! أليست في غرفتها؟
- أنا آت لتوي من غرفتها!
- وما يدريني؟ لا صرامة في عيشنا الرُّهباني كما لاحظت، والتشدد ليس قانونًا في حياتنا الرُّهبانية، ربما كانت في غرفة أخت، أو غادرت الدير لقضاء غرض ما.
- ألن تقول لي أين أجدها؟
ولكمته لكمة أطارت الدمع من عينيه.
- ألن تقول...
وإذا بمن يضربني خلف رأسي بصليب من الحديد، أو بكرسي من القش، ففقدت الوعي.
عندما فتحت عينيّ، وجدت نفسي في غرفتي، وشمس الصباح تداعب وجهي. تذكرت آميديه الذي تركته في غرفة زارا، فنهضت بسرعة، لكني وجدت بابي موصدًا. ضربت عليه بيدي، وطلبت فتحه. دار المفتاح في القفل، وانفتح الباب، فإذا بي مقابل أحد حفاري القبور. منعني من الخروج، وفي الوقت ذاته، غادر الكاردينال ريفيرا غرفة آميديه بصحبة شخص قدمه لي كطبيب للدير.
قال الكاردينال:
- اطمئن بالاً، بروفسور! لطالبك بعض الحمى، لا شيء يقلق البال.
أكد الطبيب ذلك. مد الوصفة لحفار القبور، وأمره بالذهاب لشراء الدواء.
قرأ الأب الأعلى الحيرة والقلق على وجهي، وأنا أنظر إلى المفتاح في القفل، وأفكر في الحرية التي عدت أنعم بها مع اختفاء رسول المنون في آخر الرواق.
- كن مطمئنًا، بروفسور! عاد الكاردينال إلى القول، لقد أنزلنا بالأخ دومينيك العقاب الذي استحقه، لما سببه لك من أضرار، فأقلناه من وظائفه، وغادر الإيسكوريال منذ ساعات الصباح الأولى، ولن يعود إليه. يمكنك العودة إلى نشاطك في المكتبة كما كان عهدك، وقد أمرت كل من هم في بيت الرب هذا بمد يد العون والمساعدة لك.
شكرته.
- مهمتي انتهت، قلت له، حصلت على كل ما يلزمني، وأنوي المغادرة مع آميديه في أقرب وقت ممكن.
في الوقت الذي لفظت فيه هذه الكلمات، أيقنت أني ارتكبت هفوة كبيرة: كيف حصلت على كل ما يلزمني دون أن يعرفوا ما حصلت عليه؟ تدخل الطبيب، وأبدى تحفظه بخصوص الوضع الصحي لآميديه، وأمام إلحاحي على المغادرة، تبادل والكاردينال نظرة مرتبكة.
- من واجبي كطبيب، قال، أن أُبقي السنيور آميديه تحت مراقبتي حتى يبرأ تمامًا.
- وكم من الوقت يحتاج؟
- الله وحده من يعلم! غريب أمر الحمى التي تلتهمه، فكن صبورًا!
همهم الكاردينال ريفيرا قبل أن يذهب مع الطبيب:
- نعم، كن صبورًا، بروفسور! وسيتعافى عما قريب بفضل الله!




الفصل السابع

وجدت في المكتبة قيّمًا جديدًا حل محل الأخ دومينيك، اسمه الأخ جوزيه. كان يرتدي، هو أيضًا، برنسًا صوفيًا خشنًا، على الرغم من ارتفاع الحرارة. أبدى كل استعداد لمعاونتي، وهو يعترف بأن عربيته ليست بجودة عربية سلفه.
- وأين الأخت زارا؟ سألت. هي من يمكنها بالفعل مساعدتي.
فضل الأخ جوزيه ألا يجيب، وذهب مرتبكًا لإحضار مخطوط عن رف غير بعيد. لم أكن جاهلاً بما فيه الكفاية، طبعًا، كي أسأله عن كلارا، التي شاهدت بأم عيني مصرعها، ولن أقول له إن كل هذه المخطوطات والكتب لا تنفعني في شيء، حتى تلك التي في الحجرة المحرمة، فهي إن حُرِّمت، فلأمر خاص بها، وهي لن تكون أبدًا بقيمة تلك التي أحرقها الجلادون أو دمروها، فهل قرأ في أفكاري عندما فتح مخطوطًا، وطلب مني أن أتلو تحت عنوان "اضطهاد المورسكو":
"ولكن صاحبي الجلالة الكاثوليكية، فرديناند وإيزابيل، نكثا العهد، ونقضا الشروط، ففي سنة 1499، انتُدب الكاردينال زيمينس دوسيسنيروس، كاهن الملكة الخاص، لحمل المسلمين على التنصر، وأراد الكاردينال لأول مرة أن يصادر الكتب العربية المعنية بالإسلام، فأمر بإحراقها، وفي غرناطة، جُمعت الكتب العربية أكوامًا، وأُشعلت النار تحتها. ثم أُنشئ ديوان تفتيش لامتحان المسلمين، وأصبح كل المسلمين الذين لم يهجروا البلاد، بعد سقوط غرناطة، يدعون بال "مورسكو"، وهي لفظة أُطلقت أولاً على معتنقي الإسلام من الإسبانيين. وكانت للإسبانيين لهجة الرومانثي، إلا أنهم استخدموا حروف العربية لكتابتها. والواقع أن كثيرين من المورسكو، إن لم يكونوا جلهم، كانوا من أصل إسباني، وقد تنبهوا الآن أن أجدادهم إنما كانوا نصارى، وأن عليهم قبول المعمودية أو تحمل العواقب. واعتبر المدجنون والمورسكو من طبقة واحدة، فتظاهر كثيرون منهم بالنصرانية، وأسرّوا الإسلام في قلوبهم. ومنذ سنة 1501، صدرت الإرادة الملكية بأن على من هم في كاستيل وليون من المسلمين الرجوع عن دينهم أو الجلاء عن البلاد، ولكن الظاهر أن هذا الأمر لم ينفذ. وفي سنة 1526، سن فيليب الثاني تشريعًا يأمر البقية الباقية من المسلمين بترك لغتهم وعبادتهم وأنظمتهم وعاداتهم، وأمر أيضًا بهدم حمامات الإسبانيين باعتبار أنها من تراث العهد الإسلامي، فتعالت الشكوى بين المسلمين، وسرت الحمية في عروق البعض، فثاروا للمرة الثانية، أولاً في غرناطة، ثم فيما جاورها من الجبال، لكنهم لم يلبثوا أن أُخضعوا، وأُخمدت شوكتهم. وأما القرار الأخير بالطرد، فأمضاه فيليب الثالث سنة 1609، ونجم عنه نفي جماهير المسلمين من البلاد الإسلامية قسرًا. وذُكر أن عدد الذين نُفوا على هذه الطريقة بلغ نصف المليون، فوطأوا سواحل إفريقية، أو ركبوا سفنًا حملتهم إلى أقاصي البلدان الإسلامية. ومن هؤلاء المورسكو تألفت معظم قراصنة البحر المراكشيين. ويقدر عدد الذين انتُزعوا من بلادهم قتلاً ونفيًا ما بين سقوط غرناطة والعقد الأول من القرن السابع عشر بنحو ثلاثة ملايين. وبهذا انتهت المشكلة الإسلامية في إسبانية، وأصبحت إسبانية، منذ ذلك العهد، مثلاً بارزًا للشذوذ عن القاعدة التي تذهب إلى أن قدم المدنية العربية تثبت دائمًا حيثما تحل أقدام العرب. أجل، أُقصي المسلمون عن البلاد، وظهر محيا إسبانية النصرانية ردحًا من الدهر مشرقًا كالبدر، ولكن بنور مستعار، ثم حل به الخسوف، وعم الظلام، وما زالت البلاد تتسكع في تلك الظلمة منذ ذلك الحين."
لم تفعل قراءة هذا الفصل الصغير غير تأكيد قناعاتي، فهل هذا ما يحاول الأخ جوزيه إفهامي إياه؟ رفعت رأسي إليه، فوجدته يحدق فيّ بشكل غريب.
- أعرف، يا أخ جوزيه، قلت له، أن بحثي عن الأدب المدنس بلا طائل!
- بحثك بلا طائل، أجاب، عن أدب أوائل المسلمين المستجدين المولدين، أو شبيهه الخاص بأواخرهم المدجنين، المكتوب بالعربية، أما الأدب الذي تركه المورسكو في لهجتهم المكتوبة بحروف عربية، فهو موجود، وهو جدير بالدراسة، يطلق عليه اسم الخَميادو aljamiado من لفظة "الأعجمية" بالعربية، وهذا يعني، بالطبع، "غير عربي"، بروفسور! وقد عُثر على كمية مخطوطات مكتوبة بهذه اللغة تحت الأرض في بيت قديم بالأراغون، أُخفيت عن عيون رجال التفتيش آنذاك.
لم أعد أهتم، بعد كل ما جرى لكلارا، لآميديه، ولزارا، بكل هذا، فهمهمت دون أن أبدي أية حمية:
- أين أجدها، هذه المخطوطات؟ وكيف أجد من يفكها؟
ابتسم الأخ جوزيه ابتسامة عريضة:
- هذه المخطوطات موجودة في مركز الدراسات، وأنا أفهم اللهجة المورسكية، الرومانثي، بروفسور! إنها شيء من اللاتينية الدارجة.
انتظر الراهب جوزيه مني، هذه المرة، أن أبدي، على الأقل، من الحماس بعضه، فقلت:
- مركز الدراسات، أليسه المكان الذي لا يستطيع أحد دخوله؟
- يمكن دخوله بتصريح خاص سنحصل عليه بدعم الكاردينال ريفيرا.
عندئذ، فهمت كل شيء. كان الأخ جوزيه يريد إبعادي عن المكتبة بكل الوسائل، وتوريطي في قضايا كافية لتصفيتي.
قلت له:
- سأفكر في الأمر.
في الواقع، أخذت أنتظر سقوط الليل، فألتف بأحجبته السوداء، وأذهب بحثًا عن زارا.
في المساء، أعطيت لآميديه أدويته، دون أن تتحسن حالته. كانت حمى الصدمة التي ألمت به لم تزل شديدة، وكان أحد حفاري القبور الثلاثة يجلس على كرسي قرب بابه، تحت حجة أنها أوامر الطبيب: إذا ما احتاج آميديه إلى شيء، أعلم الطبيب في الحال.
قلت للقبّار إني ذاهب إلى العمل في المكتبة، فبسم وريّل ببلاهة. كان هدفي، بالطبع، غرفة زارا التي وجدتها مغلقة بالمفتاح. حاولت فتحها، فخرجت جارتها، وقالت إن زارا تركت الدير إلى آخر في مدريد. سألتها إن كانت تعرف العنوان؟ لا، لم تكن تعرف العنوان. لم أبتلع ما قالته، تركتها، وقررت الذهاب إلى الحجرة المحرمة، فمن يدري، ربما سقطت زارا من السماء. لم أشأ التفكير في أنهم قتلوها مثلما قتلوا كلارا، فمن طبيعتي الامتناع عن التفكير في المصابات اللامتوقعة، لأصنع تفاؤلي، حتى ولو كان ذلك دون أساس. ألأني خائف من مواجهة الحقيقة أم لأني لا أسعى إلا لمعرفة الحقيقة التي تلائمني؟ فجأة، عاودني آميديه، وهو ينهار في غرفة زارا، فقلت نعم، لقد قتلوا زارا، هذه هي الحقيقة التي يجب عليّ التأكد منها.
وأنا أعود أدراجي في الرواق، أحسست بمن يتبعني، ومن الأروقة هناك كيلومترات وكيلومترات، كمنت له، وانقضضت عليه، وأنا أسدد ضربة إلى وجهه، فبطنه، فوجهه. كان حفار القبور الملازم لغرفة آميديه. ضربته، وأنا أفح كالثعبان:
- خذ! هذه الضربة من أجل شفتي كلارا الورديتين، وهذه الضربة من أجل ثدييها الجميلين، هذه من أجل بطنها الأملس من بطن طفل! خذ، وخذ، وخذ! هذه الضربة من أجل الصوفي الملعون ابن الفارض، وهذه الضربة من أجل الشاعر الماجن ابن هانئ، من أجل كل الشعر المدنس الذي ستقوم قيامته، ذات يوم، من الرماد!
خبط جسده الضخم بالأرض، فضربته آخر ما ضربت بقدمي، وهربت إلى مدينة الأموات.
اقتربت من كوخ الحفارين بحذر، فرأيت ثانيهم وثالثهم، وهما يفتحان قنينة نبيذ، ويبدو أنهما يستعدان لقضاء ليلة من ليالي أبي نواس حافلة. لا بد أن زارا مدفونة في مكان ما هنا. أخذت أبحث بين القبور الملكية عن قبرها حتى وجدته. كان التراب مقلوبًا، والمعاول ملقاة ليس بعيدًا. بدأت بنبش التراب عندما وصلتني أصوات خطوات متعثرة، خطوات الحفار الأول الذي ضربته، ولم ألبث أن سمعت لهثاته القصيرة. اختبأت وراء جذع شجرة، ورأيته يتجه دون تردد إلى الدهليز. كان يعرف أني لن أذهب إلى المكتبة، وهو يريد أن يبحث عني في الحجرة المحرمة، رغم تحذيرات رؤسائه. حتمًا للانتقام مني بعد أن أشبعته ضربًا. عزمت على اللحاق به لإغلاق باب الحجرة المحرمة عليه، ريثما أنبش قبر زارا. غير أن ذلك الأبله لم يكن هناك، وكانت المفاجأة أن جدار المدفأة يدور على محوره، وهو جدار المكتبة من الناحية الأخرى، وأن الحفار، من شدة الارتباك والرغبة في الانتقام، نسي الضغط على زر يعيده إلى وضعه.
ولجته إلى المكتبة، ومن بابه، الذي تركه رسول المنون مفتوحًا كذلك، إلى الرواق، فسمعته، وهو يصعد الدرج الواقع في أقصاه. كان علي أن أختار بين العودة إلى غرفتي وبين العودة إلى المقبرة، فلن يلبث هذا المشوه الذي جننته ضرباتي أن يقول كل شيء للكاردينال ريفيرا، فيجيء وأعوانه، ما في شك، في طلبي، ولن تسنح لي فرصة أخرى لنبش تراب زارا. أملت ألا يعرفوا المكان الذي أتواجد فيه قبل ساعة، أكون خلالها قد أتممت كل شيء.
عدت من الطريق ذاتها، وأنا أغلق ما سها حفار القبور عن إغلاقه: باب المكتبة والجدار السري وباب الحجرة المحرمة ثم باب الدهليز. ألقيت نظرة خاطفة على المشوهيْن من نافذة الكوخ، على الجمجمتين الضخمتين الحليقتين، كانا قد فتحا قنينة نبيذ ثانية، وقد بدأ الكحول يفعل فعله. رأيت أحدهما ينقل ساطورًا، ويضرب به، محولاً إلى قطع ليست متساوية أسطوانة نقانق. هما كذلك لن يفطنا إلى وجودي في مدينة الأموات، وأكثر من هذا إلى ضربات معولي، بعد أن أبدلت القلم بالمعول، ومنابر العلم بالقبور. كان همي أن أنجز عملي بسرعة، وأن أجد جسد زارا، بينما تركت –ويا للمفارقة- جسد آميديه!
بعد عدة ضربات، كان صليب كلارا ما نبشت، ودهشتي الهائلة. نقلته بين أصابعي، وفركته. حفرت أكثر، فوجدت عظامها التي لم يذبها أكسيد الكبريت، عظام ساقها وحوضها وساعدها وجمجمتها. بدت جمجمتها تبكي تحت سماء الإيسكوريال المرصعة بالنجوم، وأحيانًا، تقهقه. دفعت صليبها في جيب بنطالي، وأخذت أطمم بقايا كلارا، وأنا أفكر في جمالها: لم يكن جمالها أبديًا ولا متناهيًا، كان جمال امرأة لا حظ لها، عبثت بها الأقدار، هذا كل ما هنالك!
إذن لم يكن قبر زارا، فأين دفنوها؟ بحثت في مدينة الأموات، وأنا ألقي النظر إلى الأضواء الهاربة من نوافذ الدير العليا ولا أية حركة غير عادية، فهل اكتفى الحفار الذي تبعني بالعودة إلى مكانه أمام باب غرفة آميديه؟ على أي حال، كان الوقت يجري، ولم يعد في صالحي. في أية لحظة، كان يمكن أن يسقط علي أي واحد من الدير، رقيب المدفأة ربما، عندما يعرف أني لم أكن في الحجرة المحرمة، أو أحد هذين المشوهين الثملين، أو طبيب الدير، أو الكاردينال ريفيرا، أو، وهذا ما لم أفكر فيه، إحدى البدلات والنظارات السوداء.
لم يكن الجو قائظًا، مما ساعدني على نبش ثم تتريب قبر كلارا دون تعب كبير، وكانت في السماء نجوم كثيرة لا تعد ولا تحصى، أومض بعضها في ناحية هناك قرب جدار المقبرة. كان قبر زارا. ما أن بدأت أنبش التراب حتى بدا وجهها المكشر. لم يجهد الحفارون في حفر حفرة عميقة لثقتهم بعدم مجيء من يزعجها في سباتها الأبدي، وعجلوا حتمًا في العودة إلى كؤوسهم، الأفضل في عالم الموت. أزلت التراب عن عنقها، ولمست الحبل الخشن الذي خنقوها به. اجتاحني الحزن، وعدت أفكر في آميديه، خفت أن يكون قد وقع له، أثناء غيابي، المصير ذاته. فككت الحبل بصعوبة، وأطلقت زارا آخر أنفاسها. استرخت أمائرها، وكأنها تشكرني. غطيتها بالتراب، قبّلت المعول، ووضعته على القبر. رجعت على أعقابي، ثقيل الخطوات، كسير النفس. لم أعرف زارا إلا منذ عدة أيام، ومع ذلك، كنت أشعر، وكأني فقدت امرأ عزيزًا، إحدى بناتي. يجب إخبار الشرطة بكل شيء. ذهبت أركض إلى بوابة الإيسكوريال التي وجدتها موصدة، ويا للحمد أنها كانت موصدة! لأني لو فعلت، لقتلوا آميديه كذلك.
عدت إلى الرواق، وأنا أبطئ الخطو، وأفحص بعيني إذا ما كان المشوه يرابض أمام غرفة آميديه. لم يكن هناك. فتحت الباب على طالبي بسرعة، لأكتشف أنهم ألبسوه السان-بينيتو، ذلك الثوب الأصفر المحرّم، وهو يغلي من الحمى. نزعت ثوب الموت، وبقيت إلى جانبه، وأنا أضع على جبينه الكمادات، إلى أن غفوت، ولم أصح إلا ويد الطبيب على كتفي، في الغد.


























الفصل الثامن

عندما علمت بمقدم أبي بكر الآشي إلى الإيسكوريال، فهمت لماذا أراد الكاردينال ريفيرا إبعادي عن المكتبة، لئلا ألتقي بالطبيب الخاص للملك، العلامة العالم الفلكي والفيلسوف الذائع الصيت، وليحول دون كشفي له عن أسرار الدير التي وقفت عليها، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.
بعد ساعة من وصول أبي بكر الآشي، أرسل أحد مساعديه ليعلمني أن بوده لو أحضر إلى الشقق الملكية. لم أكن أستطيع ترك آميديه الذي كان يموت بين ذراعيّ، فالحمى تلتهمه، والدواء لا يفعل أي أثر فيه. عرضت الحالة اليائسة لطالبي، واعتذرت عن عدم الاستجابة لهذه الدعوة، فتأثر مبعوث أبي بكر تأثرًا كبيرًا، وغادرني مضطربًا.
لم يمض كبير وقت حتى وصلتني ضجة في الرواق، فإذا بالكاردينال ريفيرا يفتح الباب على مصراعيه، ليدخل رجل طويل القامة وسيم الطلعة، ومن أمامه فتاة في العشرين من العمر كالقمر في حسنها، تبعهما مبعوث أبي بكر الذي يحمل عدة طبية، وطبيب الدير، وعدد كبير من الحرس لم تسعهم غرفة آميديه، فاضطر قسم منهم إلى البقاء في الرواق.
عرفت، بالطبع، في الرجل الوسيم الطويل أبا بكر الآشي، كانت لنا بعض الملامح المشتركة كالصلع في بدايته، والأنف في طوله، أو العينين في وهنهما. اتجه مباشرة إلى سرير آميديه دون أن ينظر إليّ، أخرج سماعته، وراح يفحصه فحصًا دقيقًا. نظر إلى الأدوية المفروشة على الطاولة الصغيرة، وبدافع الغضب، ضرب بها الجدار. طلب من رجاله أن يوقفوا الطبيب، ثم توجه إلى الكاردينال ريفيرا:
- هذا الشاب على وشك الموت، بسبب دواء أعطاه طبيب الدير، ونيافتك لا يعلم بذلك!
- كيف لي أن أعلم بذلك، تلعثم الكاردينال، وأنا لا أعرف الفرق بين الأسبرو والأسبرين؟
تدخلت الفتاة:
- ليس الوقت للدعابة، أيها الكاردينال! هناك خطأ كبير في التشخيص تم ارتكابه، وهو ليس وليد صدفة، يجب معرفة من هم المسؤولون عنه.
غمغم الكاردينال ريفيرا:
- تحت أمر سموك! تحت أمر سموك!
الآن، عرفت في شخصية الفتاة الأميرة إيزابيل، كبرى بنات عاهل البلاد.
- اترك هذا المكان في الحال، أيها الكاردينال! أَمَرَتْ، ودع من يفرق بين السُّم والسُّمِين معالجة هذا المريض المسكين.
همهم الكاردينال ريفيرا دون توقف:
- تحت أمر سموك! تحت أمر سموك! تحت أمر سموك!
خلال ذلك، كتب أبو بكر الآشي وصفته، ونادى على مبعوثه:
- أنطونيو!
- أمر سعادتك!
- احضر لي هذه الأدوية!
طلب من كل الحاضرين الخروج، باستثناء سمو الأميرة إيزابيل. أردت الخروج بدوري، فاستبقاني:
- ابق، بروفسور! معونة سمو الأميرة لا تكفيني.
أذعنت.
- أطلب منكما، سمو الأميرة إيزابيل وأنت، أن تمسكاه من ذراعيه، وتمنعاه من التحرك.
نفذنا ما طلب، وهو يخرج مشرطًا من عدته:
- للتخفيف من حُمَّاه، يجب فصده من أذنيه.
وفعل، فأطلقت الأميرة إيزابيل صراخات حادة، وهي تغمض عينيها، وتدير رأسها. انتفض آميديه، وأنا أسنده بكل قواي، كي أبقيه ساكنًا.
- بإمكانكما تركه الآن، قال الطبيب العلامة، وهو يمسح الدم بالقطن.
رجوت سمو الأميرة أن تجلس، بينما عاد أبو بكر إلى فحص آميديه، وجس نبضه.
سألتني الأميرة إيزابيل، وهي تأخذ مكانًا:
- ما اسمه، طالبك؟
- آميديه.
- منذ عدة أيام، وآميديه على هذه الحال، ولم تفعل شيئًا!
- الحقيقة...
وتوقفتُ على أبي بكر الذي اتجه نحو المغسلة ليبلل الكمادة.
- الحقيقة لم يكن بإمكاني أن أفعل غير انتظار معجزة تنقذ آميديه، قلت معترفًا بعجزي، والحمد لله، مجيئكم المعجزة التي انتظرت.
فرش أبو بكر الآشي الكمادة على جبين آميديه، وهو يصغي إليّ بانتباه شديد.
- لقد أجبروني على تركه هنا ريثما يتعافى، أوضحتُ، غير أنهم بدلاً من أن يعملوا على علاجه عملوا قليلاً قليلاً على قتله.
تقدم أبو بكر الآشي مني، وسأل بنبرة قوية:
- من هو هذا الشاب؟ لماذا يريدون قتله؟ من هم أولئك؟
- هذا الشاب هو طالبي، سنيور أبو بكر.
- أعرف أنه طالبك، بروفسور! لقد وصل خبر بحثك عن الشعر المدنس إلى رحاب القصر، وحيى جلالة الملك، حفيد ألفونس دوبوربون، مثل هذه المبادرة. وأنا تجدني هنا بفضلك واستلهامًا منك، من أجل مشروع آخر سنتحدث عنه فيما بعد. في الوقت الحاضر، أريد أن أعرف من ينوي قتل طالبك ولماذا؟
تدخلت الأميرة إيزابيل، وهي ترى مدى ارتباكي وقلقي على آميديه الذي عاد يئن:
- لنترك كل هذا إلى وقت آخر، سنيور أبو بكر! لدى الأستاذ حتمًا الكثير مما يحكيه لنا، واعتبارًا للظروف، من الأفضل تأجيل كل هذا إلى ما بعد.
أراحني تدخل الأميرة إيزابيل للغاية. بالفعل، كانت الظروف لا تسمح بشرح طويل، فأرسلت إليها ابتسامة شكر وعرفان حادت عنها بعينيها إلى آميديه. فجأة، تبدلت نبرة أبي بكر من نبرة الآمر إلى نبرة المأمور:
- تحت أمر سموك!
وفي الوقت ذاته، فتح أنطونيو الباب، وكأنه لم يفتحه، ودخل بكيس الأدوية والإبر، وكأنه لم يدخل. أعطاه لأبي بكر الذي سارع إلى إخراج إبرة ضربها في ذراع آميديه. أفرغت الأميرة ظرف الأدوية، ووضعتها على الطاولة الصغيرة. وتبعًا لتعليمات النطاسي الشهير، جعلت آميديه، الغائب عن الوعي دومًا، يبلع عددًا من الجرعات. بإشارة من أبي بكر، أعاد أنطونيو ترطيب الكمادة، فأخذتها سمو الأميرة، ووضعتها على جبين المريض. جَلَسَتْ على طرف السرير، وبقيت هكذا، وهي تنظر إليه دون أن ترفع عنه عينيها.
أخذ أبو بكر الآشي يعقّب على حالته:
- في البداية، بروفسور، كانت لطالبك حمى لا فيروس لها، إلا إذا اعتبرنا الصدمة النفسية كفيروس افتراضي، سأسمح لنفسي بهذا التعبير. حقًا، هو فيروس غير عضوي، لكنه أخطر من تلك الجسيمات التي تجد لها ملجأ في جسم الإنسان، هذا الجسم ساحة مفتوحة هو، قابل للاختراق في أي مكان وفي أي وقت. وفي حالة الحمى التي تعقب الصدمة، لا شيء أفضل من الفصد، فهي تغادر مع التفجر. هذا ما مارسته بشكل متأخر بعض الشيء، مع الأسف، فطبيب الدير قد أعطى المريض أدوية لا علاقة لها بمعالجة الحمى التي يقال عنها "نفسية"، حتى ولا تلك العضوية. على العكس، تلك الجرعات ساهمت في الإبقاء عليها، ليتفاقم وضع آميديه، ولا يتعافى من صدمته.
سكت قليلاً، وهو يحدق النظر في وجهي، قبل أن يتابع:
- لقد أراد هذا الطبيب قتل آميديه، بروفسور!
همهمت:
- نعم، لقد أراد قتله.
- لهذا أمرت بتوقيفه.
- لو سمحت، سنيور أبو بكر، سأقول لك كل شيء.
- فيما بعد، كما رغبت سمو الأميرة إيزابيل.
صاحت الأميرة فجأة:
- إنه يهلوس!
سمعناه يردد: "زارا... كلارا..." سارع أبو بكر الآشي إلى رفع الكمادة، ووضع يده على جبينه.
- هذه إشارة طيبة، قال الطبيب الخاص للملك، الحمى درجات، أعلاها الغيبوبة، وما بعدها الهلوسة، فالصحو، فالسبات، إلى آخر الدورة. الحرارة بدأت تنزل، وها هو ينزل معها بالتدريج نحو الشفاء.
طوى عدته، وجعل أنطونيو يحملها. استعد للمغادرة، فنهضت الأميرة إيزابيل، وهي تدير رأسها نحو آميديه. من عتبة الباب، قال لي أبو بكر الآشي:
- اطمئن بالاً، بروفسور! سيزول الخطر تمامًا عن طالبك عندما تلد القطة التي توجد على حافة النافذة .
اقتربتُ وسمو الأميرة من النافذة، فرأينا بالفعل قطة سوداء حاملاً، لا يبين عليها أنها ستلد قريبًا. حملتها الأميرة إيزابيل بين ذراعيها، وأخذت تداعبها، وتحكي معها، وتقبلها.
تنبأ أبو بكر:
- هذه القطة ستلد ست قطيطات، ثلاث منها سوداء وثلاث منها بيضاء.
- ثلاث سوداء...
- نعم، وثلاث بيضاء.
قلت:
- لن تلد قبل عدة أيام، وآميديه…
- ستلد خلال عدة ساعات.
- خلال عدة...
- في نفس الوقت، سيفتح آميديه عينيه، ويطلب منك كأس ماء، ثم سينام حتى الصباح، فإلى صباح الغد، بروفسور!
- إلى صباح الغد، سنيور أبو بكر!
- اطمئن بالاً، لن أترك أحدًا يشرف على معالجة طالبك غيري إلى أن يبرأ تمامًا. رجال سمو الأميرة إيزابيل وكذلك رجالي سيسهرون على سلامته وسلامتك.
- أشكرك جزيل الشكر، سنيور أبو بكر!
أعادت الأميرة إيزابيل القطة برفق إلى مكانها، وبدورها قالت:
- إلى صباح الغد، بروفسور!
- إلى صباح الغد، يا سمو الأميرة!
وأغلق أنطونيو الباب وكأنه لم يغلقه.
ما أن سقط الليل حتى سمعت مواء قطيطات وليدة، فقفزت نحو النافذة. كانت القطة تلعق صغيراتها، وصغيراتها ترضع منها. عددتها واحدة واحدة، ولشد ما كانت صغيرة لم أقع على سادستها. كانت تبحث عن ثدي أمها من ناحية ظهرها لا بطنها عاجزة عن تسلقه. حملتها بحذرٍ ابنه الحذر، ووضعتها إلى جانب أخواتها. كانت ست قطيطات، تمامًا كما تنبأ أبو بكر، ثلاث منها بيضاء وثلاث منها سوداء. سماه الناس "أخا الجن"، وهو حقًا أخوهم، إذ فتح آميديه، في تلك اللحظة، عينيه، وطلب كأس ماء أشربته إياه، ثم عاد يغفو. بقيت إلى جانبه، رغم اطمئناني لوجود الشخصية المعروفة وسمو الأميرة في الإيسكوريال، وسهرهما على سلامة آميديه وسلامتي، ولكن كل شيء لم يكن مستحيلاً مع الكاردينال ريفيرا، فهو قادر على القيام بفعل يائس ضدنا، ضد آميديه وضدي. كان يعلم علم اليقين أني قائل لا بد للطبيب الخاص للملك كل ما يجري من أمور غريبة في هذا المكان الذي يعتبره الكل المحراب الثقافي. لهذا السبب، لم أغادر غرفة طالبي المريض. رأيته ينام نومًا عميقًا. نزلت الحرارة، ومع ذلك، جددت الكمادات باستمرار. كان في طريق الشفاء، وطريق العودة إلى مدريد لم تعد في القريب، كما كنت أرجو. كنت أعلم أن مكتب الدراسات على اتصال بالعاهل الإسباني، ومسؤولوه هم الذين أخبروه بموضوع بحثي، فهل أخبروه أيضًا بمرامي آميديه، بعلاقاته بالباسك، وباقي جنونه؟ لم يبد على أبي بكر أي شك، لكنه طبيب قبل أن يكون سياسيًا. أما الأميرة إيزابيل، فلم أر أحدًا من السلالة الملكية أكثر منها تواضعًا. تصرفت كما لو كانت ممرضة لأبي بكر، وعنت بآميديه كما لم يعن به أحد. لاحظت أيضًا نظراتها: لم تكن ملأى بالعطف على مريض عاجز فقط بل ومفعمة بالخوف عليه، الخوف على حبيب مريض. أيكون الحب من أول نظرة؟ القدر الذكيّ؟ الظرف المستحيل؟ ظرف غير معقول أكثر من هذا: لقاء الأميرة وآميديه في غرفة منعزلة من الإيسكوريال لأجل إنقاذه من الموت. كل ميكانيكيا الحب لا تخضع إلا لإرادة واحدة، إرادة العاطفة، فهل يغدو آميديه للأميرة أميرها الساحر؟ رأيت كيف كانت الأميرة إيزابيل تنظر إلى آميديه بعين الود تارة والإعجاب تارة، وبأي شكل كانت تلمس بأصابعها وجنته.
توقفت عن الركض بعيدًا أكثر مع أفكاري، ربما كنت على خطأ. وإن لم أكن على خطأ، فهل سيترك "أخو الجن" الأمور تجري بين الشابين كجارح الورد، كخانق العسل، ككاسر الضوء؟ على أي حال، عزمت على أن أحكي له كل شيء عن مصرع كلارا وزارا غدًا عند أول فرصة، كلارا التي أحبت آميديه ليلة واحدة انتهت بالفاجعة، وزارا التي تمنت أن يعيد آميديه مجد أجدادها على أكف الموت، فغدر الموت بها، وكانت أولى ضحايا أمنيتها! نعم، غدًا سأقول لأبي بكر كل شيء... وذهبت في الأريكة نائمًا.


























الفصل التاسع

قمت من نومي على ضجة في الرواق، دفع أبو بكر الآشي الباب، وأدخل الأميرة إيزابيل من أمامه، يتبعهما أنطونيو، وهو يحمل العدة الطبية بيد و، سلة من السوحر بيد. أعاد الحرس إغلاق الباب، وأبو بكر يسألني:
- كيف حال المريض؟ هل ما زال نائمًا؟
همهمت:
- لقد غلبني نوم عميق وثقيل، فلم أعرف عن آميديه شيئًا مذ طلب كأس ماء وعاد يغفو، تمامًا كما تنبأت، سنيور أبو بكر!
رفع الغطاء عن آميديه، وراح يعاينه تحت النظرة المرتاحة للأميرة إيزابيل.
قالت للنطاسي الذائع الصيت، وهي تضع يدها على جبين طالبي:
- لقد غادرت الحمى مريضك.
- لا حاجة به إذن إلى إبرة ثانية ولا إلى فصدة أخرى.
- سأعطيه الدواء، لو سمحت لي، دكتور!
- عليّ أولاً أن أمسح له جرح أذنيه بمطهر.
بدأ آميديه يتململ في فراشه.
قلت:
- لن يتأخر عن الاستيقاظ.
ابتسم أبو بكر:
- سنتركه يصحو بين يدي سمو الأميرة إيزابيل.
ابتسمت الأميرة إيزابيل، وجعلت آميديه يبلع جرعاته، وهو ينام دومًا.
علقت:
- سيظن نفسه في جنان النعيم.
ابتسمت صاحبة السمو الملكي من جديد، وأبو بكر يتجه إلى النافذة:
- وما هي أخبار الحيوانات الصغيرة وأمها؟
قلت مصاحبًا إياه:
- هناك ست قطيطات، كما قلت، ثلاث سوداء وثلاث بيضاء.
ابتسم أبو بكر مبديًا كل أسنانه، وهو يداعبها بخلف أصابعه.
- لا بد أن الأم جائعة، رمى.
تقدم أنطونيو بسلة السوحر، وأخرج منها قنينة حليب وطاسًا صب فيه بعضه، ووضعه قرب القطة، فراحت تلعقه. تركت الصغيرات الحلمات، وقلدت أمها. سقطت قطيطة في الحليب، وتخبطت بيأس، فأمسكتها أمها بأسنانها، ولمعاقبتها، رمتها خلفها، ومنعتها من كل حركة. ضحك أبو بكر، وقدم للقطة قطع لحم ابتلعتها بنهم. وبينا نحن مشغولون هكذا عن آميديه، بكثير من الأحاسيس الجميلة، هتفت الأميرة من ورائنا:
- ها هو يفتح عينيه! ها هو يستيقظ!
كانت سموها ترفع رأس آميديه، ملعقة شراب بيدها. بهيئة مستغربة، نظر المريض حواليه، ثم تقصى الوجه الرائع للأميرة بعد أن عرفني. أخذ أبو بكر ملعقة الشراب من اليد الأميرية، وأسقاه إياها.
- لقد برئت، والحمد لله! قال الطبيب الشهير.
- نعم، أضفت، الحمد لله على سلامتك، يا آميديه!
لم يبد عليه أنه يسمعنا، عاد يفحص وجه الأميرة إيزابيل التي ابتسمت له ابتسامة مفيضة، والتي ما لبثت أن نهضت لتداعب القطيطات الوليدة.
- هل تسمعني، يا آميديه؟ سألته.
هز رأسه، ثم التفت ناحية الأميرة التي حملت قطيطة، وجاءت آميديه بها:
- لقد عدت إلى الحياة في اليوم الذي ولد فيه هذا القط الصغير، فهنيئًا لك!
شخص آميديه ببصره إليّ، كان لا يفهم شيئًا.
- أقدم لك، يا آميديه، صاحبة السمو الملكي الأميرة إيزابيل، قلت له، والطبيب العلامة سنيور أبو بكر الآشي، لولاهما لقضت الحمى عليك.
ابتسم آميديه لأبي بكر، ثم للأميرة. فجأة، عبر وجهه رعب لا يوصف، وانفجر باكيًا مرددًا: زارا! زارا! أين زارا؟ لقد قتلوا زارا كما قتلوا كلارا!
وصرخ.
اضطر أبو بكر إلى إعطائه إبرة مهدئة، فنام طالبي من جديد. عندئذ، توجه الطبيب العلامة إليّ، وقد عمقت نبرته، وعتمت نظرته:
- ستجدنا، أنا وسمو الأميرة، في المكتبة، لتشرح لنا كل شيء، فالرجاء أن تلحق بنا أول ما تقدر على ذلك.
أعادت الأميرة القطيطة بين قوائم أمها، وخرجت أمام أبي بكر، وهي تلقي على آميديه نظرات حائرة. خرج أنطونيو خلفهما، وهو يحمل العدة الطبية.
تركت طالبي تحت رقابة أحد رجال أبي بكر، وذهبت إلى غرفتي. أخرجت صليب كلارا من جيب بنطالي، وبسرعة بدلت ثيابي الوسخة بأخرى نظيفة. من النافذة، بدت الباحة خالية: لا زائر ولا حركة في الإيسكوريال! خيم الصمت، ولم تفعل أشعة الشمس المحرقة غير مضاعفة الشعور بأن شيئًا غير متوقع سيقع عما قريب. دفعت صليب الشهيدة في جيب سترتي، وأخذت الطريق إلى قاعة المطالعة.
لم يكن يوجد في المكتبة المحروسة حراسة مشددة سوى أبي بكر الآشي والأميرة إيزابيل والأخ جوزيه. بادرني العالم الطبيب أول ما رآني وأنا أتقدم بين طاولات كرز الطير:
- بحثك، بروفسور، عن أدب أندلسي مدنس غير معروف دفعني إلى طلب حكاية موريسكية، مؤلفها مجهول، تمامًا ككل أولئك الذين كتبوا ما تريد الكشف عنه. يقال إنها كانت مصدر إيحاء مشترك لي ولبلتاسار جارثيان، اليسوعي الأراجوني الشهير. أنا، في كتابة حي بن يقظان، وهو، في كتابة الكريتيكون "الناقد". ومع ذلك، مرجعي كان حكاية لابن سينا مأخوذة عن حكاية هندية، استعرت منها العنوان. لكن، والحق يقال، من مدة طويلة، وأنا أفكر في إعادة كتابة "حي بن يقظان" على ضوء عصرنا، بعد نقاشات طويلة بيني وبين عاهل البلاد. وما أن علمنا بمبادرتك حتى أهاب بي جلالته إلى التعاون معك، والانعكاف في الإيسكوريال الوقت الذي أجد فيه هذه القصة التي يحكي فيها الكل دون أن يقف الكل على نصها.
- سيكون نصها بالرومانثية المكتوبة بالحروف العربية، قلت، وأنا، مع الأسف، أجهل هذه اللهجة، على عكس الأخ جوزيه الذي...
- لدي شخص يعرف جيدًا الرومانثية، بروفسور: سمو الأميرة إيزابيل!
رفعت الأميرة إيزابيل نحوي وجهًا مبتسمًا، وعادت تغرق في مخطوط ضخم.
- وهل تعرف العربية كذلك؟
- علمتها العربية، أنا بنفسي، وهي تتقن لغة الضاد كما لو كانت لغتها الأم.
ومن جديد، رفعت الأميرة نحوي وجهها المبتسم، وتابعت، هذه المرة، الحديث الدائر بيني وبين أبي بكر الآشي دون أن تترك المخطوط الضخم من يديها.
- لقد قمت بفحص عدد كبير من المخطوطات، قلتُ، هنا في المكتبة أو هناك في الحجرة المحرمة، دون أن ألاحظ هذا الأدب الموريسكي.
تنحنح الراهب جوزيه عند سماعه أقول "الحجرة المحرمة"، دافعًا على أرنبة أنفه نظارة طبية ألاحظها لأول مرة. بدا عليه الارتباك، وتظاهر بالانسحاب، لكنّ أبا بكر سأله:
- منذ أمس، ونحن نعمل في المكتبة، أنا وسمو الأميرة، ولم تعلمنا أن هناك حجرة محرمة؟
تلعثم الأخ جوزيه:
- إنها محرمة على الجميع، يا سيدي!
- على صاحبة السمو الملكي؟ عليّ؟
- باب الحجرة المحرمة مُرَتَّج، لم يفتحه أحد منذ سنين طويلة.
ابتسمتُ لنظرة أبي بكر المتسائلة والأميرة إيزابيل: كيف استطعت اختراق الحجرة المحرمة وهذه الظروف؟
- كنا نتسلل إليها، أنا وآميديه، من دهليز تحت أرضي ينفذ إلى المقبرة الملكية، حتى اليوم الذي اكتشفت فيه بابًا سريًا يسمح بالدخول إلى قاعة المطالعة.
هتفت الأميرة باستغراب:
- ماذا؟! هناك باب سري؟
تبعتني، وكذلك أبو بكر. رفعت كتابًا عن رف، وضغطت على زر، فلف الحائط على محوره. تقدم ثلاثتنا إلى الحجرة المحرمة، وأبو بكر الآشي يضغط أسنانه:
- لقد كذبوا عليّ! لقد أخفوه عني!
- لقد أخفوا عنك أشياء كثيرة، سنيور أبو بكر! لقد أخفوا عنك أن في مركز الدراسات، الواقع في القصر، هناك كمية مهمة من المخطوطات باللهجة الرومانثية، عثروا عليها في بيت قديم بالأراجون! لقد أخفوا عنك، رغم كوننا على أعتاب القرن الحادي والعشرين، محاكم تفتيشهم العتهية، التي ذهب ضحيتها...
كان الراهب جوزيه قد تبعنا خلسة، وسحب مما أقف تحته من هرم الكتب كتابًا، وقبل سقوطها بلحظات معدودات دفعني أبو بكر الآشي بعيدًا عنها، فأنقذني من موت محتوم.
ألقى رجال الطبيب الذائع الصيت القبض على الأخ جوزيه. اعترف بأنها أوامر الكاردينال ريفيرا. أخرجت صليب كلارا، ورحت أحكي بالتفصيل كل ما وقع. استمعت إليّ الأميرة إيزابيل وأبو بكر بإصغاء شديد. رأيت أمائر الغضب على جبين العالم العلامة، وآثار السخط في عيني صاحبة السمو الملكي. استمعا إليّ حتى النهاية، فتأوه أبو بكر من شدة التأثر، وأطلقت الأميرة أنَّة ألم على آميديه.
أرسل أبو بكر الآشي معاونه، أنطونيو، في طلب رجال البدلات والنظارات السوداء، دون أن يحسب أي حساب لتحذيراتي. حسبه، ما هم سوى حجارة شطرنج، منفذون لا أكثر، في الجحيم مثلهم، وفي النعيم مثلهم، ومن مصلحتنا جميعًا أن نجعل منهم حلفاء لا أعداء ريثما يتم توقيف الكاردينال ريفيرا وكل الأشخاص الشريرين لشهرزاد الآخرين.
طلب أبو بكر من سمو الأميرة إيزابيل العودة إلى القصر، وللحيطة، عدم مغادرة جناحها. أما عنا، أنا وأبو بكر، فقد اتجهنا، برفقة رجال البدلات والنظارات السوداء، إلى جناح الأب الأعلى، الواقع في الناحية الغربية للدير. دفعنا الباب، ودخلنا، فوجدناه غير بعيد عن لوحتي الحب المقدس والحب المدنس لتيتيان، وهو يجلس على كرسي عالٍ أشبه بالكرسي الرسولي، يسبح لله، وينتظرنا.
بادرنا الكاردينال ريفيرا بالقول أول ما رآنا:
- كنت بانتظار سعادة طبيب الملك الشخصي، فساعة الحقيقة قد دقت!
لم يعد أبو بكر يتمالك نفسه عن غيظه:
- أية حقيقة، كاردينال؟ الحقيقة التي تدينك، الساطعة، أم الحقيقة التي يغطيها الليل الدامس منذ مئات السنين؟
- لقد دقت ساعة حقيقتنا، رد الكاردينال ريفيرا بوجه الشر الجميل، نحن أحفاد جيمينيس دوسيسنيروس وورثته الشرعيون. لولانا، لما داومت إسبانيا المسيحية على البقاء. لولانا، لما حُوُلَ دون مجيء كاثار و ألبيجو جدد، يعني أنتم المهاجرون المغاربة، لتكون عودتكم. لولانا، لما حُرِّمَ الحلم الرهيب بالانسلاخ، والدخول في عهد أشبه بعهد ملوك الطوائف أيام جهنم الأندلس. نعم، لقد خدعك الأستاذ عندما ادعى البحث عن الأدب المدنس، وغرر بك طالبه المرتد، ولكنكم كلكم من عجينة عربية واحدة، وعاهل البلاد يرتكب الخطأ الفاحش بتقريبك منه، وقد نسي أننا كنا لا نقترب من بلاط أجدادكم إلا لغاية واحدة: أن نخضعهم ونحرر منهم الأوطان.
ارتعد أبو بكر الآشي من شدة الغضب، وأمر بتقييده واعتقاله، بينما الكاردينال يزعق: ستندمون على ما تفعلون! لن تأخذوا منا أرخذونة، ولا شذونة، ولا وادي آش الذي ولدت، يا أبا بكر، بقوة الأشياء فيه، وبفضله كانت كنيتك! نحن في كل مكان، سنكون لكم بالمرصاد أينما حللتم، وليكن الله بعوننا!
سحبوه عنوة، وهو يداوم على الصراخ في الرواق مهددًا.
- الوداع، يا أحمد! رمى في الأخير. سلم لي على زهرة!
وانفجر مقهقهًا.
هتفت:
- آميديه! آميديه في خطر!
لم يسألني أبو بكر الآشي عما تعني الكلمات الأخيرة للكاردينال ريفيرا: المياه الذهبية؟ النار الليلكية؟ الغربان الفستقية؟ خف هو وأنطونيو يركضان من ورائي حتى غرفة آميديه، كان الحارس يجثم على الأرض مخضبًا بدمه، وآميديه لم يكن في سريره.
- أعرف أين أجده، قلتُ، وأنا أعود إلى الركض.
في مدينة الأموات، اتجهنا نحو كوخ الحفارين، ونظرنا من النافذة. رأيناهم، وهم يربطون آميديه على الصليب الذي قتلوا عليه كلارا: كان أحدهم يشحذ الساطور لفصل رأسه المتدلي عن جسده المتداعي. دفع أنطونيو الباب بكل قوة الشباب، وانقض على العدم بكل قوة القِدَم. ساعدناه، أنا وأبو بكر، على تحييدهم، ثم، هببنا ثلاثتنا بكل ضعف الغريب، لنجدة طالبي، وأنزلناه عن الصليب.
كان من أثر الإبرة التي أخذها هذا الصباح لم يزل ينام، فقررنا عنه ألا يكون فدية لأحد، ونَعْمًا حدث! أطلق عدة تنهدات، وفتح عينيه لقصير لحظة. عَمَّ نفير سيارات الشرطة بأرجاء الإيسكوريال، قادوا الكاردينال ريفيرا، وكل أعضاء حديقة زنابق الجحيم، بمن فيهم الأم العليا. قيدوا حفاري القبور الثلاثة، وساقوهم، هم أيضًا، إلى عربة الملعونين. حمل بعضهم آميديه على نقالة إلى غرفته، ونبش بعضهم قبري كلارا وزارا، ووضعوا الجثتين على حشيش أزرق، تحت نظرات الشجب لأبي بكر والاستنكار الأخضر. تقدمتُ من بقايا كلارا، ووضعت عليها صليبها... برفق.
في اليوم التالي، جرى قداس كبير بمناسبة إعادة دفن الأختين الضحيتين، شاركنا كلنا فيه، أنا وأبو بكر والأميرة إيزابيل وأنطونيو ومن يصحب صاحبة السمو وصاحب العلم، حتى أن آميديه قد غادر فراش المرض، وجاء إلى الكنيسة، ونفسه تحمل نفسه. صلى مع المصلين، ورتل مع المرتلين. وبعد مراسم الدفن في مدينة الموتى، وقف آميديه بيني وبين الطبيب الذائع الصيت، أقرب ما يكون من قبري المرحومتين. دعا معنا، وبسمل، وقرأ الفاتحة على روحيهما، لما فجأة، من جهة لم نعرف أيها، سمعنا ضحكات عذبة.


















الفصل العاشر

أرغمني أبو بكر الآشي على قول كل شيء بخصوص آميديه، أصله الأردني، حلمه اللامعقول، استقلال أرخذونة، علاقاته برفاقه الباسك، وهو يريد أن يُوَفَّق إلى الاستقلال بالوسائل السلمية. في حال ما إذا فشل في سعيه، فلسوف يلجأ إلى العنف. بررت ذلك متذرعًا بحمية الشباب، وكذلك بقلة التجربة، وقطعت عهدًا على جعله يرجع عن كل هذا الجنون، دون أن يطلب أبو بكر مني ذلك. كنت أريد الدفاع عن آميديه بأي ثمن، وتفادي غضب الطبيب الشخصي للملك، غير أنه استمع إلي بهدوء كبير.
رأيت على شفتيه ابتسامة لم تنقطع عن الاتساع، فأراحتني ابتسامته وأربكتني في آن واحد. سألته عن كنهها، وإن كان سببها عدم تصديق ما أحكي. لم يجبني، لكنه تركني إلى راصدة فلكية، سارّني أنه ينقلها معه أينما ذهب، وأن علم الفلك وجهه الخفيّ، خطيئته، المهنة التي كان يريد ممارستها. نظر منها إلى نجوم وادي الرامة، من إحدى الشقق الملكية، قرب لوحات أخرى بدائية فلامندية لتيتيان وديجريكو ودوزورباران، ونحن في قلب الليل.
- مع أن علم الفلك وعلم التنجيم مرتبطان ارتباطًا وثيقًا عند فيثاغورس، أنا لا أطالع النجوم لأقرأ طالع آميديه، قال أبو بكر مواصلاً النظر من الراصدة الفلكية، بل لأحدس أين ستطلع الزُّهَرَة.
لم أفهم ما يعنيه، فأشار إليّ أن آتي، وأنظر. نظرت من حيث نظر، فلم أر سوى كمية لا تعد ولا تحصى من النجوم.
قال عائدًا إلى راصدته:
- مَنْ لا يعرف شيئًا عن علم الفلك يرى ما رأيت، وأبدًا لن يعرف موضع الزُّهَرَة، والذي هو تلك النقطة السوداء في بحيرة الظلام.
وهكذا فهمت ما القصد من كلامه:
- تريد القول إن آميديه لا يعرف كيف يحقق مرامه، ولا يقدّر العواقب الوخيمة التي ستنجم عن ذلك؟
- هذا هو مصير كل جاهل بعلم الحياة، والفلك هو الحياة.
دفعني بهدوء إلى حيث كان مجلسنا، وبعد لحظة من التأمل، قال:
- بعض الأحلام تتحول إلى كوابيس على أرض الواقع، وحلم آميديه هذا لهو واحد منها. انظر، على سبيل المثال، إلى الحلم الباسكي، والعناد المميز لأصحابه منذ سنين، وحتى سنين طويلة أخرى كذلك. إن لم يبدل الحلم أصحابه، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى التضحية، فَيُقْتَلوا جميعًا. تبديل الحلم أمر ليس سهلاً، لهذا تتوارثه الأجيال تلو الأجيال، ولا تجعل الفاجعة بأصحابه سوى أن تزيدهم إيهامًا، على الرغم من أنهم يدركون أن كل ذلك ليس ممكنًا في ظروف إسبانيا الحالية.
- حتى ولو لجأوا إلى قوة خارجية؟
وأنا أقول هذا، كنت أفكر، بخصوص أرخذونة، في الأردن، البلد الذي جاء سكانها منه.
- لن يلجأوا إلى أية قوة خارجية، ليس لأنهم يطبقون مبدأ "حي بن يقظان"، بطلي، والذي يرى "أن المقدرة الإنسانية تستطيع التوصل إلى إدراك العالم العلوي دون اللجوء إلى عون قوة خارجية"، قوة تتدخل بالفعل وبوضوح لا كوسيلة تُحَرِّض، ولكن لأن أهل الأندلس، في الماضي، قد تخلى عنهم السلاطين العرب والمسلمون، تمامًا كأهل الباسك الذين ترفض اليوم أوروبا لهم كل مساعدة، تاركة إياهم وحدهم أمام مصيرهم.
- ما الفائدة إذن من الإدراك دون الفعل؟
- لتكون الفاجعة، ولتتجدد بلا نهاية، مع تأبيد الحلم، وليغدو هذا المنطق للتاريخ صراطًا. لا بد أن آميديه يعرف من هم أهل الباسك، ومن أين جاؤوا. إن أجدادهم هم أوائل الإيبيريين الذين جاؤوا من الصحارى، بمعنى أن أجدادنا كانوا آباءً لأجدادهم، نحن وهم من أصل واحد. المشكل إذن لا يكمن في أصلهم، ومن أين جاؤوا، وإنما في تأبيدهم، وبقاء لغتهم الأوسكارية منذ آلاف السنين، بسبب تلك الفاجعة التي أحدثك عنها. كانت الفاجعة محفزًا على العيش والصمود أمام كل الموجات البشرية التي اجتاحت شبه الجزيرة الإيبيرية من إغريق وقرطاجنيين وقوط وفيزيقوط وعرب وغيرهم.
- إذن هل نضع حدًا للفاجعة بإعطائهم الاستقلال؟
- مع الاستقلال سيتبدل الحلم، وستتبدل بالتالي الفاجعة كذلك، مثل هذه الشعوب التي اعتادت على المأساة لن تستمر في العيش والبقاء. لهذا السبب، السلطة المركزية في إسبانيا، على رأسها جلالة الملك حفيد ألفونس دوبوربون، لن تعطي أبدًا الاستقلال للباسك، لأن منطقتهم لن تستقر، لأن منطقتهم لن تستمر في الحكم بما فيه الكفاية، والصراع القائم بين الذين هم مع العنف وبين الذين هم ضده لهو خير برهان على ذلك، ولأن –هذا ما حدثني عنه عاهل البلاد بصراحة- إذا ما أُعطي الباسك استقلالهم، طالبت بدورها كل شعوب إسبانيا بالاستقلال، ليس فقط شعوب إسبانيا بل وكل شعوب أوروبا، فتنقسم البلاد، وتتشرذم العباد، وتتهدم أركان هذه الحضارة.
سكت قليلاً على ضحكات الأميرة إيزابيل الرنانة وآميديه الآتية من الصالون المجاور، وأصغى بعض الوقت. لم يعلق بشيء، وواصل:
- في فرنسا، كان البريتانيون حتى عهد قريب يُمنعون من التكلم بلغتهم، ومن تسمية أبنائهم بأسماء أجدادهم. لقد حصل الشيء ذاته لأجدادنا في غرناطة، وفي كل مدن الأندلس منذ خمسمائة سنة، فالنظام الذي يقوى على الفاجعة الإنسانية لم يتغير. في نصي الجديد "لحي"، بعد أن ييأس من إقامة أية عدالة اجتماعية على الأرض، سيفهم بطلي كل هذا، وسيعتقد أن الخلاص يبدأ بمعرفة الحق قبل معرفة الحقيقة، فينجح، على المستوى الفردي، عندما يصبح إنسانًا كاملاً على صورة الله، عاجزًا، مع ذلك، عن تغيير أي شيء، على المستوى الجماعي، عندما يعود إلى مجتمع عبادة الحروب، السلطة فيه قانون حكامه، فتجعله الظروف أحد جلاديها الأشد شراسة، حتى ييأس من كل شيء، لأجل أن تبقى الفاجعة. استطاع عاهل البلاد أن يجعل في الإبقاء عليها حِكمة للحكم في زمننا، ومفهومًا للتعايش إن لم يكن للعيش، خوفًا من أن تتحول هذه الفاجعة إلى كارثة لن يقوم منها أحد.
ومن جديد، سمعنا ضحكات صاحبة السمو الملكي وطالبي اللامع، فأشار أبو بكر الآشي بإصبعه إلى الناحية التي تأتي منها:
- كل واحد اليوم يحمل فاجعته، ويسير، وإلا ما بقي فينا واحد، على وجه الخليقة. من هناك، من حيث تأتي هذه الضحكات المرحة، تبدأ واحدة، فلا أفعل من طرفي ما يمنعها، أتركها تتشكل، وتجني نفسها بنفسها.
لم أفهم ما يعني.
- هذه الضحكات التي ترن كقطع الذهب، قال، ما هي إلا لعاشق وعاشقة، عشق لامعقول، لن يضاهيه عشق آخر غير عشق الله.
أربكتني كلمات أبي بكر، فأنا أعرف طبيعة آميديه، فيما لو أحب إيزابيل، أولى أميرات البلد.
- إذا كان الأمر كذلك، همهمت، فسيحمل آميديه السلاح من أجل حرية محبوبته بالقدر ذاته من أجل حرية أرخذونة.
- لو كان بطلي الجديد "حي" حيًا لفعل مثله، لصنع من الحب مأساته. لقد تدخلت في منع الموت عن آميديه باعتقال الكاردينال ريفيرا لأن تلك لم تكن فاجعته التي يجب أن تكون بالفعل فاجعته.
أذهلني منطقه، كان يرى العالم كجملة من المآسي والآلام لا كنسيج من ملاهي البشر وآمالهم، ومحرك العالم كما يراه المأساة. كانت كلماته حازمة، وكأنه صاحب نبوءة لا محيد عنها، علمته النجوم إياها.
- لقد اقترب موعد طلوع الزُّهَرَة، قال، وهو يتقصى النجوم.
استشرت ساعتي، كان الليل يخلع عن جسده الأسود نصف ثوبه المطرز، وموعد طلوع الزُّهَرَة لم يزل بعيدًا. أبديت له ذلك، فأجاب:
- مع كل دقيقة، تَقَدُّمُ الليل يقترب بنجمة الصباح، إنه منطق فاجعة طلوع الشمس ذاته، إذا ما رمزنا إلى الليل بالشر وإلى النهار بالخير، الواحد يولد من الآخر إلى أبد الآبدين، ولكن عندما يحين الوقت لذلك.
- هل نستسلم للأقدار إذن؟
- ما تدعوه "الأقدار"، أوضح، ما هو إلا مجموع الإرادات الفردية، إرادة الله، كما يرى الفلاسفة العقلانيون الذين أنا واحد منهم، إنه مفهوم وحدة الوجود، فالله والطبيعة شيء واحد، والكون المادي والإنسان ليسا سوى مظاهر للذات الإلهية. لهذا، الاستسلام للأقدار لا معنى له إلا للمخلوقات الدنيا، وفي عين الخالق الأعلى، ليست إلا الفاجعة المحتومة للإنسان، ومَسْكَنُنَا الأخير المتمثل بالموت لهو خير مثال. هل تنسى الموت، بروفسور؟ الموت المترصد عند آخر الطريق والمنتظر لكل واحد منا؟ حتى السعادة، في هذه الشروط، تغدو إحدى الطرق المؤدية إلى الموت. السعادة كالتعاسة، الكره كالحب، وكل المشاعر الأخرى المصاحبة لأفعالنا. الإنسان، صاحب هذه المشاعر، لن يفلت من الموت.
- إذن، بوصفنا بشرًا، لِمَ الصراع من أجل شيء، من أجل حلم، ونهاية المطاف هي العدم؟
- لتبقى قصص الناس وليعيد التاريخ نفسه.
جاءت الأميرة إيزابيل وآميديه، كانت تحمل قطًا صغيرًا، وكان يحمل مخطوطًا قديمًا، وهما يضحكان، فسأل أبو بكر الآشي عن سبب ضحكهما.
- لحكاية حب بين موريسكي وقشتالية، قالت الأميرة.
بدا على آميديه أنه تعافى تمامًا، بينما أخذ يترجم عن الرومانثية:
- "أراد موريسكي أن يتزوج من قشتالية، فاشترط عليه أهلها أن يتنصر، الأمر الذي فعله بكل بساطة دون أن ينتظروا منه ذلك، وهم يعلمون علم اليقين أن زواج امرأة نصرانية من مسلم لا يعني أن يترك للمسيحية دينه! واشترط عليه أهلها أن يقاتل في صفوفهم، الأمر الذي فعله بكل بساطة دون أن ينتظروا منه ذلك، وهم يعلمون علم اليقين مدى حمية المسلمين فيما بينهم وعصبيتهم! واشترط عليه أهلها أن يأتي لها بتاج الأرملة ملكة غرناطة مهرًا، الأمر الذي فعله بكل بساطة، وهم يعلمون علم اليقين أن مثل هذا التاج لا يمكن لأحد الوصول إليه حتى ولا يد الملكة ذاتها! ولكن لسوء حظه أو لحسنه، أوقفه حراس ملكة غرناطة على باب القصر، وساقوه إليها، فوقعت هذه في غرامه أول ما رأته، وأمرته بالزواج منها، فقال إنه نصراني، فقبلت به راضية، وإنه قاتَلَ في صفوف أعدائها، فقبلت به راضية، وإنه سارق تاجها، فقبلت به راضية. تزوجها بعد أن عاد إلى إسلامه، وصار ملكًا، لكنه لم ينس حبه للقشتالية. أعد العدة، وقام بغزوة ضد أهلها أسرها فيها وأسرهم جميعًا. وللزواج منها، اشترط عليها أن تُسْلِمَ هي وكل أهلها، وإلا قتل كبارهم وشرد صغارهم، الأمر الذي فعلوه بكل بساطة، وهم يعلمون علم اليقين أن إسلامهم ظاهر ونصرانيتهم باطن مقابل ما لاقوه من جاه وشأن. وبعد وفاة الملكة، صارت ابنتهم ملكة غرناطة مكانها، رزقها الله وزوجها بنين وبنات عاشوا طويلاً في رغدهما، أحبوا بدورهم وكرهوا، تزوجوا وأنجبوا، إلى أن رحلوا كلهم، نصارى ومسلمين، والأديان من بعدهم وحدها الباقية".
التفت أبو بكر الآشي إليّ، وقال:
- هذه واحدة من القصص التي حدثتك عنها، والتي سنكتبها بالدم حتى نهاية الأزمان.
ارتعشت الأميرة إيزابيل من الخوف.
- عم تتكلم، سنيور أبو بكر؟ سألت وهي تضغط القطيطة على قلبها. كنت أضحك للسخرية التي تفلت من هذه الحكاية، وها أنت لا تجد فيها إلا الجانب المرعب! قل لي، عم تتكلم؟ ماذا تعني؟
ابتسم لها أبو بكر، وأخذ يدها بين يديه.
- لا شيء! قال. أنا لا أعني شيئًا! لقد تأخر الوقت، لا بد أن سموك تعبة، وعليك الذهاب إلى النوم.
ابتسمت وهي تنظر إلى آميديه.
- مع دون آميديه، لا أشعر بالوقت كيف يمضي، قالت وهي تداعب القط الصغير.
- هو أيضًا تعب، فلم يترك فراش المرض إلا اليوم، وهو بحاجة إلى النوم.
- أريدك أن تطلب من القيمين على مركز الدراسات أن يصعدوا لي كل مخطوطات الرومانثي، قالت صاحبة السمو الملكي للعالم الذائع الصيت، لقد قرأنا، أنا وآميديه، كل ما أحضروا دون أن نجد القصة التي تتمناها.
- لم أكن أعلم أن آميديه يعرف الرومانثية، قلت، فيا للحظ! وإلا ما استطعْتِ، يا سمو الأميرة، إنجاز هذا العمل الضخم وحدك.
ابتسمت الأميرة إيزابيل لآميديه، له وحده هذه المرة، ورأيتها تسبح في السعادة.
- حقًا، يا للحظ! قالت.
- يا للحظ لي أنا! أجاب المريض السابق. لولا صاحبة السمو الملكي والسنيور أبو بكر لما استطعت الوقوف على قدميّ ثانية.
- أرجو أن ينتهي كل شيء قبل انتهاء العطلة، قلت.
- سأرتب لك إجازة سبعية لو لزم الأمر، بروفسور، تدخل أبو بكر، فلا تشغل بالك من أجل هذا.
توادعنا على أمل اللقاء في صباح الغد، وذهب كل واحد منا إلى حجرة من حجرات القصر ما عدا أبي بكر الذي عاد إلى راصدته الفلكية، يتقصى النجوم، ويقرأ في مداراتها.























الفصل الحادي عشر

أخذت قصة حب آميديه وإيزابيل تكتب تحت أعيننا، وبدأت أعتقد أن مجيء أبي بكر الآشي إلى الإيسكوريال لم يكن له سبب غير هذا الحب، وليس تلك الحكاية الموريسكية التي ادعى البحث عنها. لم يكن آميديه أحدًا آخر غير حي بن يقظان، في حلته الجديدة، وحبه لإيزابيل لم يكن غير ذلك الحب المستحيل، الحب الميتافيزيقي الذي يريد أبو بكر أن يرى كيف يكون. لم أعد أهتم بالوقوع على شيء من الأدب المدنس، أصبح الحب المدنس بين آميديه وإيزابيل ما يشدني في الوقت الحاضر. مثل أبي بكر، أردت أن أشاهد نهايته التي يتنبأ بفاجعتها. رغم ذلك، كنت قلقًا على آميديه، ومستعدًا لإنقاذه.
أما الطبيب الشخصي للملك، فقد كان أقل مني قلقًا، فهو يعرف عن هذا الحب ما تخفيه النجوم، وهو أكثر مني تجربة، بالتجربة والاستسلام يواجه المأساة. لهذا، والأميرة إيزابيل كانت على أعتاب شبابها الأول، كان لها من الأحاسيس حب المعلم، والحال هذه أبو بكر، ككل مراهق يهيم على وجهه في مرايا الشخص المعجب به، فَأََفْهَمَ سموها أن ما تشعر به ليس غير الإعجاب، ووضع حدًا لهذا الحب البدريّ، ولكن الذي ترك أثارًا لمخالب في قلبه. لم يكن حب الأميرة إيزابيل لآميديه حبًا آخر غير حبه وقد غدا ناضجًا، فالفاجعة التي كانت تتهيأ إذن كانت فاجعته. كذلك، عندما رفع له رئيس مركز الدراسات، ميجيل هِرِّيرة، تقريرًا عن نشاطات آميديه مع الباسك من أجل التوصل إلى انفصال أرخذونة عن السلطة المركزية، طلب أبو بكر منه أن يترك هذا الأمر له، وكأنه أمره، وألا يخبر جلالة الملك بشيء، وسيعمل كل ما يلزم من أجل إرجاع الشاب المتحمس إلى طريق الصواب. تذرع بحاجته وحاجة الأميرة إيزابيل إلى عونه في فك كل هذه الأحاجي المكتوبة بالرومانثية، وما أسرع ما يمضي الوقت! تمضمض النعاس في عينيه، ووعد، لو يبقي آميديه على عناده، أن يترك لضابط المخابرات حرية التصرف معه كما يرغب في حديقة الليل أو حديقة النهار، فالنهار حديقة، والليل حديقة في عالم الأسرار. عندما ألمح هِرِّيرة إلى العلاقة الحميمة التي تربط الشاب بالأميرة، كان أبو بكر واضحًا: الأميرة حرة في إعطاء عواطفها كما ترغب، ولمن تشاء، هذا موضوع شخصي لا شأن له بذاك، السياسي، حتى ولو تعرض أمن الدولة للخطر، وعارض القوة بالقوة.
بقيت أبواب الإيسكوريال مغلقة للجمهور خلال كل إقامة صاحبة السمو الملكي والعالم الفيلسوف الذائع الصيت. تركنا آميديه وإيزابيل يعملان وحدهما في القصر على المخطوطات الرومانثية، و، كل يوم، أخذنا، أنا وأبو بكر، الطريق إلى الحجرة المحرمة. كنا نرمي إلى قطع الوقت بأية وسيلة، فَبَحَثْنَا، دون أن نرغب، في أهرامات الكتب والمخطوطات، عن مادة غير موجودة. كان ما يشغل بالنا ما يجري في القصر، فنتظاهر بالغرق في القراءة، ولكن، في الحقيقة، لا نفعل غير ترك الشؤون تجري في أعنتها، حتى اليوم الذي قال لي أبو بكر فيه:
- في الماضي، كان هناك أكثر من آميديه، مسلم أو مسيحي، ودائمًا النهاية الفاجعة للجميع واحدة.
وأخذ يقرأ في مخطوط قديم:
- "...وظهرت حركة غريبة بين جماعة من النصارى المتحمسين الغيورين في قرطبة، لصد حركة الاستعراب والإسلام التي أشرنا إليها، وقد أفضت الحركة إلى حوادث ضحى بأنفسهم فيها عدد من الرجال والنساء. وكان زعيم هذه الحركة أسقف قرطبة، أحد الكهنة الزهاد، واسمه يولوجيوس، وقد زوده بالمال صديقه المثري آلفارو. كان آلفارو هو الذي كتب سيرة الكاهن المذكور، وكان أن قُتل كاهنٌ بقرطبة، في رمضان سنة 850، اسمه بيرفيكتوس، اتهم بأنه شتم النبي، وطعن في الإسلام، فكان قتله من أعظم العوامل لتقوية هذه الحركة وإنمائها. ولم يلبث الشعب، وعلى رأسه أسقف قرطبة، أن نادى ببيرفيكتوس قديسًا، وأخذت تنسب له الكرامات، فقد ذكروا عنه أنه تنبأ، قبل أن يُقطع رأسه، بأن نصرًا المخصيّ، الجلاد الذي كان ينفذ حكم الإعدام في الضحايا، سيلاقي حتفه عن قريب. والظاهر أن نصرًا كان قد تآمر مع طروب على أن يسمم زوجها الأمير لكي يؤول المُلْك إلى ابنها عبد الله دون محمد المولود من امرأة أخرى، وكان محمد أكبر أنجال عبد الرحمن الخمسة والأربعين. ونُمي إلى عبد الرحمن الخبر، فلما دخل نصر عليه ومعه الدواء قال له: إن نفسي قد بشعته، فاشربه أنت، فوجم، فأقسم عليه، فلم يسعه خلافه، فشربه، وركب مسرعًا إلى داره، فهلك لحينه.
ولم يمض وقت طويل على حادثة بيرفيكتوس حتى مثل راهب اسمه إسحق أمام قاضٍ مدعيًا أنه يريد اعتناق الإسلام، وما لبث أن أطلق لسانه يشتم النبي، فقُطع رأسه كما قُطع رأس بيرفيكتوس، واعتبره أصحابه من القديسين. وهنا أخذ النصارى المتحمسون يتسابقون إلى الموت، وقد عمد أفراد من الكهنة إلى الطعن في الإسلام قصدًا وعمدًا، لكي يقتلوا، فيعتبروا شهداء. ولم يمض أكثر من شهرين حتى قضى نحو أحد عشر شخصًا على هذا النحو.
ولم يرق لعبد الرحمن هذا الأمر، فأشار على أحبار الكنيسة أن يعقدوا مجمعًا للنظر فيه، فعقدوا المجمع بعد تردد، وحظروا على النصارى –رغم اعتراض يولوجيوس- أن يستهويهم هذا الموت في سبيل إيمانهم، ولكن مساعيهم لم تجد نفعًا. وظهرت أخيرًا حسناء من أتباع يولوجيوس اسمها فلورا، وهي من أم مسيحية وأب مسلم، واشتركت في جريمة الشتم والطعن مع راهبة صبية اسمها ماري كان أخوها في عداد من أُعدموا من قبل، ومثلت فلورا أمام القاضي، فأشفق عليها، وعلى صاحبتها، وحكم عليهما بالسجن بدل الإعدام. غير أن السجن جمع فلورا مرة أخرى بيولوجيوس الذي كان يحبها، ويجلها، فشجعها بما أوتي من حجة وبيان على التضحية بنفسها هي ورفيقتها لتكونا في عداد الشهداء، ولم يكن بعد هذا مجال للتردد، فوطّنت الفتاة النفس هي وصاحبتها على سلوك السبيل الذي يوصلهما إلى الموت، فقُتلتا في 14 تشرين الثاني سنة 851، ولم ينته هذا الشوق الهستيري إلى التضحية بالنفس حتى أُعدم أسقف قرطبة يولوجيوس نفسه سنة 859 بأمر محمد الأول (852-886) الذي انتهج سياسة صارمة مع هؤلاء، وكان عدد الذين ضحوا بأنفسهم نحو أربعة وأربعين."
بقيت طوال قراءة أبي بكر مشدوهًا لا لما أسمع وإنما لما بين يديّ من مخطوط غريب، رميته أمام الطبيب الشخصي للملك، فقفز من المفاجأة، وبهيئة مهيبة، راح يقرأ ما هو مكتوب على الصفحة الأولى بالدم. "هذه هي حكاية الحب التي اهتزت لها شبه الجزيرة الإيبيرية اهتزازًا لا مثيل له بين القشتالية، إيزابيل العاشقة، والعربي، أحمد الأندلسي، اللذين أمر الكاردينال دوسيسنيروس بقطع رأسهما في حرم الكالا دوهيناريس بمجريط، بتهمة الهرطقة. بدم أحمد نكتب الجزء الأول من هذه الحكاية، في هذا المخطوط المودع في الإيسكوريال، أما الجزء الثاني، فسيجده كل من يهمه الأمر في مخطوطٍ ثانٍ مودعٍ في الكُتُبِيَّة، جامع الموحدين في مراكش، المدينة الحمراء."
قلّب أبو بكر الصفحات، فلم يجد أية كلمة بل بقعًا من الدم، من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة. في تلك اللحظة، حضر أمامنا ميجيل هِرِّيرة على غير انتظار، كان يرتعد من قمة الرأس إلى أخمص القدم، لا يستطيع النطق، فحثه أبو بكر على الكلام.
- لقد اختفى آميديه وصاحبة السمو الملكي، نطق أخيرًا، وليس هناك أي أثر لهما في الإيسكوريال!
سقط الخبر على رأسنا كالصاعقة، قمنا مع رئيس مكتب الدراسات نركض إلى القصر، فلم نجد فيه لا الأميرة إيزابيل ولا آميديه. كانت تنام في سرير سموها القطة السوداء وصغيراتها الست، ففهمنا أنها ذهبت مع آميديه بمحض إرادتها، وأنها لم تُرغم على ذلك كما افترض، في البدء، ميجيل هِرِّيرة. جاء أحد معاونيه، وكشف أن ملف الباسك قد اختفى كذلك. أكد هِرِّيرة عندئذ، أن آميديه اختطف الأميرة إيزابيل ليحمي نفسه من نتائج الفعل الخطير هذا، فدخل أنطونيو، وأوضح أنه رافق الأميرة إيزابيل عدة مرات إلى قسم الوثائق، وأنها هي من أخذ الملف مساء البارحة، ووعدت بإعادته إلى مكانه قبل أن يكتشف أحد غيابه. أنطونيو الذي لا تفوته شاردة ولا واردة شرد به الفكر، وقال كمن يكتب رواية تشردية: قبل أن تتمنى لي ليلة سعيدة، طلبت إليّ أن أكتم السر. لم يكن أنطونيو صائغًا للكلام، فاستخلصنا أنها ذهبت مع آميديه عمدًا، بعد أن أحبته، واقترنت بقضيته.
تشاورنا، أنا وأبو بكر، بأعيننا: لقد وقعت الأفعال الأولى لهذا الحادث الخطير على غير ما نتوقع. فكرنا، بالطبع، في العواقب المفجعة لهذه القضية، فرأى الطبيب العالم العلامة المجرب أن من واجبه تحمل مسؤولية كل شيء. أمر أنطونيو بإعداد الحقائب، للعودة إلى مدريد حالاً: سيخبر بنفسه عاهل البلاد بما حدث، فأذعن رئيس مركز الدراسات. طلب مني أبو بكر الآشي أن أغادر الإيسكوريال، وأن أبقى في مدريد غير بعيد عنه، بانتظار أن يتصل بي. تركت المكان، بعد أن تركه بقليل، آخذًا معي ذلك المخطوط الغريب الملطخة صفحاته البيضاء بالدم، لا أدري لماذا. ربما لأكتب، أنا، القسم الأول من قصة حب أحمد وإيزابيل، بانتظار أن أقف على القسم الثاني المودع في الكُتُبِيَّة.

























الفصل الثاني عشر

عندما وصلت مدريد، كان خبر هرب العاشقين قد انتشر في كل أنحاء العاصمة، وقد أخذ الناس ينسجون حولهما القصص، ويتقولون الأقاويل، وهم إن لم يقولوا في الأميرة ما يشين، قالوا في آميديه كل ما هو شنيع، وطالبوا بقتله، وقتل أهله، وكل أهل أرخذونة الذين يقفون إلى جانبه. انطلقت من جديد أجواء الحملة الهستيرية ضد "المور"، فقرعت أجراس الكنائس استنكارًا، وقاءت وسائل الإعلام حقدًا. حثت بعض جرائد المساء السلطة المركزية على شن حملة تأديبية ضد الجيران العرب، وتركيعهم واحدًا واحدًا -لأنهم هم الذين يقفون وراء هذه القضية- وحرق مدنهم، فهي اللغة الوحيدة التي يفهمونها.
انتظرت أن يتصل بي أبو بكر الآشي، لكن حاجتي إلى قضاء غرض سريع في المدينة القديمة اضطرني إلى الخروج. في الواقع، لم أكن اسكن بعيدًا عن البُويرتا ديلسول، الساحة الكبرى على شكل الهلال، التي تشكل القلب التاريخي لمدريد. كان كل شيء يغلي حول البُويرتا ديلسول، رغم متنزهي المساء المألوف أمرهم والدكاكين الأنيقة في الشوارع المحيطة بالساحة. كانت تماثيل الملوك تشخص ببصرها إليّ، وكأني المذنب الوحيد. أحدق ألفونس العظيم النظر فيّ، فارتعبت أوصالي. ثقب أذنيّ وقع حوافر حصانه في الحروب التي خاضها، ودفعت ابنه إلى التمرد عليه. لكنه العظيم في كل شيء، في الحرب وفي الحرب، انتصر على ابنه، ورماه بين القضبان. لم ينزل عن العرش إلا على يد زوجته التي ثارت ضده، واقتسم البلاد أبناؤه الثلاثة ما بينهم. تعلل بالحرب عن التنازل عندما طلب منه أبناؤه أن يكون على رأس الجيش الذي قاتل "المور"، وانتصر عليهم. تحركت تماثيل الشخصيات الأسطورية، سِيد ودون كيشوت وكارمن، وأخذت تتبعني. حاولت التخلص منها بالاختباء وراء النوافير، لكنها كانت في الماء. عملت من الماء سيفًا ورداء، وانقضت عليّ. لم يكن عليّ الخروج، وفوق ذلك، تأخر الطبيب الشخصي للملك عن إرسال من يجيء بي. بأمر النجوم كان يعمل، فانتظرت سقوط الليل. وبالفعل، ما أن حل المساء حتى طرق أنطونيو بابي، وساقني إلى القصر الملكي المدريدي. كان قلقي كبيرًا على زوجتي وبناتي اللاتي يقضين عطلتهن الصيفية في الجنوب، بيد أني فضلت أن يكن بعيدات على أن يرينني في قلب كل هذه المعمعة. أبديت لأنطونيو رغبتي في الاطمئنان عليهن، فوعد بمهاتفة زوجتي بنفسه، وإذا ما لزم الأمر، أرسل إليها برسول يراها، فتراني. كان يريدني التفرغ تمامًا لمشكل الساعة، فحدست مدى المصاعب التي على أبي بكر مواجهتها، وما ينتظره مني.
اخترقنا حدائق القصر الملكي، القلعة المورية لمجريط سابقًا، ألكازار. اجتزنا عتبة البناء الضخم، لنجد رجال القصر في قيام وقعود، أشبه بيوم القيامة، فلم أفه لأنطونيو بأي تعليق. صارت له، ونحن نطأ السجاجيد الحمراء، قرب المكتب الملكي، سحنة متجهمة. قبل قبول التحدي، لاحظت الحرس الملكي في زيهم الأندلسي على جانبي باب العاهل الإسباني: عمامات بيضاء، ملتفة، قمصان بيضاء، مطرزة، سراويل بيضاء، منتفخة، أحذية وأحزمة سوداء تتدلى منها السيوف. في طويتي، لم يدهشني ذلك. بعرض الماضي "الضد-الإسباني"، يبدي الملك للعالم سياسة الانفتاح التي له والتصالح، وحقيقة أن يكون طبيبه الشخصي من أصل عربي، وكذلك حضوري في عقر داره، يؤكد ذلك بقوة، لكن الوقت ليس للتفاؤل.
رجاني أنطونيو الانتظار قليلاً في إحدى الحجرات الضخمة ريثما يبلغ سيده بوصولي إلى القصر، وذهب، وهو يغلق الباب بهدوء من ورائه. كانت السجادة الجدارية لجويا نفسها التي رأيتها في الإيسكوريال معلقة على الحائط، تقدمت منها، وأنا أتساءل أيهما الأصلية. أصابني العجز، وهتف بي هاتف يقول لي "كن على حذر". انفتح باب داخلي، وظهر أبو بكر الآشي. جاء باتجاهي بخطوات مثقلة دفعتني إلى الإسراع نحوه لمصافحته والسلام عليه. كانت له سحنة أنطونيو المتجهمة نفسها. أشار إلي بالجلوس، ففعلت، بينما بقي واقفًا. سحب نفسًا طويلاً قبل أن يقول:
- منذ وصولي القصر، وأنا برفقة جلالة الملك. لا يريد تصديق أن الحب هو ما دفع سمو الأميرة إيزابيل إلى فعل ما فعلت، ويعتقد جازمًا أن في الأمر مؤامرة تقصده، وابنته الكبرى، وكل الأسرة المالكة، لهدم الديمقراطية كما حصل سنة 1981 حين الانقلاب العسكري في الكورتيس إسبانولاس، والذي تمكن من القضاء عليه بسرعة. هو على استعداد لحرق الأرض تحت قدمي آميديه وأقدام الباسك الذين لجأ عندهم إن لم يُطْلَق سراح سمو الأميرة حالاً، ودون شرط أول. بيد أنه لن يفعل شيئًا قبل أن تتصل أنت، بروفسور، بطالبك، وتقنعه بتسليم نفسه، وتعود بالأميرة إيزابيل إلى أبيها سالمة. لقد كلفني جلالته بإبلاغك رغبته، وهو يرفض، بطبيعة الحال، استقبالك الآن خوفًا من أن يأخذك بذنبك، ولن يقتنع بأن لا يد لك في الأمر إلا بعودتك وابنته معك، فيثق بك، ويضع آميديه ورفاقه بين أيدي السلطات المخولة بحفظ أمن الدولة وصيانة وحدتها، والتي ستقرر مصيرهم.
ابتسمت دون أن أنتبه إلى أمارات الاستنكار على وجه محدثي، الذي يجد ابتسامي غير مناسب في تلك اللحظة العصيبة.
- هل هذه هي طريق الفاجعة التي أقرأتك إياها النجوم، سنيور أبو بكر؟ قلت ليس من غير تهكم، وهل ربما هي النهاية لنا جميعًا؟
ارتبك أبو بكر، ونظر إلى النافذة. تساقطت على حوافها بعض النجوم من السماء الألقة لمدريد، اللامبالية بما يجري في القصر.
- لا توجد نهاية، بروفسور، همهم، وإنما استئناف، وبداية جديدة، وكل شيء يتوقف عليك في الوقت الحاضر.
- وحب آميديه لإيزابيل؟ وخاصة حب إيزابيل لآميديه؟ إذا كان هذا الحب بالفعل سبب كل ما جرى، فماذا سأفعل؟ ربما كانت سمو الأميرة هي فلورا، هل تذكرها؟ تلك التي ضحت بنفسها في سبيل حبيبها يولوجيوس وقضيته، أو إيزابيل العاشقة، تلك التي أحبت أحمد الأندلسي، وبدمهما كُتبت قصتهما. إن لم تكن هناك نهاية، فهي أم البدايات، سنيور أبو بكر! شخصيًا، أعرف مسبقًا مخرج مسعاي: لا شيء غير الفشل. أما عن مصيري، فسيكون المصير الذي يقرره عاهل البلاد، ربما كانت الإدانة.
- سأدافع عنك بالقرب من صاحب الجلالة، وأجعل من مصيرك مصيري.
- وأهل أرخذونة، من سيدافع عنهم؟ وأهل الباسك؟
- فلنترك الجواب للتاريخ، ألم أقل لك إن التاريخ لا يفعل سوى إعادة نفسه؟
- هذه المرة لن تكون فقط بضع قطرات دم ستلطخ بضع صفحات بيضاء في مخطوط ضائع، هذه المرة سيكون نهر يجرف كل شيء مع عبوره. حقًا، إنها أم الفواجع، أم كل اللعنات!
- تتأرجح الحياة بين الفاجعة واللعنة، ونحن لا نستطيع شيئًا. يمكن لبعضنا ذي البصر والبصيرة أن يؤجل الفاجعة، ويحتوي مؤقتًا اللعنة، أو العكس. أمام غضب جلالة الملك، وبدافع إخلاصي له، أرجوك، بروفسور، أن تعمل كل ما بوسعك على تأجيل هذا المصاب الفظيع.
- وإذا فشلت؟
- هناك طرق أخرى سنأخذها، ومهمات أخرى سنكلفك بها بالقرب من سلطات عمان وشذونة، فلا تعقد الأمور. سنحكي فيها حال عودتك، إذا فشلت، الشيء الذي لا أتمناه.
أعلمني أن آميديه وإيزابيل يوجدان في "منطقة من جبال البرنة الغربية"، فالرسالة التي وصلت القصر من آميديه منذ ساعة، والتي يطالب فيها بمفاوضات حول استقلال أرخذونة، مدموغة بهذه العبارة. سيرافقني أنطونيو إلى مقر الحكم الذاتي و، من هناك، سيصطحبني معارضون للحكومة المركزية حتاه.
عاد الهاتف يهتف بي "كن على حذر!"، فهمهت:
- الحذر لا يمنع القدر.
- ماذا؟
- لا شيء.
- ظننت...
- متى سأغادر؟
- في الحال. وضعنا طائرة تحت تصرفك.
دخل أنطونيو.
- كل شيء على ما يرام، بروفسور، قال. اتصلت بزوجتك، وهي تتمنى لك النجاح والتوفيق في مهمتك الباسك. اضطرتني إلى أن أقول لها كل شيء، فمعذرة!
فتح نجي أبي بكر معبرًا لنا من السجاد الأحمر بين الحاضرين، والطبيب الشخصي للملك يطالبني ويلح أن أبذل قصارى جهدي لإقناع آميديه بالعدول عن مشروعه السياسي، وقطع على نفسه عهدًا بالعمل على رضاء الملك عنه وتسامحه، حتى أنه سيقنع جلالته بتزويجه من سمو الأميرة ابنته الكبرى، فينتهي كل شيء على ما يرام. نظرت إليه بدهشة واستغراب، فموقفه، في الوقت الحاضر، يعارض قناعاته الفلسفية.
- سنحاول كتابة التاريخ بطريقة أخرى، بروفسور، قال الطبيب الذائع الصيت، إن كان نجاحنا أعدنا النظر في مواقفنا كلها، وإن كان فشلنا قلنا إننا حاولنا.
حصلت ضجة مفاجئة حولنا، فظننت الملك مغادرًا القصر، لكني رأيت رجلاً قصيرًا أصلع بوجه أعرض وشفتين هدلاوين، فهمس أبو بكر في أذني:
- ها هو الفارس بوعمير، حاكم شذونة. لم أكن أعلم باستدعاء جلالة الملك له.
- في هذا الظرف الصعب، علقت، ربما دعا نفسه بنفسه ليعرض خدماته.
- هذا ممكن مع شخص مثله.
توقف أمام أبي بكر، وسلم عليه بحرارة، ثم تابع طريقه بعد أن رماني بنظرة فاحصة.
- هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها عن مقربة، قلت.
سارع الطبيب الشهير إلى القول:
- عليّ العودة إلى مكتبي، فلن يتأخر جلالته عن طلبي.
وعاد إلى توصياته، قبل أن يعود أدراجه.
- سنمر على منزلي، قلت لأنطونيو، لأخذ بعض الأغراض.
- لا داعي لذلك، بروفسور، طمأنني، لقد أعددنا كل شيء.






الفصل الثالث عشر

لم تكن المرة الأولى التي أذهب فيها إلى بيلباو، عاصمة البيسكاي، ولم أزل أحتفظ بمذاق أجبانها الباسكية وجانبونها الإيبيريكو. أنزلني أنطونيو في فندق كوندي دوكي، وبعد ساعة، أكون ارتحت قليلاً، سيمر لأخذي إلى مطعم الأسادور جيتاريا، لأكل بعض المشاوي. نظرت إلى ساعتي، وأنطونيو يرشقني:
- الناس هنا يتعشون متأخرين، والمطاعم تبقى مفتوحة إلى ساعة أبعد ما بكون من الليل.
- أعرف بيلباو وعادات أهلها، قلت، إلا أنني أفضل أن آخذ شيئًا خفيفًا في مطعم صغير من مطاعم المدينة القديمة، وأعود بسرعة إلى الفراش، فيومنا غدًا سيكون حافلاً بالمفاجئات.
- كما شئت، بروفسور! إذن إلى اللقاء خلال ساعة.
- لستَ مضطرًا لاصطحابي، فأنا أعرف المدينة جيدًا، كما قلت لك، وحاجتي كبيرة إلى التوحد من أجل أن أفحص جيدًا أغوار مهمتنا والتأمل في سبل إنجاحها.
تردد أنطونيو:
- هل أنت متأكد، بروفسور؟
- تمام التأكد.
- لن تحتاج إليّ؟
- لا تقلق، يا أنطونيو!
- من عين العقل أن أكون معك، أو أن يرافقك أحد الحراس، فنحن لا ندري ما يمكن أن يحصل والظروف الحساسة التي نعيشها...
- قلت لك ألا تقلق من أجلي، لن يحصل لي شيء: المدينة القديمة على بعد خطوتين من هنا، وفضلاً عن ذلك، لا أحد يعرفني، أو يعرف سبب وجودي في بيلباو.
- كما تشاء، بروفسور! كن حذرًا!
رماني أنطونيو بنظرة بدت لي غريبة، وغادر حجرتي. كنت بالفعل بحاجة إلى التجول على البلاط الرطب للمدينة القديمة، والإصغاء إلى أصداء خطواتي، وفي الوقت ذاته، التفكير في ردود فعل آميديه، وموقف الأميرة إيزابيل التي يصر والدها على عودتها. كانت حاجتي إذن كبيرة إلى اللقاء بنفسي في فضاء بيلباو الموريسكي، والخلو بها. لم يكن سعيي إلى أكل قطعة جبن أو شريحة جانبون سوى ذريعة للتخلص من ملاحقة مساعد أبي بكر، لا غير.
على باب الفندق، نظرت باتجاه متحف جوجنهايم، في الناحية الأخرى من نهر نيرفيون، لم تكن أضواؤه تستطع كما كان في الماضي، كان يسقط في ظلام دامس. بذلت عدة خطوات نحو النهر، كانت النجوم تنطفئ فيه، وكانت تعبر السماء غيوم كثيفة، والأمواج ثقيلة. التفت من حولي، كان العابرون قليلين. أحسست بقرص في قلبي، وبدلاً من أن أعود أدراجي، قطعت منتزه الكامبو فولانتين، ومنه، ساحة رازا نيوفا ذات الأعمدة الواحد والألف الشبيهة بأعمدة الإيسكوريال. ثم وجدت نفسي أمام كاتدرائية سانتياجو، في قلب المدينة القديمة. دقت أجراس الكنيسة دقات رتيبة، وأنا أدخل في أحد الأزقة ذات البيوت العالية والشرفات الحديدية. في الليل، خمنت بوجود قواوير الزهور، كانت كلها سوداء، لا يفوح شذاها كما هي عادتها. وكانت معظم البارات مغلقة، والفاتح منها نادر الرواد. ترددت على باب أحدها، تردد المتسلط على ميوله. كان مجيء آميديه وإيزابيل إلى بلاد الباسك قد طبع عميقًا سلوك الناس، وهم بين القلق والخوف، فضلوا المكوث في ديارهم. لم يكن أسلوب عيشهم، فقررت العودة إلى الفندق، عندما أحاط بي فجأة، ثلاثة رجال مسلحين. طلبوا إليّ أن أتبعهم، الشيء الذي فعلته دون أن أطرح أي سؤال. أركبوني في سيارة كانت تقف قرب الكاتدرائية، وانطلقوا بأقصى سرعة.
سألت خاطِفِيّ عن وجهتنا، وإن كان آميديه وراء كل هذا، فاختاروا الصمت. قلت لهم إن تأخري عن العودة إلى الفندق لسوف يدفع كل عساكر المنطقة إلى البحث عني في كل مكان، فأنا في مهمة رسمية، سيقتفون آثاري، الشيء الذي يعني حصول متاعب كبيرة لهم، إلا أنهم لم يهتموا بتهديداتي المبطنة. كنت كمن يمخر عباب البحر، أسعى عبثًا. لم تكن عبقرية اللغة تنفع في شيء، ولم أجد جوابًا لوضعي، وأنا مَنْ عندي لكل حال عتاد. على أبواب مدينة سان-سيباستيان، كانت سيارة أخرى بانتظاري. وضعوا قناعًا على وجهي، وجعلوني أدخل فيها. بعد قليل من الوقت، بدأنا نصعد جبال البرنة الغربية. كجسد المرأة كانت جبال البرنة، بيضاء في الليل، بضة، تشجع على الاغتصاب. تساءلت ما الفرق بين مغتصب الحق ومغتصب السلطة، وغفوت. في الصباح، صحوت على سرير يُطوى، في خيمة.
خرجت أنظر أين أوجد، كانت إحدى هضاب السحلبيات، وهناك ليس ببعيد ثلاث خيمات، ورجل يغلي إبريق قهوة على بعض الجمر. أول ما رآني، خف إلى الدخول في إحدى الخيمات الثلاث، ليخرج، بعد قليل، بصحبة آميديه والأميرة إيزابيل. رأيت أول ما رأيت منها قدمها اليمنى التي خنق بنصرها خاتم الزواج، وطوق عرقوبها سوار، حسب العادة الأندلسية. عرفت، عندئذ، ألا فائدة ترجى من مهمتي.
سلما عليّ بحرارة، واعتذر آميديه. كان مضطرًا "لاختطافي"، بالتأكيد لدواعي أمنية. لم أسأله كيف علم بوجودي في بيلباو، فرفاقه الباسك منتشرون في كل مكان في البلد. ونحن نأخذ القهوة، جاء الرجال الذين كانوا في الخيمتين الأخريين للسلام عليّ. سألوني إذا ما ارتحت من عناء السفر، واعتذروا، بدورهم، عن الطريقة التي جرؤوا فيها على اختطافي. تركونا، آميديه وإيزابيل وأنا، وحدنا، وعادوا إلى الخيمتين: كانت لهم ذقون خشنة كلهم، اغتصابية.
أحضر من قدم لنا القهوة كرسيًا، فرجاني آميديه الجلوس، بينما جلس والأميرة على حجر. رشفت قهوتي، ثم نظرت في عيني آميديه، وهو يلف كتف الأميرة بذراعه.
- سأدخل في صميم الموضوع، قلت لآميديه. يعتبر جلالة الملك وجود الأميرة إيزابيل هنا كاختطاف، لزعزعة أركان الأسرة المالكة، وتدمير الديمقراطية. وهو يوجب عودة صاحبة السمو معي، دون شرط مسبق، وترك أمرك، يا آميديه، بين أيدي السلطات السياسية. بخصوص أبي بكر الآشي، قطع على نفسه عهدًا بالعمل على عفو الملك عنك، وقبوله بتزويجك من المرأة التي تحب، والحال هذه سمو الأميرة إيزابيل، فنحل المسألة، ونتحاشى إهراق الدماء، لأن جلالته مصمم، إن فشلتُ في مهمتي قربكما، ذَبَحَ أهل الباسك وأهل أرخذونة.
من الجلي أنني لم أتكلم عن اشتراط جلالته على آميديه تسليم نفسه، وعلى العكس، اقترحت حلاً سلميًا بينه وبين السلطات الحكومية. ومع ذلك، انفجر طالبي ضاحكًا، وكذلك الأميرة إيزابيل.
- انظر من حولك، بروفسور، قالت سموها لي، هذه السحلبيات أميرات مثلي، الفرق بيني وبينها، أنها ولدت في المنفى. نعم، لقد اخترت هذه الطريق من تلقاء نفسي، لأني أحب آميديه. لم يختطفني بالقوة، كما يعتقد أبي، اقتنعت بقضيته العادلة، وقدرت النتائج الوخيمة التي تترتب عن ذلك. أنا امرأة مسؤولة تعرف ما تفعل، أنا ابنة الملك الكبرى.
نظرت إلى وجهها الشاحب الذي يشبه إلى حد كبير سحلبيات الجبل، ورجوتها:
- لهذا السبب، يا صاحبة السمو! لأنك الابنة الكبرى لجلالة الملك، ولية عهد تاج إسبانيا، أهيب بك إلى العودة معي إلى مدريد، وأبتهل إليك تصديق كامل فهمي لمشاعرك، وإلا تحول حبك لآميديه وحب آميديه لك إلى فاجعة الفواجع!
تدخل آميديه كشجرة سنديان تنبت في الرماد:
- على العكس، حبنا سيعتق شعبي وكل شعوب إسبانيا وسيسمح لبلدنا استعادة مجده الغابر.
- أنت، طالبي اللامع، تقول هذا دون أن تدرك مدى أبعاد التهديدات الملكية الوخيمة العاقبة!
- من أجل حبي، سأقاتل الدنيا بأكملها، لو يلزم!
جذب الأميرة، وقبلها، ثم قال:
- من أجل إيزابيل، سأحرر أرخذونة، لتكون مليكة عليها في حياة أبيها!
- ستدفع الثمن غاليًا، يا آميديه!
- دمي ودم شعبي يرخصان في سبيلها.
لم أيأس من إعادته إلى طريق الصواب، وطريق الصواب كان إبقاء باب المفاوضات مفتوحًا:
- اسمع، يا آميديه، لقد وصلت رسالتك إلى جلالة الملك التي تطالبه فيها باستقلال أرخذونة، وأنا في القصر، وهذه مبادرة سلمية، بإمكاني وأبي بكر الآشي أن نعمل على تحقيقها، وذلك باقتراح التفاوض معك، فقط إن وعدت بعودة الأميرة إيزابيل إلى مدريد معي عند لقائنا القادم.
غضبت صاحبة السمو:
- ولكني أنا لا أريد العودة، بروفسور! هنا قصري، وهؤلاء هم أهلي، ووجودي هنا لا يعارض أي حل سلمي!
وفي اللحظة ذاتها، انبثقت من وراء قمم البرنة طائرة هيلوكبتر، انقضت على المعسكر، وراحت به قصفًا. بحثنا، أنا وآميديه والأميرة إيزابيل، وكذلك كل من كان معنا، عن مخبأ خلف الصخور. أخذت سموها تبكي بين ذراعي آميديه، وتتساءل بحقد جعل من أزرق عينيها أسود:
- هل هذا هو الرد على مبادرة آميديه السلمية؟ هل هذه هي أوامر أب يريد من ابنته العودة إليه، وهو لا يهتم حية أم ميتة؟ حتى أنه لا يشغل باله وجود مبعوثه الشخصي ونجاح مسعاه!
ولت الهيلوكبتر الأدبار، مع أولى الطلقات، ونشب حريق في إحدى الخيام.
قلت لابنة الملك:
- ليست هذه أوامر جلالة أبيك على التأكيد، إنهم عساكر المنطقة، نوستالجيو فرانكو، الذين يحاولون نسف دعائم الديمقراطية، وجر البلاد إلى حرب أهلية.
توجهت بالكلام إلى آميديه وفي عينيه نسر يحترق:
- هناك من بين من جاء بي إلى هنا عميل للعساكر، فحاذر من كل من هم معك، يا آميديه! لا تجعلهم يورطونك، لا هم ولا الجنرالات، وليكن الله عونًا لك! لقد قمت بواجبي، وبذلت جهد طاقتي، ولم أحصل على شيء، وبهذا تكون مهمتي قد انتهت، وعليّ العودة إلى بيلباو.
أحضرت الأميرة إيزابيل من الخيمة التي شبت النار فيها مخطوطًا محترقًا، نقلته بإصبعين قبل أن تلقيه أرضًا.
- في هذا المخطوط، قالت، وجدنا، أنا وآميديه، الحكاية الموريسكية التي كان يبحث عنها سنيور أبو بكر، "الصنم والملك والابنة"، وهي إحدى الأساطير التي قيلت في الاسكندر الأكبر. مع الأسف، أحرق رجال أبي هذا المخطوط الثمين. حافظ على مكانته، وتصرف في حق ابنته كالصنم لا كالملك! عَبِّرْ لسنيور أبي بكر عن عميق حزني، واطلب إليه، بالأحرى، أن يقرأ في قصص الناس الذين هم حوله ما أراد من القصص الغابرة... ستكفي قصصهم ما ينتظر الحكواتي في ثوبه، هو خير من يعلم أن النجوم هي النجوم، ونحن أشباهها.


























الفصل الرابع عشر

والسيارة تهبط مرتفعات البرنة، فتحتُ الزجاج لأستنشق الهواء العليل. كنت أجلس إلى جانب السائق، والظن يذهب بي إلى أن آميديه، بعد الغارة، سيبدل المكان الذي كان مخيمه فيه، وكذلك موقفه السياسي، والطريق التي سينتهجها لن تكون الحسنى، فالنادر لا حكم له. رأيت الأشجار كيف تنزف سائلاً أبيض، والأفكار كيف تنصل من السهام. بيد أن الكلمات الأخيرة للأميرة إيزابيل شغلت بالي، وأفرغت صبري. لم تكن تعلم قوة حب الفُضول لدى الأدباء، وبأس الخيال لما يذهب الخيال بأبي بكر الآشي حتى نهاية العالم، لو يلزم، ليجد الحكاية الموريسكية التي كان يريدها. التنافس، بينه وبين بلتاسار، تبارٍ لا يفهمه أحد غير أصحاب القلم، يدفع الواحد والآخر إلى الغوص بعيدًا في نوعية كتابتهما، فالبحر بحران، والأزرق لونان. يجب تجاوز النفس، تجاوز المنافس، المعادل، المراوغ للكلمات. يجب القدرة على التعبير عن الرقة والروح الجميلة، فالاختلافات بينهما ليست مهمة: كلاهما صوفي وفيلسوف عقلاني في آن واحد. الله لهما والطبيعة شيء واحد، الكون والإنسان ليسا سوى مظاهر للذات الإلهية. النجوم هي النجوم، كما قالت الأميرة إيزابيل، أي، كالله، باقية أبد الدهر، تتغير، ولا تغير مداراتها، ونحن حتمًا أشباهها، باقين ما بقيت، لا نتغير إلا في أفعالنا وسلوكاتنا. قصصنا، مهما اختلفت، كانت وتكون وستكون مادة كل خيال.
في كل الأحوال، كانت العبرة في كلمات الأميرة إيزابيل كبيرة: أن نحل مشاكل ناس اليوم حسبما تمليه علينا ظروف اليوم، وأعظم مشاكل اليوم التي تشغلنا مشكلتها وآميديه، التي تتصادف معطياتها مع ما يبحث عنه، أبو بكر الآشي، من متأول في الأدب الموريسكي، ما ضاع، وما أبحث عنه، أنا، من متمرد في الأدب الأندلسي، ما لم يضع. كانت قصة حب آميديه وإيزابيل هي التعبير المحسوس عما نحلم بالوقوع عليه: هذا الحب "المدنس"، الخارج على القانون، المخالف للاعتياد، الجاري مجرى النيازك في السموات، خارج كل مدار!
كان علينا إذن، أنا وأبو بكر الآشي، أن نحمي حبًا كهذا، وكان علينا أن نبحث عنه في صفحات الوجود، وليس في طي كتاب أو مخطوط، بعد أن رأت الكتابة فيه نفسها، واختُزلت فيه. لم يمنع ذلك التفكير في وخيم العواقب لفشلي في المهمة التي كُلفت بها، وكنت، في الوقت ذاته، راضيًا، لأن الأميرة إيزابيل لم تعد معي، بمحض إرادتها، بعيدًا عن كل مفهوم لاهوتي. كان حقها الجوهري بوصفها إنسانة، أن تحب، وإن أدى مثل هذا حب، إلى أشنع الأفعال: الحرب!
وجدتني أعود هنا إلى منطق أبي بكر، فلا هو السمو بالعقل ولا هو السمو بالشعور. في هذه الحال، من المحال ألا تقع الفاجعة. اقشعر بدني من الخوف، فأقفلت نافذة السيارة. بتنا على وشك الوصول إلى قدم البرنة، وبدلاً من عمل كل شيء على تأجيل هذا الحدث الجسيم، تمنيت، ويا للمفارقة، أن يتحقق في الحال، وأن أكون أولى ضحاياه. امتزج قدري، دون أن أشاء، بقدر العاشقَيْن. وفي كل الأحوال، كان "الصنم" بانتظاري في مدريد. تركته غاضبًا، وسأجده أكثر غضبًا.
توقف السائق، وطلب إليّ أن آخذ المِقْوّد.
- ستسير حتى الحاجز، بروفسور! وهم سيرتبون عودتك إلى بيلباو عندما يعرفون من أنت. مع السلامة!
غادر السيارة، وتسلق الصخور ليعود من حيث جاء، ثم اختفى. كما قال لي، أعادني رجال درك الحاجز إلى الفندق. كان أنطونيو على أحر من جمر الغضى، غيرَ مخفٍ ميله إلى المخاطرة. حمد الله على سلامتي، وأبلغني استشاطة جلالة الملك غضبًا على جنرال المنطقة بعد الغارة التي عرضت للخطر حياة صاحبة السمو الملكي وحياتي. رجاني أن أكتب تقريري ليفكسسه إلى أبي بكر بلا إبطاء، فالقصر يريد معرفة كل شيء قبل عودتنا إلى مدريد، الشيء الذي فعلته دون تأخر.
في القصر، لم تكن السجاجيد الحمراء أقل معمعة من المرة السابقة: وزراء، قادة، رجال أعمال، وكل رجالات الدولة الكبار كانوا يتدافعون. أدخلني أنطونيو مباشرة إلى مكتب الطبيب الذائع الصيت، فوجدت أن سحنته تزداد تجهمًا، وأن تعب الجسد وانشغال البال يقرآن على جبهته. أجلسني أمامه، وأعلن أن جلالة الملك سيستقبلني حالاً. إثر استلامه لتقريري، اتخذ الملك مع رئيس وزرائه قرارًا كان أبو بكر يجهله، فدعوت الله أن يكون في صالحي. مضت عدة دقائق، فقرع الهاتف. عجل أبو بكر برفعه، وهتف:
- بأمرك، يا صاحب الجلالة!
أغلق السماعة بقوة، ونهض، وهو يقول لي:
- هيا بنا!
ونحن على عتبة مكتب الملك، همس العالم العلامة في أذني:
- تماسك، يا صاح!
دخل أبو بكر على الملك وحده، وبعد لحظات قليلة، أدخلني أمامه. كان جلالته واقفًا لاستقبالي، وعلى مفاجأة مني، كان يبتسم لي. اطمأننت بالاً، وقلت لنفسي: لقد لطف تقريري الأجواء، وخفف من سخط الضامن للديمقراطية، فأنا، في الواقع، لم أذكر ما جرى بالفعل في البرنة الغربية، لم أنقل كلام آميديه وإيزابيل بحرفيته، جعلت الباب مفتوحًا على المفاوضات، وأضفت تحية إيزابيل الحارة إلى والديها الغاليين، قائلاً إنها ستبقى الابنة الوفية دومًا وولية عهد أبيها ومفخرته، حبها له شيء راسخ لا يتزحزح، وحبها لآميديه شيء آخر يخصها هي وحدها.
اعتذر جلالته عن حادث الهيلوكبتر، وسأل إن لم يصب سمو الأميرة إيزابيل أي سوء. قلت لم يصب أحد بسوء، وأخذت أعيد لجلالته ما جاء في تقريري متحاشيًا التكلم بإسهاب عما دعاه العاهل "بالحب المزعوم".
- أمر العواطف كأمر السيوف، تدخل أبو بكر، هذه تطيح بالقلوب وتلك تطيح بالرؤوس!
تمهل الملك وهو يقول:
- بعد عميق التفكير، وجدت ألا فائدة من استعمال العنف، لا للواحد ولا للآخر، العواطف التي تطيح بالقلوب شيء، والسيوف التي تطيح بالرؤوس شيء آخر! هذا هو موقفنا، على الأقل، خلال المفاوضات التي ستقودها، أنت، بروفسور، باسمنا وباسم الحكومة، مع دون آميديه وسمو ابنتنا. آه! كم هو حزني كبير عندما أفكر أني سأتفاوض مع ابنتي التي جعلت من قضية ضائعة قضيتها. تعرف أنت آميديه كما أعرف أنا ابنتي، لهذا أسألك: أمستعد للقيام بهذا الدور؟
شحنت صوتي بكل الحماس الضروري، وقلت:
- كل ما تشاء، يا صاحب الجلالة! يا حبذا لو أستطيع أن أفعل شيئًا في سبيل حل هذه المسألة العويصة اللامنتظرة، والتي أعتبرها مسألتي الشخصية للظروف اللامباشرة التي ربطتني بها.
- باتفاق مشترك بين شخصي وبين رئيس الوزراء، سأصدر مرسومًا بتعيينك حاكمًا لأرخذونة، هكذا تكون والدون آميديه، حين التفاوض، كالنِّدِ للنِّد، وترقى المفاوضات، التي أرجو أن تنتهي بسرعة، إلى أعلى المستويات. سيعينك طبيبنا أبو بكر، وكل الوزراء، وكل رجال القصر، ليكون النجاح حليفك.
عندما خرجت من عند الملك، لم أصدق أذنيّ. كنت قادمًا لأحمل سيف سخطه على عنقي، فإذا به يحمّلني سوط الحكم! أبدى أبو بكر الآشي استغرابه، وجلسنا في مكتبه ننتظر صدور الإرادة الملكية رسميًا. خلال ذلك، كلمته عن الحكاية الموريسكية، واحتراقها بنار جنرال بيلباو، فحزن أبو بكر حزنًا عميقًا، وأبدى تشاؤمه من المهمة التي كلفني الملك بها. رفع ستارًا عن راصدته الفلكية، واتجه بعدستها نحو السماء. نظر منها لبعض الوقت، ثم قال بنبرة حائرة إن كل النجوم سوداء. أعدت عليه ما طلبت إليّ الأميرة إيزابيل أن أقوله له، فوافقها، وقال إنها تلميذته قبل أن تكون أميرته، أخذت عنه الحكمة، إلا أن الفواجعَ اليوم أعظم من كل الحِكَم. النجوم سوداء في ليل أبيض! العالم ليس العالم! العالم وجه الله الآخر!
عاد يجلس مفكرًا صامتًا لا ينبس ببنت شفة.
جاء أنطونيو، وأدهشنا أن نسمع منه: بعد اجتماعه بقادة الجيش، أصدر جلالة الملك أمرًا بتعيين الفارس بوعمير حاكمًا لشذونة وأرخذونة، وخوله حق التفاوض مع آميديه!
- ألم أعبر لك عن تشاؤمي؟ همهم أبو بكر الآشي. هذه النجوم السوداء أخرى غير التي نعرف، هناك نجوم خارج مدارات الكون، مثلما هناك بشر خارج أفلاك الإنسان، والفارس بوعمير واحد منهم!



























الفصل الخامس عشر

بعد عدة ساعات على إعلان تعيين الفارس بوعمير، تفجرت عدة سيارات مفخخة على مواقع عسكرية في مدريد وأرخذونة وشذونة. كان رد آميديه على الجنرالات الذين دعموا الحاكم المكروه واضحًا: اللجوء إلى العنف بعد افتضاح لعبتهم. لم يكن هدفهم التفاوض بل قمع المتمردين، وتكميم المعارضة، وإخضاع الناس الذين مع استقلال أرخذونة. وهذا ما حصل بالفعل، رد بوعمير على آميديه بقتل إخوته وأعمامه وأبناء أعمامه، وعلى الإضراب العام بتحطيم الستائر الحديدية، واقتحام البيوت، واعتقال الشبان. ما أن علم أشباهه بانتقال آميديه إلى سلسلة جبال البِطيق، المجاورة للمدينة الشهيدة، حتى التحقوا به جماعات. ليقطع عليهم الطريق، عمل بوعمير على إطلاق سراح ريفيرا، وعينه رئيسًا للمحاكم. أخذ الكاردينال السابق، بمساعدة الأخ دومينيك، هذه الشخصية الكريهة، يحاكم الآباء والأمهات، يعذبهم، يرميهم في المعتقلات أو يقتلهم، ولاقى أهلو الرفاق الباسك الذين سَلّحوا أنصار آميديه ودربوهم على أعمال العنف المصير ذاته.
انقسمت البلاد بين مؤيد ومعارض، ولولا المداخلة التلفزية للأميرة إيزابيل على قناة أجنبية لصارت إسبانيا من جديد على شفا حرب أهلية. طلبت صاحبة السمو الملكي من الناس البقاء متحدين في وجه ما يرمي العسكر إليه من تأزيم الوضع أكثر، واستعدت للعودة إلى مدريد عندما يقيل والدها، جلالة الملك، الضامن الوحيد للديمقراطية، الفارس بوعمير، وَيَشْرع في التفاوض مع آميديه.
بيد أن الملك لم يقدر على فعل شيء، ولا رئيس وزرائه. استولى الجيش على السلطة بصفة شبه رسمية، وهذوا هذيان المضطهَد، في وضع حتى الاضطهاد احتكروا العلة والمعلول فيه. لإرضاء العساكر، استخدم بوعمير السلاح الأقسى: تجويع أرخذونة، واسترقاق أهلها، ليقبلوا بأي حل. اضطر آميديه وإيزابيل إلى الهرب من مكان إلى آخر في سلسلة جبال البِطيق، فطاردهم العسكر بشراسة، دون أن يتمكنوا، رغم ذلك، من إلقاء القبض عليهما.
لم يحل المشكل القائم إذن، بل على العكس. قطعت زوجتي وبناتي عطلتهن، وعدن إلى مدريد. قضيت وقتي في داري متابعًا عن كثب ما يجري من أحداث جسام، وأراح زوجتي أن تراني قربها لا في الخطوط الأولى، فهي تكره السياسة، حتى ولو كان ذلك من أجل قضية نبيلة. كانت تريدني أن أبقى بعيدًا عن كل هذا، وأن أكتفي بمحاضراتي. ككل زوجة، كانت تتمنى أن تعيش في الهدوء، وأن تربي البنات من غير منغصات، إلا أن نذير السوء كان أقوى من كل الأمنيات.
في إحدى الليالي، طرق علي الباب أبو بكر الآشي، ودخل بصحبة أنطونيو وعدد من رجالات القصر. كنت أستعد للنوم، وعلى مرآهم، وهم في حضن بيتي، حلق طائر النعاس. أوجست خيفة مما لا أعلم: المسألة خطيرة!
- ما الخطب، يا أبا بكر؟ عجلت السؤال.
- نحن هنا بأمر جلالة الملك، قال الطبيب الذائع الصيت من غير لف ودوران، وهو يتمنى عليك عونه.
- من أجل عاهل البلاد أفعل كل ما يأمرني به، قلت بانفعال، إني طوع بنانه!
نظر أبو بكر الآشي إلى وجوه الحاضرين واحدًا واحدًا، كما لو كان يريد أن يقول لي "كلهم أشهاد على ما سأقوله لك". تطلع في عينيّ، وفي الأخير قال:
- لا سلطة للملك على شيء أو أحد، حتى ولا على نفسه، انتزع العساكر منه صفة الضامن للديمقراطية بسبب "استقلال أرخذونة". وحسبه، باسم أرخذونة فقد كل سلطة، وباسم أرخذونة سيستعيد كل السلطات ليعيد الديمقراطية.
راقب رد فعلي، فلم أفهم بعد ما يريد الوصول إليه.
- كال جلالته كل المتغيرات، تابع، تحالفه مع آميديه في وجه الجيش لن يؤدي إلى شيء، فإمكانيات طالبك متواضعة، وسمو الأميرة إيزابيل لم تنجح في تهدئة الناس إلا بشكل مؤقت. إذن، الإجراء الوحيد الباقي لنا، هو التحالف مع الأردن. وكيلا يبدو الأمر في أعين العساكر كإعلان عن هجوم آتٍ من الخارج، يوصي جلالته أن يكون على رأس هذا التحالف الأردني-الإسباني واحد مزدوج الجنسية. استعرض كل من يعرف، ولم يجد أفضل منك، فهل توافق، بروفسور، على تكليفك بهذه المهمة الصعبة، وقيامك بهذا الدور الخطير؟
بدوت حائرًا:
- لكن، كيف يمكنني أن أكون على رأس تحالف بين الملك حفيد ألفونس دوبوربون والأردن؟ وكيف بإمكان بلد صغير وبعيد أن يرد للعاهل سلطاته الملكية وللدولة مؤسساتها الدستورية؟
شرح العالم العلامة:
- الإجراءات كالتالي: ستطلب مدريد أن تعين رئيسًا لوزراء الأردن، كرئيس للوزراء، وكإسباني وعربي، ولكن خاصة كأقرب الناس إلى آميديه، ستعلن ارتباطك بأرخذونة. آميديه يريد استقلال أرخذونة، باسم هذا الاستقلال، ستفتح مفاوضات، على مستوى دولة لدولة، مع جلالة الملك، تخرجه فيها من عزلته، وتكسر قيود العساكر من حوله.
- وهل سيتركه العساكر يفاوض؟
- سيتركونه إن توصلت إلى إقناع آميديه بتسليم نفسه إليهم، بعد أن تكون قد أخذت على عاتقك مهمة الدفاع عن مطالبه، أو، إن شئت، تبنيها خلال المفاوضات. آميديه كان ذريعة للعصيان المسلح، إن سلم نفسه فقد العساكر مصداقيتهم في نظر الرأي العام، وهو حتمًا سيسلم نفسه عندما تُفهمه الدور الذي ستلعبه مكانه، مع الضمانات الملكية بإطلاق سراحه عند أول فرصة، وزواجه من الأميرة إيزابيل.
ترددت:
- هل عليّ لقاء آميديه قبل سفري إلى الأردن أم بعده؟
- بعد تعيينك رئيسًا للوزراء ستلتقيه رسميًا.
احترت:
- أخشى ألا أكون الشخص الذي يبحث عنه لطف جلالته، أنا رجل أدب أولاً وقبل كل شيء.
- جلالته في موقف حساس، والمهمة التي يكلفك بها تتطلب رجلاً نظيفًا وأديبًا لامعًا، شخصًا دفعه هذا الظرف الحرج في فلك السياسة من أبوابها العراض.
- وجلالة ملك الأردن، أبو عبد الله العوفي، هل سيقبل بي رئيسًا لوزرائه؟
- هو وجلالة الملك الإسباني صديقان حميمان، ولن يتأخر عن عرض خدماته، خاصة في مثل هذه الشروط.
- ومتى سيكون سفري؟ سألت دون تردد هذه المرة.
تغيرت ملامح من هم بصحبة أبي بكر، ابتسموا، وهنأوا بعضهم.
- سيذهب فاكس إلى العاهل الأردني هذه الليلة، قال الطبيب الشهير، وسيأتيك أنطونيو بالجواب حال وصوله.
شكرني ومن معه، وسلموا عليّ بحرارة. بعد مغادرتهم، أعدت لزوجتي ما جرى من اتفاق بيني وبين أبي بكر، فانفجرت تبكي، وتقول:
- ستخسر حياتك! سنخسر حياتنا كلنا!
انتظرت مجيء أنطونيو طوال اليوم التالي وجزءًا من الليل، وفكرت في القمر: لو طلبته لأعطانيه! كان أبو بكر على استعداد لكل شيء في سبيل الملك الإسباني، كمن يستطلع الغيب، ويرى الحقيقة. أشركني في عزمه ومضائه، وأشركته بحب آميديه وإيزابيل. سرنا معًا على شاطئ صخري، ونحن مشكوك في حقيقتنا، كنص لم نكتبه، أو أننا كتبناه، ولم ننهه. لم أنس ما أبحث عنه من مدنس إلى حد يصبح الأمر معه جزءًا من أفكاري الدنسة، أفكارنا الدنسة، أنا وأبو بكر، فالعاطفة كالسياسة دنسة، كل واحدة على طريقتها.
لم أطأ أرض العاصمة الأردنية منذ ثلاثين عامًا، وباستثناء بعض من قرأني، وهم قليلون، فالقليل من يقرأ في هذا البلد، يجهل العامة عني كل شيء، فهل سيغامر أبو عبد الله العوفي بتعيين رئيس للوزراء غريب؟ وإذا ما أقدم على تقديم هذه الخدمة لملك إسبانيا، فما هي المكاسب التي سيجنيها من وراء ذلك؟ كنت أبدو كالدخيل على قوم ابتعدت عنهم كثيرًا وعن عاداتهم وتقاليدهم، واختلفت عنهم بأخلاقي ورؤاي، فكيف سأدخل في حياتهم؟ هل سأتدخل فيها كما أريد وأبتغي أم سأتعاطى السياسة باتجاه واحد فقط، خارجي، اتجاه أرخذونة؟
جاءني أبو بكر الآشي بنفسه، ولم يكن بصحبته سوى أنطونيو. أعلمني أن العاهل الأردني قد أجاب بالإيجاب، وبناء على ذلك، عليّ أخذ أول طائرة إلى عمان، ومهمة كهذه توجب التكتم الشديد. لهذا، لن يكون هناك استقبال رسمي لي. سأجد في مطار عمان أخا أبي بكر، المحامي اللامع رشاد رشد الآشي. كَلَّمَهُ على الهاتف عن كل شيء، وبواسطته سأتصل بمستشار الملك الأردني، أبي الحسن الفزاع، الذي سيرتب لي لقاء عاجلاً مع سيده. أبديت تشاؤمي من هذا "الفزاع"، فضحك أبو بكر، وكذلك أنطونيو. عبرت عن توجساتي، فشجعاني: كل شيء سيكون كما هو متوقع.
- ليس هناك أكثر إفزاعًا من حكم العساكر، همهم الطبيب الشخصي للملك.
تمنى لي حظًا طيبًا، وغادر.
لست أدري لِمَ قال أنطونيو لي:
- لا تَنْهَ عن خُلْقٍ وتَأتِيَ مِثْلَهُ!
وغادر بدوره، على أن يعود مع بداية الصبيحة، للذهاب إلى مطار باراخاس.






























القسم الثاني















الفصل الأول

في مطار الملكة علياء، عرفت رشاد رشد الآشي أول ما وقعت عليه عيناي. كان طويل القامة، وسيم الطلعة، ولو لم يكن في ريعان الشباب، لمضى توأمًا لأبي بكر. استقبلني بذراعين رحبتين، ورحب بي كثيرًا وأهّل. أبدى لي من الصداقة والحرارة إلى درجة غاب فيها عني جو التوتر واضطراب المسافرين. شممت رائحة الدخان، وراحت ثلة من الجنود تجري صوب الناحية التي ينتشر منها. بقي رشاد رشد الآشي صامتًا، واكتفى بدعوتي إلى مغادرة المطار بسرعة.
في سيارته، عاد إلى الترحيب بي والتأهيل، ثم، وملامحه تعتم، قال إن البلاد تعيش حدثًا ستترتب عليه نتائج جسام في المستقبل. فكرت في المهمة التي جئت من أجلها: تتعقد الأمور في اللحظة التي أطأ فيها أرض العاصمة الهاشمية. لم أسأل أي حدث هو، لأسمع رشاد رشد الآشي يقول:
- لا توجد أية علاقة مباشرة بما جئت من أجله هنا، بروفسور، ولكني أخشى أن يرجئ العاهل الأردني تسويتك حتى يستتب وضع البلد.
- لم تقل لي ما يجري، قلت، منشغل البال.
- إنها ثورة الخبز.
- ماذا؟!
- ارتفعت أسعار الرغيف، والناس لم تعد قادرة على شرائه، فتحرك الفقراء في معان، وفي الكرك، وفي عمان. غدًا، بعد صلاة الجمعة، ستشق شوارع العاصمة مظاهرة كبرى، ليس بمقدور أحد تقدير عواقبها.
قلت مع ابتسامة طفيفة:
- لو أمعنا النظر في الأمر لوجدنا أن كل هذا يصب بالأحرى في صالحي.
التفت رشاد رشد الآشي إليّ، وهو يخفف من سرعته، غير مبال بنفير السيارة التي كانت من ورائه، وانتظر شروحاتي.
- إنها الفرصة الأحسن لتغيير الحكومة بأخرى تلغي القرار المجحف، وتعمل على تسكين اللعبة، وذلك بربط مصير البلد مع مصير أرخذونة الأندلس، أرض النعيم!
- ولكن صندوق النقد الدولي الذي كان من وراء رفع أسعار الخبز ليسترد قروضه لن يقبل بشيكات على شكل أحلام يسخر منها.
- تجدد الأحلام، خاصة الحلم الأندلسي، سيبقى محركًا شعبيًا ومحفزًا على التغيير. أما صندوق النقد الدولي، فسأعمل على أن تدفع له إسبانيا قسمًا مما يطالب به ليسكت، ولو مؤقتًا.
- ومن يقول بالتزام إسبانيا، والكل يعلم أن المديونيات الأردنية أكثر من كبيرة لبلد أكثر من صغير، لأن حكامه لهطوا وشفطوا الأموال في قسم كبير منها؟ أما إسبانيا، فلها من المشاكل المالية ما لا يعد ولا يحصى.
- المشاكل المالية لإسبانيا مشغلة للبال أقل بكثير من مشاكل هذا البلد، وسأقوم بالضروري ليضمن الملك حفيد ألفونس دوبوربون شخصيًا هذا الدفع.
بدأ أخو أبي بكر يخترق ضاحية عمان، وهو لا يبدو عليه الاقتناع بكلامي:
- أرجو أن يفكر الملك أبو عبد الله العوفي كما تفكر وأن تسير الأمور نحو الأفضل.
- إن لم يفكر مثلي حاولت إقناعه.
تنهد رشاد رشد:
- سنهاتف القصر لنخطره بوصولك.
وسكت.
بعد غيبة عن عمان، طالت ثلاثين عامًا، أخذت أتأمل بفضول الشوارع الجديدة لهذه المدينة، هذه الشوارع الغريبة بأبنيتها الحجرية الحمراء والسوداء والبيضاء. لم ترحني الألوان الثلاثة، فالأسود العدم، والأبيض الفراغ، والأحمر الدم. لاحظت ما لم ألاحظه في المطار: التوتر الطاغي على وجوه العابرين والخوف أمام كل هذا الانتشار للعساكر. ككل مدينة تخرج من رأس حاكمها كانت عمان، جديدُ شوارعِها كقديمِها كان في معظمها يحمل أسماء الأسرة الملكية، وهي كمدينة ملكية تخلو من كل ما هو ملكيّ، مسارح روما وتماثيل باريس وأساطير مدريد، بينما تنبعث من كل زاوية من زواياها رائحة الفلافل والشاورما والمازوت. سكت بدوري، ولم أفه طوال باقي الطريق بكلمة. غرقت في أفكاري، وأنا أقول لنفسي لست أدري لأضلها أم لأهديها: ستجعل مني الظروف الحرجة التي يمر بها هذا البلد المنقذ القادم من وراء البحار! ستغدو أرخذونة بمثابة القلب للأردن، وبفضلها، سيعود الأمل إلى ناس هذا البلد كما إلى ناس تلك المدينة الأندلسية القديمة، والسلطات إلى العاهلين الإسباني والأردني، وسيرى السلام النور والديمقراطية.
أول ما وصلنا منزله، تلفن المحامي الشاب للقصر، وطلب أبا الحسن الفزاع، الذي يعرفه مضيفي معرفة غامضة. لم يكن في مكتبه، فتركنا له خبرًا. انتظرنا ساعة، وأعدنا الاتصال به، دون أن يكون دومًا هناك. تركنا له خبرًا ثانيًا، وأشرنا إلى أن الأمر ملح. ومع ذلك، انتظرنا حتى هبط الليل، لنتصل به للمرة الثالثة، فقيل لنا إنه غادر القصر. في نشرة المساء التلفزية، علمنا أن الجيش قد أطلق النار على المتظاهرين في معان، وتكلم المذيع عن مؤامرة تستهدف شخص أبي عبد الله العوفي، فقرأت اليأس على وجه رشاد رشد.
- كل نقود إسبانيا لن ترضي حكام هذا البلد طالما لم يتم القضاء على ثورة الخبز، همهم أخو أبي بكر.
- هل أبو عبد الله العوفي موافق؟ سألت مع أمل سماعي ل "لا".
- أنا لا أعرف موقفه، فالعسكر هم أرباب هذا البلد، والديمقراطية ما هي سوى غطاء لذر الرماد في العيون. أية معارضة سياسية أو شعبية تقمع بقبضة حديدية.
- ولكني، سأغير كل شيء، قلت بتفاؤل، والعاهل الأردني سيوافق على مشروع للحياة جديد بما أنه قبل الاقتراحات الإسبانية بخصوصي.
- التغيير غير جائز إلا إذا تغير النظام ذاته، وهذا ليس على جدول الأعمال، لأنه نظام السي آي إيه، المتغلغلة في البلد.
- إذن الصلاة والسلام على المهمة التي جئت من أجلها هنا.
- لا أظن أن الباب قد أغلق تمامًا في وجهك، فالعاهل الأردني يهمه بالفعل تقديم مساعدة لصديقه العاهل الإسباني، وتسميتك كرئيس للحكومة مرتبطة بهذه الناحية ولا شيء غيرها. أما أمور الأردن الداخلية، فالجيش هو دبابتها الوحيدة. سننتظر أن تهدأ الأمور، بروفسور، يومين أو ثلاثة، ونعيد الاتصال بالقصر. لقد تركنا خبرًا عدة مرات لأبي الحسن الفزاع نعلمه فيه بوجودك في عمان، وسأتصل في الحال برئيس الديوان الملكي وكذلك برئيس التشريفات، اللذين لن يكونا في مكتبهما، ليس بسبب الأحداث وإنما التطنيش الأسطوري لرجال القصر.
- على أي حال، هذه الأحداث مشغلة للبال بالفعل.
- أحداث خطيرة أم لا أنت لن تجد لا الواحد ولا الآخر.
- البلاط الإسباني شيء آخر.
- وإذا تركت خبرًا للواحد أو للآخر فلن يتفضل لا الواحد ولا الآخر بالرد عليك.
- هذا لأن البلاط الإسباني يعيش في زمن ما بعد فرانكو بالفعل.
- لكنك أنت، بروفسور، حالة خاصة، حضورك هنا تم بأمر من صاحب الجلالة، سيخبرونه على الأقل بوصولك، الشيء الذي أتمناه. إذا لم يتصل بك أحد، خلال يومين أو ثلاثة، فكسسنا لجلالته، وفكرنا بطريقة توصلك إليه في أقرب وقت.
جاءت زوجة رشاد رشد وابنته تسلمان عليّ، وما لبثت الصغيرة أن تسلقت ذراعي أبيها الذي عاد يهاتف القصر. عبّرت الزوجة عن عميق أسفها بخصوص الوضع الحالي للبلاد، واعتذرت عندما قالت أن لا حل هناك. عندما انتهى أخو الطبيب النطاسي من ترك رسائله الهاتفية، رن جرس الباب.
- هذه مدام سونيا، قالت رحمة، زوجة رشاد رشد.
وذهبت لتفتح.
- مدام سونيا جارتنا، أوضح المحامي الشاب، امرأة غنية وذات نفوذ تدعى "الأرملة". تزوجت عدة مرات، وكل أزواجها ماتوا، من هنا لقبها. دعوناها إلى العشاء لتتعرف عليها في حالة ما كنت بحاجة إليها، زد على ذلك أنها قرأت كتبك، وحالما عرفت أنك ستكون هنا، أعربت عن رغبتها في رؤيتك والتحدث إليك.
لم تتأخر رحمة عن العودة مع امرأة طويلة شقراء بعينين زرقاوين مُغْرِقَتَيْن وابتسامة بيضاء ألقة. قدمتها لي بينما الصغيرة تسارع إلى الارتماء بين ذراعي الضيفة التي قبلتها وهي تشخص ببصرها إليّ. وضعت الأرملة الطفلة، وعجلت الاقتراب مني ناقلة يدي بين يديها قائلة لي:
- أنا سعيدة جدًا جدًا للتعرف عليك، بروفسور! إنه لشرف عظيم لي! لن تتصور كم أنا فخورة بالسلام عليك!
- كل الشرف لي، سنيوريتا! قلت، والطريقة الساخنة لهذه المرأة الساحرة التي تُنعم بها عليّ تجذبني إليها.
- مدام سونيا واحدة من معجباتك الأكثر تحمسًا، رشق رشاد رشد وهو يدعوها إلى الجلوس إلى جانبي.
- كلي افتتان!
- وأنا كذلك!
- ...
- لست أدري ما أقول.
- ...
- إنه لشرف عظيم لي!
لم ترفع معجبتي نظرتها الزرقاء عني لحظة واحدة، ولم تنقطع عن الابتسام لي مرددة أنه لشرف عظيم لها أن تتعرف عليّ. لم أعرف ما يفتنها إلى هذا القدر كتاباتي أم شخصي، وأنا، على أي حال، شعرت بي متدلهًا بنظرتها، نظرة تدغدغ لك المحار دون سابق إنذار. كنت مرتاحًا قربها، كما لو كنت أحد عشاقها. نسيت الوضع الحرج للبلد، وضعي، مهمتي! أبعدني حضور الأرملة عن كل لحطة فاجعة.
بعد غياب قصير، رجتنا رحمة القيام إلى الطعام.
- العشاء جاهز، قالت.
كانت بانتظارنا أطباق لا تعد ولا تحصى من المحاشي: باذنجان، كوسا، بندورة، خيار، جزر، ورق عنب، ورق خس، ورق شف... محاشٍ، وأيضًا محاشٍ. أكلت قليلاً، الأرملة لا شيء تقريبًا. تكلمت عني، عن إسبانيا. زارت مدريد عدة مرات. تكلمت عن دكاكينها الجميلة، نافوراتها الجميلة، ساحاتها الجميلة، بناتها الجميلات، وأولادها الجميلين. قالت وهي تنفجر ضاحكة. ضحكة طازجة، خالصة، ترن بسرور، بسرها. جعلتني رقتها الحليفة لأناقتها حالمًا. فضلت النظر إليها، مَلْءَ عينيّ بجمالها. وأنا أنظر إليها، أردت استدراك كل أيامي الضائعة في الإيسكوريال. كانت امرأة تطالب المرء بتكريس كل وقته لها. دعتني إلى بيتها في اليوم التالي، فحزرت أنها تريدني أن أكون كلي لها، لمساءٍ على الأقل. سَرَّ رشاد رشد وزوجته ألا تدعو غيري، وعاملاني معاملة أكبر محظوظ في الوجود.
- هذه المرأة ستفعل كل شيء كي تفرضك على الملك، بروفسور! همس المحامي الشاب في أذني.
لم أقم بأي تعليق، واكتفيت بالابتسام... لها.





















الفصل الثاني

أخذت المواجهة بين الجيش والأئمة تنحو نحوًا خطيرًا، حرضوا المصلين على التظاهر ليس فقط ضد رفع أسعار الخبز بل وغلاء المعيشة، وانعدام الأعمال، والإدقاع، وذهب بعضهم إلى التشهير برجالات الدولة والتجار الكبار. اتهموهم كلهم باللصوصية، والإثراء غير المشروع، هؤلاء الجشعون جاهًا ومالاً، جعدو الأنامل. حرقوا القلوب، وعملوا كل ما في وسعهم على خنق البلد. كانوا من القوة بحيث أنهم أضعفوا القوة، وأذلوا الجبال السبعة، فالذل كريم في عمان، الكرم ذل، وسينتهي بها الأمر إلى لفظ النفس الأخير، واستتباب الموت في المملكة. كان رد العساكر عنيفًا، فتحوا النار على المتظاهرين، وأردوا العشرات، وجرحوا المئات. لم يقف الأمر عند هذا الحد، رموا في المعتقلات كل من ألقوا القبض عليه، واقتحموا بيوت الملعونين الأكثر إدقاعًا في السيل وماركا والقلعة، وبيوت الغجر في قرطبة، فوصلتني ضربات أقدام الراقصات، وهن يرفعن فساتينهن الطويلة، فتبين سيقانهن، ونظرتُ إلى الدم لأقرأ تاريخ عمان. كاد رشاد رشد الآشي يُجَنُّ جنونُه، وظل طوال نهار الجمعة يردد:
- هذا البلد لا حظ له! هذا البلد لا حظ له!
ومع ذلك، كانت موسيقى الغجر تصلني من بعيد، وغناء حزين، ومن وقت إلى آخر، هذه الصيحة: "أولليه!" الله في لغتنا. كنت الوحيد القادر على الحيلولة دون تفاقم الوضع أكثر وإسالة المزيد من الورد الأحمر. أعدنا الاتصال بالبلاط الملكي، من غير أقل نتيجة. تردد المحامي الشاب، في البداية، ثم عزم على أن يقول لي كل ما يعتمل في صدره:
- عندما علمت أن بلوغك أعتاب الملك سيتم عن طريق أبي الحسن الفزاع، فهمت أن جلالته لا يولي أمرك الاهتمام الكافي، فهذا ليس مستشارًا له ولا شخصًا معتبرًا عنده، وإنما موظف عادي ملحق بمكتبه الصحفي، لا يستطيع أن يفعل لك شيئًا، بروفسور، شيئًا إيجابيًا لمهمتك. وبالمقابل، يقدر أن يسيء إليك كثيرًا، باستغلاله التناحر المعروف بين رجالات القصر الكبار لصالحه. في الواقع، المستشار الشخصي للملك، أبو الحكم القاسم، يطمع بأن يكون رئيسًا للديوان الملكي، ورئيس الديوان الملكي، أبو الوليد الكركي، يطمع بأن يغدو رئيسًا للحكومة، ورئيس الحكومة، ليس آخر غير ابن خال الملك، الشريف لست أدري من وكيف، يطمع بالاستواء على العرش! إذن، بدافع الأمل في الترقية إلى رتبة مستشار أو وزير، ما أن يقول هذا الفزاع الفزع الذي لا يفزع أحدًا لرئيس الديوان إنك آتٍ لتأخذ منه رئاسة الوزارة، حتى يقوم هذا بعمل كل شيء لعرقلة وصولك إلى جلالته، ونسف كل جهد يُبذل للهدف ذاته، وإن أدى ذلك إلى نسف البلاد وهدمها كما حصل اليوم. أضف إلى ذلك أنك لست "لحية"، باللغة الخاصة لأصحاب المهنة، أي لست مخبرًا سريًا، بروفسور، صنائعك الأدبية والعلمية هي مستنداتك الوحيدة، وهذا سبب على سبب لاستبعادك من طرف جهلة هذا الزمان، أسياد هذا البلد وأذل جبابرته.
كنت مفتتنًا بالطريقة التي يعرض فيها محدثي حججه، ومعجبًا بنوعية التعليق عليها. بينما كان يتكلم، استعدت صور الدم والحنطة في شوارع العاصمة الهاشمية، وذلك اللحن الغجري، البعيد، البعيد جدًا، الذي لا يني، وخلت نفسي أقضم من ذلك الخبز الياقوتي الجمري الذي سقط الناس بالعشرات من أجله. أصابني الدوار، ورأيت نقطًا سوداء. لم أشأ الخضوع لإرادة الموت والدمار، فاقترحت على رشاد رشد الاتصال بأخيه أبي بكر، في مدريد، فلربما فعل شيئًا من هناك. وفي الحال، طلب الحديث مع الطبيب الشخصي للملك الإسباني، كلمه، وكلمته، قلنا له كل ما يجري هنا. لم يكن مسرورًا، إذا لم ألتق العاهل الأردني في القريب العاجل، انقض الجيش على آميديه وجماعته، ولن يمنع العساكر وجود الأميرة إيزابيل بينهم من عَقرهم جميعًا. أخبرنا بتدهور الأوضاع في أرخذونة، وقد عززت أحداث عمان موقف الفارس بوعمير، ويخشى العالم الفلكي أن يسبقنا إلى الاتصال بحكام الأردن. لا يني، اللحن الغجري، البعيد، فحثني رشاد رشد على قول كل شيء للأرملة، ولا حاجة بي إلى إخفاء أي شيء عنها. على أي حال، ليس هناك ما يُخفى عنها، علاقتها بحكام البلد معروفة من الجميع، عاجلاً أم آجلاً سينتهي الأمر بها إلى معرفة كل شيء.
- الأنهار تفضي إلى البحر، ختم، وستساعدك.
في المساء، وأنا أذهب للعشاء عند الأرملة، خرج رجل من فيلّتها، عرفت فيه ولي العهد. أحاط به الحرس، واشتغلت الموتورات. رماني بنظرة، وصعد في مرسيدس سوداء ساقها بنفسه. بعد عدة لحظات، استعاد الشارع هدوءه. ألقت أشجار الزيزفون هنا وهناك ظلالها الفضية، فمشيت، وكأني أسير نحو عالية النهر. قطعت البوابة، لأجدني تحت عريش من ياسمين إسبانيا. أفعمت منخريّ الرائحة العطرة، وفاقمت قلقي. عاودتني نظرة ولي العهد، نظرة قاتمة. طرقت الباب، ففتح لي خادم هندي، وأدخلني في صالون فخم، أخضر. قال لي بالإنجليزية إن سيدته لن تتأخر عن النزول. بقي قليلاً، ثم ذهب. كان الدرج الرخامي يدور نصف دائرة حتى الطابق الأول، ولا أقلها إشارة إلى الحياة. فجأة، ظهرت الأرملة كالملكة، والمنزل الواسع راح ينتعش بالعشق والحيوية.
اعتذَرَتْ عن عدم استقبالها لي بنفسها، فولي العهد زارها على غير استعداد، وكان عليها انتظار مغادرته حتى ترتدي ثياب السهرة. كلما تأزمت مشاكل البلد كان يأتي عندها بحثًا عن الهدوء. قالت لي إنها حدثته عني، وإنه تمنى رؤيتي. عندئد، كلمتها عن مهمتي دون مواربة.
- عندما حدثته عنك، قالت مدام سونيا، بدا لي أن سمو ولي العهد لا يعلم بوجودك في عمان.
- هل من الممكن أن يكون الملك قد أخفى عن ولي عهده أمرًا في غاية الأهمية؟
- كل شيء ممكن، بروفسور، أريد القول، سيد رئيس الوزراء! لأنك ستكون رئيسًا للوزراء قريبًا، تستطيع الاعتماد عليّ.
- مع الأحداث الحالية، من اللازم العمل...
وضعت أصابعها برقة على فمي.
- عندي لا أحد يفكر فيما يجري في الخارج. أيًا كانت كارثية الأوضاع، للأوضاع حلها. ستجد الحل أنت، سيد رئيس الوزراء. لا تقلق، بروفسور، ستتم تسميتك رئيسًا للحكومة، وأنا، ماذا ستكون مكافأتي؟
- وزيرة اللطافة.
انطلقت ضاحكة.
- أنا لا أفضل هذا.
- إذن وزيرة اللامبالاة.
- ولا هذا.
- كنت قد فهمت أن علينا عند لقائك ترك كل همومنا حيث هي لنجعل من البهجة طريق القلوب إلى السعادة.
- الحب، بروفسور، ودون أية حقيبة وزارية.
أعلن الخادم الهندي أن العشاء جاهز، فأخذتني من يدي إلى قاعة الطعام. كان ترف سيدة الزهو يتنافر وبساطة حركات مدام سونيا. كان كل هذا الثراء في خدمة تواضع من غير ادعاء ولا كبرياء. مع الأرملة، كانت كل النساء لك، وأنت الحي الوحيد في العالم.
ونحن نتعشى، حدثتها عن أبحاثي في الإيسكوريال، عن قصة الحب الملطخة بالدم بين إيزابيل وآميديه. أصغت إلي بانتباه دون أن تقاطعني. لأجدها، وهي هنا. لأجدني، وأنا هناك. كنا في مكان لا يعلم به أحد. في الأخير، ابتسمت. أخذتني من يدي، وذهبت بي إلى صالون صغير، وردي. بالأحرى داكن. جاء موسيقي أعمى يعزف ألحانًا ناعمة. لم تترك يدي، وأنا أحس الحرير بين أصابعي، شفتيها على شفتيّ، ثم كل جسدها على جسدي.
بعد يومين من مجزرة الخبز، والإنهاء السريع لوضع سيء بما هو أسوأ، أقال الملك حكومة ابن خاله، وعين أحد أقرباء الحاكم الإسباني، عبد السلام بوعمير، على رأس مجلس وزراء جديد، أسماه "حكومة السلام والوحدة بين الأردن وأرخذونة". كان ذلك لإرضاء الله في ثوبه، ولإرضاء أزلام الله في أثوابهم، جعل ابن خاله مستشاره الشخصي، ومستشاره الشخصي رئيسًا للديوان، بينما عين رئيس ديوانه وزيرًا للإعلام. تم توزيع الآلهة الصغار على قمم الأولمب الأردني، وبدأ تطبيل إعلامي لا سابق له لهذه الحكومة التي ستأتي بالرخاء والرفاهية على أجنحة الحمام الأبيض للجميع، وتسمح لهم بدفع ثمن الرغيف، الذي لم يلغ قرار رفعه رغم كل الدم الذي جرى، فالماء نادر في عمان، والهواء ساخن في الشتاء. افترضْتُ أن مساعي الأرملة لدى ولي العهد لم تفض إلى شيء، وأن كل شيء قد انتهى، فيما يخص مهمتي، في عمان. وُكِلَ مصير البلاد إلى ذات الأيدي التي ضيعت أرخذونة، وحل قهر الخطاب محل قهر الجيش. أُبعدت مشاكل الحاضر إلى المستقبل، والحلول العاجلة إلى الآجلة. صارت السرابات من حظ الأجيال القادمة، ولا بأس من دفع هذا الجيل دفعًا للسعي إلى حتفه بظلقه، الذل قبلة والهوان ثدي.
عبّرت لرشاد رشد الآشي عن يقيني فيما يخص عدم جدوى بقائي في عمان، وحاجة عودتي إلى مدريد، لكنه أخبرني أن بعض الأساتذة الجامعيين الذين أعلمهم بوجودي سيجيئون للسلام عليّ. لم يكن يائسًا بعد.
- لا تعجل العودة، بروفسور، قال، يجب أن يعرف الكل أنك في عمان، فتقوم ضجة من حولك، ويرى الملك نفسه مضطرًا لاستقبالك.
- وما الفائدة بعد أن عين حكومة جديدة؟
- أمور البلاد لا تَثبت أبدًا، اعتدنا على حكومات لا تدوم أكثر من عدة أشهر، عدة أسابيع.
- خلال ذلك، يكون الجيش الإسباني قد صفى آميديه، وأنهى مسألة أرخذونة وكذلك الديمقراطية.
- المهم أن تقابل جلالته، وتحطم الأطواق من حولك. هذا يعني تجديد لقاءاتك مع المثقفين واستغلال الهامش الضئيل للحرية في الجرائد. حقًا حرية الصحافة ليست موجودة، كيف تكون هناك حرية، ورئيس الوزراء السابق ابن خال الملك، والتلفزيون كالجرائد ملك للأسرة الملكية، كالعباد، كالحجارة! ستستغل هذا الهامش، فتكتب للبسطاء الذين يمثلون أغلبية السكان، تقول شيئًا آخر غير ما يقوله الأئمة أو رجال السلطة، بالجمع بين العقلاني والتقليدي، بدعمهم ستَفتح الطريق بثبات إلى القصر.
قلت لنفسي إنني لن أستطيع المكوث طويلاً بعيدًا عن أسرتي وإن حلاً سياسيًا لأرخذونة عليه أن يكون سريعًا عاجلاً.
- كل هذا يحتاج إلى وقت، إلى وقت كبير! والمهمة التي جئت من أجلها لا يمكنها الانتظار.
عبس محدثي لحظةً، وغرق في تفكير جعل عينيه تلمعان، ثم ما لبث أن ابتسم.
- ربما وجدت لك طريقة سريعة لاختراق القصر الملكي، قال، وذلك باللجوء إلى شخص آخر غير الأرملة، شخص يستطيع فرضك على رجال الملك رغم الخطر الذي تمثله، كنت أريد تفادي الطرق المخادعة، ولكن إذا كان هيك...
- تبقى الذئاب ما بينها!
- للذئاب لغة لا تفهمها إلا الذئاب!
- ستكون إذن محاولتي الأخيرة.
ابتسم المحامي الشاب من جديد.
- بعد لقائك بالجامعيين، سنذهب إلى مكان غريب اسمه "تحت السيل"، حيث الوهم لا استيلاء عليه، الضعيف ضعيف، والقوي قوي، إلا أن القوي أو الضعيف لا يعني شيئًا دون حقيقة، وهذه الحقيقة هي التي أريد أن أريك إياها رغم أنها ليست لائقة، هي التي ستعينك في إكمال مهمتك التي غدت مستحيلة، إن لم تكن خيالية.
حياني الأساتذة باحترام، بينهم من حضر للتقدير الذي يكنه لي، وآخرون بدافع الفضول. أرادوا كلهم رؤية الشخص الذي عاش خلال ثلاثين عامًا الحلم الأندلسي. طلب الأوائل مني البقاء للتدريس في إحدى الجامعات، وعبر الآخرون عن رغبتهم في الرحيل وسلوك الطريق نفسها التي سلكتها.
بعد ذهابهم، فاجأني بعض أصدقائي القدامى بزيارتهم. اتصل بهم رشاد رشد، وطلب منهم أن يمسكوا بي في عمان دون أن يكشف لهم الأسباب. رأيت أنهم لم يتبدلوا، بقوا صغارًا، وإن غدوا كبارًا.
جاء أيضًا بسام المنصوري، الشاعر وصاحب الافتتاحية الشهير. كنا قد تراسلنا لفترة، وتبادلنا الكتب. ضمني بحرارة، وقال إنه عرف بوجودي في عمان صدفة عن طريق صديق مشترك بينه وبين رشاد رشد. كانت قد وصلته أصداء بحثي عن الشعر الأندلسي المدنس، وكم كان متحمسًا. لا أحد قبلي كانت له فكرتي، حتى ولو حصل، فسيمتنع مثقفونا، تنقصهم الجرأة! مبادرة كهذه تفترض الكثير من القوة النفسية، لكن الشجاعة تنقصهم. لا يريدون إزعاج أنفسهم ولا إزعاج غيرهم، ويفضلون البقاء جبناء، على صورة جلاديهم. وبحمية، دعاني إلى استغلال فرصة وجودي في المشرق، فأنقب عن هذا الكنز الضائع الذي لا يقدر بثمن في مكتبات دمشق وبغداد والقاهرة. عَيَّرَ الوجود بالوجود، وعرض عليّ أن يكون يدي اليمنى أينما حللت. شكرته، وقلت، وأنا أراه دَهِشًا لما أقول، لم أجد شيئًا في إسبانيا مع الأسف، ولن أجد شيئًا في المشرق.
سارع إلى السؤال متحيرًا:
- وفي المغرب: هل بحثت في المغرب؟
- تقصد في مراكش؟
- نعم، في مراكش. ستجد حتمًا ما قيل ضد الريكونكيستا ومحاكم التفتيش.
تذكرت قصة حب إيزابيل العاشقة وأحمد العربيّ، على الرغم من أنني لم أنسها: إذا فشلت في مهمتي هنا ذهبت للبحث عن جزئها الثاني في الكُتُبِيَّة.
- سأذهب إلى مراكش ذات يوم، قلت، كل شيء يتوقف على الظروف.
اربد وجه بسام المنصوري وعمقت نبرته:
- الظروف صعبة في كل مكان!
قبل أن يتركني، شكر رشاد رشد على مقالاته المختلفة في الحقوق وفي الفلسفة وفي الطب، وطلب مني الكتابة في جريدته.
- في الطب؟ سألت المحامي اللامع.
- كأخيه العظيم الجليل، علق بسام، الأستاذ رشاد رشد عالم متعدد المواهب.
- نعم، ولكني فضلت مهنة المرافعة على مهنة المعالجة، اعترف، هل كنت مخطئًا عندما يموت عشرات الجرحى في الشوارع؟
حيرنا كلامه، كرر صاحب الافتتاحية الشهير طلبه، فوعدته خيرًا، وأنا أفكر في المكان الغريب الذي سيأخذني رشاد رشد الآشي إليه وفي بشره الغريبين.




















الفصل الثالث

في السيارة، كان الراديو يتكلم عن جمال الأردن وآمال أهله الكبار، ولا ألمح سوى شوارع مغبرة ووجوه مكفهرة. توقف رشاد رشد قرب قناة جافة، متصدعة للحرارة، وأشار إلى مكان منها.
- أرادوا أن يرفعوا شارعًا فوق القناة لربط طرفي العاصمة، قال أخو أبي بكر، فالسيل من العادة أن يكون ضعيفًا، وينعدم مع أول موجة حرارة. لكن هذا الشتاء، طفت مياهه كما لم يشهد أحد من قبل، فأوقفوا كل شيء.
نزلنا درجات حجرية والشمس تنزل سلم الأفق.
- هذا المكان، تابع رشاد رشد، دلني عليه أحد القضاة، وهو على غرابته إلا أنه المكان الوحيد لحل كل المشاكل العويصة.
لم أفهم بعد ما يعني، كالمرايا المجللة بالبخار كانت كلماته. أخذنا نسير تحت القسم المغطى للقناة، وبدأت تصلنا أنات تكابد الألم وصرخات حادة. فجأة، وجدنا أنفسنا وسط عشرات الجرحى والجثث الملقاة هنا وهناك. انتاب المحامي الوديع الغضب، وكادت عروق عنقه تتفجر.
- هذا هو الأردن الجميل! همهم وهو يصرف بأسنانه.
عما قليل، تشظى صوته:
- وسائلهم الإعلامية كلها لا تتوقف عن طرق رؤوسنا بالأمل صباح مساء والتبجح بجمال هذا البلد، بينما لا جمال هناك ولا أمل! وعلى العكس، اليأس كالقبح في كل مكان! انظر من حولك، بالله عليك، في هذه العمان المزيفة بكل قطعة من قطعها! إنها المدينة الأكثر مقتًا في العالم!
قالوا لنا إنهم جرحى الأحداث الأخيرة الذين وُفّقوا إلى الفرار من أيدي العساكر، وهم يفضلون الموت هنا على الموت تحت التعذيب.
علق رشاد رشد:
- هل تدري أن عمان كلها قد تحولت إلى معتقل كبير والكل يُجلد بسوط صعوبة العيش: ساعات وساعات تقضيها في التنقل غير المريح لقضاء أقل حاجة، بلا جدوى، لانتهاك عورة أو لاقتيات فم. لقد انتزعوا من إنسان هذا البلد كل إنسانية، ليجعلوا منه ليس غير حجر شطرنج.
صرنا وسط مجموعات من اللصوص والمعهَّرين والمنحرفين وكل أنواع الداعرين، أشار رشاد رشد بإصبعه إليهم:
- هؤلاء هم أشرف أبناء هذا البلد!
ظننته يمزح، فأوضح:
- كلُّ المخلوقاتِ المنكودةِ الحظ دُفعت دفعًا لتصبح ما هي عليه، هؤلاء الأوغاد ليسوا أفضل قيمة من "كبار" هذا البلد، لكنهم على الأقل لا يتخفون من وراء برقع الوظيفة أو عراقة العائلة. اللص يقول عن نفسه لصًا، والمعهَّر معهَّرًا، والداعر داعرًا، إذا ما سرقوا أو أخطأوا أو قوّدوا، فلن يقولوا أبدًا "أنا أولاً والآخرون على قفاي!" من الواحد للجميع ما تجني يداي! هم فرسان البادية، أولئك الخيالة الذين ينصر بعضهم بعضًا في البؤس واللاشرف، بناة هذا البلد، وليس حكامه، المدمرون لكل شيء! الآن الناس على صورتهم، أمة يقرضها الجشع!
وصلنا عتبة باب ورديّ مغلق، فطرقه رشاد رشد.
- كل حكام هذا البلد يطرقون هذا الباب، قال، ستدخل منه، بروفسور، لتقف بنفسك على حقيقة كلامي.
فتح لنا أعرج قصير مدوخ العطر دميم، ابتسم للمحامي الشاب ما أن عرفه، وخصنا بعنايته، وذلك باختيار طاولة عالية لنا، في زاوية نصف مضيئة. حيا أخو أبي بكر الزبائن من حولنا: هذا الوزير الفلاني، وذاك الوزير العلاني. هذا قاضي القضاة، وذاك قائد القيادة. قنينة كحول على طاولة كل واحد، وعاهرة أو عاهرتان أو ثلاث. غير بعيد، طاولة لا يشغلها أحد. جلس حولها واحدًا واحدًا: عبد السلام بوعمير رئيس الوزراء، الشريف ابن الخال والمستشار الشخصي للملك، أبو الوليد الكركي وزير الإعلام. جاءهم الأعرج بقناني الشمبانيا، ودارت بهم أجمل العاهرات. أخذوا يتضاحكون، ويتمازحون. حكى بوعمير قصة جرت له في لندن. أراد النوم مع عاهرة الفندق، فاختلف وإياها على الثمن. فيما بعد، في المساء، رأته العاهرة مع زوجته، فرمت في وجهه: "ربما كانت أرخص مني لكنها أبدًا لن تكون أجمل مني!" انفجروا كلهم ضاحكين.
انبرى الشريف ليحكي أنه كان بصحبة أحد شيوخ العشائر، فسأله أن يقول فيه وفي سياسته يوم كان رئيسًا للوزراء. "سياستك كسياسة غيرك واحدة منذ أربعين سنة لم تتغير، قال الرجل الحكيم، وبعد أربعمائة سنة لن تتغير، فأنتم لا تكرهون كراسيكم، حتى ولو اهترأت، ولا نساءكم، حتى ولو اهتلكت، ولا وجوهكم، حتى ولو تهدلت وبشعت! أما عن شخصك، فأقول ما قيل في أهل البيت: إن كنت من كبارهم عظم شأنك، وإن كنت من صغارهم قل أمرك!" سأله الشريف: "من هم صغارهم؟" فراح البدوي يقرأ: "تبًا يدا أبي لهب وتب..." إلى آخر السورة.
ومن جديد، انفجروا ضاحكين.
جاء دور أبي الوليد الكركي، أوضح أن القصة ليست قصته، فهو بريء كطفل غير بريء، وسيبقى بريئًا إلى يوم الدين، قصة جرت في القصر الملكي، يوم كان رئيسًا للديوان.
أدان تاجر كبير أميرًا كبيرًا مبلغًا أكبر من كبير، ملايين كثيرة، ولم يسدد الأمير الكبير هذا الدين، مما اضطر التاجر الكبير إلى اللجوء إلى جلالة الملك شاكيًا أمره إليه. دخل الأمير الكبير مكتب سيدنا دون أن ينتظر أن يجد نفسه وجهًا والتاجر الكبير لوجه. حزر سبب وجوده، وفي الحال نزل به لكمًا في الوجه وفي الصدر وفي البطن: "خذ! ردد، هذا المليون الأول! هذا المليون الثاني! هذا المليون الثالث!..." حتى أوجعته قبضته، ولم يعد قادرًا على تسديد لكماته.
انفجروا كلهم ضاحكين، ورشاد رشد يضحك معهم. لفت الأعرج انتباهي، فما انفك يصب الشمبانيا في أقداحهم. هناك شخص آخر لم أتبينه، كان يجلس على ركبتيه، ويلمع أحذيتهم بلسانه.
قال المحامي الشاب في أذني:
- هل ترى ذاك الجرو الخرع هناك؟ إنه أبو الحسن الفزاع!
عجبت من سلوكه.
- لا تعجب، وانظر الباقي!
بدت على وجوههم أمارات الجد فجأة، وأخذوا يتكلمون عن الأرض الخصبة التي اكتشفتها الأقمار الصناعية الأميركية مع احتياط من الماء لا ينضب، ولمن ستكون ملكًا. تشاجروا ما بينهم، فقال الشريف لعبد السلام بوعمير:
- ألم تكفك صفقة السيارات المشتراة من طرف الدولة بأبهظ الأثمان وتقاسمت مع أخيك "الكاراجاتي" أرباحها؟ آه! اسمح لي! نسيت قرابتك مع حاكم أرخذونة التي تشفع لك والحكومة التي ترأسها!
- نعم، أكد عبد السلام بوعمير للشريف، تمامًا كما تقول! قرابتي مع الفارس بوعمير والحكومة التي أرأسها، يسمح لي هذا بما لا يُسمح لغيري. وأنت، ألم تكفك صفقة أطنان اللحم الفاسد التي لم تتقاسم أرباحها مع أحد؟ آه! اسمح لي! نسيت قرابتك مع الرجل الأول للبلاد والحكومة التي كنت ترأسها!
- نعم، أخذ الشريف يزعق، تمامًا كما تقول! قرابتي مع الأسرة الملكية والحكومة التي كنت أرأسها، يسمح لي هذا بكل شيء حتى برأسك!
حاول أبو الوليد الكركي تهدئتهما.
- أنا الوحيد، قال، بنفسي بنيت نفسي! أصلي المتواضع لم يسمح لي بأي امتياز، والفيلا الفخمة التي أشيدها لاستقبال عاهل البلاد عندما يكون تعييني على رأس الحكومة تشهد على ضراوة سعيي الحثيث للنجاح! يكفيني هذا! أن تكون كل العشائر وكل الوطنيين في هذا البلد معي!
قهقه عبد السلام بوعمير:
- هل بَنَتْ فيلّتك الفخمة نفسها بنفسها مثلك أم بأموال وزارة الإعلام؟
قهقه الشريف بدوره:
- عشائرك، الفقيرة أم الغنية؟ وطنيوك، بتلميع المخابرات أم "بنضالاتهم" التي لا فائدة منها؟ أصدقاء الأمس! أيها الأناني!
- سأقول لكما الحقيقة، تردد وزير الإعلام، هدمت الجسور بيني وبين علاقاتي القديمة في اللحظة التي دخلت فيها القصر، من أجل التفرغ تمامًا لوظيفتي الجديدة في خدمة صاحب الجلالة. لا، لست أنانيًا، إلا إذا سمينا الأنانية الإخلاص. فلنعد إلى الأرض الخصبة، إنها ضخمة، إذا ما اقتسمناها رجعت لنا بقليل المال...
- ولم ترجع علينا بكثير من وجع الراس، سارع رئيس الحكومة إلى الإكمال.
- غالية أم غير غالية، أجاب الشريف، المشكل ليس هنا، لدي نقود! ولواحد اثنين أو ثلاثة ستكون سهلة المنال، سنحصل عليها بحفنة من الرمل.
- إذن، المشكل أينه؟ سأل وزير الإعلام، ومن هو الأناني في الوقت الحاضر؟
- ربما كنت تفضل أن يسرقوها من أيدينا؟ سأل رئيس الحكومة بدوره، فالأرملة وحليفها ذو الهيبة والنفوذ هما ها هنا لهذا، وعلينا أن نقرر الآن وبأقصى سرعة، وإلا خسر ثلاثتنا.
هدد الشريف:
- الأرملة، الأرملة! يجب أن ننهي عليها مرة واحدة وإلى الأبد، هذه المدام سونيا! ولكن المرقة، مع أيها ستؤكل؟
ثم وافق:
- طيب، فليكن، إذا كان الأمر كذلك، فأنا موافق.
وعلى غير ما كان متوقعًا، أخذ أبو الحسن الفزاع يزغرد كالمسعور، فأفزع كل الزبائن. سبه الموظفون الكبار، وأخرسوه. عندئذ، صفق الأعرج بيديه، فانبثقت راقصة من وراء ستارة، يتبعها طبالها ودفافها وعوادها وزمارها. راحت تتشخلع وتتخلوع حول بوعمير والشريف والكركي، والمشاهدون يصفقون أو يتصافقون، يضحكون أو يتضاحكون، يقبلون أو يتقابلون، يعبون الخمر عبًا، ويتمرغون في تراب الكرامة ونعيم الفجور. كانت ثورة الرغبات البخسة، حيث يتحد الإنسان بنفسه، لا امرأة هو ولا رجل، ولا صورة، ولا إله، ولكن نوعًا من حيوانِ جنسٍ عاديّ! كان شطط هذه الحالة الحيوانية الذي ألهم الفزاع سبيَ الجميعِ بقحبةِ الصحراءِ في ثوبها متنكرًا. من كان في طبيعته يرتعد فزعًا، ها هو يتهلل جذلاً، ويغدو طقسًا، في معبد العربدة، لبركة الجميع. والمفاجأة الكبرى كانت عندما اخترق بعض أصحاب المقامات الدينية جهنم السديم، وهم يخفون وجوههم خلف عمائمهم.
- فلنخرج من هنا، طلبت من رشاد رشد مع مزيج من التمرد والقرف.
عندئذ، أفرغ المحامي الشاب كل ما يقعد على قلبه:
- من الحق أن هؤلاء الذين سيشترون الأرض الخصبة بأبخس الأثمان لن يترددوا عن تحقيق أكبر الأرباح، فكل التجارب الجينية والكيماوية المتخيلة واللامتخيلة سيتم إجراؤها حتى تغدو هذه الأرض خرابًا يَبابًا. سيفعلون الشيء نفسه بأرخذونة لو وقعت في أيديهم، سيحلبونها كبقرة حتى يجف ضرعها، سيبيعونها بعد ذلك أو سيلقونها لذئاب أقل ضراوة منهم لِتُلْتَهَمَ كلها، ولن يقلقهم أن يروا محصولاتهم الترانسجينية سببًا في أكبر نسبة من المصابين بالسرطان في العالم، لن يشغل بالهم أن ينام على جوع بطنه اثنان على ثلاثة من مواطني هذا البلد، الذين تحولوا، بعد حرب الخليج كلهم، إلى مهربين، حتى أن هذه "النعمة" انتزعتها مافيا منظمة على رأسها رجالات دولتنا الكبار، كما رأيت بعينك وسمعت بأذنك. نعم، ما هم سوى حقيرين دنسين، العفن في مملكة الدنمرك عفنهم، فهو إذن حكم القلق هذا الحكم والسعادة السافلة.
ازداد قرفي.
- غدًا، عزمت، سآخذ أول طائرة إلى مدريد.
- ليس قبل أن نحاول للمرة الأخيرة أن تقابل أبا عبد الله العوفي. ألسنا هنا من أجل هذا؟
لم أدرك بعد ما يقصد، فالفصول تتعاقب، في القصص وفي الحياة، والغموض يلازمها. نادى الأعرج، فجاء بسرعة. وضع عشرة دنانير في يده، وهمس في أذنه ما لم أسمع، وهو يشير بإصبعه إليّ. قال الأعرج نعم برأسه، وابتسم لي.
في الخارج، أوضح أخو أبي بكر:
- أبو الحكم القاسم، رئيس الديوان الملكي الجديد، أحد زبائن هذا الأعرج. بعشرة دنانير، سينقل له قصة الأرض الخصبة التي سيتقاسمها هذا الثلاثي الجهنميّ مقابل استدعائك إلى مكتبه. رئيس الديوان الملكي سيكون بالطبع الشريك الرابع لهذه العصابة، لكنه سيستدعيك حتمًا، لأنه لم يخلف أبدًا في حياته كلمة قطعها لهذا الأعرج.
غدت الأرض الخصبة ورقة رابحة في حياة الكندرة الحاكمة، وهي مستعدة لكل شيء في سبيل الحصول عليها. لَكَمَ روحي تهديد الشريف للأرملة، فقررت إنذارها.




الفصل الرابع

بعد ظهر الغد، أصعدني الخادم الهندي إلى شقق مدام سونيا. وجدتها في الروب دو شامبر، وهي تتزين أمام مرآتها الفخمة. لسهرها حتى الصباح، نامت طوال الصبيحة. كانت بمعية ولي العهد، سهرة أشغال لا أكثر. فالت لي كم يأسف سموه على عدم رؤيتي، فقد طلب منه جلالته أن يؤجل كل اتصال بي.
- أقول "يؤجل"، بروفسور، أكدت الأرملة، تأجيل راجع إلى الحالة الحرجة للبلد، لا غير. هذا يعني أن كل الفرص لمقابلة الملك لم تزل أمامك وحل المشكل الذي أنت هنا من أجله.
- المشكل الذي أنا هنا من أجله سيكون قد تم حله على أيدي العساكر الانقلابيين، على طريقتهم، قريبًا جدًا، قلت بنبرة متشائمة. هناك محاولة أخيرة تجري الآن لاستقبال جلالته لي، إذا فشلت، عدت إلى مدريد دون تأخير.
أنهت الأرملة زينتها، لكنها بقيت تنظر إليّ في انعكاسات المرآة.
- في الواقع، جئت من أجل شيء آخر، جئت كي تأخذي حذرك، هناك من يريد الإساءة إليك، وربما محاولة اغتيالك.
استدارت، ونظرت إليّ بعينين كبيرتين رماديتين.
- من "من"؟
- الشريف، ابن خال الملك.
- لماذا؟... لأنني أريد مساعدتك؟
- لا، بسبب الأرض الخصبة التي اكتشفتها الأقمار الصناعية الأميركية والتي يسيل لعابهم عليها.
قهقهت، أخذتني من يديّ، وجعلتني أجلس قربها على كنبة من المخمل الأحمر.
- كم أنت ساذج، بروفسور! قالت وهي تقترب بوجهها من وجهي، من الأفضل أن تعود إلى مدريد، إلى الحرية، إلى الأزرق، لون الحب.
- الحرية تحت تهديد العساكر؟
- الإسبان قادرون عل حل كل شيء، أما هنا...
- نعم، سمعته ينطق بتهديدات ضدك.
- من هو؟ صاحت مرتبكة هذه المرة.
- قلت لك، ابن خال الملك، الشريف.
أخذت التلفون، وركبت رقمًا. قالت بصوت جسيم يشذ عن رقة شخصيتها:
- الأرملة على الهاتف! أعطني صاحب السمو الملكي.
بعد انتظار طويل، قال لها محدثها إن سموه مشغول جدًا، إنه في مكتب جلالته. تركت خبرًا، وأغلقت.
- قلقك لا مبرر له، يا صديقي العزيز. التهديدات، استلمت منها العشرات، وكما ترى، لم أزل على قيد الحياة! أحيا من أجل الحب، هل نسيت؟ أنا كالحب: خالدة! سأحيا ما بقي رجال مثلك محبون محبوبون صادقون ومع الأسف نادرون ولكننا نجدهم على الرغم من كل شيء.
قبلتني.
- لقد أخبرتُكِ، فانتبهي إلى نفسك.
- لا تقلق من أجلي.
- الآن، عليّ الذهاب.
- ألا تبقى معي للعشاء؟
- لا، عليّ الانتظار قرب الهاتف.
- نعم، أنا فاهمة. أنا آسفة لأني لم أستطع فعل شيء من أجلك.
- ليس أنتِِ، الاعتبار للمصلحة العامة. حجة تعسفية غالبًا ما تُلقى لتبرير عدم الحب.
قعدتُ عند أخي أبي بكر الآشي أنتظر استدعاء أبي الحكم القاسم، فطال بي القعود، وارتاب رشاد رشد في أمره. عاد يفكسس إلى كل واحد من رجالات القصر الملكي، دون أن ينسى منهم واحدًا، ولا أي جواب من واحد.
خلال ذلك، أخذ الوضع يسوء أكثر فأكثر في أرخذونة، فعتمت الفضة، واحتار الزيتون. هاجم الجيش آميديه في جبال البِطيق، وكاد يقضي عليه لولا تمكنه من الهرب إلى بلاد الباسك وإيزابيل معه. انتقلت المعارك إلى جبال البرنة، كانت براءة التاريخ. ومن جهته، ضيق الفارس بوعمير الخناق على أرخذونة، وتفنن الكاردينال ريفيرا في تعذيب أهلها، كانت لوحات المعرفة. أخذ تلفزيون عمان يتكلم عن "حل أردني" باثًا فكرة إحلال السلام في أرخذونة. عندئذ، توقعت أن يعلن أبو عبد الله العوفي ارتباطه بالمدينة الأندلسية القديمة، ويأمر باستدعائي، فلم يحصل شيء من هذا. استعملت اللغة الخشبية في خدمة أكاذيب جديدة، حقائق قديمة، وراحت وسائل الإعلام تتكلم عن "سلام حقيقي" مع أرخذونة، وكأن أرخذونة في حرب مع الأردن، في خدمة أكاذيب قديمة، حقائق جديدة. بعد عدة أيام، علمنا بما يختفي وراء كل هذا العجيج الإعلامي: صرف أبصار الرأي العام عما يجري من عداء بين طائفتين: الشراكسة والأرمن، الأوائل مسلمون والأواخر مسيحيون، هؤلاء أبناء الحدائق، وأولئك أبناء السفوح. وعلى الرغم من الاشتباكات التي أودت بحياة عشرات الأشخاص من الطرفين، وضع عبد السلام بوعمير حدًا لما دعاه "شغبًا" بالحديد والنار، وتحولت دبابات وزير دفاعه إلى أقاحٍ.
هذا هو السبب الأول الذي يفسر الجلبة الإعلامية عن السلام مع أرخذونة، أما السبب الثاني فلتحضير زيارة الفارس بوعمير لعمان، على الرغم من التنافس القديم الجديد بين الفارس بوعمير وأبي عبد الله العوفي، فالكل يعلم بكره النصل للرمح. بيد أن السي آي إيه، كما قلت سابقًا، هي السيف الفعلي للبلاد، وليس من صالحها أي تنسيق بين العاهلين الأردني والإسباني. على العكس، بإضعاف الكرز القرطبي، سيفتح العساكر الانقلابيون أبواب شبه الجزيرة الإيبيرية العراض لأساطيل الحكمة الجديدة القديمة، تمامًا كما كانت حال هذا البلد الصغير الذي هو الأردن، الصغير الجسد ولكن الكبير القلب.
- استغلت حركة آميديه للسيطرة على إسبانيا.
كل شيء واضح، ولم يبق لي إلا العودة من حيث أتيت. حجزت لمدريد في طائرة الخميس، أي بعد ثلاثة أيام. جاء بسام المنصوري برفقة صديقته لوداعي، والوداع يبكي من عينيه. ألح عليّ بالكتابة في جريدته من العاصمة الإيبيرية، فلم أعده بشيء. بعد فشلي الأردني، سأذهب إلى مراكش بحثًا عن الجزء الثاني من قصة الحب الدموي. غدا هذا الحب شغلي الشاغل، عسى الشيطان أن أجده. أعطيته بعض مقالات سبق لي نشرها في مجلة إسبانية، مقالات "جريئة" بعض الشيء، فأخذها فرحًا.
- مكتب المخابرات في كل جريدة، أفضى بسام لي، لهو رب كل كلمة سياسية تنشر، غير أن المقالات الأدبية، فقلما تراقب. أشكرك جزيل الشكر! لو أن كل المثقفين كانوا على قدر من الشجاعة التي لك، لوجدت كل مشاكل العالم حلها!
أعدت إليه الإطراء بإطراء.
- أنت الوحيد من يسأل عني، أضفت، مثقفو هذا البلد كأنهم يعيشون في كوكب لم يكتشف بعد.
همهمت صديقة صديقي:
- الأحداث الأخيرة مزقتهم.
وابتسامة عابسة على شفتيه، علق بسام، ليس بغير سخرية:
- حتى ما قبل الأحداث الأخيرة هذا هو طبعهم! هؤلاء السفسطيون! كل واحد منهم يعتبر نفسه ماركيز أو بودلير أو أرسطو زمانه! اغفر لهم، بروفسور، واغفر لي! منذ مجيئي لرؤيتك، اعتبروك واحدًا من "شلتي"، إذا ما جرؤت على التعبير هكذا، مما أعطاهم سببًا إضافيًا للتهرب منك.
- ولكني أنا كنت بعيدًا، لم أعرفك شخصيًا إلا هنا، وما عرفت أحدًا منهم إلا عبر كتبه التي حللتها دون أن أتحيز لهذا أو لذاك.
- هذا الشكل من التصرف دينهم وديدنهم! ومع الأسف الأصفار منهم يدللهم القصر كأبنائه، وأصحاب الموهبة يعزلهم، فيتساقطون كثمار التين، وهم يصارعون بأقلامهم وأذرعهم من أجل العيش!
بدا لي أن بسام المنصوري يشكو أمره إليّ، فماذا أقول عني، وعن مهمتي، المتجاهلة من طرف التاج؟ بقي صاحب الافتتاحية الشهير وصديقته صامتين بعض الوقت، أضاقهما لجب الصمت، فنظرا إلى بعضهما، ونظرا إليّ، ثم لم يتأخرا عن الذهاب. جعلاني أسقط في صمت اللجب، فحضر رشاد رشد الآشي مبكرًا على غير عادته.
- كنت مضطرًا إلى ترك المكتب، قال لي لاهثًا، تلفن الأعرج، أبو الحكم القاسم يريدك في الحال.
- في الحال؟
- نعم، حالاً.
نهضت إلى الباب، ورشاد رشد يسارع إلى القول:
- لقد نجحت أخيرًا في إيصالك إلى رئيس الديوان الملكي، وعليك حاضرًا يتوقف كل شيء من أجل الوصول إلى جلالة الملك، فاعرف كيف تتصرف مع موظفه الكبير، اجعله يفهم أن ذكاءه غير قادر على إدراك الله كعيون الخفافيش على رؤية الشمس. بكلام آخر، اجعله يعرف حدوده في السياسة كما في الحياة.
وضعني تاكسي عند قدم الجبل الذي يرتفع عليه المقر الملكي، والسائق يصرخ فزعًا:
- عجل بالنزول! ممنوع الوقوف! عجل، أرجوك!
وأنا أحاسبه، أخذت صفارات الحرس تولول، والسائق معها.
- خلني فقط أذهب!
دفعتُ أكثر من اللازم، وقفزتُ، لتنطلق السيارة مثل صاروخ. ظلالها تنطفئ في الشمس، وعجلاتها تحترق على الإسفلت.
في غرفة إلى يمين المدخل، هناك مكتب حديدي وكرسي خشبي وضابط يبحث في كراس عن اسمي. رفع السماعة، وطلب سكرتيرة أبي الحكم التي أكدت استدعائي. عاد إلى كراسه مهمومًا، لما فجأة ثقبت فمه ابتسامة غبية.
- صحيح كما قالت الآنسة، قال، اسمك الوحيد غبر الرباعي، كيف لم ألاحظ ذلك؟
وذهب في استنطاق طال عن اسم أبي واسم جدي واسم جد جدي، وهو يسجل في جهاز الكمبيوتر. بما أنني نسيت كل هذه الأسماء، كنت أكذب عليه، هكذا لن يعرفوا عن جذوري شيئًا كما هو دأب الأخطبوطات مع كل فرد من أفراد هذا البلد منذ أربعة أجيال، وربما منذ كانت الأرض. على الرغم من الدوران السريع للساعة، ورأسي معها، وبكل الغباء في العالم، رقعني الضابط بانتظار سيارة أحد الطالعين إلى القصر. في الأخير، أرسلني مع موزع البريد كرسالة مسجلة. أشار هذا إلى رجل تعب ينزل من سيارة فورد تعبة، وقال لي:
- هذا هو مستشار أبي الحكم، فاذهب معه، سيدلك على مكتبه.
نظرت إلى الرجل التعب، وهو ينفخ من الحرارة والشيخوخة، ومضيت بخفة من أمامه، دونما أعيره أدنى اهتمام.
في داخل القصر، كان بعض الشراكسة في تنانيرهم القصيرة وقمصانهم المطرزة وطرابيشهم المزوقة وباقي زيهم التقليدي، وهم يقومون بالحراسة أمام مكتب الملك. كانوا يمثلون طائفة شيشانية الأصل، أراد العاهل أن يحيي فيها الشهامة والمروءة قرنفلتين. كانوا الأوائل، وهم الغرباء، الذين استقبلوا جده، وهو الغريب، حال وصوله من بلاد الحجاز. كنت على بعد خطوتين منه، بيد أن قطع جهنم كان أسهل بكثير! شخر بي موظف تشريفاتي ليفسح العبور لإحدى الشخصيات الهامة، فقلت لنفسي هو الملك، وهي فرصة لا تعوض للتحدث إليه. انتحيت جانبًا، والتفت، فإذا به المستشار التعبان إياه. رمى حقيبته بين ذراعي الشاب المنافق، وهو يتنفس بضيق. استمرت الحرارة الخارجية تطارده في الممر الملكي العظيم، فالنعيم جحيم. لم يتوقف ملاك القصر عن شد شعره، ونكش أنفه، والتدحرج كطابة مثقوبة. أردت أن ألعن الشاب الدجال وأباه وجده وجد جده وكل الذين خلفوه، غير أني ابتلعت الإهانة من مِسْخ القوم، وأملت بالتعويض عنها من عِلْيِهِم.
بلطافة لم أعهدها في السكرتيرات اللاتي أعرفهن، رجتني فتاة ذات شقار أرستقراطي أن أنتظر انتهاء أبي الحكم ممن يستقبل، فجلست قرب بابها المفتوح أنظر إلى الأبواب الخشبية العالية المدهونة بالزيت وهي تنفتح وتنغلق. رأيت أشباح رجالات القصر، وهم يتوشوشون اثنين اثنين، ثلاثة ثلاثة، أربعة أربعة... عناكب في شبكات ذكرتني بالأرض الخصبة التي تقاسمها رئيس الحكومة والمستشار الشخصي للملك ووزير الإعلام. كانوا يتهامسون خوفًا من أن يسمعهم جلالته، وما أن يغادروا القصر حتى يأخذوا بالنهيق أو النباح.
مفاجأة أخرى –وما أكثر المفاجآت في الديوان الملكي- دخل أبو الحسن الفزاع الذي تظاهر بعدم رؤيتي، ووقف مع السكرتيرة قرب النافذة ذاهبًا معها في حديث لا أول له ولا آخر. انخرس مع انفتاح الباب المصفح، الرابط هذا المكتب بمكتب أبي الحكم القاسم. ظهر القمر، وتقدم باتجاهي، وهو يخب، ويتصنع هيئة مهيبة يقول الناس عنها مفتاحه إلى قلب الملك. سلم علي بأطراف أصابعه، فعبرت عن زعلي، لا لعدم شده جيدًا على يدي، ولكن لأهماله الرد على مطر فاكساتي. تجاهلني، وتظاهر بعدم سماعه لشيء. انحنى على أذن سكرتيرته، وأنا أفكر في الشخ عليه، ومغادرة القصر بأقصى سرعة. استدار نحوي، وهو يبالغ في العقد بين حاجبيه، وطلب مني الدخول إلى مكتبه، الشيء الذي فعلته مترددًا. تبعني، وتأكد من غلق بابه المصفح جيدًا.
كانت كل فاكساتي على مكتبه، تناول قلمًا وورقة، وبدأ يسألني: من أنا، ولماذا أنا في عمان، وكيف أجرؤ على فكسسة غضبي إلى جلالته وسخطي لعدم استقبالي منذ أسابيع؟ إذن، استدعائي لم يكن من أجل المهمة التي كلفت بها. دفعني هذه الاستجواب البوليسي بالأحرى إلى النهوض، كان الباب المصفح مغلقًا تمامًا. تبادلنا بعض العبارات العدائية بلهجة لاذعة، وعاد إلى استجوابي.
- لن أجيبك، قلت بجفاف، إنه خطأ أعرج "تحت السيل"، من رتب هذا الموعد، وسيعرف شغلي معه.
عند ذلك، لانت قناة أبي الحكم، واعترف أنه لا يعرف لماذا أنا في العاصمة الهاشمية، وأن جلالته لم يكلمه في الأمر. حكيت الأسباب باختصار، وأنهيت بقول:
- الشخص المكلف بمتابعة قضيتي مع الملك واحد اسمه الفزاع.
وفي الحال، رفع أبو الحكم السماعة، وناداه، وهو يفتح الباب المصفح بالضغط على زر بقدمه، فدخل الخرع بعد لحظات، وهو يخب، هو الآخر، وعلى وجهه أمارات الفزع. أعاد رئيس الديوان الملكي عليه ما قلته له، فأكد:
- صحيح ما قاله، البروفسور، لقد عرض خدماته على جلالته من أجل حل أزمة أرخذونة، ولم يتم اللقاء، فكل شيء كان يتوقف على رئيس الديون الملكي سلفك.
جرحتني صيغة التصغير في عبارة "عرض خدماته"، كأي عميل أو مرتزق. تجاهلت الأمر على مضض مني، وتوجهت إلى رئيس الديوان الملكي:
- أيعقل هذا؟ سلفك يعرقل جهودي قرب جلالته! ألم يهمه هذا الحاسد مصير أرخذونة، مصير العاهل الإسباني! ألم يفكر في مصير هذا البلد المرتبط بمصير المدينة الأندلسية؟
أضحَكَتْ أبا الحكم القاسم كلماتي:
- سنترك أرخذونة في حالها، وحدها تواجه مصيرها، بروفسور، مقابل أن يتركوا الأردن في حاله، وحده يواجه مصيره، وإلا زالت المملكة من الوجود، وبدأ عهد بشع أبشع من الحالي بكثير!
استفزني:
- والناس، هل سيسكتون؟
- من الأفضل للناس أن يسكتوا، أحسن لهم، أن يقبلوا بالوضع على الرغم من كل شيء. أرخذونة لهم ليست الجنة، وإنما النار التي سيشوون فيها لو يتحركون قليلاً.
همهمت بمرارة:
- إن كنتم ترون الأمور هكذا، فعودتي إلى مدريد ستكون يوم الخميس القادم.
همهم رئيس الديوان الملكي بدوره:
- ألا تريد أن تفهم، بروفسور؟ ترك أرخذونة لأرخذونة لهو ضمان هذا البلد الوحيد لبقائه.
لم أقل شيئًا، فقعر صوته:
- إنهم أقوياء!
- ...
- الحكام الحقيقيون! أقوياء جدًا!
سكت قليلاً، ثم سألني:
- هل تريد أن تسمع هذا من فم جلالته بنفسه؟
- ليس الأمر مهمًا في الوقت الحاضر، لكني سأسمح لنفسي بالكتابة عن كل ما سمعته من فمك في جرائد الغرب.
- هل تريد التنديد ببلدك؟
- على العكس، سأدافع عن هذا البلد الذي يعاني من كل شيء.
- لماذا لا تكتب في جرائدنا؟ الديمقراطية عندنا بقدرها عند الغرب أو يزيد!
هذا العسكري، ابن العسكري، ابن ابن العسكري، ابن ابن ابن العسكري، من لا مبدأ له غير "الجزرة والعصا"، يجرؤ على الادعاء، الآن، أنه ديمقراطي أكثر من الديمقراطيين.
- أنت لست مقتنعًا بكلامي، بروفسور! لهذا أصر على أن تقابل جلالته. قلتَ لي متى ستغادر؟
- الخميس القادم.
رفع السماعة:
- حدد موعدًا بين البروفسور وجلالته قبل الخميس لو أمكن، وإلا فالغ كل شيء، يكون قد سافر.
وأغلق.
- إنه رئيس التشريفات، قال الموظف الملكي الرفيع ببرود، كم هي الأمور سهلة لما تكون واضحة! بالمقابل، أشك في أن يكون لدى جلالته وقت لاستقبالك، فالفارس بوعمير سيحل بيننا غدًا، وها أنا أعلمك بهذا النبأ قبل الصحافة.
كل الأمور كانت واضحة تمامًا.
قادني نحو الباب المصفح، ومنه عدت إلى مكتب السكرتيرة. سألتها أن تطلب لي سيارة أجرة، فرجتني العودة إلى الجلوس. في الممر الملكي، خرج من أحد الأبواب العالية المدهونة بالزيت ابن أخي أبي عبد الله العوفي. عرفته من التلفزيون الملكي بلون بشرته السمراء الكامدة، وقامته الطويلة، وصلعته الوشيكة على الرغم من كونه في ريعان الشباب. اقترب من السكرتيرة، فقدمتُنِي له، وسألته لو سمع بي. لا! ذكرته بكونه المستشار الثقافي للملك. نعم! وفاكساتي؟ رماني بنظرة محتقرة، وزلق خلفي ليومئ إلى الشقراء الأرستقراطية. لمحت شفتيه الغليظتين، وهما تتحركان كبطتين. أخذ موعدًا معها، وافرنقع.
جاء الأعرج، وهو يتراقص كاللهب. قدمتُنِي له، فأبدى جهله التام بمعرفتي. دخل على أبي الحكم الموجود بصحبة الفزاع، فسألتُ السكرتيرة ما يفعله هذا الأعرج هنا. أخبرتني أنه في النهار سيد الجد، وفي الليل سيد اللهو. عرفته في الليل، قلت لها، وها أنا أعرفه في النهار. إنه ابن رئيس الحكومة، أضافت. من الثمرة تُعرف الشجرة! لم يدهشني أمر مثل هذا الشخص الخامل في القصر وإنما أمر أولئك الذين يتوارثون هم وأبناؤهم كراسي الحكم. سيتفق الأعرج وأبو الحكم على عدم تحديد أي موعد لي مع الملك، بعد أن أفزع الفزاع رئيس الديوان الملكي بإعلامه: أنني كنت مهيئًا لرئاسة الحكومة، الوظيفة التي يجلد نفسه بها ليل نهار، فتبًا للبروفسور! تبًا لأرخذونة! تبًا للعالم!
ركبت حصاني الأغر، كان الحصان في رأسي. خففت العدو، فرأيت سيارات الشرطة تجتاح فيلا الأرملة. كان الجيران هناك. كالغرباء. جاءت رحمة الآشي تقول لي، والدموع تسيل من عينيها، إن مدام سونيا لقيت حتفها في حادث سيارة، هي وسائقها. صعقني الخبر. الجبناء! لم يترددوا! أردت الذهاب لأراها، لأُلقي عليها نظرة أخيرة، لأقول لحبها الوداع. منعتني زوجة رشاد رشد، فتركتُنِي لحزني يروح بي بعيدًا عن الحصافة، وَهِمت على وجهي، حتى المساء، وأنا أفكر فيها: كانت تحب النجوم، كانت تحيا لأجل الليل.














الفصل الخامس

تزامن رجوعي إلى مدريد مع وضع الملك تحت الإقامة الجبرية في الإيسكوريال، وذهب كل شيء عبثًا، فلم يُرجع العساكر مشكلة المشاكل إلى أبعادها الحقيقية، ولم يصيبوا رميتين برمية واحدة. حاولوا مرات أن يضربوا آميديه في جبال البرنة، ومع ذلك لم يفلحوا. أحرقوا كل السحلبيات وأشجار الصنوبر، وحطموا كل الصخور والقمم الزرقاء.
كان جو الحرب الأهلية يسود كجو الرقصة الخليعة: تحولت الأديرة إلى سجون أو محاكم، وتمت تصفية الناس فرادى أو جماعات. نزلت التماثيل عن قواعدها، وتركت النوافير للموت من ورائها. اختلطت قضية آميديه بقضية الملك والديمقراطية، ولم يعد أمام العساكر غير كم الأفواه، وهجر الأصدقاء، وحذف كل معارض، حتى الأخوات "الحمراوات" اغتصبن، ثم قُدمن قرابين على الهيكل.
اتصلت أول ما اتصلت بأبي بكر الآشي، فقيل لي إنه بمعية جلالة الملك في الإيسكوريال. حاولت التكلم معه هاتفيًا، فكانت الخطوط كلها مقطوعة. خاطرت بالذهاب إلى رؤيته، فأجبرني العساكر على العودة على عَقِبَيّ. كان كل شيء قد انتهى بخصوص أرخذونة، بخصوص كل إسبانيا، الحياة معطلة، والجامعات مقفلة، فعزمت على ترك مدريد إلى مراكش. لم أشأ مشاهدة الموتَ الكوكبيَّ لآميديه وإيزابيل، لا سيما بعد أن استجابت فرنسا إلى أخذهما من الخلف، من الجهة الأخرى للبرنة. فضلت الوقوف على نهايتهما المفجعة، نهايتهما المفجعة الأخرى، التي جرت منذ مئات السنين، في الجزء الثاني من قصة حبهما، في مكتبة الكُتُبِيَّة. أردت الهرب من الواقع المرعب إلى واقع أقل رعبًا، بفضل الزمن، والذي لم يبق منه سوى بضع قطرات دم جفت. لم يكن باستطاعتي رؤية النهر الأحمر لأمة، وهو يتفجر، ويمتزج بدم الأميرة إيزابيل والمتمرد آميديه، العربي الأصل، المجنون!
في البداية، رغبت زوجتي وبناتي في المجيء معي، كن يخفن من البقاء وحدهن في بلد لا أحد يشعر فيه بالأمان. غير أنهن طلبن مني السفر بأسرع وقت، خوفًا من أن يرين العساكر، وهم ينقلبون عليّ. ربطني آميديه، دون أن يشاء، بأرخذونة، بالعاهل الإسباني، بالأردن، البلد الذي جاء منه أهل آميديه الأوائل. لم يهددني أحد بإفشاء سري، ولعب التكتم المصاحب لمهمتي إلى عمان في صالحي، فالعساكر لم يوقفوني إلى حد الآن، وغيابي في مراكش، سيجعلهم ينسون الأمر كله. وعدت بناتي وزوجتي بأن أرسل من ورائهن أول ما أستقر استقرار طائر البَلَق، وألا أتأخر كثيرًا عليهن. كان لدي من المال ما يكفيني سد الرمق عامًا من غير عمل، وبالمقابل، أملت بمنصب جامعي يحميني وعائلتي من غائلة العيش.
في ليلة ليلاء، انطلقتُ إلى مدينة الجزيرة، وعلى متن أول سفينة، قطعت مضيق جبل طارق إلى المغرب.

* * *

في فندق صغير من فنادق الدار البيضاء، سألت شاب الاستقبال عن غير القطار سيارة أم حافلة مسافرة إلى المدينة الحمراء، فتدخل رجل كان يقف غير بعيد عني:
- هل تريد الذهاب إلى مراكش؟
بدافع الحذر، نظرت إليه دون أن أفوه بكلمة. دفع نظارته الطبية على أنفه، وصعد الدم إلى وجهه.
- أرجو المعذرة، سارع إلى القول، سمعتك تسأل عن وسيلة سفر إلى مراكش.
ثم قدم لي نفسه:
- عبد الصمد بلصغير، خادمك، أنا من مراكش، أستاذ في الجامعة.
ظننت أني رأيته من قبل:
- ألم نلتق في مكان آخر، في الماضي؟
- لا، يا سيدي.
- عجبًا! وجهك ليس غريبًا عني!
- هذا ما يقوله الناس عن شخص يروق لهم.
أجبت على ابتسامته، وقامت الثقة ما بيننا.
- بالفعل، أنت تروق لي! ظننت أني رأيتك من قبل في مدريد.
سرنا إلى كرسيين في القاعة.
- أعرف جيدًا كل الجنوب الإسباني، قال المراكشي، كل الأندلس، أما مدريد، فلم أزرها أبدًا.
أعرب عن أسفه لما يجري في إسبانيا، إسبانيا على شفا حُرْفٍ هاوٍ. رآني أمتنع عن الحديث، زاجرًا إياي، فسألني:
- وأنت؟ يبدو أنها زيارتك الأولى للمغرب.
- إنها زيارتي الأولى، أنا في الدار البيضاء منذ مساء البارحة.
- وتريد مغادرتها إلى مراكش؟ أقول لك الحق، لا شيء يغري في هذه المدينة الصناعية بناسها الغلاظ القلوب!
- لم ألتق بعد ناسها، أنا في المغرب من أجل هدف محدد جدًا.
كشفت له من أنا، ولماذا أنا هنا، فأبدى سعادته بالتعرف عليّ شخصيًا بعد أن قرأ بعضًا من كتبي. اقترح أن أرافقه في سيارته، إلا أنه لن يغادر الدار البيضاء قبل يومين. أمام تحيري واستعجالي، برر مسلكه:
- في الواقع، لدي موعد هام الليلة، إذا تم كل شيء كما هو متوقع، استطعنا السفر إلى مراكش غدًا.
- حسنًا، عملتُ، أفضل هذا.
كنا في أول النهار، بانتظار موعده المسائي، استعد عبد الصمد بلصغير ليعمل دليلي إلى المدينة الغليظة القلب، فقبلت، من أجل إزجاء الوقت، وإرضاء رغبة غامضة في التعرف على أجواء "كازابلانكا" الغريبة.
- هذه المدينة مفتوحة لكل شيء، أوضح رفيقي أمام متاجرها الغربية، مفتوحة على كل شيء، يتعايش فيها الحلال والحرام جنبًا إلى جنب إلى درجة يختلط فيها الأمر عليك، فلا تعرف أيهما المدنس وأيهما المقدس. هذه المدينة قصيدتان في واحدة، بروفسور! أرجو ألا تكون الأشياء كذلك بخصوص الجزء الثاني من قصة الحب في الكُتُبِيَّة، وكل القصص والأشعار الأخرى التي ربما توجد هناك.
كانت شمس أوائل أيام الخريف لطيفة، والعابرون لا تبدو العجلة عليهم، لا يبدون غلاظ القلوب، وهم يتمهلون أمام الفترينات. تركنا الحي الأوروبي وراءنا، وأخذنا نغذ الخطى باتجاه القلعة القديمة. كانت أمواج البحر تلوّح جدرانها منذ مئات السنين، ولا يَكُفُّ الأزرق اللامتناهي عن سكب زفراته التعبة. اخترقنا السوق بدكاكينها التنكية وكيلومترات خيوط لمباتها المشتعلة في وضح النهار: بائع الذهب يحاذي بائع الأقمشة، وبائع الأقمشة بائع الكاسيتات، وهذا بائع الحلويات أو الخردة أو الدجاج أو أدوات الكهرباء أو أدوات النحاس أو الأحطاب أو الشوّاء أو الحفار أو الرسام أو العازف على الكمان أو الطبال أو بائع الفيديوهات الكمبيوترات الألعاب الإلكترونية... ونحن نمضي بدكان الملابس الداخلية الناعمة، لفتت انتباهنا امرأة محجبة لا يبين منها سوى عينيها السوداوين الواسعتين المكحلتين. كانت تنظر إلينا، وهي تخفي نفسها وراء تمثالٍ لعرضِ مَشْلَحٍ من الحرير. بدا على عبد الصمد الانفعال، فتركني، وخف إلى اللحاق بها. اختفت بين الجموع، فعاد "دليلي"، وهو في ارتباك كبير. قال إنه مضطر إلى الذهاب. سألت إذا كان في الأمر ما ينذر بالسوء، فلم يجب. شرح لي كيف أعود إلى الفندق، وأغلق على سره باب القلعة القديمة. وأنا أراه يذهب بسرعة، صحت إذا كان بحاجة إلى عون. شكرني دون أن يلتفت، ووعدني بقول كل شيء فيما بعد، ثم ذاب كالملح على ألسنة النحل.
لم أفكر في هذا الحادث كثيرًا، ما جرى منذ قليل لم يكن يهمني، وعزمت على ألا أنتظر عبد الصمد، وأن آخذ أول قطار إلى مراكش. وصلتُ أسبابي بأسبابي، فعادت العينان السوداوان للمرأة تسائلان روحي، وكذلك اختفاؤها المفاجئ: لغز آخر للحل! في نهاية الأمر، سأنتظر المراكشي. عدت إلى الفندق، والساعات طويلة قبل الغروب، قليلة، وفي الوقت ذاته، كثيرة. تشاغلت عن الضجر بالضجر، إلى أن بدأت سماء الدار البيضاء تلامس أفكاري. سقطت شمس أرجوانية في اللُّجَّة، وهي تخلع عن الجسدِ الأسودِ للكون ثوبَهُ القطيفيّّ اللون. فكرت في الأرملة، في لياليها، في قبلاتها.
داوم الوقت على الإبطاء، فاجتررت أفكارًا قلقة. عدت أرى العينين السوداوين للمرأة المحجبة، كمن يتصرف بفظاظة مع نفسه. أعياني الجلوس كل هذه الساعات في قاعة الفندق، فوقفت أمام بابه أنظر إلى الدار البيضاء السابحة في الضوء، فأجدها ككل المدن جِدّ جميلة في الليل. نظرت طويلاً إلى كل عابر، وأنا أحاول أن أحزر قامة عبد الصمد. فجأة، ظهر بوجهه المبتسم، وإصبعه تدفع نظارته الطبية. شد على يدي بحرارة، واعتذر عن التأخر. انتظرت أن يخلو بي في زاوية من زوايا الفندق، فضبح الثعلب في صدري. تعللت عذرًا، فالحذر لا يمنع القدر، أحيانًا. أمسكني من ذراعي، ودفعني إلى مطعم غير بعيد من هناك.
- ليس هناك وقت نضيعه، بروفسور! قال لي وابتسامته تضيع، سنتناول طعامًا خفيفًا أقول لك خلاله الحقيقة.
- الحقيقة! أية حقيقة؟ طلبت متبلبلاً.
أدخلني أمامه، واختار طاولة على انفراد. ومع ذلك، كنا أول الزبائن.
- أية حقيقة؟ أعدت، وأنا أجلس، بصوت ظامئ.
ابتسم ليخفف من اضطرابي.
- لا تقلق، بروفسور! ليس الأمر خطرًا إلى هذا الحد!
حضر الخادم، فطلب لنا عبد الصمد أسياخ شواء وسلطات وماء معدنيًا. وضع وجهه بين كفيه، ونظر إليّ بعينيه الطفليتين.
- الحقيقة أنني كنت هناك، في البرنة، عند لقائك بآميديه والأميرة إيزابيل، قال دفعة واحدة، بكل هدوء.
أطلقت تنهدًا عميقًا.
- قلتُ لذاكرتي المخادعة إني واثق من رؤيتك من قبل، همهمتُ. إذن، كل هذا ليس ابن صدفة.
- سلمت عليك كالآخرين الذين سلموا عليك، وعدت تحت الخيمة. كنت بذقن لم تعرف طعم الشفرة منذ عدة أيام.
سكت قليلاً ليفحص رد فعلي ثم رجاني:
- اسمح لي، بروفسور! الظروف وراء كل هذا التكتم.
- هل تبعتني من البرنة حتى هنا؟
- ليس أنا، ولكن رفاق آميديه، نعم. من أجل حمايتك، بروفسور. أنا، في الدار البيضاء، منذ وصولك، للغرض ذاته. إنهم إخواننا الأندلسيون، الذين ننسق معهم في سبيل تحرير أرخذونة، هم الذين طلبوا مني ذلك.
- أشكرك على كل شيء، وأطمئنك بكوني قادرًا على حماية نفسي بنفسي دونما حاجة بي إلى أحد.
- لا تخدع نفسك كثيرًا، بروفسور! المغرب مليء بأعوان "جانت" مدريد. إنهم "المور". منذ عهد فرانكو، وهم في خدمة القومجيين. أشربوا بنا ما لم يشربوا، وحملوا السلاح إلى جانبهم. واليوم، تعود الأجواء ذاتها، بعد حركة آميديه وكل ما يجري في إسبانيا، فلا تستخف بالأمور، وكن حذرًا.
بخطوات سريعة جدًا، أحضر الخادم الأطباق، وذهب، على العكس، بقدم رخوة. لم تعد لدي أدنى شهية، وعلى النقيض، راح عبد الصمد يأكل بشراهة، ولم ينبس بكلمة حتى نهاية العشاء. شرب كأسي ماء معدني، تجشأ، وحمد الله.
- لم تأكل كثيرًا، بروفسور! قال وهو يشير إلى طبقي المليء حتى منتصفه.
- لست جائعًا كثيرًا.
نظرت في عينيه الطفليتين حاثًا إياه على المتابعة.
- بالطبع ليس هذا كل شيء، قال.
- لماذا كنت في البرنة؟ لماذا أنت هنا في الدار البيضاء، ما عدا من أجل حمايتي المزعومة؟
أشار محدثي إلى الخادم بإحضار الحساب.
- لقد وَقَعْتُ على الوثيقة التي كان آميديه يبحث عنها في الإيسكوريال، قال، معاهدة الاستقلال التي أمضتها أرخذونة مع أمير قرطبة الأموي محمد الأول.
- معاهدة استقلال أرخذونة، هنا في المغرب؟
- في أحد مواخير الدار البيضاء.
- ماذا؟! في أحد...
قهقه عبد الصمد:
- بعض المواخير عندنا أغنى من أحسن المكتبات!
- وكيف عرفت أنها الوثيقة المطلوبة؟
- هذا بالضبط ما يريده إخواننا في أرخذونة منك، أن تتأكد، أنت شخصيًا، بروفسور، من صحة هذه الوثيقة.
- أنا أفهم كل شي، في الوقت الحاضر...
جاء الخادم بالحساب، فدفع عبد الصمد بلصغير، وهو يقول لي:
- تفضل بالمجيء معي إلى موعدي، بروفسور!
نهض، وأنا أفعل مثله. اتجهنا نحو باب الخروج. شددته من ذراعه، وأوقفته.
- والمرأة المحجبة ذات العينين السوداوين، قلت، ما شأنها في كل هذا؟
- اتبعني، بروفسور، ستقف على جلية الأمر بنفسك.
سلك طرقًا مختصرة، وهو يهرول، وأنا أتبعه، لأجد نفسي، في زمن قياسي، لا أعرف كيف، في قلب القلعة القديمة. نزلنا درجًا حجريًا ضيقًا إلى الشاطئ، وأغذذنا في السير باتجاه الصخور. كان البحر هادئًا، باستطاعتنا التقاط النجوم عن سطحه، وكانت باخرة راسية في عرض البحر، هناك، تعبث بالنجوم أضواؤها. انتظرنا قليلاً، فبدا من وراء صخرة ظل رجل ثم ظل امرأة حسبته لحورية. وهما يتقدمان منا، عرفت المرأة المحجبة ذات العينين السوداوين المكحلتين. تركها الرجل مع حقيبتها إلى جانبنا، وما لبث أن ذهب بعد أن شكره عبد الصمد، والمرأة لا تنبس بكلمة، وكذلك أنا، أما عبد الصمد، فلم يتوقف عن الابتسام لها. استدارت نحوي، ووقفت بعينيها عليّ، فجمدني جمالهما. وددت لو أنزع برقعها عن سر كل ما يجري. كانت الأمواج تعانق الصخور، وتنسحق برخاوة، لما فجأة، وصل الجميع صوتُ محركٍ لقارب، وهو ينبثق من الظلام. نظرنا باتجاهه، فرسا غير بعيد عنا. نزل رجل لا ينجح في إخفاءِ سلاحِهِ، المعلقِ على وسطه. أشار إلينا بالتقدم، فتقدمنا، وقبل أن نصعد في القارب، سلم علينا واحدًا بعد آخر، وكذلك فعل السائق. أشارت المرأة إلى حقيبتها، المتروكة على الرمل، فخف هذا إلى إحضارها. عما قليل، انطلق القارب، وهو ينحرف دونما توقف، نحو الباخرة الراسية.
قرب القارب الكبير، همس عبد الصمد في أذني:
- هذه الباخرة كازينو طافٍ، وهي لأحد أثرياء الدار البيضاء العظام.
رأيت على ساريتها بيرقًا إسبانيًا:
- ولكنها باخرة إسبانية!
- للتملص من دفع الضرائب والتنقل بحرية بين الساحلين.
والقارب الصغير يتوقف عند قدم السلم الذي قذفوه من سطح الباخرة، رموا بأحدهم في البحر، فطفا، وصاح طالبًا النجدة. مد له السائق مجذافًا، وعبد الصمد يعلق:
- لقد خسر حتمًا كل نقوده.
قلت:
- وحياته.
- هؤلاء هم الغلاظ القلوب الذين حدثتك عنهم.
ونحن نتسلق السلم، رموا بآخر، فأمسكت المرأة المحجبة بيدي. أحسست بأصابعها ترتعش بين أصابعي، فساعدتها على الصعود. على سطح الباخرة، أحاط بنا عدد من الرجال، وقادونا إلى مقصورة واسعة. قدمهم عبد الصمد لي: "إخواننا الأندلسيون".
- والوثيقة، أينها؟
بهزة من رأسه، طلب إلى إخوانه الأندلسيين الانسحاب، فانسحبوا، وهم يغلقون الباب بهدوء من ورائهم. عاد يهز رأسه للمرأة ذات العينين السوداوين، فقلت لنفسي، الوثيقة معها. وبدلاً من أن تعطيني إياها، أعطتني ظهرها، وجلست على طرف السرير. أسقطت حجابها، وأخذت تفك أزرار ثوبها، تحت نظراتي الذاهلة، تاركةً إياي أكتشف قليلاً قليلاً كلمات موشومة من أعلى ظهرها حتى أسفله. فتحت فمي لعجيب ما أرى، دون أن أصدق عينيّ، في سراب كل هذا الجمال النادر. ومع ذلك، كان الوشم حقيقيًا، والجسد على مقربة من يدي. دفعني عبد الصمد بيد مرتعشة لأقرأ ما هو مكتوب على ظهر العاج:
- هذه هي الوثيقة، بروفسور! قال المراكشي بصوت ديني، تناقلتها على ظهورهن نساء أرخذونة بحرفيتها منذ مئات السنين، وحفرنها في لحمهن كيلا تضيع، ترثها البنت عن أمها، والتي لا ابنة لها تعطيها لأختها، وهكذا جرت سُنَّةُ هذا الأرشيف الآدميّ مذ وُقّعت المعاهدة عام 873، ورغم تَبَدُّل الحكومات والحاكمين، مرورًا بعهد الريكونكيستا الكريه، وما تبع ذلك من هجرة بعض أهل أرخذونة إلى المغرب حتى يومنا هذا.
مفتتنًا ومسحورًا، شخصت ببصري إلى هذا الجسد الوثيقة، وقرأت بصوت مرتجف:
- "أنا الموقع أدناه، محمد الأول، أمير قرطبة الأموي، ابن الأمير عبد الرحمان الثاني، وحفيد أمير الأمراء عبد الرحمان الأول، رحمهما الله وطيب ذكراهما، أقر بانفصال مقاطعة الرية وعاصمتها أرخذونة عن الدولة، وبالاستقلال لقاء جزية سنوية يتم الاتفاق عليها مع أميرها الجديد أحمد، هذه معاهدة الاستقلال، وفي الوقت عينه، معاهدة السلم والأمان معه التي يجري توقيعها في الفاتح جناير عام 873.
توقيع محمد بن عبد الرحمان بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمان
دمغها بتوقيعه أيضًا أحمد بن أحمد".
عندما انتهيت من قراءة الوثيقة، توجه عبد الصمد إليّ بهذه الكلمات:
- افحص بصمة الخاتم، بروفسور! إنها الأهم، فالدمغ الوشمي الأول دليل على صدق هذا الأخير، وبالتالي على صحة الوثيقة.
أمعنت النظر في حروف الخاتم المعوجة النافرة في آن واحد، وهمهمت:
- الوثيقة صحيحة! إنها حروف ذلك الزمان البعيد وطريقة أصحابه في الكتابة.
ولم أمنع نفسي عن وضع يدي على الظهر العاجي، أقرأ بسبابتي تلك الكلمات الخالدة، وفي الوقت ذاته، أحس بالمرأة، وهي تختلج تحت لمساتي. مادت الباخرة مَيْدَ العالم في أحضان البحر، وخرجت من أعماقه كل الكائنات الراقدة بين طيات الملاحم والأساطير لتشاهد عناق الزمان والكلمات. لم أمتنع عن الانزلاق بيدي على الظهر الصقيل، وهي ترتعش، وتئن من اللَّذة. بقيتُ غائبًا، حالمًا، إلى أن سمعتها ترجوني أن أتوقف عما أفعل. أبعد عبد الصمد يدي عن العاج والنار، فثبت إلى رشدي. أطلقت المرأة صرخة ارتياح صغيرة، وبارتباك كبير، عادت إلى ارتداء ثوبها، ثم حجابها.
هذيتُ:
- وشم عبقري! وشم ينطق! يجعل الجماد حيًا! رأيت الكثير من الطيور الموشومة التي لا تطير، والقلوب التي لا تنبض، والصور التي تبقى ميتة، مثل هذا لم أر في حياتي أبدًا!
التفتت المرأة إليّ، بعينيها الواسعتين السوداوين، فأبديت رغبتي في رؤية وجهها، لكنها رفضت.
قال عبد الصمد:
- سترى وجهها في مناسبة أخرى.
برقت عيناها السوداوان وكل كيانها: كانت تبتسم لي من وراء حجابها. فتح عبد الصمد الباب، فدخل الأرخذونيون.
- كل شيء على ما يرام، قال لهم، يمكنها الذهاب معكم.
ودعتني المرأة بسهم أخير من عينيها، وغادرت المقصورة مع رجال آميديه.
أوضح عبد الصمد:
- ستبحر بهم هذه الباخرة عند منتصف الليل، وعند فجر الغد، سيصلون إلى أطراف السواحل الإسبانية، ليعبروها بقارب بعيدًا عن عيون حرس الحدود. ومن هناك، إلى جبال البرنة. لقد دفع آميديه مالاً كثيرًا لصاحب هذا الكازينو الطافي.
أعادنا القارب بمحرك إلى المكان الصخري، ومنه صعدنا إلى القلعة القديمة، وأنا لا أتوقف عن التفكير في المرأة ذات جسد العاج والنار.
- تريد أن تعرف كيف وقعت عليها؟ أليس كذلك؟ سألني المراكشي.
أكدت بعجلة:
- نعم! هذه المرأة لا مثيل لها!
- إذن، تعال معي!
اخترق بي أزقة شعبية لا أول لها ولا آخر، إلى أن وصلنا دارًا بدون باب، أحاطت بها مصابيح خافتة ملونة على شكل حبال. خرج رجل ثمل، ونحن ندخل، ثم آخر قبل أن يؤدي بنا ممر إلى ردهة واسعة النساء فيها شبه عاريات، والرجال ينظرن إليهن.
- في بيت الدعارة هذا وجدتَ المرأة ذات العينين السوداوين؟ سألتُ متحيرًا.
ارتسمت على شفتي الرجل ابتسامة الطفل، جلسنا، وغرقنا في الصمت. كان الرجال لا يكلون عن النظر إلى النساء، دون أن يفوهوا بكلمة، وكأنهم في مكان مقدس، يقوم أحدهم إلى إحداهن فجأة، ويذهب معها إلى إحدى الغرف.
- إنه أحد الأصدقاء، اعترف رفيقي، فأنا لا أخالط هذه الأمكنة. لي امراة، وامرأتي لا تغادر عتبة بيتي أبدًا دون حجاب، لا يبين منها شيء، كلها، حتى عيناها. هذا لا يعني أنني ضد تحرير المرأة، بروفسور! العادات والتقاليد في أيامنا أقوى من كل شيء!
سكت قليلاً، وهو يبتسم لعاهرة ابتسمت له.
- إذن، تابع عبد الصمد، إنه هذا الصديق الذي نقل لي ما أخْبَرَتْهُ المرأة عن الوشم على ظهرها. كلفني آميديه بالبحث عن وثيقة استقلال أرخذونة، في مكتبات العلم، لأقع عليها في مكان يجهله كل العلماء، والحالة هذه، هذا الماخور الخسيس. خلوت بالقحبة، دون أن يلمسها إصبعي الصغير، فقط للتأكد من وجود الوشم. أعادت لي قصتها، ومن عندها سافرت إلى إسبانيا في الحال، لأخبر آميديه بهذا الخبر بنفسي. كما تخيلتُ، لم يكن ينتظر أن يكون هذا التقليد باقيًا، وأقل من ذلك في المغرب، وطلب مني ترتيب سفر الأرخذونية إلى البرنة.
- ولماذا هربَتْ منك طالما أنها تعرفك وأنك تعرفها؟
- لست أدري. عندما خليتك، ذهبت مباشرة إلى هذا الماخور، خوفًا من أن تهرب مني ثانية. بقيت جالسًا على هذا المقعد، حتى هبوط الليل. جاء أحد الإخوان الأرخذونيين ليصطحبها، في الموعد المضروب، إلى الشاطئ، حيث أخذنا القارب.
نهضتُ مغادرًا المكان المضمخ بعطر النساء، وعبد الصمد، هذه المرة، يتبعني. كنت أفكر خاصة في المرأة ذات العينين السوداوين وجسد العاج والنار، ما الذي أدى بها إلى هذا الوضع؟ لم أسأل المراكشي، فهو يجهل حتمًا. اخترنا الصمت رفيقًا، طوال طريقنا إلى الفندق، صمتًا مشوبًا بصوت الموج الرقيق، البعيد. قبل أن نفترق، كل واحد إلى غرفته، قال عبد الصمد لي:
- سنغادر إلى مراكش غدًا في الصباح الباكر، نقطة لقائنا في الاستقبال، في تمام الساعة الخامسة.
- وهو كذلك، قلت له.
تمنى لي ليلة سعيدة، وكذلك أنا. أخذ المصعد، وأخذت الدرج. مثلت بنفسي أشنع تمثيل، وأنا لا أتوقف لحظة واحدة عن التفكير في الجسد الذي اختلج بين أصابعي.




























الفصل السادس

في الطريق إلى مراكش، حكى لي عبد الصمد بلصغير تاريخ المدينة الحمراء: "بناها يوسف تاشفين عام 1062 عاصمة لإمبراطورية المرابطين، كانت حركة المرابطين، في الأصل، أخوية دينية حربية أنشأها في القرن الحادي عشر أحد الأتقياء في رباط (ومنها اسمهم)، ومعناها صومعة مسلحة، وهي في ناحية من جزيرة تحت السنغال. أوائل المنتسبين إلى الأخوية كانوا بالأكثر من لمتونة، وهي فخذ من قبيلة صنهاجة التي عاش أبناؤها بدوًا في فلوت الصحراء، وكانوا كأحفادهم الطوارق الضاربين في جنوب الجزائر إلى اليوم يضعون اللثام، فأصبح اللثام سُنَّة للرمال، وسمي المرابطون بالملثمين. تألف جيشهم الأول من زهاء ألف مجاهد، فأجبروا من حولهم قبيلة قبيلة على اعتناق الإسلام، ومن الداخلين كانت قبائل زنجية، فلم تمر بضع سنوات حتى أصبح المرابطون أسيادًا لأفريقيا الشمالية الغربية، ثم لإسبانيا، مدة تزيد على نصف قرن. ولأول مرة في التاريخ، نشط قوم من البربر، فلعبوا دورًا خطيرًا على مسرح العالم. في ولاية علي الورع، ابن يوسف وخلفه، استحكم تقبيح علم الكلام، فما أن دخلت كتب أبي حامد الغزالي إلى المغرب حتى أمر أمير المسلمين بإحراقها في قرطبة وسواها من المدن لما فيها من أقوال ظن البعض أنها تنتقص الفقهاء، ومنهم أتباع مذهب مالك، وكان المرابطون يوالونه."
وأنا أسمع، تخيلت كم هي حظوظي ضئيلة في الوقوع على المخطوطة التي أنا هنا من أجلها.
- إلا أن الغزالي كان قد تقدم أعلام المشرق الذين أفتوا على رأي فقهاء الأندلس في أن ملوك المرابطين لهم الحق في خلع ملوك الطوائف والتخلي عنهم وعن العهود التي قطعوها لهم، وأن انتزاع الأمر من أيديهم ليس حقًا بل واجبًا يترتب عليهم.
- الأمر إذن انتهى بخصوص سوء فهم الغزالي، ولكنه لن ينتهي أبدًا بخصوص علم الكلام والكتب المحرمة.
- لا تنس، بروفسور، أن مراكش تبقى منفى كل الغرناطيين المغضوب عليهم منذ عهد المرابطين مرورًا بالموحدين، خلفائهم، حتى الأيام الأخيرة من حياة مدينتهم، ولا بد أنك واجد من بينهم من كَتَبَ الجزء الثاني من قصة الحب التي تبحث عنها، خاصة وأنها وصمة عار في جبين الريكونكيستا، أو ما يسمى بعصر الاسترجاع. حقًا لقد عُرفت دولة الموحدين بميولها الدينية السلفية المحافظة بالأحرى مذ قام على رأسها محمد بن تومرت الملقب "بالمهدي" والمنادي بنفسه نبيًا لإحياء السنة الإسلامية الصحيحة، ولكنها رعت الفلسفة، وعززتها، وأكرمت أصحابها، كما هو حال حاكم مراكش اليوم.
حط الصمت من حولنا، فأشعل عبد الصمد الراديو، وهو ينظر إلى ساعته. قدم المذيع موجزًا للأنباء، تكلم عن حصار العسكر لآميديه في البرنة، وحرقهم لقرى الباسك في طريقهم. بعثت فرنسا بقوة عسكرية لضرب المتمردين، وهي مستعدة لقذف قواتها من طرف البرنة الآخر للانتهاء من آميديه والأميرة إيزابيل وجماعتهما. نظرتُ إلى السهوب الزرقاء من بعيد الحمراء من قريب، وفكرت في المرأة المحجبة ذات العينين السوداوين المكحلتين بالليل والهوى: سيقضون عليها، هي الأخرى. أطفأ عبد الصمد الراديو، وأطرق برأسه. بدا مشغول البال، ولم يقل كلمة واحدة حتى أبواب مراكش.
كانت الشمس تضرب مراكش بسوطها ضربًا مبرحًا، الصيف فيها فصلها الوحيد، والأحمر لونها. هبت ريح قديمة، كانت تأتي من قلب الرمل والزمن. ونحن نعبر أسوار مراكش، جاءنا التاريخ معانقًا إيانا. لم يكن تاريخ المرابطين، كان التاريخ. ضغطنا التاريخ على صدره، وكل أزمنة الأمم غدت زمنًا واحدًا. كانت مراكش فضاء الأمم المغدورة والأمم الغادرة، عَبَّرَ عن ذلك تقاطع أزقتها، على صورة الأممين كانت أزفتها. واصل عبد الصمد اختراق أزقتها من ضيق إلى أضيق، حتى لم يعد باستطاعة السيارة التقدم. أوقفها على الرصيف، وترجلنا إلى بيتهم القائم في إحدى العَرَصات المبلطة. كانت على جانبي الباب مصطبة حجرية جلس عليها بعض المعوزين، جاءهم أخو عبد الصمد الأصغر بالخبز والطعام في اللحظة التي كنا فيها على وشك الدخول، فانحنى مضيفي على أذني مبتسمًا متباهيًا.
- هذه عادة عندنا منذ كان والدي حيًا، باح لي، اليوم الجمعة، وهؤلاء الفقراء يأتون من أجل الصدقة بعد صلاة الظهر.
خلعنا أحذيتنا، وجلسنا على فراش نفترش الأرض، في غرفة واسعة، عذبة الجو.
- أيام والدي، أضاف عبد الصمد، كانت المصطبة الحجرية لا تخلو ممن لهم شغل يقضونه معه، في الإدارة أو التجارة، وذلك كل يوم، ما عدا يوم الجمعة المخصص فقط للمحتاجين.
- كان والدك إذن من أعيان البلد، قلت.
- نعم، وكان من المعروف عنه العون والكرم للجميع دون أقل تمييز.
أحضر لنا الأخ الأصغر لعبد الصمد ماء في إبريق من نحاس، فغسلنا يدينا ووجهنا، وتنشفنا ببشكير أبيض. خلال كل الوقت، لم يتوقف أخو عبد الصمد عن الابتسام، ثم توارى بصحبته، على ألا يغيبا طويلاً. أخذت أتنزه بنظراتي على اللوحات الزيتية المعلقة على الجدران: بساتين وملائكة وأنهار. عاد عبد الصمد، وهو يرتدي جلبابًا حريريًا، وسألني إذا كنت أرغب في تبديل ثياب السفر، حقائبي كلها في غرفة في الطابق العلوي.
- ما كان عليك أن تفعل هذا، قلت متضايقًا، الفندق أكثر راحة لنا جميعًا.
رفض الاستماع إليّ، وفوق ذلك، عنده، أنا في أمان أكثر.
- سنأكل ما تيسر، قال المراكشي لي، وسنقيل. بعد ذلك، سأصحبك إلى جامع الكُتُبِيَّة.
دخل الأخ الأصغر بصينية عليها أطباق شتى: حريرة وكسكس أبيض ولحم بالتمر و... و... وهرم من المندرينا.
أشار عبد الصمد إلى الفاكهة ذات اللون الغارب:
- هذه المندرينا جاءت من غرناطة، وكذلك البرتقال، الحلو والمر، والزيتون المسمى بالأندلسي.
دفع قرب أصابعي صحن الزيتون لأذوقه.
- إنه أطيب من زيتون إسبانيا الحالي، همهمت، آه! يا لمجانين الرب التفتيشي أولئك! لماذا اقتلعوا كل أشجار الزيتون؟
- لأن الريكونكيستا كانت تريد اقتلاع كل ما يمت إلى الأندلس بصلة، بما في ذلك هذا الزيتون الكريم، وغاب عن بالها أن الإنسان الأندلسي أقوى من كل شيء، بإعادته زرع هذه الأشجار هو باقٍ على مر العصور والأجيال، انظر فقط إلى ما يفعله آميديه اليوم!
بعد القيلولة، ذهب عبد الصمد بلصغير بي إلى جامع الكُتُبِيَّة، استعار أزقة مسقوفة، وعبر أمام بيوت مفتوحة، خلف أبوابها أدراج ضيقة ودهاليز معتمة، لو جئتها وحدي لما عرفت طريقي أبدًا. كلما تقدمنا كلما رأينا سقوفًا راحت تكشف لنا، شيئًا فشيئًا، عن سماء معلقة، كخرزة. أخذ قلبي يخفق بقوة قوية، ونحن على عتبة ساحة جامع الفناء، التي قرأت عنها في الكتب القديمة والحديثة حكايات عجيبة، طبولها التي بدأت تصل أذنيّ تحتفي باتحاد الروح وخالقها، على الطريقة الشاذلية، كما جاء في "قوانين حكم الإشراق"، والتي لم تزل هذه الطريقة في مراكش قوية بقوة.
انبثقت ساحة جامع الفناء من أعماق الأبد، فلها وعنها مفهوم الأبدية. كان الناس في حلقات من حول متصوفة ونُسّاك يجترحون المعجزات: واحد يبتلع الجمر، وثانٍ الأفاعي، وثالث الزجاج. كان هناك، كذلك، من يمزق جسده بطعنات موسى، ولا يرى الناظر من الدم أثرًا. هزني المشهد لما تصاعد في الأجواء، فجأة، غناء للحلاج، ذلك الصوفيّ الذي جُلد عام 922 خلال زمن التفتيش العباسي، المحنة، وعُلق، ثم ضُربت عنقه، قبل أن يُحرق، فقط لقوله "أنا الحق!"، فجعل منه صلبه أعظم شهيد صوفيّ:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن زوجان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا

تصاعد الطبل والزمر حتى أعتاب السماء، وأخذ بعض الدراويش يرقصون، ويتشنجون، والعالم من حولهم يرقص، ويتشنج، والطيور تزقزق، وهي تحمل على أجنحتها أوهام الحياة. أشار عبد الصمد بإصبعه إلى الطرف الآخر من الساحة: الكُتُبِيَّة. منارتها المستطيلة الشكل من الآجرّ الأحمر، أحمر ازداد حمرة لأشعة الغروب المودعة للنهار. أسلوبها بسيط، أسلوب الفن الإسلامي في أفريقيا الشمالية. قطعنا ساحة الفناء إليها، وعربات ذات غطاء يُطوى، يجرها حصان أو حصانان، تقطع علينا الطريق.
قلت لصاحبي:
- هذه المنارة أجمل المنارات التي رأيتها في حياتي!
رسم عبد الصمد ابتسامة الطفل على شفتيه، كان فخورًا بما يسمع، ولم يعمل أي تعليق. دفعني بهدوء إلى صحن الجامع، فخلعنا حذاءنا، ووطأنا سجاده العجمي، ورائحة طيبة تفوح من كل ناحية. كانت القناديل تتدلى من الأقواس المنقوشة، والأعمدة الطويلة ذات الفسيفساء ترشق ألف ظل وظل، وكان هنا وهناك بعض المصلين أو المنزوين مع مصاحفهم، وهم يتلونها بصوت منخفض، وأوساطهم العليا تتأرجح تأرجح الكلمات على الشفاه.
اتجهنا دون تأخير إلى باب قصير، خلف المنبر، دخلنا منه إلى مكتبة واسعة لا يوجد فيها سوى قيّمها: شيخ شاب ذكرني بالأخ جوزيه، قيّم مكتبة الإيسكوريال. كانا يتشابهان تمام الشبه، وكجوزيه ارتدى الشيخ الشاب برنسًا من الصوف. رحب بنا، وعَبَّرَ، منذ البداية، عن عدم وجود ما أبحث عنه، فقصص الحب محرمة في مكتبة أعظم جامع في المدينة. بيد أنه تردد، بإمكاني –لو رغبت- فحص المخطوطات المهملة هناك، وأشار بإصبعه إلى رف قرب باب ذكرني بالحجرة المحرمة، ضخم مثله، وموصد بإحكام. اقتربت منه، ووضعت يدي على خشبه المحفور. وكمن فهم، ابتسم القيّم.
- لا تظن، بروفسور، أن وراء هذا الباب كتبًا أمنعك من فحصها، قال وهو ينظر إلى عبد الصمد.
- إنها الحقيقة، أضاف رفيقي، وراء هذا الباب سجن مراكش، لا غير.
أحضر الشيخ الشاب مفتاحًا كبيرًا فتح به الباب، فظهر جدار من الإسمنت المسلح، خيب مرآه كل آمالي. ليشجعني عبد الصمد قليلاً، قال لي:
- الجامعة عندنا لا تفتح أبوابها إلا في أوائل نوفمبر، من هنا إلى هناك سأكرس كل وقتي لعونك، بروفسور. ابتداء من الغد، سنفحص كل هذه المخطوطات، واحدًا واحدًا، فمن يدري؟ ربما كان المخطوط الذي تبحث عنه موجودًا بالخطأ ما بينها.


الفصل السابع

ذهبنا، أنا وعبد الصمد، إلى الكُتُبِيَّة، كل يوم، السماء صافية، والمستقبل مثقل بالغيوم. لم تكن طريقة التفكير سببًا، كان يُرْكِبُني على دراجته النارية من ورائه، ويعمل دورة كبيرة ليتفادى ضربات القدر في جهنم ساحة جامع الفناء. في الواقع، كان زحام الملعونين، وكذلك طقوس التصوف والحركات الكهنوتية، تدفعنا إلى التوقف والتأمل وقتًا يطول أو يقصر، وهو في الغالب يطول، وأنا لا وقت عندي أكرسه إلا للعلة التي يا ليتني كنت معلولها في المدينة الحمراء. لهذا السبب، كان مُضَيِّفي مضطرًا للذهاب حتى "جيليز"، حي الأثرياء والفنادق السياحية، ثم الصعود على كتفي شارع محمد الخامس السويّ كالخط المستقيم، والموجود في أقصاه جامع المرابطين.
أخذنا، إذن، نبحث في المخطوطات المهملة، عن قصة حب أحمد الأندلسي وإيزابيل العاشقة، وبعد مضي أسبوع في غبار الكلمات، أيقنت من استحالة وجود أي أثر لها. كانت المخطوطات تتوزع بين الكتب الصفراء وسير الأبطال القدامى، كعنترة، مثلاً، ذلك العبد الأسود الذي أحب عبلة، ابنة عمه، وأحبت عبلة، بدورها، ابن عمها، ولكن لأنه كان أسود، رفض أبوها أن يعطيه يدها. ليبرهن على أن اللون لا شيء في عين الشجاعة، غدا عنترة سيد قبيلته. وهكذا بقوة خلقه، أجبر عمه على الاعتراف بعدم وجود أفضل منه زوجًا للحلوة عبلة.
هناك أيضًا سيرة أبي زيد الهلالي، من بني هلال، تلك القبيلة التي هاجرت من وسط الجزيرة العربية إلى مصر، تاركة الشمس والرمل إلى الشمس والنيل، واجتاحت المغرب في القرن الحادي عشر. وكان لمآثر أبي زيد أثرها في الخيال الشعبي، فألبس البطل ثوب الرجل الخارق تارة وثوب الرجل العالم تارة. وقعتُ كذلك على مآثر رودريجو دياز دي فيفار، السيد الكنبيطور، سيد السلاح أو سيد القتال، كما كان يدعوه الملك المسلم لساراجوسا. أراده تحت إدارته، وقبل بتحقيق كل رغباته، فدخل في خدمته اليوم لأجل الإنهاء عليه الغد. وفي رأيي سيد اللغات، لقدرته على التحدث بالعربية، لغة أعدائه، ملوك الطوائف. وقعتُ، إذن، على السيد، سيدي عندنا، وتوقفتُ عند الصراع بينه وبين المرابطين على مدينة فالنسيا.
عبّرت عن خيبتي لعبد الصمد، وأخبرته عن استحالة عودتي إلى مدريد. من ناحية، الظروف في إسبانيا لم تزل غامضة، فالعساكر، من طرفي البرنة، يعلنون كل يوم، الانقضاض النهائي على معسكر آميديه، ولا يقع أي شيء من هذا. ومن ناحية، سيكون وضعي، على الخصوص، معرضًا للشك، بسبب علاقاتي الشخصية بالمتمرد الأرخذوني، طالبي، وما جرى بيني وبين العاهل الإسباني وأبي بكر الآشي. صحيح أن مهمتي في المملكة الهاشمية قرب العاهل الأردني باءت بالفشل الذريع، إلا أن لا العساكر ولا الفارس بوعمير سينسون ذلك أبدًا. عاجلاً أم آجلاً، سينتقمون مني ومن زوجتي وأطفالي، وفي كل الأحوال آميديه ستتم تصفيته.
لأول مرة، بدا على المراكشي القلق لأجل آميديه، تمنى لو يفعل شيئًا له وللإخوة الأرخذونيين، وعبر عن عجزه التام. أما عني، فقد حثني على أن أرسل من وراء أسرتي في الحال، ستنزل ضيفة عليه حسب كل أصول الاستقبال، بانتظار أن أعين في الجامعة حيث يدرّس. جامعة مراكش الفتية بحاجة إلى أستاذ محنك مثلي، وهو سيكلم العميد. حسبما يرى، كل شيء ممكن، ولا يوجد هناك أي مشكل. بالطبع، تريثت فيما يخص مجيء زوجتي وبناتي، يجب التوقيع أولاً. لست أدري لماذا فكرت فجأة في الذهاب إلى عمان إذا لم تجر الأمور كما يتوقع عبد الصمد، للعمل في إحدى الجامعات الأكثر عددًا مما هي عليه في المدينة الحمراء، أو في إحدى المؤسسات الثقافية. أرجأت التفكير جديًا في هذا إلى المستقبل، وعزمت، بالأحرى، على الانتهاء من التنقيب في مخطوطات الكُتُبِيَّة الصفراء، لإزجاء الوقت هذه المرة، بانتظار نتائج مساعي مُضَيِّفي.
في أحد الصباحات، وأنا أتعلق بخاصرة عبد الصمد، على دراجته النارية، كلمني. سمعته بصعوبة، بسبب الريح التي كانت تملأ أذنيّ. اقترح علي الاتصال بحاكم مراكش، فهو، على الرغم من تزمته الديني، معجب بالفلاسفة ورجال الأدب. كانت آثار تجربتي المريرة في قلبي مع العاهلين الأردني والإسباني لم تزل تفعل فعل أمواس متصوفي ساحة جامع الفناء، فرفضت. لم أعد أثق بحاكم، أيًا كان، فكل طالب القرب منه لا يحصد سوى القمح والمتاعب.
في اللحظة ذاتها، أحاط بنا أربعة من رجال الدرك على دراجاتهم النارية، وطلبوا من عبد الصمد أن يتبعهم. لم ينطق بكلمة واحدة، وأنا كذلك. لم نكن نعلم أينا المقصود. ما لنا وما علينا. على معرفة منا أم على غير معرفة منا. أحسست بتقلص عضلات بطن صديقي المغربي. عاش بالأوهام. على الأوهام. لم يعش مثلي. نزلنا أمام مركز الشرطة. رميت سائقي بنظرة عابرة، كالكركم كان وجهه. كبله رجال الشرطة، ودفعوه، دون أن يحسبوا أي حساب لحضوري. وحيدًا أمام باب مركز الشرطة، ترددت، وأنا أصعد درجاته الثلاث. وفي النهاية، اندفعت نحو الداخل.
- أريد أن أرى رئيس المركز، قلت لأول شرطي.
أشار إليّ بالجلوس.
انتظرت أكثر من ساعة، وحركة رجال الشرطة لا تهدأ. في الأخير، جاء ضابط أنيق جدًا، سلم عليّ، وطمأنني:
- لا شيء لدينا ضدك، تستطيع الذهاب!
- أعرف ألا شيء لديكم ضدي، ولا أحد أجبرني على البقاء، أنا هنا من أجل السيد بلصغير، ماذا فعل كي توقفوه؟
- أنت لا تعرف مُضَيِّفَكَ، بروفسور، بالقدر الذي نعرفه.
- تقول بروفسور؟
- أنت الأستاذ الإسباني، نعرف كل شيء عن أبحاثك في الكُتُبِيَّة.
- فلنعد إلى مُضَيِّفي، كما تقول.
- عبد الصمد بلصغير نشيط خطير، قادر على إلحاق الأذى بأمن الدولة.
- ماذا! بأمن الدولة؟
- حتى أن نشاطاته السياسية تتعدى حدودنا.
إذن لن يطلقوا سراحه قبل زمن طويل.
- من يسب الحاكم، واصل الضابط الشاب، لا شيء غير مسبة بسيطة، يحبس ثلاثة أشهر، ابنه شهرين، زوجته شهرًا، هذا فيما يخص المسبة، فتخيل منفذي نشاط سياسي يتعدى حدودنا وعقابه، من يرمون إلى قلب النظام، وهدم العقيدة، والقضاء على التقاليد والعادات! أنصحك، بروفسور، بأن تجد لك فندقًا أفضل لك، وتغادر بيت بلصغير في الحال. أنا أعرف فندقًا صغيرًا، ولكنه مريح، في المدينة، البلدة القديمة التي اعتدت على أجوائها، وأكيد أنك تريد مواصلة العيش فيها، اسمه فندق الأطلس، اذهب إليه من طرفي، وسيعتني بك صاحبه تمام الاعتناء.
- متى أستطيع رؤية السيد بلصغير؟ رجوت الضابط الشاب.
- سنلقي به في السجن حتى يوم محاكمته.
- هل أستطيع رؤيته في السجن؟
- تدبر أمرك مع سجانيه...
اتجهت نحو باب الخروج، فقذف ممثل الدولة في ظهري:
- ...وكن كريمًا معهم.
كانت الصدمة مهولة على والدة عبد الصمد، غير أنها رفضت أن أغادر بيتها إلى فندق، قالت "صديق ولدي بمثابة ولدي". في اليوم التالي، ذهبت، بصحبة أخي عبد الصمد الأصغر، إلى السجن. كان سجنًا كبيرًا بأسوار عالية، محاذيًا، بالفعل، للكُتُبِيَّة. لم تُجْدِ رشوتنا للحارس نفعًا. طلب منا العودة في الغد، فعدنا، وضاعفنا الرشوة، هذه المرة. بعد انتظارات طال بعضها عدة ساعات أحيانًا، كان أهالي السجناء يدخلون من باب حديدي ضيق، مع قفة أو صرة، وعندما يحين دورنا، يرفض الحارس إدخالنا، ويطلب منا العودة في الغد. وهكذا كنا نعود كل يوم، وفي كل مرة ندفع للحارس، حتى اليوم الذي قرر فيه أن يتركنا نجتاز الباب الحديدي الضيق.
جاء عبد الصمد ليحيينا من خلف سياج، وكأنه شق عُباب البحر. في عدة أيام، فقد نصف وزنه، ولم يعد وجهه الدميوي يعبر عن شيء آخر غير الشِّدة. بكى أخوه الأصغر لما رآه، بكاء ذكرني بأبي. لم أساوم أبدًا على سمعتي، فأسقطتُنِي من حق النذالة، ولاحظت اليد المكسورة لنظارة صاحبي الطبية. لقد عذبوه. لكنه نفى كل شيء. لقد تعثر في ظلام الزنزانة.
- سنتصل بمحامٍ، قلت له، سنعمل كل شيء لإطلاق سراحك.
حاول الابتسام، كعادته، دون أن ينجح لتيبس شفتيه.
- إنهم عساكر إسبانيا، أوضح، أعطاهم أحد رجال آميديه المعتقلين بعض الأسماء، بينها اسمي، وهم حتمًا سيطلبون تسليمي.
ومن جديد، حاول الابتسام.
- هل تذكر جدار الإسمنت المسلح في مكتبة الكُتُبِيَّة؟
أخذ قلبي يدق بسرعة خارقة.
- ما له، جدار الإسمنت المسلح؟
- إنه جدار الحجرة المحرمة.
- جدار الحجرة المحرمة!
- عندما عرف السجانون بأنني أستاذ جامعي، واحد مثقف، أحضروا لي بعض كتب تسمح لي بإزجاء وقتي في القراءة. اعترف لي أحدهم بأن هذه الكتب تأتي من الحجرة المحرمة، التي كانت، في الماضي، ملحقة بالكُتُبِيَّة، واليوم، بالسجن. مقابل عدة دريهمات، أقضي معظم وقتي باحثًا عما تريد، بروفسور، دون أن أجد أي شيء لغاية الآن. إنها مئات المخطوطات المكدسة فوق بعضها البعض، بل آلافها، وحدي لن أستطيع البلوغ أبدًا إلى قراءتها كلها.
- كيف السبيل إلى اختراقي الحجرة المحرمة لهدف العمل معك؟
- الرشوة، في هذه الحال، لن تنفع في شيء، لا ولا التصريح الإداري.
- حتى ولو كان صادرًا عن الحاكم نفسه؟
- الحجرة المحرمة جزء من السجن لمنع الناس من اختراقها.
- هذه المخطوطات وهذه الكتب، هل هي خطرة إلى هذه الدرجة؟
- لم أجد إلى حد الآن ما هو خطر منها، إنها مخطوطات في علم الكلام، وفي الشعر الغزلي.
- لكنها آلاف مؤلفة! قصة إيزابيل العاشقة وأحمد الأندلسي حتمًا بينها! لا بد لي من طريقة تمكنني من اختراق جدران هذا السجن.
جاء سجان، وأبلغنا بانتهاء الزيارة. في طريق العودة، تذكرت ما قاله الضابط الشاب. أسهل الطرق لأُسْجن هي سب الحاكم، غير أنني ترددت بين سب ولده أو زوجته، تبعًا لمدة العقوبة، ومن الأفضل سب هذه. إذا لم يبلغ بحثي في الحجرة المحرمة هدفه، لسبب أو لآخر، سأكرر الجرم، وهكذا حتى أجد ما أريد.


القسم الثامن

ودعت والدة عبد الصمد، وأنا أبتسم: كنت سعيدًا لدخولي السجن. أوصتني بالسهر على ابنها، فطمأنتها. سأدفع لأكون معه في نفس الزنزانة. سأتخطى حدود حقي لأجله. سآخذ بيده، وأخفف عنه في وحدته. سألني أخوه الأصغر إن كنت واثقًا مما أفعل، فلا يمكن استدراك كل شيء. عدت بالذاكرة إلى الذاكرة، يوم كان الماضي اليوم: إنها أسهل وسيلة للإفضاء إلى مخطوطات الحجرة المحرمة، سبب وجودي في مراكش. رافقني حتى باب السجن، ليتأكد من سير الأمور كما هو متوقع.
أمام تجمهر صاخب من أهالي المساجين، ناديت الحارس، ورحت بزوجة الحاكم سبًا وفيها طعنًا. وفي الحال، كلبشني و، بعد ربع ساعة، وجدت نفسي ملقى في زنزانة المراكشي. لم يصدق عيناه، فمسح زجاج نظارته الطبية. عاتبني على لاوعيي، في السجن من سب الحاكم، وهو هنا منذ سنين.
- أنا لم أسبه هو، قلتُ، بل زوجته.
- هذا أسوأ، بروفسور! رد عبد الصمد، بيدها كل زمام الحكم!
- سبق السيف العذل! أنا هنا في الوقت الحاضر، وعلينا أن نجدّ في فك أحاجي كل المخطوطات الممنوعة.
بين الظلال والظلام، أخذت مجلسًا على شيء حسبته بالة قطن مهملة، فإذا بالشيء يتحرك فجأة، ويرميني أرضًا. قمت أنظر لو كان إنسانًا أم حيوانًا؟ رأيت عينيه المنطفئتين، وشعره المصمّغ، ولحيته الطويلة المتدلاة حتى الأرض. فتح فمًا أسود اللثة اقتلعت كل أسنانه، وجذب السلاسل المربوط بها إلى زاوية معتمة، ذاب فيها تمامًا.
سألت عبد الصمد إذا كان معنا أشخاص آخرون غير هذا السجين الغريب، فقال لا، وحذرني من الاقتراب منه.
- هو في عداد أهل الكهف، قال المراكشي، نسي الدنيا ومن فيها، وباستطاعته أن يؤذيك.
- ولماذا لم يفرجوا عنه كل هذه السنين؟
- كيف تريدهم أن يفرجوا عنه وهم لم يحاكموه؟
- ماذا؟ لم يحاكموه بعد!
- كان يعمل في السياسة مثلي، همهم عبد الصمد مغمومًا.
جمدت تعابير وجهه، فحاولت التخفيف عنه.
- لقد انتهيت، بروفسور! همهم من جديد الصديق السجين، أما أنت، فقد ارتكبت خطأ فادحًا.
- كان عليّ أن أفعل شيئًا من أجل "قصة حبي".
- ستدفع الثمن من دمك.
من وراء القضبان الفاصلة زنزانتنا عن الممر، نظرت إلى هذا المكان المهول الذي حشرت نفسي فيه، والظلام المخيم سيد الليل والنهار. كان ضوء يتسلل من غرفة الحراس في أقصاه، والتبن ينتشر، ورائحة ماء الجافيل تخنق. على حين غرة، وصلنا صراخ أحد المعذبين، فأُسقط في يدي، وعصرني الخوف لأول مرة. جلست على طرف سرير عبد الصمد، وأنا أرتعش، فلم يفعل شيئًا لتسكين روعي. عندما استعدت هدوئي، سألني عن أمه وأخيه وباقي أفراد أسرته.
- كلهم برؤوسهم يفكرون فيك، قلت، أوصتني أمك بك خيرًا. لم أكن أقدّر مدى قسوة السجن حتى اللحظة التي أخذ فيها المعذب يصرخ.
- ما كان عليك أن ترتكب هذا الخطأ، بروفسور، عاد إلى القول.
قمت صائحًا.
- كفاك تأنيبًا، احتججتُ، والآن ناد على السجانين، وقل لهم أن يتركونا نذهب إلى الحجرة المحرمة.
- السجانون مشغولون، هل نسيت صرخات المعذب؟
- ومتى سينتهون من ذلك؟
أحسست بقبح سؤالي، فاعتذرت. قمت لألقي بنفسي على سرير حديدي تفوح منه رائحة كريهة، ربما كان بولاً. بعد ساعة، اعتدت على الرائحة، وعلى عدم الرائحة. حسبت نفسي أغفو، وكنت أغفو بالفعل، حتى طرف الليل: اختفت الظلال، وعمق الظلام. كان عبد الصمد يغرق في محيط أسود، ناديته، فوصلني صوته ضعيفًا، واهنًا، كمن يختنق. ظننتني أسمعه يقول "آميديه".
- هل هناك ضوء؟ سألتُ، وأنا أبحث عن زر الكهرباء.
تعثرت بسلاسل المحتل للزنزانة الثالث، وسقطت عليه، لأكتشف أن هذا "الحيوان" ينوخ بكلكله على المراكشي، وهذا يطلق نداءات مستغيثة بصوت واطئ. دفعت السجين الغريب، فاستعاد صديقي أنفاسه. وفي اللحظة ذاتها، تلقيت ضربة بالسلسلة على رأسي، أفقدتني وعيي.
في الصباح، أفقت برأس مثقل، مضمد، وعبد الصمد يجلس على طرف سريري، ويرميني بنظرات طفل قضى طوال الليل ساهرًا. كانت عيناه حمراوين، ودائرة زرقاء حولهما. استعطفت الضوء، وأنا أشير إلى المصباح المشتعل.
- تركوا الكهرباء من أجلك، بروفسور، قال، وهو يحاول الابتسام.
وكز فكري السجين الغريب، فقمت بنصفي العلوي باحثًا عنه بعينيّ في أنحاء الزنزانة.
- لا تخف، بروفسور! نقلوه إلى زنزانة أخرى.
أطلقت آهة ارتياح، وعدت إلى الاستلقاء، وأنا أجس رأسي بيديّ الاثنتين.
- عند العاشرة، سنذهب إلى الحجرة المحرمة، إذا كنت تقدر على ذلك.
قمت من الحماس ضعف ما أقدر عليه.
- بالطبع، أقدر على ذلك.
- لكن السجانين طلبوا ضعف ما أدفع إليهم عادة.
- فليأخذوا ما يريدونه من مبلغ، سأدفع.
- ألست جائعًا، بروفسور؟
- لا!
- لم تأكل شيئًا منذ أمس! وفوق هذا، فقدت بعض الدم.
وعن طاولة نصف محطمة، حمل صينية من الألمنيوم.
- ليست قهوة الهيلتون ولا خبزه، ولكن عليك أن تأكل ليكون بمقدورك فك أسرار المخطوطات الملقاة هناك. هذه قطعة من المارجرين دفعت مقابلها مبلغًا كبيرًا من أجلك.
شكرته، وأخذت من القهوة رشفة بصقتها:
- هذه ليست قهوة، هذا شخاخ!
ضحك عبد الصمد، ولهث بعجلة، حتى الضحك صار يتعبه.
كسرت الخبز بقبضتي، ومسحته بالمارجرين. لم تكن الزبدة الأندلسية، غير أني كنت مضطرًا إلى الأكل، حتى أنني عدت إلى حمل طاس القهوة، وشربت بعضها لأستطيع ابتلاع الخبز.
عند العاشرة، لم يكن هناك ظل لسجان واحد، كنت أتحرق رغبة للذهاب إلى ذلك المكان الذي تُمنع فيه العباد كالكتب على حد سواء. في الحجرة المحرمة، كانت المخطوطات تختنق حتمًا بقدر ما نختنق، وكانت تحلم بالأصابع التي تزيل الكِمام عن فمها، حلم يدور منذ زمن طويل! قرون عديدة مضت، وبقي الحلم، فللكلمات قوة الذاكرة، وللكتب قوة الأحلام. عاتب عبد الصمد العناد في تحقيق هذا الحلم: الوقوع على قصة الحب. بالوقوع على هذه القصة، هل يبقى الحلم؟ هل سأقع عليها دون أن أغادر القضبان أبدًا، فأتحول، بدوري، إلى كتاب ملقى في السجن، يحلم بلا أية فائدة بالحرية؟ هذا ما كان يخشاه صديقي. كان يعرف عندما يمضي الوقت مداعبًا الحلم يتحول الحلم إلى كابوس مهول، على صورة السجين الغريب، العائد إلى حاله الوحشيّ، وهو كذلك حال الكتاب المهجور، الممنوع، المخنوق، تحت ثقل مئات السنين من الانتظار و... الحلم المتوقِّف.
تجاوزت الساعة الثانية عشرة، جاء سجان، وأخبر عبد الصمد أن أمه وأخاه يريدان رؤيته، لكن أوامر مشددة بخصوصه وصلتهم، لا زيارة حتى إشعار آخر. لهذا، صرفهما على أن يعودا غدًا، لئلا يصدمهما، وفي الغد سيؤجل ذلك إلى ما بعد الغد، وهكذا إلى أن تصل أوامر أخرى أقل تعسفًا. لم يبدُ على المراكشي التأثر بما سمع، صار في حال لا يسمح له بالتأثر بشيء. كان يستمع إلى السجان، وكأنه يحكي عن شخص آخر. طلب الذهاب إلى الحجرة المحرمة حالاً، وسأل بشيء من التوتر، لِمَ كل هذا التأخر؟ رأيت عروق جبينه النافرة، ولاحظت شفتيه المهتزتين. كان يريد أن يغرق في الماضي، أن يعيش مع المجهول. تفاجأ السجان بهذه الإرادة وهذه الرغبة، فرضخ له دون أن يلفظ بكلمة. فتح لنا باب الزنزانة، وسار ثلاثتنا في غياهب السجن. كانت خطواتنا على البلاط الرطب تتصادى، على الأقل، هذا ما صنعه لي خيالي، وكان التنقل في أحشاء السجن، على أي حال، تمرينًا مثيرًا.
لا كما في القصص، كان للحجرة المحرمة باب من القضبان ككل الزنازين، ورفوف الكتب تبدو من الممر، في هدوء مُطْبِق، قطعه مفتاح السجان في القفل وصرير الباب. أعطيته الدراهم التي طلبها، ودخلنا، أنا وعبد الصمد، إلى عالم الثقافة المحرمة بشمعدان. عاد السجان إلى إغلاق الباب علينا، وتركنا على أن يعود فيما بعد ليعيدنا إلى زنزانتنا.
أخذت أتنقل في الحجرة المحرمة بمزيج من الدهشة وعدم التصديق.
- كأنها الحجرة المحرمة في الإيسكوريال، قلت لعبد الصمد، بطولها، وعرضها، ورفوفها، وأطنان كتبها، وأهراماتها، وحتى مدفأتها!
اقتربت من المدفأة باحثًا عن الزر الذي يديرها بجدارها على مدارها، ووجدته. كان فرنها مسدودًا بالجبس، فلم أخش من سماعهم لي.
- إذا ضغطت على هذا الزر، قلت لرفيقي، دارت المدفأة، لتجد نفسك في مكتبة الكُتُبِيَّة.
- بمعنى أنني إذا ضغطت على هذا الزر، قال عبد الصمد بانتباه، صار الطريق أمامي إلى الحرية مفتوحًا؟
وَهَمّ بوضع إصبعه، فمنعته.
- حذار! ستجد وجهك في وجه القيّم!
- صحيح! يجب اختيار الوقت المناسب، ولا أفضل من وقت ما بعد صلاة العشاء.
كان السجانون يجهلون وجود هذا الباب السري، وإلا ما سمحوا لنا بالمجيء هنا، أو، على الأقل، لهدموا المدفأة، ورفعوا مكانها جدارًا من الإسمنت المسلح بدلاً من الاكتفاء بسد فوهتها.
احمر وجه عبد الصمد كالماضي، أيام كان حرًا، وعادت ابتسامة الطفل تزهر على شفتيه.
- بفضل الفعل السحري لهذا الزر الذي لا أحد يعرف سره، أنا أسترد روحي، بروفسور، باح لي صديقي المغربي.
وراح يخبئه بأكداس من الكتب والمخطوطات.
- لا تتعجل حكمًا! علينا التأكد من عمله أولاً!
- سنتأكد في أول فرصة.
- وإذا كان يعمل، فلن تخرج من هنا إلا بعد أن تجد معي "المخطوط".
- طبعًا، بروفسور، طبعًا، وسنخرج نحن الاثنان، أنا وأنت. لماذا أنا فقط؟ هل تعتقد بأني سأتركك هنا؟
- شخصيًا، وضعي ليس صعبًا كوضعك: سيُطلق سراحي خلال شهر، أما أنت، فلا أحد يعلم متى ستحاكم، وبالتالي، لا أحد يعلم متى سيُطلق سراحك. ربما سلموك إلى عساكر إسبانيا، فمن يدري؟
- سنفكر في كل هذا فيما بعد، علينا أولاً إغراء من يسهر من السجانين، فهم الذين سيسمحون لنا بالعودة إلى الحجرة المحرمة في المساء، لنتأكد من عمل الزر.
حملت عددًا من المخطوطات، واتجهت إلى طاولة في أقصى الحجرة، وأنا أقول:
- إلى العمل! الوقت ثمين، يجب ألا نضيعه سدى!
أوقفني عبد الصمد.
- هذه المخطوطات سبق لي فحصها، وكذلك كل هذه... قال مشيرًا إلى أحد الرفوف.
أعدتها إلى مكانها، وأخذت غيرها، وكذلك فعل رفيقي. بدأنا بتقليب الصفحات بحثًا عن كلمات كتبت بالدم، أو بقع لوثتها. كانت تلك قرينتنا الوحيدة، ولم يمنعنا ذلك من فحص الفهارس، وقراءة فصل من هنا وآخر من هناك، يكون لنا بمثابة دليل في مهمتنا.
في المساء، عدنا إلى الحجرة المحرمة، بعد أن أفسدنا الساهرين من السجانين. اشترطوا علينا ألا نتجاوز منتصف الليل، فنقطف الكرز الأسود. قلّبنا بعض المخطوطات، ونحن ننتظر على أحر من الجمر انتهاء صلاة العشاء. كان من دواعي الحذر أن نتريث ساعة أخرى، لما فجأة نهض عبد الصمد، ولم يعد يطيق صبرًا. حرر المدفأة من الكتب التي تحيط بها، وألقى عليّ نظرة لا حياة فيها، كتلك التي كانت للرجل الوحشيّ. كان خائفًا من الغرق في يأسِ من لا نار له ولا قرار، فأومأت له برأسي مشجعًا. بإصبعٍ مرتعشة، ضغط على الزر، فإذا بالمدفأة تدور على محورها، وإذا بنا في وسط قاعة مطالعة الكُتُبِيَّة. ابتسم، ابتسمت، ابتسمنا لأضواء شارع محمد الخامس المتسللة من النوافذ العالية، وسمعنا ضربات طبول ساحة جامع الفناء، ضربات خافتة، بعيدة، كأنها آتية من مركز الكون.
بأصابعي، كتمت صيحة فرح على فم صديقي، وفتشت معه، بعد ذلك، في زوايا المكتبة الأربع، عن الظلال المنسية. كانت المكتبة في تلك الساعة مغلقة للجمهور، الفضاء الأمثل لإغواء العقول. أراد عبد الصمد أن يفتح بابها المؤدي إلى قاعة الصلاة، فمنعته، وعدنا، دون تأخير، إلى حجرة الحرية. ضغطت على الزر، وأعدت المدفأة إلى مكانها. لم نقم بأي تعليق، لم نتبادل أية كلمة. عاد كل واحد منا إلى فحص المخطوطات، من غير تركيز، فما حصل منذ قليل كان مذهلاً. كانت الحرية غالية، أغلى من كل قصص الحب. دونها، لا حب هناك، والحياة لا معنى لها.


الفصل التاسع

مضت ستة شهور طويلة، وأنا لم أزل حبيسًا، فتذمر عبد الصمد لأني أرفض الهرب معه، للالتحاق بآميديه في جبال البرنة. لم أجد، بالطبع، قصة حب إيزابيل الإسبانية وأحمد العربي، وكان ذلك مثبطًا لعزمي. عثرت على كتب أعظم عبقرية خيالية في الصوفية، ابن عربي، كالفتوحات المكية، وقصص الحكم. في الفتوحات المكية، قرأت فصلاً تحت عنوان "كيمياء السعادة"، يصف ابن عربي فيه مجازًا صعود الإنسان إلى السماء. وفي مخطوط لم يطبع، "الإسراء إلى مقام الأسرى"، يورد ابن عربي قصة الإسراء والمعراج، ويتوسع في عرض زيارة النبيّ للسماء السابعة، فيسبق ما جاء به دانتي.
وقعت أيضًا على كتب المتصوف الإسباني رايموندو لوليو، كتب كتبها اعتمادًا منه على أعمال ابن عربي. كان متمكنًَا من العربية، واسع الاطلاع على ما كتبه أهلها، وكان يستعمل العربية في مجادلاته مع المسلمين، وفي التبشير في المغرب. كان يكتب بالعربية كما يكتب بلغته القطلونية، فكتب مؤلفه "كتاب الكافر والعلماء الثلاثة" بالعربية أولاً، ثم ترجمه بنفسه إلى القطلونية، وعنها نُقل إلى العبرية واللاتينية والفرنسية والإسبانية.
وكما وقعت في الإيسكوريال على مخطوطات ضد الموحدين، وجدت في الكُتُبِيَّة مخطوطات ضد الريكونكيستا، وكذلك معظم كتب مركز الترجمة في طليطلة، في الرياضيات، وفي الفلكيات، وفي الفلسفة، حتى أنني عثرت على أول ترجمة لاتينية للقرآن الكريم.
ومن الغريب كذلك، أنني وقعت على قصة حب الشاعر يحيى بن الحكم، الملقب "بالغزال" لجماله، وملكة الدنمرك ثيودورا، وتوقفت على ما قاله الغزال في محبوبته:

كلفت يا قلبي هوى متعبا
غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسيةً
تأبى لشمس الحسن أن تغربا

وبينا أنا أتأرجح بين قرارين، الهرب مع عبد الصمد أو انتظار الإفراج عني، أبلغنا سجانٌ بأن شخصًا سيزورنا في زنزانتنا، وطلب منا أن نحجم عن الذهاب إلى الحجرة المحرمة، وأن ننتظر مقدمه بين لحظة وأخرى.
- هذا شخص مهم، قلت لعبد الصمد، مَنْ غير شخص ذي نفوذ يمكنه القيام بزيارتنا في الزنزانة؟
حاولنا أن نحزر من هو.
- ربما كان الحاكم، قلتُ.
- أو زوجته، قال عبد الصمد ساخرًا.
- بما أنها هي الحاكم الفعلي.
- يقال عنها في كل ليلة تنام مع عشيق.
- وفي الصباح تقتله.
- تقتله؟ أشك في ذلك.
- لو كانت جميلة أقبل بقتلي مقابل ليلة واحدة في فراشها.
- لم ير أحد وجهها.
- زوجة الحاكم لم ير أحد وجهها!
- لتختار عشاقها بنفسها تحت أسوار مراكش. مرة، تخفت في ثوب بائعة خبز قرب باب "دوكّالة"، ومرة ثانية، في ثوب قارئة خطوط اليد في ساحة جامع الفنا، ومرة ثالثة، في ثوب امرأة فقيرة تشحذ في "جيليز"...
انبثقت امرأة محجبة من وراء السجان، فتح لها باب زنزانتنا، وذهب. قفز عبد الصمد، وأمسك بذراعها، أول ما شاهد عينيها السوداوين المكحلتين.
- متى عدت؟ سألها، وكيف استطعت المجيء حتى هنا؟
طلبت منه أن يوطئ صوته، وأنا أجمد في مكاني ذاهلاً لا أبدي حراكًا.
- عدت منذ يومين، قالت، عرفت أنك والبروفسور في السجن، فجئتُ.
- حتى هنا؟
- أعرف رئيس السجانين، أعرفه جيدًا.
لم يَبْدُ على المراكشي الاقتناع، ولا عليّ، فاقتربت المرأة مني، وشخصت ببصرها إليّ، قبل أن تقول بغتة:
- لقد قتلوا دون آميديه والأميرة إيزابيل.
- ماذا تقولين؟!
- قتلوهما؟! صاح عبد الصمد ابنًا للعجب.
- قتلوهما، وأنهوا على كل من كان معهم، أكدت المرأة ذات العينين السوداوين. استقلال أرخذونة اليوم ذكرى من الذكريات البعيدة، وككل شيء، لم يعد كل شيء يمضي إلى حاله. قبل موته، أوصى آميديه، بروفسور، على أن أودعك الوثيقة المنحوتة في لحمي، أنت أو أبا بكر الآشي.
انبهرت تحت وقع الخبر الفاجع عليّ، ولم أفطن إلى استحالة هذه الوصية إلا بعد لحظة طويلة. أحسست بدبيب الثكل في نفسي، فدببت دبيب الموت في الحياة. كان العدم أقوى من كل شيء، أقوى من العدم، فالحياة عدم، والعدم حياة.
- تودعينني إياها؟ كيف هذا تودعينني إياها؟
- بالزواج من أختي.
لم يكن الوقت للضحك، ومع ذلك!
- اذهبي إلى الإيسكوريال، قلت متهكمُا، تجدين هناك أبا بكر الآشي تحت الإقامة الجبرية مع ملك إسبانيا، واقترحي عليه الزواج بأختك. شخصيًا، أرفض ذلك رفضًا قاطعًا.
- لعلمك، أبو بكر الآشي غادر الإيسكوريال منذ عدة أشهر، هو في مراكش حاليًا، وهو الطبيب الشخصي للحاكم في الوقت الحاضر.
- أبو بكر الآشي هنا في مراكش! هل يعرف أنني في السجن؟
- منذ يومين فقط.
- ولم يعمل شيئًا لإطلاق سراحي؟
- زوجة الحاكم لا تريد! وصلت إلى مسامعها شتائمك التي تطعن في شرفها، مما لم يعجبها كثيرًا. لم تتوقع أن يبدر من بروفسور معروف ومثقف لامع مثلك وأن تفلت منه نمائم كهذه.
- كيف يمكنني التكفير عن هذا الذنب؟
- بزواجك من أختي.
لم أعد أضحك هذه المرة، كان الأمر جادًا، وعليه تتوقف حريتي وحرية عبد الصمد. في ليلة ظلماء، سيفضي إلى مكتبة المسجد الكبير، ثم إلى غربة لا نهاية لها، إلا إذا استطعت، بواسطة أبي بكر، العمل على إطلاق سراحه.
- أنا لا أفهم العلاقة القائمة بين حفظ الوثيقة الأرخذونية وزواجي من أختك؟
- ومع ذلك، كل شيء واضح. أنا لا يمكنني الزواج، وبخصوص أختي، عليها أن تحبل منك، فتكون لها ابنة تحمل وثيقة الاستقلال في لحمها، كما هو معمول به منذ أجيال. أنت، يا أبا البنات، ستتوافر لك الشروط المطلوبة.
تذكرت الماخور، والأجساد المباحة، وقاعة الزبائن، وعدت أحدق في العينين السوداوين، وأفحصهما كما أفحص مخطوطًا غامضًا. كانتا عيني العاهرة نفسهما، وفي الوقت ذاته، جرفني إحساس بأنهما لامرأة أخرى.
- موافق، قلتُ، شرط ألا أطلّق زوجتي المدريدية.
- الشرع يعطيك أربعًا.
- وشرط ألا أترك صديقي في السجن من ورائي.
- القانون يعطيه أربعًا.
طن عبد الصمد:
- أربع سنين!
حاولت المرأة المحجبة تهدئته:
- احمد ربك أنهم لم يسلموك إلى العساكر الإسبانيين!
نادت الحارس، فجاء، وهو يمزق بأسنانه رغيفًا أسود مطليًا بالزيت، لفه بورقة قطعها من مخطوط قديم.
أمرته، وهي تشير إليّ بحركة من رأسها:
- اطلق سراحه!
بيد أني مددت أصابع مرتعشة، إلى الرغيف الأسود، وأخذته من يدي السجان. فرشت الورقة القديمة، ورأيت بين بقع الزيت آثار دم.
- من أين جئت بها؟ قلت للسجان بصوت عكر كماء الحقيقة.
- من مخطوط موضوع هناك، قال، فارغ تمامًا، لا كتابة فيه.
- هل يهمك، بروفسور؟ سألتني المرأة ذات العينين السوداوين.
- يهمني؟ كل ما يهمني!
- احضره حالاً، أمرت السجان.
فأحضره.
لم تزل الصفحة الأولى في مكانها، كورقة العنب المحفورة في الرخام، وبالدم كتبت الكلمات التالية:
"هذه هي حكاية الحب التي اهتزت لها شبه الجزيرة الإيبيرية اهتزازًا لا مثيل له بين القشتالية، إيزابيل العاشقة، والعربي، أحمد الأندلسي، اللذين أمر الكاردينال دوسيسنيروس بقطع رأسهما في حرم الكالا دوهيناريس بمجريط، بتهمة الهرطقة. بدم إيزابيل نكتب الجزء الثاني من هذه الحكاية، في هذا المخطوط المودع في الكُتُبِيَّة، أما الجزء الأول، فسيجده كل من يهمه الأمر في مخطوطٍ ثانٍ مودعٍ في الإيسكوريال، الدير والقصر الواقعين عند قدم وادي الرامة، سلسلة الجبال الحمراء."
تصفحت المخطوط، فلم أجد أية كلمة، بل صفحات ملطخة بالدم، من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة.
- إنها الكلمات نفسها التي قدمت للجزء الأول من هذه القصة الممزقة لنياط القلب، الموجود في الإيسكوريال، قلت لعبد الصمد مادًا المخطوط إليه، هذا كتب بدم إيزابيل، وذاك كتب بدم أحمد.
أخذ المراكشي يضحك في ذلك المصاب الكبير، فأعوى الحزن في قلبي. كم من مرة يموت آميديه ويحيا؟ كم من مرة تولد السحلبيات من بطن العدم؟ بالوقوع على الجزء الثاني من قصة هذا الحب الدموي، يكون صديقي المغربي قد تحرر من كل التزام. حاليًا، لا شيء ممنوع عليه، بما في ذلك الشمس المشرقة ما وراء الحجرة المحرمة. كنت أعلم علم اليقين أنه لن ينقع نفسه في السجن طوال سنوات أربع، بلا هدف أكيد، وكنت أعلم علم اليقين أنه لن يبكي بعد اليوم، بلا سبب وجيه، ولماذا يضحك.
- لقد جن صاحبك، قالت المرأة المحجبة.
رغبت في الضحك، أنا كذلك، لكني ابتسمت.
- يظن نفسه حرًا، همهمت، يضحك للحرية.
ألقت عليّ نظرة متسائلة: عن أية حرية أتكلم؟ شددت على يد الحر القادم بحرارة، فأخذني بين ذراعيه، وعانقته بدوري. تمنيت له حظًا طيبًا، وتمنى لي زواجًا سعيدًا، وعاد يضحك، لست أدري، هذه المرة، لماذا.















الفصل العاشر

أركبتني المرأة المحجبة ذات العينين السوداوين في عربة تجرها أربعة خيول، ضربها سائسها بسوط، فعدت بمحاذاة حدائق أدت إلى قصر موريسكي، كان قصر الحاكم. ونحن ندخل باحة القصر، سحبت المرأة عن وجهها الحجاب، دون أن تنظر إليّ، فرأيت جانبها، وفكرت في الموت صعقًا بجمالها. التفتت إليّ، وهونت عليّ بابتسامة حل محلها عبوس قاس أول ما غادرت العربة، وهي تعطي أمرًا لهذا وآخر لذاك. هل هي امرأة العاج والنار أم سيدة هذا القصر وكل من يقيم فيه؟ تبعتها دون أن أفوه بأقل كلمة. صَعَدَت درجًا عريضًا من رخام إلى الطابق العلوي، وأنا أواصل متابعتي لها. قَطَعَت ممرًا طويلاً مزخرفًا بالفسيفساء، سقفه محمول على عوارض من خشب الصنوبر لا تنتهي حتى غرفة في أقصاه. طَرَقَت الباب، دفعته، ودخلت، وأنا خلفها. ابتعد أبو بكر الآشي عن راصدته، وسارع أمام المرأة ليقبل يدها، ثم جاء يأخذني بين ذراعيه. شكرها لإطلاق سراحي، فقالت:
- سأترككما الوقت الذي يعد فيه خدمي حمام البروفسور.
عندما أَغْلَقَت الباب من ورائها، ضمني أبو بكر مرة ثانية، وهو يهمس في أذني:
- حمدًا لله! أنا سعيد برؤيتك!
- حمدًا لله على وجودك في مراكش! قلت له.
أشار إلى ناحية الباب الذي أغلقته سيدة القصر:
- لست بحاجة إلى معرفة من هي؟
- لقد فهمت كل شيء عندما رأيتك هنا.
- زوجة الحاكم شخصية قوية أقوى من الصخر وأحلى من العسل!
دفعني بهدوء إلى أريكة، وأنا أتعجل في سؤاله:
- قل لي، بربك، ما الذي وقع؟
تنفس الصُّعَدَاء، وقال:
- لقد هز مصرع الأميرة إيزابيل والدون آميديه العالم! لبلوغ أهدافهم، سفك العساكر دماء كل من حاول اعتراضهم في الطريق، فحصلت مجزرة لا مثيل لها في التاريخ، وبلغت الوحشية أقصى درجاتها. لهذا تجدني أعيد النظر في كل فلسفتي، لأن الحيّ، بطلي، الإنسان الكامل، ليس نورًا، إنه ابن هذا العالم البشع. ليدرك الكمال، عليه أن يجد يد العون، اللاموجودة بعد المجزرة. إذن، أين يجدها تلك القوة الخارجية التي تسمح بإدراك حقائق الوجود؟ لقد انعدمت كل الوسائل الممكنة. وحده، وظروف القهر في زمننا، يكون له محفزُ القوى المطلقُ للفعلِ ملاذًا أخيرًا، دونه لن يكون هناك تغير أخلاقي للروح كي تتبلور الرغبات. هذا المظهر نفسي. والروح لا تتلخص في فكرة الله وحده، إنها تتحرك في كل ما هو موجود. وهذا المظهر عقلاني. هنا كهناك، المحفز هو المرأة، بإمكانها أن تكون المُكبح كما جرى الحال مع آميديه، أو المُحرض كما سيجري الحال مع الحيّ.
- وأنت، سألته، ماذا عنك؟
- بعد أن أنهى العساكر على آميديه وحركته، ليس دون أن يثيروا الشجب الشعبي بسبب موت الأميرة إيزابيل، سمحوا للعاهل الإسباني بالعودة إلى قصره في مدريد، وأعلنوا عن تشكيل حكومة مدنية برئاسة ميجيل هِرِّيرة، رئيس مركز الدراسات في الإيسكوريال الذي تعرفه. رجل المخابرات هذا المحنك جدًا، كان مكلفًا بأمن جلالة الملك طوال إقامته الجبرية، وذلك ليوهموا بعودة الديمقراطية. وفي الحقيقة، ما كان تعيين هِرِّيرة إلا لإخفاء جرائم العساكر التي ارتكبت في البريئين تحت حجة الإرهاب. وكذلك لإخفاء تهريب الأموال والهيمنة الدكتاتورية على كل مكان في إسبانيا، حتى أنهم انتزعوا أرخذونة من قبضة الفارس بوعمير، وأعادوه كما كان حاكمًا هزيلاً على شذونة لا يحل ولا يربط. غير أن موت الأميرة إيزابيل ترك آثاره العميقة في قلوب الإسبانيين لن تمحي بسهولة، قَسّى هذا الموت الطبع والفولاذ، وتقطعت بهم الأسباب. حط الحزن على الأسرة الملكية كظلام الغابات الكثيفة، وصارت الغربان تُرى بيضاء بين أغصانها. عندئذ، سقطتُ على قدمي الملك مقرًا بذنبي، فلولاي لما وقع لسموها ما وقع. رفض الملك السماع لي، وأعاد على مسمع الجميع ثقته بي. لكني لم أستطع، بالمقابل، البقاء في جو مكتئب أعتبرُ نفسي احد أسبابه. للهرب من العيون الحزينة، طلبت من العاهل أن يسمح لي بمغادرة العاصمة الإسبانية. بعد إعادة ثقته بي، كنت بحاجة إلى استعادة ثقتي بنفسي، وهذا خلال مدة من الزمن أجهل كم سيكون طولها. نظر جلالته بالطَّرْف إلى حياتي، وأراد الاطمئنان على اختياري للمكان الذي سأذهب إليه. قلت مراكش، حاكمها يعرفني، ويقدرني، وهي المدينة الوحيدة، بعد مدريد، التي أرتاح فيها.
وصلتنا طرقات خفيفة، فأعطى أبو بكر لطارقها الإذن بالدخول. كان أحد الخدم.
- الحمام جاهز، بروفسور، قال.
- سألحق بك خلال لحظة، قلت.
انحنى سمعًا وطاعة، وذهب.
- يبقى أن أقول لك، تابع أبو بكر، إن المرأة التي أرسلتها إلى آميديه قد ماتت معه، كانت أخت امرأة الحاكم.
لحظة تفكير في العاج والنار، ثم سألت مضنى:
- إذا كانت الأخرى قد ماتت، فممن سأتزوج؟
- إنهن ثلاث أخوات أرخذونيات، الأولى بنت هوى، والثانية بنت سلطان، والثالثة بنت دين وتقوى، ومن هذه الأخيرة ستتزوج.
- ولماذا لا تتزوج منها أنت؟ ستكون أقرب إليها بتصوفك مني، باستطاعتها أن تكون المحفز الذي تبحث عنه.
تردد ثم اعترف:
- لقد جَعَلَت مني فاجعة آميديه وإيزابيل وارثًا لحبهما الخالد، فوقعت في غرام ابنة السلطان، غير أني هربت من غرامها إلى راصدتي، لأجعلها تخترق رأسي اختراق الكواكب والنجوم، وأجعلني أعرف إذا ما كان هذا الغرام محرضًا أم مكبحًا، لكني لا أستطيع الرجم بالغيب ما أجهل. فوق ذلك، الاطلاع على الغيب بهذه الطريقة لا علاقة له البتة بمعرفة ما هو خفيٍّ يحتاجُ إلى إشراق لا أدعي أن لدي القدرة عليه: القطة السوداء في الإيسكوريال، هل تذكرها؟ تلك التي "تنبأت" بمولد ولون قطيطاتها، كانت توأمًا لأخرى وَلَدَت في اليوم السابق. إنها هذه التي وضعها أنطونيو خفية، هي ونسلها، على النافذة. كان قصدي رفع حالتك المعنوية أمام الوضع الخطير لطالبك المريض، ولعبة في التنبؤ كهذه لا تنجح إلا إذا كانت الانفعالات قوية، وهي، تبعًا للظروف، كانت قوية. أما الحب العاقل، العب العقلاني الذي أريده، فليس هناك ما يهم غير التأمل فيه. ولكن كيفية التأمل ومعرفته تتطلبان سماء صافية، فلا تكفي حرية الفكر، ولا يكفي الفكر المولع بالتأمل. لهذا، سأحمل راصدتي إلى الصحراء عما قريب، وسأبقى فيها بقاء الحاكم في المشرق. سيدفعني ابتعادي عن محبوبتي إلى التأمل، فأزداد قربًا من نور العقل.
- وهل تعرف كنه حبك؟
- تعرف دون أن تعرف، كلام العينين العاشقتين لا تفهمه سوى عينين عاشقتين، وهي، عيناها السوداوان لكلِّ ناظرٍ عاشقتان لفّرْط جمالهما.
- ولماذا لم تبح لها بحبك؟
- لا أريد أن أخون صديقي، زوجها صديقي قبل أن يكون الحاكم، أنا صديقه قبل أن أكون الطبيب. عندما أتوصل إلى التفكير فيما هو مقدَّرٌ لي، سأجهر بحبي، حتى ولو غدا سيفًا على عنقي، أو أكتمه، لو كان عليّ أن أكتمه، حتى ولو غدا لعنة لروحي، وأجعل نصله يحفر في قلبي.
- ما الفائدة إذن؟ سيقتلك حبك في كل الأحوال!
- في الحالة الأولى، سأموت شهيدًا، وفي الحالة الثانية، سييقى حبي من بعدي إلى الأبد!
أعلمته باكتشاف الحجرة المحرمة في الكُتُبِيَّة، فنظر إليّ محزنًا، وغرق في أفكاره.
- لنتيجة بحثك حكمة، قال: يبقى الدم بعد الفاجعة، الكلمات، نحن نكتبها، لأن كل واحد منا موضوع حب وفداء.
في بخار الحمام، كانت ثلاث فتيات بانتظاري، أثوابهن الموصلية تلتصق بأبدانهن، والأسود على شفاههن ينكسر انكسار الأشعة في أحضان الموت. أخذنني من يدي، وخلعن ثيابي. أجلسنني قرب نافورة ماء ساخن، وبدأن يفركن جسدي. كنت على مقربة من أثدائهن، وشفاههن، وسيقانهن، وأنا أتأمل، مثل أبي بكر الآشي، وأفكر أني وقعت في غرامهن ثلاثتهن. كان حب لحظة. لم يكن الحب الشهيد، ولا الحب الخالد. كان حبًا يزول مع زوال اللحظة. حب الخارج من الجحيم الداخل إلى النعيم!
مددت يدي، و، بأصابعي أخذت أجني أفخاذهن الناعمة، وأثدائهن المعروضة. أزحت الشفّ، و، بفمي غطيت أجسادهن بالقبلات. استسلمت ثلاثتهن لي تمام الاستسلام، ورغبتي كانت فيهن الذوبان، والانتهاء في شوق العناق. أسندتني اثنتان، واحدة من كل ناحية، وجثت الثالثة أمامي. بسملت، وصلت كما تصلي لإله. ضغطتني بشفتيها الناعمتين، حاضنة، باكية، فجذبتها إليّ. قبلتني، وهجرت نفسها لنفسي.
عند العشاء، وجدت نفسي وحيدًا مع سيدة القصر. كان زوجها الحاكم، بالفعل، في المشرق مسافرًا، وفضل أبو بكر الآشي البقاء في غرفته متوحدًا، يرصد النجوم، ويبحر في محيطات أنوارها السوداء، بحثًا عن غرامه الغريب. كنت على استعداد لأقول لمُضَيِّفَتي كل شيء، لو طلب مني ذلك الطبيب الذائع الصيت، فأكون الوسيط، وبلغة الفلسفة، الواسطة، بين المحب والمحبوب، لكنه لم يكن يريد أن تكون المرأة المحبوبة فقط بل والمحفزة إلى معرفة سر الكون والمكنون وتجلي الألوهية في الإنسان، حتى ولو كان يشك في المقدرة الإنسانية.
جاء ابن زوجة الحاكم ليراها قبل ذهابه إلى النوم، كان لا يزيد عمره عن خمسة أعوام، وكان بجمال أمه. أوضحت لي أنه وحيدها بعد ثلاث بنات متن في اليوم الذي زدن فيه، وابتسمت، لأنهن الآن طليقات من أي قيد. قبل الصبي أمه، وتمنى لها ليلة سعيدة، ثم غادر قاعة الطعام بصحبة مربيته.
- حكى لك سي بو بكر حتمًا كل شيء عني وعن أختيّ، عملت زوجة الحاكم.
أكدتُ ذلك، وعبرتُ عن أسفي لموت العاج والنار.
- ماذا؟
- أختك.
أعتمت وجهها سحابة حزن.
- في ذلك اليوم، قالت، في الدار البيضاء، في سوق القلعة القديمة، كنت أنا التي هربت من مرافقك. في اليوم السابق، عندما تم الاتفاق بين السيد بلصغير وأختي وقوادها، كنت أختبئ من وراء ستار. كانت أختي مترددة، قررت الذهاب إلى جبال البرنة لأنني دفعتها إلى ذلك، لم أكن أعلم أني أبعث بها إلى الموت.
ندت عنها آهة قبل أن تتابع:
- يبدو أن قدرنا هو أن نحمل هذه الوثيقة في لحمنا حتى يوم الدين!
- يجب ألا نقطع الأمل أبدًا، سنيورة!
أشعت كسماء انقشعت عنها غيوم الاضطراب فجأة، وهي تبتسم ابتسامة خلابة:
- كنت أعرف أنك رجل أختي الثانية، وقد أحسن المرحوم دون آميديه اخنيارك، كانت رغبته الأخيرة قبل وفاته.
خفضت صوتها:
- أبو بكر يحبني، لهذا رفض الزواج من أختي، أما أنت...
- إذن تعرفين بحبه لك!
- أعرف دون أن أعرف.
- وهل تحبينه؟
- أحبه دون أن أحبه.
- غريب هذا! قلت دون أن أخفي استغرابي.
- إنها الطريقة الوحيدة منذ الأمس إلى اليوم للاحتفاظ به وبزوجي.
- ومتى ستختارين بينهما؟
- عندما يقرر.
- لكنه فيلسوف، سيطول الوقت معه!
- سأنتظر.
- حتى متى؟
- أرخذونة تنتظر منذ مئات السنين، وأنا لست أحسن من أرخذونة.
ضحكتُ:
- أتمنى ألا يطول انتظارك كما طال انتظار المدينة الشهيدة.
ضحكت هي الأخرى:
- اطمئن، بروفسور! سأنتظر، لكني لن أنتظر إلى ما لا نهاية، بنت السلطان التي هي أنا تعرف كيف ستستحثه على اتخاذ الخطوة الحاسمة.
سكتنا، كانت طريقتنا في الاندفاع وراء شهواتنا، ديوان شعرنا المدنس. كرجع البصر، رأينا ما لم يره أبو بكر الآشي منذ آلاف السنين، فرغبنا إلى الله، الغير المسمى. أنهينا عشاءنا، غير أن سيدة القصر لم تتحرك من مكانها، فقَطَعْتُ الصمت بسكين الكلام:
- متى ستقدمين لي أختك الورعة؟
- غدًا عند مطلع الفجر، سأصطحبك إلى صومعتها.
وقَطَعَتِ الكلام بسكين الصمت.
لم يكن هناك ما يدعو إلى القلق، ولا ما يَكْرُبُ القيد على القلب، أو يُفْقِدُ الصبر، ومع ذلك، اجتاحني القلق، والكرب وعدم الصبر.






















الفصل الحادي عشر

مع بزوغ النهار، كانت مراكش تومض كحجر عقيق هائل، كالبرق كان وميضها، وكالسحر في القصص القديمة. شرد بي الفكر، ولم أَكِلّ من النظر إلى مدينة السراب والضوء وفقه اللون وفسفور الرذيلة. كنت أجلس إلى جانب زوجة الحاكم، عقيدة خرافية كانت، دينًا من الأديان، وأمة من أمم العشق والفضيلة. لم تتأخر عن الإسراع، فصومعة أختها بعيدة، والصومعة تقع على هضبة من هضاب الأطلس الكبير. كان علينا أن نقطع الصحراء قبل البدء بصعودنا، ونشتاق إلى الماء في الينابيع. سرنا مدة طويلة، والرمال الحمراء من حولنا تغدو برتقالية، فقهوية، فقهرية، فصفراء ذهبية. فجأة، ارتدّت زوجة الحاكم إلى اليمين، وكادت السيارة تنقلب بنا، ثم ضغطت على الفرامل، والفرامل تصر بلا رحمة.
- هل رأيت الرجل الذي قطع علينا الطريق؟ سألتني.
- لا، لم أر أحدًا! قلت والدهشة تطرقني.
نزلتُ لأتأكد، وهي تقفز من ورائي، فلم يكن هناك أحد.
- كان أبا بكر، قالت حائرة ليس دون تردد.
- أبو بكر الآشي؟!
- نعم، كان هو!
التفت من حولي دون أن أجد أقل أثر لحضورٍ آدميّ.
- وأين راح؟
- لقد تبخر!
سحبتها من ذراعها لنعود إلى ركوب السيارة.
- مستحيل أن يكون أبو بكر هنا! لقد تركناه في القصر.
- ظننتني رأيته، فاسمح لي!
عادت تقود السيارة، مائة متر، ثم:
- توقفي! صحتُ.
رأيت أبا بكر هناك قاعدًا في قلب الرمل، وهو ينظر إلى نجمة النهار دون أن يبدي أقل حراك. إلى جانبه راصدته. أشرت إليه بسبابتي. لم تكن زوجة الحاكم على خطأ. أضلّها وجودُ العالِمِ العلامة والفيلسوف في مكان كهذا. ذهبنا إلى حيث كان. كلما تقدمنا منه كلما تقدم السراب منا. قطعنا السراب إلى الجهة الأخرى حيث كان يجلس. لم يكن هناك. عندما نظرنا خلفنا، لم يكن السراب هناك.
في السيارة، حافظنا على الصمت حتى قدم الأطلس. أرسل الثلج ريحًا جليدية، والصحراء تركناها منذ قليل. صعدنا، صعدنا أكثر، والطريق متعرجة، ثم لا طريق. كان علينا مواصلة تسلقنا على القدمين، إلى ما وراء الفكرة. على مقربة من الصومعة، لَمَحْنَا أبا بكر الآشي في الجلسة نفسها التي كانت له في الصحراء. ركضنا باتجاهه، وناديناه، وهو لا يبدو عليه أنه يسمعنا. عندما وضعنا يدنا على كتفه، فزّ كالبالون المثقوب، واختفى. تبادلنا نظرة مرتبكة، النظرة نفسها، والهذيان نفسه. ربما حلمنا الحلم نفسه.
استقبلنا غناء شجي:

أحبك حبين حبَّ الهوى
وحبًا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلٌ بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لِيَ الحجبَ حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

كانت الأخت البتول تلف جسدها من قمة رأسها إلى أخمص قدمها بحجاب أبيض لا يبين منها سوى وجهها الشديد الشبه بوجه بنت السلطان. ظلت في جلستها لما رأتنا، وهي تتعبد، وتحاور ربها.
- إلهي اجعل من نار حبي لك نارًا تحرق لي قلبي! همهمت.
قبلت زوجة الحاكم يد أختها.
- هذا هو زوجك الذي اختاره دون آميديه لك، قالت، وهي تشير بإصبعها إليّ.
أخذت الأخت التقية تتبتل، تتوسل، وتبكي.
- إلهي، غفرانك! ابتهلت، والدموع تتدفق من عينيها، اجعل من أرخذونة عليّ واجبًا من واجباتك!
- لستِ مضطرة إلى فعل هذا، همهمتُ.
نبرت:
- أفعلُ ما عليّ أن أفعل.
ثم، لزوجة الحاكم:
- إنه واجبي، بعد أن استشهدت لي أخت وكانت لي أخرى كلما جاءت بابنة ماتت...
- الموشّم، ألم يحضر بعد؟
- كان من اللازم أن يكون هنا.
وصلتنا خطوات، جثا الموشّم عند قدمي الناسكة، وقبلهما.
- أردت أن يكون جسدي لك وحدك، همهمت، وهي تغمض عينيها، أبيض من الثلج، وأنقى من النبع، فرفضتُ مبضع الموشّم، كما رددتُ منقار الدوريّ. والآن، ليس لي خيار، شرط الدون آميديه لهو شرطك، فاقبلني كما كنتُ وكما سأكون.
ارتجفت كجذوة الشمعة في مهب الريح، ثم رقّت في الهدوء المطلق.
جلست الأختان جنبًا إلى جنب، أعطيتا ظهرهما للموشّم ووجههما لي، وأخذتا تخلعان ملابسهما قطعة قطعة، وتلقيانها على الأرض. جمدني مرأى هذا الجمال المخادع المشع من جسد الواحدة إلى جسد الأخرى. سقطتُ برأسي على قدمي الأولى، فالثانية، فمدت كل منهما يدًا، وراحت تمسسني بترفق. سمعت الأخت الزاهدة تتكلم شبه غائبة:
- إن سألتني إن كنتُ أكره الشيطان أجيبك إن حبي لله لم يفسح لي المجال لكرهه، وإن سألتني إن كنتُ أحبك أقول لك إن حبي لله قد امتلك وجودي، فلم يترك موضعًا لبغض أحد أو حب أحد غيره.
رفعت رأسي لأرى فخذي زوجة الحاكم الموشومتين بقصر غرناطة الشامخ، الحمراء، قصر بني نصر. تعالت بوابته المحفورة بين فخذيها، وعلى بطنها أشهر ما في القصر المعروف ببلاط الأسود. في وسطه اثنا عشر أسدًا من الرخام قائمة في دائرة، ومن فم كل حيوان تفور فوارة ماء. انسكب الماء على وجهي، فأثملني الماء. راحت الأسود تزأر، وما يحيط بها من زخرف أخذ يتحرك، وما على سقف دار العدل فوق ثدييها من تزاويق تضاهي أهم الآثار الفنية المحفوظة من هذا النوع في الكون بدأت تتجدد. كانت الوجود كما يجب لا كما يوجب. وإلى قبة الوجود نظرتُ، فرأيتُ مناظر مصورة تمثل أساطير الفروسية ومشاهد الصيد، فضلاً عن صورة عشرة أمراء، وهم جلوس على صدرها، حول مقعد بيضاوي الشكل. كانوا القوة العظمى، السفن، العلوم، المجرات، وصدرها بهم يعلو ويهبط، فكان البحر، وكان الموج، وكان الرمل، وكان الكتاب. الكتابة فيه ومنه، فيه ذكر الشعار المعروف، شعار الغالب، "ولا غالب إلا الله"، ومنه زينة كلام الحلمتين إلى الزائر، كما هي الحال في محراب جسدها المنقوش عليه:

واعتبر تاجي تجده
مشابهًا تاج الهلال

راح الموشّم ينقل عن ظهر زوجة الحاكم وثيقة استقلال أرخذونة إلى ظهر أختها الناسكة، وهذه طوال حفره في لحمها غائبة مع صلواتها وابتهالاتها لا تحس بشيء. وعلى العكس، كانت زوج الحاكم تئن أنين المعذب المنكل به، مع كل كلمة تنحت، وكل قطرة دم تسيل. كانت تهمهم تارة، تأمر، وتنهي، وتنادي أبا بكر تارة، تصيح، وتبكي. تقول إنه معها، وهي تشدني إليها، أو إنه غير معها، وهي تبعدني عنها. وبينا كان الموشّم على وشك الانتهاء، أخذتني الأخت الزاهدة بين ذراعيها، وراحت تنشد، وهي دومًا غائبة:

إني جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي لمن أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

أنهى الموشّم دمغه الوشميّ، حمل أدواته، وذهب. ارتدت زوجة الحاكم ثيابها، أغضبت العراء، وتركتني وحدي بين ذراعي أختها الزاهدة. تَلَهَّتِ الروح بعقلي، والعقل بروحي، والعقل والروح جسدي، وأنا أمارس العشق معها كما لم أمارسه من قبل: قبلاتُها مزيجُ دنسٍ وقداسة، لمساتُها خليطُ نعومةٍ وخشونة، أنفاسُها نعيمُ حريقٍ ودخان، أناتُها جحيمُ حورٍ وعناق. عشت معها أكثر اللحظات النفيسة قيمة، تلك التي تَلْحَقُ إراقة الدم، وتلك التي تَسْبِقُ أوهام الحواس. عانقتها وإيمانها في الوقت ذاته، الزائف والذي لا ريب فيه. عانقتُ عقلها، ورجوت سلطة الدم، بعد مصرع آميديه وإيزابيل، وفاجعة الحبيب بالحبيب مذ كان الحب مقدرًا لا قدرًا، لإعتاقي. وعانقتُ روحها، وبحثت عن سلطة الوهم، بعد الفشل الذي منيت به في بحثي عن الأدب المدنس في الأندلس، لإغوائي. بدأ ذلك في الصحراء، مع سراب، وانتهى عند باب الصومعة. أعوزتني الشجاعة، وأعوزها الوقت، فعادت تبتهل، وهي بين ذراعيّ، تعبد، تتعبد:

أنا الروض قد أصبحت بالحسن حاليا
تأمل جمالي تستفد شرح حاليا
به القبة الغراء قل نظيرها
ترى الحسن فيها مستكنًا وباديا
تمد لها الجوزاء كف مصافح
ويدنو لها بدر السماء مناجيا
وتهوى النجوم الزهر لو ثبتت بها
ولم تك في أفق السماء جواريا


الفصل الثاني عشر

أمضيت تسعة شهور في مراكش، وأنا أنتظر إنجاب زوجتي الناسكة. لم أبخل عليّ بالتقزز في عالم القصر المريح، فحياتي البحث في عوالم الكتب، بين حطام الكلمات، في أركيولوجيا النفوس، على ألحان كمان الزمن. كان الثمن الذي دفعته للتاريخ، ثمن لا بخس فيه ولا شطط، فلا أحد يجرؤ مع التاريخ على المساومة. كنت كالسجين في صندوق من الحلى، لم أكن أدري إذا ما كان الحظ إلى جانبي عندما وضعت زوجتي بنتًا، فأعتقتني زوجة الحاكم، بعد أن عَهَدَتْ إليها أختها بتربية ابنتها لتحمل في لحمها لما تكبر الوثيقة النفيسة. بمولد ابنتي، ستُحفظ وثيقة استقلال أرخذونة طوال الجيل القادم.
تركت زوجتي تتربع على أعلى مراتب الأولياء، فلا يدخل في المعقول فعلها، ولا يكون مما يُعقل. انقطعت إلى الزهد والعمل للآخرة، تحث السالكين على التوبة والصبر والشكر والرهبة والفقر والحرمان والإذعان والذوبان والتوكل. يطلون عليها بالأذى، وتطلب لهم الصفح والمغفرة، يعولون عليها بالهوى، فتعطي الهوى لمن لا يهوى. كانت مسألتها الخاصة، كالأزرق مسألة الزنبق في حديقة الكون، كما كان الشبق مسألة أختها المومس، وقلم الحمرة الأسود مسألة أختها الحاكمة. ثلاثتهن واحدة، وكل واحدة منهن واحدة.
خلال ذلك، كان أبو بكر الآشي قد ذهب إلى المشرق لمعالجة حاكم مراكش الذي مرض في القاهرة، وسقط طريح الفراش في دمشق، ومات في عمان. صارت كل الطرق مفتوحة إلى ذراعي زوجته، وكذلك كرسي الحكم. غير أن الطبيب الذائع الصيت لم يعد إلى المغرب، وأضعنا كل أثر له. تكدرت زوجة الحاكم تكدرًا شديدًا، ورجتني الذهاب بحثًا عنه. كالت لي خط رحلتي بالذهب، فاعتذرت إليها، وتعذر لي عونها. كنت أزمع العودة إلى مدريد، عند زوجتي وبناتي. لم أعتد غيابهن، ولا صبري على فراقهن. حاوَلَتِ الضغط عليّ بحرماني من ابنتي الرابعة، فلم تنجح. هددتني بحاكم أرخذونة الحالي، الكاردينال السابق ريفيرا، وكذلك بالفارس بوعمير، حاكم شذونة: لن يتردد، هذا أو ذاك، عن قتلك قتل كل كاتب معترض، وبدلاً من التقلب في النعمة، سيجعلانك تتقلب على رمضاء البؤس، ميتًا-حيًا، فلم أخضع.
قبل تركي مراكش، أذهبتني قدماي إلى ساحة جامع الفناء، فكان البعث في كل مكان: الأحياء في غليان، والأشياء في غليان. كانت الخيول تصهل على غير عادتها، والسحرة في تيهان، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون، الراقصون هم الناس، والناس هم الراقصون، المطبلون هم السياح، والسياح هم المطبلون، النساك هم رجال الدرك، ورجال الدرك هم النساك، رجال البنوك هم الفقراء، والفقراء هم رجال البنوك، اللحى للنساء، والأثداء للرجال، والقضبان للأطفال، والأنهار للقناني، والبحار لثقوب الإبر، والأسرار كورق اللعب مفروشة على طاولة الزمن. كان كل شيء يدخل في ضده، دون أن يكون ذلك بالفعل، فلا أحد يشعر باختلاف الشيء عن الشيء ولا الواحد عن الغير، ولا أحد يشعر بما يشعر غيره، لا أحد يشعر بحاجته إلى معرفة ما يشعر غيره. جاءني فتى، وأمسك بيدي، فتركت يدي في يده. جرني إلى زقاق طويل، لا أول ولا آخر له، زقاق بان لي معلقًا بين الأرض والسماء، وأدخلني من باب مفتوح لا يغلق لا في الصيف ولا في الشتاء، لا في الليل ولا في النهار، ولا عندما تهبط الآلهة من السماء إلى عبث العيش واشمئزاز الناس. دخل الفتى بي إلى رياضٍ الريحانُ يتسلق جدرانه، أسود من الحياة، والزنبق يكسو حوافه، أبيض من الموت. ومن الطابق العلوي، أشارت إلينا امرأة بالصعود، فصعدنا. تركني الفتى معها، وذهب، وابتسامته تلصق في كل مكان يلتفت إليه. جلست على الأرض، غير منتظر ما سيحدث. كنت أرغب في ترك نفسي للزمان، يلعب ما يشاء بي اللعب، فهي آخر ليلة لي في مراكش، وريما في الوجود. أحضرت المرأة نارجيلة، والحشيشُ تاجٌ ناره متأججة، فشربته جرعة جرعة، والمرأة هناك تنظر إليّ واقفة، ولا تتحرك. فجأة، سمعت صرخات مهولة، فقمت، فدرت، ورأسي من حولي يدور. أعادتني المرأة بدفعة من يدها إلى مكاني، وفتحت بابًا أمامي، فإذا بالفتى هناك عاريًا، وإذا بشيخ يغرز فيه سيخًا، فغاب الفتى عن الوعي. عند ذلك، حضر ثلاثة رجال حملوه، وذهبوا به، فأغلقت المرأة الباب، وظلت واقفة كالتمثال، تنظر إليّ، وأنا أشرب الحشيش جرعة تلو جرعة، ثم ذهبتُ غافيًا. عندما فتحت عينيّ، وجدتني ملقى في قلب ساحة الفناء، ولا أحد في ساحة الفناء. كانت الساحة ككل الساحات في العالم، ذهب عنها سحر جحيمها، ولم يبق لها سوى اسمها اللاعادي، ولا معنى لاسمها اللاعادي في نعيم المساء. لمست محفظة نقودي، وأخرجتها، كانت فيها أوراقي ونقودي كلها، فقمت، وسرت، وحدي في شارع محمد الخامس.
وأنا في قصر الحاكم، سمعت زوجته في حجرتها، وهي تتكلم مع أحدهم. عندما نظرت من الباب المفتوح، رأيتها تحكي مع كأسها، وهي تدخن سيجارة:
- الأمر لك، دون آميديه! كل ما تأمر، يا سيدي! سأذهب إليه، وهو ينام، أليس هذا ما تريد؟ سأرفضه، إذا ما أرادني، وسأريده، إذا ما رفضني. أنا لن أقتله كما قتلت زوجي، فعلت كما قلت لي، دون آميديه! السم الذي ابتلعه دون أن يعلم في القاهرة رماه طريح الفراش في دمشق وأماته في عمان. لكني...
راحت تبكي، تشرب الخمر بعصبية، وتنفخ الدخان بهستيرية، وتعود تبكي:
- لكني خسرت محبوبي، أبو بكر هو محبوبي! الأمر لك، دون آميديه! سأذهب إليه، وهو ينام، وسأخنقه. أبو بكر يستحق الموت، البروفسور، ابنته، أختي، أرخذونة، العالم! أنا الأولى، أستحق الموت! لا، لا، لا...
ومرة أخرى، عادت تبكي. دلقت الكأس بين ثدييها، وأطفأت السيجارة في كفها، وأخذت تصرخ مستنجدة، فدخلتُ أرفعها، وهي ترفضني:
- لا، أنا لا أريدك! أنا لا أريدك!
قاءت عليّ، لوثتني كلي، وغابت عن الوعي.
صبيحة مغادرتي، أخذت طفلتي الصغيرة الموعودة بين ذراعيّ، وضممتها بقوة، قبلتها برقة، وغادرت القصر المراكشي بأقصى سرعة، ورائحة القيء تطاردني. ذرفت سيدته دموعًا حرّى: كنت الوحيد الذي يذكرها بأبي بكر، وبحبها له. لم يبق لها أحد، بعد موت زوجها واختفاء الطبيب الشهير وذهابي، حتى الظلال غادرت القصر، وخيم على الأجواء جو الفاجعة.
في مدريد، كنت أشم رائحة القيء في كل مكان، لم يخفف منها عطر زوجتي، لم تمحها رائحة بناتي. حديقتهن، للزنبق فيها رائحة القيء. حجرتهن، للطفولة فيها رائحة القيء. أحلامهن، للفنتزي فيها قوة الخنق. لم تكن الأوضاع قد استقرت بعد، افتُضحت حيلة الديمقراطية الشكلية، واستُنكرت محاولة العساكر التخفي في أردية المدنيين ورجال الدين. ليحوّل الكاردينال ريفيرا انتباه الإسبانيين هدد باحتلال الأردن كله، البلد الأصل للقبائل الأولى التي هاجرت إلى أرخذونة. كشف لأول مرة، أن وادي عربة، وادي كل الحضارات القديمة، تابع للسلطة الإسبانية، منذ عهد أرخذونة. هز النبأ الرأي العام، فهذه الزنبقة السوداء من تاريخ الأردن، والتي طُمست حقيقتها منذ زمن طويل، قسمت الأردنيين فيما بينهم. كادت الحرب الأهلية تشتعل حربًا تودي بالأخضر واليابس، بالفستقي والسكني، بالدميم والدميم، لولا أن أبا عبد الله العوفي، ملك البلاد، بحنكته المعهودة، راح يتكلم عن استعادة وادي عربة من الإسبانيين، مقابل تأجيره لهم، وتوقيع معاهدة سلام معهم... ورائحة القيء التي لا تنتهي، رائحة القيء، رائحة القيء، رائحة القيء.
كانت كل الظروف موائمة لتشكيل حكومة جديدة، حكومة ائتلاف وطني، تنقذ البلاد من ورطة وادي عربة ومن ثورة للخبز جديدة لوح الأئمة بها. رائحة القيء. لم تكن ثورة الأفواه الجائعة باتفاق مسبق، كما هو دأبهم مع الدهاليز، لأن التذمر تجاوز الاحتواء، والمنابر، ونبتت للزنبق المخالب. رائحة القيء، رائحة القيء. وُلِدَت أوهامي من رمادها، فكرت في الأرملة، وفي لياليها. في ياسمينها، وفي قبلاتها. رائحة القيء، رائحة القيء، رائحة القيء. امتزجت بأفكاري رائحة القيء، فكتبت لجلالته أقترح أبا الحكم القاسم، رئيس ديوانه الحالي، رئيسًا للوزراء، متذرعًا بحصافته ورزانته وحبه لوادي عربة كأرخذونة. وكتبت لأبي الحكم القاسم، أطلب منه، إن تم تعيينه رئيسًا للحكومة، أن يَكِلَ إليّ وزارة الثقافة، فقد كرهت السياسة، وأردت أن أقدم للبلد معارفي. انتظرت الجواب حتى كللت، فتمنيت القيء. حاولت، فلم أفلح. جاءني نبأ سيء يقول بإبعاد أبي الحكم القاسم عن كل وظيفة، وتعيين آخر، شاب لا خبرة له، يغذيه الحقد على أرخذونة، رئيسًا للحكومة. فهل كنت أنا المسؤول، دون أن أشاء، عن هدم حصن رئيس الديوان الملكي؟ يبدو أن حاله كحال كل الآخرين الذين يرفعهم أبو عبد الله العوفي إلى أعلى المناصب، وبين عشية وضحاها، يلقي بهم في المزابل. بعضهم يبقى فيها إلى الأبد، وبعضهم يلمعه، كما نلمع الأثاث القديم، قبل أن يرفعه من جديد لهدف معين ما أن إصابته تتم حتى يعيد إلقاءه كأية نفاية. إنه ثمن قتل البلد، الأرملة، الحب، القيء، ثمن القيء، القيء الذي لا يجيء.
ترددت عدة أيام، وأنا أغرق في رائحة القيء، قبل أن أهاتف رشاد رشد لأسأله ما العمل بعد كل ما حصل، ولآخذ برأيه. ودون أن أتوقع وجود أخيه الأكبر أبي بكر في عمان بعد وفاة حاكم مراكش، قال إنه أمضى فيها سنة جامعية بوصفه أستاذًا، مبعدًا نفسه عن كل دور سياسي. ثم اختفى لا يدري أين، ولم يره البتة أو يسمع عنه. بعد ذلك، حدثني عن عدم الاستقرار الحكومي، ونصحني بالمجيء إلى الأردن لو كنت أزمع الاتصال شخصيًا بأبي عبد الله العوفي. الرسائل لا تنفع، وكما يقول المثل "بعيد عن العين بعيد عن القلب"، الحساد من حوله بعدد النحل في خلية متهتكة، يجب مواجهتهم كلهم. سيأخذ هذا وقتًا، وبشكل متوازٍ، اقترح عليّ العمل في إحدى الجامعات الخاصة.
بعد يومين، هبطت في مطار الملكة علياء، في عمان، وخوفي من انتظار اللقاء بالعاهل الأردني خوفان، خوف الغد وخوف البارحة. المتنبي انتظر كثيرًا عظامَ زمانه، رَدَّ الاعتبار له، إجلالَهُم لأعمالِ حياته. أما أنا، فرائحة القيء ستطاردني في كل مكان. رائحة القيء، رائحة القيء، رائحة القيء...
































القسم الثالث













الفصل الأول

ضقت ذِرْعًا عن المقام في عمان بعد كل هذا الانتظار، أكبر انتظار في زمننا، لم أضطر إلى البقاء، ولم أعد قادرًا على الانتظار أكثر. أبو عبد الله العوفي لا يبدي أقل اهتمام باستقبالي، وبُعدي عن زوجتي وبناتي يثقل قلبي، والأصدقاء الذين ظننت واهمًا أنهم لم يتبدلوا، لم يتبدلوا فقط بل وتبددوا أشتاتًا، وذهبوا أيادي سبأ، لا يسعفهم الحاضر، ولا الماضي يمكنه جمعهم، أو الحيلولة دون استفحال تبددهم.
ولما كنت لا أريد العودة إلى مدريد خائب الأمل، كما حصل معي في المرة السابقة، ارتأيت العمل، كما اقترح رشاد رشد الآشي، في إحدى الجامعات، وممارسة مهنة التلهي بالوقت، بانتظار أن أجد حلاً لمشاكلي. عندما أطلعت بسام المنصوري على ما ارتأيت، قال لي: "هكذا ستشغل نفسك بالمحاضرات، ولن تتركنا بين عشية وضحاها، البقاء في هذا البلد يحتاج إلى الاعتصام بالصبر، أما لو كنت من الذين يفقدون شجاعتهم بسرعة، فلن تصيب نيلاً."
بانتظار تعييني، كان بسام المنصوري يأخذني في الليل إلى أماكن يبحث فيها عن كل شيء مرغوب فيه أو فيه غرابة: تلفون ريفي لأوائل ملوك الصحراء، علبة سجائر صدفية لنابليون الصغير، ضفيرة شعر طبيعي لأميرة ملكية. كان كاتب الافتتاحية الشهير يريد تسكين أكبر الأشواق لهيبًا: الشوق إلى حبيبته المسافرة. كنا نجوب شوارع جبل الحسين طولاً وعرضًا، ونتأنى قرب بسطات الباعة العراقيين التي تضم شتى أنواع الغرائب والعجائب. كان رفيقي يتناولها واحدة واحدة، يقلب فيها النظر بأصابع راجفة، ويسأل عن سعرها، ثم يتركها، ويذهب بعينيه الوثابتين إلى بسطة أخرى.
كان الباعة يعرفونه جيدًا، فهذا قد باعه سُوار ساعة من حراشف سمك دجلة، وذاك موسى سومرية، وذلك عقربًا محنطًا من عهد الكلدانيين. كانوا ينادونه باسمه، وهو يسأل بأُلْفة إذا كانوا يخبئون شيئًا فريدًا، حديثًا أم قديمًا، فيُخرج واحد من جيبه كاميرا يابانية صغيرة ملفوفة بمنديل حريري، ويريه ثانٍ ساعة رملية يدعي أنها أول ساعة صنعت في زمن هارون الرشيد، ويعرض ثالث مخطوطًا أصفر مهترئًا يقول إن بين دفتيه التوراة بخط سيدنا موسى. لم أُوْلِ كل هذه الأشياء اهتمامًا كبيرًا كما أًوْلَيْت أصابع بسام المنصوري التي كانت تجسها، ونظرته الوثابة إليها. كنت أراه كالطائر الدوري المنقب عن خطرٍ وهميّ محدقٍ به من كل جانب، وكانت تنطبق حركة عينيه ويديه في لحظة إرجاعها، لتتوقد عيناه بحثًا عن شيء آخر أكثر غرابة. حتى أن أصابعه كانت تتوقد، فألمح على أطرافها هذه المتعة المتخيلة التي اسمها الرغبة.
في إحدى الليالي، أراد بسام المنصوري الذهاب بي إلى "البلد"، إلى مكان لم أر مثله في عمان. كان يريد أن يقتل الوقت بعيدًا عن حبيبته، فلم يكن يحتمل غيابها. أخذنا سيارة أجرة، والهواء يهب علينا عليلاً. لم تزل الدكاكين مفتوحة، وواجهاتها مضيئة. أوضح صاحبي أن كل شيء مفتوح لأنه يوم الخميس، ومن العادة أن يسهر الناس إلى ساعة متأخرة، بما أن الجمعة يوم عطلة. أوقف سيارة الأجرة في وسط البلد، نقد السائق، وذهب ليبرغي يد نظارته. انشغل النظاراتي بشغله، وبسام المنصوري بتجريب بعض النظارات الشمسية. أعجبته واحدة من توقيع كريستيان ديور، لكنها كانت كبيرة قليلاً، فوعده صاحب المحل بإحضار واحدة غدًا أو بعد غد.
مشينا على الأرصفة المتصدعة، في قلب الدمار العادي، وقطعنا الشارع الرئيسي إلى الجامع الكبير.
- منذ متى لم تأت هنا؟ سألني بسام المنصوري.
- منذ قرون، أجبت.
ذاب صديقي في جمهرة من الجمهرات الصغيرة الضائعة في الزوايا المعتمة لساحة الجامع الكبير. لمحت أيادي البائعين العراقيين، وهم يخرجون من جيوبهم أشياء ملفوفة بعناية: ساعات "رادو" تتوهج في العتمة. سمعت بسام المنصوري يسأل عن أسعارها، وهو يعاينها بأصابع الفضول، وبعينيه المتوقدتين بالرغبة.
- خمسمائة دينار، هذا كثير! قلت له.
- في الدكاكين، رد، تشتريها بالآلاف، لكنك لست متأكدًا إذا كانت مقلدة أو إذا كانت بعض قطعها مبدلة.
- وكيف تعرف؟
- لن أعرف.
- لا أحد يعرف في عمان.
- بلى.
- لا أحد يهمه أن يعرف.
- الآلهة.
- الآلهة على صور ناسها.
فجأة، طلعت علينا صرخة من زقاق يحاذي الجامع الكبير:
- الله ورشا على الأعداء! (*رشأ ولد الظبية يقال رشا دون الهمزة وهو اسم للبنات في الأردن).
برز وجه الصارخ الأعمى من الظلام، وهو يطرق الأرض بعصاه، ويسحب من ورائه ساقه المشلولة. ملامحه انطفأت، شعره ارمدّ، غزير حول رأسه، أصلع في وسطه. كان بطول قامتي، وإحساس لدي بمعرفته، بمشابهته.
- هذا الرجل يشبهني، همست في أذن صديقي.
لكنه لم يبال بما أقول له: طلب من بائع أن يجد له ساعة ذات أوصاف معينة. ومن جديد، عاد الرجل يصرخ:
- الله ورشا على الأعداء!
أخذ الباعة يسخرون به، والبائع الذي كان يساومه بسام المنصوري ضربه بقدمه، فانفجروا كلهم ضاحكين.
- إنه مجنون رشا، قال بسام المنصوري، وهو يسحبني من ذراعي.
- كيف؟!
- يسمونه مجنون رشا، فتاة بعمر بناته، أحبها حبًا جنونيًا حتى أفقده عقله!
صعب عليّ حاله، وأثارني سلوك الآخرين معه. بحثت عنه بعينيّ، غير أني لم أجده، كان قد اختفى. سمعت صرخته المختنقة تأتي من زقاق مظلم. تركنا ساحة الجامع الكبير لنعود إلى الرصيف المقابل. حدثني بسام المنصوري عن الرجل العجوز:
- هل تعرف أنه كان طبيبًا فلكيًا وعالمًا؟
- وكيف استطاع الوصول إلى هذا الوضع؟
ابتسم ابتسامة سوداء ساخرة، مريرة، قبل أن يقول:
- الحب!
شردت بأفكاري، عدت أرى اللطخات الدموية للحب، ثمرة عهد التفتيش قبل مئات السنين، وعهد "الجنت" العسكرية ليس ببعيد، عاد إلى ذاكرتي الوجهان العاشقان لآميديه وإيزابيل عندما كانا في الإيسكوريال، ولم أزل أسمع ضحكاتهما.
- لقد عاني كثيرًا، المسكين!
لم يجب بسام المنصوري، دخل دكانًا للأحذية القديمة الكثيرة المعلقة في كل مكان، في كل مكان، فوق رؤوسنا وعلى الجدران، في كل مكان، في كل مكان، أحذية قديمة معلقة في كل مكان، في كل مكان، في كل مكان. راح يأخذها واحدة واحدة، ويقلّبها من كل النواحي، وأنا أشعر بالضيق أكثر فأكثر. فكرت فجأة في أبي بكر الآشي: وإذا كان هو؟ إذا كان الحب مدمرًا إلى هذه الدرجة؟ وحبه لامرأة حاكم مراكش، ماذا أصبح؟ ولماذا يلح أخوه، رشاد رشد، على فقدان كل أثر له؟ تركت صاحبي في دكان مجاورة، يتضمخ بعشرات العطور، على رسغه، وظاهر يده، وباطن يده، على ذراعيه، على كميه، على منديله. حملت كل الأسئلة وكل الأحاسيس في العالم، وذهبت أقتفي آثار الأعمى المجنون، من الجهة التي غاب فيها. كنت خائفًا من أن يكون كل هذا سرابًا، كما كان في الصحراء، ذلك اليوم. ربما كنت أحلم مفتوح العينين، ورغم ذلك، كنت مصممًا على الذهاب بحثًا عنه في الزقاق الدامس.
ترددت عند فوهته، وأنا أشعر بالتهديد المحوّم جناحَ صقرٍ في الصمت المطلق، في تلك الساعة المتأخرة. دفعني أحدهم بكتفه، وسألني عمن أبحث في دنيا العجب.
- الأعمى المجنون الذي ذهب من هنا، قلت.
دفعنى الرجل إلى ناحية أشد ظلمة، وهمس في أذني:
- اترك ملائكة هذا المكان يمضون بسلام!
جعل الخوف قلبي يخفق خفق الأشرعة في فم الريح، أردت مغادرة المكان، إلا أن الرجل أمسكني من ذراعي.
- إذا أردت أن تعرف شيئًا عن مجنونك، قال، اشتر مني هذا!
ووضع في يدي شيئًا جسسته بأصابعي، كان ساعة. حك الرجل عود ثقاب أسقط في هالته كالقديس وجهه، فعرفت فيه البائع الذي كان بسام المنصوري يساومه، هو الذي ضرب العاشق المجنون بقدمه.
- هل أعجبتك، الساعة؟ سألني.
- أعجبتني، قلت، حتى وأنا لم أنظر إليها.
شدني التعبير الشيطاني لوجهه، قال لي ثمنها، فنقدته. استعد للانسحاب، فقبضت عليه من خناقه.
- إذا لم تحك لي عن مجنون رشا شيئَا، كما وعدتني، هددتُ، سلمتك للشرطة.
تردد، ولهث:
- من الأفضل ألا أخبرك بشيء، قال بنصف صوت، وإلا جلبتَ إلى نفسك المتاعب.
- قل لي كل شيء، المتاعب، سأعرف كيف أواجهها.
تردد من جديد، ودلى لسانه ككلب ظامئ.
- مجنون رشا لا يوجد، إنه بدعة، كذبة وقحة، باح لي. هذا الرجل رجل مباحث، لو أردت أن تعرف، وهو مجنون وعاشق مثلما أنا شجاع وشريف.
واختفى.
ناديته، فلم يجب. أخذت أخبط القدم في الظلام، يمنة فيسرة ثم يمنة. طرقت بابًا، فانفتح. اتجهت إلى ضوء يتسلل من نافذة في الوجه المقابل. لم يكن أحد هناك. كانت هناك ضفدعة تنظر إليّ بعينيها الجاحظتين. بعد قليل، فتحت فمها، وخرج منه رأس كما يخرج من مَهْبِل. تلاه جذع، فبطن، ثم الجسد كله، فإذا بالرجل النصاب أمامي. وهو يراني متجمدًا من الارتعاب أمام هذه الظواهر فوق العادية، قهقه. طلبتُ منه إيقاف لعبة الغميضة معي، فقال ليس كل هذا غير سحر، يختفي من ورائه العالم العلامة أبو بكر الآشي، أخو الجن.
- إذن هو، صحت.
- في هذا المكان، هو ومجنون رشا شخصان مختلفان، وفي غير هذا المكان من الممكن ألا يكونا غير شخص واحد.
لاحظ حيرتي، فسارع إلى سؤالي:
- أيهما تريد أن ترى؟
- أريد أن أرى أبا بكر، وأن أكلمه.
- تعال!
سار، فسرتُ. دخل، فدخلتُ من ثقب في جدار يؤدي إلى حديقة فيها شجرٌ فضيّ، يأتلق.
- اذهب إلى آخر شجرة هناك، وانتظر مقدمه، قال لي الرجل الغريب.
ذهبتُ، وانتظرتُ مقدم أبي بكر حتى غفوت. رأيته، عندئذ، في منامي، وهو يرصد الأفلاك، وقربه فتاة صهباء أجمل من بدر، يقبلها من فترة إلى أخرى، ويعود، بعد ذلك، إلى راصدته. جس ناظوره بيد يمنى انقطعت سبابتها، وبدعوة من حركة أصابعه الأربع، اقتربت منه أسأله عن قصته التي يحكي فيها كل الناس. نفى أن تكون له قصة، وراح يقبل الفتاة الصهباء.
- لو لي قصة، قال، لهي قصتي مع الجمال! وهذه الفتاة هي الجمال. ولو لي جنون، لهو قصتي مع الفِلاكة! وهذه الأفلاك هي الجنون.
أخذ مني الساعة التي اشتريتها من الرجل الغريب، وحطمها.
عندما فتحت عينيّ، وجدتني مع الفتاة الصهباء، فلم أمسك نفسي عن طبع قبلة على شفتيها. في اللحظة ذاتها، تحولت إلى ضفدعة راحت تنطنط وتنقنق.
سمعت الرجل الغريب، وهو يقهقه من ورائي.
- هل لم أزل أحلم؟ سألت.
- لا، أكد. أبو بكر الآشي ينتظرك تحت، ليحدثك عن مجنون رشا.
أشار إلى درج تحت أرضي، أخذني من ذراعي، وجعلني أنزل من أمامه.











الفصل الثاني

نزلت تحت الأرض بصحبة الرجل الغريب، فوجدت أناسًا يسيرون إلى الوراء، ويحكون عن المستقبل. كان يقودهم رجل بهي الطلعة، لم أعرفه بلا لحية.
- ها هو أبو عبد الله العوفي، قال لي الرجل الغريب، وها هم أفراد حاشيته. أرغب في البصق على وجوههم المحتقرة!
لم أعرف أحدًا، كانت وجوههم القبيحة غريبة عني. لم يتأخر الملك عن الجلوس بعيدًا، وعن النظر إلى السماء، بانتظار حمامة يعتبرها مسحورة. واصل أفراد حاشيته السير القهقرى، في ظل الكاردينال السابق ريفيرا، الشيطان منمسخًا ذي القرنين الذهبيين. كان يقهقه بلا صوت، بينما هم لا يتوقفون عن الحكي عن المستقبل، وعن التضحيات التي يقدمها غيرهم. كانوا يريدون استعادة وادي عربة بثمن هذه التضحيات، ليتقاسموا الأراضي والمياه.
دفع الشيطان الفتاة الصهباء البدر أمامه، وبضربة سيف قطع حلمتها. قدمها لرجال القصر على طبق من فضة، فخبطوا كفًا بكف.
- هذه أراضيكم ومياهكم، قال لهم.
من ثدي الفتاة الدامي، انبثق فوج من الحمائم البيضاء بمناقير حمراء، عمل نصابو البلاط كل ما بوسعهم على ألا يراها الملك. ألهوه بطائر ليس حمامًا وليس غرابًا، ادعوا أنه منبئ بالملذات، فابتسم العاهل من الهناءة. كانت فرصتي للتحدث معه، لكن الرجل الغريب قال لي إن رجاله سيمنعونني من الاقتراب منه، ورجاني تأجيل الأمر إلى ما بعد، لما يسير أفراد الحاشية كما يجدر بهم السير، في ظل ملاك الخير، ظل أبي بكر الآشي. نزل بي طابقًا ثانيًا تحت الأرض، فوجدتُني أمام بسام المنصوري، وهو يبكي.
- لماذا تبكي، سألته.
- لأني أضعت الطريق إلى مجنون رشا، همهم.
- ولكنه الطريق.
التفتُ إلى الرجل الغريب كي يؤكد كلامي لصديقي، كان قد اختفى، فقال لي المنصوري:
- أردت أن أسأله عن سر هذه الرغبة في الحبيبة التي لا يمكننا احتواءها، هل بسبب هذه الرغبة أم بسبب إرادة تدمير نفسه غدا مجنونًا؟ أين هو؟ أين حبيبتي؟
أردت أن أقول له إنها في سفر، فأضاف، وقد أصابه السُّعْر:
- عندما تجلس على ركبتيّ، تحولني الرغبة إلى كلب، فأنبح كالمسعور.
أخذ ينبح بكل قواه، وينمسخ كلبًا. خرج من جسد الكلب ذئب راح يعوي، واللعاب يسيل من شِدقيه. جمعتُ صديقي بين ذراعيّ لأهدئه، فغدا وادعًا كطفل.
- عدلت عن قصدي، قال، وهو يخرج حمامة محنطة من جيبه، لن أذهب بحثًا عن الأعمى المجنون، سأصعد لأرى أبا عبد الله العوفي، فأطلب منه هذه الحمامة العمونية بقرار ملكي، لأني أريد حصتي من الحلمة. أنا الرجل الوحيد في هذا البلد، الحاكم الذي يستأهله.
- لتنال حصتك، قلت له، عليك أن تسير القهقرى.
- سأسير القهقرى.
- ظننت أنك تهرب من السلطة.
- هربت من السلطة، كرهت السلطة، فهرب الكل مني، وكرهني الكل. إن لم تكن لك سلطة لا أحد يعتبرك. في هذا البلد، أريد أن أكون معززًا مكرمًا، أريد أن تكون لي إمكانيات من يفعل كل شيء.
أمسكني من ذراعي، وجذبني إلى ابتسامته الساخرة الفاجعة.
- أول شيء سأفعله، قال، الانتقام. سأنتقم من كل الذين أساؤوا إلينا، أنا وأنت ومجنون رشا. سأنتقم من رشا نفسها، وأذلها. سأجعلها تنفق عند قدمي مجنونها. سأنتقم من كل الذين لديهم ثلاث أربع سيارات بينما، أنا، لا توجد غير قدميّ لي. سأنتقم من كل الذين لهم ثلاث أربع نساء بينما، أنا، لا توجد غير امرأة واحدة لي. سأنفخ انتقامي ريحًا صرصرًا شمالاً وجنوبًا، غربًا وشرقًا، خاصة شرقًا، كي أقتلع الشجر من جذوره، وأهدم على العالمين الجدران. سأدك البيوت على رؤوس ساكنيها، وأدفنهم تحت أنقاضها، ثم سأعود منتصرًا، معوَّضًا نفسيًا، سيدًا لجنس جديد من الكائنات، كلها كلاب أو ذئاب!
صعد إلى أعلى بينما نزلت إلى أسفل، إلى الطابق التحت الأرضي الثالث. اخترقت ردهة واسعة نصف معتمة، تفوح منها رائحة عطنة لدباغة وبول وياسمين. سددت أنفي، وأنا أسعل بقوة قوية. أَخَذَتِ الأرض تهتز، وقطيع من الظباء يركض بسرعة سريعة. استبد بي الخوف، ولم أعد أريد رؤية أبي بكر ولا مجنون رشا ولا أحد، كان من الجنون الذهاب إلى أبعد.
اعترض الرجل الغريب طريقي.
- لقد وصلت إلى آخر طبقات الأرض، قال لي، فلنرَ الآن أبا بكر الآشي وإلا فلا!
نفخ، فأخذتُ أرفرف كالنحلة، ثم أسقط على شجرة فيها باب مفتوح انغلق من ورائي. تقدمت من شخص قابع في الظلال، فوجدتني أمام الرجل الأعمى.
- نعم، أنا أبو بكر الآشي، قال لي.
أشار إليّ بالجلوس، فجلست، وأنا أنظر إلى السبابة المقطوعة ليده اليمنى.
- أعرف أنك تنظر إلى سبابتي، تابع، فليست لي غير هذه الإصبع المقطوعة من علامة تثبت من أنا، بعد أن كنت شخصًا آخر من قبل.
ثم دمدم:
- الله ورشا على الأعداء!
انتظرت أن يبدأ قصته، لكنه صفق مرتين، فحضرت الفتاة الصهباء البدر، وهي تحمل مرآة طلب مني النظر إلى نفسي فيها. رأيت الضرير فيها، وهو ينظر إليّ منها.
- سبابتي المقطوعة حقيقتي الوحيدة، قال، لهذا أنا لا أستر ذهبي وذهابي ومذهبي، وسأحكي لك قصتي التي لا يعرفها أحد سواي.
طبع قبلة على ثغر الفتاة، وأشار إليها بالذهاب. أمر الرجل الغريب الذي حضر فجأة، أن يضيء بالكواكب والنجوم سقفًا لنا، ثم أخذ الكلام:
- كما تعرف، كنت في زماني سيدًا من أسياد شبه جزيرة إيبيريا، قربني الملك حفيد ألفونس منه، واقترح عليّ منصب طبيبه الشخصي. أحبني، وأعزني، ولم يترك شيئًا يعز عليّ. ماتت ابنته الكبرى الأميرة إيزابيل بغلطتي، ثم مات الدون آميديه، طالبك المقدام. بيد أن العاهل برأني، فكل واحد منا يكتب قدره بيده. تركني أذهب إلى حب العقل في مراكش، حب ولد ميتًا، فتهيأت للذهاب إلى حب الوَجْد في عمان، أنا العاشق الخالد، وأنا أعلم أن حياتي ستنقلب رأسًا على عقب انقلاب السماء على الأرض. ومع ذلك، وعدت الأفلاك بأن أحتفظ بالوفاء لها، بالحب كما لم يحب أحد من قبلي أو من بعدي. رأيت هذا الحب على صورة مدينة تحترق، وعشته على صورتي، على عمري، مع كل حماسة الشاب آميديه. وهذا، لأني كنت وارثه الوحيد، ولكن لأني كنت غيورًا منه كذلك. فاجعته الكبرى، كان بالإمكان أن تكون فاجعتي، كانت الشيء الوحيد الذي فاتني.
دون أن أرميني ريشةً في الريح، شددت رحالي، وجئت عمان كما أجيء إحدى بناتي. مثلك ليس لي غير البنات، ومثلك لي ثلاث. بفضلهن، كما يقول الحديث، الجنة في السماء جنتنا بعد جهنم الغبراء. غير أن هذه المدينة المحترقة التي أردت إنقاذها لم تُرِدْ إنقاذي، فأحظى بما يرضيني. مات حاكم مراكش، والتهمت النار المدينة الهاشمية. بدافع حبي لها، عزمت على البقاء فيها، مهما كان حجم الدخان في سمائها، لأني، على عكس أخي رشاد رشد، كنت أحب عمان كمن يحب قبيلته.
بانتظار وعدي المشؤوم للأفلاك، كانت دروس العلوم أُلْهِيَة لإزجاء الوقت. غدوت أستاذًا في الجامعة، وأخذت أعمل ليل نهار لعمان، بكثير من التفاني.
جاءت زوجتي وبناتي لِيَرَيْنَنِي، إلا أنهن ما لبثن أن عدن إلى مدريد. لم تشأ زوجتي السماع بعمان، فهي تجد المدينة كريهة، والمدينة بالفعل كريهة. حظيرة خنازير مريبة، ومع ذلك، كنت أحب عمان. مستنقع تماسيح رهيبة، ومع ذلك، كنت أحب عمان. امرأة عاشرها كل الرجال، ومع ذلك، كنت أحب عمان.
قاومت عمان بالبقاء فيها، بعيدًا عن زوجتي وبناتي. أعدت طباعة كتبي العلمية، رواياتي، ودواوين شعري. حي بن يقظان لم يكن بينها، كنت أزمع على إعادة كتابته حسب صورتي اليوم، بعيدًا عن الحكاية الهندية أو الموريسكية. تحدثنا في ذلك، أتذكر؟ لم يكن من قرائي أحد غير طلابي وأصدقائي القليلين، ولم يكن من مطالعاتي شيء غير قراءاتي ومن تأملاتي إلا نجماتي. كنت أقضي الساعات الطوال، وأنا أتأمل حركة النجوم، وأفكر أن الكواكب تتابع طريقها أيضًا في مدارات الكتب، خاصة "المدنسة" منها، الروائع التي كُتبت، والتي لم تعثر عليها، أو الروائع التي ستكتب، ولن تعثر عليها. كانت السياسة تقوم كالطود في وجهي، هربت منها في مدريد، في مراكش، في عمان، وكان الساسة، في انحطاطهم، يبسطون عند قدميّ كل أصول التقزز والنفور. لم أكن أعلم أن السياسة أقوى من كل شيء، تهرب منها فتتبعك، وتطاردك على الرغم من كل شيء، سر القلوب هي، وسر الطبيعة.
تعب جسدي كثيرًا، وتعبت روحي. كان عليّ أن أنقذ أحدهما، الروح أو الجسد. في شبه جزيرة إيبيريا، كنت الجسد الذي لا يكل، الروح التي للانفصال ليست قابلة. لم تكن هناك مشكلة للحل، كنت أعلم بتأثير الأفلاك على البشر، وعلى النمل، ولكن هنا، في عمان، كيّفت الأفلاك على هواي، وابتكرت الصدفة. لم يكن كل شيء لا إراديًا. صنعت الصدفة التي أريد، وبشكل من الأشكال، حققت إرادتي على الأفلاك. كنت أقوم بالخطوة الأولى، ثم أتركني أتورط. أتساقط كالتفاح. هذا هو ما يدعى بالورطة. ومع ذلك، كانت أجمل ورطة وقعت فيها طوال حياتي، هاوية ألقيتني فيها، وأضعتني بِلّذَّة.
هل تعتقد أنني نادم على ما جرى بيني وبين رشا؟ المحبون لا يندمون على شيء، حتى أتعس لحظاتهم. أنا أحقد عليّ فقط لأني لم أعرف كيف أحبها كما عرف آميديه كيف يحب إيزابيل. هذا أيضًا جزء من سحر تعاستي.
حدثني صديق عن كتاب يمكن أن يثير اهتمامي، إلا أنه أعاره لسكرتيرة نائب رئيس الجامعة المكلف بالمعلوماتية. كلمني عنها، وكأني كنت أعرفها، ومع ذلك، كنت أعلّم منذ عدة شهور، ولم أنتبه إليها. مضت الأيام، ونسيت الكتاب تمامًا، وقارئة الطابق الأول أيضًا، حتى اليوم الذي مات فيه كاتبه، وبدأ الناس كعادتهم يحكون عنه. ركّبت رقم هاتف الفتاة، وسمعت صوتها لأول مرة. تغلغل صوتها في دماغي، وانتشر. حاولت أن أتذكر وجهها، فلم أفلح. استجرت بالنسيان، وطلبت الكتاب.
- لم أنته بعد من قراءته، أجابت.
- ليس الأمر ملحًا، سآخذه عندما تنهينه.
أقفلت لأستقبل طالبًا، وبعد عدة لحظات، كانت هناك، في مكتبي. كيف دخلت؟ كيف وصلت بتلك السرعة؟ كيف أضاءت جسدها في الفضاء؟ لم أكن أرى ابتسامتها. كانت تبتسم بعينيها. لم أستطع تحديد لونهما الجارح كالشفرة. جَرَحَ لونهما لي الذاكرة، وأهرق دم الصور التي كنت أكدسها فيها.
تذكرتها، بعد ذلك، وهي تبتسم لي من وراء الحاسوب، وهي تحييني في الممر، وهي تختطف مني الانتباه في دغل عدم الانتباه، حتى أنني تذكرتها لما رأيتها لأول مرة: كان البرد قد دق عمان كالسكين في قلبها، أشرت إلى نافذة مكتبها، وقلت لها: "حل البرد دفعة واحدة!" نظرت إلى النافذة، ونظرت إليّ، لفت صدرها بذراعيها، وابتسمت لي.
- ما كان عليك أن تُحضري الكتاب في الحال، قلت لها، أنت لم تكملي بعد قراءته.
- لم تبق لي سوى عدة صفحات، قالت وهي تمر بإصبعها على الصفحات الأخيرة، أتركه لك.
وذهبت.
بعد ذهابها، سقط المكتب في الظلام.
في الليل، قرأت عشر صفحات من الكتاب، فلم يعجبني. كان الكاتب يكتب مذكراته بعضلاته! كان يريد أن يثبت للقارئ أنه قوي الذاكرة رغم كبر سنه، سن ينط عن الثمانين.
في اليوم التالي، تلفنت لها:
- أعيد لك الكتاب، كارثة هو!
أبديت لها ملاحظتي حول الأسلوب. كان لها رأي مخالف، مما فعل أثرًا غير متوقع فيّ. زيادة على ذلك، صوتها الذي كان ينتشر في دماغي. قالت لي فجأة إنها تقرأ إحدى رواياتي، وتجدها صعبة. عارضتني مرة أخرى. ربما لم أكن أكتب إلا لها دون أن أعرف، وها هي تجعلني أشك في ريشتي، في فلسفتي، في اختياري الحياتي. كان من واجبي إقناعها، أو، بكل بساطة، تبديل طريقتي في الكتابة.
- هي كالنجوم المتمردة، قلت لها، علينا التعمق فيها لنتذوق جمالها. تقدمي في قراءتك قليلاً، وستشدك الحبكة.
أكدت لي محاولاتها العديدة، بلا جدوى.
جرى كل شيء في لحظة واحدة، قبل أن تدق الساعة دقاتها الاثنتي عشرة لمنتصف النهار. في لحظة واحدة، أحببتها بقدر خمسين عامًا. هل تعرف لماذا؟ لابتسامتها. ولخيط الشمس الخجول الذي كان يتسلل من نافذة الممر. ربما أيضًا لحقل أخضر في شتاء عينيها، أخضر أو أزرق، حقل أزرق في شتاء أبيض.
ثم، نسيتها. انشغلت عنها بأشياء أخرى، أشياء كثيرة. حماسة أنهكتها الحماسة. بدأت أكره عمان بالفعل. شتاؤها لم يكن شتاء. كان مأساة. جوها، على العموم، كان كارثة. نسيت حب حبيبتي بكرهِ كلِّ شيء. هل كان ذلك لأحبها، فيما بعد، أعظم حب؟ كنت أكره كل مكان أذهب إليه، كل وجه أصادفه، حتى ولو كان جميلاً. فكرت في ترك العاصمة الهاشمية والعودة إلى بلدي، هناك حيث وُلدت، وحيث كبرت مع النجوم التي لم تتوقف عن الكبر منذ ملايين السنين. إسبانيا بلدي، وستبقى، رغم جوها الساخن جدًا في الصيف، إنها المكان الألطف في الكون، لأني فيه أستلذ بوجودي. في عمان، كان لدي إحساس بعدم وجودي. كنت تعبًا. كان جسدي يشكو الهزال، وكنت كنيزك خارج مداره بين المريخ وزحل. زيادة على ذلك، لم تعد روحي تعاشر النجوم. كانت النجوم تهرب منها، وكان يُتْعِبُ روحي البحث عنها خلف الغمام. ورشا، أينها في كل هذا؟
كان باستطاعة جسدي الاستراحة، الاستلقاء على أي جسد آخر، فهل سترتاح روحي؟ هذا لا يعني أنني لم أشته جسد رشا. ما كان لي إلا أن أحبه. تمنيت لو يسمح لي هذا الجسد بالاتحاد اتحاد الأجساد السماوية، عندما تكفهر الغيوم أو تحرد النجوم على سمائي.
أثارت اهتمامي حين اهتمامها بكتبي، وأيقظت كل ما كان نائمًا فيّ. استثارت كل فضول شبابي، وولّدت فيّ شعورًا لذيذًا غريبًا: شعور البراءة المذنبة.
ترددت، يا أخي، في البداية كثيرًا! كنت خائفًا من البراءة، فعزمت على أن أكون مذنبًا. أردتُ أن تكونَ المتعةَ وراحةَ جسدٍ متعب. لم أكن أعلم أنها قررت شيئًا آخر بلا علمي. كتبي التي كنت أزمع تقديمها لها بقيت خلال أسبوعين أو ثلاثة بعيدًا عن ملامساتها، عن نظراتها. ثم، قدمتها لأخرى. بفعلي ذاك، كنت على وشك أن أدفن قصة حب مبرحة، أن أوفر العذاب على جيل بأكمله، أن أعارض خضوع النساء. الخضوع مشتهى، والخنوع مبتغى، وخنق التفاح على خدود هذه المخلوقات الناعمة أجمل من كل القبلات.
سالت الدموع على خدي أبي بكر، فرفرف الرجل الغريب بجناحي الملاك، وجاء يمسح له عينيه.
- لست أنا الذي يبكي، قال، ولكن التي في عينيّ.
لم أفهم مدلول جملته، وتركته يتابع قصته:
- في ظلال الممر الخفيفة، وأنا غارق في أفكاري، رأيت شيئًا حسبته طائر الروح-الضياء. كان ابتسامتها. خَفَقَتِ الفكرة التالية بقوةِ خفقِ قلبي: هذه المرأة ستكون سر حياتي.
ذهبت باتجاهها، وكل حواسي يقظة. كآميديه، كانت بداية سقوطي. سقوط متصاعد، بداية النهاية، النهاية المتناهية. بدأتُ التحليق في العلياء، وعزمت على الذهاب إلى أبعد الآفاق.
كما طلبتُ منها، حاولتِ التقدم في قراءة روايتي، دون أن تصل إلى ذلك، ولم تفهم سببًا.
- كل شيء يبدأ بعدم الفهم، قلت لها.
لم أكن أفهم شيئًا، أنا أيضًا، من قصتها التي بدأتُ قراءتها. كانت هي الكتاب، الذي تحت ناظري، وعلى عكسها، أردت أن أقرأه، وأن أعيد قراءته، حتى أفهمه، أستوعبه، أليس الكتاب جسدًا يقضم كتفاحة؟
وبينما كانت تواصل الابتسام لي في الظلال الخفيفة، لم تكن لي سوى رغبة واحدة، اجتياح العالم. بسبب الظلال أم شفتيها؟ في القصر المدريدي، لم يكن هناك أقل ظل. لم تكن النساء تضن عليّ بابتساماتهن، ولكنهن نادرًا ما كن بهذا السخاء. لم أكن أنظر إليهن بشوق نظرتي إليها، لأنني لم أكن نفسي، لم يكن وقت لي، لم أكن أستعد للموت، لأن نيزكي سقط في مكان آخر، ووجودي لم يبدأ بعد.
تخيلتها ترتعش كجناح طائر لا رأس ولا جسد له، جناح فقط معلق على خيط، وهو يبتسم لي بلا توقف. فجأة، غدت ابتسامتها رغبة. لم تكن بريئة، ولم تكن مذنبة. كانت رغبتي أكثر من رغبتها، منعكسة عن شفتيها، وأنا على وشك أن يخونني الطبيب الذائع الصيت الذي كنته، ثقل هيبتي، نور فلسفتي. كان العاشق الذي باستطاعتي أن أكونه يحميني من كل حقيقة أخرى. كان الوهم الحقيقي الوحيد الذي أردته عندما قلت لها:
- سأشرح لك كل شيء.
وافقت.
- سآتيك بآخر، كتابي الأخير، عنوانه "مدريد".
رحبت.
- للنجوم البارقة على شفتيك، سأكون الليل!
عندما عادت إلى مكتبها، أرخى الليل سدوله في وضح النهار.
مضت لحظة. استعدت ابتسامتها، صورتها. كنت مشغوفًا بالصور. كانت الصور حياتي. بلا صور، لم يكن لحياتي معنى. ذكرتني صورتها بصورة أخرى تركتها في مدريد. صورة فتاة تحمل الاسم نفسه، جعلت منها بطلة روايتي. كانت مآل الصورة. كانت أيضًا الملهمة، المهلكة. يعني شيئًا آخر غير المرأة، غير الصورة. كانت خارقة، ولكن امرأة بأتم معنى الكلمة، لتغدو عادية. كانت طريقها معارضة للطريق التي استعارها بطلي "الحي". هل تكون طريق رشا هي نفسها؟ ذابت صورتها في صورة مدريد. شابة، مدريد كانت حبي الوحيد. ولأجلها، كنت على وشك أن أقطع الوريد! كان مصيري التمرد على مصير "الحي". رشا. تلك الفتاة ذات ثغر التوت وعيني اليشب اللازوردي: توت، يشب، وحزن. كل ذلك الجمال كان حزينًا بطبيعته. غدوت حزينًا. هل كانت حزني؟ كل ذلك الجمال كان يعلم بمأساتي قبلي. غدت حزينة. هل كنت حزنها؟ كنت أجهل أن للتوت قلبًا، لليشب عاطفة، للحزن عقلاً.
في اليوم التالي، ناديتها لأعطيها "مدريد"، فجاءت إلى مكتبي، وبقيت واقفة في الضوء. انعكس الضوء في مرايا اليشب، أنضَجَ توتَ ثغرِهَا الأحمر، وأججَ حزنَ بشرتِهَا البيضاء. كانت تلك صورة أخرى، أجمل من الأولى. غير أني كنت قد تعلقت بالأولى، بصورة مدريد، المدينة-العاشقة، بالتوت، باليشب، وبالحزن. حزن ابتسامة مذنبة، وَشَى بها الضوء. لهذا السبب، عزمت على الاحتفاظ بالصورة الأولى. كانت طريقتي في التعلق بها: أردت اكتشاف دلالة ابتسامتها، معرفة سرها، أسرارها. تخيلت أني شاطرٌ في معرفة مدارات الأجرام، وأشطرُ في سماءِ كونِ العيون. اعتقدت أني تجاوزت السن كثيرًا لأقطع دغل المالنخوليا الذي عبرته منذ عقود. اشترطت على نفسي ألا أكبر بعد اليوم في العينين اللتين لا تنامان في الليل وهما تحلمان. وبعد ذلك، بعد ذلك، اكتشفت دلالة الدموع أقوى اكتشاف، فقد أسالت ابتسامة رشا، بعد ذلك، من عينيّ، أمرّ الدموع، وغدوت أعمى، أرمل الوقت، بعد أن كنت الزوج الوفيّ لفضاءات الكون.
لماذا لم تقتلني تلك السيارة المسرعة وأنا أقطع الطريق في جبل الحسين؟ كنت على موعد مع بسام المنصوري لا يعرفه أحد سوانا، لكن يدًا سحرية دفعتني بعيدًا عن مسار الماكينة الجهنمية في اللحظة الأخيرة. لم يحضر بسام المنصوري إلى موعدنا، ولم أول الحادث اهتمامُا كبيرًا.








الفصل الثالث

- وأنا أنتظر الباص الذاهب إلى الجامعة، في ساحة العبدلي، ساحة الجمود والخلود، لمحت رشا، وهي تحاول الاختباء مني. استغربت حركتها، واستهجنت سلوكها. ذهبت إلى المكان الذي كانت فيه، فلم أجدها. وأنا أبحث بعينيّ عنها بين الأشياء والناس، والأشياء كالناس في ساحة العبدلي، لا قيمة لها، رأيتها، وهي تمتطي سيارة أجرة، فامتطيت سيارة أجرة مثلها، ولحقت بها. قطعنا عمان من طرفها إلى طرفها، كما لو كنا نقطع جسدًا ميتًا، بكف مفتوحة على السماء. غادرتِ التاكسي في المكان المدعو تحت السيل، واختفت في غرائبه. غرائب آدمية تثير الحواس أكثر ما تثير، وتطرح الكثير من الأسئلة. رأيت في جوف القنطرة جثثًا تحللت، بانت منها عظام هياكلها وجماجمها، وشاهدت من المعاقين من فقد ذراعه أو ساقه، من اعوج فكه أو كتفه، من يزحف على الأربع أو يسكن في الثقوب. انحنيت على بعض المرضى لأنظر في عيونها أو في حلوقها، ولأحسب عدد دقات قلوبها أو عضات نهودها. كل هذا كان جزءًا من تجاربي المتأخرة، وبالتالي لا فائدة منها، ما بعد المعرفة، وقد اكتملت المعرفة. جاءت بعض الكلاب الجائعة، وراحت تقطع بأنيابها ما تبقى من لحم الجثث، وتأكل بنهم. لم تشدني تجربة الحيوان أكثر، على الرغم من ثرائها، وذهبت أطرق الباب الذي دخلت منه رشا. فتح لي أعرج، لم يكن يعرفني، فقلت له "أخو الجن". وفي الحال، جعلني أدخل، وهو يبتسم لي. خصني بطاولة قرب منصة الرقص، وجاءني بقنينة شمبانيا. كل سياسيي البلد كانوا هناك، من أصغرهم إلى أصغرهم، وكلهم كانوا يحكمون من هناك. تنفذ العاهرات ما يأمرون، وهن يغبن تحت الطاولات، فلا تُسمع سوى التأوهات. جاءني مخنث قدم نفسه لي قائلاً إن اسمه "الفزاع"، وهو مستعد لتقديم أية خدمة لي. لمسني من فخذي، فأزحت يده، وسألته عن رشا. لم يبد عليه أنه يعرفها، قلت تلك الفتاة التي دخلت منذ قليل. قال إنها راقصة العلبة، وإن اسمها ريم، كل يوم تبدل اسمًا. وهو يملأ كأسي، اشتعلت الأضواء على جسدها شبه العاري، ووجهها شبه المغطى. أخذت ترقص دون موسيقى تصاحبها، ترقص وتتلوى، كالحية. وصلتني لهثاتها، فجف حلقي، وشعرت بأنفاسها على عنقي. شعرها يكاد يلاعب شعري، وجسدها يكاد يلامس جسدي. مددت يدي لأرفع عن وجهها الخمار، ولأعرفها لأجهلها. كنت أعرفها ولا أعرفها، وكنت أجهلها ولا أجهلها. أفلتت من يدي، وذهبت إلى طاولة أخرى، فأخرى، فأخرى، وحكام البلد يملأون صدرها بالأوراق النقدية.
أول ما وصلت الجامعة، طلبتها على الهاتف، كانت في مكتبها. وأنا أبحث عن التخفيف من استغرابي، شكوت الشتاء والبرد. لطمأنة الذات. كان أول إحساس نسعى إليه بعد أن نعيش من الغرابة ما عشت من الغرابة، فأرادت البدء بالأخذ قبل العطاء، وأكثر ما كنت أحتاج إليه العطاء.
- أحب المطر، قالت.
- أحب المطر، أنا كذلك، ولكني أكره البرد، خاصة برد عمان.
قالت لي إنها قرأت "مدريد"، وهو كتاب "رومانسي". لفظت هذه الكلمة بنعومة مثيرة إثارة نهد عارٍ، بإثارة ناعمة نعومة ساق غافٍ. بدا لي نثر بريتون كرماد الطبيعة، أشعار آراغون كأطلال العاطفة، وأناشيد لوركا كأشرعة الكآبة. أحسستني أتحرق شوقًا إلى الاحتراق، ولم تكن حرارة صوتها سوى بداية لتفجر البركان، المكان الزمني للكتابة.
- سأجيء إلى مكتبك لأحكي عن كتابك، قالت لي.
- مكتبي ليس مكانًا للحكي مع زملائي الذين يعملون فيه وطلابي الذين يمرون غالبًا لرؤيتي.
اقترحتُ عليها أن أذهب إلى مكتبها، بعد آخر محاضرة.
كانت تنتظرني في الممر، على كتفيها شال أحمر، والأحمر نار تلتهم الأسود، وشعرها شلالٌ يصرخُ على ظهرها.
أشارت إليّ بيدها، فابتسمت لها. دخلت مكتبها، وجلست غير بعيد عنها. لعنت الباب الذي تركته مفتوحًا، والعالم الذي يراقبنا. كان موعدي الأول معها بشكل من الأشكال، وكان لدي الحقُّ بالتصرفِ كعاشقٍ قادمٍ لحبٍ ضائعٍ في ماضيّ. حب جميل! حب جميل فاجعيّ!
- في اللحظة التي دخلتُ فيها مكتبك، قلت لها، كان لدي شعور بحية تلدغني.
- ما هي علاقاتك بالحيايا؟ سألتني، وهي تبتسم ابتسامة صغيرة، كتبك مليئة بها.
- علاقات عميقة جدًا، قديمة جدًا، ولكن تلك التي نظرت إليّ شَزْرًا قبل أن أدخل مكتبك أفظع الحيايا.
- اطمئن بالاً! أنا لا شيء يجمع بيني وهذا العالم الغامض المترصد لكل شيء. عندما أغلق عليّ باب مكتبي، أبتعد عن الكل، وأتخيل نفسي في جزيرة مهجورة.
أخبرتني بأن مديرها مسافر في أمريكا، وكل شيء واقف بانتظار عودته. ليس لهذا السبب يحسدها زملاؤها، لا يطيقون أن يروها تقرأ، يريدون أن تعمل كمحكوم عليه بالأشغال الشاقة. تخيلتُنِي فيها مطرودًا، متروكًا. أردت أن أقول لها كل شيء إلا عدم الجهل، كل شيء إلا عدم العزلة. أردت أن أبوح لها بأنني سأكون لها الجزيرة المهجورة. كنت أسمعها. سألتني إذا ما كنت صديقًا لفلان أو علان، فسألتها بدوري إذا ما حاولوا معها. لم تحر جوابًا. شكت مديرها السابق، فلمّحْتُ إلى محاولته معها. لم تعط جوابًا قاطعًا.
- أعز زميلاتي تقول بأنني لطيفة كثيرًا، أضافت. وحثتني على أن أكون صعبة المِراس مثلها، لنشكل زوجًا من جهنم!
- عسى الله ألا يعيدوك مريضة!
- هددتُ بالاستقالة! لعلمك أنا لست لطيفة إلى هذا الحد، لي طبيعة قتالية: قلت لهم أن يتركوني وشأني طارقة الباب في وجوههم. الآن يقولون عني لئيمة.
- بالأحرى رقيقة، عطوفة!
لم تقل شيئًا آخر، بقيت تفكر في أمرها. في تلك اللحظة، لم أكن أعلم أن كل ما قالت كان بمثابة تحذير من كل التباس بين حب وحقد. لم أعر ذلك أي اهتمام، أردتها حسب الصورة التي صنعتها في نفسي، وتلك الحاجة إلى التخفيف عني تعود من جديد.
- أما أنا، فقد أعادوني مريضًا بالفعل!
- مم تشكو؟
أخذت ألعنهم، كان موقفًا لواحد ضعيف أمام أحاسيسه. ابتسمَتْ. لم أكن أعلم إذا ما كانت تضحك من ضعفي أم من قوتي الزائفة. لعنتُ عمان. ابتسمَتْ أكثر. اعترفتُ بأني أريد السفر عما قريب. ابتسمَتْ أكثر فأكثر. لم يكن باستطاعتها قول كلمة واحدة، تعليق واحد، كانت تبتسم بسخاء، بسناء.
في الأخير، تَعِبَتْ من الابتسام شفتاها، أعلمتني أنها في أصلها من فاس، وأن جدودها تركوا الأندلس إلى المدينة الإدريسية قبل أن يهاجروا إلى المشرق. أبوها يعمل في البورصة، وأمها في البيت. أعلمتني كذلك أن أختها الكبيرة عروسٌ تزوجت من شرق أردني بعد رفضٍ من أبويها دام ست سنين.
إنذارٌ آخرُ فاتني. خلال لحظة، ظننت أني فهمت أن الأخت الكبرى حصلت على ما تريد لعنادها وإخلاصها للرجل الذي أحبته.
عائلتها، لم يكن يهمني أمرها، أوديسة أجدادها كذلك. عدت إليها. كانت هي مركز اهتمامي. سألتها إذا ما كانت تتكلم الإسبانية، لم تكن تعرف سوى "اسمي رشا".
- إنها اللغة الوحيدة التي أتمنى تعلمها، أضافت، ومدريد، المدينة الوحيدة التي أحب زيارتها.
صمتت، قبل أن تقول:
- شيء طبيعي عندما أفكر بأصلي الأندلسي البعيد، ولكن، خصوصًا، بفضل عرس الدم للوركا!
لم أفكر في هذا الأصل الذي كان بالإمكان أن يجمع روحينا في مكان ما من الماضي، كان كل انتباهي منكبًا على لوركا الذي خانني دون أن يعلم، أو، إن شئتَ، الذي خنته، "كالحي" الذي خان هذا الشاعر الملعون قبلي. كنت أعيش حبي المستحيل على طريقتي، كنت أعيشه بهبل، وكنت مبسوطًا مني. كنت أخون مشاعري، سبب وجودي، دمي. لم أكن أرى نزيف الكلمات على فمها.
- سأعود إليها في الصيف، تعالي معي، رميتُ.
- آه! لو كان ذلك يتوقف عليّ، تنهدتْ.
فكرت في والديها القاسيين، وليس لحظة واحدة في المطب الذي يتوقف عليه كل كياني، كل وجودي. حرضتُها على التمرد، فوافقت. اقترحت عليها العمل معًا، فقبلت. تحطيم كل الأبواب، فابتسمت. دعونها إلى اكتشاف العالم، وفي الواقع، كنت أدعو نفسي إلى كل ما كنت أرغب في فعله، منذ موت حاكم مراكش، مع زوجته الجميلة. كانت رغبة يثيرها الموت والحب لم أُوَفِّهَا. في داخلي، كان هناك شخص بعمرها يبحث عن امتلاكها بأي ثمن. بالمقابل، فكرة الملهمة للعجوز الذي هو أنا كانت تتسلط عليّ بقوة أكثر من أي وقت آخر. طلبتها أن تكونها. ضاعت في أفكارها، ثم تكلمت عن "مدريد"، بطلتي، ملهمتي الماضية. أبدت دهشتها من الكلمات التي وصفتها بها، وتكلمت عن أسلوبي: أسلوب ألف ليلة وليلة مع شيء إضافي.
- بعدما قرأت مدريد، همهمتْ، محاولاتي في الكتابة لم تعد ذات أهمية.
ضَحِكَتْ.
كنتُ على وشك الغوص في وحل الحب حتى رأسي.
- قبل أن أعرفكَ، قالت، وهي تخفض عينيها، كنت أقول لنفسي إنك تلبس كالإسبان، لم أكن أعرف أنك كنت تعيش في مدريد.
رَفَعَتْ رأسها، ورمتني بنظرة ملأى بالإعجاب. لأجل هذه النظرة، هذه السهام، لهذا اللون الأخضر أو الأزرق، أجرؤ على القيام بما كنت أعتقد باستحالته. كان عليّ أن أكون على مستوى هذه النظرة الاستثنائية. سألتها إذا ما كان لديها الوقت لنلتقي خارج العمل.
- كما ترى، ليس عندي وقت. لكني لم آخذ عطلةً العامَ الماضي، سآخذ أسبوعًا من الأسابيع الأربعة.
لم أقل شيئًا. كان كل شيء واضحًا. كانت تريد أن تعيش المغامرة معي. مغامرتي. مغامرة بدأت في وادي آش، وستنتهي في وادي عربة، قرب البتراء، مدينة الحجر الورديّ.
- كم أنت هادئ، أطرتني.
- هادئ، أنا؟
ابتسمتُ.
ابتسمتْ.
كنت سعيدًا. رأيتها سعيدة، هي كذلك، مع سحاب من الحزن. كانت لها عينان رماديتان.
في اليوم التالي، كان اليوم غير اليوم. لم أتأمل نفسي في مرآة منذ زمن طويل. لم تكن عندي مرآة. كانت عندي قطعة في الحمام. قبل ذلك، كنت أنظر إلى وجهي كما لو كان لشخص آخر. في ذلك اليوم، الوجه الذي كنت أنظر إليه كان وجهي. اكتشفته من عيني حبيبتي ساميًا. بحثت عن محراث الزمن في التجاعيد الخفيفة عند زوايا عينيّ. حزرت توقد الذهن في هذه الجبهة العريضة مشعلاً الأسود في نظرتي. لأخفي صلعي المتزايد، فكرت في زرع شعر عند عودتي إلى مدريد. فكرت أيضًا في ممارسة بعض التمارين الرياضية، والمشي ساعة أو ساعتين كل يوم. لم أكن عجوزًا، كنت مغرمًا. كبطلي الشاب، الحي، أردت أن أكون جميلاً وفي أحسن حالة لأجلها. لم أكن أريد الفشل معها. لم أتوقع الفشل باكرًا. بيد أن شعورًا لديّ كان يقول بحدث جسيم. لم يكن شَعري المرمد، كانت أفكاري. كان قلبي مفعمًا بالحب ورأسي بالرعب. جرف الضوء نجومي، الفرح، وفضاءاتها العتمة، الحزن.
تحضيري "لامتحان" الحب كان يتطلب الذهاب عند الحلاق، القاعدة التي تكوّن الشكل، والشخص، والكون. نظرت إلى نفسي في المرآة الكبيرة، وابتسمت لها، لشبابي العائد، للحي، لآميديه، لإيزابيل. عدت بعد ذلك إلى بيتي دون أن تمحي صورتها من عينيّ، كانت عينيّ، الصورة الأولى، الصورة الأخيرة. كانت الصورة. سأخرج إلى دخولي في الصورة لأقيم بين ألوانها، لكن محاضرتي كانت عند نهاية ما بعد الظهيرة، فقرأت قليلاً، وأنا أراها في كل صفحة. أقفلت الكتاب، وأخذت أحلم يقظًا. سلوك فقدته منذ عقود. الإنسان لا يتغير، عاداته. ارتديت أجمل ثيابي، وغادرت إلى الجامعة. كان عليّ أن أرى أولاً مدير القسم. لما خرجت من المكتب، لم آخذ مفتاحي. كان في المكتب زميل، ولم أكن لأتأخر كثيرًا. غير أن لقائي كان طويلاً، أكثر من ساعة استمر لقائي. عجلت ذهابي إلى مكتبها، فوجدته مغلقًا. هل غادرت؟ بكل الخيبة في العالم، كنت على وشك العودة إلى مكتبي، عندما انفتح بابها بسحر ساحر، وخرجت منه زميلتها التي حدثَتْنِي أمس عنها.
- رشا تصلي، قالت.
لم أنتظر أن تكون هنا، لم أنتظر أن تكون في المصلى.
- فلتتلفن لي حال انتهائها، قلت لها.
ابتسمت ابتسامة ضالعة.
عندما عدت إلى مكتبي، كان زميلي قد غادر، وكان مفتاحي في الداخل. كان عليها أن تكلمني، وأنا، كنت هناك، كالحاوي! لم يكن مع السكرتيرة مفتاح ثانٍ، اتصلت بحارس الباب الرئيسي ليوقف زميلي، ويأخذ مفتاحه. كنت أشيط تلهفًا. رشا ستتلفن. كنت أميد يأسًا. خيبة، غباء، تلهف، ويأس فوق كل هذا. تلفنتْ، وغادرتْ ما في شك. عندما أحضروا لي مفتاح زميلي، لم أشعر بأقل متعة. فتحت الباب فتحي لعلبة إسبانية-موريسكية محكمة الإغلاق. كنت حزينًا بمرارة، مريرًا بأمر السفرجل. لم أعد الشاب، الجميل، الأنيق. أحسست بي مصطنعًا. جلست، وبقيت بلا حراك. غفوت، وغرقت شيئًا فشيئًا في حلم: أعطيت رشا كل مفاتيح قصر ملوك المور في غرناطة، قصر الحمراء، كلها، ما عدا واحد، مفتاح سرتي. علقته على خاصرتي قائلاً لها: "حذار! إذا لمست هذا المفتاح، وقعت مصيبة. سأقدمه لك عندما تلدين بناتنا الثلاث."
فتحت رشا كل حجرات القصر الغرناطي واحدة واحدة، كانت هناك أربعون حجرة عجيبة الواحدة أعجب من الأخرى، كافية لإرواء ظمأ كل فضوليي العالم، وليس رشا. في ليلة، وأنا أنام، أشعلت شمعة، وأخذت المفتاح المحرم. فتحت باب سرتي، لتجد نفسها أمام درج نزلته، ومنه إلى مدينة الناس فيها يستعدون للاحتفال بمولد بناتي: النجار ينجر الأَسِرَّة، والمنجد ينجد الفراش، والخياط يخيط الثياب، الدهان يدهن الجدران، الصائغ يصوغ الحِلى، الكاسر يكسر اللوز، الطاحن يطحن القمح، الحاكي يحكي للورد... كلما مضت بواحد منهم، كانت تسمعه يقول: "هذه هي التي نكثت الوعد والتي ستدفع الثمن بالدمع!"
مضى الوقت كلمح البصر، فبزغت الشمس. أخذت تركض، وصعدت الدرج نحو باب سرتي، لكنها، وهي تدير المفتاح في قفله، سقطت الشمعة على بطني، وأحرقتني. صرخت من الألم منها ومن الغضب عليها، وطردتها عاجزًا عن معاقبتها. لقد دمرت سعادتنا. بقيتُ على حالي أتعذب هكذا بين الحياة والموت عذاب الملعونين.
فجأة، فتحتُ عينيّ. كانت هناك، واقفة أمامي، في قلب مكتبي، وشفتا التوت تدعواني، وعينا الحقل الأزرق الأخضر تنادياني. هزت كل كياني. فتنني جمالها الحَيَيّ الفاجر، القدسي الدنس. خلتها في ثياب الصلاة، جميلة كملاك الشهوات. كانت على مرمى يدي، فاشتقت كثيرًا لمدريد. تقدمت خطوة، وها هي مدريد تأتيني. ليس فقط مدريد، ولكن فاس أيضًا، ومراكش، وغرناطة الخائنة. بسرعة، حكيت لها قصة المفتاح. ابتسمت. بسذاجة، وضعت إصبعًا على رأسي: حصد الحلاق كل شيء! كان حبي سذاجة العظام، وحيلة الصغار الذين أبقوا على السذاجة. عدت إلى الحادث غير المتوقع للمفتاح بحثًا عن خاتمة. لو أعطتني رقم هاتفها الشخصي لكلمتها. أعطتني إياه. أردت أن أعرف إذا ما طلبت عطلتها.
- طلبتُ، قالت.
- وماذا ستفعلين؟ قلت بسذاجة وبالقدر ذاته بثقل.
- الكل يسألني نفس السؤال.
كانت تبحث عن مخرج. عطلتها كانت لنمضيها معًا، فسمعت نفسي أقول:
- اتركيني أفعل.
وفي الحال:
- كما تشاء!
سأعمل لنا برنامجًا بعيدًا عن أن يكون مضجرًا، كانت موافقة. نظرت إليها مرة على مرة مأسورًا: أحمر شفتيها، أسود شعرها، أزرق-أخضر عينيها، ونحت جسدها المتحرك أمامي.
كان وقت ذهابها، فذهبت، تاركة لي ظلها وعطرها والرعب الذي يلهمني إياه حبها. هذا الرعب الذي تجسد للمرة الثانية، حينما حاولوا دهسي ككلب، لولا أن أحدهم أنقذني لست أدري كيف. كانت امرأة تغطي رأسها بخمار، التفتت، لتتأكد، ربما، من أني لم أزل على قيد الحياة. هل هم عساكر مدريد؟ ولماذا أنا وكل شيء انتهى بيني وبين العاهل الإسباني؟ هل هي زوجة حاكم مراكش؟ هل هي زوجتي الناسكة؟ كل شيء ممكن في هذا العصر؟ هل هي زوجتي المدريدية؟ هل هن بناتي؟ شككت في كل من أعرف، في نفسي، في كل شيء.




















الفصل الرابع

- تلك الليلة، جاء بسام المنصوري ليراني، بصحبة صديقته. أن تكون معه، جعله محبورًا كطفل. ومع ذلك، لم يُخْفِ اضطرابه من وجوده في عمان. لا، الحب لا يبدل المكان إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. على عكس ما تقوله القصص، جبروت الحب يبقى محدودًا. وَصَفَ عمان بالمقبرة، وقارن سكانها بالموتى. وَضَعَتْ صديقته رأسها على صدره، فابتسم لها بتوله، وواصل ذمه بتهكم. كان يكره رائحتهم، خاصة رائحة المازوت التي تجتاح بيوتهم. بدا حائرًا، فسألني كيف أحتمل كوني بينهم؟ سبهم، وسب عمان، ولم يتأخر عن قول:
- نعم، هناك ناحية جميلة في هذه المدينة، محجوزة للأقوياء الذين يتقاسمون كل شيء. أنا، أيضًا، أريد نصيبي من قرص الحلوى. عليك أن تطالب بنصيبك، أنت، كذلك. نحن صُنعنا لنحكم هذا البلد.
- لا، حمدًا لله! قلت له، طلقت السياسة لأتزوج الجمال!
لم يفهمني. بدا مكروبًا، لكنه رمى صديقته بنظراتِ طائرٍ كان متيمًا، وبشَّ.
- أنا أختنق هنا، لو تعرف. رائحة البشر تخنقني. حتى الزهور لها رائحة كريهة!
نظر في عيني صديقته الخضراوين، وهشَّ.
- لولاها لمت، همهم.
لم أحك لهما عن حبي. عالَمُ النجوم عالَمٌ أناني. سأكشف عن سري في اللحظة المناسبة. سأقدمها لهما قائلاً "ها هي مليكة الأندلس!"
بدا مكروبًا من جديد، سألني كيف أوفق إلى احتمال البقاء بعيدًا عن زوجتي وبناتي. وضعني سؤاله أمام هاوية مُدَوِّخَة. دروب العواطف تتقاطع، حقًا، لكنها تبقى متمايزة. ثم قال لي:
- أنت شيء آخر. هل تعرف لماذا أصبحت كاتبًا عظيمًا بدلاً من طبيب عظيم؟ لأنك وضعت الزوجة جانبًا والأولاد لتتفرغ للكتابة، لجمال الكلمات!
لقد فهم ملاحظتي السابقة بهذا الشكل. وأنا أفكر في مشروع إعادتي لكتابة "الحي"، وجدته محقًا فيما قال. كانت رشا الشخصية البدائية لبطلي، الغزالة، وستكون المرأة، الملهمة، كمدريد، المتآمرة. أعلمني أنه في صدد كتابة قصائد جديدة: تزاعل مع صديقته من أجل باقة زهر أصفر، نادر في هذا البلد، وكتب عشر قصائد على أَثَرِ هذا الحدث دون أن يستغل كل استلهامه. دخن، وابتسم، وداعب شعر محبوبته.
- آه! كم أرغب في الرحيل. للذهاب إلى مدريد حيث الزهور الصفراء في كل مكان، في الحدائق، وفي كل مكان.
- منذ "الجنت" العسكرية، الأجانب غير مرغوب فيهم.
- أو إلى أية مدينة غربية، مع أو بلا زهور صفراء، تستقبلني.
كان محزنًا لمصيره، وهو يبتسم مُغتمًا.
- عمان تقتل الشعراء، همهم.
دعاني بسام المنصوري وصديقته إلى مطعم في الغد، أشوي فيه لحمًا بنفسي. غير أني نابتيّ، لم أعتد أكل اللحم، أتغذى بالنبات دون سواه. أحب رؤية الكليتين، شكلهما، لونهما، ملمسهما، ولا أطيق أكلهما. لا أجدهما جوهرًا لشيء، وهما باردتان، وهما ساخنتان، كالقلب، لا شيء يسكن فيهما غير الدماء. إلا أنني قبلت الدعوة، وأنا أفكر في اصطحاب رشا معي. نهض الشاعر، ونظر إلى ليل عمان من راصدتي. كانت النجوم ترصّع القبة السوداء، ولم ير أيها. أطل برأسه من النافذة، ، وكل شيء ساكن في الحي.
- هذه المدينة مقبرة، أعاد، تتحاذى على أرصفتها سيارات المرسيدس وصناديق القمامة التي يبحث فيها الناس عن شيء يأكلونه!
نظر ثلاثتنا من النافذة. كان أحدهم ينبش القمامة كمن ينبش قبرًا، مما أحزنني كثيرًا، ومحدثي يبتسم.
- أحبك عندما تكون حزينًا، قال المنصوري بفرح، عندما تكون حزينًا تشبه كامو.
- صحيح، أكدت صديقته، حزين أم غير حزين، أنت تشبه كامو.
- هذا لأني قرأت "حيه"، الغريب، عشرات المرات، علقتُ.
- لا، ليس لهذا، قال صديقي. أنا أيضًا قرأته إلى حد ظننت فيه أني كاتبه، ومع ذلك، أنا لا أشبه كامو مثلك. ربما كنتَ كامو دون أن تعلم. يمكن لكاتب أن يأخذ قصة آخر وكذلك صورته، عندما يكون أصيلاً، فالبشر ما هم سوى صور تُنسخ إلى الأبد. لهذا تتشابه أقدارنا إلى درجة تصبح فيها قدرًا واحدًا، أحدًا، فاجعيًا، الأكثر فاجعية.
- انظرا! صاحت صديقة بسام، النار!
- لو كنت مكان هذا الغريب لأشعلت النار في كل الحي وليس فقط في صناديق القمامة، قال المنصوري.
كانت رشا، هالني منظرها، كانت النار، بضوئها الثاقب، وفعلها الغالب، كانت تلتهم الليل، القبور، العالم. رحت أجري صوبها. لما وصلتُ، كان الجيران قد أطفأوا النار، والدخان يتصاعد نحو السماء. تفقدت المكان بحثًا عنها، فوجدتها، تحت عمود الكهرباء الأخير، وهي تنقل بأصابعها قبسًا منها. هل كانت في مدار لم أكتشفه أم اكتشفته؟ لحقت بها، ولهب النار التي بيدها ينكسر نحو الأرض بدلاً من اختراقه العلياء. صعدتْ درجًا في جبل القلعة، وأنا ألهث من ورائها. ومن باب في سور الديوان الملكي، دخلتْ. طرقتُهُ، ففتح الفزاع. استغرب:
- أنت!
- أنا.
- ماذا تريد؟
- ريم.
- من هي؟
- الفتاة التي أدخلتها.
- ولكنها ليست ريم.
- أريدها.
- هذه غزالة.
- أريد غزالة.
- كم تدفع؟
- لماذا؟
- لتكون لك.
- ما تشاء.
- تعال.
أدخلني، والقصر لا أحد فيه، لا نسر، لا شجرة سنديان، لا كلاب، ولا ذئاب. قرب باب المكتب الملكي توقفت.
- لا أريد أن أزعج جلالته، قلت.
- جلالته ليس هنا.
أدخلني في حجرة ملأى بالظلال، فلم ألاحظ رشا، عارية كلها، وهي تجلس على الكرسي الملكي.
- إنها لك، قال الفزاع... بعد أن تدفع.
- ولكني لا أريد...
- إذا لم تأخذها أنت أخذتها أنا.
- أريد فقط أن أرى النار إذا ما أحرقت يدها.
- تحرق النار هي ولا تحرقها النار.
رماها على مكتب الملك، وراح يضاجعها، وهي تنظر إليّ بعينيها الميتتين.
اليوم التالي، أول وصولي إلى المكتب، تلفنت لرشا. كنت سيئ المزاج لأني لم أنم جيدًا. بسام المنصوري –كما هي عادته- جعلني أفكر في المسائل الحقيقية، المسائل المتعلقة بحياتنا. غير أن مسألة واحدة كانت تشغلني بالفعل: الحب الذي تحمله أم لا تحمله رشا لي. هذا المصير الفاجعي الذي سيربطنا، أليسه سريعًا بعض الشيء؟
سألتها إذا ما نامت جيدًا، فضحكت.
- أنا، قلت لها، لم أنم جيدًا.
لم تقل شيئًا. كانت تتنفس. أحسست بدفء أنفاسها، علمًا بأننا كنا على الهاتف، بنفح أنفاسها، وكأنها تقترب لتقبيلي.
- بسام المنصوري، سمعتِ عنه، أليس كذلك؟
- الصحفي والشاعر؟
- دعاني مع صديقته إلى مطعم، هلا رغبت في المجيء؟
تغير صوتها، غدا جافًا، وبدا غريبًا دفعة واحدة. كان لأنفاسها وكلماتها فعل الصفعة عندما قالت:
- لا أستطيع.
ولأي سبب هذا التغير المفاجئ؟
- أمس، رددتُ، كنتِ موافقة على كل شيء معي، فهل هذا بسبب التزاماتك الجامعية؟
- لا.
- إذن لماذا؟
- من الصعب عليّ أن أشرح لك على الهاتف.
- آه، طيب! سأحضر إلى مكتبك على الثانية عشرة.
في الساعة المحددة، فتحت بابها، وأغلقته من ورائي.
- إذا كان على الحب أن يوجد، قلت مدفوعًا بالغضب، فبجنون، وإلا فلا حاجة إلى الجحيم!
- لا تزعل، قالت، وهي بيضاء كلها.
- إذا كان السبب الآخرين، فأنا، العالم العلامة، أهزأ من الجميع.
- ليس بسبب الآخرين.
- إذا كان السبب عمري، فاعلمي أن في داخلي شابًا بعمرك.
- ليس المقصود سنك.
- إذا كان السبب زوجتي وبناتي، فسيفهمنني بناتي عندما يكبرن، وزوجتي مسؤولة جزئيًا عما يحصل.
- ليست بناتك وزوجتك.
حيرتني:
- أما إذا كان الأمر متعلق بفارق مستوانا الثقافي، فسأجعل منك مليكتي في كل شيء.
وضعتُ على مكتبها أحد كتبي الصغيرة:
- هذا الكتاب ستتذوقينه كحبة شوكولاطة.
ابتسمتْ. انتظرتُ أن تريحني بجواب شاف، فلم ترحني بأي جواب.
- سأذهب، ستضيعين فرصتك، وسيندم الندم عليك!
منعتني من الذهاب، وطلبت مني الجلوس.
- سأحكي لكِ حكاية، قلتُ، حكاية شاعت في كل مدريد قبل حكاية آميديه وإيزابيل. إنها حكاية لفتاة لم تبلغ الخامسة عشرة، أحبت صديق أبيها، أكبر منها بأربعين عامًا، وتزوجته رغم أنف أبيها وباقي أسرتها. كانت تحبه، وصديق أبيها سيقدم لها عشر سنوات من السعادة، السنوات العشر الباقية من عمره. أي شاب باستطاعته أن يقدم عشرة أيام، فقط عشرة؟ لا أحد يستطيع أن يضمن ذلك. أنا، أعدك بتقديم عشرات السنين من السعادة. وقبل كل شيء، سأقدم لك، على طبق من ذهب، كل تجربتي. آه! كم ستكونين ثرية، أثرى امرأة أحبت في العالم! آه! كم ستكونين سنية، أسنى امرأة تغار منها النساء في الكون!
كنت أريدها بأي ثمن، فاخترعت صورة ساطعة للمستقبل. ابتسمتْ بحزن، وبعد لحظة تردد، قالت إنها كلمت أمها، حكت لها كل شيء، وهي لم تفعل ذلك إلا بإملاء من التربية القويمة التي نشأت عليها، إرث عائلي منذ قرون وقرون، منذ الأندلس. كانت دهشتي كبيرة. لم يخطر ببالي أن تبدأ علاقتي بها بِمُسارّات لأمها.
- أنا لا أرى أي مانع بإخبار أمك، قلت بنفاق، على العكس، أنا سعيد بمعرفة ذلك، ولكن علينا أن نجرب مشاعرنا أولاً.
- إنها عاداتنا وتقاليدنا، قذفتْ.
بعد قليل، أضافت:
- قلت لأمي إنك جئتني إلى مكتبي، وطلبت مني الخروج معك. هل تعرف ماذا كان ردها؟ إذا كان يريد أن يراك، فليأت إلى البيت، عندنا.
امتصني لولب العادات والتقاليد، أنا الساعي إلى عاصفة المحبين. جرفني إعصار الذهاب إلى البيت، أنا الهارب من رائحة المازوت، كما يقول بسام المنصوري، والنفاق التوافقي. راودتني فكرة حزينة، من ورائها مساعدي القديم، أنطونيو، لم أدر لماذا. كان عليه أن يحتمل أوامري، النظام القائم.
قلت لها باحتداد:
- اسمعيني جيدًا! أريد أولاً أن أحبك. كان باستطاعتي الخروج مع أية واحدة، وهن كثيرات، ولكن أنت من أريد. تركت كل شيء، القصر الملكي المدريدي، قصر الموحدين، كل قصور العالم، لتكوني لي. العلماء يقولون لا شأن للقلب في هذا، كل شيء يجري في عقل الإنسان. هرموناتي وهرموناتك تآلفت ذبذباتها المغناطيسية، لتنتج تيارًا كهربائيًا هو الحب. يمكن أن يكون الكره، ثم الحرب... في حالتنا هو الحب الذي أراه فاجعيًا، ها هو الدليل!
لم تشأ أن تفهم شيئًا:
- أنت تبالغ! لن أكون الملهمة التي تبحث عنها، لن أكون التي تريد!
تركتها مغيظًا، وصفقت الباب من ورائي.
في حلمي، حِرْتُ في أمري، فَحُرْقُ بطني ينتشر، والصديد ينهش أحشائي. وأنا بين الحياة والموت، كنت أعاني أشد معاناة. وبينا هي على السطح، فكرتْ رشا بطريقة تقضي فيها عليّ. أشارت إليها ثلاث حمامات سوداء وبيضاء وصهباء، وقالت: "لو سمعت هذه المرأة ما نقول لأنقذت زوجها الذي سيغفر لها خطأها." أصاخت رشا السمع، وهي تخفي نفسها من وراء عمود. قالت الحمامة الصهباء: "من لحمنا المطبوخ المسحوق المرهم الذي سيشفي الزوج المخدوع، ولكن هذه الغبية لا تسمعنا، ويا لحظنا..." وانفجرت الحمامات الثلاث تقهقه لما سقطت عليها رشا، وأمسكتها.
طبختها، فجذبت رائحتها الزكية ثلاثة عشاق: أسود وأبيض وأصهب. أكل كل واحد منهم حمامة، وأنا أناديها، وأسترحمها. ضحكت مني، وعانقت عشاقها واحدًا واحدًا أمامي، إلى أن فاضت روحي.
انتظرتُ أن تتصل بي رشا في اليوم التالي، لنزيل سوء التفاهم، لنواجه هذا الحلم، حلم كما يبدو يعارض عاطفتنا، عاطفة كما نرجو ألا تكون نزوة عابرة، ميلاً إلى الدعابة، أو اندفاعًا عاطفيًا. تعمدت الذهاب إلى الجامعة مبكرًا، غير أن يكون لدي ما أفعله قبل نهاية ما بعد الظهيرة. انتظرت بعناء أن يقرع الهاتف، فتراكم في نفسي نوع من العداء نحو أمها. كانت سبب هذا التغير. بالمقابل، تعلقت برشا أكثر.
في اليوم التالي لليوم التالي، لمحتها مع زميلتها، وهي تقطع ممر الطابق الأول. ذهبتْ في عطلة دون أن تودعني. لم أر في لامبالاتها شيئًا آخر غير ضغط نفسي يدفعني إلى طرق باب بيتها. لم تكن العادات والتقاليد، ومع ذلك خانقة تلك العادات والتقاليد، التي تمنعني من الإفضاء إلى رشا، كانت أمها. منعتها من التكلم معي، من رؤيتي. ربما كانت لا تريد لابنتها أن تركب ظهر مغامرة لا قوام لها، مع كهلٍ قادمٍ من إسبانيا!
قررت مقاومة أمها على طريقتي، وطريقتي كانت الكتابة. في صيغتي الجديدة لرواية حي بن يقظان، يبحث جون روبنسون عن الإفضاء إلى المعرفة الإلهية عن طريق آخر غير الحدس. وجدتُ له رشا الشرقية، أو المرأة المحرمة. بهذه الوسيلة، لن يكون باستطاعته إدراك الله إلا عبر الوهم الأنثوي. بإحلال الوهم محل الحدس، سأقلب الوضع في صالحي، فأغزو قلب رشا، الحقيقية.
انهمكت في الكتابة، لأول مرة، منذ وصولي إلى العاصمة الهاشمية. منذ شهور، وأنا أنتظر الوحي والإلهام، وها هي الكتابة تتدفق، تتفجر. عملت ليل نهار، بتفجير اللغة بالديناميت، الأساطير، القناعات. كانت رشا بطلتي وملهمتي. كتبت لها وعنها. كل سطر، أحببتها أكثر. كان حبي يكبر على الورق وفي قلبي. كنت أَغِيرُ من بطلي، جون روبنسون، "الحي" الجديد الذي لي. كنت أريد دفعه إلى الانتحار. دفعته إلى مخاطر لا تخطر على بال. عذبته في جهنم. جعلته يحب رشا حبًا بلا أمل. دمرت أمانيه، أعدمت أحلامه. جعلته يعتقد بالإفضاء إلى الله، وفي الواقع إلى ظل دامس. جعلته يفكر في التوصل إلى القادر العليّ، ولم يكن ذلك سوى جذع يابس. أنزلت به كل نوازل الأبطال الخياليين. اتهمته بكل ذنوبهم. تركته نهبًا للظنون. رميته في شباك الحب، وتدبرت أمري كي يكون جنونه سببًا في عذاب نفسي حاد. شئت له الجنون المجنون. قذفته كريشة الرسم العديمة الجدوى التي رُسمت بها "عُباد الشمس"، كالشفرة المربكة التي قُطعت بها أذن فان غوغ. رسمت له مصير ابن قحبة، وكل هذا لأجل استعادة المرأة التي اختطفها مني. هل سيتركها لي؟ هل سيقبل الاعتقاد بالوهم الذي تجسده إلى الأبد؟ والتي أحبُّها، هل كانت، منذ البداية، وهمًا بلا علمي، أو كنتُ على يقين من كونها وهمًا، وفي الوقت ذاته أرفض الاعتراف بذلك؟
ذهبت لأرى رشاد رشد، أصغر إخوتي، وحكيت له كل شيء. كان بين مصدق ومكذب. له، للمحامي الذي كانه، كان الأمر كقضية خاسرة سلفًا.
- إذا كنتَ تحبها، قال، فهذا الحب شاهدك الوحيد لإثبات حسن نيتك، فيما أنت تعلم أنه يختلف عن حب العِلم أو حب الفِلاكة أو أو حب الكتابة. هنا، أنت لست السيد لخلقِكَ ولكن بالأحرى الرقيق!
لم يسأل إذا ما كانت تحبني، كان شرقيًا حتى النخاع. لم يكن يريد أن يعرف إذا ما توقفت رشا عن حبي بعد تدخل أمها. ربما لم تحبني يومًا، أو ربما لم أفهم من العادات والتقاليد شيئًا. لم أقل لأخي إنني أشك في نفسي. تقاتلنا، أنا وجون روبنسون، للظفر بهذا الحب. كان عليّ أن أقاتل حتى النهاية. قررت، إذن، استرجاعها، على طريقتها، مهما كلف الأمر. سأتخلى عن كل ما يخص حياتي منذ نصف قرن، بما في ذلك أخلاقي الغربية، لأخوض غمار الحب على الطريقة الشرقية. كنت مشغوفًا بها. لم تكن الجذع اليابس الذي تخيله جون روبنسون ظانًا أنه الاتحاد بالله. كانت حبيبتي من لحم وعظم. كنت أعبد توت ثغرها، ليل شعرها، عندما لا تُعرف لليل الألوان: فضة القمر، اخضرار الربيع في عيني رشا، وزرقة الصيف. كل هذه الألوان الليل. لكل هذه الألوان لون واحد، قاتم.
أليسه الحب، ألا تميز بين الألوان؟
في أحد الأيام، هبط عليّ فجأة بسام المنصوري، وصديقته تتبعه، وأنا أفيض كتابة. تقاتلا أمامي، ولعن كل منهما الآخر. سلق المنصوري أباها وجدها وكل عشيرتها. أنا من كنت مستعدًا لكل شيء كي أصون عائلة رشا، ها هو ينحر أنسابه بكلام لا أجرؤ على إعادته. تبدت صديقة صديقي لصديقي كاللبؤة، مجيبةً أن كل هؤلاء الذين يسبهم، شاء أم أبى، هم فخرها، وهي لن تنسى ما قال ما بقيت على قيد الحياة.
كانت منازعة زوجين بين منازعات، ولكن تحذيرًا كذلك تناولتُهُ بلا اكتراث. كان عليّ أن أوقف كل شيء مع رشا، أن أعود إلى تصوراتي الفلسفية القديمة، أن أرجع لزوجتي، لِمَلِكِي، لبناتي، أن أرجع لنفسي. بالمقابل، تساؤلٌ بسيط من بسام المنصوري وضعني من جديد على خطي السكة الحديدية لجنوني.
- هل تعرف من هو البطل في كل هذا؟ قال متوجهًا بكلامه إليّ، الجنس!
- الجنس؟
- نعم.
- الجنس.
- هذا هو كنه علاقتنا التي تبدو من الخارج أجمل علاقة، ومن الداخل أبشعها. إنها ناحيتها البدوية التي تبرز منها!
كانت هذه الناحية البدوية الدفينة فيّ منذ الموجة الأولى للهجرة إلى الأندلس التي تنبثق، هذه الصفة الوحشية، هذه النزعة الجنسية البدائية للإنسان منذ كانت الحياة. كان الجنس بطلاً ذا وجوه متعددة للحياة بكل بساطة. هذا ما قالته الصديقة بدمعها:
- ولكنك أنت الذي يعتبر الحياة كقضيب!
بكت، وهي تقول إنها إنسانة قبل كل شيء، وكل هذا سببه الغيرة.
- إذا ما انتزعتِ الغيرة عن بسام المنصوري، قلتُ لها، لن يكون نفسه، غيرته وجوده، يحيا بفضلها، يبدع بفضلها، يكره العالم بفضلها!
مهما كان، كان عليه الاعتذار. أبوها يبقى أباها رغم كل شيء، قالت الحبيبة، بإرادته هي هنا، وإليه يعود كل الفضل. كان المنصوري يحبها، يا أخي. كان يحبها بغيرةٍ منها. تنازل، وطلب منها أن تغفر له. أحسستُ به يعتذر عن قصيدة رديئة كتبها، فأشفقت عليه أكثر من جون. أعطاها ظهره، وضع يديه على الجدار، وطلب منها الاعتذار بدوره. كان الأمر طبيعيًا لغيور. رفضتْ، ثم لإلحاحه، همهمت "أعتذر" بالإنجليزية.
- كل شيء يعود إلى نصابه، قال، وهو يرفع يديه عن الجدار، وينظر إليها بابتسامة متخمة على شفتيه. أخلاقيًا، أضاف، استعضتُ عن كل ما أسيء إليّ.
نهضت صديقته فجأة، وأرادت الذهاب. لم أفهم لماذا. ربما لأن خطيبها قال إنه تعوض أخلاقيًا، أو، ربما، بسبب ابتسامته. هددها لو ذهبت قطع كل شيء بينهما. ومع ذلك، ذهبت. غاب طويلاً مع أفكاره. كان يحبها. لم يكن يحبها عَبْرَ وهمها، هي. على حين غِرة، قال لي:
- هل تعرف لماذا أحبها؟ لأني أكره عمان. هل تعرف لماذا أكره عمان؟ لأن هذه المدينة زوَّجَتْهَا رغم أنفها من عاجز جنسيًا. مقابل ذلك، بعدما قرأتني، قررت أن تكون زوجتي. بعد ليلة لم تغف لها فيها عين، جاءتني تقول "خذني، أنا لك!" كانت تريد أن تكون ذاتها، ولكن دون أن تعلم، صنعت مني شخصًا آخر. لم أعد ذاتي. لهذا أتعلق بها، لهذا أجن بها.
لم تكن بعد حالي ورشا، غير أني، في تلك اللحظة، اتخذت قرارًا حاسمًا بألا أكون ذاتي. اتخذت هذا القرار بكل قواي. لأجلها، تخليت قبل الأوان عن كوني ذاتي. سأكون كما ترغب أن أكون. سأغدو طريقها الطويل إلى ذراعي عمان منذ مئات السنين. سأكتب على جسدها حكاية العجز المرفوض، الرغبة اللامُشبعة، والمتعة المختنقة. سيكون تعويضي الأخلاقي الوحيد.
قرار خطير، لكنه جسيم!
كان توت ثغرها وليل شعرها وحزن عينيها مصدرًا لمثل هذا القرار، آميديه أيضًا، الذي أنا وارثه. جون روبنسون كذلك، منافسي، ويأس نصف قرن قضيتها في كتابة حكايتي. أضف إلى ذلك، العمر الذي لم يعشه كامو، وعمر بطله، الغريب، لقاء اغتراب حريتي، حبًا لرشا حتى الموت.
طلب بسام المنصوري ألا أغلق الباب، فهو سيعود بمحبوبته في الحال. بعد عشر دقائق، وأنا في الصالون أمام التلفزيون، انغلق الباب، وتقدمت خطوات بحذر. عندما التفت، لم أجد أحدًا. نهضت لأرى من يكون، وإذا بأحدهم ينقض عليّ محاولاً خنقي بحبل. بعد قتال مستميت، وتحطيم كل شيء ارتطم به جسدانا، وفي اللحظة التي أيقنت فيها بألا فائدة هناك، وألا أحد باستطاعته إنقاذي، إذا بالجيران يحطمون الباب، ويضطرون المعتدي إلى إلقاء نفسه من النافذة.


الفصل الخامس

- في ساحة الجامع الكبير، أشعل الفزاع النار في أكوام الكتب المحرمة، ليزداد أنسه بها ليلاً. كانت رشا في حجابها الأسود، تصب العطر عليها، لتطفئها، وتنقذ الكلمات من مصير لم تكن تقدر على احتماله. غضب الفزاع منها، وانتهرها، لكنه لم يقدر عليها. كان عنادها من عناد الدخان، والدخان يتحرك في كل الجهات، كالأدب بين السطور، والعلم بين المدارات. كان الدخان جوهرًا من الجواهر السماوية، والنار جوهرًا من الجواهر الأرضية. حل الدخان محل الضياء، وغدا الاشتعال بطيئًا. زالت محبة الفزاع للنار، فجاء بقفص مليء بالأرانب البيضاء، راح يذبحها، ويلقيها في لهبٍ على وشكِ الانطفاء، لكن الدم الساخن أضرمه، فاختلط الدم بالعطر، لتكون النارُ أكثرَ دمارًا من أي وقت آخر. لغيظها، أخذت رشا تذبح الحيوانات البريئة، وترسلها طعامًا للسعير. تحول غيظها إلى متعة، وانتقل القتل من متعة في ذاته إلى متعة لذاته. أردتُ أن أسحبها بعيدًا عن مرامي الفزاع المفزعة، فوقف بيني وبينها كالملاك الهاشميّ.
- هي متعتها وحريتي، فاتركها لشأنها.
- تعالي، يا غزالة.
- اسمها ليس غزالة.
- الشيطان!
- اسمها ظبية.
- تعالي، يا ظبية.
- لم تنته بعد من الذبح.
- ذبح العطر؟
- ذبح كل ما له رائحة زكية في النار والعطر في النار رائحته بغية.
- سأتركها لك.
- اتركها للمستقبل.
- سأتركها.
- هكذا ستكون أختًا للحيلة.
- هكذا ستكون.
- خذ لك كتابًا إذا عنّ لك يومًا أن تمضي من هنا.
- سآخذ هذا.
- هذا الكتاب لها.
- لا تطعنيه!
- ها! ها! ها!
- لا تطعنيه! لا تطعنيه!
- ها! ها! ها!
- لا تطعنيه! لا تطعنيه! لا تطعنيه!
- ها! ها! ها!
- إنها النسخة الوحيدة الباقية من القرآن!
تشابكت أيادينا، تصارعنا، تذابحنا، والفزاع يضحك منا وعلينا. أجبرتُها على الخضوع، والآيات المطعونة تجمع ما بيننا. كانت الطريقة الوحيدة التي أعيدها فيها إلى طريق الصواب. نظرتْ إلى ظلي العملاق، وهي راكعة. كانت تنظر إليّ كإله، كقوّاد. ذرفت دموعها، ورجتني أن أرأف بها. قالت لي إنها تذرف دموعها منذ مئات الأعوام، وإنني لم أرأف بها. بحثتُ فيها عن جريمة لم ترتكبها، لأنني المجرم. كنت زمانها، وكنت مكانها، وكنت إيمانها، وأنا لهذا كنت مجرمًا. مزقتْ حجابها، وقدمت لي كتفها العارية لأقضمها، فقضمتها، ورميتها للفزاع ليقضمها، فقضمها، وذهب بها، بعد ذلك، ليبيعها للمصلين على عتبة الجامع الكبير.
بالطبع، حققت الشرطة في الحادث، محاولة سرقة حسبها، وبما أن المعتدي مات، أوقفت البحث في الأمر. لأنسى، انهمكت في كتابة جون روبنسون. في اليوم الذي انتهيت، تلفنتُ لرشا. كنتُ في مكتبة، بين رفوف الكتب والقصص اللامحرمة، وكانت الساعة تتجاوز التاسعة بقليل، الساعة التي تكون فيها كل الأمهات قد استيقظن. رفعت أمها السماعة، فطلبتُ التحدث إلى رشا. بدورها، طلبت مَنْ أكون. أعطيتها اسمي. كان باستطاعتي أن أقول لها أي اسم، فوجدتُني فظيعًا، وأحسستني مسرورًا لهذه الفظاعة. انتظرتُ إلى ما لا نهاية، ثم انقطع الخط، وكأن ذلك كان استجابة لرغبة خفية. أعدت، ومرة ثانية، وقعت على أمها. قالت لي رشا كانت نائمة، ووجب عليها أن توقظها. اعتذرتُ: ما كان عليها أن تفعل. ضحكتْ، وأعطتني إياها. صوتها أخيرًا! صوت الشبق، الغُلْمَة، الفظاعة عندما تستولي عليك، وتطحنك، فتستلم لها بِلَذة. رجوتها أن تغفر إيقاظي لها، لا بأس في ذلك، قالت، مع ضحكات جذلى. كانت المرة الأولى التي أسمعها فيها تضحك. أروع من كل ضحكات الصغار! لهذا كانت هذه الضحكات تدفعك إلى الندم، إلى فظاعة الندم، فأثملتني ضحكاتها. كانت تضحك كحقل من اللآلئ، وأنا أدفع روحي دفعًا إلى ما لا تطيق. كنت محبورًا. كنت محبورًا بفظاعة. لم يكن الحبور شهوة من شهواتي، كانت شهوتها، شهوة غير مشبعة، لهذا كانت محبورة، كنت محبورًا، كنا في تلك اللحظة الأكثر حبورًا في العالم.
لتفسر تأخرها في النهوض من الفراش، قالت إنها سهرت طوال الليل مع كتابي، كي نحكي فيه الأربعاء القادم، يوم عودتها إلى الجامعة. الأربعاء القادم لم يزل بعيدًا، وأنا كنت أبحث عن إشباع ما لا أدريه، ما هو غامض، ما لا أقصد أو أعني، إشباع شهوة تحفر في دمي، أجهلها.
- أرغب في المجيء عندك، لأشرب القهوة معك، سارعت إلى القول.
رحبت بي، ثم بعد لحظة من الصمت، بدلت رأيها. إشباع شهوة سرية، لا أعرف ما هي، ولا أهتم ماذا ستكون نتائجها. تخيلتها تعيد ما تمليه عليها أمها.
- من الأفضل أن تأتي غدًا.
- كتبت بعض الأوراق لك، عنك، أريدك أن تقرأيها.
- سأقرأها غدًا.
- ولكن كيف المجيء إلى بيتك؟
- اقترحت أن نلتقي في دوار فراس غدًا في الساعة الثالثة.
وأقفلت.
ورأسي لم يزل مفعمًا بضحكاتها، بفظاعة ضحكاتها، وأنا لهذا عرفت لأول مرة في حياتي لماذا الموسيقى ذات الزمنين كُتبت على الأوتار اللامشبعة بالرغبات، اللاملتزمة بالوقت، اللاقادرة على الصمت.
ابتسمتُ، ضحكتُ، والناس يظنون أني أبتسم لهم، وأضحك. كنت أبتسم لرشا، وأضحك لها. كنت أبتسم وأضحك لها بفظاعة. كانت رشا كل النساء اللاتي أصادفهن، كل الرجال، كل الحمام. الوحشيّ. المسالم بمخالبه الممزِّقة. فضلتُ الرجوع إلى البيت. ودونما أنتظر هبوط الليل، رصدت نجوم النهار، داعبت الأحلام. كم كانت أحلامي جميلة لأنها كانت فظيعة. وَكَمُذَنَّب ضائع، راقبت سقوط الظلام، ثم سقطت في اللامنتهى، في اللاشهوة. اللاشهوة لامنتهى، وهي لهذا تستعصي على الإشباع. لم أغمض عينيّ، ليس لموعدي معها، ولكن لأنها كانت تسهر في غرفتها مع كتبي، مع كلماتي، وعما قريب مع ظلالي. كان فظيعًا كل هذا ولذيذًا. أرادت أن ألتقيها في بيتها، وها أنا ذاهب إلى بيتها. إزاء مجتمعها، هذا يعني أني أعطي لعلاقتنا صفة رسمية.
كنت أرى الأمور هكذا، وبشكل أو بآخر، أنا ذاهب لخطبتها.
"ملهمتي،
ليس من عادتي أن أُقرئ أحدًا ما أكتبه مخطوطًا، ولكنك الاستثناء، استثنائي! كل هذه الصفحات كانت بيضاء، بفضلك لم تعد بيضاء. تحمل كلمات، الكلمات تتكلم، تُوَلّد الحياة، فهل تكونين باردة العاطفة أمام الحياة؟ هي قصتنا أرويها بشكل من الأشكال قبل أن تقع، قصة الوهم. الحقيقة مع كل ما تحمل، إزالة الوهم، هذا ما سيأتي فيما بعد، ربما مع مجيئي عندك. أردت أولاً أن أكون واثقًا من حبنا، فليكن! ها أنا أجيء عندك، كما تمنيتِ، وسنرى، هل أنت مبسوطة؟ من ناحيتي أستطيع القول إنني أحبك قبل أن أعرفك، فالنجوم الوليدة تعبدها النفوس ملايين السنين الضوئية قبل الوقت!"
في الغد، قبل مغادرتي الجامعة بقليل لموعدي المنتظر، قرع الهاتف. جاءني صوتها نائيًا كعادته ومرحًا لا كعادته. خفت من تأجيلها الموعد، وفي نفس الوقت، كان الخوف يبثني شعور من استجابت له الأقدار، على الرغم من أنني استعددت لموعدي بحرارة منذ البارحة. كان الطقس باردًا، وهي تفضل أن نلتقي قرب مدرسة سُكَيْنَة، أقرب من دوار فراس إلى بيتها. كلمتها عن مكالمتنا أمس، عن ضحكاتها. كنت صادقًا كما كان خوفي منذ قليل صادقًا. هذا لأنني تلفنت لها! اعترفتْ، قبل أن تقول: "إلى اللقاء القريب!"
مررت على الجريدة كي أعتذر عن موعد مع بسام المنصوري، فوجدت محبوبته، وهي تملأ الفضاءات الفارغة زهورًا. كان سعيدًا. عادت الأمور بينهما إلى مجاريها. كان يشعر مثلي بالفظاعة، وهو لهذا كان سعيدًا. أشار بإصبعه إلى ثيابي، إلى ثيابه، وإلى "الحديقة" حوله، وهتف: "نحن الأجمل! نحن الأروع!" وبإيماءة متقززة، أشار إلى المكاتب القريبة البعيدة: "مغفلون كلهم! دجاج!" كان كمن يلبي طلبًا من محبوبته، فلم يكن ليرى العالم دونها، ودونها العالم ليس العالم. في الممر، قلت له لدي موعد عاطفي! انحنى على ظله كمن ينحني على وهمه، ولمعت عيناه من الفرح.
- الزواج مؤسسة صُنعت لقتل الحب! تعجب قبل أن يضيف: سنضمكما إلى العصابة!
العصابة كانت هو ومحبوبته. اقترح أن يلتقي أربعتنا.
- فيما بعد، قلت له، الآن يجب أن أذهب لأحلق، وآخذ دوش.
عندما نحب، يا أخي، لا نحتاج إلى مرآة ننظر فيها إلى أنفسنا، نرانا في كل شيء، في الزجاج المصقول أو في الجلد الميت، في الخشب المُسَوَّس أو في الجدران البيضاء. كل هذا لا علاقة له بالفظاعة في شيء، بالندم ربما. بعد الحمام، حلقت للمرة الثانية في اليوم نفسه، أمام كسر المرآة الذي لدي. كسور المرايا شيء آخر، كالشهوة المتشظاة. أكلتُ لقمة، ثم ارتديت أجمل ما عندي من ثياب: قميصي الحريري، طقمي الصوفي، حذائي الجديد. تعطرت. أردت أن أكون جميلاً وأن أنشر عطري لتشمه رشا من بعيد. عطرٌ يضرمُ لا يطفئ. لمحتها على الرصيف، في البرد، بانتظاري. كانت كل ما آمل به من بريق تلك المخلوقة القادمة من ظلمات التاريخ. أشارت إليّ بيدها أول ما رأتني، فأشرتُ بيدي إلى آلاف السنين. قطعت الطريق باتجاهها، بشعور الغارق في الظلمات، شعور يراودني لأول مرة. إذا بدراجة نارية تخرج لست أدري من أين، وتنطلق باتجاهي، ولولا رشا لأردتني قتيلاً. أطلقتُ نفسًا مرتاحًا، وأردتُ أخذها بين ذراعيّ، لكني تذكرت، في اللحظة الأخيرة، أني في عمان، في قلب الظلام، وليس في مدريد أو لندن أو باريس. بقيتُ مشلولاً أمام خوفها عليّ، لا أجرؤ على عناقها. مدت يدها، وشدت على يدي، فعرفت أن للشبق ملمسًا.
- يسوقون كالمجانين هذه الأيام، قالت.
- ليست المرة الأولى، أنا معتاد، قلت.
- انتبه إلى نفسك، رجت.
- هل انتظرتِني منذ زمن طويل؟
- منذ ربع ساعة.
- في هذا البرد! ما كان عليك المجيء قبل الموعد. أبطأتُ السير من محطة الباصات حتى هنا لأصل في تمام الساعة الثالثة.
ولأول مرة في حياتي، كرهت الدقة. كان فظيعًا أن أكره الدقة، أنا العالم العلامة، لكني لم أفكر في هذا إلا فيما بعد، عندما دخلتُ في الفوضى، وغدتِ الفوضى، بالنسبة لي، عالمي الطبيعي. أعطيتها غلاف جون روبنسون.
- في الداخل توجد كلمة أريدك أن تقرأيها الآن.
أخذت تقرأ، وهي تمشي إلى جانبي. هل هي إيزابيل؟ هل هي مدريد؟ هل هي عاهرة من عاهرات تحت السيل؟ أعادت كلمتي "باردة العاطفة".
- لست باردة العاطفة، قالت مستاءة، لم أسأل عنك لأني كنت واثقة من سؤالك عني.
عندما قَرَأَتْ :"ها أنا أجيء عندك، كما تمنيتِ... هل أنت مبسوطة؟" علقت:
- طبعًا أنا مبسوطة!
ولكن عندما قرأتْ "من ناحيتي، أستطيع القول إنني أحبك قبل أن أعرفك"، نرفزتْ:
- أنتم، يا معشر الكتاب، همكم الوحيد الوقوع على ملهمة تعينكم على الكتابة.
- ليس كل هذا صحيحًا، دافعت عن نفسي بتحضّر صَبياني، والبرهان على ذلك وجودي هنا، لك وليس للملهمة.
كنتُ أقصد أني أجيء كما تتطلب العادات والتقاليد بوصفي "الخطيب" لا "الكاتب"، كانت ذريعتي أكثر مما هي عليه قناعتي. أحسست بالخجل من نفسي، كيف سأكون قادرًا على ذلك؟ المشكل أنا في نهاية المطاف، المشكل أبو بكر الآشي الآخر، الذي أتجاهل معرفتي به. لن أبقى مع أهلها سوى نصف ساعة، وبعد ذلك، سأذهب معها. غير أني لن أفلت بسهولة، أمها أعدت طعام الغداء خصيصًا لهذه المناسبة. المشكل خط حياتي الطويل، منذ عهد الموحدين. عاتبتُها لأنها لم تعلمني بذلك، تغديتُ، ولم أكن جائعًا، لم يكن جوعي لشيء آخر سواها. المشكل هذا الحلم غير الموجود.
- آه! كم أشتاق إليكِ، اعترفتُ.
استدارت نحوي.
- وأنا كذلك! قالت بنبرة تطرح المرء أرضًا.
اقتربنا من العِمارة حيث تسكن، وصبيٌ راجعٌ من المدرسة يقطع الشارع.
- ذاك أخي، قالت.
تذكرت قول جميل بثينة عن أخي حبيبته شبيب: "الحبيب أخو الحبيبة!" المشكل هذا الشعر غير الموجود، هذا النثر، هذا المني النبوي. سلمتُ عليه، وهو يبتسم لي ابتسامة كبيرة. ابتسامة طفلة. ابتسامة فظيعة. ونحن عند مدخل العِمارة، خرج ثلاثة رجال أحدهم بمثل عمري، تبادل ورشا نظرة أربكتها.
- ثلاثة طوابق على القدمين، قالت لي.
فوق، كنت ألهث. ليس لأني كنت تعبًا ولكن لأني كنت مرتعبًا. اجتزت عتبة الشقة، لأجدني أمام أمها.
حييت أمها بأكثر ما أقدر عليه من لطف: "الآن أعرف رشا تشبه من!" كان الفيروز يضرم في عينيها، كانت سعيدة على سماع أن ابنتها الصغرى تشبهها. أجلستني في الصالون، وأنا أمضي بطاولة كبيرة عليها شتى أنواع المأكولات. لم أكن أشعر بالارتعاب كما يشعر به الآخرون، لم يكن الارتعاب الذي يعرفه الناس. رأيت أبا رشا يأتي من ممر طويل، وهو يرتدي جلبابًا مغربيًا. لم يكن الارتعاب كما يوجد في القاموس. شد على يدي، واعتذر لأنه يرتدي ما يرتدي. رجتني الأم التفضل للأكل.
- سبق لي وتناولت طعام الغداء، قلت محرجًا بعض الشيء، كان على رشا أن تقول لي.
- سيستدرجك الأكل، قال الأب.
لم يكن الارتعاب كما يوجد في الذاكرة، في البطن، في المرحاض. لهذا، كان فظيعًا. لهذا، كنت مسرورًا. لم أكن لأحفل بالأطباق، أطباق لا تعد ولا تحصى، كنت مشغولاً بحضور رشا إلى جانبي، أفظع حضور في الوجود.
- هل ساعدتِ أمك في تحضير كل هذا؟ سألتها.
ابتسمت أمها:
- العطلة عطلة، وأنا، لهذا، أعددت كل شيء وحدي.
غرفت لي من طبق، وغرفت رشا لنفسها من طبق، مضيفةً عدة ملاعق تبولة. استدرتُ إليها، وعبرت عن دهشتي لقلة أكلها. كانت تأكل بصمت، حتى أنني لم أسمعها تمضغ. كنت أراها في كل مرة أدير فيها رأسي نحو أبيها. كانت تحاول بأكثر ما تقدر عليه ألا تحتك شوكتها بصحنها. وعلى أي حال، لم يكن أبوها ليعطيها الفرصة على الكلام. تكلم عن كل شيء، أكل وشغل وسياسة. وكانت أمها تبهر كلامه بتعليق صغير من وقت إلى آخر و... رشا بقيت صامتة.
امتدحتُ أمها دون أن أنجح في إنهاء صحني، وعدت إلى الصالون. عجل المضيفون بالأكل، والتحقوا بي و... رشا بقيت صامتة. أرعبني صمتها. ارتعابي هذه المرة ارتعاب كل بني البشر. أذلني الرعب البشري، فبحثتُ عنها لأُشْبع لاحاجتي إلى رعب كهذا.
جلست رشا، في البداية، على نفس الكنبة التي أجلس عليها، ثم نهضت، وجلست على كنبة إلى يميني. جلس أبوها إلى يساري، واستمر يحكي سياسة. كانت شذونة مدينة أجداده الأندلسيين، وكان يؤيد الفارس بوعمير. بالنسبة إليه، بوعمير سياسي محنك، وإن كان شديدًا أحيانًا. يد حديدية في قفاز من خراء. كانت السياسة الوحيدة الممكنة بعد ثورة أرخذونة، وخاصة بعد موت هذا "المسطول" آميديه، وإلا كانت نهاية كل أثر أندلسي في إسبانيا. لم أُدْلِ بتعليق، كنت هنا لأجل الجمال. السياسة، علقتها في الخزانة. كنت مضطرًا، يا أخي، إلى النظر إليه، وبقوة الأشياء ألا أرى رشا، ورشا تسقط في الصمت. عندما كان أبوها يتوجه بالكلام إليها، كانت تهمهم بالموافقة على الدوام، وأحمر شفتيها يشحب برعب الصمت.
قدمت لي أمها قهوة خفيفة كما كانت رغبتي، وأخذت مكانًا أمامي، وهي تضع ساقًا على ساق. جعلتني أفكر في أمي، لجمالها وقوة شخصيتها. كانت تشبه الملكات أمي. كانت الرعب. امتدحتُ القهوة، ثم رشا. هنأتُها على جمال ابنتها وحسن تربيتها، فضاعف الزهو إضرام عينيها. ورشا بقيت صامتة، ترشف قهوتها، غائبة. فجأة، تمنى لنا أبوها كل السعادة في العالم. قمة الرعب. إذن، كانت خطوبتنا موضوع حديث العائلة، ورشا بقيت صامتة. لِمَ كل هذا الصمت؟ مذ أخذتها أمها إلى جانب، سقطت في صمت مطبق، حتى أنها بقيت صامتة عندما استأذنتُ بالذهاب، ولم تلتفت إلى ما بي من رعب.
على الباب، قلت لها إنني سأهاتفها.
- ابتداء من الآن، قال الأب، هذا البيت بيتك، تأتي متى تشاء.
- آتي متى أشاء.
ورشا بقيت صامتة، صامتة، رشا بقيت صامتة.
في تلك الليلة، لم تكتحل عيني غُمْضًا. كنت أفكر في رشا، وصمتها الغريب يقض مضجعي، فلا البحر أرض ولا الشاطئ مرسى. قمت لأرى سماء عمان من راصدتي، فرأيت رشا بين النجمات. كانت صامتة. هربتُ من صمتها لأقع عليها في حلمي، صامتة، صامتة، أبدًا صامتة. لم أشأ القيام بفعل الحب معها قبل أن تبدي رغبتها في ذلك، كانت ذريعة أصابعي أمام الرعب. لم يقلقني رعبي، أقلقني صمتها. كي أدفعها إلى الكلام، ذبحتُ روحي بين يديها، فطارت حمامة صهباء. أخذتني بين ذراعيها، كما لو كان ذلك أحد واجباتها. كانت تريد إيقاف نزيف روحي، وبقينا هكذا حتى الصباح.
في الصباح، تلفنتُ لها. كانت نائمة. تلفنتُ لها بعد ساعة، لنحكي عنا، لنأكل في مطعم. فاجأتني برفضها.
- أمس، قلتُ، كل شيء جرى كما تمنت أمك، كل شيء رسمي في الوقت الحاضر. إذا أردتِ، تعالي عندي.
- أنا لا أعدك بشيء، أجابت.
- سأنتظرك.
- انتظرني خمس دقائق، إذا لم أجئ، فهذا يعني أنني لم أستطع.
انتظرتها ساعة في البرد، والبرد فظيع! منذ تلك الساعة، يا أخي، بدأ هبوطي إلى الجحيم. هل تعرف أن جحيم الحب أهلك جحيم؟ إنه جحيم قسوة الروح، آه، يا أخي! قسوة روح تلك التي ذبحتُ من أجلها روحي! روح الحجر! رمتني رشا كوطنٍ مهجور، كأرضٍ يابسة. كان برد روحها المهيمن على عمان، فأشفقتُ على المدينة. تمنيتُ لو أدفئها بتمزيق ثوبها الخفيف، بكسر خبزها الجليدي، غير أن قسوة روح رشا كانت تنعكس على كل شيء. بدت لي عمان كجسدٍ مشروخ، ومن شرخها كانت تبصق النساء. لم تكن النساء والموت غير شيء واحد، وكان للموت وقسوة روح رشا منطق واحد، قمع المرأة منذ الأزل، وفظاعة رعب البشر. من أين تجيء قسوة الروح في جسد محبوبتي، قسوة المدينة التي تدور فيها قصتي؟ كان الرشاد ينحط مع العاطفة. عاطفة حيوانية. مشاعر جليدية. ثمر الغابات السيبيرية لصحارينا. مناشير الجليد. أقبية الثلج. حقائق الوهم. المنطق المخالف للصواب، لأن القلوب المقموعة هي القلوب الدافئة، أما الأرواح المقموعة، فهي الأرواح الباغية.
هاتفتُها قبل غروب الشمس، فادعت أن كل عائلتها حولها، وأنها لا تستطيع التحدث معي بحرية.
- فقط اسمعيني، لستِ بحاجة إلى قول كلمة واحدة. أريد الزواج منك، هل تعرفين؟ إنه لقرار جسيم لشخص مثلي، ومع ذلك! امهليني قليلاً. هل تشكّين في مشاعري؟
- لا.
- إذن لا تستعجليني. اتركي لي بعض الوقت. الآن أريدك أن تحبيني، فقط أن تحبيني.
- سنتكلم في كل هذا غدًا، غدًا الأربعاء، سآتي إلى الجامعة خصيصًا لهذا.
وبترت المكالمة.

الفصل السادس

- منذ الصباح الباكر، تلفنت لها على مكتبها، فلم تكن موجودة. ذهبت إليها بعد محاضراتي، كان الباب موصدًا. في تلك اللحظة، جاءت زميلتها من آخر الممر عابسة. تشاءمت من لحظاتي القادمة، لأنها كانت تبتسم لي، مع بداية علاقتي برشا، ابتسامات مشجعة. كشرتْ، ورمتني بنظرة عدائية. على غير شعور مني، وصلني صوت من ورائي:
- ماذا تتوقع؟
التفتُ، كان الفزاع.
- ألم تفهم بعد؟
- لم أفهم.
- تعال.
جذبني من ذراعي، وعاد بي إلى مكتب رشا. فتح الباب، وأدخلني من أمامه.
- انظر.
- لا أحد هناك.
- وراء الستارة.
رفعت الستارة، فرأيت رشا وزميلتها عاريتين، وهما تقبلان بعضهما. أمام ذهولي، انفجر الفزاع ضاحكًا.
- هذه نايا، قال.
- نايا؟
- اسم شركسي يعني بنت الغزالة.
نظرت إلى أجمل عناق بين المرأتين، بضع لحظات، وأعطيتهما ظهري سأمًا من المتابعة.
- إلى أين؟ أوقفني الفزاع. أنت لم تر شيئًا.
- أنا أبحث عن رشا.
- رشا بدعة، اخترعها لك دماغك.
- رشا ليست بدعة، رشا حقيقتي.
- حقيقتك إذن زائفة.
- أقبل بها زائفة.
- وأنت؟
- أنا ماذا؟
- هل تساءلت مرة واحدة إذا ما كنتَ حقيقتها؟
- لمن؟
- لنايا.
- لرشا.
- للخراء.
تركته، وهو، من ورائي، يصرخ بغضبٍ شيطاني.
وجدت رشا تجلس أمام مكتب مديرها القديم، وكأنها على شفا جُرْفٍ هاوٍ. نظرت إليها، إلى حقيقتي الزائفة، وخمنت، وأنا أرى صف الطلاب، أنها تشرف على استقبالهم. ناديتها بعينيّ، فتابعها بنظرته زميلٌ، كانت تبتسم له، نظرة المغرم. لم يكن ينظر إلى حقيقته الزائفة، لهذا كان غيورًا، يعني عاشقًا.
- متى أستطيع أن أراكِ؟
- عند منتصف النهار.
في تمام الثانية عشرة، كانت واقفة أمام باب مكتبي، متجهمة الهيئة. كنتُ أخيبُ أملها على ما يبدو، زَيْفَهَا الحقيقي. نهضتُ، وابتعدتُ معها في الممر. كان شعاعُ شمسٍ دافئٍ يتسلل من الحديقة، ومع ذلك، لم يكن الشتاء قد انتهى، ورشا التي تحب المطر، كانت قربي متجهمة الهيئة. كان لها عبوس صديقتها، وكنت خائفًا من إرادة تأجيلها للأشياء. بالفعل، قالت إنها كتبت لي رسالة. ابتسمتُ، وأنا ثملٌ قرب شفتيها.
- رسالة حب؟
- رسالة وداع.
ترنحتُ وأنا أميد.
- لا تلعبي معي هذه اللعبة الخطرة، نبرت.
- أنا لا ألعب.
- إذن ماذا هناك؟ هل أخفتك؟
- لم تخفني.
وأفرغتْ دفعة واحدة كل ما كانت تريد قوله لي:
- قبل أن تأتي عندنا بيوم، قُرئت الفاتحة لاقتراني برجل آخر، لم أكن أعلم بنيتك على الزواج أنت مني.
كانت الكذبة مضحكة.
- حتى ولو سلمتُ بالأمر، أجبتُ، فلن أقبل. أنتِ لي، ولن تكوني لأحد غيري.
في تلك اللحظة، كانت تعابير وجهها تعكس الكره في لا وعيها، ليس كرهها لي، فأنا الآن لست الحقيقي، كرهها للعالم، والذي من هذا الكره كرهها للآخر، للحقيقي الذي خدعها.
- سأكون لغيرك، شئت أم أبيت، ولو كان الأمر بيدي لما حصل ما حصل.
تمالكتُ عن غيظي.
- من هو؟ سألتُ.
- أحد أقرباء أبي.
انفجرتُ.
- لن أقبل، سأكلم أباك.
أعطتني الرسالة.
- سأصاب بسكتة قلبية، قلت بالإسبانية.
- كيف؟
- ومستقبلنا؟
- ما الذي جعلك تفكر بأنني سأواجه مستقبلي معك؟
بدت دميمة، شيطانية، ذاتها، تلك التي تريد أن تكون فاجعتي كما تكون الفاجعة لا الفاجعة كما تكون فاجعتي.
- سأعود لنتحدث في هذا فيما بعد.
وذهبتْ.
انكسر قلبي، كنت هشًا كإبريق زجاجي، لم أكن أعلم. ذلك العظيم الجبار الذي كنته، كنته لأنني كنت كذلك في عيني أنطونيو. عدت إلى مكتبي. وضعت رسالتها أمامي. لم تكن الرسالة أنطونيو، وبقيت هكذا، أنظر إليها. لم أكن أجرؤ على قراءتها. ثم، مترددًا، فتحت الرسالة. كانت تعتبرني كاتبها المفضل، وجعلتني رمزًا. كنت لها الصديق، الأب. وختمت: "أضعُ حدًا لحبنا قبل نهاية الشتاء، كي أذكره كلما أمطرت، كلما بكت السماء!"
بدأتِ الرسالة ب "عزيزي جون روبنسون"، وأنهتها بتوقيع "عيون المها الشرقية"، الشخصيتان الرئيسيتان في نصي الجديد لحي بن يقظان.
تناولتُ الرسالة بأصابعي النَّمِلَة، وذهبت لأجد حقيقتي الزائفة. مضيت بين الطلبة دون أن أرى أحدًا. خلتهم كالهداهد، وهم يمشون على تيجانهم. حياني بعضهم، وناداني بعضهم، فلم أجب لا على بعضهم، ولا على بعضهم. كانت لحظاتي الأخيرة قبل الإعلان عن موتي. موتي لا الحقيقي ولا الزائف. موتي الصوري. يعني الأفظع. سأموت ماشيًا إلى المرأة التي أحببتها. كنت رعشة الشفة التي قالت وداعًا، وتحولت إلى مأتم.
حمدت الله أني لم أجدها في مكتبها، فلو وجدتها لقتلتها. وجدتها في مكتب مديرها القديم، وهي تثرثر مع زميلتها، مع الرجل الذي ابتسمت له كما كانت تبتسم لي، الرجل الذي تشتهيه كما كانت تشتهيني. كانت تحقد على الآخر الذي كنته، وتشتهي الآخر الذي كنته، الحقيقي الذي خذلها في ثيابي، لهذا كانت تمزح، وكأني لم أكن أكثر من نكتة. كان هناك رجال آخرون ونساء أخريات، جنودًا خلتهم كالأعمدة، المنهارة، الزاحفة بين سيقان الخيول. لم أكن أرى أحدًا آخر سواها، كالكاردينال ريفيرا كنت أراها، ككاتدرائية قشتالية، أليسها حقيقتي الزائفة؟ تقدمت منها، وهي ذاهلة. قذفتها بالرسالة مجمجمًا كلمة، كلمة واحدة: "شكرًا!"
وأنا أتركها، تذكرت، نعم، كل شيء غدا ذكرى على مثل تلك السرعة، تذكرت وجهها، رد فعلها. كانت قد التقطت الرسالة بعجلة، ولم تجد شيئًا آخر تقوله غير "عفوًا!" منافقة، جبانة، جِدّ جبانة، جد زائفة.
ماذا أقول لك، يا أخي؟ ماذا أقول لك عن هذا التغير القاسي الذي شوّشني؟ هل تكون أمها السبب، زميلتها، أم شعرها الأسود من الليل؟ هل بسبب شعورها بكونها ضحية أبدية؟ هذا الشعور بالرعب في الفراش، وهذا الفزع من الذكورة الذي يدفعها إلى إلجاء أمرها إلى أحضان أفلاطون؟ ماذا أقول لك، يا أخي، عن الحال التي وضعتُ فيها زوجتي وبناتي وفيها نفسي؟ يقال إن الضعف حب القلوب العظيمة، وأنا، أقولُ، حب القلوب الفاشلة!
فهل هو المروق الكريم؟ المجون البصير؟ أم أنه الإيغال في الافتراء والتلفيق؟
قررت أن أتحدى العالم أجمع، بدافع الزَّيْف، الاختلاق، الأفك، الكذب. بدأت، أولاً وقبل كل شيء، بأمها. كنت واثقًا من طاعة رشا لها. لم أكن الواثق بالله. كنت الواثق بالزائف. لم تكن الطاعة للقواد. كانت الطاعة للأمهات.
كانت تريدني، لكن أمها منعتها.
كانت تحبني، لكن أمها عملت كل شيء لتثنيها عن حبها.
كانت صغيرة، في الحب، وفي كل شيء.
قررت أن أجعلها تشاركني تجربتي، وأن أحميها. أن أحميها مني بالأحرى. لكني اختلقت العادي الفاجعي ولم أختر الاستثنائي الهزلي. كنت ألعوبة بين أيادٍ خفية. زائغ الفكر كنتُ، وأنا لهذا لم أكن مسؤولاً عن ذلك، وكان من واجبي ألا أستسلم أمام نوايا أمها.
كانت ليلة آرقة، لم أنم فيها لحظة واحدة. تحول الليل إلى بحر، شقتي إلى جزيرة. كانت عمان، ما وراء نافذتي، تتلاطم. تأوهتُ، طوال الليل، كنجم مختنق. أنّت معي الحيوانات، زعقت الطيور، أسلمت الأشجار الروح، عزمت الأسماك على الانتحار، وأخذ كل شيء يطفو في أحلام، كأحلام.
في الصباح الباكر، ذهبت عندها. سرت بقوة كل الشبان المقموعين، كل العشاق الملعونين، كل البسطاء المغتصَبين، كنت زائفًا حتى النخاع. تقدمت بإرادة كل آمالهم الانتحارية، كل خيباتهم العاطفية، كل صدماتهم الانفعالية، كنت كاذبًا حتى العظم. حملت فيّ كل الفروسية، كل الأصولية، كل الذكورية، كنت مزورًا حتى الرأس. رفعتُ على عضوي كل ماضي العرب المجيد، كل علمهم وأدبهم وفلسفتهم، كل حاضرهم وخلقهم وخالقهم، وفي ثقبي، حشوتُ القاهرة ودمشق وصنعاء والرباط والرياض والقدس والخرطوم وبغداد، كنت غائطيًا حتى العقل.
جاءتني كل مدن شبه الجزيرة الإيبيرية.
تبعتني كل مدن شبه الجزيرة العربية.
حضرت كل العواصم المنتصرة تهنئني أجمل تهنئة.
خَرَّ كل الشرق على قدميّ.
كان الغربُ ابنًا لي، القمر أسرتي مع زحل وباقي الكواكب.
الشمالُ والجنوبُ عاهرتان بعد أن كانا بنتين من بناتي.
عزمنا كلنا على الانكسار في زَيْفِ الحب، كان أعظمُ حبٍ زَيْفًا، أعظمُ عذابٍ كَذِبًا. عزمنا على تدشين أول قافلة للمحبين الزائفين منذ آدم وحواء، مرورًا بآميديه وإيزابيل، وانتهاء بأبي بكر الآشي ورشا الفاسية. مُسِخْنا جرذانًا سعيدة، في عالمٍ حقيقيٍّ أناسُهُ لا يفهمون معنى التعاسة. أردنا أن نقاتل في سبيل قصة حب بين جرذ وقطة، لأن الناس يحبون الكره. آهٍ، يا أخي، كم كانوا يكرهون الحب، وكم كنت أحب رشا!
أخذت تاكسي. لم أطلب من السائق أن يوطئ الراديو. أردت أن أخترق عالم الضجيج الشرقي والصخب العالم الثالثي، أن أغدو خفيفًا قبل أن أسقط عند بابها جناحًا من حديد. الحديد في بلدٍ مسترقَقٍ هو القوة والعزم، وبشكل آخر، الحقيقة عندما تغدو زَيْفًا. كانت طريقتي الوحيدة لإقناع أمها، أمي. فجأة، خفت من أمي التي لم أعد أخافها مذ بلغت السادسة عشرة، وكذلك من أمها، وكأني كنت ابنها الذي لها في الخمسين. كانت أمها زَيْفَ الكارثة. لو كانت الكارثة، وليس زَيْفَ الكارثة، لاستطعت احتواءها. كنت كثير الخوف من ملاقاتها، ذكرني هذا باللحظات التي سبقت مقابلتي للعاهل الإسباني بعد هروب صاحبة السمو الملكي الأميرة إيزابيل من الإيسكوريال، غير أني أَمَلْتُ أن تقف رشا إلى جانبي. أملٌ زائفٌ! سعيًا وراء الأمل الزائف، في تلك الساعة من الصبيحة، يجب أن تكون السنيوريتا نائمة.
تأخرت أمها عن فتح الباب، كانت تنام، هي كذلك. عادةً ما لا تبقى نائمة حتى هذا الوقت، كيلا يأكلها الصدأ. قضت المساء عند ابنتها الكبرى، وسهرت، هذا كل ما هنالك. وافقتُ على أن آخذ قهوة معها، نوع من النفخ في غير ضَرَم. كانت تريد أن تخرجني عن طوري، وكل مرة تعود فيها من المطبخ، تقفل باب الممر من ورائها. زَيْفُ الكارثة. كارثةُ الزَّيْف. ليسهما واحدًا. وضعتْ فنجان قهوة أمامي برائحة طيبة، فَعَمُقَ حبي لرشا.
- أريد التحدث إلى رشا، قلت لها، أيقظيها.
ابتسمت بعينيها.
- كلمني بدون كُلْفة، قالت، قل لي كل ما تريد قوله.
لم تدع لي الوقت لأقول أي شيء. بدأت بالحديث عن نفسها، أنها تحب الأدب و، ابنتها الصغرى طلعت عليها. رشا معجبة بالكاتب الذي كنته أكثر من العالم أو الفلكي. ربما تركتني رشا أتصور شيئًا آخر دون إرادتها. إن كان الأمر كذلك، فهي المذنبة.
- ومن ناحية أخرى، قرأنا فاتحة خطوبتها في اليوم نفسه الذي أردت فيه زيارتنا، هل تذكر؟ وهي، لهذا السبب، اقترحت عليك المجيء في اليوم التالي.
- من هو؟
ترددتْ:
- أخو صديقة طفولتها، وهو يطلب يدها منذ ستة أعوام.
- ما اسم عائلته؟
رفضت أن تقول.
- ماذا يعمل؟
لم تكن تعلم.
- كل ما أعرفه عنه أنه متخرج من فِيَنّا.
- اسمعي، الفاتحة التي قُرِئت، سنقرأها بالمقلوب، وينتهي الأمر.
ضحكتْ.
- إنها العادات والتقاليد، أبوها التزم، وما على رشا سوى الطاعة والإذعان. عندما استقبلناك، استقبلناك صديقًا. كم صديقٍ لرشا جاء عندنا! هكذا عودتها، وعودت أختها. زوجي استقبلك بصفتك عالمًا وكاتبًا معروفًا، ولو عرف أن ذلك كان لأجل الزواج منها لانصعق. الأخت الكبرى لرشا تزوجت من واحد شرق أردني بعد انتظار دام ستة أعوام، وكان ذلك صعبًا جدًا لزوجي. لو توقف ذلك فقط على زوج ابنتي لاحتفلنا بزواجها منذ زمن بعيد، لكن أهله بدو... وحوش بالفعل، أنت تعرف هذا. يا إلهي! كيف ستحتملهم؟
ثم عادت إلى رشا.
- سأدعوك إلى عرسها، قالت، وهي تبتسم من عينيها، لن تأتي، طبعًا. آه! كم أحب هذا: ندوات، محاضرات، آداب! غير أني ارتضيت بقدري. رشا أيضًا سترتضي بالقدر المكتوب لها. الحب ليس مهمًا. يأتي بعد الزواج، وإلا، يجب أن يرتضي المرء بقدره. هكذا عوملنا، وهكذا نعامل بناتنا. على كل حال، تولد البنت عندنا مع تعاستها. بحب أم بدون حب، هذا لا يبدل شيئًا.
ضحكتْ.
- ولكنك أنتَ، تابعتْ، أنت نسيج وحدك. صحيح ما يقال، الحب لا سن له! وفوق هذا، أنت تبدو أصغر من عمرك.
ضحكتْ من جديد. عملت لي قهوة ثانية، وهي تفتح وتغلق باب الممر دون توقف. خِلْتُ رشا حبيسةً في قفص، كالطائر الكسير الجناح. أغمضتُ عينيّ، وتهتُ في حلم هذياني، دام، رغم ذلك، بضع ثوان: نادتني رشا، فحاولتْ أمها بكل الوسائل أن تصرفني. تمكنتُ من الإفلات منها، وذهبتُ إلى المكان الذي تصل منه النداءات. أخذت أمها ترغي وتزبد، في الوقت الذي تطول فيه قامتها، وتبلغ طول السعلاء، بشكل مرعب، لم يكن عني غريبًا: كانت ما سمته كتب التاريخ "سعلاء الأندلس"، زوجة غول كورسيكا، التي التهمت الشبيبة التهام الحروب. وجدتُ رشا بنتًا صغيرة في قفص ذهبي، كانت تبكي، وترجوني أن أنقذها. واجهتني أمها، وهي تقهقه، ساخرة من قدراتي. ألقتني أرضًا، وطالبتني باختيار موتي: "بالحب سيكون موتك أم بالحرب؟". "بالحرب". قهقهت من جديد: "أنت، العاشق، تختار القتال؟" "أختار القتال ضدك في سبيل الفتاة التي أحب". طردتني، وقذفتني من أعلى الدرج: "كن أولاً بقواي، ثم تعال لتخوض الحرب معي". بعد ذلك، ذهبتْ تزقم الطفلة، لتسمن، ولتغدو وجبة شهية. بانتظار قدوم العاشق، أخذت السعلاء المرعبة تشحذ سكينها الكبير، كواجبٍ مقدس. وأنا أمضي من تحت نافذة رشا المغلقة، سمعت صرخاتها، فلم أفعل شيئًا!
ناديتها في الليل، صرختُ، وبكيت من الحَنَق عليها. كنت أريد لصرخاتي أن تكون صرخات كل المحبين اليائسين، ولدمعاتي دمعات كل أرامل العالم. كنت أعض مخدتي خوفًا من أن أوقظ النيام من جيراني في ساعة جِدّ متأخرة من الليل، خشيةً من أن ينهضوا من أجل المجيء لحضور موتي الصوري. كنت أراه يقترب، هذا الموت التقديري، يقترب، بتنبهٍ وافتتان. سأموت ببطء، كآميديه في الإيسكوريال، لكن رشا لم تكن قرب سريري مثلما كانت الأميرة إيزابيل قرب سرير الأرخذوني. لم أستطع أن أفعل شيئًا آخر غير تخيلها قريبة مني، كل ما كان باستطاعتي. كانت لها عينان مفتوحتان، وكان رأسها على المخدة المجاورة. كانت تشخص ببصرها إليّ، فسقط القفص عليها. شلتني هذه الرؤيا الزائفة. كانت الطبيعة معتقلة، الفضاء مقيدًا، الجمال مدنسًا. نزفت روحي.
نهضت لأكتب لها كلمة أبرر فيها كل ما كان في حقيقته زائفًا، دائمًا الزائف، أبدًا الكاذب، الزائف، الكاذب، الباطل: أني لا أستطيع إنقاذها من عادات وتقاليد بلد أنا عنه غريب، أني وحيد، لا سلطة لي ولا قوة، لا أستطيع أن أفعل شيئًا لها. أمها امرأة فذة، ولكن أنانية، الهيمنة المشخصة لسعلاء تجترئ على الزمن. رجوتها أن تفعل شيئًا لذاتها، أن تتمرد. أطنبت عليها أن تكون ذاتها، أن تتحرر كما فعلت أختها. قَبَّلْتُ يديها. أردتها أن تصرخ، نعم، أن تصرخ، أن تبرز مخالبها، أن توجعهم جدًا كيلا تتوجع أبدًا. قلت لها في الأخير الوداع، وداعًا زائفًا.
يوم السبت التالي، ذهبت مباشرة إلى مكتبها، فوجدته موصدًا. أخذتْ أسبوعًا واحدًا كعطلة، فاتجهت إلى مكتب زميلتها. لم تكن هناك، هي كذلك كانت في عطلة. حلت محلها آنسة قالت لي إن رشا مددت عطلتها ثلاثة أسابيع، فكيفني سأتعامل مع غرائزي، وأولها الغريزة الجنسية؟ ارتقى ثدي رشا عرشًا، في مملكة السماء، وأذلني إذلال الآلهة. كاد يجن جنوني. كل هذا شيء حقيقي لا يحتمل. كل نجوم العالم كانت سوداء في رأسي. كل الأفكار. كل الفرضيات. كل الافتراضات. كل هذا، ما كان أحد آخر، من ورائه، غير أمها. كانت تريدني أن أنساها. مزقت رسالتي، وكتبت أخرى، أحرض فيها رشا على التمرد، ضد أمها. كان علي أن أكتب الفاجعة على طريقتي، فأحتملها. كان علي أن أبتكر شيئًا أخر غير الصدق، فأروضه. كان علي أن أقطع حلمة الثدي، ليكون لي الثدي. قلت لها أنا لا أصدق كلمة واحدة عن خطوبتها، وهي قصة ملفقة. في المرة القادمة، فلتكذبا، هي وأمها، كذبة معقولة. كررت عليها التمرد، التعهر، الاستبداد، ولكن باستعادة صورتها، وهي حبيسة في القفص الذهبي، كنت أعرف أنني لن أستلم أي رد إيجابي، فالتمرد لم يكن التمرد، والتعهر لم يكن التعهر، والاستبداد لم يكن الاستبداد، ورشا لم تكن رشا.
التمست عون رشاد رشد، ليعطيها الرسالة. كي أشرح له حالي، نثرت بين يدي الحقيقة كما يفهمها هو، بعض الصور الزائفة كما أفهمها أنا: حبي مِجذافٌ تالفٌ، قلتُ، ورشا بحرٌ من وحل. غدا تعيسًا بقدر ما كنتُ تعيسًا، كان يحبها هو أيضًا، كان يدبج عملاً في الفلسفة عنها. سمعته يقول إن أرسطو قد كتب قبله عنها كتابًا. غدت رشا الطريق الاضطراري إلى بلوغ المعرفة. غير أنها كانت تعيش في زمن آخر، كانت تتكلم لغة أخرى. كنا نتكلم بخلجاتنا وانفعالاتنا، بينما هي، كانت تتكلم بجسدها وظلالها. كانت جناحًا كسيرًا في قفصٍ ذهبيّ، وكنتُ آملُ أن أعود معها إلى جزيرة يقلد الإنسان فيها أصوات الظباء. لهذا السبب على التحديد، كلفتُ رشاد رشد بإعطائها رسالتي.





الفصل السابع

ذهبت عند بسام المنصوري في الجريدة، مُبَلْبَلاً تمامًا، فقلق عليّ قلقًا شديدًا.
- أنت هذه الأمة التي أوقفها النفط على رأسها، وها هي تسقط.
كان سقوطي مدوخًا دوخ سقوط العرب مذ دالت علينا دولة بني العباس، سبعمائة عامٍ هناك، لا تدخل تحت الحصر، عدد لا يحصى من أسرّة الموت بين أصابع سبات الطبيعة، وصدى صهيل الخيول في الإسطبلات. كنت يأس لوركا وبيكاسو وهمنغواي. كنت توأم عنترة، وعشيق شكسبير، وبطل سرفانتس، فارس إسبانيا الحزين. كنت كل الغجر التائهين، الذين أحبوا مثلي عَبْرَ العصور، وكل الأبناء الغير الشرعيين، الذين لا يعرفون آباءهم ولا أمهاتهم، وكبروا في المواخير. كنت رائد الهوى في أمريكا لم تزل عذراء، وملك المنبوذين في الهند وباكستان والبنغال. بعد ابن سينا وابن باجه لم أكن أنا، كنت أبا بكر الآشي. كنت دَهِشًا، والحب دَهِشًا مني. هل هناك أحد يحب بقدر ما كنت أحب في تلك اللحظة؟ هل يوجد أحد في الوجود أحب مثلي وظل في الوجود حيًا؟ هل يجرؤ أحد على الجرأة كما جرؤت ويعطي للجبن معنى الجرأة؟ قبل أن أحب كنت الرجل الأقوى، واليوم، الأضعف، أصدق ما أنا عليه اليوم.
- الحب يجعلني ضعيفًا، قلت للمنصوري، أنا القَصِمُ الأكثرُ بين الرجال!
لعن الحب.
- أنت مثلي، همهم.
كان حزينًا عليّ، كان حزينًا عليه.
- أمها حرضتها عليّ، أريد أن أعرف رأيها.
- انسها! استحلفني، هذه المرأة ليست لك! ستدمرك! اكتب، حوّل المعاناة إلى كلمات.
- أريد أن أعرف أولاً ما تفكر، ما تشعر. أحبها!
- رغم كل ما نقاسي من الحب، آه، ما أجمله! عذاباته جوهر الحياة!
- لم أعد أحتمل! لم أعد أنام، لم أعد آكل، وتقريبًا لم أعد أشرب! أنا مريض! هل تعرف منذ متى وأنا على هذه الحال؟ منذ اكتشف الإنسان فيروس الغرام!
- الحب داء يتطور، من سيء إلى أسوأ.
لحظة تفكير، ثم:
- الحب يعادل الموت! أنا أقضي وقتي بانتظاره، أنتظر بلا انقطاع أن يصلني نبأ موت أحد أفراد أسرتي، بسرورٍ لا يصدق. مستعدٌ أنا للموت في سبيل المرأة التي أحب، حقًا بسرورٍ أقل، ولكن بإرادة مطلقة. نحن آخر جنود الحب على هذه الأرض، نحمل أرواحنا على أكفنا، ونذهب إلى الموت من أجل الحب طائعين. نحن انتصارات العرب القادمة!
- سأعرف ما تفكر فيه اليوم.
- اليوم كيف؟ متى؟
- رشاد رشد سيسلمها رسالة مني.
- بعد منتصف النهار؟
- قبل منتصف النهار.
حوالي الساعة الحادية عشرة، تلفنت لرشاد رشد، لأعرف أخبار رشا. لم يكن هناك. كنت قلقًا. قليلاً فيما بعد، عدت أطلبه. قيل لي إنه أطل قليلاً، ثم عاد وخرج. كان في طريقه إليها. غدت الرسالة مركز حياتي. صحن موتي. كل ما كنت أريده أن أعرف ما تشعر به، هي، وكنت آمل أن تكرهني. كان حبها أمرًا مفروغًا منه، ومع ذلك، لم يكن الأمر بيدها. أن تكرهني يعني أن نفتح صفحة جديدة، أن نرى الواقع كما سيكون. كل هذا الظلام في الضوء ليس ظلامًا، كل هذا الرغام في الحلق ليس رغامًا.
قبل أن أغادر الجامعة، قرع الهاتف. كانت هي. وصلني صوتها، حزينًا. أعلمتني أن رشاد رشد سلمها الرسالة منذ ربع ساعة و، بعجلة، أخذت تدافع عن أمها قائلةً إنني أتحامل عليها، أعاملها ظلمًا. بعد ذلك، طلبت أن أغفر لها عن كل ما حصل، وأرادت أن نكون أصدقاء.
رفضتُ. والصور في عيني تتلاشى. لم ألتقط إحداها. كانت صوري تُبصق من عين المكان، وأنا أتعالى للصعود. لم تكن أهلاً بمكانها. لم تكن خشبًا للنجوم. لم تكن بقدر انفلاق البرق. رفضتُ. والأفكار في رأسي تتداعى. لم أميز بينها. كانت أفكاري تُقاء من فم الزمان، وأنا أتداعى للسقوط. لم تكن أهلاً بزمانها. لم تكن ماسًا للغربة. لم تكن بقدر انزياح الشمس. كانت أمها التي تتكلم بلسانها. سمعت صوتها، أنفاسها. أردت خنقها. والأفكار في رأسي تتداعى. غامضة. كلها غامضة. بسببها. كلها رمادية. لم تكن سوداء أو بيضاء. كانت رمادية. غامضة. بسبب حمرة شفتيها. اتهمتها بالكذب. بسبب كحل عينيها. بسبب تطريف أظافرها. والأفكار في رأسي تتداعى. أمسكت رأسي بكلتا يديّ، وأنا أفتح عينيّ على العالم، كان العالم يتداعى، وكل شيء فيه يتساقط مع دقات الساعة، في الضياع الأبديّ.
ترنحت بين تصديق الكذب وتكذيب الصدق، فدختُ، كنت كالمعنى الذي أُفلت مني، بلا معنى كنتُ، كالكلمة الجوفاء. جرفتني دوامة الغثيان، فلم أجد شيئًا آخر غير التهكم بها وبصلواتها، الشيء الآخر الذي وجدت، غير الكذب وغير الصدق.
- عندما نصلي خمس مرات في اليوم، قلت لها، نحن لا نكذب، خوفًا من غضب الله! الصلوات التي يرضى عنها الله هي تلك التي تقام في معبد الحب. صلواتك كذبة، خطوبتك كذبة، أكبر كذبة، وأنت تقولين ما تقولين لأنك تخضعين لإرادة أمك، أمك، لأنك تخضعين لِ...
شيء غير الكذب وغير الصدق. إرادة الأمهات كإرادة الآلهة شيء غير الكذب وغير الصدق. فتحت فمي، وَقِئت بعض الأشعة. لم تكن لقيئي رائحة كريهة. كان قيئي شيئًا غير الكذب وغير الصدق، فلم يرحني ذلك. رجتني من جديد أن نكون أصدقاء، فجن جنوني، وأخذت أهذي. لم أكن أصدق أحدًا آخر غيري. كنت الصدق في كل هذا الكذب، في كل هذا الأفك، وكنت قناعتي الوحيدة. ألحت في الرجاء، وهي ترتعش كطفلة، فارتعشتُ لَذة، وشعرتُ بعضوي، وهو ينتصب. كانت بين جملنا لحظات طويلة من الصمت، كنا ندخل في بعضنا، وكم كان ذلك لذيذًا، وكم كان ذلك تعيسًا. كانت اللذة والتعاسة شيئًا واحدًا، غير الكذب وغير الصدق. ولما لم أكن وحدي، لم أستطع الكلام بحرية. رفع زميلي رأسه، ورماني بنظرات حائرة. كان عليه أن يتركني، لكنه حسنًا فعل. أمدتني قلة ذوقه بالقوة على الصمود في معركة الرياء والبصاق، وانتهت نظراته بدفعي إلى طرق الهاتف.
بقيت لمدة مرتعشًا مهمهمًا متلذذًا، أكلم نفسي كلمات غير مفهومة. كان لدي شعور بأنها تسخر بي، تذلني، فصدقتُني. لأول مرة في حياتي، العظمة التي رفعني إليها اعتباري كعالِم انعدمت، علاقاتي بالملك الإيبيري انهدمت، صداقاتي مع حاكم مراكش ما انوجدت. كل هذا كان معيارًا للصدق الكاذب لديّ. هل كنت سهل الإيمان كأي ناسك؟ سهل العطب كأي واحد؟ صعب التصور كأي مريض؟ رأيتُني أنا والباحث في نفايات عمان شخصًا واحدًا. لمحتُني أنا والمدمن على دعس أحذية الناس رصيفًا واحدًا. لاحظتُني أنا والقانع بمصير الحارس لمضجع أمه مسخًا واحدًا. أحسستُني أنا والمحاصَر من كل الجهات كصرصارٍ يحاول أن يجد محيط هذه الدائرة، فقمت بعمل آلاف الكيلومترات، آلاف آلاف الكيلومترات، وأنا لم أزل في مكاني.
قرع الهاتف مرة أخرى، كان رشاد رشد. قال لي بلهجة مستاءة، إنهم حاولوا انتزاع الرسالة منه، وعلى الرغم من ذلك، أدى مهمته. لم أخبره بكلمة واحدة عن تلفون رشا. لم يكن باستطاعتي. كنت أبحث عن أمل كاذب أيًا كان.
- ذهبتُ إلى بيتها، أفشى لي، وأمها تراقب من الفرندة، حتى أنها دعتني إلى شرب القهوة. وأنا أعطيها الرسالة، قلت لصديقتك فحوى الرسالة يبقى سريًا، الكشف عنه سيعقد الأمور أكثر. مهما كان ذكاؤها، لن تكون قادرة على فهم جسامتها. قالت إنها مخطوبة، وإنك لا تفهم شيئًا، لأنك لست من هنا. لم أحقها بشيء. شخصيًا، أعطيكما الحق، أنت وهي، واضعًا كل واحد منكما في زاويته. قالت إن أمها تراقبها، وتحسب عليها كل خطواتها. أرى ذلك، قلت لها، لستُ بحاجة إلى وسيط من أجل هذا.
سببت لي مكالمة رشا اضطرابًا كبيرًا. بعد ربع ساعة من استلامها الرسالة كانت قد اتخذت قرارها. تهتُ: هذا القرار، هل تم بإملاء أمها أم أنها فكرت فيه وأمعنت التفكير قبل ذلك بكثير؟ لكن قلوب المحبين، يا أخي، لا تستسلم للعقل بسهولة. أدنتها. لم أكن قادرًا على تحليل شخصيتها. لم أدرك، في ذلك الوقت، أن ردود فعلها تعود إلى عدم نضجها. ما كنت متأكدًا منه، جمود عاطفتها تجاه ما يحيط بها. كنت معطفها. حقيبتها. معلقها. منديل الورق. جورب "ديم". حزام البلاستيك. كتبتُ لها. قلت لها إنها حبي الأخير، كم كان الصدق كريهًا! وأنها لا تستطيع أن تتخذ قرارًا بخصوص مسألة حياة أو موت في ربع ساعة، كم كان الكذب كريمًا! رفضت صداقتها بما أنها رفضت حبي، كم كان الادعاء هزيلاً! اتهمتها بالخضوع لأمها، كم كان تسلط الفكرة مريحًا! عضت مشاعري المشاعر، فلم أجد شيئًا آخر غير أن أحثها على التمرد. عدت أتداعى للسقوط، كان عليّ أن أضع حدًا لعبث الصدق، فاعترفت لها بعدم استطاعتي النوم، بعدم استطاعتي رصد النجوم، بعدم استطاعتي القراءة، الكتابة. نسي فمي طعم الطعام، وأذني لحن الألحان. في القبور، لا توجد موسيقى. في القبور، تعزف الأحزان. دون موسيقى.
وصفتها بالمدمرة، كملهمة للشعراء الملعونين. لا شيء يؤثر فيها. أمة بأكملها أثرت فيها كلماتي وليس هي. شعوب الأرض أثر فيها حي بن يقظان وليس هي. صخور وادي الأردن خرت على قدميّ وليس هي. كان كل هذا كذبًا جَعَلْتُني أصدقه، ولم أعد أراه كذبًا. انتهت الفروق بين الصدق والكذب، كان الكذب صدقًا، وكان الصدق صدقًا. سميتهما نعلاً، فكانت النعل صدقًا، وكانت النعل صدقًا، ولم تكن كذلك، كانت استعمالي لها، ككل شيء في عالم الصدق والكذب.
هل كانت امرأة من غير النساء؟ كيف من الممكن، خلال كل هذه الأيام، أنها لم تفكر فيّ لحظة واحدة؟ لم تتساءل ماذا أفعل؟ إذا ما كنت وحدي؟ مترهبًا في حجرتي؟ إذا ما كنت أتعذب؟ كيف من الممكن أنها لم تنهض صارخة "يحتاج إليّ"؟ ألم تفكر مرة واحدة في المجيء عندي؟ في كَسر كعبها؟ في جَرح ظلها؟ في مَزق شِفّها؟ كنت أنتظرها في كل لحظة. كانت تخاف من الكشف عن أحلامها، عن مشاعرها، من التجلي بإنسانيتها. دخلتْ في عالم عمان، عالم القلوب المتحجرة، فَنَعُمَت قلوب الحجر.
هل تعرف ما الحب؟ الحب، أن تلقي بنفسك في الفراغ. ألقيت بنفسي في الفراغ، وانتظرتها على شواطئ جزيرتي.
أخيرًا، سمحتُ لها بأن تُقرئ رسالتي لأمها.
عندما طلبتُ منها أن تطرد أطيافها التي تتسلط علي، كل يوم، في الساعة الثالثة، كنت على أمل أن تفهم أنني أريد رؤيتها في تلك الساعة، كل أيام الأسبوع، وأن ذلك أساسي لي. رجوتها أن تجيء، وأنا أعلم أنها، حتى ولو فهمت، لن تجيء. كان من اللازم ألا تجيء، كان من اللازم أن تبقى أمنية المجيء. لو جاءت لما غدا الكذب صدقًا والصدق نعلاً. حملت حذائي، وتأملت نعلي. كان نظيفًا. لم يسعدني ذلك، أن يكون نظيفًا، فالصدق، بالنسبة لي، لم يكن نظيفًا. أنهيت رسالتي بهذه الكلمات: : كرست كل أعمالي للدفاع عن الحرية، وأنتِ، أنتِ رمز العبودية البهية!" كان نعلي نظيفًا، وهذه العبارة، آه، كم كانت قذرة!
بعد الانتهاء من رسالتي، فكرت في أنني على خطأ. كانت مخطوبة بالفعل، والعادات والتقاليد تمنعها من التراجع. من الأفضل أن أواصل حبها سرًا، كوهمٍ حقيقيّ. استعادت روحي توسلاتها الممزقة لنياط القلب على الهاتف، وهي ترجوني أن أكون صديقها. اجتاحني الشعور بالذنب. كنت أعذبها دون أن أشاء. كنت سبب سهادها. قمعها. محنتها. كنت نصلها. رمحها. شفرتها. كنت أصابع شبقها المجرمة، أفواه متعتها المقرفة، أثداء أنّتها المخنقة. عدت إلى رسالتي. كتبت لها أن تقتلني، لأني دون أن أعلم، كنت أقتلها.
بعد لحظة، أنا المعذب بموتي، قلت لنفسي إنها لا تحبني، وإن أمها لا يد لها فيما قررت، وهي ربما حثتها على الزواج مني. أحسست بذنبي. لم يكن إحساس النعل. كان إحساسي، دونما صدق أو كذب. إحساس لأجل الإحساس. لم يكن إحساس البرتقال. كان إحساسي، دونما شَفَقٍ أو رائحة. من الأفضل أن أتركها تحيا حياتها كما تبتغي. صنعتُ منها ضحية للمنطق. نعم، كانت ضحية طريقتي في رؤية الأشياء. كنت أرى الكون كجزيرة، وجزيرتي كانت هي. كانت الماء على الضفاف، آثار حوافر الظباء على الرمل. كانت الزمج الراقص فوق الماء، الكرز الأصفر في حلم أزرق.
كم كنت أود الرجوع إلى إسبانيا، كي أقضم حبة أو حبتين من هذا الكرز الأصفر! الآن أعرف لماذا طارق بن زياد فتح الأندلس: لأجل الكرز الأصفر!
غدا العالم حبة كرز صفراء، خرج منها ثعبان أسود. كان الزمان. اخترقتُ بطن الثعبان، وأخذتُ شكله. كان لي رأسه، لسانه، جسده. كنت الثعبان-الملك. أردتُ الانزلاق عبر العصور لأصل إليها، فاختلط الليل والضوء في بحر من البراز. غطست فيه، وعمت خلال قرون. هيمنتُ على العالم، بينما بقيتْ رشا بعيدة عني. حملتُ الكون على أنيابي كتفاحة. هلكتُ من التعب. كانت الطريق المؤدية إلى حبيبتي لم تزل طويلة، فوضعتُ ثلاثَ بيضاتٍ فضية، حضنتها خلال ثلاثة قرون. ثلاثة ثعابين سوداء مثلي وُلدت: آكرول، آكفاك، أوماك. كانت تعرف الطريق إلى تحت السيل، أقصر الطرق إلى رشا. تسلقتِ الثعابين الثلاثة جسدها، اثنان غطيا ثدييها، والثالث فرجها، وأخذتِ الثعابين الثلاثة تتلوى كلما تلوت، وتميل كلما مالت، والشوق يفتك بالشوق تحت ألسنة المتفرجين.
- ما رأيك في رشا؟ سألني الفزاع، وهو يملأ كأسي.
- كنت أعرف أنها هي، قلت، وأنا أفرغ كأسي.
- ولماذا صدقتني؟
- لأن كل الآخرين لن يصدقوني.
- أنا أصدقك.
- هذا لا يمنعني من العودة إلى جزيرتي.
- ليس مع رشا.
- ليس معها.
- كنت أعرف.
- ماذا؟
- أنها لا تحبك.
- أنا أحبها.
- وإذا ما أقنعتُها؟
- لن تقتنع.
- سترى.
- لن تقتنع.
- قلت لك سترى.
- وأنا قلت لك لن تقتنع، يا دين الرب!
- لا تريد.
- ...
- منذ البداية.
- منذ البداية ماذا؟
- لا تريد.
وجد الفزاع نفسه في حِلِّ معي من كل التزام. سيلتزم مع رشا، مع دمية تتحرك بالخيطان. الملاك الهاشميّ كان. الأيادي الطويلة. الأصابع الدموية. المرامي الخفية. الناس لن تصدقني، وستصدقه. يعرف كيف يدفعها إلى تصديقه. كانت طريقته في الحب: الواجبات السرية. العبث بالجثث فيما بعد. بعد التصديق. يجب على العقيدة أن تمضي أولاً. وأن تبقى. بأمر الإله الهاشميّ.
غادرتُ علبة تحت السيل، وأنا أترنح، وأكاد أسقط لولا أبنائي الثعابين الثلاثة. استندت على أكتافهم، فابتعدوا بي عن الانفجار الكبير الذي دمر القنطرة.
- رشا! صرخت، وقد ذهب عني الثَّمَل.
عدت أجري بحثًا عنها، كانت العلبة أنقاضًا، والدولة تحت أنقاض الدولة. أخذتُ أبكي، وأولول مناديًا إياها. وعلى ندبي، جاء الفزاع، وطمأنني:
- لم تمت رشا.
- هي التي قتلتْ؟ استنتجتُ.
- هي التي اقتنعتْ.






















الفصل الثامن

- بُعَيْدَ الانفجار، عدت إلى تحت سيل الرذيلة والفضيلة، لأعالج الجرحى من الخارجين على القانون والقيّمين عليه، ولأمزج بمصائر البشر بعضًا من مصيري. كانت روحي تتعذب بيد رشا، بين يدي رشا، والروح مهما اشتد عذابها، يظل عذاب الجسد أشد وأقوى. لهذا غدوت طبيبًا، أخفف من عذابات البدن، ليس على حساب عذابات النفس، وإنما كنت أرى في ذلك نوعًا من التأجيل لعذاب أقل أمام عذابٍ أكثر. كنت قد درجت على هذا الخُلق منذ طفولتي، بفضل أمي التي حَبَتني حِباء الطبيعة أسمى المشاعر، وجعلتني بفضلها أفضّل التخفيف من مصائب الغير على التخفيف من مصابي. كانت تلك طريقتي وطريقي في إراحة الروح مما هي فيه، وإنهاك العقل، فالعقل إذا ما تَعِبَ بَرَقَ، وفي برقه غذاءٌ للروح، وتسكينٌ لها بالشرر. أنا لا أقول إشفاءها، أقول تسكينَ أوجاعِها، فالداء الروحي ليس له دواء.
لكن المفاجأة كانت مفاجأتين، الأولى: كلُّ هذين الهَرْجِ والمَرْجِ اللذين كانت القنطرة موضوعهما، فالاوركسترا العسكرية كانت تعزف لجمهورٍ حاشد، أعلمني الناس أن الناس جاؤوا لإتمام تشييدها، والثانية: قدوم عاهل البلاد أبي عبد الله العوفي بصحبة ضيفه العاهل الإسباني حفيد ألفونس، لإعطاء الضوء الأخضر للبدء بالأشغال. لم يكن هناك انفجار أو أي أثر لانفجار، بينما الأشرطة الملونة والأعلام المرفرفة في كل مكان، وكل الناحية أعدت لاستقبال الملكين بِدَهنها وطرشها وتنظيفها وإلباسها برداء لم تعهده من خداع العين. والحق أن وجود ملك إسبانبا حيرني وبلبلني، فماذا يخطط العسكريون؟ وهل جلالته هنا لزيارة، وهذا ما لا يبدو من كل هذا "العرس"، أم لإقامة، إقامة طويلة الأمد، وربما لإقامة دائمة؟
وأنا على وشك أن أعود أدراجي، لأعود إلى أوجاعي، وكل هموم المحبين أحملها على ظهري، إذا بصفارات رجال الحرس الملكي تئز أزيز الرصاص بحماقة أردنية خاصة بهذا البلد البدويّ، وإذا بالموكب الملكي يصل. أطللت برأسي بين الرؤوس، ورأيت بالفعل أن مليكي الإسباني في عمان، وهو ينزل من السيارة ذاتها التي تقل مليك البلاد. أخفيت نفسي في ظهور الحاضرين، ورحت أختلس النظر إلى العاهل الأردني، بجماله القمريّ، وهو يبتسم، ويسلّم، ويحيّي. كان يبدو في أتم صحة وعافية، بينما العاهل الإسباني يرزح تحت ثقل فاجعتيه، فاجعته بابنته، وفاجعته ببلده. لكن ما لفت انتباهي، حضور صغيرة بنات الملك الأردني، صاحبة السمو الملكي الأميرة "هلا"، بجمالها القمريّ كأبيها، وهي الأخرى تبتسم، وتسلّم، وتحيّي. كما أنني لاحظت من بين المرافقين أبا الحسن الفزاع، كالحشرة الفزعة. لاحظته، ولاحظني. لتفاديه، أردت الانسحاب على أطراف أصابع قدميّ، في كل هذا الصخب، لما فجأة، صرخ شاب صرخة مدوية: "هلا، يا حب قلبي! أنا هنا كي أموت من أجلك!" سقط أفرادٌ من الحرس الملكي ببنادقهم على الشاب العاشق، وراحوا به ضربًا، بينما سمو الأميرة تصرخ بهم أن يتوقفوا. أرادت الدفاع عن حبيبها، فشدها أبوها من يدها، وتمكن من منعها قليلاً قبل أن تفلت منه، وتأخذ حبيبها بين ذراعيها، تحت النظرات الذاهلة للعاهل الإسباني، وكل الحاضرين: علا، أنا هنا معك! همست هلا في أذن الشاب العاشق، وهي تذرف أحر الدموع، علا، أنا لن أكون لغيرك!" لكن حارسًا ملكيًا سدد أخمص بندقيته إلى رأس علا، وفلقه، ليميته على التو. قطع أبو عبد الله العوفي المراسم، ووجهُ القمرِ الذي له محاق، وعلى صرخات ابنته، التي حملها رجاله عنوةً، ووضعوها إلى جانبه وجانب الملك الإيبيري، غادر الموكب الملكي المكان بأقصى سرعة.
كنت قد سمعت بقصة حب علا وهلا، لكني لم أولها اهتمامي، فإذا بها تتفجر أمام عينيّ. أينني أنا من علا، وأين حبي من حبه؟ أراد العاهل الأردني تزويج صاحبة السمو الملكي، صغيرة بناته، بشيخ من شيوخ الخليج الأثرياء، فالنفط والبنون زينة الحياة الدنيا. أين رشا من هلا، وأين حبها من حبها؟ رفضت الأميرة هلا عرض أبيها، فقرر عنها، وها هو يوقّع بالفاجع هذا القرار الملكي، كي أرث حب علا وهلا مثلما ورثت حب آميديه وإيزابيل، وكل حب مكتوب بالدم.
حملت دائي وعنائي، وذهبت أتلفن لرشا، كي أزيد من عنائي ودائي. كان فعلي الحر الوحيد في تلك اللحظة المأساوية التي تجاوزت كل حد، لتغدو الزمان والمكان والأحياء والأشياء. كنت أريدها أن تغفر لي، فدفعني رجلان مسلحان في سيارة، وذهبا بي إلى مجمع الأمير الحسن. أصعداني على طابقه الأخير، وأرادا إلقائي من هناك. رجوتهما أن يربطا عينيّ، ففعلا بعد تردد. سألتهما إذا ما كان العساكر الإسبان من وراء ذلك، فأجاباني بضرب في البطن وعلى الوجه. أكدت لهما قطعي كل شيء مع السياسة، والدليل على ذلك وجودي في عمان، فطلبا مني أن أقرأ الفاتحة على روحي. قرأت القاتحة على روحي، وهمهمت بعض الدعوات، وقلت لهما مستسلمًا: هيا بنا! إذا بفريق من السياح يخترق السطح، وإذا بالخاطفيْنِ يوليان الأدبار.
على الهاتف، وقعتُ على أم رشا. تجاهلتني في البداية، وبعد ذلك، حيتني بحرارة لما عرفت أني استسلمت للقدر الذي حشرتني رشا فيه. لم تعلم بعد بما وقع تحت السيل، فلم أقل شيئًا. كانت هذه الفاجعة الجديدة ملكًا لي، لا أريد من أحد أن يشاركني فيها. كانت قوتي على الاستسلام، والتنازل عن كل شيء، عن رشا، وعن آميديه وإيزابيل، وعن مدريد، وعن باقي البشر. لم أكن بشريًا وقتذاك، كنت حيوانًا بلا عواطف. كالكلب الضائع كنت. لَهَجَتْ بالدعاء إلى الله أن يوفقني ويسعدني: "رشا أيضًا تتمنى لك كل سعادة وتوفيق!" أوضحتُ لها أن تمنيات ابنتها لا تهمني إلا القليل. أخذت تضحك، وتقول عن خطيبها إنه يريدها منذ ستة أعوام. قلت وأنا منذ ستة أعوام قبل مولدها. عادت تضحك: "القسمة والنصيب". امتنعتُ عن الصراخ، وهي تضيف: "اعلم أن سنك لا علاقة له برفضها". لم أعد أريد التحدث.
- أعطيني إياها، لو سمحت.
- لم تزل نائمة.
- لم تزل نائمة! الساعة تجاوزت الحادية عشرة!
- سأوقظها.
طال انتظاري، وفي الأخير صوتها، وأنا لا أسمعه أو يكاد.
- ارفعي صوتك، قلت لها.
- هذا لأني لم أشرب بعد قهوتي، همستْ.
- لو كنتُ معك لصنعت قهوتك بنفسي، ولقدمتها لك في السرير.
شعرتُ بخجلها.
- أمك تقول، تابعتُ، خطيبك ينتظر منذ ست سنوات، وهي لا تعلم بانتظاري لك منذ ست سنوات قبل مولدك.
ضحكتْ بجذل.
- أحببتك كما لم يحبك أحد، أحببتك بجنون، بصوفية، وكمراهق في السادسة عشرة، كمجنون بالله، طوال حياتي لم أحب حبًا كهذا.
ضحكتْ بغرابة قبل أن تقول:
- القسمة والنصيب!
- هل أحببتني، يا رشا؟ هل هزتك، على الأقل، مشاعري؟ هل فكرتِ فيّ في الليل، عندما تندر النجوم ويتندر العشاق؟
صمتتْ.
- كنتِ طوال الوقت سَلبية، لم تساعديني.
- الكل يقول عني سَلبية، اعترفتْ.
- أنا خائف عليك، على حياتك مع زوجك القادم.
- ولكن أنت خائفٌ مِمَّ؟ قالت، وهي ترفع صوتها. لا تخف من أي شيء.
أخذتُ ألعن ريبتي، ارتيابي. عادت تضحك.
- كتبتُ لك رسالة قاسية، قلت وأنا أستمد شجاعتي من ضحكاتها، أريدك أن تقرأيها. أقترح أن نلتقي في دوار فِراس. ما رأيك؟
شعرتُ بارتباكها.
- هل أمك إلى جانبك؟ سألتها.
أكدتْ، وهي تتظاهر بالضحك كيلا تفهم أمها.
- تعالي، أريد أن أراك للمرة الأخيرة، نصف ساعة فقط، الوقت الذي أعطيك فيه الرسالة.
- من الصعب عليّ الخروج، لنترك هذا إلى حين رجوعي من العطلة.
- آه! كم أحبك، يا رشا. حبي لك بقدر حقدي على جون روبنسون.
رجتني ألا أهاجمه.
- كل ما حصل لي بسببه، قلتُ، بسببه تأخرت عن طلب يدك، إلا أنني خطبتك، بشكل غير رسمي، قبل الآخر، وروبنسون هو من منعني من المجيء عندك. كنت أريد أن أنهي الرواية أولاً كي تقرأيها.
لم تقل شيئًا.
- أما عيون المها الوحشية، تابعتُ، المرأة التي يحبها روبنسون، فأنا أكرهها. أنتِ لا أستطيع أن أكرهك، ستبقين حبي الخالد.
قلت لها إنني أُقَبِّلُها بالإسبانية والإنجليزية والعربية، وهي ساكتة. تذكرتُ فجأة أن أسألها عن تاريخ رجوعها من عطلتها.
- آخر الشهر، قالت.
لم يزل على نهاية الشهر أسبوعان، فأخذت أسب وألعن.
- لم يكن كل هذا مقررًا هكذا في البداية، أجبتُ.
- بسبب الخطوبة، ختمتْ.
تلك لم تكن كلمات وداع بقدر ما كانت بداية جديدة. عند النظر إلى عمق الأشياء، نجد أنني لم أندم ولم أتب. كنت عازمًا أكثر من أي وقت مضى على استردادها.
كيف أستطيع القَبول، بالله عليك، بأن يأخذوا مني زوجتي القادمة ليزوجوها من غيري؟ كيف أعطي قَبولي بينما هم ينتزعون من بين ذراعيّ المرأة التي أحبُّ لِيُلقوا بها بين ذراعي شخص آخر؟ فكرت فجأة أن أختها التي عانت هي الأخرى من عذابات الجب، الوحيدة في هذه الدنيا القادرة على فهمي وإعانتي على حل مشكلتي.
ذهبت عند رشاد رشد، وطلبت منه الاتصال برشا لتعطيه رقم هاتف أختها. على الأقل، نستطيع أن نلتقي عندها، بعيدًا عن أمها. لم يستغرب موقفي، لكنه استفظع تجاهلي لِمَا وقع تحت السيل. كانت فاجعةُ تحت السيل قد صارت على كل لسان، وأنا لم يكن على لساني شيءٌ آخرُ غيرُ فاجعتي، فاجعتي الشخصية، القادمة، المؤجلة، والتي من الممكن ألا تقع. كنت أنانيًا أكثر من الأنانية، كنت الأنانية، وجوع النفس لنفسها. أدركت فجأة جسامة ما جرى، فخجلت من نفسي. تركتُ رشاد رشد لنفسه، وتركتُني أتيه في شوارع عمان.
وأنا أتعثر بين الحفر والنفايات، أحاطت بي سيارات القصر السوداء من كل جانب. نزل منها رجال يضعون على عيونهم نظارات سوداء ويرتدون بدلات سوداء، تبعهم الفزاع.
- جلالة الملك يريدك، قال.
- حفيد ألفونس؟ سألت.
- أبو عبد الله العوفي.
وبفضل الرعب الذي تفرضه النظارات السوداء والبدلات السوداء على العابرين من سيارات وبشر ودواب، بأسرع من البرق، وصلنا المقر الملكي. أدخلوني مباشرة حجرة النوم الملكية، وهنا وهناك العشرات من حول سرير أبي عبد الله العوفي. برز من بينهم مليكي الإسباني، وهو يبتسم لي ابتسامة لم أعهدها من قبل، كانت طيف ابتسامة، كالهباء. أخذني بين ذراعيه، وهو يهمهم:
- كم من الأيام مضت دون أن أراك، يا طبيبي الغالي أبا بكر!
- الأيام أقوى من الأيام، يا مولاي! همهمت بدوري.
دفعني بهدوء من أمامه، واقترب بي من العاهل الأردني، المستلقي في فراشه استلقاءَ بلدٍ بأكمله، وهو يحتضر: وجهه القمريّ لم يعد يضيء على الأردنيين ولا على أي شعب من شعوب العالم.
- كفاك الله شرًا، يا مولاي، همستُ، وأنا أشد على يده.
لم يجبني، نظر إليّ بعينيه المنطفئتين، وانتظر أن يوضح لي العاهل الإسباني، الذي قال:
- بعد الحادث المؤسف الذي وقع تحت السيل، انتكست حال جلالته، فسقط طريح الفراش. ولما كنتُ أعلم بوجودك في عمان، اقترحتُ أن يجيئوا بك، فأنت خير من يفهم فيما يدعى بالصدمات النفسية.
نظرتُ إلى الحاضرين، وأنا أستعيد عظمتي وهيبتي، وبإشارة آمرة من يدي، أمرتهم بالخروج، فانسحبوا كلهم كالسلاحف المعدنية، ما عدا الفزاع. عاينت أبا عبد الله العوفي، وأنا أجسه بكلتا يديّ، وتناولت من حقيبة طبية كانت موضوعة على صُوان السماعة، لأدرس حالته بشكل أعمق، وجلالته مستسلم استسلام المعترف بكل خطاياه بين يدي الله. بعدما انتهيت، كتبت من الأدوية ما كان على الفزاع إحضاره، وقلت لمليكي الإسباني:
- جلالته لا يحتاج إلى فصدٍ عاجل، كما هو معمول به، ولكن خوفًا من تدهور وضعه، سأقوم بذلك. هلا أعنتني، يا صاحب الجلالة؟
- مارستُ مهنة الملك، رمى حفيد ألفونس، والآن سأمارس مهنة الممرض.
- سيقول لي جلالتك أيهما يفضل.
- قل لي، ماذا عليّ أن أفعل؟
- أن تمسك بذراعي جلالته، فلا يتحرك.
- ولماذا لا تخدره؟
- التخدير والفصد شيئان يتنافيان، مفعول كل منهما لا يُثْبِتُ الآخر. ولكن، فليطمئن جلالتك، سأجرحه جرحًا خفيفًا، تقريبًا لن يشعر به.
وأنا أعد أدواتي، كشف العاهل الإسباني:
- قلت لجلالته ألا تصحبنا سمو الأميرة ابنته، إلا أنه أصر على ذلك.
- لماذا؟
- أرادها أن تنسى.
- حبيبها؟
- زوجها الخليجي.
- جلالته مارس مهنة الملك ولم يجرب ممارسة أية مهنة أخرى، لهذا.
- سأفضل مهنة الممرض، همهم ملك إسبانيا.
- لأنها الأسهل.
- لأنها الأصعب.
- فليتفضل جلالتك بإمساكه.
- هكذا؟
- هكذا.
بدا على أبي عبد الله العوفي الخوف.
- لا تخف، يا صاحب الجلالة، أنا لن أوجعك كثيرًا، وأنا لا أفعل هذا إلا لصالحك. وتوجهت بالكلام إلى مليكي الإسباني، هل أنت مستعد، يا مولاي؟
لم يجبني حفيد ألفونس، بدت عليه جدية الملوك وتصميمهم، لكني ما أن بدأت حتى انتهيت.
- آه! ما أسهله! تعجب.
- ما أسهله للملك وما أصعبه للممرض، قلتُ.
أحضر الفزاع الأدوية، فأشربت جلالته بعضها، وما لبث أن أغمض عينيه، وأغفى.
- في نهاية المطاف، قال العاهل الإسباني، وهو يذهب بي إلى جانب، الملوك والنجوم شيء واحد، كلاهما يضيء وكلاهما ينطفئ.
- هل تعرف لماذا، يا صاحب الجلالة؟ لأن كليهما لا قلبَ ككلِّ القلوبِ له، كلاهما لا يعرف ما الحب، فانظر ماذا فعل جلالته بابنته.
- وما فعلته أنا بابنتي.
- مولاي، أمرك يختلف.
- ألستُ ملكًا كباقي الملوك؟
- مولاي، لستَ ملكًا كباقي الملوك، أنت الملك!
- الملك شيء كثير وأنا هنا في الأردن بأمرٍ عسكريّ.
- لن يدوم الأمر طويلاً.
- سيدوم. هل تعرف لماذا؟ لأني اخترت مهنة الممرض على مهنة الملك.
وبينا نحن كذلك، حتى وصلتنا صرخات، وبين الضجيج نواحٌ وعويل، فسارعنا، أنا والملك الإسباني والفزاع، لنقف على السبب الذي كان مهولاً، فقد حاولت سمو الأميرة هلا الانتحار. قَطَبْتُ رسغها، وضمدته. تأملتها، وهي تغفو في سريرها. كانت على شبه كبير من رشا، ومن إيزابيل، ومن مدريد، ومن كل النساء اللواتي عرفتهن. نظرتُ إلى مليكي الإسباني، وهو يغسل يديه، ويزيل آثار الدم.
- لأول مرة، هاتان اليدان تذوقان طعم الدم، قال من الحمام.
- هل هو حلو، يا مولاي؟ سألتُ، وأنا أجيء من ورائه.
نظر إليّ عبر المرآة، وبعد لحظة تفكير، أبدى:
- آه! كم هو حلو، يا أبا بكر! كم هو لذيذ الطعم!
انتظرنا نهوض أبي عبد الله العوفي في الصالون، ونحن صامتيْن. لم ينظر أحدنا إلى الآخر، كان كل منا مشغولاً مع لا أفكاره. بعد عبارة جلالته عن الدم، صارت كل الأفكار لا أفكارًا، شيئًا من الهواجس القديمة، كانت رشا بالنسبة للطبيب لا فكرة، وكان الحكم بالنسبة للملك لا فكرة. لا لأجل أن نحتمل الأفكار، ولكن لأجل ألا نحتملها. جاء الفزاع بعجلة، وأخبرنا أن جلالة الملك الهاشمي فتح عينيه، وهو يطلبني.
كان يحاول الابتسام.
- جلالتك لا تُجهد نفسك، طلبتُ.
حاول أن يقول شيئًا.
- لا ترهق نفسك، كل شيء على ما يرام.
بإشارة من يده إلى الفزاع ذهب هذا إلى خزانة، وأخرج منها عددًا من المخطوطات المقيدة بالسلاسل.
- ما هذا؟ سألت الفزاع مُبَلْبَلاً.
نظر الفزاع إلى العاهل الأردني قبل أن يأخذ الإذن منه بحركة من رأسه.
- هذا...
وتردد:
- إنه الشعر المدنس.
- ما كان يبحث عنه البروفسور في الإيسكوريال؟ صحت وكلي استغراب واستعجاب.
- لم أكن أعلم بذلك، تدخل العاهل الإسباني.
أخرج الفزاع مفتاحًا من جيبه، وحرر المخطوطات من سلاسلها. وبأسرع من البرق، رحنا، أنا ومليكي نتصفحها:

أحب ثديك
فأنت عاهرتي
الأشرف من كل الملوك

***

لا تغضب من شذوذي
فلله ذَكَرٌ مثلي
وأنا والله عاشقان

***

دينك الإسلام
والإسلام ديني
فلا تسأليني
إذا ما كنتِ الإسلام

***

بعد زمن الاستغراب والاستعجاب، جاء زمن الاغتباط والابتهاج.
- البروفسور سيكون أسعد البشر في الوجود، هتفتُ.
- أرى ما لهذا الكنز من أثر على البشرية جمعاء، هتف الملك الإسباني.
- لا تستعجلا الأمور، نبر الفزاع بلهجة لئيمة، وهو يستعيد المخطوطات.
- لا نستعجل الأمور! تعجبتُ.
- لا نستعجل الأمور؟ تساءل ملك إسبانيا.
عاد الفزاع ينظر إلى أبي عبد الله العوفي، وبإشارة ثانية من يده إلى الفزاع ألقى هذا الكنز الإسباني في المدفأة، صب عليه بنزينًا، وأحرقه، ونحن، أنا ومليكي، نحاول منعه، دون أن نفلح، حتى أن تقبيلي لقدمي أبي عبد الله العوفي لم يؤثر فيه لا القليل ولا الكثير. أخذتُ أبكي كالأرمل، أبكيني، وأبكي كل أولئك الشعراء الملعونين، أبكي الشعرين، المدنس والمقدس، أبكي الشعر. سالت دمعة على خد العاهل الإسباني مسحها بأطراف أصابعه، وجاء بي إلى كنبة أجلسني عليها. عند ذلك، بإشارة ثالثة من يد العاهل الأردني إلى الفزاع أحضر وثيقة صفراء خدشتها مخالب الزمان، وأفضى قبل أن يمزقها:
- وهذه هي الوثيقة التي كان يبحث عنها آميديه، وثيقة الإعلان عن استقلال أرخذونة.















الفصل التاسع

- دخلتُ إحدى حانات شارع وادي السير، حانة فيها ضوء أزرق، يذكر بالبحر وبالدعارة. أخذتُ مكانُا على المشرب غير بعيد من عاهرة البار، وطلبتُ قدح كونياك. لم أكن أحب الكونياك، لكن بعد كل ما وقع في القصر الملكي، لم تعد لي أقل علاقة بكل ما أحب، بكل من أحب. كان إحراق الشعر المدنس مأساةً للبشرية، وخرابًا للكون، كان نهاية الحضارة. لم أتأثر بوثيقة استقلال أرخذونة، وهي تتطاير تطاير أرياش الغربان من بين أصابع الفزاع، فأرخذونة، بالنسبة إليّ، لم تعد موجودة منذ زمن طويل، وهي ستبقى إلى الأبد إسبانية. ما عَقَرني وذَبَحَ روحي الشعرُ الجهنميّ الذي احترق أمام عينيّ، وراح شعراؤه ينفثون في النار نَفْث الشيطان، فيضاعفون من التهامها لشعرهم، وكأن شِعْرَهُم بالنارِ يُكْتَب، وبالنار يبقى ويخلد، من النار كان، ومن النار سيكون. احترق الشعر المدنس، واحترقتْ معه مشاعري، فرأيت حبي لرشا، وهو يتحول إلى دخان. كان عليّ أن أفعل شيئًا، ولم أفعل شيئًا آخر سوى إلهاب الرماد.
طلبتُ قدحَ كونياكَ ثانيًا، وجرعته دفعة واحدة، فابتسمت لي العاهرة. لاحظتُ أنها حبلى، وأنها نصف دميمة. لم يزعجني أن تكون نصف دميمة، فأنا دميم كلي، وهي بابتسامتها لي تضفي على دمامتي قيمةَ من يضفي على الذئبِ جمالَ الببغاء، أو على الكلبِ ذكاءَ الثعالب. اقتربتْ مني، فطلبتُ قدحَ كونياكَ ثالثًا لي، ولها، قالت ويسكي. والنادل يصب لي ولها، ابتسمتُ لها. أراد الذهاب بالقنينتين، فأخذتهما منه، ووضعتهما أمامنا.
- لستَ من هنا؟ قالت العاهرة لي، وهي لا تتوقف عن الابتسام.
- لا، أجبت.
- يا لك من محظوظ!
- كما تقولين.
- محظوظ!
- محظوظ!
- من أين أنتَ؟
- إسبانيا.
- من إسبانيا؟!
- من الجحيم.
- جحيم إسبانيا؟!
جرعتُ قدحي، وملأته من جديد.
- هل تخافين من الذئاب؟
- هذا لأنك ذئب؟
كان يبدو عليها أنها لا تريد أن تكون جميلة لأنها تخاف من أن تلتهمها الذئاب، بينما كنت أنا أكبر ذئب على وجه الأرض، ألم أكن في صددِ حبِّ كلِّ ما أكره؟ كلِّ من أكره؟ لهذا شعرتُ بشيء من التعاطف مع العاهرة، وربما أكثر، الانجذاب. لم أكن أكرهها، كنت أكره مهنتها، وتمنيت فجأة أن تكون مهنتي.
- أنا ملك الهوى! رميتُ مبتسمًا.
- على قفاي! رمت المومس مقهقهةً.
- عند منتصف النهار، قبل الغداء، بعد الغداء!
- على قفاي! عادت العاهرة إلى القول مقهقهةً.
- لا تضحكي عاليًا، إنهم ينوحون في القصر.
- على قفاي!
- كما تقولين.
- على قفاي!
- على قفاكِ!
- على قفاكَ، أنتَ أيضًا؟
- على قفاي!
في الواقع، كنت أفكر في خطيب رشا، تخيلته غول نكاح. لأني كنت ملك الهوى عند منتصف الليل، وعواء الذئاب حتى الصباح. وفي العشق، كنت أغدو أشرس ذئب! لهذا تركتني رشا إلى حبيب آخر، وجهه كمؤخرة طفل، وعضوه كذيل تيس، وحديثه كلطمة دبس. كانت تلك الصورة المثلى التي رسموها لها منذ طفولة لن تنتهي، فالطفولة لا تنتهي مع سن البلوغ، حتى ولا مع سن اليأس. الطفولة أبدية، كساندويتشات الحمص والفول والفلافل والشاورما. الطفولة تلك المؤخرة التي تشبه وجهَ رجلٍ سيختطف مني امرأتي. لهذا السبب، على عكس صاحبة السمو الملكي هلا، كانت معهم موافِقة، دومًا موافِقة، فهي تتزوج من طفولتها بشكل من الأشكال، لتأتي بأطفالٍ يكبرون، هذا صحيح، ولكن يظلون أطفالاً. هذا هو عالم البراءة الأبدي المصنوع من المقالي، كالباذنجان، والقرنبيط، والفلفل، والبطاطا التي تحترق أحيانًا، ولكنها تتحول إلى رمز للطفولة المعذبة.
- قليلاً قليلاً، تكاد تنهي القنينة! حاولت العاهرة تهدئتي.
- أريد أن أنتزعك وأمك من سن الطفولة، همهمتُ.
- كيف! استغربت المومس، وهي تشخر، تنتزعني وأمي من سن الخراء!
- من سن الطفولة.
- الخراء.
- كما تقولين.
- الخراء.
- الخراء.
- هل سمعتَ، يا حمارنة؟ خاطبت العاهرة النادل. يريد أن ينتزعني وأمي من سن الخراء!
اكتفى النادل بالابتسام.
- اعذريني، همهتُ، وأنا أفرغ قنينة الكونياك.
- قلت قليلاً قليلاً.
- قنينة كونياك ثانية، قلت للنادل.
- لا تسمع له، يا حمارنة، تدخلت عاهرة الحانة، أنا لست أمه كي أُخَرّيه.
- رشا، همهمتُ، لا تكوني شديدة القسوة معي.
- رشا! هل سمعتَ، يا حمارنة.
هز النادل رأسه، وهو يحضر طلبي.
- أرجوكِ، يا رشا.
- رشا قفاي، لا!
- أرجوكِ.
- قفا قفاي!
- أرجوكِ.
- قفا قفا قفاي!
- أهم شيء سعادتك، وبالتالي سعادة أمك.
- طيب، طيب، رشا، وبعد ذلك.
- أسألكِ من تريدين؟
- إذن، فهي قصة علا وهلا!
- مع من ترتاحين؟ تكلمي مرة واحدة بحرية. نحن الثلاثة سنبني عالمًا متماسكًا.
- فهمتُ، أنا وأنت وأمي.
- وسنحقق كل ما عجزت أمك عن تحقيقه. ستنمو شخصيتك، يا رشا، لأني أنا وأمك سنبني عالمك. مع الآخر لن تكون لك سوى حياة الجرذان، ولن تفكري إلا في ساعة معاشرته لك...
- كل هذا الخراء الذي أعيش فيه وتقول ساعة معاشرته لي!
- لتحبلي، وتلدي ...
- كما تقول، قاطعتني العاهرة، وهي تكشف عن بطنها المنتفخ.
- وتربي جرذان أخرى تحبل بدورها، وتلد، وتربي هذه أيضًا جرذان على شاكلتها حتى نهاية الكون. ستذبلين، ولن تصبحي الوردة التي في حقلي ستينع. ستذبلين، وتنشفين، وقبل نهاية حياتك سينقصف عرقك، وحتى في تلك اللحظة الدقيقة لن يوفرك زوجك كبير الجرذان. سيأتي لمعاشرتك للمرة الأخيرة، وهو يحلم ببنت الجيران.
هربت العاهرة مني، فلحقت بها، وأمسكتها.
- أول شيء سأفعله أن أتركك تربي مخالبك كلبؤة، أن أطوف بك العالم، أن أجعلك المرأة الناهضة ضد انحطاطها.
- اتركني، يا مجنون! دفعتني العاهرة بكل قواها، وأنا تشبثت بها.
- أخشى أن أُجن أو أُشل، فيحكي عني الإعلام، وأسيء إلى سمعتك.
- أنقذني منه، يا حمارنة!
- أما إذا أعطوك زوجةً، هددتُ، فسأزلزل الأرض تحت أقدامهم، سأهدم الجبال على رؤوسهم، سأجعل من دنياهم أصلى جحيم!
إذا بعرصها يخترق الحانة، ويروح بها ضربًا، وهذه تقول "كل شيء انتهى بيننا، سددت لك كل ما عليّ من مال، ابحث عن شرموطة غيري". دفعتُهُ عنها بعيدًا، وأنا أسقط وإياه على الأرض. كسّر لي عظمي، والمرأة تحاول تخليصي منه. فجأة، تركني، وذهب. جَعَلَتْنِي ألفّ بذراعي كتفيها، وخرجت بي بعد أن نثرت كل ما في جيبي من نقود على رأس النادل.
- ماذا فعلتَ، أيها المجنون؟
- رشا!
- هل تحبها إلى هذه الدرجة؟
- أحبكِ!
- ولكني لست رشا، يا دين الرب!
- لا تتركيني.
- لن أتركك.
- لم يزالوا ينوحون في القصر؟
- لم يزالوا.
- لا تتركيني.
- قلت لكَ لن أتركك.
- أقبل بأن أكون عرصك.
- سنرى.
أخذت العاهرة تاكسي إلى تحت السيل، قطعنا القنطرة من ناحيتها المفتوحة على المجاري، وإذا بنا في مدينة الصفائح. كان كل شيء فيها يتحرك، وكأنه يوم الحشر، ولكل شيء فيها نوعية الغائط، كل شيء، الناس كالأشياء، الأفكار كالحمام كالأزهار. الأزهار ما أجملها، لونها لون البول ورائحتها رائحته، وما أزكاها. الحمام ما أشرسه، مناقيره مناقير الصقور ومخالبه مخالبها، وما أوحشه. الأفكار ما أرذلها، خيرها خير بنات الصدور وسوؤها سوؤها، وما أسفلها.
- هنا أسكن، قالت لي العاهرة.
- ...
- أقول لكَ هنا أسكن، فيما لو أردت أن تكون عرصي.
رأيتُ في البخار، قرب قدور تغلي فوق أحطاب مشتعلة، الصبيان والبنات، وهم يدخنون، ويلعبون، ومن فترة إلى فترة، يتقدم أحدهم، بوجه المجرم الذي له، ويسحب واحدًا أو واحدة. كانت التناكيات محطمة الأبواب، على بعضها ستار قذر وممزق، تدخل إليها الكلاب المشردة، وتخرج منها النساء المشوهة، هكذا فجأة، وتنظر إلينا.
- لسن كلهن مثلي، أوضحت العاهرة.
- مثلك.
- شريفات مثلي، قذفتْ مقهقهةً.
- شريفات مثلك.
- لا تتظاهر بعدم الفهم، يا قحبة الخراء!
- كما تقولين.
- لا تتظاهر بعدم الفهم.
- لا أتظاهر بعدم الفهم.
- لسن كلهن شريفات مثلي.
- لسن كلهن شريفات مثلك.
وصلتني طرقات الحداد، ودقات النجار، وضربات المنجد، وصرخات العمال فيما بينهم. كانوا يتجمعون حول ماكينة للطباعة، وهم يحاولون تشغيلها، وكانوا كلهم ملوثين بمصائرهم. لم يكونوا وحدهم، كان منهم من يغوص في القذارة، غير بعيد هناك، في السيل، وهو يبحث عن سمكة يصطادها، وكان منهم من ينزوي مع بنت أو صبي، وهو يتخبأ في الشمس، وكان منهم من يتجمع حول أحدهم، وهذا يخاطبهم:
- يا رفاق! ماذا تنتظرون أكثر مما انتظرتم؟ يا رفاق! حطموا الأغلال! يا رفاق! الثورة هي البديل الوحيد! انهضوا! المعتقلات فارغة، الجيش ينعم بالراحة، الحكام في سفر دائم! يا رفاق! الثورة من صنعكم لا من صنع أحد غيركم، الثورة غضبكم، وغضبكم لا يكلف شيئًا، يكفيكم الغضب لتصنعوا الثورة! يا رفاق...
كانوا كلما قال "يا رفاق"، يبتسمون أو يضحكون، وكأن الخطيب يحاول دغدغتهم. وهناك صوت آخر:
- يا إخوان! الصلاة والصيام والتقوى والإيمان! يا إخوان! الله معنا! يا إخوان! الإسلام، يا إخوان! الإسلام والإسلام والإسلام! ثلاث مرات قالها سيد المرسلين، يا إخوان! فلا شيء خير من الإسلام! قالها أسمى الخلق، يا إخوان! الإسلام والإسلام والإسلام...
- على قفاي! همهمت العاهرة.
- على قفاي! همهمتُ.
- ستربتيز! ستربتيز! انبثق صوت.
انفض الجمع، وركض الجميع ليحيطوا بِمِنصة، تقف عليها امرأة محجبة لا يبين منها سوى عينيها السوداوين المكحلتين، فأصابتني سهامهما في صميم القلب. ذهبتُ لأرى إذا ما كانت زوجة حاكم مراكش أم الناسكة أختها، فلم أعرف هل هي هذه أم هذه، وهما تتشابهان كقطرتي ماء. أخذت المرأة المحجبة تكشف عن ثدييها، وهي تشخص ببصرها إليّ، وبعد قليل، استدارت، فلم يكن وشمٌ على ظهرها. سحبتني العاهرة من يدي، وأنا ألتفت برأسي إلى الزمن الممحوّ، ولا أرى غير رؤوس المتفرجين المتسمرة وأفواههم المفغورة.
- لن نلبث أن نصل، طمأنتني المومس.
مررنا بثلاث بنات في العاشرة من عمرهن، بيضاء وسوداء وصهباء، وهن حبالى.
- ها أنتِ تعودين باكرًا، يا سونيا، قالت الصهباء.
- ليس شغلك! أجابت العاهرة بجفاف.
- وهذا الذي معك، هل هو عرصك الجديد؟ سألت البيضاء.
- هو عرصي الجديد! هو يزعجك ربما!
- هو لا يزعجني.
- إذن ما الذي يزعجك؟
- قضيبه.
- قضيبي! تعجبتُ.
- بالفعل، يبدو أن لا قضيب له، علقت السوداء.
وانفجرن يقهقهن.
لم أكن عاجزًا جنسيًا، كنت عاجزًا عن تحقيق سعادتي الفردية، أقل ما يمكنني فعله روحيًا في عالم الجحيم. لم تكن رشا محورًا لهذه السعادة، كانت العاهرة التي غدوت قوادها، كانت سونيا.
- جميل اسم سونيا، قلتُ.
- جميل كالخراء، نبرت المومس، فاسم نصف بنات هذا البلد سونيا.
تحقيق سعادتي الفردية مع سونيا، لِمَ لا؟ سيكون التحدي حافزي، في هذا المكان النابت كالدمل على جبين الإنسانية. لن أجعل وضعًا منحطًا كهذا يقضي عليّ، قضيتُ زمنًا طويلاً لأعرف الشباب، وأعود إليه. سأستمد من سونيا شبابي، لن أصنعه على طريقتي، فرشا كانت طريقي إلى الشيخوخة. سأصنعه على طريقة سونيا، وطريقتها هي عدم المرض وعدم القناعة. هل تسمع ما أقول؟ عدم القناعة، نعم، في كل هذا الغائط، ذاك الشعور المتفجر الذي يدفعك في سن الخمسين إلى الحب، وكأنك تحب لأول مرة.
- سونيا، أعدتُ.
- هلا توقفتَ عن تكرار سونيا، يا قحبة الخراء؟ عادت تنبر، سونيا.
طلعتُ درج العبدلي إلى جبل الحسين دون أن ألهث. ركضتُ من تلاع العلي إلى الرابية دون أن أتوقف. شربتُ أربع علب سجائر بعد انقطاع دام سنين طويلة دون أن أدوخ. قال لي الطبيب إن نبضي نبضَ شابٍ في العشرين. المهم هو عدم المرض، والمهم هو عدم القناعة، والأهم من هذا وذاك هو عدم الكره. الحب. حب سونيا. عاهرتي. عاهرتي سونيا. نعم، عدم المرض وعدم القناعة هما أساس كل شيء، والأهم من هذا وذاك هو عدم الكره. الحب الذي يحيي القلوب وهي رميم. حب سونيا. يجوز للنجوم ما لا يجوز لغيرهم. تحقيق السعادة في مدينة ليست فاضلة، مدينة مدنسة، مدينة من الصفائح. كنتُ بلا أمل، يعني بأملٍ عظيم. نبذتُ نفسي بنفسي من أجل هذا، من أجل أن أكون بلا أمل. سأنبذ نفسي مع سونيا. هنا جزيرتي الإيبيرية. تحت السيل. تحت العالم. وسط الرعاع. جوهر البربرية. البشرية. حيث الماضي لا ينظر إلينا. لا ماضي الأندلس ولا ماضي الفرانكوفونية حتى ولا حاضر سيارات الجنرالات المفخخة، ولا البايِلاّ، أو الفتيات الغجريات المستغربات، ولكن العاشقات مثل سونيا.
- ها نحن قد وصلنا، قالت العاهرة، وهي تزيح الستارة القذرة الممزقة، وتدخل.
- بيتك جميل! قلتُ، وأنا أتأمل سريرها النظيف المعطر.
- قفاي!
- بماذا أحلف لك؟
- بقفاي.
- كما تقولين.
- بقفاي.
- بقفاكِ.
- عبادة الأصابع.
- والآن...
- ماذا؟
- ماذا سأفعل؟
- لما يبدأ الزبائن بالمجيء، تصفّهم، ولا تُدخل أحدًا قبل أن يدفع لك.
- كم؟
- حلوه هادي! هل تعتقد أننا في قصر ملكة إسبانيا؟ يدفع الواحد في هذا الغائط ما يدفع، المهم أن يدفع.
- المهم أن يدفع.
- المهم أن يدفع.
- إذن المهم أن...
- كفى!
- المهم أن يد...
- يا دين الرب!
- المهم أن يدفع.
أخذ الزبائن يعملون صفًا أمام التناكية، فوضعتُ كرسيًا جلست عليه، وأخذت أُدخلهم واحدُا واحدًا بعد أن يدفعوا. اعتدت على صرخات العناق والشتائم التي كان يقذفها بعضهم، وهو يقذف، ورد فعل سونيا الهمجيّ. كنت أتسلى بالتفكير: فكرتُ في ثعابيني الثلاثة، كانت مهمتها أن تحمل مني رسالة إلى رشا. ذهب آكرول من إسبانيا، آكفاك من النمسا، أوموك من الجزائر. أوقفت الحرب الأهلية الأول، المحاكم الجرمانية الثاني، إله الشمس، رع، الثالث. ثُلاثتُهم عُذبوا، ثم أُعدموا.
وَصَلَنَا وقعُ أخفاف، فتفرق الزبائن خوفًا. قمت لأنظر، فرأيت من أقصى مدينة الجحيم جَمَلاً يخب، على ظهره رجل لم أتبينه، والرعاع يهربون، أو يختبئون. عندما صار على بعدٍ قريبٍ مني، عرفت فيه ولي العهد. نزل عن مطيته، وهو يغلي من شدة الغضب، ودخل على سونيا، وراح بها ضربًا مهددًا إن لم تُسقط الطفل قتلها. "لا أريد وليًا لعهدي ابن قحبة بعد أن أغدو ملكًا"، قال. عندما أردتُ التدخل، لانت لهجته. كان طاهر القلب على الرغم من كل شيء، عديم التبصر هذا صحيح، لكنه لم يكن عديم الأهلّيّة. زخ مطر القبلات التي تبعتها التأوهات والصرخات. لما انتهى، ضج المكان بالنور الباهر. على الباب، رماني بحزمة من المال كبيرة. ركب مطيته، وغادر بعجلة كما جاء بعجلة. في الداخل، كانت سونيا في حالة يُرثى لها، كالقدر الأعمى. كانت قدرها المحتوم. الكلبيّ. أظهرتْ ما هي قادرة عليه، وهي لا تقدر على القيام. تركت فخذيها مفتوحتين للريح، ومن بينهما تسيل القذارة البيضاء للإنسان.






















الفصل العاشر

- طَلَبَتْ مني سونيا أن أتزوج منها، هكذا تزيح عن طريقها ولي العهد، وتخلص من تهديداته. سيحمل الطفل اسمي، وينتهي الأمر. كان ما تريده مني شيئًا كثيرًا، شيئًا كبيرًا، فأنا أحب رشا، ورشا هي التي أريد الزواج منها. ثم، لا شيء يؤكد أن يكون ابن ولي العهد، كيفه واثقًا إلى هذه الدرجة. قالت إنها وقعت منه حبلى عندما رافقته في رحلة طويلة إلى أرخذونة.
- متى كان ولي العهد في أرخذونة؟ سألتُ.
- أنا حامل منذ خمسة شهور، ابتسمتْ.
- لا أحد يبالي بالنجوم إذا كان القمر معه.
- ماذا؟
- لم أكن في إسبانيا.
- أرخذونة ليست كل إسبانيا.
- أرخذونة كانت كل إسبانيا.
- كيف؟
- أراد أن يتجلبب بالمجد.
- رفض العسكر أن يعينوه رئيسًا عليها.
- بدلاً من الكاردينال ريفيرا؟
- قالوا له تدبر أمرك مع الفارس بوعمير، وكن حاكمًا لشذونة.
- مع الفارس بوعمير؟
- في الواقع، كان يريدني أن أرضع من حليبه.
- من حليبه؟
- افهم، دون تفاصيل، يا دين الرب!
- ولم تقدري.
- الفارس بوعمير عاجز جنسيًا.
- فقدتِ كل حيلة.
- لهذا فشلت خطة ولي العهد.
- واليوم لماذا يريد أن تجهضي؟
- وكأنكَ لا تعيش في هذا البلد، يا قحبة الخراء!
- أخوه مريض، أعرف.
- ومن المتوقع أن يتنازل عن العرش.
- لهذا يصر على إسقاط طفلك.
- لن أسقطه، إنه كل حياتي. نعم، لواحدة مثلي.
- أنت امرأة قبل أن تكوني سفرجلة.
- لكنك ستتزوجني، فأزيح عني شره.
- كضمان، ليس كافيًا للملك القادم.
- سيقتلني في رأيك حتى ولو تزوجتك؟
- مائة المائة.
- إذن ماذا أفعل؟
- دعيني أفكر في الأمر.
- أنا لن آخذكَ من رشا، بل على العكس، سأساعدك.
- ستساعدينني كيف؟
- لن أقول لك.
- قولي.
- لا.
- لماذا؟
- لأني سأغضبك.
- لن تؤذيها.
- أنت مثل باقي عرصاتي.
- أحزر ولا أحذر.
- تُحَدِّر.
- أثق بفرجك، أنت تعرفين؟
- يا دين الرب!
- لا تبكي.
- يا دين الرب! يا دين الرب!
- ماذا قلتُ؟
- يا دين الرب! يا دين الرب! يا دين الرب!
- ...
- ثق بعقلي، يا دين الرب!
بجملة واحدة، أعادت سونيا إحياء كل كوابيسي. كنت لا أريد عونها، وها هي تفرض علي قدرًا لم أعد أحتمله. بدت الأيام طويلة، كل يوم بطول شهر أو عام. كان عليّ أن أنتظر أسبوعين طويلين، طويلين جدًا، حتى ترجع رشا من عطلتها. هل أمرُّ تحت نافذتها، ونافذتها دومًا مغلقة؟ هل أصادفها في أحد شوارع حيها، وشوارع حيها دومًا فارغة. هل أحلم بمجيئها عندي في النهار حين الاقتراب من الساعة الثالثة، والساعة على الثالثة دومًا واقفة؟ أخذتُ أراها في كل امرأة. أخذت أشم عطرها في كل زاوية. أخذت أسمع صوتها من كل شفة. تعلمت عدم الخجل حين النظر إلى النساء، وأوقعت في شباكي الكثير من المعجبات دون أن أشاء، دون أن يعرفن فيّ كاتبًا. لكني كنت أحبها هي، ولم أكن لأخونها. كنت أحب جمالها هي، ولم أكن أحب الجمال الغبيّ، الجمال الذي لا يفكر بعقله. كنت أحب حردها لأني لم أسمع ضحكتها سوى مرة واحدة. كنت أحب كل ما تحب وكل ما تكره لأني أحب حتى ما تكره. كنت أبقى كل ليلة حتى الصباح منتظرًا أن تناديني. كنت لا أنام إلا بعد أن يجرف أذني طنين ندائها، وفي الكثير من الأحيان، كان الطنين لا يأتي، وكنت أبقى حتى الصباح منتظرًا أن تناديني كل فقمات البحر. إن الصحو مذل، يا أخي، والنوم أذل، والأحلام لُعَبُ الدمى. النجوم رأت ضوئي في الليل، فقالت هذا واحد من العاشقين، تعالي نلعب بضوئه، فلعبت بضوئي حتى انطفأت، وبقي ضوئي في الليل، بقيت وحدي، وأنا مُوتان الفؤاد.
دقت سونيا الباب عليها، ففتحت لها. كانت تريد أن تبرئ لي جفنيّ بشفتيها، فلا تُعمى عيناي، وتدلني على الطريق بعينيها.
- أنا سونيا، أخت أبي بكر الآشي، قدمت المومس نفسها.
- سونيا الآشي، تفضلي، رجتها رشا.
- أنا لا أزعجك؟
- أبدًا.
- تقضين عطلتك بين أربعة جدران كما أرى؟
- ألحت ماما عليّ بالخروج معها.
- هل هو الحب؟
- يا ليت.
- ما هو.
- لا أعرف.
- أنا أعرف.
- أنتِ تعرفين.
- أبو بكر زادها معك حبتين، وأنا هنا كي أقول له معك "كفى".
- أنت ضد؟
- أنا ضد.
- وهو، ماذا يقول؟
- أنا هنا دون أن يعلم.
- لماذا؟
- لأنني ضد.
- ولماذا أيضًا.
- لأساعدك.
- تساعدينني كيف؟
- لن أقول لك.
- لماذا؟
- ليرتسم ظلك في السماء.
- لا أفهم.
- واحدة رقيقة الطبع مثلك.
- أنت لا تجعلينني أرتاح إليك.
- يجب أن أراك.
- غدًا؟
- غدًا.
- أين؟
- في مطعم جبري.
- على الساعة الثانية؟
- على الساعة الثانية.
- أقولُ لكِ...
- ماذا؟
- لا تخبري أحدًا.
كنتُ أقول لي: يجب ألا أموت، يجب أن أحيا، لأجل أن أحبها! لم أخف من الموت مرة واحدة إلا بعد أن أحببتها. فهمت الآن فقط لماذا لم يكن الانتحاريون يخافون من الموت. أما الموتى-الأحياء الذين يرعبهم الموت، فهم شيء آخر، هم الجبناء بكل بساطة. أنا الانتحاري العاشق الوحيد الذي بقي حيًا. كنت مستعدًا لسماع صوتها مقابل الموت حالاً بعدها. وَلّدت عندي حاجةُ سماعي إلى صوتها قدرة غريبة على التحول. أردت أن أصبح ذبابة كي أطير حتى نافذتها، فأدخل، وأراها، وهي نائمة. أردت بالفعل أن أصبح ذبابة. أن أصبح ذبابة. أردت أن أصبح ذبابة. وبينما كنت مستلقيًا في فراشي، محدقًا في السقف، قريبًا أكثر ما يكون من السماء، عزمت بقوةِ حبي على أن يكون لي جناح، فانبثق مكان ذراعي جناح. عزمت أكثر، وأنا أتجرد من كل إحساس، غير إحساسي بكوني ذبابة، على أن يكون لي خرطوم، فانبثق مكان أنفي خرطوم. عزمت أكثر، فأكثر، وأنا أتلاشى في الأجواء، وجسدي يصبح خفيفًا، على أن تكون لي ساقان مشعرتان، فانبثقت مكان ساقيّ الملساوين ساقان مشعرتان. اندمجت كليًا في جسدي الجديد، فكان لي جسد الذبابة التي أريد. كان ينقصني جناح، وكنت في أقصى حاجتي إلى رشا. نزلت أدب في الليل، أو، أتطاير إلى شارع شذونة بجناحٍ واحد، وأنا أقاوم ألمي. تحت نافذتها المغلقة، حاولت تسلق الجدار دون أن أنجح، بعد أن سقطت عدة مرات. أخذت أدعو الله أن يمدني بالقوة على أن أصبح ذبابة بجناحين، وأن أطير. كنت أريد أن أصبح ذبابة كاملة. كنت أرفرف قليلاً بجناحي الواحد، ثم أسقط، فأُجرح، ويسيل من خرطومي الدم، ومن ساقي المشعر. كنت أريد، من كل قلبي، إن لم ينبت لي جناح ثان، أن أتحول إلى حشرة، أية حشرة غير الذبابة تمكّنني من الطيران، والصعود إلى نافذة رشا المغلقة، والدخول من صِفْقِها، والنظر إليها، وهي نائمة، في الفراش. ركّزت كل طاقتي الحسية في ذراعي الإنسانية، وتماهيت وَجَناحي الذبابي الفقيد، وعزمت، وتضرعت، وبذلت كل الجهود الحرارية اللازمة، وكل الخيال، وكل الذكاء، وكل ما صنع العقل من إعجاز، كل ما صنع الكون من إحساس، وإذا بجناحي الثاني ينبثق، وإذا بي أعلو في الجو، وأنا أطن من الفرح، وإذا بي أصل إلى نافذة رشا المغلقة، وأفتحها بخرطومي، وأدخل منها إلى سريرها، وأنام إلى جانبها، وأضمها بحنان كل الذباب النازف في عمان.
- إذن، كما قلتِ لي، أنتِ ضد، بدأت رشا الحديث، والنادل يضع الأطباق على طاولتهما.
- هل تعرفين لماذا؟ سألت سونيا بلهجة جادة، لأن أخي لا يستأهل واحدة مثلك.
- العالم العلامة والطبيب الذائع الصيت!
- أنت لا تعرفينه كما أعرفه.
- أنا لا أعرفه إطلاقًا.
- أناني، جشع، خشن، منغلق، متخلف، محتقر للمرأة، سادي في كل شيء.
- إلى هذه الدرجة.
- كان يريدك ليذلك.
- ماذا فعلت ليذلني.
- هذه هي طبيعته.
- هل هو مريض؟
- انظري ما يصنعه بزوجته، ببناته، بي.
- بك.
- لا يريدني أن أكون قحبة.
- تريدين أن تكوني ق...
- الصورة، يا عزيزتي، الصورة.
- ظننت أنك تريدين أن تكوني ق...
- قحبة.
- ق...
- قحبة.
- ق... لا، لا أستطيع.
- هل رأيت ظلمه؟
- أنا لا أجد في منعك من أن تكوني قحبة ظلمًا.
- قلت لك الصورة، يا عزيزتي، الصورة، وعلى هذا الأساس، الأميرة هلا قحبة، وابنة "شومان" التي تقضي نهارها وهي تتزوق قحبة، والسكرتيرة التي هي أنت قحبة.
- أرجوك!
- اسمحي لي!
- أنت لا تقصدين.
- أنا لا أقصد بخصوصك. بخصوصه أعني ما أقول.
- إنه مريض.
- ككل كاتب.
- ليذلني.
- ليذلك، ولينتقم من زوجته.
- لا يحب زوجته؟
- لا يحب أحدًا! ثم لزبون –النادل حمارنة- لا يتوقف عن غمزها: كم تدفع؟
- ماذا؟
- أنا آسفة؟ لا أدري لماذا قلت هذا، إنها المهنة.
- المهنة؟
- أعني... لنعد إلى هذا القذر.
- هذا القذر!
- أخي.
- أخوك.
- أبو بكر.
- أبو بكر قذر!
- وبعدين معاك!
- إذن؟
- اتركي الأمر عليّ. ومرة أخرى للزبون –النادل حمارنة-: سأنتهي مع الآنسة وفي الحال أنت.
أمسكَتْها من يدها، وضغطت، ورشا ليست مصدقة، ثم جعلت تلمسها لمسات شبقة، وترقى بأصابعها حتى زندها.
- سنكون صديقتين، أليس كذلك؟
- الرجاء، آنسة سونيا! نبرت رشا، وهي تلقي بيدها جانبًا.
- فهمتني غلط، كنتُ متأكدة.
- سأضطر إلى تركك.
- لم أنته بعد.
- ها أنا أسمعك.
- اسمعيني جيدًا... ثم للرجل –النادل حمارنة-: طيب، طيب، دقيقة؟
- أنا ذاهبة.
- سؤال قبل أن تذهبي.
- ما هو؟
- لماذا جفناك منتفخان؟
- جفناي منتفخان؟
- اجلسي.
- أنا ذاهبة.
- صفراء على وشك الموت.
- من العياء.
- لماذا تسعين إلى إيقاع أخي في حبائلك؟
- ها أنت تقلبين كل شيء.
- لماذا صدقتِ بسرعة ما قلته عن أبي بكر.
- لم أصدق.
- أنت الأنانية، أنت كابوس البشرية، أنت المرأة الأقذر في العالم بعدي...
غادرت بسرعة البرق، وسونيا تصيح من ورائها:
- ستدفعين الثمن غاليًا، أيتها القذرة!
فرقعت إصبعيها، فهب الرجل المتواطئ واقفًا:
- حمارنة! الحق هذه البغيّ، واعرف كيف تَفْتَكّ منها السبب الحقيقي لرفضها أبا بكر.
وهكذا، يا أخي، جئت عمان، وأنا أحسب أن هذا الصرح الذي كنته لن ينهار، تساقط برشقة حجر واحدة من يد الحب! فهل أغضبت الله في شيء، وأنا حبيب الله؟ وهل أضعت عمري من أجل الغير سدى؟ غدت رشا كل عمري الباقي، ولكنها لم تكن لتأبه بعمري. كيف ضيعتْ لي شهرًا من عمري؟ كيف جرؤت على سلبي ثلاثين يومًا كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي؟ كيف لم تفهم أن كل يوم يمضي من حياتي لن يعود؟ كيف فَرّطَتْ في أيامٍ تساوي ثقلها ذهبًا؟ غضبتُ على بسام المنصوري الذي يحتمي بالحب تاركني لعذاباتي. عتبتُ على رشاد رشد الذي يحتمي بالحق تاركني لذئابي. قطعتُ كل صلة بأبي عبد الله العوفي الذي جعل من الحب والحق، وهو على فراش المرض، سلاحين نَصَبَهُما أعوانه في وجهي. كنت أحسب الأيام الباقية على التقائي بها بالساعة، بالدقيقة، بالثانية، وكم كانت الأيام طويلة. الوحوش! هل يحسب المحبون مثلي أيام البعاد؟ هل أكون أول وآخر من أحب؟ أين أضع حبي في المسافة الفاصلة بين المتع والآلام؟ الوحوش! لم يكن ماضيّ كله سعيدًا، لم يكن حاضري كله آلامًا. كانت تكفيني ضحكتها الوحيدة التي سمعتها على الهاتف كي اجعل لضياعي معنى في الصحراء. لكني لم أكن لأثق بالمستقبل، كنت قد هجرت المستقبل للذئاب. لهذا، كانت للماضي مُتَعُهُ رغم كل شيء، ولم تبق للحاضر إلا الآلام. رأيت المرأة التي أحب من زاوية الماضي لأني أريدها أن تكون أكبر متعة، مع أنها كانت تقف هناك على عتبة المستقبل، فعطلتها لم تنته بعد، والحاضر كان أليمًا. الوحوش! أشد ما في الحاضر ألمًا كانت صورة بناتي أمام سريري، وهن ينظرن إليّ أبكي، ويبتسمن. أشد ما في الحاضر ألمًا كان حلم ابنتي بي من مدريد مريضًا، وسؤالها عني إذا ما كنت أشكو من شيء؟ أشد ما في الحاضر قسوة كان إحساس كل الناس أن هناك مشاكل لدي، والمرأة التي أحب لا تحس بشيء. العصافير ندبت حظي، وهي لا تحس بشيء. القطط بكت نصيبي، وهي لا تحس بشيء. الكلاب افتدت روحي، وهي لا تحس بشيء.
هل أحكي لك قصة الأرملة التي قبلتني في الحلم؟
بعد ربع قرن من معرفتي بها، حلمت بأستاذتي الجامعية التي أحببتها رغم أنها تكبرني بسنوات كثيرة. أردت الزواج منها، وأرادت الزواج مني، لكنها ماتت، وهي في الطريق إلى عنابة، مسقط رأسها، الطريق نفسها التي مات فيها زوجها. الوحوش!
الأيام الثلاثة الأخيرة قبل لقائي برشا كانت الأتعس في حياتي: في اليوم الأول كنت موقنًا من رفضها بعد أن رأيت فاجعتي من خلال فاجعة إحدى شخصياتي. في اليوم الثاني عدت آمل بقبولها رغم يقيني بتخلي المرأة التي أحب عني وتخلي العالم. أما في اليوم الثالث، فقد حاولت الاحتيال على اليأس، قلت أحدهم سلبها بكارتها، وهي، لهذا، تخشى الفضيحة، بينما الأمر عندي سيان، بعد أن أعداني الغرب الضحك على مهزلة البكارة. الوحوش! الوحوش!
لم أكن أعلم كيف سألتقيها، لم أكن أدري إذا ما كنت سألتقيها. غدًا سأرتدي لها قميصًا ورديًا. كانت تسكن دماغي.
اجعليني أسكن دماغك، أعبث بهرموناتك، فهي الطريقة الوحيدة لمقاومتهم كلهم. اجعلي منك بيتي المتنقل. لم يكن حبنا ملجأنا، لنعمل على أن يكون، لنحاول. ليكن حبًا بلا أمل، ولنحاول. دعكِ منهم، دعكِ منهم كلهم، من كل الوحوش، ودعيني أكون. سنبدأ من جديد. سنبدأ باليأس، ثم سنرى. حثثتها على الصراخ، ناديتها بيا رشاي، يا رشاي الشرقية الغبية، لن يحبك مثلي أحدٌ على وجه الكرة الأرضية. الوحوش! الوحوش! الوحوش!
- حمارنة، صُبْ لي كأس ويسكي أولاً، طلبت سونيا من وراء المشرب. دَبِل! ياالله! استنى! ما ألذ ويسكيك! إذا كنتَ تشتهيني، أنا فاضية الليلة؟ لِدْ!
- جذبتُها بعنف، في شارعهم، شارع لا إنس فيه ولا جن، وسحبتُ على عنقها السكين، فبالت تحتها.
- لِدْ، قلت لك! بلا تفاصيل!
- خذ كل ما معي من نقود، قالت، ليس معي منها الكثير.
- لِدْ! يا دين الرب!
- لا أريد نقودك، أيتها القذرة!
- طيب، طيب، وبعدين؟ هل اعترفت؟ ماذا اعترفت؟
- أريد أن أُدخل هذا النصل فيك، في شقك، في دينك، في ربك، في لوثك، أيتها القحبة!
- لا، لا، المسكينة!
- أنا بعرضك، أنا بطولك، صارت تنتحب.
- اعترفتْ، أليس كذلك؟ قالت السبب.
- أشفقتُ عليها.
- لا تقل لي إنك تركتها تذهب، والله لو تركتها تذهب لقتلتك.
- لم أتركها تذهب، أنت مجنونة؟
- وبعدين، قل ما قالت.
- رأيت أحدهم يأتي من بعيد، فزنقتها تحت جدار، وقلت لها حذار، وإلا كانت نهايتك، شخطة سكين، وكل شي خلاص.
- ماذا قالت، يا دين الرب؟
- قالت...
- استنى، سأفرغ كأسي.
- قالت...
- صُبْ لي أخري.
- يا دين الرب، سونيا.
- معلش، أنا أرتعش، كي أحتمل.
- دَبِل؟
- دَبِل.
- كل شي تمام؟
- سآخذ جرعة صغيرة.
- تسمين هذا جرعة صغيرة؟
- أنا مستعدة، قُلْ.
- البنت مصابة بالسرطان.
- ماذا؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!
- نعم، قال النادل محزنًا، وأيامها معدودة عل الأصابع.









الفصل الحادي عشر

- لم تقل لي سونيا الحقيقة، خبأتها عني، كانت خائفة عليّ. لم تكذب عليك، رشا، لم تفبرك قصتها. تمت خطبتها بالفعل، قابلته عندها. شاب أصغر منك بكثير، أجمل منك بكثير، تحبه، ويحبها. عد إلى صوابك، يا أبا بكر، وتزوجني. أنا لا أكذب عليك لتتزوجني، النساء اللواتي هن مثلي لا يكذبن، يكفيهن العالم، هذه الكذبة الكبرى! أنت لا تصدقني، فلتذهب إذن إلى الجحيم! الحياة جحيم معك، أحدٌ لن يحتملك! وأنا، أفضل أن يقتلني الملك القادم، هكذا أخلص من حياتي، هذه الكذبة الصغرى! ستعود رشا إلى الجامعة غدًا، لأتأكد من كلامك بنفسي، فإذا كان صحيحًا، تزوجتك، وذهبنا إلى أمريكا، إلى أبعد مكان عن عمان.
باكرًا في الصباح، بدأت أتلفن على مكتبها، وهي لا تجيب. خفت أن تكون أمها قد منعتها من المجيْ، وخفت أن تكون قد لازمت الفراش. كنت شخصًا مضحكًا، لا شخصية لي، لا أواجه الشدائد بشجاعة. لم أكن على مستوى أولئك الذين تشرد شملهم، فبادلوا الشر بالشر، وفقدوا كل معاني الخير. انشغل بالي، فذهبت بعد محاضرتي الأولى أطرق عليها الباب. تنفست الصعداء لأنها لم تكن هناك، لا أدري لماذا، فتصفحت الوجوه، وكأني أتصفح كتابًا. كان ذلك كإشارة ضمنية، لصونها من العثرات. ذهبت إلى مكتب زميلتها، فإذا بها تخرج صفراء كحبة الحامض، حزينة كنجوم المندلينا.
- تلفنتُ لك عشرات المرات، قلت لها.
- مديري المسافر لن يعود، أوضحتْ.
خرجت زميلتها كنفرتيتي مزوقة، كمسز سمبسون مكلثمة. كانت تبدو بعد عطلتها في أتم ارتياح، ازدادت امتلاءًا، تناقصت اكفهرارًا.
- أنتِ واءمتكِ العطلة، قلت لها، رشا لا.
أشارت إلى رشا، وأرادت معارضتي، لكنها تراجعت أمام ذبول رشا:
- عدنا إلى العمل معًا، قالت قبل أن تنسحب
- يجب أن نلتقي، همست في أذن رشا، يجب أن نتكلم كشخصين بالغين.
- سونيا، ألم تقل لك؟
- ماذا تريدينها أن تقول لي؟
- إذن من يكون؟
- من يكون من؟
- الشيطان، لست أدري.
- هل وقع لك مكروه؟
- اطمئن بالاً، لن يقع لي أي مكروه.
- طالما أنا هنا.
- طالما أنت هنا.
- سأحميكِ.
- ستحميني.
- سأنقذك.
- ستنقذني.
- من كل شيء، من كل شيء.
- من كل شيء.
أعطيتها أوراقي في غلاف.
- هذه كلمات كنت أتسلى بكتابتها لك بانتظار أن أراك.
تلقفتها، وشدتها إلى صدرها. رأيت أكثر من واحد يدور حولها. لم أنتبه إلا فيما بعد إلى أنهم كانوا عشاقها. عدت بعد محاضرتي الثانية، وأنا خائف عليها. كانت صورة الوردة الذابلة تمزق بشوكها خيالي. ستنهار إذا ما قرأت أوراقي. أردت ارتكاب أخف الضررين، بينما الواحد أثقل من الآخر. كنت مضطربًا اضطراب البحر، مضطرمًا اضطرام القلب. غادر مكتبها عاشقٌ ربى ذقنه تعبيرًا عن آلامه. كان حزينًا، ولم أعرف إلا فيما بعد أنها تصفي حساباتها مع عشاقها. أخطرتها بقسوة كلماتي، وطلبت إليها ألا تقرأ أوراقي الآن، وألا تهتم بها، ما عدا الأخيرة، لا أريد بحال أن تؤثر عليها. رسمتْ على شفتيها ابتسامة بُنِّيَّة قشرية سفرجلية، مُزَّةَ الطعم، ولم تعلق.
- سآتيكِ بعد محاضرتي الثالثة، وسنذهب إلى مكان نكون فيه وحدنا.
وافقت.
- هل أستطيع الاعتماد عليك؟ هل يمكن أن تكون لنا ألفة الأَوِدَّاء؟
لم تجب.
ورغم الذين كانوا بين جيئة وذهاب:
- أحبك!
لم تبتسم.
كانت تنظر إلى آخر، أحد عشاقها، مثلما عرفت، فيما بعد، وهو يراقبنا. كانت تعذبه بي. تناضل. تمارس حريتها. تكشف عن ساقيها. لم تجد في نفسها حرجًا. كانت الكلمة المحرمة. الإشارة الدالة. الحفلة الحافلة. بعد المحاضرة الثالثة، أخذت تعذبني بغيره، كطفلة تؤذي الأطفال، وتجعلهم من أجلها يؤذون بعضهم. اقترحتُ عليها الذهاب إلى مطعم الجامعة، كي نحكي بهدوء، فاعتذرت، وسارت إلى جانبي في الممر.
- أريد البكاء على صدرك، همهمتُ بطِراء الرُّطَب.
- لا أريد، ردت بجفاف الحطب.
- ماذا تريدين إذن؟
- البكاء على نفسي.
- لماذا؟
- لماذا كان ذلك الشخص الشيطان؟
- أي شخص؟
- شخص تبعني في شارع شذونة.
- هل آذاك؟
- لا.
- ماذا فعل؟
- هددني و...
- و...
- لا شيء.
- قولي.
- كان ذلك من أجل النقود.
- في هذا البلد كلهم لصوص.
- بكيت، ولم يكن بكائي كافيًا.
- لهذا تريدين البكاء على نفسك؟
- لهذا.
- إذا أردتِ أبكيتك أنا.
- هل تفعل هذا من أجلي.
- أفعل كل شيء من أجلك.
- يا لك من رجلٍ طيب!
- كل شيء.
- أعرف.
- كل شيء، كل شيء.
- هل كل الإسبان مثلك؟
- إذا أردتِ أن أكون مهرجًا كي أبكيك، كنت مهرجًا! إذا أردت أن أكون مومسًا، كنت مومسًا! إذا أردت أن أكون حذاءً، كنت حذاءً، بل كل الأحذية!
- يا لك من قلبٍ كريم!
- أموت من أجلك!
- بل أنا التي تموت، ولم تعد تحتمل!
- كنت أموت أنا، وأمك لم تشفق عليّ!
- أمي لا ذنب لها.
- الكلاب الموجعة تشفق عليها الناس، أما هي فلم تشفق عليّ أقل شفقة!
- أمي لا ذنب لها، قلت لك. أنا...
- أنتِ ماذا؟
- أمي لا ذنب لها.
قالت شيئًا عن قيس وليلى لم أفهمه، إذ ناداها أحدهم لهاتف جاءها، فذهبت تاركة إياي في حيرة كبيرة. أحسست بأنني لا أتقن الصمت، لا أتقن الكتابة، لا أتقن الإصغاء. وقفتُ مسخًا في الممر منتظرًا، لم أكن أعلم أنه دوري في تصفية حساباتها مع عشاقها. مرت في خيالي صور طلبتي، فقلت أَوْقَعَتْهُم جميعًا في أحابيلها. بعد ذلك، قالت لهم أنا أعتذر، أنا مخطوبة، لنكن أصدقاء، وتتركهم لغيرهم، بينما كانت تتسلى. تخيلتها ذاك الشيطان الجميل، وهي تقطع قلوب محبيها بالسيف، وتقهقه، وهي تطوي الماضي طي السجل. هل هو ظاهرها الكاذب أم ظاهر الحقيقة؟ جاء أحدهم في الوقت الذي عادت فيه، وسألها لِمَ أنت حزينة؟ كانت بعد الهاتف عازمة على قطع كل شيء معي. رأيتها بشعة، وهي تقف أمامي. بدت لي مفترسة. انعدام الأدلة. انعدام الورثة. انعدام المعاني. كالرجل الآلي. لم تكن هي، كانت الأخرى التي لم أعرفها، لن أعرفها.
- أنت تظلمني، أنت تهينني، أنت تذلني، أنت تبصقني، أنت تشخني، أنت تلوثني بحبك، فحبك غائطك، أنت تهدم عليّ أعمدتك، أنت تشعل بي حرائقك، أنت تقبض على الريح بيد وبيد عليّ وتجعل من كلينا زوبعتك! لخراب العصور وعذابات الأجيال وسقم النفوس! هل تعرف ما الحب أنت؟ ما الهوى؟ ما الغرام؟ القتل هو الحب لديك، التنكيل، الإرهاب. باسم الحب، السعادة، المستقبل، الهناء، الرخاء، الحرية، العدالة، استرداد الحقوق، إحقاق الحق، إعلاء المرء، المرأة، الثقب، فالمراة ثقب، الحياة ثقب، العالم ثقب، أسود! حريتك عبوديتي وعبوديتي حريتك! كل ما تفعله بحبك تبديل عبودية بعبودية! العبودية العبادة! هذا هو حبك، مدمر لا محرر! حبك تَمَلُّك، قِنانة، انبطاح، انفتاح، انشراخ، انفشاخ، ثقب! الجنس كالكرامة ثقب! الجنس كالقيم ثقب! الجنس كالمواخير ثقب! الجنس كالمعابد ثقب! الجنس كالله كالدين كالرسول ثقب! حررني بالله عليك، أنقذني، حمحمني، ادخل في ثقبي! كوني لبؤة، يا سلام! ربي أظافرك، يا عيني! تمردي، يا قلبي! يا دين الرب! يا الدنيا القحبة! يا البشرية القحبة! الدنيا، البشرية، الأمهات، الآباء، الكواكب، النجوم! أنت، من أنت، يا أنت؟ ليس أنت الذي أريده أنا! لست حلمي، لست أملي، لست إسهالي، لا ولا سعالي أو ضراطي! لست من يفهمني، لست من يعطف عليّ، لست من يحنو على قدمي! تفهمُكَ أنت، تعطفُ عليك أنت، تحنو على قدمك وظفرك ونعلك أنت! فاجعتك أنك لا تفهم ما الفاجعة!
في الأخير، قالت إنها طوال حياتها لا تبتغي إلا الهدوء، فقلت أنا الهدوء! لكنها لم تشأ سماعي. طلبتُ إليها أن تقطع زاوية الهدوء القائمة إلى ضلعها الآخر، فأعادت إنها مخطوبة.
- أنا مخطوبة، دكتور، صاحت، أنا قحبة مخطوبة!
وانفجرت تبكي.
رجوتها أن تتوقف عن البكاء، فهناك حولنا من راح ينظر إلينا، لكنها داومت على البكاء. فجأة، نبرت:
- أنا لا أريدك، ألا تفهم! أنا لا أشمك، أنا لا أشتهيك، أنا لا أضاجعك!
- هل تريدين أن نوقف كل شيء؟
- آه! كم أريد!
ابتعدنا عن بعضنا بسرعة، هي إلى مكتبها، وهي تضع رأسها في الأرض، وأنا إلى مكتبي، وأنا أرى الممر كالنفق الطويل الطويل الطويل الذي لا ينتهي.

* * *

حزنت حزنًا كبيرًا على هذا المصير، حزنًا كبيرًا أكبر من أرخذونة الحزينة. حزنت على أبي بكر الآشي نابغة زمانه، العذري الأخير، وسخطت على ما آلت إليه حاله. كنت أعلم جيدًا أن في الحب ناحية من نواحي البؤس، ولكن ليس إلى هذه الدرجة. لم تحزنني حالُ مجنونٍ عاشقٍ أكثر منه، حتى أن كل العشاق المجانين قد بكوه معي، من مجنون ليلى إلى مجنون إلزا. سالت دموعه على خده، فجاء الرجل الغريب بجناحي الملاك، وأراد أن يمسحها له، فرفض أن يمسحها له.
- تريد أن تبكي عليّ، قال.
- من هي؟ سألت.
- التي في عينيّ.
فتح عينيه، فوجدت فيهما المرأة التي أحبها، وهي تذرف الدموع الحرى.
- هذه رشاي، فانظر كم ترأف بي.
- هذه أم الحب تبكي الحب!
- لو بقي في عينيّ دمعٌ لبكيتُ معها عليّ.
وأغلق عينيه.
ترك الرجل-الملاك ينشف له عينيه، ثم كشه كالذبابة.
- ماتت رشا، همهم أبو بكر، وبعد عدة أيام تبعتها سونيا، قتلها أصحاب النظارات السوداء والبدلات السوداء. إني غفرت لكلتيهما!
ضرب عصاه في حجر، وذاب مثل نيزك. أخذتُ أبحث بين النجوم إلى أن وجدته في أحضانها، وهو يبتسم لي.




















الفصل الثاني عشر

وصل بسام المنصوري غاضبًا.
- منعني رجال أبي عبد الله العوفي من مقابلته، قال مشمئزًا، تحت حجة أنني التجسيد للجميل، مكاني ليس بينهم: كلهم بشعون، مهما كانت طبيعتهم أو أصولهم. أحمرنا ليس أحمرنا، أبيضنا ليس أبيضنا، أسودنا ليس أسودنا، أكد لي أولئك الأوباش. مكانك كمكاني ليس قرب الملك.
بدا حزينًا وتعيسًا.
- كدنا نفقد مصداقيتنا لدى الخيول، غمغم، وهذا ما سيحزنها أكثر، لأن الخيول حزينة دومًا!
وبريشة البرق، كتب هجاءه الطويل، أطول قصيدة في تاريخ السخرية الإنسانية.
- سأنهج على منوالك، أكدتُ، سأرفض السياسة لو اتصلت بي، ليست هي المرة الأولى التي اتخذ فيها مثل هذا القرار، ولن أقبل بالأدب إلا إذا دق على بابي.
في الواقع، جاء الأدب يطرق بابي بقوة، بقوة كبيرة. قصة أبي بكر الآشي، هذا النص الاستثنائي الذي بحثت عنه في الإيسكوريال، وفي الكُتُبِيَّة، ها أنا أجده أخيرًا. وقفتُ عليه مُدَنَّسًا، وسأقف عليه مُدَنِّسًا، فقررت اقتفاءه، وذلك بالذهاب إلى شارع شذونة. صعدت إلى الطابق العلوي، فوجدت رجال البلاط الملكي، وهم يعملون على معصرة لزيت الزيتون. كانت حبات الزيتون تنط على شريط متحرك، كرؤوس البشر، قبل فرزها، فرأيت فيها صورة الأردنيين، وكل واحد منهم يحمل مصيره قبل أن يلقي بنفسه في المعصرة. في الناحية الأخرى، كان مهرجو أبي عبد الله العوفي يفتحون أفواههم بالقدر الذي يستطيعون عليه، وكالماء، يعبون الزيت الهادر كالشلال، بينا يتركون عدة قطرات للمتسلقين المنتظرين خلفهم، في ظل السيف الجهنميّ.
قززني كل هذا، وتصاعد الغضب في نفسي. فهمني أبو بكر الآشي، فنزل من مهده النجميّ، وخرجت المرأة، المحبوبة أكبر حب، من عينيه، وأتتني. ابتسمت لي، وسحبتني من ذراعي. على النافذة، كان العاهل الهاشمي ينتظر حمامته الغبية، ويفكر في "هلا"، أصغر بناته. زواجها من الشيخ النفطي كان خير علاج له، لكن فترة نقاهته ستكون طويلة. تحاشيتُ التحدثَ إليه، واستجرت بالسعير استجارةَ خيرٍ أكثرَ من استجارتي به، فقادتني حبيبة أبي بكر حتى ساحة الجامع الكبير حيث اختفت. لم تكن الوجهة وجهتي، فالأوهام هي هكذا، تصنع الأوهام. ذهبتُ في تاكسي إلى شارع شذونة، وصعدته، وأنا أمني نفسي بالوقوع على أحد يقول لي أين تسكن رشا الآشي. كان الشارع يبعث على اليأس لخلوه من العابرين، ولعلوه بين النوافذ والأرصفة، نوافذ كلها مغلقة، وأرصفة كلها مفرغة. رحت فيه وجئت، بلا سلوى. دعوت الله أن يعبر عابر، بلا جدوى.
وأنا يائس يأس المصابين بغير أمراضهم المصيبين لغير أهدافهم، إذا بسيارة مرسيدس صفراء تصل، حسبتها سيارة أجرة. وقفت قربي، ونزل منها رجل وجهه يشبه مؤخرة الطفل. من بابها الخلفي، خرجت امرأة كانت هي، رشا الآشي. كانت حبلى، وبين ذراعيها رضيع. خرج عدد كبير من الأطفال من بناية، وهم يثيرون الضوضاء والضجيج، فشتمهم الرجل. صاح برشا، وجذبها من جديلتها. أخذت تبكي كالعصفور الكسير الجناح، والأطفال يَضَجُّون حولها.
أحرقت لي روحي، رشا الآشي. كنت كالمتحجر، لا أستطيع فعل شيء. تلاقت أعيننا، فمسحت دموعها، وشخصت ببصرها إليّ. بدوري، مسحتُ جروحي، وشخصتُ ببصري إليها. كان الواحد يشخص ببصره إلى الآخر كمن يبحث عن شيء في الدخان، والأطفال من حولنا يواصلون إثارة الضجيج والضوضاء. أردنا الهرب منهم. بلا جناحي الرجل الغريب، وزير الإرادات الإلهية، لن يمكننا التنقل بين الأرض والسماء تنقل الكمثرى بين الأصابع والأسنان. بشراسة، أبعدها زوجها عني، فأدارت رأسها نحوي، لَهِفَةً سفرجلية، قبل أن تخترق عالم الواجبات الجهنمية.
في الجامعة، أخذتُ طريقي إلى مكتبي. وجدت فيه أبا الحسن الفزاع، والشبه الكبير بينه وبين بسام المنصوري أفزعني.
- ادعني عليًا، قال لي.
قبل أن يضيف:
- تُذَكرني بمن كان يحتل هذا المكان قبلك. أنتما تتشابهان إلى درجة تجعلنا نعتقد أنكما توأمان.
- أبو بكر الآشي؟ سألتُ.
- هذا كرسيه، وهذا مكتبه، وهذه أشياؤه. هل سمعت بقصته؟
- ومن لم يسمع بقصته؟
- لم تكن سوى مزحة سمجة، أفضى لي.
فاجأني كلامه، وأججت سخريته فضولي.
- مزحة سمجة!
- كل ما جرى لأن والدي رشا أرادا أن يتأكدا من مدى صدق مشاعر أبي بكر، فكان لِلَّعبة وقع في نفسه، ولعبها حتى النهاية.
- ورشا، ماذا كان موقفها؟
- كانت تريد أن يكتب عنها، ولما تحقق لها هدفها، كفت عن الاهتمام به. اعتادت على مثل هذه العلاقات العابرة التي تضع حدًا لها بسرعة. امرأة تهوى إشعال النفوس، لو تعلم. اختارته لأنه الأحسن، وما فعلته له كان بإملاء من لا وعيها، ثم ألقته كشيء لا أهمية له.
عضضتُ دهشتي بأسناني لِما سمعت، فصرخَتْ دهشتي على شفتيّ. سكت الفزاع قليلاً قبل أن يضيف:
- اليوم تجدها تتعذب من وخز الضمير، كان أبو بكر يعلم أنها ستندم، أنها سترجع إليه. سترجع إليه وهي تحبو على الأربع! لكنه سيطردها كالكلبة!
نهض ليقوم بدورة في هذا الجحيم، كما قال، تاركًا إياي أغرق في عدم اليقين. بعد قليل، لحقتُ به. كانت طبقات دنيا الجحيم تنطبق على بعضها، فلا تمييز بينها. غدا الممر نفقًا بلا نهاية، فانبثق الفزاع من العتمة، وجذبني من ذراعي.
- من أنت؟ سألتُ، وأنا لا أميز وجهه.
- أنا الحاضر الغائب، أجاب. أنا الظاهر الخفيّ. أنا العادل في الحب وفي الكره. أنا الرجل الذي يعرف كل شيء ولا يقول شيئًا!
- هل رأيتها؟ كانت ترتعش كالعصفور الكسير الجناح!
- رأيتها، لكني لا أريد أن أرى شخصًا آخر غيرك. هي، هي لم تزل شابة، ستصنع حياتها. أنت، أنت لم تزل شيخًا، سنوك الباقية معدودة.
نصحني بتركها، والبحث عن السعادة قرب غيرها. وصفها كشخص غير ناضج: "هذه المرأة لم تُصنع لعالِم من معدنك!" أنهى.
- ولكني أنا، أحبها!
لَعَنَ مثل هذا حب، التدمير جوهره.
- استثمرِ الحبَّ الذي تُكِنُّهُ لها في الكتابة، قال لي، إنها الوسيلة الوحيدة لنسيانها.
واختفى في أقصى النفق.
لم أصل إلى طرد صورة العصفور الكسير الجناح، المبتل الرياش، المرتعش تحت المطر. كانت تلك الصورة تلخص كل حياتي، التي حطمتها رشا. كيف جرى من فتاة رقيقة مثلها أن تراكم أطنان العذابات تحت معالمها الملائكية، أن تخفي وجه الشيطان، وتنشر الشر؟
حلمتُ برشا، وهي بصحبة أصدقائها، ما أن رأتني حتى تركتهم، وجاءت تقبلني. قدمتْ لي عنقها لأطبع عليه قبلة، قبل أن تتعلق على ذراعي، وتغادر معي. إلا أنها أوهام السابح في أحلامه، فعكسها ما وقع لي.
وأنا أغادر الجامعة على الساعة الواحدة، رأيتها بصحبة أصدقائها. رأتني، وأنا أقترب، فأعطتني ظهرها. لم أحتمل منها ذلك، فضربْتُها على ظهرها ضربة خفيفة. رمتني بنظرة شرسة، نظرة حاقدة. كان الحقد كحلها، والشراسة أزرقها أخضرها أحمقها. رشقتْ عيناها المكحلتان الشرر، غير أن صورة العصفور الكسير الجناح ظلت تطاردني طوال الليل. لم أمنعني من التفكير في صدرها الضامر تحت كنزتها الناعمة التي لمستُها بإصبعي. كانت تنكّدني هذه المرأة التي لا رغبة لها ولا عاطفة. كانت في نهاية الأمر امرأة خاضعة لإرادتها. ماذا كانت تريد؟ أن نضعها في قفصٍ ذهبيّ؟ كانت سعيدة في سلاسلها، بين العادات والتقاليد البائدة. لم تكن عبدة الحب الذي تكنّه لشخص آخر. لم تكن تعرف كيف تحب. عرفتُ فيما بعد لماذا هي وأمها كانتا متآلفتين ضدي. كانتا ضحيتين لإرادتهما. نعم، لقد خدعتا جلادهما. كانت مدريد اللامخلصة الكبرى. كانت إيزابيل اللامتيمة الكبرى، كان مليكي اللاغيري الأكبر. كان آميديه اللامبالي الأكبر. الأعمدة التي هدمها أصدقاؤه الباسك في بلازا مايور، أجمل ساحة في العالم، كانت الحقيقة الوحيدة، حقيقة بالأحرى فظيعة.
اكتشفتُ فجأة أن مدريد ليسها غير أعمدة ضخمة، وأن إسبانيا ليسها غير صفحة في المخطوطات المدنسة اللاموجودة، صفحة ملطخة بالدم. كنت تلك الصفحة. كنت خؤونًا. كانت الخيانة محور حياتي. دونها، لم أكن لأوجد. تعلقي برشا لم يكن له سبب آخر ليكون: أن أكون خؤونًا بشكل دائم. تهاويت. لم أعد أريد التفكير في شيء، كنت أريد التفكير في رشا، المتآمرة. لم أكن أريد التفكير إلا في صورة العصفور الكسير الجناح. لم أعد أريد تشكيل النجوم، لم أعد أريد الكتابة، ولا العودة إلى السياسة. لم أعد أريد العيش، لم أكن لأقدر عليه دون أن أخونني.
انهارت عمان من حولي، اقترب الليل من نهايته، عم الصمت. كانت هذه المدينة مقبرة بالفعل، البيوت القبور، الظلال الأشباح، الأرواح الأنصال. فتحت واسعًا عينيّ الميتتين، لكني لم أر شيئًا. كنت أرى فقط العصفور الكسير الجناح، وكنت أرى رشا، في تلك اللحظة، رشا التي حطمت حياتي.
هذه الصورة، مع فكرة أنها لا تريدني، جعلت الدموع تتدفق فيضًا من عينيّ. كانت دموع كل المحبين، كل اليتامى، كل التعسين المجانين المأفونين المدنسين. كانت تجري كالأنهار. تَفَجَّرَ ضغطي. غدا جسدي جزيرة. كان ينهضُ بالليل. بدت عمان لي نُقَطًا. نقطًا كثيرة. نقطًا لا تعد ولا تحصى. نقطًا لانهائية. اجتاح الثقل ساقي. الحديد غدا خفيفًا. كنت أريد الضياع، ومن تلك الإرادة كانت تنبثق متعتي، متعة الضباع. بفضلها، كنت أصل إلى ما لم يصل إليه الإنسان. اكتسبت معرفة الوقائع الحاضرة ببصيرة ثاقبة. بصيرة في ذاتها، تجسيد لثورة فلكية ضد إرث العصور البائدة. لكني لم أكن قد وصلت بعد إلى الحكمة. كنت أعلم أنني لن أصل إليها إلا بعد البداية الجديدة. بداية ستكون في آنٍ واحدٍ نهاية. كنت أتجه نحو النهاية. كي أصلها كان عليّ أن أحقق شرطين: شرط العمى وشرط الشلل.
في الجامعة، لمحتُهَا في الساحة مع جمع من الأصدقاء. على الرغم من ساقي التي تؤلمني، حاولت أن أقطع المسافة التي تفصلني عنها بصعوبة. اختبأتْْ خلف جدار من أجساد أخذت تدور حولي. أخذت تدور حولها وتدور حولي. أخذت تدور حولها ويدور العالم حولي. كنت على حافة الهاوية. كل حياتي، كل تاريخي، كل حضارتي، منذ أول سفينة رست على شواطئ مالاقا حتى آخر مجذاف مكسور في العقبة، كل حياتي، وكل تاريخي، وكل حضارتي، كل هذا كان على وشك السقوط في سديمِ هاويةٍ بلا قرار.
راح أصدقاء رشا يدفعونني، وهم يقهقهون. ناديتها كي تأتي لنجدتي، فأخذت، هي الأخرى، تدفعني، وهي تقهقه. فقدتُ التوازن، وبدأتْ رحلتي نحو سقوطي الأبدي. تعلقتُ بماضي كل المحبين في العالم، ورفضتُ ماضي العرب. تسلقتُ حاضر كل المعذبين في الكون، وطردتُ حاضر العرب. استعنت بمستقبل كل التقهقريين في أبدان البشر، وبصقت مستقبل العرب. كنت على وشك الوصول إلى المتعة الماضية وإلى الوقت الضائع. كنت أعد نفسي لاحتفالات الظلام، وأنا أتقاسم سعادة العناكب وأعشق الظلال. رفعتني ضحكات المرأة التي أحب حتى أديم السماء. كانت تأخذني بيديها اللامرئيتين، وتلوح بي كما تلوح بمنديل. قبلتني بشفتيها الزجاجيتين، ثم تركتني كقطعةِ دماغٍ مُدْمٍ عند حافةِ جمجمةِ العالم.
خلال سقوطي، كنت أرى ظلال الأقدام التي كانت تقفز فوقي. اتحدت كل الظلال لتصنع ظلاً واحدًا. كان ظل قدميها. اقتربتْ، ووطئتْ وجهي. تفجرت أغشية عينيّ، ورأسي. وطئت عقلي. وطئت قلبي. وطئت كنهي. وطئت كياني. وطئتني كلي. أطلقتُ صرخاتٍ تَفْلِقُ الروح. كانت النهاية.
آهٍ! كم تمنيت، في تلك اللحظة، أن أكون في سن العشرين!
تأملتُ المكتب الذي جلس عليه أبو بكر الآشي، لامسته بأصابعي، فخورًا بامتلاكي إياه، وكأن العلم والفِلاكة ومدريد، المدينة والأنثى، لي. تناولتُ أشياءه التي كانت له واحدًا واحدًا، وتأملتها مليًا، دون أن أمسح الغبار عنها. رفعتُ عينيّ إلى السقف، وفكرت في كل ما فكر فيه. تخيلت رشا، وهي تجيء إليّ، كما كانت تجيء إليه. ثغرها، ثغر التوت الوحشيّ، غَنّى في قلبي.
شدني مفتاح معلق على المكتب، كان مفتاح الجوارير. جررت الأول. مغلق. الثاني. مغلق كذلك. الثالث. مغلق كالاثنين السابقين. كان المفتاح يغلقها كلها في وقت واحد. حاولت فتحها، فلم أُفْلح. كان المفتاح صدئًا. عدت إلى سحب الجوارير واحدًا واحدًا، بعنف. لم تتحرك. حاولت تحرير المفتاح، أو على الأقل إدارته، بلا فائدة. ضربت الجوارير بيدي، محاولاً من جديدٍ فتحها، لم تتحرك. ركّزتُ و، بجهدٍ جهيد، تمكنتُ من إدارة المفتاح. بسرعة، فتحت الجارور الأول. لا شيء. الثاني. لا شيء كذلك. الثالث. جَمَدَتْ أصابعي. ترددتُ قبل أن أفتحه، وقلبي يخفق بقوة. تذكرتُ اعتقالي في مراكش، من أجل حب قصة حب. تقاطرتْ في رأسي كل الصفحات المصفرة التي تصفحتها. أدمتني النظرات الولهى للأميرة إيزابيل عندما ألزم المرض آميديه الفراش. خنقتني أو يكاد زوجتي الزاهدة، المهجورة في قمة الأطلس مع إله عاشق. عقرتني ابتسامة كلارا وزارا وسونيا. قتلتني تلك القبلة البعيدة، البعيدة جدًا، في شذونة أو أرخذونة، لست أدري على التحديد، عندما قلت الوداع لطفولتي للمرة الأخيرة. آهٍ! كم أتمنى أن أرجع إلى الوراء، أن أعود طفلاً، لآخذ نفس القبلة. آهٍ! كم أتمنى أن أحرق كل كتبي لأكتبها من جديد بطعم تلك الشفتين اللتين لا أستطيع نسيانهما.
في تلك اللحظة، لحظة المتع التي لن تعود والأماني الضائعة، وجدتُ القوةَ على فتح الجارور الثالث، قوة يائسة، مجبولة بالانتظار الفاجع. فتحتُهُ، ورأيتُ... إصبعًا مقطوعة. كانت سبابة أبي بكر، وجملة واحدة مكتوبة بدمه:
"الله ورشا على الأعداء!"


























الفصل الثالث عشر

ما اكتحلت عيني غُمضًا، وأنا أحاول إقناع نفسي بأن رشا لم تبك إلا لأنهم أجبروها على قطع كل شيء معي. ستقرأ كلماتي وصرخاتي، وستتأثر بورقتي الأخيرة على الخصوص، فالمخرج الأكثر موائمة لنا هو البدء من الصفر. باختبار مشاعرنا، سيبين الواحد للآخر على حقيقته.
ارتديت أجمل ما عندي من ثياب، ومع ذلك لم أكن محبورًا. كنت أحدس حدثًا مًكَدِّرًا، لكني كنت مستعدًا لكل شيء، حتى لحفر لحدي بيدي.
نظرت إلى نافذة مكتبها، فتحركت الستارة. بدلاً من التوجه إلى مكتبي، صعدت إلى المكتبة، وإذا بها تنزل الدرج مسرعة، وكلانا متفاجئ بالوقوع على الآخر. كانت ترتدي النار، وتبدو مضطربة، قلقة. ألقتْ عليّ التحية، ولما رفعتْ رأسها نحوي، كان في نظرتها مزيج من عتاب واضطراب أمتعاني.
تلفنتُ لها عند عودتي إلى مكتبي.
- عليكِ أن تختاري واحدًا من اثنين، قلت لها، إما أن آتي بمسدس لتقتليني، أو أقتلك بطلب يدك.
أجابتني بلا تردد بأنها مخطوبة، وقالت لي أن أوقف هذا الابتزاز.
- ظننتُ أنكِ نضجت منذ البارحة، وأنكِ تتصرفين كبالغة.
نرفزها كلامي، فسمعت لأول مرة صوتها المستثار، وكم كان لذيذًا!
- نحن لا ننضج في يوم واحد!
- بعض النباتات تنضج في أقل من يوم.
- نباتات، قالت متهكمة.
كانت نبرتها تثيرني، وفي الوقت نفسه تَغُمُّني، فلم يتبدل موقفها.
- كما تشائين، قلت لها قبل أن أقفل.
بعد محاضرتي، قال لي الفزاع إنها جاءت تبحث عني. صعدت، وعطرها يقودني إليها، كمن يستقي المعلومات من مواردها، ووجدتها في مكتبها. تقدمتْ باتجاهي، وهي في قميص النار واللهب، لتجرني إلى مكتبي. كانت تسير إلى جانبي مقطبة، وعبوسها يزيدها جمالاً. ذكرتني ببناتي اللعوبات لما يحردن، لما يستخففن بالأمور.
طلبتُ من الفزاع أن يتركنا وحدنا، فخرج مغلقًا الباب من ورائه. أرادت أن تأخذ الكلام أولاً، حتى قبل أن تجلس، فقاطعتها:
- أمس، قلتُ وأنا أحترق بجمالها، تمنيت لو كانت معي مرآة، لأريك كم كنت دميمة! دميمة، جلفة، ولئيمة! كم كان سلوكك نحو شخص يقول لك "أريد البكاء على صدرك" قاسيًا! كنت تلفظين جُمَلَكِ بطريقة ميكانيكية! لم تكوني أنت التي تتكلم، كان واحدٌ غيرك يتكلم بلسانك!
- أنت غلطان، ردت، أنا التي كانت تتكلم.
حيرتني نبرتها الواثقة.
- عندما طلبتُ منكِ الخروج معي، ذكّرتها، كنت أتكلم عن خطوبة، بانتظار أن نحب بعضنا، وأن تأخذ الأشياء مجراها العادي. لكنك أنت قلبت كل شيء، و، احترامًا للعادات والتقاليد، طلبتِ مني المجيء عندكم. ثم، اغتصبتِ ما لا يغتصب، جعلت مني موضوع رغبتك المدنسة.
بدل حردها كان استهزاؤها:
- لأنك تظن حقًا أنني أريدك؟ آه، آه، آه! ولكنني لا أريدك، لم أكن أريدك يومًا! هل تفكر بالفعل أنني رددتك بسبب أمي؟ أنت غلطان تمامًا، أنا التي لا تريدك، ولم تفعل أمي سوى تنفيذ إرادتي.
نظرتُ إليها عَبر جفنيّ نصف المغلقين، ورأيتها تكبر، تكبر. لمعتْ أسنانها، سال لعابها.التقطت أمها، ووضعتها على مكتبي، صغيرة، ضئيلة، كطفلة خائفة. أرادت التهامها. منعتُها، وأنا أطرد صورة روحي هذه.
- إذن لماذا كل هذا؟ قلت مُبَلْبَلاً.
- لأني أحب الكاتب الذي فيك، غير المحسوس، المتعذر إمساكه، المتعذر تمييزه!
ضحكتُ بمرارة. الكذبة غير محسوسة، كالحكاية متعذرة الإمساك، والسراب متعذر التمييز. من يحب حقًا، يحب كل هذا، النسخة والأصل، الكل. نحن لا نفصل الأنف من الوجه، نحن لا نحب الفم فقط أو الأذن. في تلك اللحظة، أقنعت نفسي بأنني تعب جدًا كي أتعارك معها. تركتها تنهي حَبكتها.
- أنا موعودة لشخص منذ ست سنوات، منذ كنت في السابعة عشرة، ولهذا السبب سأتزوج منه.
هذه الرواية سبق أن سمعتها.
- يكبرني بثلاثة أعوام، رشقت.
كنت أعرف أنها تكذب، كنت أعرف أن حب المراهقة لا يدوم، كنت أعرف أنها تلعب، ابتسمتُ لعالم العبث هذا. حتى ولو كان صحيحًا، فلن تبقى لهذا الحب وفيةً وفاءً طويلاً. تذكرت أن أمها قالت لي إنه تخرج من فِيَنّا، مدينة ليالي الأُنْس.
- من أين هو متخرج؟
- من لا مكان، أجابت مبتسمة، لا دبلوم لديه، أو... بلى، رياضي، لديه دبلوم في الرياضيات.
يا لها من "حَبَّاكة"! أكيد أنها عشيقة مديرها أو شخص آخر، هذا لا يهم. شخص لا يضعف أمام الحب، سادي!
- لا، ليس عالمًا، ليس فلكيًا، وليس روائيًا، لهذا السبب لن أستطيع كرهك رغم كل ما فعلته فيّ، ختمت. ستبقى كاتبي المفضل.
ووقفتْ، على بعد خطوتين مني، على مسافة قصيرة، لكن من المتعذر عبورها.
- أما أنا، فلا أستطيع إلا حبكِ، قلتُ، سأحبك دومًا، لأنك حبي الأخير. كيف أنساك؟ ساعديني على نسيانك.
رفعت كتفيها بوقاحة قبل أن تقول:
- تدبر أمرك وحدك.
فجأة، انطفأت ابتسامتها، فاجتاح الظلام كل شيء، وحط الصمت بكل ثقله.
- الحب، كما تفعل، جنون! ما وَجَدَتْ قوله. خذ مثلاً الأسطورة القديمة لقيس وليلى، أو واحدة جديدة أكثر كأسطورة آميديه وإيزابيل، أو أسطورة علا وهلا. قيس، شاعر الحب والمجون، وكذلك آميديه وعلا، شهيدا الحب والحرية. كيف جرى أنهم لم يتساءلوا أبدًا عما سيقع بعد عشرة أيام من الحياة المشتركة مع حبيباتهم؟ هذا، هذا ليس حبًا، إنه الغباء!
- ولكن قبل اكتشاف البؤس الزوجي، قلت والدهشة تسحقني، سيعيشون عشرة أيام من السعادة. عشرة أيام طويلة من السعادة...
كانت تغرق في أفكارها، فلم تسمعني. كالنار المنطفئة كانت، الباحثة عن إذكاء لهبها تحت الرماد.
- ليس الحب ضروريًا لنعيش عيشة زوجية، همهمتْ. أنا، لا أعتقد بالحب أنا.
كان يمكن لتصورها للأشياء أن يصب في صالحي، واقع ألا تحبني لا يمنعها من الارتباط بي كأي شخص آخر. لم أعد أتابعها، انتظرتُ فقط أن ترتسم الابتسامة على شفتيها. أردتُ أن تبتسم، وكل كيانها أن يضيء. ابتسمتْ أخيرًا، وأنا، التهبتُ، مفتتنًا بجمالها.
- الآخر سوف يمتلكك، بُحْتُ لها مثقل الفؤاد، سوف يتمتع بجسدك، سوف يصنع لك أطفالاً، ولكني أنا، حتى أعمى، سوف أحتفظ دومًا في عينيّ بالصورة نفسها التي لك، كما أنت اليوم. سأحتفظ بالصورة، بالوهم، بالسراب.
قرع الهاتف، فنظرتُ إليه. رفعتُ السماعة، ونظرتُ إليها: لم تكن هناك.
كان الفزاع، قال لي إن المقص الذي أبحث عنه موجود على مكتبه، وأقفل. لم أكن أبحث عن مقص أو أي شيء آخر، كنت أبحث عنها، هي، ولم أجدها. تناولت المقص بيد مصممة و، لها، لغيابها، قطعت سبابتي.

بعد هذا الفعل، لم أعد أعرف بالضبط حسب أي نظام وقعت الأحداث. أعرف فقط، يا أخي، أنني بدأت بكتابة قصتي. كتبت كلماتي الأولى بدم سبابتي، وكان الجنون يقود كتابتي. كانت الكلمات الأكثر هوسًا تركض على الورق. وأنا أكتب، كنت أطلق صرخات التلذذ كما لو كنت أمارس الغرام. كانت الكلمات تثير كل حواسي، لأني كنت أكتب فاجعة، فاجعة التخلي عن الجنس قبل أن تكون فاجعة فشل الهوى. مخلصًا حتى آخر العواطف المخالفة للصواب، لم أستطع إعطاء تعليلات منطقية لأفعالي. إذن، لم أستطع الظفر بجسد المرأة التي كنت أحبها، حتى أنها لم ترسل لي قبلة من بعيد. لم أبكِ على صدرها، حتى ولا على قدمها، ولم تقل لي الوداع كما هو دأب المحبين في اللحظة التي ينفصلون فيها. أَنْتَظِرُ دومًا أن تأتي إليّ، أنتظر أن تأتي كل لحظة، وأن تلقي بنفسها بين ذراعيّ، أن تقول لي إنها كذبت، إنني من تحب، والعالم حذاء!
عندما انتهيتُ من كتابة قصتي، أخذتُ أبكي. كان ذلك كما لو كانت المرأة التي أحبها قد ماتت، فموت المرأة التي أحب كموتي. اجتاحني الحزن، وفي الغد بحثت عن الفزاع، كي يُسَكّن قليلاً مما أنا فيه. ولكن عند وصولي الجامعة، كان خبرًا سيئًا بانتظاري. أعلموني أن الفزاع قد مات، هو كذلك. أصيب بسكتة قلبية، قالوا لي. لم أستطع إمساك نهر الدموع المترقرقة على خديّ. غدا الفزاعُ المُؤتَمَنَ على أسراري. وهو يسمعني أقول أحب رشا، كان يحسد الطفل الذي فيّ. وبالمقابل، لقلقه عليّ، لم يكن يتوقف عن إعادة: "هذه البنت، ليست لك، انسها!" كيف لي أن أنسى التي جعلتني أتعذب كل هذا العذاب؟ كان الجرح من العمق بحيث أنه لن يندمل طوال حياتي.
كان الفزاع يتبعها كما لو كان أنا، ويعطيني أخبارها. كان يأتي ليقول لي مع أي شخص تتكلم، ماذا تفعل. لم يكن يهزأ بي عندما كان يقول لي: "كيف استطعت أن تحب بنتًا مثلها، شاحبة، نحيفة، هيأتها على الدوام مريضة؟" عندما تكون غائبة، كان يقول لي: "لم أرها اليوم، لا تفكر فيها!" إلا أنني لم أكن أستطيع منعي من التفكير فيها. كنت خائفًا من أن تكون بالفعل مريضة، فيشتمها، يلعنها، وينتهي به الغضب إلى قول: "فلتذهب إلى الشيطان!" كان يخاف عليّ أنا من مرضٍ لا أقوم منه. كان يحبني كأخ.
قابلتُ رشا في الممر، كانت شاحبة كلها. منذ اليوم الذي قطعنا فيه علاقتنا، لم أعد أنظر إليها في عينيها. كان شعوري بالمهانة يمنعني. كنت بحاجة إلى جعلها تتعذب مثلي، فاخترت تجاهلها. لم يكن باستطاعتي النظر في عينيها. رشا الأخرى ماتت، ولكن تلك التي أمامي تجسدت في الأولى. كنت لم أزل أحبها.
كتبت لها رسالة أقول فيها إنني لم أزل أحبها، ولم أزل أريد الزواج منها. أبلغتها بعميق شجني على أثر فقداني لعزيزين غاليين على قلبي: هي والفزاع. قلت لها قليل ما يهمني أن تكون مخطوبة أم غير مخطوبة، أريدها. هي أو لا أحد. هي صُنِعَتْ لي. وهكذا برجوعها إليّ، ستنبعث من الموت. واصلتُ كتابة رسالتي طالبًا منها إعلامي بمشاعرها الحقيقية، وأكملتُ بآلاف "أحبك".
أرفقتُ رسالتي بنسخة من "قصتنا"، وأخذت أبحث عنها في الممرات الطويلة، مطاردًا دفق العطر الذي تتركه من ورائها. شممتها قادمة من بعيد، فناديتها. اقتربت مني بوجه ميت، فسألتها عما بها، وقلقي عليها قلق المرتعب من الرعب الذي يجسدُهُ ظلها. أنا مريضة قليلاً. أعطيتها الغلاف، وأنا أُحْدِقُ النظر في وجهها الشاحب. أكدتْ، مع ابتسامة "الأخرى"، أنها كانت "مرشحة"، لا أكثر.
مضت الأيام دون أن تبين ظلالها، وعلى العكس، راح أبناء الظلال يشيعون أنني أدبج كتبًا إباحية، وأطلب من طالباتي نقاش الفقرات الخاصة بالجنس. تزعَّمَ مدير رشا الحملة ضدي مدعيًا الدفاع عن الأخلاق. لم يكن يريد فهم صوري المحرمة في عالم يسيطر عليه الخداع. تلك الصور لم تكن مجانية، كانت لها وظيفة. وما كان من الواجب الإمساك به، الدلالات. كنت أكتفي بقرع أجراس الخطر في وجه حالات كارثية نعيشها، وأترك الرنين ينادي بالتغيير، إحدى أمنياتي. عندما رجحت كفة الميزان من ناحيتي، أخذ يهاجمني، وذلك بالاعتداء على حياتي الشخصية. تكلم عن "علاقاتي" بمحبوبتي. كان يعرف كل شيء. استخلصتُ أن رشا كانت تقول له كل شيء عنا، ومن المحتمل أنه كان يقرأ رسائلي، بما أنه يعرف أسراري. كان يعرف أشياء لا يعرفها أحد غيري.
أحببتها، يا أخي، وبقيتُ على حبها رغم كل شيء. بلا تغيير. حبها كان عبادتي. غير أني لم أستطع تفسير سلوكها لنفسي: هل كانت أداة كالأخت كلارا؟ هل باعت رأسي لضربة رأس أو لأن مديرها يعمل لحساب ميجيل هِرِّيرة؟ أولئك الشياطين قادرون على كل شيء. حقًا حلوا في الدم مسألة آميديه، ولكن مع القصة المبتورة للحب الذي كانه حبي، نجحوا في الحصول على ما لم يستطيعوا الحصول عليه مع المجنون الشهيد. في اعتقادهم أنهم يعرفون في الوقت الحاضر شرط الروح المحبة، وأنهم قادرون على التكهن بكل حب أميري ينزع نحو المأساة. لا، حبي كان فريدًا. لم أستطع فهم تصرف رشا في وجه هذا الحب. لم أستطع إدانتها، احتقارها، وكآميديه، لم أستطع حمايتها من مؤامرات البشر والآلهة، حِفْظَهَا لعبادتها كالمؤمن المعتوه. كان حبي لها حبًا وفيًا. كان حبها لي حبًا لاوفيًا، حبًا خائنًا. الخيانة كانت حبها، الخيانة كانت وفاءها، وَرَعَهَا، استقامتها. ومع ذلك، قدّستُ حبًا بلا عقل، بترك نفسي له كليًا حتى آخر المنطق. تقديسٌ كهذا منذورٌ للفشل وللدنس. ولكن أين يوجد المدنس والمقدس في هذه القصة، عندما نعلم أن قلب المرأة يتراوح بين المقدس والمدنس؟
قررت أن أقتلها، أن أنقذ حبي على طريقتي، أن أبكي كل الدمع الذي في جسدي حتى لا أرى ما أرى، ولا أفحص بعيني ما يدور من حولي. أن أتوقف عن حبها بروحي، وأحبها لأول مرة بعقلي، وإن كانت في ذلك كارثتي. أن أبعث بروحها إلى جنة المحبين، بانتظار أن نلتقي هناك إلى الأبد. على الأرض، ليس للمحبين غير الجحيم.
راقبتُ خروج زميلتها، ودخلتُ مكتبها بقدمٍ خفيفة، وأنا أغلق الباب بالمفتاح، فتفاجأت رشا، وحاولت إخفاء ملف ضخم كان أمامها، سقطت منه صورتي. سبقتها إلى رفعها، وبأصابع متشنجة مددتها لها. وَضَعَتْهَا بسرعة في الملف، وقبل أن تدفعه في الجارور، فَتَحْتُهُ، وهو بيدها، ورأيتُ اسمي يتصدر كل الصفحات، وفي رأس كل صفحة مكتوب "سري جدًا". سحبتُ الملف، وتصفحته، كما أتصفح مخطوطًا محرمًا، فذهلتُ. اختطفته رشا مني، ألقته في جارور، وأقفلت الجارور بمفتاح وضعته في معلقها.
- سأوضح لك كل شيء، تلعثمتْ.
- من أنتِ؟ تلعثمتُ بدوري، الملاك أم الشيطان؟
- الشيطان!
- أيتها البغيّ الصغيرة!
- الشيطان، الشيطان!
- كل هذا إذن لم يكن سوى...
- كوميديا، تستطع أن تقول ذلك.
- كوميديا!
- نحن لا نرى الأشياء كما تراها.
- نحن!!!
- معذرة، العلبة.
- العلبة!!!
- أقصد...
- قولي لي كل شيء.
- كل افتراض لدينا حقيقي، الحقائق لدينا كلها افتراضات، هكذا نحن نتعامل معها. لوجود واحد مثلك في الأردن هدف سياسي، أيًا كانت الأسباب الأخرى، أسبابك أولى الأسباب، وهذا الهدف السياسي صحيحًا كان أم كاذبًا لهو كل شيء.
- ولكن أبدًا ما كان وجودي هنا لهدف سياسي!
- إنه افتراضنا الحقيقي، نحن نتعامل هكذا مع كل افتراض يهدد البلد. البلد شيء كثير، بالأحرى النظام، وبتحديد أكثر الأسرة الملكية.
- الملك.
- جلالة الملك.
- عالجتُهُ، وحاولتُ إنقاذَهُ، فكيف تريدينني أن أهدده أو أقلب نظامه؟
- بدأت البداية بمجيء البروفسور لتقسيم البلاد كما أراد تقسيم إسبانيا مُدَعِّمًا طالبه آميديه، تحت غطاء البحث عن الشعر المدنس ثم النثر المدنس ثم لست أدري ماذا، هناك من الذرائع الشيء الكثير، طالما أن الهدف الأساسي، تقسيم إسبانيا لم يتم. لهذا السبب، لم يستقبله أبو عبد الله العوفي: كانت ثورة الخبز في اليوم الذي وطئ بقدمه مطار الملكة علياء برهانًا دامغًا على كل تخوفاتنا.
- والبداية الأخرى؟
- أبو بكر الآشي لم يكن بداية أخرى، كان البقية الباقية، كان قطب الجذب، الاستقطاب لمشروع التقسيم، والحض على تنفيذه، وادي عربة عندنا، أرخذونة عندكم، وفيما بعد مشروع الترحيل، من شذونة إلى إربد أو معان.
- ف... ألقوا بكِ "بين ذراعي" أبي بكر.
- معذرة، يا حبيبي! قالت رشا بلهفة، وهي تتحرك مقتربة مني.
- يا حبيبي! أعدتُ وأنا كلي استغراب وحيرة وعدم تصديق لما أسمع ولما يقع.
- رموا بي بين ذراعيك لتصفيتك، اتخذت العلبة هذا القرار منذ زمن بعيد، قبل ذلك اليوم الذي جئتني فيه إلى بيتي، فالافتراض حقيقي لدينا، كما قلت لك.
- أفهم الآن لماذا كان صمتك المباغت.
- كان الفزاع يُملي عليّ أوامره من غرفتي.
- الفزاع!
- أراد مني أن أضع لك السُّم في طبقك كما فعلتُ مع حاكم مراكش.
- أنتِ من قتل حاكم مراكش!
- في الواقع، لم يكن ذلك سوى خدمة مقابل خدمة نقدمها لزوجة حاكم مراكش بعد أن سلمت إلينا عبد الصمد بلصغير الذي مات تحت التعذيب، وتكون الطريق لك خالية إلى ذراعيها، فنحول دون تقسيم الأردن، ونبقيك على قيد الحياة، ولكن في أبعد مكان، مراكش لا تشكل خطرًا علينا.
- ولماذا لم تقتليني وأنا عندكم، لماذا لم تقتليني هنا في الجامعة، ونحن نلتقي كل يوم؟
- اكتشفتُ أنك لا تمثل أي خطر، واكتشفتُ أني...
- أفهم الآن لماذا كنتِ لئيمة معي ودميمة ونحن في الممر.
- لم يطلبني أحدٌ على الهاتف، طلبني الفزاع، وهددني إن لم أقطع معك أن يُصَفيني ويصفي كل أفراد عائلتي، ماما، بابا، أختي، أخي. قمتُ بذلك رغمًا عني، وأنا لهذا السبب بكيت.
- ذرفتِ دموع التماسيح.
- دموع الحب.
- هل تعرفين الحب، أنتِ؟
- كم من مرة جئتك على الساعة الثالثة، ولم أجرؤ على طرق بابك. كم من مرة ناديتك في الليل، ولم أجرؤ على الصراخ. كم من مرة بكيت عليك، ولم أُرِكَ دمعي! مَنَعَتْنِي مهنتي والتزاماتي السرية من الإعلان عن هذا الحب والانخراط فيه، فكان ما كان على حساب عواطفي. أنا ما مَدَّدْتُ عطلتي إلا لتأجيل قتلك، ما أغلقتُ نافذتي إلا لتعميق يأسك، ما أشعلتُ القلوب إلا لإطفاء قلبك. كنتُ أسعى من وراء تعذيبي لك إلى أن تترك الأردن لتنجو بجلدك.
كنت ذاهلاً لما أسمع، دائخًا، شائخًا، جائحًا، تتزلزل الأرض تحت قدميّ.
- حبيبي، همستْ، وهي تمسك بيدي.
صرتُ على وشك السقوط، فأخذتني بين ذراعيها بحنان كل النساء العاشقات، وقبلتني.
أخرجتُ من جيبي المقص، وهمهمت:
- وأنا الذي كنت عازمًا على قتلك!
قبلتني من جديد، وذهبت بي إلى أريكة.
- أنا مصابة بالسرطان، اعترفت.
- ماذا؟! صُعِقْتُ.
- ابيضاض الدم.
- آه! يا إلهي، همهمتُ، وأنا أبكي على صدرها.
- هل تسمعني؟
- لماذا، يا رشا؟ يا حبيبة قلبي! لماذا، يا رب؟
- سأتعذب كما لم يتعذب أحد في الوجود لأني عذبتك.
- لماذا، يا رب؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- سأهلك كما لم يهلك أحد في الجحيم لأني أحرقتك.
- لماذا، يا رب؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذ؟
- سأعاني كما لم يعانِ أحد في التاريخ لأني أهنتك.
- لماذا، يا رب؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- ستكون ميتة الكلاب الناهشة لبعضها البعض بأنيابها أهون بكثير.
- أفتديكِ، يا حبي!
- ستكون انهيارات الجبال المتكاتفة مع بعضها البعض بصخورها أسهل بكثير.
- لن أترككِ، لن أتخلى عنكِ!
- ستكون ضراوة الرياح والأمواج المتصارعة مع بعضها البعض بقواها الأشد الأعنف الأشرس أقل بكثير.
- أموت بدلكِ!
أدنت المقص من قلبها، وأمرتني:
- عليك أن تقتلني.
- لماذا، يا رب؟
- عليك أن توفر عليّ أقسى عذاب.
- لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- لنحب بعضنا إلى الأبد.
- لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- لنكون على كل شفة ولسان.
- لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- لا تبكِ، يا أبا بكر! لا تبكِ، يا حبيبي! دعني أرشف دمعك، يا حبيبي! لا تبكِ، قلت لكَ!
- سيبكي كل بني البشر من عينيّ عليكِ، يا حبيبتي!
- اترك البشر يبكون من عيونهم عليهم، ولا تبكِني!
- كيف لا أبكيكِ، وعما قليل سترحلين؟
- لا تبكِ.
- اتركيني أبكي!
- لا تبكِ، لا تبكِ!
- كيف لا أبكي؟!
- لا تبكِ، يا حبيبي، لا تبكِ، لا تبكِ!
اخترق المقص قلبها دون إرادتي، اخترق المقص قلبها بإرادتها، والخبطُ على الباب قد وصل أقصاه. بعد آخر صورة لرشا، وهي قتيلة بين ذراعيّ، لم يعد هناك ما يستدعي النظر إليه، وبعد قصة الحب التي كتبتُها عنها، لم يعد هناك ما يستدعي الكتابة.

* * *

كنا نجلس في ساحة الجامع الكبير، أعمى يجانب أعمى، بساق مشلولة، الواحد كالآخر، فأخذ أبو بكر الآشي الكلام:
- الولهُ دون العقلِ لواحدٍ يماثل الطبيعة بالله لا يؤدي إلا إلى الفاجعة، لأن من اللازم، في نهاية المطاف، قبول أن الطبيعة هي الطبيعة والله هو الله. ليس هناك اتصال بين الواحد والأخرى، وإنما انفصال. الطبيعة. الله. الله هو النظام، والله هو الإنسان. بهذه الطريقة العقلُ يَعْقِلُ والوَلَهُ يُولِهُ. البارحة فقط، فهم "حَيِّي" الجديد هذا. لهُ ليس الوقت متأخرًا، ولكن لنا، كل شيء قد انتهى! وهكذا بارتباطك بي، في الآلامِ والأشجان، لستَ الوحيدَ الذي لن يكتب أبدًا.
بحث في جيبي عن المقص الذي قطعتُ به أصابعي، وأخذ يقطع أصابعه، واحدة واحدة، وهو يصرخ، بينما أنا أصرخ معه:
- الله ورشا على الأعداء!
الله ورشا على الأعداء!



الكتابة الأولى:
عمان يوم الجمعة الموافق 1995.06.16
الساعة الثامنة والنصف مساء

التعديلات:
باريس يوم الاثنين الموافق 2015.03.16









أهم المراجع:

• تاريخ العرب للدكتور فيليب حتي وآخرون، الطبعة الثانية، دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت 1953 (الجزء الثاني والجزء الثالث).
• ظُهر الإسلام للدكتور أحمد أمين، الطبعة الثانية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1961 (الجزء الرابع).
• مذاهب الإسلاميين للدكتور عبد الرحمن بدوي، الطبعة الأولى، دار العلم للملايين، بيروت 1971 (الجزء الأول).
• فصول في الأدب الأندلسي في القرنين الثاني والثالث للهجرة، للدكتور حكمة علي الأوسي، الطبعة الرابعة، مكتبة المعارف، الرباط 1983.

















تبنى رواية أبو بكر الآشي كلعبة المرايا عاكسة إلى ما لا نهاية تشابك الحقيقة والخيال في أقدار البشر بحثًا عن المطلق في وجه البربرية.

في الحقيقة أبو بكر الآشي هو أبو بكر بن طفيل (ولد في وادي آش اليوم كاديكس – بداية القرن الثاني عشر ومات في مراكش عام 1185) الفيلسوف الطبيب والفلكي وزير الموحدين، ترك من ورائه حكاية: حي بن يقظان، استوحاها من حكاية هندية قديمة جدًا رواها ابن سينا عن طفل ربته غزالة في جزيرة مهجورة، وهي عبارة عن تأمل ميتافيزيقي حول الوسائل التي نوفِق فيها بين العقل والعقيدة.

في رواية أبو بكر الآشي لأفنان القاسم، يُعِدُّ البطل تحت عيني القارئ صيغة جديدة لحكاية ابن طفيل حي بن يقظان ضابطًا حبكة هذه "الرواية في الرواية" تبعًا للأحداث التي يعبرها. سيقوده بحثه عن الحقيقة من إسبانيا إلى الأردن ثم إلى المغرب ليعود في الأخير إلى الأردن، وستفقده تجربته في الحب المستحيل عقله، فتعطي للحكاية التي سيخرج بها منه بعدًا أقرب إلى الهلوسة والهذيان.

الصيغة الجديدة لحكاية حي بن يقظان هي حكاية الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون، الضابط الأمريكي الذاهب من حرب إلى حرب وفي ظنه إنقاذ العالم وإقامة السلام والعدل، والذي لا يقلع عن ظمأه في الفتح والغزو إلا على أبواب بغداد، بعد أن يكتشف الحب على خلفية حربه في جزيرة العرب. عندئذ، تصبح المرأة العنصر المركزي للوجود وكينونة ما فوق الوجود أيًا كان الشكل الذي تظهر تحته: حقيقيًا أم وهميًا. أفنان القاسم يشبك القرط السردي هنا، فها هو جوابه على السؤال القديم جدًا الذي طرحه أبو بكر بن طفيل، بفضل المرأة يكون العقل عقيدة والعقيدة عقلاً.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إني أحذّر!
- مقارنات عاجلة بين رائف بدوي وعبد الله مطلق القحطاني
- مليار دولار صدقة لله يا محسنين!
- العصافير لا تموت من الجليد النص الكامل
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السابع والأخير
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السادس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الخامس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الرابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الثالث
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الثاني
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الأول
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الحادي عشر وال ...
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل العاشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل التاسع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثامن
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السادس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الخامس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الرابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثالث


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي النص الكامل