أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عذري مازغ - رحلة في الباتيرا (3)















المزيد.....


رحلة في الباتيرا (3)


عذري مازغ

الحوار المتمدن-العدد: 4907 - 2015 / 8 / 25 - 01:54
المحور: الادب والفن
    


انطلقت بنا سيارات التاكسي الكبيرة نحو جهة مجهولة، عمليا، وجودنا بتطوان كان يوحي بأن العبور سيتم بها، لكن لأسباب أمنية، القائمون بالتهريب لم يخبرونا في البداية عن تخطيطاتهم حتى لا تتعرض للتسريب، عندما انطلقت السيارات منعوا الذين يمتلكون هواتف نقالة عن استعمالها طيلة الرحلة، وبالتالي عليهم التأكد من أنها مطفأة، الأوامر كانت حازمة بخصوص هذا الشأن، عند خروجنا من مدينة تطوان لاحظنا أننا اتخذنا جهة الحسيمة، مع مرور الوقت لاحظنا أيضا اننا تجاوزنا إقليم تطوان ودخلنا أراضي الحسيمة، كنا محظوظين نسبيا بوجود الجبلي معنا، فهو أصلا من منطقة الحسيمة، وكان كل مرة يحكي لنا عن أي منطقة توغلنا فيها كما لو كان دليلا سياحيا، كانت حرفته في المغرب أنه متخصص في بيع "الحرشة" (عبارة عن خبز خاص يقدم عادة في الصباح أو في المساء مع وجبة الشاي أو البن، وهو خبز انتشر في باقي المغرب برغم أنه صناعة شمالية بامتياز)، وهو لذلك، أقصد الجبلي، يبدو أنه مر بائعا لهذه المادة في كل قرى ومدن الحسيمة قبل أن يتوغل في باقي مناطق المغرب، اعرف جيدا الجبلي، هو شخص ذكي جدا، مرح، خفيف الظل، لكن مشكلته انه يخسر طموحاته بسبب خفته، أذكر أنه كان بائعا "للحرشة" في حي شعبي بمدينة سلا، بشكل غطى سوقه الكثير من أحياء سلا وصولا إلى حي باب الحد بالرباط ليفقد رواجه بسرعة البرق بسبب خفته في خصومة خرقاء مع احد الصعاليك الذي كان يبتزه في كل فجر، كان عليه أن يتجاوزه بتركه يتناول وجبة فطوره شاي و"مسمن" شراء لسلامة السوق، كان الصعلوك يتراس عصابة مغتصبة، وكان أهل الحي الذي يشتغل فيه الجبلي يعرفون ذلك، وكان الصعلوك ينال ما يريد من أي دكان بدون مقاومة، وحدث مرة انه وقف على بائع "الكاوكاو" في عربة خاصة(اعتقد أن الكاوكاو بالمغربية هو الفول السوداني) السوسي الشلح، فأمره بمده بكمية، بدأ السوسي يزن له غرامات ويطالبه بالدفع، لكن الصعلوك تجاوز حده بأمر السوسي الزيادة في الكمية، ولما امتنع السوسي أن يزيد في الكمية بسبب ان ثمنها يكبر عما تبديه هياة الصعلوك، ساله أن يدفع له أولا، لكن الصعلوك عمد إلى العنف بتشتيت كل الكمية وقلب العربة رأسا على عقب، لا أحد كان يجرؤ على الصعلوك، فهو معروف حتى لدي سلطات المخزن بانه خطير، لكن صديقنا الجبلي الذي اغتصبه الصعلوك هو الآخر في وجبات الفجر حيث كان ياتي عليها دون أن يدفع ثمنها، أراد أن يظهر نوعا من تذكير الصعلوك بجميله في وجبات الفجر حاثا إياه أن يتجاوز على السوسي، وفي ما هم يتفاوضان، استغفله الصعلوك لينزل عليه بضربة رأس على جبهته أفقدته وعيه، في خضم ذلك تدخل أحد مساعدي الجبلي لإنقاذ الامر وكان يجيد العراك، حاول الصعلوك استغفاله هو الآخر بضربة رأس، لكن لحسن مساعد الجبلي تكهن له لتدخل المعركة في نطاق آخر تمكن فيها لحسن بإنزاله بضربات قاضية إلى الأرض، لياتي الجبلي الذي استرد وعيه ويجد الصعلوك ساقطا ليباركه بركلات على وجهه أفقدته كل أسنانه، بعد ذلك ستأتي سيارة الإسعاف لأخذ الصعلوك إلى المستشفى، سيدرك الجبلي أن الصعلوك يترأس عصابة تغتصب المارة والنساء ليلا، وخوفا على اسرته من انتقام عصابة الصعلوك سيقرر مغادرة سلا وبالتالي رواجه الكبير في "الحرشة" الذي وصل إلى أعلا عمارة بسوق الحد بالرباط، عمارة البريد بالتحديد.
كانت مشكلة الجبلي أيضا والتي ألحت عليه بالهروب من المغرب، هي مشكلة من الصعب تفهمها أو استيعابها جيدا، كان بكثرة ما تتسع حركته توغلا في المغرب العميق بقدر ما الأمر يزيد في اتساع ضيقه بالوطن، حرفته في صناعة الحرشة هي حرفة مطلوبة في سوق الإستهلاك، وكان كل مرة يبدع في تسويقها بحيث انطلق من تاجر محلي بالتقسيط إلى تاجر موزع للحرشة بالجملة في كل المقاهي والمبسترات، كان من حيث المبدأ حرفة سهلة، من ناحية يمهر في الصناعة، ومن ناحية أخرى هناك طرق سهلة للحصول على المواد الأولية باقتراضات صغيرة (بالكريدي كما يقال عندنا)، خصوصا حينما يلاحظ جيرانه من البقالة أن نشاطه منعش، يتنافسون هم الآخرون بالتعامل معه بمده بتلك المواد على شكل اقتراضات يؤديها في البداية بأمانة، وما ان يتوغل أكثر في اكتساح السوق وكثرة زبائنه الذين هم أيضا يعتمدون على هذه الصيغ من الإقتراض بحيث يأخذون سلعته على أن يؤدوا ثمنها في آخر الشهر، ولأسباب متعددة يختل في الغالب توازن هذه العملية بشكل يفلس هو بالإلتزام بأداء قروضه للبقالة فيلجأ إلى تغييرهم واحدا واحدا حتى تزكم سمعته فيضطر للهروب إلى مدينة أخرى بعد أن لم هو بعض المال من دائنيه الذين باع لهم سلعته، من ثم يغادر المدينة التي تركها دون رجعة ودون اداء ديون البقالة..
قلت بأنه كان يعرف منطقة جبالة بلدة بلدة وذربا بذرب، لذلك كان دليلنا السياحي في رحلة الموت، بعد خروجنا من تطوان بدا هناك صف من سيارات الطاكس كما لوكنا في موكب عرس، بشكل يمكن أن تقدر عدد افراد المهاجرين الذي سيغامرون معنا هذه الليلة، ثماني سيارات على الأقل دون حساب السيارات الخاصة للمهربين، بحيث يفترض أن أحدهم في المقدمة ببعد عشرات الكيلومترات، وسنفهم بعد ذلك أنها عملية رصد للطريق من رجال الأمن يتولونها لمعرفة الوحدة الأمنية المراقبة في تلك الطريق وكذا قدرتهم على التفاوض معها.
عمليا تجري عملية التفاوض مع هذه الوحدات قبلا بأيام حول مرورنا، بحيث يتم الاتفاق على المبلغ الذي سيؤديه المهربون لأجل السماح لنا بالمرور، وكذا على العناصر التي ستكون في النقطة الأمنية يوم العبور، يكون دور السيارة الخاصة التي تتقدمنا هو التأكد من شروط الاتفاق وذلك بالتأكد من عناصر الوحدة الأمنية المتفق عليها أو تدارك الأمر في حالة حصول تغيير خصوصا أن مع رجال الأمن، لا توجد هناك ضمانات خاصة بحيث يمكن أن يأتي إجراء أمني من السلطات العليا ويغير كل شيء، لقد اضطررنا للتوقف بإحدى القرى التي تسمى تاغسة عندما تلقينا مكالمة هاتفية من عناصر السيارة الخاصة يأمروننا بالتوقف وانتظار الأمر، وهو ما استغلناه لاقتناء بعض الأكل، إلا أن الأمر لم يترك لنا الوقت الكافي بحيث ما ان بدانا نلقي النظر فيما يمكن أخذه معنا من التزود حتى جاءت مكالمة اخرى مستعجلة تامرنا باستئناف الرحلة بشكل لم نستطع اقتناء أي شيء، بالفعل في الطريق مررنا بوحدة أمنية أوقفتنا فقط للتأكد من وجودنا وعن سلامة مرورنا، فهي لم تأمرنا بالتأكد لا من الوثائق الإدارية ولا أي شيء، كانوا يبتسمون للسماء ويقهقهون احيان كما لو كنا قربانا لتلك الليلة..
مشينا مسافة عشرة كيلومترات لتعرج السيارات في طريق معبد مسافة بضع كيلومترات، ثم نزلنا على قمة هضبة أو جبل، لكن الجبلي كان يخبر مجموعتنا بان المنطقة تسمى الجبهة مع انه، وعلى حد علمي، فإن الجبهة مدينة صغيرة ساحلية، لكن الجبلي أوضح أنها المنطقة التي منها يهرب الحشيش إلى أوربا:
ــ الله أكبر، نحن في نقطة دولية لتهريب...، قالها أحدنا ورد عليه الجبلي بالسؤال:
ــ وماذا تعتقد؟ نحن أيضا مهربون..!
كان المرتفع خاليا تماما تبدو فيه أشباح لأشجار تدل على أن المنطقة عبارة عن أدغال متوحشة، في البداية طلبوا المال لأولئك الذين لم يدفعوا بعد ثمن العبور، وقعت بعض التشنجات مع شخص من تازة لم يتوفر لديه الأجر كاملا، كان يحاول إقناعهم بأنه فقير ولا يستطيع دفع أكثر، وأن كل مالديه هو كل ما استطاعت أسرته أن تجمعه، وبدأ يتشفع إليهم بدموعه وتوسلاته إلى أن انسحبت سيارات النقل ليترك وحيدا في تلك الهضبة بعد أن هددوه بالتعنيف والقتل إن تبعهم، ثم ولكي يطمئنوه أمروه أن يعس السيارات الخاصة المصاحبة لنا حتى عودتهم ليعود معهم بعد إتمام إرسالنا..
نزلنا في منعرجات ومسالك معقدة وأودية ملتوية ومظلمة مع حثنا على تسريع الخطوات وعدم إشعال سيجارة أو الهاتف أو أي شيئ يعطي ضوءا تفاديا لوجود بحرية أو عسكر أو أي احتمال يفسد العملية، وبعد مرور وقت ونحن على هذه الوثيرة من السرعة حدث انزلاق بعضنا وسقوطه في حفر تركتها انجرافات مطرية وخدوشات وجروح طفيفة لنصل في آخر المطاف إلى سفح مطل على البحر به منزل، هناك لمحنا إشارات ضوئية من الشاطي فهمت على أنها لربان الباتيرا.
في المنزل تناولنا بعض الماء لدرء العطش ثم فتحوا في بيت خاصا مكتبا لصرف العملة مديرها هو نفسه الشخص المدريدي الشاب، لكن طريقة الصرف كانت عبارة عن غش متعمد، فنحن ذاهبون إلى الجحيم غرقا كاحتمال وارد أو وصولا إلى بلد عملتنا لا تصرف فيه، بدا الامر كما لوكان فرضا ضروريا، حددوا سقف عملية الصرف بشكل لا يمكن تزاوجها حتى وإن كان في حوزتك مال كثير على اعتبار منح صرف للجميع، لكن ذوي الكميات القليلة لا يعطونك مقابلها سوى شحا كبيرا مع الإمتناع من صرف النقد المعدني، وهي طريقة تضطرك على لترك النقود عندهم مقابل رميها، على أن الكثير منا امتنع عن صرفها، بعد عملية الصرف المغشوشة أمرون بحمل كميات من البنزين لاستعمالها كمقود لمحركات الدفع حددت في عبوات من سعة عشر لترات لكل واحد وهو ما اعتبرناه عقوبة عسكرية لم تكن بالحسبان ..
في الشاطيء وجدنا باتيرتان لشحننا، وهذا كان يبعث على الإرتياح على اعتبار عددنا الكبير، كنا تقريبا أكثر من أربعين شخص، وهو ما ينذر بكارثة حقيقية إذا شحن كل هذا الخلق في باتيرا واحدة، كانت إحداها من سعة ثمانية أمتار والثانية التي كنت ضمنها من سعة ست أمتار وقد رست كل واحدة بقرب صخرة بحيث يمكن ولوجهما بدون التبلل في الماء ..
صعودنا للقوارب تم بسلامة تامة، وضعنا عبوات البنزين في الوسط واتخذنا نحن جنبات القارب بشكل يراعي توازنه، الربان يبدو من ملامحة الشقراء المكمدة بالشمس ومن خلال لكنته الريفية أنه ريفي من إحدى مدن الشمال، شخص هاديء جدا ورزين وليس عنيفا كما باقي عناصر المهربين، تبدوا من طلعته أنه رجل مسالم، باسم على طول، كان يقول لنا علينا أن نعمل جميعا لأجل سلامتنا فالبحر وإن بدا هادئا كما نرى فإنه عندما نعبر إلى العمق سنجد أمواجا قد تعلو علينا بشكل يتوجب علينها إفراغ الماء الذي سيتساقط في الباتيرا من حين لآخر حتي تبقى خفيفة.
كان اليوم خريفيا اواخر شهر شتنبر وكانت انطلاقتنا على الساعة السادسة صباحا بتوقيت المغرب، وهذا يعني أننا برغم خروجنا من تطوان ليلا إلا ان المسافة من هناك حتى الجبهة ثم نزولنا في منطقة موحشة أجبرتنا على المشي، الأمر كله استغرق الليل كاملا، انطلقت الباترتان بشكل متوازي مما يضفي أيضا نوعا من الإرتياح بالسلامة برغم أن الباتيرا الأكول كانت محملة إضافة إلى البنزين ب 25 شخص و18 في التي أتواجد بها، فاختيار الباتيرا تم وفقا لأوامر العناصر المهربة، بحيث وضعوا كل مجموعة تنتمي إلى إقليم خاص في نفس الباتيرا، من بين الذين أعادوا الرحلةكانوا خمسة إضافة إلى آخر سيعيدها للمرة الثانية واثنين للمرة الأخيرة حسب شروط الإتفاق.. كنا تعرفنا على بعضنا من خلال تبادل معلوماتنا حول الأقاليم التي جئنا منها، لكن يبقى الأمر مع ذلك مشكوكا فيه،علمت ذلك من خلا شخص من وارززات قدم نفسه على أنه حسن ولم يلبث أن مضى وقت قصير ليناديه صاحبه باسمه الحقيقي، كان حسن هذا حسب ما كان يحكيه قد أمضى ثلاث سنوات في إسبانيا ليتم ضبطه من طرف بوليس الهجرة، ثم طرده للمغرب، وكان بالنسبة لنا مثيرا للفضول، لأنه مازالت تثيرنا أمور أخرى عندما نصل إلى الضفة الأخرى، وكثيرا ما كنا نسأله كثيرا بشكل كان هو يمني علينا نجاح العملية ويطمئننا بأن ليس هناك ما يثير القلق، كانت مجموعة وارززات تتكون من ثلاثة أشخاص، ويبدو أنهم متفقون على إتمام مشوار الرحلة وحدهم بعد نزولنا في الضفة الأخرى بحيث عندما يسألهم أحدنا بالرغبة في مصاحبتهم كانوا يرفضون، تارة بالإدعاء أنه يستحسن أن لا نكون مجموعة كبيرة تثير الإنتباه، وتارة بالإنتباه بأنه لا يريد تحمل مسؤولية أي فشل وكان يستحسن فينا أن يبحث كل شخص عن حظه، ويبدو طبيعيا أنه مقنع في أمره وأمر مجموعته، ويبدو لي شخصيا أنه حازم مع نفسه وله كل الحق في أن لا يصحبه أحد قد يعكر عليه رحلته، بعض المحظوظين بمكالمات هاتفية مع رفاقهم في إسبانيا أبدوا فرحهم لضمانهم وجود مساعدين لهم في الضفة الأخرى، كانوا يثيرون فرحتهم بشيء من الإفتخار وحسن الحظ، وحين يسألهم احدنا عن مصاحبتهم، كانوا يتذرعون بأن مساعديهم يحثونهم على عدم مصاحبة آخرين وهذا أمر سنكتشف في ما بعد انه مجرد افتراء، سنكتشف فيما بعد كيف تتم تلك العلاقة بين المهاجر القديم والمهاجر الجديد وهي علاقة استغلال سأتطرق لها في حينها، لكن يجب أن نبقى حتى الآن في هذا السرد في الرحلة البحرية ونتطرق إلى الامور المختلفة في حينها.. ويبدو من كل هذا الذي أفصحت حتى الآن أن الذين لا حظ لهم في هذه الرحلة الغريبة، حتى الجبلي الذي تجمعني وإياه علاقة نسوبة تملق في الأمر بدواعي كثيرة، أما انا وصديقي سعيد ابن عامل من عمال مناجم جبل عوام من الذين عملت معهم بالمنجم في قسم الصيانة، وهو إضافة إلى ذلك كان العامل هذا صديقا لأسرتي، فكنا الغير محظوين في الرحلة، لا أحد قبل مساعدتنا، حتى ابنة عمه المتواجدة بألميريا رفضت استقباله لأسباب خاصة ربما سنذكرها في الأجزاء القادمة، وكنا قد اتفقنا أن نكمل الرحلة معا ولو سيرا على الأقدام..
قطعنا المسافة الهادئة في البحر ودخلنا منطقة مضطربة، بحيث انقلب كل شيء، حيث كانت الامواج تحيطنا من كل جنب بشكل تخلق حفر مائية تتلوى حولنا، بدأت الباتير تتماوج صعودا وسقوطا مع حركة الموج مما أثار صمتا مطبقا على كل المهاجرين سواء في باتيرتنا أو في الباتيرا الموازية، انقطعت تلك الأحاديث الثنائية والجماعية بيننا، انتابتنا هالة من الخوف خصوصا عندما بدأ الماء يملأ الباتيرا، كان صوت البحر مفزعا.. امضينا مسافة طويلة والبحر على نفس اضطرابه، مسافة أكثر مما امضيناها وهو هاديء، بدأت الآفاق منغلقة، لا بر في الأفق، كله بحر مثير ومخيف، حتى بعض الطيور المثيرة نراها على مسافات شاسعة لا تثير شيئا من الامل مع انها طيور كبيرة الحجم، بدأ أحد المهاجرين يقرأ آيات من القرآن وهي آيات تعجل بالموت أكثر مما تعجل بالأمل، كان الذي يقرأها وقد سماه المهاجرون بالفقيه، قد حكى لنا قصته مع البحر، كان واحدا من اكثر الذين حاولوا العبور في أكثر من مناسبة ولم ينجح، اكثر من خمس مرات يعبر وتفشل الرحلة، وسيحمل كل ذلك الرعب في الفشل إلى تجربتنا، سيخبرنا ان البحر الهائج عندنا كعرف في الأرصاد الجوية هو فقط حركة البحر في السواحل، أما في وسطه فهو هائج على الدوام، أخبرنا أن الحفر المائية في مضيق طنجة حيث كانت محاولاته الفاشلة أكثر عمقا من الحفر التي نحن نتموج معها صعودا وهبوطا، ومن حين لآخر كان الربان يؤيده، والحقيقي أيضا أن الموج لا يتخد ذلك الشكل الذي ألفناه في الشاطيء، أمواج تتشكل في خطوط متوازية، هنا يبدو الماء في حركة غليان بشكل مختلف تماما،تملكنا خوف شديد، أصيب البعض بالدوران والقيء، لكن بعد مرور وقت طويل حاولت تأمل الربان، فهو العارف بالبحر، وإن كان هناك ما يخيف، سيكون هو ألأكثر اضطرابا، كان الربان هادئا جدا كما كنا وقت انطلاقتنا، يمسك بيده على محرك الدفع، ويوجه الباتيرا عكسيا في اتجاه عنف الموج، ومن حين لأخر ينظر إلى الأسترولاب لضبط حركة اتجاهنا، لم يكن قلقا ولا هو معكر صفوه مما أثار في نفسي، مرة أخرى، نوعا من الإرتياح، وهو ما دفعني للهمس لسعيد بأن الأمر لايستحق تخوفاتنا حيث أشرت عليه بأن ينظر إلى الربان ويتأكد مما أقول. كان الفقيه مازال يثير فينا عذاب الآخرة وأمور إعمال الخير والحسنات للقاء الرب كما لو أننا بالفعل نشكل قربانا للتضحية.. تسللت كلمات اطمئناني لسعيد إلى شخص آخر لفجر الوضع بإطلاق تغريدة أعنية أمازيغية جميلة، كان له صوت جميل بالفعل:
"أتثدو ثربات اتاغم امان اوا
إحاطراس أعريم ساغبالو ياوا"
تخرج الفتاة لتسقي الماء
ويعترض طريقها الشاب عند العين
رددها معه البعض، لكن صديقنا الفقيه اعترض على الأمر لأننا في موقف حرج مع البحر يفترض قيام الشهادة، إلا أن الربان بتجربته الحكيمة اخبره بانه يستحسن الغناء على لغة النعي حتى لا يخلق جوا من التشاؤم، أمرنا أن نخرج الماء المتساقط في الباتيرا وأن نعود إلى جو التنشيط كما كنا في البداية، وأن الأمر بالنسبة له عادي لا يستحق القلق.
في البحر عادة، وفوق سطح الماء لا يمكن أن نميز شيئا عن الجغرافية، لكن يمكن أن نميز ظواهر طبيعية، مثلا عند نقطة معينة، شعرنا بصحبة رائعة، قطيع من الدلافين تسبح حولنا، مما اثار صديقنا الفاشل خمس مرات في عبور المضيق بطنجة، شخصيا شعرت بطمأنينة غريبة، بأنسة في البحر بشكل كان كل هذا الكم من البشر معي، في البحر، لا يزن مثقال ذرة من حركة دلفين، كانوا يحومون حولنا، من تحت الباتيرا، أمامها وخلفها، لم أرى في حياتي دلفينا بشكل مباشر حتى هذا اليوم، بدأ البعض يرمي لهم قطعا من الخبز لأجل أن تتقرب، استعطفناها بكل صراحة، اعتقدت في البداية أنها كما تظهرها بعض الأفلام الأجنبية، كائنات مرحة مستأنسة، حتى صاحب العبور الفاشل خمس مرات أو اكثر حاول أن يلقي علينا شيئا من مزاياها مع المهاجر السري، فهي من يزيحه إلى الشاطيء عندما يغرق، وهي تساعد الغرقى لأجل إنقاذهم وكثير من الحكايات التي فاض بها، لكن هي في الحقيقة كانت مختلفة تماما عن صور الأفلام وعن حكايات صديقنا، مثلا لا تلقف قطع الخبز عندما نرمي بها، بل هي تحتاط منا، تأخذه عندما يتدلى منشورا فوق الماء، لكن لا تلقفه،صحيح انها كانت تحوم حولنا ربما لأننا نحن من دخل حدود جغرافيتها، لكنها كانت محترسة جدا، حتى الحكايات التي حكاها لنا صاحب المغامرات الفاشلة، كانت تكذبها، لكن مع ذلك كانت باعثة للطمأنينة في نفوسنا، شخصيا شعرت براحة تامة، هربت مني كل توجساتي المقلقة، شعرت كما لو أني في سلام عجيب، وفجأة، وعل بعد أفق ظهر لنا منظر بناية حمراء كما لو أننا امام مدينة هولندية، نطقت بكل غبظة الفرح والسرور: ها نحن قرب المدينة المنورة، أشرت إلى جهة البنايات، شعرت باني الآن في امان عجيب، أستطيع الآن أن أظهر براعتي في السباحة حتى لو غرقت الباتيرا، لم يعد الخوف يعتليني..
بدأنا نقترب إلى المباني ذات القرمود الأحمر التي لم تكن في الحقيقة إلا باخرة لشحن السلع، أسكت الربان المحرك تجنبا لاسطدام معين كما اسكت الربان الموازي محركه، أخبرنا بأن عليه أن لا يقترب منها اكثر تجنبا لسوء محتمل فهو لا يثق بالبواخر التجارية، لم تعد المدينة المنورة سوى كائن متحرك في عباب البحر وهي بالتالي مهددة لسلامتنا، ويخمن أن يخبر ربانها عن طريق اللاسلكي رجال الخوافر الإسبانية. عادت غلينا نفس الهواجس لكن بدرجة أقل، فمازلنا نستمتع بمرح الدلافين الجميلة والوديعة، الخائفة منا على ما يبدو برغم استسلامنا الكلي للبحر وتداعياته.
عند الساعة الثالثة زوالا (بالتوقيت المغربي دائما لاننا لم نغير ساعاتنا لجهلنا لفارق الوقت بين إسبانيا والمغرب) وصلنا المياه الهادئة، لكن على حساب معرفة الربان لا زلنا في المياه الدولية، بعد مرور الوقت، وعندما بدأت جبال الضفة الأخرى تظهر أوقف الربانان المحركات، أخبرونا بأنه علينا الانتظار حتى المغرب حتى لا نفاجأ بالحرس المدني الإسباني، وطبيعي جدا ان نتفهم الامر، لقد مرت باخرة الشحن التي قد تتصل لا سلكيا بالحرس المدني الإسباني، حتى وإن كنا على يقين بانه لم يروننا إذا لمحونا فعليا، سوى نقط صغيرة في البحر قد يتخيلونها طيور .
سننتظر إذن في البحر حتى تغرب الشمس.



#عذري_مازغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دقة المرحلة
- رحلة في الباتيرا 2
- رحلة في الباتيرا
- احترام المسلم للإختلاف لا يعدو أكثر من نكتة سمجة
- التدين جريمة في حق الإنسانية
- اللينينية هي الثورية (نقد ذاتي حول مقالاتي السابقة حول اليسا ...
- -النص السياسي- والمتلقي العربي (أزمة اليونان نموذجا) محاولة ...
- علاقة اليسار الجديد بالقديم هي علاقة قطيعة وليست علاقة تماثل
- مؤذن الجزيرة القطرية
- دولة التسيب
- إسبانيا على أبواب فجر جديد
- وجهة نظر حول تداعيات فيلم -الزين اللي فيك-
- كابوس الجهوية بالمغرب
- قرأنة ماركس، شكل لإلغاء طابع الثورية في الماركسية
- حول قرأنة ماركس
- مشكل العلمانية في دول المشرق وشمال إفريقيا
- قوانين في المغرب تمهيدا لدوعشته
- الخبز والياسمين وما بينهما
- مساهمة في الجدل حول علمية الدياليكتيك
- يقظة ضمير


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عذري مازغ - رحلة في الباتيرا (3)