أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طوني سماحة - يسوع المفكّر 2- الكلمة















المزيد.....

يسوع المفكّر 2- الكلمة


طوني سماحة

الحوار المتمدن-العدد: 4775 - 2015 / 4 / 12 - 09:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


"في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله". عندما كتب يوحنا الانجيلي كيما يُعرّف بالسيد المسيح، أطلق عليه صفة "الكلمة". وقد يكون هذا الوصف من أصدق الصفات التي تصف المسيح.

المسيح هو الكلمة، كلمة الله للإنسان. هو الكلمة الذي جال في شوارع أورشليم شافيا مرضاها. هو الكلمة الذي أدفأ قلب أرملة نايين وهو يرد لها ابنها من نعشه حيا. هو الكلمة الذي فتح الكتاب وعلّم في مجامع أورشليم واليهودية. هو الكلمة الذي أنار قلب الاعمى قبل أن ينير عينيه المغمضتين. هو الكلمة الذي أخرس الشيطان وطرده ليحرر المعذبين من سطوته. هو الكلمة الذي تحلق حوله رجال اورشليم ونساؤها كيما يسمعون كلمات النعمة تنساب من شفتيه. هو الكلمة الذي بكى عندما طوى الموت لعازر صديقه في ظلمة القبر، وعندما شاهد الأختان مرثا ومريم تبكيان لفراق سند البيت وعموده، فصرخ بصوت عظيم "لعازر، هلمّ خارجا". هو الكلمة الذي بكى على "أورشليم، قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين اليها"، والتي كانت لا ترى الخطر المحدق بها حيث لن يبقى فيها حجر على حجر إلا وينقض. هو الكلمة الذي أشفق على الجموع، فكثّر الخبز والسمك لإطعامهم. هو الكلمة الذي طلب الاعمى والاخرس والمجنون والزانية والمريض والجائع والعشار قبل أن يطلبوه.

لكن وإن كان المسيح هو الكلمة التي اهتمت بأمراض الناس وأسقامهم وجوعهم وهمومهم، إلا أنه أيضا الكلمة التي أثْرت وأغنت حياة الإنسان في الداخل. هو الكلمة الذي رسم الكثير من علامات الاستفهام على الكثير من المسلمات التي تبناها أهل عصره وبيئته.

عندما عاش السيّد المسيح في فلسطين في القرن الاول الميلادي، لم يكن العصر آنذاك عصر الكلمة بكل أبعادهها. كان الرومان يختزلون الكلمة في بعدها السياسي والعسكري والثقافي، فيما الكتبة والفريسيون يختزلون الكلمة في بعدها الديني. كان الكثير من اليهود، شأنهم شأن أتباع الكثيرين من الديانات في عصرنا الحالي، يعتمدون على معلميهم لتفسير النصوص المقدسة دون أن يكون لهم الحرية في ابداء الرأي أو مساءلة النصوص أو الاعتراض. كان المعسكر اليهودي الديني آنذاك منقسما بين شريحتين: الكتبة والفريسيون من جهة والصدوقيون من جهة أخرى. مثّل الفريسيون والكتبة الجانب المحافظ في المجتمع اليهودي بينما أخذ الصدوقيون المنحى اللبيرالي (إن صحت التسمية). أراد الفريسيون المحافظة على تقاليد الآباء فيما استساغ الصدوقيون الثقافة الهلينية (الاغريقية). كان الفريسيون أكثر قربا من الناس فيما الصدوقيون اتصفوا بالارستقراطية الفكرية والسياسية حيث أنهم شكلوا في الكثير من الاحيان النخبة السياسية التي تتحكم برئاسة الكهنوت. آمن الفريسيون بوحي الكتاب في كليته بينما حصر الصدوقيون ايمانهم بكتب موسى الخمسة. أخيرا علّم الفريسيون بالقيامة والحياة الابدية فيما نفاهما الصدوقيون.

في هذا الجو المشحون ترعرع السيّد المسيح. عندما ابتدأ رسالته في اليهودية والجليل، وجد نفسه يصارع العملاقين: الفريسي المدعوم من الشعب والصدوقي المدعوم من السلطة الحاكمة المتمثلة برجال الدين وعلى رأسهم رئيس الكهنة. اتحد العملاقان ضده وهو الذي لم يكن يحارب إلا بالكلمة. حمل الكلمة واطلقها صوتا صارخا في شوارع اليهودية والجليل، فاخترقت الزمان والمكان لتهز أساسات العالم القديم، ولتبني عهدا جديدا مع الانسان. حاول الفريسيون أن يواجهوه، فعرّتهم كلماته وأسقطت الهالة المقدسة عن رؤوسهم. أرسل اليه رئيس الكهنة الصدوقي الحرس كيما يرهبوه ويسكتوه، فأسقطت كلماته السيوف من أيديهم. أمسكه رئيس الكهنة وسلّمه للرومان الذين علقوه بالمسامير على خشبة الصليب. ظنوا أن المسمار والصليب يخرسان الكلمة. إلا أن الكلمة انتفضت من ظلمة القبر وحلقت عاليا لتضيء شمسا ساطعة في سماوات العصور والازمنة.

كانت الكلمة على فم المسيح مثل الخزف في يدي الفخاري. عندما واجه الفريسيين والصدوقيين، قارع الكلمة بالكلمة والحجة بالحجة. عرّى الفريسيين الذين أرادوا الايقاع به سائلين "أيجوز أن تعطى الجزية لقيصر؟" فطلب منهم أن يأتوه بمعاملة الجزية، ولما قدموا له دينارا سألهم "لمن هذه الصورة والكتابة؟ فقالوا لقيصر. فقال لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (متى 22). ولما طلبوا منه الامتناع عن شفاء الناس يوم السبت، لأن السبت كان مقدسا لديهم، قال لهم "السبت إنما جعل الانسان، لا الانسان لأجل السبت" (مرقس 2). وكيما يكشف رياءهم سألهم في مكان آخر "من منكم يسقط حماره او ثوره في بئر ولا ينشله حالا في يوم السبت؟" (لوقا 14). وعندما وقف أمامه نيقوديموس الشيخ، الفريسي، والرئيس، خاطبه بلغة لاهوتية وفلسفية تليق بمستوى هذا الرجل الفكري ومكانته مما بعثه على التفكير العميق. قال له على سبيل المثال "الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنا 3). كانت هذه الكلمات كافية لتبعث في ذهن هذا الرجل الشيخ أسئلة محيّرة مثل "ما هي الولادة من فوق؟ وكيف يستطيع الانسان ان يولد من فوق؟ وكيف أستطيع أنا الشيخ أن أعود لبطن أمي كيما أولد من جديد؟" و عندما خاطب يسوع الجموع، اتخذت كلماته مضمونا وشكلا آخر ينسجم مع طريقة تفكير المستمع ومستواه الفكري والروحي، فتعددت الحكايات القصيرة التي اتخذت شكل الامثال والتي اصبحت تراثا عالميا تتداولها الالسنة في كل العصور، مثْلَ مثَلِ الابن الضال والخروف الضال والسامري الصالح ولعازر والغني والغني الغبي. أما عندما يتعلق الامر بالامور الروحية، نطق المسيح بحقائق عابرة للثقافات والاجيال مازالت أصدؤها تتردد حتى يومنا الحاضر "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر أولا"، و "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله"، و "ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟" و "كما تريدون ان يفعل الناس بكم كذلك افعلوا انتم بهم".

حث المسيح الناس على التفكير. كثيرا ما كان يسأله الناس عن أمور متعددة، فكان يرد السؤال بآخر، وكانت النتيجة غالبا أن السائل يجيب على سؤاله من تلقاء ذاته. عندما سأله ناموسي عن كيفية الحصول على الحياة الابدية، أجابه المسيح بسؤال "ما هو المكتوب في الناموس؟ كيف تقرأ؟" فما كان من الناموسي إلا إن عاد بذاكرته الى ناموس موسى ليجد الجواب في محبة الله ومحبة القريب. وإذ أراد الناموسي أن يبرر نفسه، سأل "ومن هو قريبي"، وبدل أن يجيبه المسيح مجددا بكلمات مباشرة، تلى على مسمعه مثل السامري الصالح الذي وقع بين أيدي اللصوص الذين تركوه بين حي وميت. وبعد ذلك رآه كاهن وجاز عنه، وكذلك فعل اللاوي (صاحب رتبة دينية يهودية) أيضا، أما السامري (العدو التقليدي) لليهود فقام بإنقاذه والاعتناء به. عندها سأل المسيح السائل "فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟" أجابه الناموسي "الذي صنع معه الرحمة." فقال يسوع "اذهب انت ايضا واصنع هكذا." (لوقا 10). ولم يكتف المسيح بحثّ الناس على التفكير بل شجّع سامعيه على البحث وتقصي الحقيقة فيما يختص بنبؤته، فقال لليهود "فتشوا الكتب لأنك تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي التي تشهد لي."

كانت كلمات المسيح أيضا كافية لقلب المفاهيم والمعايير الاجتماعية، فأدخل الى القاموس مفهوم "القائد الخادم" إذ قام عند العشاء بغسل ارجل تلاميذه (عمل مخصص للعبيد آنذاك)، وقال لهم "فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالا، حتى كما صنعت بكم تصنعون أنتم أيضا ("يوحنا 13). وأسس لمفهوم جديد لكلمة "العظمة". تقدمت يوما ام ابني زبدي (تلميذاه) مع ابنيها وسجدت وطلبت منه أن يجلس واحدهما عن يمينه في الملكوت والآخر عن يساره. فما كان من يسوع إلا أن قال لتلاميذه "أنتم تعلمون أن رؤساء الامم يسودونهم، والعظماء يتسلطون عليهم. فلا يكون هذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيما فليكن لكم خادما، ومن أراد أن يكون فيكم أولا، فليكم لكم عبدا، كما أن ابن الانسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (متى 20).

لم يتوقف المسيح عند مفهوم السيادة والقيادة في قلب المعايير الاجتماعية، بل نراه يحث سامعيه على ألا يظهروا بمظهرين، بل أن يكون داخلهم شفافا مثل خارجهم "فليكم كلامكم نعم نعم ولا لا" (متى 5). وطالب سامعيه بأن لا يكونوا مثل الفريسيين الذين هم من الداخل مثل "القبور المبيضة تظهر من الخارج جميلة، فيما الداخل مملؤ عظام أموات وكل نجاسة" (متى 23).

بعدما قال يوحنا عن المسيح "في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله"، أردف قائلا "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه." نعم، أنار "يسوع الكلمةُ" حياة الكثيرين على مر العصور. كان له الفضل في توبة الكثيرين. كلماته ردت الكثير من الازواج لزوجاتهم وابنائهم. كلماته حررت الكثيرين من سلطان الزنى وحب المال والظلم والانانية والشهوة. كلماته فكت قيود السجن التي أطبقت على الكثيرين. كلماته فتحت باب السماء لمن لا يستحقون (والكاتب أولهم)، مثل اللص الذي تاب على الصليب قبل أن يسلم الروح بلحظات. يسوع هو الكلمة. لم يحمل السيف يوما ولم يدعُ أتباعه لحمل السيف. عندما سأله بيلاطس عن ملكه، رفض أن يكون ملكه من هذا العالم. كان هو الكلمة والكلمة اغتنت به. لذلك يحق القول أن الكلمة قبله حروف وأصوات فيما الكلمة بعده حياة وخلاص.



#طوني_سماحة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يسوع المفكّر 1 مقدمة
- لماذا نحن متخلفون؟
- مات الصنم، يحيا الصنم
- من أحرق سليمان، صباح، وروعة؟
- رسالة موت موقعة بالدم إلى أمّة الصليب
- تأملات في الحرب والسلام
- صخرة الموت هي صخرة الحياة
- هنيئا لكِ يا بيلا (Bella)
- التعزية بالكفار خيانة وليست من الدين
- أنا شارلي
- الزواج في المسيحية بين النظرية و التطبيق- الجزء الاخير
- الجنة برسم البيع
- يا طفل المزود
- الزواج في المسيحية بين النظرية و التطبيق-12- تحديات الزواج
- الله أكبر
- صرخة مظلوم
- دون كيشوت التركي
- سيّدي يسوع
- الزواج في المسيحية بين النظرية و التطبيق-11- الجنس والزواج
- هل التنصير جريمة؟


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طوني سماحة - يسوع المفكّر 2- الكلمة