عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4839 - 2015 / 6 / 16 - 08:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قد يظن البعض ان سروش إنما يقرأ التجربة بعين عقلانية دون أن يمزج بينهما وهذا فعل تدبري بامتياز حيث أن التجارب كي تكون ذات قيمة لا بد أن نقرأها بعين العقل وبأدواته كي نفهم كيفية تكوين التجربة والظروف التي حطت بمنشأها والنتائج التي نتوقعها ويمكن أن نقيس عليها ما يشبه القانون حتى تكتمل مراديتها وتتبلور صيغة الفهم من خلالها ,وهذا لا يتنافى مع نظرة الكاتب للمنهج التأريخي التجريبي في القراءة, وأعتقد جازما إن القراءة كي تكون ذات قيمة لا بد أن تلتزم الحيادية والتجريد بعيدا عن الانتقائية حتى لو برر البعض لهذه انتقائية مبررات تتعلق بالغاية من القراءة.
فالعقلانية مثلا كما بينا سابقا(تؤمن بأفكار عن الفطرة العقلية والرشد العام والمشترك في حده الأدنى بين الناس) في حين أن التجريبيةالتي تعتمد الدليل دون العلة لا تؤمن مثلا بأفكار عن الفطرة العقلية مثلا وإلا كيف نفسر الجانب الروحي من الدين ,الجانب الذي يعتمد الفطرة والحس الفطري في الأشياء وخاصة في موضوع الدين الذي هو في الأصل علاقة عقلية روحية بين السماء والأرض تمتد إلى جذور الذاتية الإنسانية وإيمانها بما وراء التجربة وما قبلها دون ن يطلب العقل منها التحرك ضمن دائرة الدليل المادي والحسي, فالإنسان مدني بالطبع روحي التوجه قبليا وبعديا.
في دائرة الدين وجوهر الفهم للعلاقة الدين هناك مواضيع خارج الدليل ولا يمكن للحس التجريبي أن يتوصل لها ولكن العقل يؤمن بها ويصدقها نظرا لقوة العلة وحضورها في العقل ومنها مثلا الإيمان بوحدانية الله الإيمان بوجود قوة واحدة مسيطرة للوجود ومنظمة له لأن العلة التي تحضر توافق العقل وتوافق العلم وتنافي التعددية ونتائجها, هنا لا يمكن قراءة التوحيد على أنه تجربة لأنه ثابت بالفطرة وإن كان فيه إمكانية للخوض في تأصيل العلة وبسطها للبحث لكن الملفت للنظر أن أي دليل خلاف العلة لا يمكن التيقن به ولا الجزم بنتائجه ,هنا الإيمان التقليدي للفطرة يقوم مقام الدليل بل هو الدليل على الصحية والاستقامة مع العلم والعقل.
هناك موارد كثيرة في الفهم الديني تبنى على هذه القاعدة دون أن نحكمها بالدليل وبالتالي فخروجها عن المذهب التجريبي لا يعني أنها خلاف العقل ولا تتخذ طابع ديماغوجيا مخالفا وحتى في المفردات الطبيعية البشرية هناك مسائل تشابه المسائل الدينية بهذه الخاصية, الحب والكره مثلا الإيمان بالقدر والإيمان بالقوة الغيبية التي تعمل من خلف ستار العقل لها دور محسوس دون أن نكون قادرين على أثباتها ونفيها بالدليل الحسي أو من خلال التجربة.
الفكرة التي يؤمن بها لوك يمكن تطبيقها على الحوادث الدينية والأحكام التي لا بد من فهمها من خلال الدليل العقلي الذي لا يتجرد عن الروحية ولا ينفر من معطياتها طالما أنها تقع في دائرة القبول العقلي لأنها ببساطة تتطلب الأختبار العقلي ولا تتطلب الأختبار التجريبي عكس فكرة ديفيد هيوم التي تتطرف ايضا حينما يؤكد على أنها لا تقبل البرهان الأختباري لأنها وقائع حقيقية فقط.
الفهم الديني إذا ليس فهما واحدا ولا كليا بل يتنوع حسب موارد الموضوع المراد أختباره منسوبا على قدرة العقل على إدراك هذه المواضيع وجدارته لها, مواضيع مثل الجنة والنار والملائكة ووجود الله وإرادة الله وشكلها وكيفيتها تأخذ عقلانيتها من أصل الإيمان الفطري الذي لا ينكره العقل دون أن نكون ملزمين عقلا أيضا أن نخضعها للتجربة لأن الإدراك الغيبي فيها ممتنع عن الإثبات لكنها في الحقيقية مبنيا على التوقع العقلي الذي لا يناهضه دليل نقض مثل تنبؤاتنا عن الغد التي لا يمكن إثباتها بالدليل التجريبي إلا بعد أن تصبح ممكنه ولكن اختباراتنا لها ممكنة قائمة على التوقع المستند بكونيته على ما نعقله نحن وهو الدليل المتوافر حتى يثبت العكس.
أيضا في مسألة الوحي التوقعات المستندة على فهمنا العقلي لا تنفي أن تكون حقيقة لأن إيماننا بالله التسليمي كشكل وماهية يفترض أن الذي يأتي من الله لا بد ان يمر عبر وسيط قادر على أن يكون مع الله بحال ومع البشر بحال أخر, أي أنه قادر على يتلقى كلام الله بالمباشر وينقله للبشر بالمباشر دون ن يعجز عن ذلك أو يستحيل عليه ذلك.
والدليل هنا هي العلة التي ذكرناها هنا تحديدا طالما أن ما وصلنا لا يناف العقل ولا يناف صورة الإرادة الإلهية التي نعتقد بأحسنيتها ,ولكن عندما يؤمن شخص ما بأن لله له ولد مثلا أو أن له خصائص بشرية كالزواج و الصحبة نكون عارضنا أصل فهمنا العقلي بصورها المصنوعة أو المطبوعة لأن الإيمان بهذه المواضيع تناف جوهر فهمنا لله وللحق الذي يقبله العقل الفطري ويؤمن به.
إذا فأن مثل هذه المواضيع وإن لم نجزم قطعا بإمكانية قدرة الدليل المادي على أثباتها نجزم أيضا على عدم قدرته على نفيها بالدليل أيضا الذي نطالب به, وهنا يكون في مثل هذه المسائل والنظر لها من الجانب التاريخي الحقيقي ينتهي بالتسليم بها من خلال العلة لا من خلال الدليل لأن التجربة التاريخية كلها لا تنفي إمكانية وجودها الحقيقي بل ولا تتمكن أي قراءة من فعل ذلك لا قديما ولا حاليا لأن دليل النفي لم يحضر ولا نتمكن من أستحضاره بأدوات العقل المتاحة لنا حاليا.
لكن في مسائل العقيدة الدينية بشقها العملي التكليفي والحاضرة في الحياة الوجودية يمكن أن نتلمس الدليل من خلال التأويل البرهاني للقصدية والعلة ومدى مطابقته التاريخية للعقل السليم, ومنها مثلا القانون العقابي الجزائي الذي حصره الدين بين حدي الحلال والحرام فبنى التحريم على الأقل بينما فتح باب الحلال على الحد الأكثري, المحرمات منصوص عليها وتمثل الحد الأدنى الذي لا يمكن التوسع فيه نحو الحد الأكثري لأن في لتوسع انتهاك لحد الحلال الأكثري { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }الإسراء15, إذا لا حرام إلا بنص بينما الحلال هو كل ما خرج من حد التحريم.
العذاب نتيجة ارتكاب الحرام لا يمكن أن يكون خارج وجود الرسول (النبي) الذي وظيفته بيان حد الحرام ولكن لا يكلف بتثبيت حد الحلال لأن بيان الحرام يعني ترك حد الحلال مفتوح على الأكثري الغالب {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ.....وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}النساء24, الفريضة هنا حد أقلي منصوص عليه بصيغة الإلزام بالشكل هو أكثري وبالواقع كذلك إذ لا يمكن تجاوزه لأن فيه تعد على الحد الأدنى من الأكثري وليس حد أقلي كما يفهم سروش من النصوص هذه والمماثلة له.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟