أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - الأمنية الأخيرة















المزيد.....



الأمنية الأخيرة


فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4807 - 2015 / 5 / 15 - 14:43
المحور: الادب والفن
    


كنت أدفع أمامي عربة المشتريات بإحدى ممرات السوبرماركت، حين لمحت سيدة تتسوّق من الوهلة الأولى أحسست أني أعرفها رغم أني لم ألمح إلا جانباً من وجهها، همست لنفسي:
هي .. أنا متأكدة.. كل الحكاية أنها سمنت شوية، ما هو برضه فات زمن طويل على آخر مرة شفتها.. عالأقل عشر سنين.
أسرعت الخطى حتى ألحق بها وأقطع الشك باليقين، وأنا أراقب على مسافة عدة أمتار هيئتها العامة ومشيتها الأنيقة الأنثوية. كانت ترتدي حجاباً مزركشاً من نسيج نصف شفاف يكاد ينزلق، لم ينجح في إخفاء شعرها الناعم المسترسل فوق ظهرها.
وناديتها:
- أبلة نادية !؟
التفتت باحثة عن مصدر النداء، وأطالت النظر لتتحقق من وجهي الذي ارتسمت عليه ابتسامة صادقة، ثم شهقت متفاجئة بفرحة :
- ريم !! يا حبيبتي.. وحشتيني أوي.
تركت عربة مشترياتي، واندفعت نحوها أحتضنها وأقبّلها، وهي تربت على ظهري بحنان بالغ وشوق حقيقي. لم تتغير، حجابها ونظارتها وبعض التجاعيد الخفيفة التي لم تؤثر على بشرتها الصافية وملامحها الرقيقة. تنحينا جانباً حتى لا نعطل حركة الناس، وسألتني:
- إزيك يا ريم! أخبارك إيه ؟ إتجوزتي ؟
ضحكتُ وأجبتها:
- من زمااان وعندي بنتين كمان.. وانتي؟ اتجوزتي والا لسة مضربة ؟
فتنهدتْ وابتسامة طيبة لم تفارق وجهها وردّت متجاهلة سؤالي:
- الأيام بتجري.. طب أحب أشوفك ونقعد ندردش شوية لو عندك وقت.
فبادرتها سريعاً:
- ده انا أتمنى ياريت .. إيه رأيك آخر الاسبوع ؟

وافقتْ على الفور، وحددنا الساعة والمكان، ودّعتُها ثم افترقنا .

وأنا أقود سيارتي متجهة لمدرسة بنتيّ لأعود بهما، هاجمتني عاصفة من الذكريات أطاحت بسكون همد لسنوات. أحداث نسيتها أو قررت تناسيها ودسها في أكثر الأماكن إظلاماً في عقلي..
حين وصلنا البيت وجدت نادر زوجي مشغولاً بحديث تليفوني.. قبّـلته على خدِهِ بآلية فلاحظ شرودي وأشار بيده مستفهماً:

- مالك؟؟
أجبته بهمس حتى لا يسمع حديثنا من يحدثه بالتليفون:

- مافيش مافيش كويسة .. هادخل أحضر الغدا.
أنهى نادر مكالمته،وجاء إلى المطبخ ليأخذ الأطباق ويضعها على المائدة كما يفعل كل يوم، فأحس بأني لست مرحة كالمعتاد، فأعاد سؤاله مرة أخرى:
- مالك ياجميل ؟ بالك مشغول مع مين ؟
نظرت نحوه وقلت:
- قابلت واحدة النهاردة كنت أعرفها من زمان، بس قلّبت عليّا مواجع.
- مين ؟
- أبلة نادية .. ما أظنش اني حكيت لك عنها قبل كده.
- هي الحياة كده، عادة عفاريت الماضي بتصحى تاني.
- بس تعرف.. رغم كل شيء إلا إني فرحت وحسيت إني لقيت لقيّة .. الست دي لها فضل عليا .. علمتني حاجات كتير مش ممكن أنكرها... اتفقنا نتقابل آخر الاسبوع.
- تقصدي إيه بكلمة رغم كل شيء ؟ هي ايه الحكاية بالظبط ؟ ثم وضع الأطباق وانتظر.
- أنا ما صدقت اني نسيت ما تفتحش فاتوحة عليّا بقى.
- لاااااااااا بالشكل ده لازم تحكي لي.. مش هاسيبك بعد الغدا أخلص الموضوعين اللي بشتغل فيهم ونقعد سوا تحكي لي.
نظرت له باستسلام وقلت:
- طب بس لما نتغدى يحلها حلاّل.

تناولنا الغداء،وذهبت البنتان إلى غرفتهما لأداء فروضهما المنزلية، وجلس نادر أمام الحاسب الآلي، واتجهت أنا للمطبخ لغسل الصحون. وبعد أن قدمت له كوب الشاي على المكتب، جلستُ في الشرفة التي تطل على الحديقة الهادئة خلف عمارتنا أحتسي الشاي. تمنيت ألا ينتهي نادر من عمله، لأني كنت أرغب بشدة في أن أخلو إلى نفسي وأشعر ببعض الاسترخاء، دون أن أضطر لترتيب الأفكار وتهذيبها فيما لو أصرّ نادر على أن أحكي له.

لقائي المفاجئ بأبلة نادية، جعلني أتذكر كيف كان تأثيرها الكبير على حياتي، وكم كانت تملأ فراغاً ضخماً، سبّبّهُ مرض أمي وعزلتها، ولم ترحمني ذكرى خروجها من حياتي في حدثٍ درامي مؤلم، وكشرّ لا بدّ من حدوثه.
أبلة نادية بينها وبين أمي قواسم كثيرة مشتركة، وتشابُه بين دورها في حياتي ودور أمي التي افتقدتُ حضورها بسبب مرضها الذي وضعها في عزلة قسرية دون إرادة منها ، واستطاعت أبلة نادية أن تعوّضني عن مشاعر الأم الدافئة.

بقيت جالسة حتى جاء المساء. سرت قشعريرة خفيفة في جسدي، فدخلتُ لأرتدي روباً احتماء من برودة خريفية، ولأتفقد بنتيّ وأطمئن على انتهاء واجباتهما قبل الاستعداد للنوم.
" بسنت وميار ".. الأولى في السادسة، والثانية في الثامنة من العمر، عندما دخلت الغرفة كانتا قد انتهتا من الواجبات وبدأتا اللعب على الأجهزة الأليكترونية التي عملنا نادر وأنا عدة أشهر لكي نوفرها لهما. تأملتهما وجال خاطر في رأسي أني عندما كنت في مثل عمرهما لم يكن لديّ سوى مجلة " ميكي" التي عرفتني أمي عليها.


تركتهما، وذهبت لأجري مكالمات تليفونية خاصة بالعمل، ثم عدت فوجدت نادر يرتدي ملابس النوم ويرقد في الفراش، سألته :
- انت ناوي تنام من دلوقتي ؟
- لا .. ده أنا عاوزك تيجي تقعدي جنبي وتحكي لي بقى على الست اللي قابلتيها النهاردة.
- آآآآه حدوتة قبل النوم يعني !
- لا خالص أنا صاحي أهو .. ده أنا بحب حكاياتك ..تعالي بقى.
ضحكت وجلست بجواره وبدأت أروي له ظروف تعارفي على أبلة نادية:
- كانت مدرسة اللغة العربية في المدرسة، واكتشفتْ أني موهوبة في كتابة الشعر، وبعدين..
قاطعني نادر:
- شعر ؟ انتي بتكتبي شعر ؟ من ورايا ؟ طب فين ما شوفناش حاجة يعني!
- يووووه انت بتهزر مش عاوز تسمع الحكاية !! خلاص نام انت وأنا هاروح أشوف حاجات في المطبخ وأكلم بابا أطمن عليه وأرجع أنام أنا كمان .. أصل أنا مرهقة جداً.
لكن نادر لم ينم ، وحين عدت للفراش وجدته ما زال مستيقظاً ينتظرني، فقلت له بدهشة:
- انت لسّة صاحي ؟ مش معقول.
فقال مبرراً:
- انتي فاكراني مش ملاحظك، القلق اللي انتي فيه طول النهار يدل أن الحكاية مش بسيطة، صدقيني يا ريم أنا مش عاوز أعرف من باب الفضول، لكن متهيألي لازم الواحد ينفّس أول بأول عن قلقه ومخاوفه عشان يعرف يعيش، والباقي الحياة ومشاغلها كفيلة به.
وأصرّ نادر أن أقصّ عليه حكاية علاقتي بأبلة نادية. تأملتُ ما في كلامه من منطق، ثم ابتسمت وقلت :
- طب أعمل إيه إذا كان حظـّي جابها لحد عندي!!
- أقولك على فكرة ! أصل أنا حاسس انك مش عاوزة تحكي .. إيه رأيك تكتبي؟
- أكتب إيه؟
- حكايتك .. حكايتك مع الزمان زي أغنية وردة.
فقلت محذرة:
- انت هترجع تهزر..!
فبادرني سريعاً:
- لا أنا بتكلم جد.. فكري في الموضوع على مهلك ، وجربي مش هتخسري حاجة.. عندي إحساس أن ده هيكون متنفس كويس.

...

كانت الريح عاتية، تموج من حولي وتحمل رائحة جيفة، وأوراق الشجر ترتجف بجنون كأنها خائفة تصدر صوتاً غير محتمل كالصراخ .. وخشخشة بجوار أذني تبدو كصوت مفرقعات تصدر عن قدم عملاق تسحق الأوراق الجافة على الأرض.
جسدي كان ممدداً فوق محفّة من سعف النخيل، يجرها كائنٌ ما من شعري، كلما فتحت عيني لأتبين من هو أو أين أنا وماذا يحدث لي، تعوقني غلالة من الشاش تغطي جسدي بالكامل، وبصعوبة أرى أغصان الشجر تمضي عابرة بظلالها متجهة نحو أقدامي، حاولت تحريك ذراعي، لأتخلص من تلك اليد الغليظة التي تقبض على شعري تكاد تقتلعه وأنا أتلوّى من شدة الألم.. أزيح غلالة الشاش من فوق وجهي حتى أتمكن من الرؤية بوضوح، لكن يديّ مقيدتان ومحشورتان أسفل جسدي، لا أستطيع تخليصهما من تحت وطأة ثقلٍ يشتدّ بلا تحكمٍ مني.
استيقظت مضطربة، أتأوّه من شدة الألم وكأن جلد رأسي يحترق، تلفتُّ حولي بفزع في ظلام الغرفة .. ثم مددت يدي نحو المصباح المجاور لفراشي وأضأتُه، فوجدته.. أبي، يقف منتصباً بقامته في وسط الغرفة تكاد رأسه أن تصطدم بالسقف.. وجهه يشبه وجه الحصان ينفث دخاناً من أذنيه ومنخاره.. تتناثر أوراق شجر صفراء وخضراء على الفراش .. أطفأت المصباح من شدة الذعر، وانتابني شعور أن أبي هو نفس الكائن في الحلم الذي كان يجرّني من شعري، وسمعتُ وقع خطواته تهرس أوراق الشجر الجافة. أضأت المصباح من جديد، وبجهد حاولت إيقاظ نفسي إيقاظ نفسي، وأتأكد من أن ما حدث لي كان مجرد كابوس.. نظرت بجواري وحمدت الله أن فزعي هذا واختلاجي لم يوقظ نادر الذي كانت أنفاسه منتظمة ولم يشعر بشيء.
في صباح اليوم التالي، استيقظت وجسدي ثقيل كشوال الرمل، قمت بأداء طقوسي الصباحية بآلية، وشرود ذهن، يزعجني ألمٌ حارق أسفل فروة رأسي، ظل يلازمني طوال اليوم ويذكرني بتفاصيل الكابوس.
مرت أيام الأسبوع روتينية بلا حدث مميز، سوى لقائي بأبلة نادية المتفق عليه. فذهبت وأنا بين الفرحة والخوف من التطرّق للكلام في موضوعات حساسة، فطردت كل شيء من ذهني، وقررت أن أترك نفسي على هواها.
جاءت ترتدي ملابس محتشمة سوداء، وطرحة خفيفة تضعها دون أن تلتزم بالطرق التقليدية للتحجب.. وأضفى مكياج بسيط على وجهها ضياءً وجمالاً.
كان الوقت غروباً، والمكان عبارة عن مركب ثابت على النيل، لا يقطع سكونه سوى بعض القوارب العابرة بأصوات موسيقاها الصاخبة.
تبادلنا حديثاً طويلاً. عرفت من خلاله أن والدتها قد توفيت، وتعيش الآن بمفردها، وتزور أخويها من حين لآخر، كما أصبحت ناظرة في المدرسة التي كانت تدرّسني فيها اللغة العربية.
سألتني عن أمي.. وحزنت لوفاتها، ثم بعد تردد.. سألتني عن أبي، فقلت لها:
- في دار مسنين
اندهشتْ وقالت :
- للدرجة دي؟
فأوضحت لها :
- ده بناء على رغبته وإلحاحه.. يعني باختياره، مارضيش يقعد عندي ولا في بيته بعد ما ماما ماتت وحتى مجدي أخويا عرض عليه ياخده الإمارات معاه برضه رفض.

مر الوقت سريعاً، لم نشعر بالملل لحظة، سألتني عن أمور عجبتُ أنها ما زالت تهتم بها وتصرّ على معرفتها، كسؤالها عن عمري حين مرضت أمي، أو أعمار خالاتي، وهل هن أصغر من والدتي !! وشعرتُ بحرج خفيّ يغمر قسمات وجهها، وهي تسألني عما حدث بعد أن توقفت عن زيارتنا، وماذا كان رد فعل أبي على هذا الموقف، وهل أمي تحسنت بعد خروجها ( أبلة نادية ) من حياتي؟ جاوبتها عن كل أسئلتها بكل صراحة كما تعودت معها دائماً.
انتهت جلستنا على وعد بلقاء قريب، ورجوتها أن تأتي لزيارتي لتتعرف على نادر والبنات، ودَعتْني بدورها أن أزورها.
مشيتُ معها حتى بلغت مكان سيارتها، ثم ودعتها واتجهت نحو سيارتي..
كان بداخلي رغبة ملحة أن أزور أبي في دار المسنين وأخبره أني قابلتها .. هل هي رغبة في الانتقام منه ؟ منعت نفسي بصعوبة حتى لا أدمّر ما تبقى من علاقتي به .
مشاعر غريبة عنيّ.. هل هي الكراهية؟ حقد على ما حصل؟ لا أعرف .. لكن لهذا دلالة وحيدة: وهي أن بداخلي غضباً عارماً سوف ينفجر، لا أعلم متى وكيف ؟ لذا قررت أن أستجيب لفكرة نادر وأسطر حكايتي.

...


وقفت ريم مترددة داخل محل عمّ عبده البــقـّال، تنتظر خلوَّ الدكان من الزبائن قبل أن تبدأ في قراءة قائمة الأشياء التي كلفتها أمها بشرائها. تشاغلت بالنظر إلى البضائع المتراصة على الأرفف بشكل ملفت، حتى يتجاوزها من وصل بعدها فلا ينتظرها، وتستطيع أن تملي طلباتها على عمّ عبده على انفراد. تحدق تارة في الحلويات والشيكولاتة الموضوعة في فاترينة العرض كما لو كانت تحاول التحقق من الأنواع، أو تعيد قراءة قائمة الطلبات بجدية وتركيز تارة أخرى، لتوحي بأنها منصرفة تماماً عما حولها.
كم كان عسيراً عليها حين ينتهي من إحضار طلباتها فتهمس متوسلة بآخر طلب في القائمة :
وخمس سجاير بلمونت
ثم مشيرة بيدها الصغيرة كمن يكتب في الهواء وبصوت خفيض للغاية :
- وأيّد كُلـُّه عالنوتة .
فينظر لها نظرة تأفف، ماطاً شفتيه إلى إحدى زوايا فمه دون مداراة قائلا بخبث:
- مافيش مرة تدفعي؟

تتمنى لحظتها أن تنشق الأرض وتبتلعها " ومالي أنا بالدفع !! هو أنا عندي فلوس !! ماما هي اللي بعتتني، أعمل إيه يعني ؟"

عندما كانت في سن أصغر، لم تكن تعرف معنى كلمة " عالنوتة "، فكانت تقولها بصوت طفولي رنّان مفعم بالبراءة وفي وجود الزبائن، وتنطق الكلمات بآلية، كما لو كانت جهاز تسجيل دار داخله الشريط فجأة وصمت فجأة، فيخرج صوتها الحاد ناطقا بالرسالة :
- ماما بتقولك ربع كيلو جبنة بيضا تلاجة وخمس سجاير بلمونت عالنوتة.!!
وتمد يدها الصغيرة بورقة مطوية على شكل مثلث مدوّنة بها الطلبات ليقرأها، فيضعها بجواره بإهمال، ويبدأ في إجابة طلبات باقي الزبائن متعمداً تجاهلها حتى لو امتدت وقفتها لنصف الساعة.

الآن وقد أصبحت في التاسعة، صار بإمكانها أن تستوعب حركاته المقصودة، وتفهم حركة أصابعه القذرة وهي تتلمس جسدها أو مؤخرتها، فكانت تمد يدها لتأخذ منه أكياس المشتريات صامتة دون ردّ.. وهي تتأمل للحظات أسنانه البنية الظاهرة من فم مفتوحٍ بسخافة وبلاهة، وتتمنى في أعماقها لو طالتْ أصابعه والتفت حول رقبته فخنقته.

كانت مشاعر التذلل والإحساس بالمهانة قد تمكّنتْ منها، عندما أدركت معنى كلمة عالنوتة، ولم تجرؤ مرة أن تشكو البقال لأمها المقهورة، ضعيفة الحيلة، فهي تعلم أنها مضطرة لشراء احتياجات المنزل بالأجل.

عمّ عبده البقال رجل ذو مزاج نكد، يقابل الناس بوجه عابس وكأنه يتفضل عليهم ببيع بضاعته.. لكنها تعلمت نفاق الكبار حتى تنجو من عبوس وجهه، وسخافاته، ونظرة الامتعاض والقرف التي تظهر على ملامحه، حين يعلـم أنها لن تدفع ثمن البقالة التي طلبتها. وتجنباً لما سوف تواجهه نظير الشراء " عالنوتة "، كانت تتودّد بابتسامة متكلّفة، أو أحيانا تضطر لإبداء ملاحظات استحسان لروعة تنسيق الدكان، واتّسامه بالذوق الطيب، رغم قناعتها بعكس ذلك ! لتشعره بانتمائها للمكان، وذلك برصدها وملاحظتها كل تغييرٍ أو تحسنٍ فيه، فتقول :

- حلوة أوي التلاجة الجديدة دي يا عمّ عبده.. انت نقلت الصلصة فوق؟ والمربى تحت؟

ليس من سبب يدفعها إلى هذا التصنّع، إلا معرفتها الأكيدة أن أصحاب دكاكين البقالة الأخرى كانوا يرفضون البيع بالأجل. فقد كانوا يكرهون سلوك والدها، ويعلمون أن لا أمان لوعوده وتعاملاته، فلم يكن أمام الأم إلا مواصلة الشراء من صاحب وجه النكد العمّ عبده، الذي وجدها فرصة سانحة له، ليتمادى أحيانا في تحرشه لبنت التاسعة ! الأمر الذي جعلها تخاف وتحاول تجنب شرّه بهذا التودد المصطنع، ولتوحي له أنه مثل والد أو عمّ.

تدور خواطر كثيرة برأسها وهي تمضي إلى البيت حانقة غاضبة، لعدم قدرتها على الشكوى من عم عبده وإحراجها بردود فعله أمام الزبائن. فقد كانت تشفق على أمها، التي كانت تنفق كل راتبها الذي تتقاضاه على البيت، أمَا قالت لها بالأمس:

- آل إيش رمانا عالمرّ.. إلا الأمرّ منه ؟
السيدة نعمت العشري أم ريم، امرأة عاملة مكافحة، ابتلاها القدر بزوجها مصطفى شاكر، المدمن على المراهنات في سباق الخيل، إلى جانب أنه يهوى لعب القمار في المقهى مع أصدقائه.

لم تنس ريم وقوفها المرهق بجوار أمها في الشرفة في عز الشتاء، تترقبان عودة أبيها من العمل أول يوم في الشهر، خاصة إذا وافق يوم السبت، حيث يقام السباق يومي السبت والأحد من كل أسبوع. تحيط خصر أمها بيديها النحيلتين وتتطلع إلى عينيها لتستمد منها الاطمئنان، فلا ترى إلا القلق يغمر ابتسامة أمها الحزينة. فإذا ما تجاوزتْ الساعة الثانية والنصف ظهراً، موعد عودته اليومي، فإن اليأس لن يترك للحزن ولا للمرارة مطرحاً. إنه الإحباط في ذروته ! فيتناهى لسمع ريم صوت أمها الباكي:

- أدخلي من البرد يا بنتي .. مافيش فايدة .. أكيد راح، عليه العوض في المرتب.

فترد ريم ببراءة دون أن تتلقى إجابة :

- راح فين ؟

يعود مصطفى خاوي الجيوب، بعد أن يخسر كل راتبه في جولة قمار، مفتعلاً الغضب، مبالغاً في العصبية. إلا أن الست نعمت تدرك وسائله الملتوية التي يلجأ إليها، لئلا تتجاسر على مساءلته أو مطالبته بمصروف الشهر !

كانت ريم تلاحظ كل هذا، فترسُب في عقلها الصغير أحداث، أكبر كثيراً من قدرتها كطفلة على الاحتمال والاستيعاب.

هذه هي الذاكرة، عدو الإنسان الأزلي. لا تمرر شيئاً أياً كان دون أن تختزنه، فيترك بصمته الحانية أو القاسية، لتعود في مستقبل الأيام حاملة الماضي بين ثناياها، فتداهمنا مراراته مخيّمةً على حاضرنا ومستقبلنا، فلا تتركنا نمضي في سلام.

وهكذا.. وجدت الطفلة نفسها مُقحَمةً في عالم الكبار قسراً. فشهدتْ فوق كل هذا، معارك ومشادات خشنة بين والديها بسبب النقود، تمازج فيها صُراخ الأم بصياح الأب، لدرجة أنه في إحدى المرات، حاول أبوها أن يضرب أمها لكنها أفلتت منه.. لكن ريم لم تفلت من الخوف، فضمّتْ أخاها الصغير المرتعد من شراسة أبيهما، وهما منكمشان في ركن.

في هذا اليوم بالذات.. تمنت ريم أن يموت أبوها !!
لكن الأم هرعتْ تحتضن ولديها حين لمحت الرعب بادياً على وجهيهما، فقالت لريم وهي تضحك ضحكة، لم تنجح أن تخفي حزناً كثيفاً يغمر عينيها:

- ما تخافيش يا حبيبتي .. بابا طيب جدا.. هو عصبي شوية لكن مش هيعمل لي حاجة.
فردت ريم ودموعها تحرق عينيها:
- أنا بكرهه.

كلمة صادمة ! هل يمكن لطفلة أن تعرف الكره ؟

احتضنت رأسها بحنان وبادرتها بارتياع:

- لا يا ريم عيب أوعي تقولي كده على بابا ربنا يخليه لكم، ده برضه أبوكم.

وتدريجياً، بدأ حاجز يعلو بينها وبين أبيها.

لكمْ حيّرها دعاء أمها لأبيها بطول البقاء! فيبعث خوفاً في قلبها مرتبطاً بإحساس آخر، أن أمها سوف ترحل ذات يوم، وتتركها وأخاها في عهدة هذا الأب الشرس.


في زيارات خالاتها، كانت تجري أحاديث تقترب من إدراكها حيناً وتغيب عن فهمها غالباً. لكن شعورها الداخلي كان ينبئها، أن تعليقات الخالات ليست بريئة، كنّ يسخرن دون شك من أبيها، هل أمها تشكو لهنّ من حياتها؟ هل هناك ما يدور بين والديها غير ما تراه؟ كانت ريم تظهر أنها منهمكة باللعب أو بمشاهدة التلفزيون، لكنها مولية كل الانتباه إلى جهة الخالات وسخريتهن من أبيها، فيهيج شعور الشفقة عليه في داخلها، وإن كانت تتراجع عن هذا الإحساس عندما تقع مشادة بين والديها، فتعود للانحياز إلى صف أمها المظلومة بنظرها أبداً.

ولكن .. لماذا تتحدث أمها بكل هذا الغموض؟ ماذا تعني بعبارة: عدم تمكنه من انتظارها وأنها ترجح أن هذا قد يكون مرضاً ولابد من استشارة طبيب؟ لا بدّ أن في الأمر لغزاً غير مسموح للأطفال بمعرفته، وإلا .. لماذا طلبت منها أمها أن تعود لغرفتها عندما وجدتها تحدق باهتمام بعينين متسائلتين؟


عادت إلى غرفتها، وارتمت على سريرها تستعيد ما سمعت، مرت ليلة مشبّعة بالقلق، وجاء الصباح ولم تفكّ بعد الشيفرة.أرادت الاستفسار لكنها لم تجرؤ على مواجهة أمها.

لم تكن أم ريم امرأة عادية بل ذكية رومانسية حالمة ومختلفة عن أخواتها .. تطمح إلى تغيير عالمها للأفضل، وتنشئة ابنتها بطريقة غير تقليدية، رغبةً في كسر المألوف على الأغلب وتحدياً لزوجها الذي كان رجلا متزمتاً، وكانت دوماً تشعر بأنها ظُلِمت بزواجها منه لاختلاف طباعهما إلى أبعد حد.. كما أنها كانت تفوقه ثقافة وذكاءً.

امتلأ عقلها بالأحلام، أحلام الحرية والانطلاق والتخلص من قيود الزوجية فتمنت أن تجوب العالم في رحلات استكشاف تصطحب فيها ولدَيْها . ولما كانت ريم متعلقة بشدة بوالدتها فإنها عاشت مع تلك الأحلام التي شعرت أن وجود أبيها كان مانعاً لتحقيقها، فكأن تعاسة الأم انتقلت تلقائيا إليها فساءت علاقتها بوالدها دون سبب مباشر، وتطلّعت الطفلة إلى الحياة الأسعد لو تخلصت أمها من أبيها، فيخلو لها ولأخيها الجو ليجوبا مع أمهما أماكن جديدة ومثيرة.

كمْ تعالقت أمها مع خالاتها اللاتي كنّ يتهمْنها بأنها تدللها وتفسدها ! فتدافع عن أسلوبها في تحقيق أمنيات ابنتها ودفْعها إلى أبعد الآفاق، نعم.. إنها لا تنسى كم ادخرتْ أمها أو اقترضت لتحقق أمنيتها في شراء فستان رغبت به.

نعمت أم حنون، لا تعرف سوى الإيثار وإسعاد ابنتها بكل الطرق. فاهتمت بأن تشجعها على حب الاطلاع والمعرفة. وكان أول ما عرفته ريم وعمرها لا يزيد عن سبع سنوات مجلة " ميكي " الأسبوعية. وهي مجلة تحوي قصصاً مصورة بالطريقة التي تظهر بها أفلام الكارتون في السينما، وباتت تنتظر كل خميس لتعود أمها من العمل حاملة العدد الجديد فتخطفه وتجري لتقرأه في غرفتها. وإن كانت ريم لا تعرف أن أمها اضطرت أن تحرم نفسها من شراء علبة سجائر كاملة من أجل أن ترى فرحتها بالعدد الجديد، فإنها لا تنسى كم كانت الأم حريصة على اصطحاب أولادها ولو مرة في الشهر لمشاهدة فيلم للأطفال بسينما " مترو " حيث كانت تخصص حفلة يوم الجمعة صباحاً لأفلام الكارتون.. رغم ما يكبدها ذلك من مشادات مع زوجها الذي كان يتهمها بالتفاهة والإسراف.

وفي يوم .. عادت السيدة نعمت تحمل بين يديها مجلداً ضخماً يشبه دفتر التليفونات في حجمه، وضعته على مائدة الطعام حيث ستمر ريم في طريقها إلى غرفتها، كان مجلداً لمجلة توقف إصدارها تسمى " الاثنين والدنيا " ويباع عند بائعي الكتب المستعملة بمبلغ بسيط، وكان المجلد لعام كامل هو 1952 ، الأمر الذي دفع السيدة نعمت أن تحرص على شرائه حيث كان يسجل فترة من أهم الفترات في تاريخ مصر.

استرعى انتباه ريم المجلّد ذو الغلاف الملون وكذلك قِدَم الصور ومظهر المصريين في ذاك الوقت بالطرابيش.
أصبح هذا المجلد فيما بعد الصديق والملاذ وظل في دولابها إلى أن بلغت السادسة عشرة من عمرها، فكانت تغيب في غرفتها بالساعات تتصفح المقالات والقصص القصيرة وأخبار السياسة وصور أحداث الثورة المصرية.. أما النصف الأول من المجلد فكان عن أزياء تلك الفترة وصور الحفلات التي كانت تقام في قصور العائلة المالكة وعائلات الطبقة الراقية.

حين بلغت ريم العاشرة من عمرها وعدت السيدة نعمت ابنتها وابنة أختها ذات مرة بأنها ستسمح لهما بالعمل خلال الإجازة الصيفية وقالت إنها سوف تبني لهما كشكاً لبيع الحلويات أسفل المنزل، كان هذا مجرد حلم وخيال يتراقص في عقل السيدة نعمت، لكن فكرة المشروع كانت قد طغتْ على عقل البنتين، فأخذتا تحكيان عن هذا الحلم لزميلاتهما المقرّبات في المدرسة، وتعدانهن بالتخفيضات في حال تحقق المشروع ! وأخذتا تتبادلان الأفكار لتطويره، وحتى وصلت أحلامهما إلى إضافة قسم في الكشك للمجلات والقصص مزوّد بالكراسي لاستضافة الرواد الراغبين في المطالعة، كما اتفقت ريم مع ابنة خالتها التي كانت تصغرها بقليل وتحبها كأخت أن تصبحا شريكتين بالكشك.

وجاء الصيف، ولم يُبنَ الكشك، ولم تغضب ريم ولا ابنة خالتها أن الحلم الذي ظل لأشهر يداعب خيالهما لم يتحقق، فقد أصبح تصديق الآمال وسيلة للشعور بمتعة الحلم بالأمنيات وليس تحقيقها، كذلك كان طريقاً إلى عالم وهمي سعيد يبعدهما عن واقع عائلي تعيس.

بنفس الطريقة التي كانت تطوي بها أم ريم قائمة المشتريات، ثم تسلم الورقة المثلثة الشكل لابنتها وتوصيها بألا تضيعها، كانت كذلك تسجل أمنياتها في ورقة وتعطيها إياها وتدعوها أن تحافظ عليها، فقد تتحقق .. منْ يدري؟

ظلت ريم هدفاً لطموحات أمها تتمنى تحقيقها في شخص ابنتها، لكن الامكانيات المتاحة الضئيلة لم تساعدها على تجاوز حدود الأحلام .

وبقدر التقارب الذي كان يحدث بين ريم وأمها في تلك الفترة كان يحدث عكسه بينها وبين أبيها، فما ترغب به ريم يرفضه الأب لتلجأ إلى أمها التي تحاول معه بالإقناع تارة أو بالحيلة تارة أخرى. وما زالت الهوة تتسع.. حتى إذا بلغت الرابعة عشرة توقف الحوار تماما مع الأب !

ليس هذا فحسب الذي توقف.. بل توقف الحلم أيضاً. حلم أمها وليس حلمها هي. لماذا باتت تشعر أن أحلام والدتها تقيدها وتسجنها في بوتقة ضيقة؟ هل لأنها كبرت فكبرت أحلامها وتطلعاتها؟ أم لأن والدتها تنظر إلى الواقع بعين مختلفة عما تراه هي؟ نعم نعم.. كانت محتاجة إلى تجربة حياتية في واقع حتى لو كان غير سعيد.

مرضت السيدة نعمت مرضاً مفاجئاً واضطرت أن تترك العمل لفترة طويلة، فقد أصيبت بارتفاع مفاجئ في ضغط الدم تسبب بدوره في حدوث نزيف بشعيرات المخ وغابت على أثره في غيبوبة دامت حوالي ثلاثة أشهر.. أفاقت بعدها وقد تغير مصطفى كثيراً، توقف عن لعب الورق في المقهى والسهر كل ليلة، وأصبح يسهر بجوارها يتأملها ويراقب نبضها ورجفة جفونها بالساعات لعلها تفيق من غيبوبتها، أما المراهنة في سباق الخيل فقد توقف عنها مضطراً حين أغلقته الحكومة. أُجبِرتْ ريم أن تتعامل مع والدها مباشرة أثناء فترة مرض أمها، لكن الصدام لم يتوقف، فهو يرى العقوق في ابنته وهي تراه سبباً غير مباشر في مرض أمها.

هو عدوها وعليها مقارعته.

استمر علاج السيدة نعمت على يد طبيب أعصاب اهتم بحالتها إلى أن أفاقت من غيبوبتها وعادت للحياة، لكن للأسف كان تأثير هذه الفترة على حالتها العامة سلبياً، إذ فقدت قدرتها على النطق وأصبحت الكلمات تخرج من فمها بصعوبة إلى أن توقفت عن المحاولة.

عاشت بينهم صامتة، تطلب من ابنتها بين فترة وأخرى بإشارات من يدها بأن تحضر صندوق المثلثات كما كانت تطلق عليه، إذ أن ريم اضطرت إلى وضع المثلثات في صندوق من الكارتون بعد أن تراكمت وزاد عددها، فكانت السيدة نعمت تضعه فوق ساقيها وتفتح بعناية الورقات المطوية التي اصفرّ لون بعضها عند أحرف الطيات وتبدأ في قراءتها حلماً بعد حلم، ثم تطلب من ابنتها إحضار قلم فتدوّن بضع كلمات وتطويها ثم تضعها جانباً. في بادئ الأمر كانت ريم تهتم بقراءة ما دوّنته أمها فتجد أنها تركت عدة أسطر وقد كتبت:

مثلث فارغ أمنية لم تتحقق:
مع انغماس ريم في دراستها وأعباء المنزل التي وقعت على عاتقها، بدأت تهمل قراءة الأحلام وكذلك الملاحظات وتعبت من حصر ما لم يتحقق.

لم تسلم أيضا من الوقوع في فخ المقارنة بين أبيها وأمها، فكانت ترى أن أمها عالم رحب مفعم بالحياة والخيال والحركة رغم صمتها، أما أبوها فهو عالم ميت ضيق يشبه نفقاً مظلماً رغم ثرثرته.

كان الإحساس بالوحدة يجتاح قلب ريم، فلم يعد أمامها إلا الاندماج الكلي في الأنشطة المدرسية واستطاعت بحيويتها وذكائها الفطري أن تلفت انتباه المدرّسات وخصوصاً أبلة نادية مدرسة اللغة العربية، التي اكتشفت موهبة واعدة في ميول طالبتها في عمر مبكّر للقراءة وكتابة الأشعار البسيطة، لكنها محاولات جيدة تستحق التشجيع، فلم تبخل عليها بمنحها الجهد والوقت والكتب. لم تكن أبلة نادية متزوجة مما أتاح لها أن تستضيف ريم في بيتها أحياناً، فحدث تقارب وجداني، دفع ريم لتفضفض لها عن ظروف حياة عائلتها والجدار الحديدي القائم بين والديها.

كانت أبلة نادية تصطحب ريم إلى معرض الكتاب الذي كان يقام وقتها بأرض المعارض بالجزيرة، وقامت بتسجيل عضويتها في مجلة روسية تصدر شهرياً. أحبّت ريم هذه المجلة جداً، حتى أنها كانت تترك كل شيء لمطالعتها حين تصلها عن طريق البريد إلى البيت، وتعلمت بعض الكلمات من صفحات تعليم اللغة الروسية.

وأصبحت تغيب طويلا عن المنزل، وضاق أبوها خاصة وأن زوجته التي تحتاج لرعاية اعتبرها مهمّة ريم وحدها، إلى جانب صمتها الذي تحول إلى سياط من العتاب.. فبدأ يعامل ابنته بقسوة وعصبية، أو ينهرها كلما مرت في طريقه تنفيساً عن غيظه، وحين شكت الأمر لمدرستها، تطوّعت أبلة نادية بأن تقوم بزيارتها في المنزل لتبرير غياب ريم وطمأنة الوالد أنها في رعايتها
.أبلة نادية شابة في منتصف الثلاثينيات جميلة، تهتم بمظهرها وترتدي الملابس العصرية القصيرة، وتترك شعرها الأسود الفاحم يسترسل على كتفيها، لبقة تتحدث بلهجة راقية نابعة من كونها مثقفة وقارئة موسوعية ومحاورة قديرة.
انحنت وقبّلت الأم المريضة على جبهتها بعطف وحنان، فأحبتها السيدة نعمت منذ اللحظة الأولى في اللقاء. كان مصطفى حينذاك قد قرر الخروج من البيت لكنه عدل عن ذلك وجلس منبهراً لا يستطيع إخفاء إعجابه بأبلة نادية وبأنوثتها الطاغية خاصة وأنه يعيش حالة من الانفصال والحرمان القسري منذ زمن بسبب مرض زوجته.
وتكررت الزيارات وتوطدت علاقة أبلة نادية بأفراد الأسرة حتى الأم الصامتة بدأت تتجاوب، واستطاعت أن تبعث الحياة مرة أخرى في البيت الكئيب.

لاحظت ريم أن أباها بدأ يرفع الكلفة في الحديث معها وأصبح مرحاً، يهتم بمظهره ويسأل عن مواعيد زيارة أبلة نادية، فاعتبرت أن دخولها في حياتهم بمثابة علاج لمشاكل مزمنة.
مع انجراف ريم في علاقتها بنادية بدأ صراع خفي بين السيدة نعمت وابنتها يطفو على السطح، فأصبحت عابسة الوجه ولا تطيق أن تلمسها ابنتها أو تساعدها في تغيير ملابسها كما لم تعد تطلب منها أن تحضر لها صندوق المثلثات كعادتها!
لم تفهم ريم سبب هذا الغضب المفاجئ من أمها، وداهمها شعور غامض بالذنب ولا تعرف مصدره، هل هو نظرات أمها المعاتبة؟ لماذا ملأها إحساس بالتقصير في حق أمها يحثها على تحمّل المسؤولية؟ لكنها أيضاً لم تسمح أن يكون لهذا التحوّل أي صلة بعلاقتها بمُدرّستها، التي أصبحت محور حياتها.

بدأ والد ريم يتقرب بلا خجل من أبلة نادية وأصبحت ريم تشعر بالغيرة والخوف من فقدانها، إذ أن نادية كانت تضيق بمغازلته لها وأخبرت ريم بأنه كان أحيانا وأثناء وقوفها مع ريم في المطبخ لاعداد الشاي، كان يتعمد ملامسة جسدها بطريقة مثيرة للاشمئزاز، مما ذكّر ريم بسخافات عمّ عبده وتحرشه بها، فإن كانت وقتها عاجزة عن الرد لأنها كانت تأخذ منه البقالة بالأجل، فلم لا تستطيع أبلة نادية أن ترفض هذه السلوكيات القذرة الآن.
هل هذه السلوكيات البشعة لوالدي .. أم أن هذا رجلا لا أعرفه ؟
هل هو مثل عمّ عبده ؟ هل أبلة نادية ستسمح له بأن يتمادي؟ ولماذا يفعل هذا ؟
كانت أسئلة كالخناجر تمزقها وطوفان من المخاوف يجرف أمامه كل ما تبقى لها من شعور بالأمان.
فجأة توقفت الأبلة نادية عن زيارة ريم في المنزل، وبررت ذلك لريم أن تصرفات والدها أصبحت مثيرة للقلق وأنها لاحظت أن أمها لم تعد ترحب بها كما كانت تفعل من قبل وأنها تعذرها في شعورها هذا فهي عاجزة عن إرضاءه كرجل وفي نفس الوقت تشعر بالغيرة ولا تملك حيال ذلك سوى أن تعاملها بخشونة.
استمعت ريم لكلمات أبلة نادية وعرفت أن عليها أن تنهي علاقتها بها وأن سلام أسرتها أصبح الآن بيدها وحدها، لم تكن تتصور أن والدها بدناءة عمّ عبده، كما أنها يجب ألا تكون أنانية مع أمها، تلك المرأة التي كانت لتضحي بأي شيء لترى ابتسامتها.
توقفت ريم عن دعوة أبلة نادية إلى المنزل فعادت البسمة لوجه الأم ورجعت لصندوق أحلامها، وأصبحت تدوّن كلمات في مثلثات ورقية جديدة وتطويها وتضعها وسط باقي المثلثات لكنها لم تعد تسمح لريم أن تقرأها. والد ريم أصبح عصبي المزاج وعنيفاً، يوجه لها كلمات قاسية وملاحظات جافة.
قررت ريم أن تتبع معه الأسلوب الذي كانت تتبعه مع عمّ عبده، أي أن تبدأ في مداهنته والتقرب إليه بذكاء وبطريقة غير مباشرة، مع مباركة من الأم الصامتة التي أحست ريم انها بدأت بنظرات عينيها تشجعها وتدفعها نحو التقرب أكثر منه.
مع قرب فترة الامتحانات، كانت ريم تفضل المذاكرة ليلا بعد أن تهدأ حركة من في المنزل فتستطيع التركيز. كانت حجرتها وحجرة أبويها متجاورتان، وفي المقابل مرآة ضخمة مثبتة على الحائط تسمح بأن ترى ريم انعكاس صورة أمها وتستجيب لإشاراتها دون الحاجة للنداء، أو بمجرد أن تضيء أمها المصباح المجاور وتطفئه.
وفي ليلة نهض والد ريم ووقف بباب غرفتها وسألها بحدة:
- هي أبلة نادية جاية إمتى ؟
فردت ريم بجفاء:
- مش جاية.
رفع مصطفى صوته قائلا:
- مش جاية يعني ايه!! طب ايه رأيك بقى انك مش رايحة المدرسة تاني
نظرت له بغيظ مكتوم وقالت وقد رفعت نبرة صوتها رغماً عنها:
- مش بكيفك، أنا طالبة في ثانوية عامة ومش هاسمحلك تضيّع مستقبلي علشان نزوة.
نطقت ريم بهذه الكلمات وكأنها أطلقت رصاصات ظناً منها أن هذا سوف يحسم النقاش وكانت للمرة الأولى في حياتها تتجرأ وتواجه والدها.. لكن هذا كان بداية انفجار بركان.. انقض والدها عليها يصفعها بعنف على وجهها حتى أدمى فمها واستيقظ مجدي فزعاً وجرى نحو فراش والدته التي كانت ترى كل ذلك في المرآة وتبكي عاجزة عن فعل أي شيء.
جرت ريم هاربة من الغرفة وذهبت لتحتمي بأمها هي أيضا، فخرج مصطفى غاضباً من المنزل وقضت ريم ليلتها تحتضن أمها وأخيها حتى آخر الليل.
فتحت عينيها صباح اليوم التالي، نظرت نحو أمها وجدتها مستغرقة تماماً في النوم، وتحمل بين أصابعها ورقة مثلثة مطوية كعادتها في كتابة أحلامها، سحبتها برفق من بين أصابعها، ثم غطتها باللحاف ووضعت الورقة في صندوق الكارتون، لكن إحساساً غامضاً دفعها لقراءة حلم اليوم، فتحت الورقة بتمهل، جحظت عينيها وشهقت عندما قرأت
أريد أن أموت.



#فاتن_واصل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفكرة صغيرة
- أوضة ضلمة
- عمِّي الشيخ عماد
- فيل أبيض
- طريق إلى العالم الجديد
- المفرش
- زغاريد فى طابور الصباح
- صناديق فارغة بجوار الحائط
- فنجان قهوة
- تأملات في بناء عش
- إختفاء إبنة النور
- الخروج إلى النهار
- عزيزتى العزيزة
- للخلف تقدم.
- الطين ليس كالرمال
- سقوط النجمة الذهبية
- جليسة الوهم
- الرقص على الاحزان
- كائن فيسبوكى... LOL
- منافسة بدون منافس


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - الأمنية الأخيرة