أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعد الجزء السادس















المزيد.....



ذهب ولم يعد الجزء السادس


شعوب محمود علي

الحوار المتمدن-العدد: 4562 - 2014 / 9 / 2 - 18:57
المحور: الادب والفن
    


ذهب ولم يعد الجزء السادس

انا انسى , وانت تنسين , وغيرنا ينسى , ولو حاصرنا ما في ملفّات ذاكرتنا
التي تختبأ في صندوقنا الاسود فسنحصل على ما نريد ان ثابرنا على التذكّر , واستحضار الماضي باحداثه.
انا ادعوك بحرارة , وجد , واخلاص ان تقومي بتحريك مفاتيح الذاكرة
لحصر التصوّ رات واستحضارها :
وانا الكفيل بالوصول لنقطة الهدف وهي امامك الآن
اكرر الطلب منك ان تستعرضي الرجل ليس بملابس الجباة .
ربّما زاركم بالزي القروي : بالعقال مثلاً .
او بالزي الكردي . هذا لايستبعد .
تذكّري وجهه وهو في ضيافتكم .
المرأة تقسم بانّها مارأت الرجل حتى في احلامها .
يأس الضابط المحقّق , وفشلت مناوراته الخبيثة ..
تحقّق كونه عاجزاً امام مصداقيّة المرأة النقيّة .,
على امتداد زمنيّة الاعتقال المعادل للموت البطيء .
خيّم صمت طويل ..
واخيرا هتف بالرجل الواقف قرب الباب وقال خذها لمكانها اللائق بها .
بعد ان غادرت المكان : اتجه الضابط صوب النهر وهو غارق في تأمّلاته , وتصوّراته الجهنّميّة .
كان النهر يفصل بينه , وبين السفارة البريطانيّة .
ظلّ ينظر من شرفة المبنى, والهواجس تحلّق من حوله كموجة من الخفافيش في الظلام , الذي يزيده احساساً وكأنه سيّج بالاشواك السامّة مثل حقل من العقارب . غاص في عالمه المشتبك بالاحداث السلبيّة , والمستفرغة من كلّ ما هو نبيل وخيّر .
تذكّر يوم ما قبل سقوطه عندما كان قريباً من الصفوة,
ومن المريدين الذين يطوفون حول الهيكل .
ومن ثمّ انقلب على عقبيه مدنّساً وحاسداً لكلّ من بقي طاهر الذيل
وفي مسرح الاحداث صار (كشمشون الجبّار يهتف في صمته المكتوم عليّ
وعلى اعدا ئ يارب)
هاهو بين الهلوسة والصفاء : صفاء ما بعد الفوت ,
وعبور قطار الصبح الذي ينتظره الخيّرون في محطّات المواصلة ,
والبذل خارج انقلابيّة الذين يسيرون في الصفوف الخلفيّة باتّجاه مغيب الشمس . بعد هذه الدورة الفلكيّة , والدوران الحلزوني داخل القوقعة ,
والاقتراب اكثر فاكثر من الحواة , ومن جحور الافاعي ..
بين السحرة والافّاقين ليس الّا الادانة ,
وخسّة التطبّع على الايقاع بالآخرين ..
كفلسفة لا تصلح الا للمهزومين , والتنكّر للخلفيّات تحت شعاع الشمس
وقد يكون النسيان رحمة لمن انقلب على ذاته..
وهو يسبح داخل فقاعات المستنقع .
خرج الضابط من هذه الدوّامة جرّاء تخبّطه ,
واحباط خططه المرسومة للايقاع بالضحايا .
ربما ستدفعه لقاع الهاوية .
وفي هذه الجولة الداخليّة في صندوقه الاسود
تأكّد من فشله في االالتفاف على ذلك القروي المتحضّر كما يسمّيه .
وفي الصمت القاتل اطلق الصفير من فمه لعلّه يزيح ما تراكم على صدره من ردود الافعال .
ظلّ ينصت الى صفيره الذي يقترب من الفحيح الثعباني حتى اتعبه الانصات . ثمّ انخفض رويداً رويداً في محيط الصمت الظلامي .
كانت الصور تتراقص امامه , وكانّه كان يشاهد مسلسل حياته .
انعطف انعطافة حادة لايّام فتوّته قبل ان تدنّسه الكبوات , والذوبان في حوض نرجسيّته .
راح يوغل في تضاعيف نشاطاته يوم كان يجري مثل النهر بنشاط ,
وحيويّة تبعث على الفخر والزهو .
تذكّر كيف كان ينتفظ وهو مساق بحيويّة الشباب ضدّ سلبيّات النظام
الذي يحيطه الآن بحدقات عيونه , ويطوّقه بكلّ ما يملك من قوّة ,
واسلحة فكريّة لا تتساوق مع انتشار الوعي ,
وترسيخ , وخضوع الحقائق للمنطق الجدلي .
امّا تراكم الهراء من ابجديّة المحسّنات الكاذبة والتي لا تصمد امام الحقائق اليوميّة التي نعيشها بشكلها قد تقودنا الى الحضيض , والدوران في الحلقة المفرغة من كل اللمسات التي يعيشها الناس في بلادي .
كان الضابط المحقّق كوردة تزهو على الغصن , ورفاق الدرب يتدافعون للاستنشاق من عطرها مثلما تقترب الفراشات من حقل الازهار لتتزوّد من رحيقها , وتتمتّع بعطرها .
والآن هو عبارة عن جثّة نتنة تزكم الانوف , ويفر من رائحتها كلّ من يقترب منها .
كان الضابط يجري مسحاً عامّاً لمسيرته الطويلة بين الكبوة والنهوض وهو يحدّث نفسه بلغة باطنيّة ..
كيف التبست عليّ الامور ؟ وانا صاحب تجربة غزيرة ,
وقد قطعت المسافة الواقعة ما بين نهارهم , وليلي الذي انا فيه الآن .
شربت من النبع الصافي ايّام احلامي العريضة. والآن اكرع من ماء المستنقع . لقد طرقت كلّ المداخل مثل من يقتحم رمال (الربع الخالي)
كيف عجزت عن الوصول الى الجذور , وانا الذي مارس كل الطقوس ,
وغشّ في الورق .. وارتاد دورالاستحالحة كأيّ حرباء ,
كيف يصمد امامي مثل سيّد منيع الجانب ..؟
هذا القروي الرقيع , والمغلق كطلّسم ..
ربما قد اعطيت لقضيّته اكثر مما ينبغي , وهو قد لا يفقه ما يدور حوله ,
وفي كل الاحوال احسده حدّ القتل ان عبر من تحت رمحي :
ولم يستعر رجلاً ثالثة .
انا الآن في صحوي , ويقظتي لم ولن تأخذني لجّة الغفلة ,
او السنة من النوم . اجل احسده حدّ القتل ان ثبت لي كان غصناً من الشجرة الحمراء التي تجذّرت في ارض السواد .
سحب علبة السجائرمن جيب سترته , واخرج سجارة منها , ووضعها بين شفتيه وهو يقف في الظلام الدامس , وفي المكان الذي لا يصله الضوء .
اشعل عود الثقاب , وسلّط اللهب على طرف سجارته . جفل كونه كان داخل الغرفة المجاورة لذلك التيس العنيد الذي كانت نظراته تكاد تخترقني
لم اصادف احداً طيلة تجربتي في التحقيق من يكسر نظراتي بتحديقه .
كلّما حاولت قراءة السطور من كتابه السرّي اشعر وكأنّه اطّلع على ما اكتم وقد صفعني بابتسامته الماكرة .
حاولت ان اتذكّر متى دخلت هذه الغرفة المظلمة والمهجورة ؟
ولماذا اغلقت على نفسي الباب وانحشرت في الظلام الدامس وانا استنشق الروائح الكريهة والعفنة .؟
هل القروي المتحجّر سلب عقلي وانتزع منّي حصانتي. ؟
كانت الغرفة مشمولة بالظلام .
تهاوى على احد الكراسي وهو يرسل نظراته الى سقف الغرفة المزحومة
بالاشباح . ربّما كانت محطّة تعذيب وقفص تأوّهات , وقيود مع سلاسل
للتعليق على المراوح . كذلك تحتوي على فايلات قديمة ينام عليها الغبار منذ سنين
جمرة السجارة كانت تضيء جانباّ من المكان الذي يجلس فيه الضابط .
صار ينفث الدخان بشكل جنوني . هو يوقد الواحدة بعد الاخرى , وما ان اتى على السجارة الاخيرة
وهي تبعث الضوء خافتاً وقد اجهزت على جمرتها دمعتان حزينتان اعادته
الى الماضي الذي كان يصب كجدول من نور في المحيط الظلامي
الخالي من النجوم ..
وقف وهو في دوّامة افكاره كوثن لعنته حتى جاهليّة القرن العشرين
اخيراً خرج من مكانه المعتم وهو مثل سفينة ضربها الموج .
دخل غرفة التحقيق وقال للرجل المنزرع في مكانه , والساكن مثل سكون المقابر . خذ الحثالة الى القبو .
سمع احمد ذلك الكلام البذيء , والجملة النشاز ,
والتي هي لاتنطبق الّا على الضابط نفسه .
مسك الرجل ذراع احمد , واقتاده الى المكان الذي جلبه منه ثمّ عاد الى الضابط وقال سيّدي منذ متى كبش الاهوار يقف بوجه سيادتكم . الضابط
الكثير الكثير عليه وانت تصفه بالكبش بل حتى وصفه بخروف قرية المكاسب قد نضفي عليه مسحة من الاطراء ونحن نعطيه صفة الخروف .
نعم سيّدي كنت احدّث نفسي وانت مشغول معه.
منذ متى يعبر هذا وامثاله من وراء تقليب التربة , ؟ والخوض في ماء الاهوار , او شدّه الى الناعور ليتحدّث بلغة الخارجين على القوانين وهو
يحلم بمطاردة الملوك والرؤساء , واصحاب المقامات العليا والباشوات. الضابط نحن نعيش في آخر الزمان .
دخل احمد وكان وجهه يعكس ما وراء غيابه عن المعتقلين ,
وقلقه , وضيق صدره .
كان متجهّماً , وتلوح عليه علامات ما وراء تعابير وجهه .
جلس احمد على فراشه وقد دهمته موجة من التحسّب وهو يفكّر بمصيره
ومستقبله , وكيف يرى هؤلاء الذين رهنوا ضمائرهم :
هم مثل حفّاري القبور , يدعون الله ليفتح عليهم
باباً من ابواب الرزق الوافر.
كان المعتقلون يغرقون بالاحاديث الحادّة , والساخرة , ولا يبالون ,
وكأنّ الزمن معدوم لديهم .لا يبالون بتراكم الليالي ,
ولا يحصون النهارات المتواترة ,
والعابرة كل المحطّات دون توقّف قطارالزمان المتحالف مع حركة عقارب
الساعة .
التفت احدهم الى احمد وقال خيراً ان شاء الله .
احمد الدنيا كلّها خير : وان كنّا في الجانب المظلم من وجه القمر.
ولابدّ للديلاب ان يدور .
آخر الى اين يدور ؟
من اليمين الى اليسار .
ام من اليسار الى اليمين عبرتقلّبات الاعوام , وانكفاء الشهور التي
ما زالت تدور في فلك الملوك , والاباطرة , والامراء .
آخر علّ القدر يضرب ضربته في ساعة سعد لتمر الكرة من خارج عارضة (اوديب ..)
ولتنقشع الغيوم الداكنة , وقطار التاريخ قد يخرج عن سكّته , وفي كثير من
بقاع العالم قد دخلت الماكنة على غفلة من عيون الذئاب المفتوحة لتجر خلفها عربات الخلاص كما حصل في في باريس ليطاح برأس
(لويس السادس عشر) وزوجته النمساويّة (ماري انطوانيت) , وكذلك اكتسحت واطاحت رياح التغيير ب (نقولاالثاني) وقفزت ب (كرنسكي) .
ومنذ (اسبارتاكوس) وثورة ال (كومون) و(المسيرةالكبرى) التي اطاحت بالكومنتانغ. وتلك التي صعدت ب (المهاتماً غاندي) .
فالرحم النسوي لا يعقم , ونحن في ارض السواد سبقنا كلّ تلك القفزات البشريّة , ورسمنا الخطوط البيانيّة منذ (زنج البصرة..) .
آخر يبدو ان الرفيق ماهر في مسحه للتاريخ , والتأشير على موضع القرحة المزمنة , وتسليط الضوء على المكان جاء وفق المعايير الثوريّة
وقد وضع بصمته على الثمرة الناضجة , وما يتجمّد من الماء قد يحصل الذوبان فتنهار الاقطاب الجليديّة لتهدّد بالطوفان الكاسح .
هذه هي القضيّة التي تحكمها القوانين .
لا احد يستطيع تفعيل الاحداث :
طالما هي لم تختمر , او تنضج في وقتها المناسب
ومع رصد التحوّلات .
قد يجيء جواد الصبح ليسحب خلفه عربة المحرومين
ولينهي فصلاً من فصول المسرحيّة المأساويّة..
جلس المعتقلون بعد ذهابهم الى الحمّام ليتناولوا وجبة الإفطار الشحيحة وهي عبارة عن قدح من الشاي , وقطعة جبن , ورغيف خبز .
بعد ان يفرغوا من طعامهم ينقلبون لتصريف ساعات النهار.. , وليضيفوا رقماً جديداً يدخل في حسابات صرف الايّام الخالية من ثمرة الجهد .
وهي ايضاً خارجة عن موضوع (كلّ يعمل حسب طاقته , ويأخذ حسب
طاقته : هنا في البقعة المرتفعة من حولها الاسوار لا تأخذ القوانين الاشتراكيّة مداها تماماً بين من يجلسون على تلال الفضّة والذهب
والناس مثل الطيور الحبيسة في ابراجها , وقد تحصل للطيور فرص التحليق بعيداً عن القيود . ولو لساعات الا انّ هؤلاء الذين يقبعون خلف القضبان الحديديّة , والجدر الصمّاء : لم ولن يحصلوا على فرص التجوال
كالتي حصلت عليها الطيورا من كلّ الاصناف .
قد يكون بينهم الطبيّب والمهندس , والاستاذ , والمدير والكاسب , والعامل , والفلّاح وهم ممّيّزون عن جميع شرائح الشعب , ويمتازون عن بقيّة السجناء الّذين عادة يكونون من السرّاق , والقتلة , ومن ارباب السوابق ,
والجرائم المشينة والذين هم بحاجة الى التطهير من رجس وشوائب العلاقات الاجتماعيّة غير المتوازنة والتي ليس لها خلفيّة فكريّة , او دينيّة , او معتقد يدل على السمو بالروح الانسانيّة الوثّابة دائماً وابداً .
احياناً نرى السجناء الضيوف وهم يحملون التراكمات التي خلّفتها القرون
المظلمة : وهم يمتازون بالجهل , والمرض , والفقر
ويصطفّون بعيداً عن شواطئ
المعرفة , والاحساس بالانسجام االاجتماعي الذي يضع الانسان نظير الانسان كذلك نرى ادارة السجن تحرص على عزل السجناء السياسيّين
عن السجناء العاديّين خوفاً من ان يتلقّحوا بالاستنارة , ويتزوّدوا بالمعرفة
التي تسلّط الضوء على صياغة القوانين التي تغلّب مصلحة الاقلّية على
مصلة الاكثريّة لذلك نتلمّس كيفيّة عزل هؤلاء عن اولائك لتكن السلطة
في مأمن من اقتراب العاصفة .
كان احمد يعطي السمع العنان , ويسحب لجام لسانه
لكي لا ينطلق في مضمار يجهل منعطفاته ولم يجرّب السباحة
مع تلك الخيول كونه صفر المعرفة بتلك الجماعة ولم يكن على يقين
من صدق ما يتحدّثون به في هذا الجب .
ربّما هناك نجوم انطفأت ولم يبق منها الّا الضوء الخافت والذي قد تستثمره
دائرة الثعابين , من سحرة وفلكيّ ارض السواد .
كان احمد يردّد مع نفسه المثل القائل .
(اذا كان الكلام من الفضّة فالسكوت من الذهب)
كذلك البحيرة قد لا تخلو من الكواسج التي ترتدي
جلد الاسماك الوديعة .
هاكذا كانت هواجس احمد بين هاؤلاء المعتقلين كمن يشعر وكانّه علّب,
في صندوق زجاجي تحت عدسات المراقبة التي تسلّطها دائرة الثعابين على ضحاياها , لذلك ضرب على نفسه طوقاً من العزلة الكتمان
كي لا يقع في شبك من يتربصون به في عالم مجهول , وغير واضح للعيان . كان مفتوناً بالحرّيّة ويرهقه شريط تخيّلاته التي لا تركن الى السكون .
احمد يعيش بين مجموعة كبيرة من الرفاق الذين يكاد المكان يضيق به وبهم ويلازمه شعور بالخيبة كون العدو عمل ويعمل على قصّ جناحه لذلك
فرض العزلة على نفسه تحسّباً للمحذور .
عقارب الساعة المنهكة تراوح بين منحدرات الليالي وصعود النهارات .
واحمد يعيش بعده الاقصا , والدورة حول نفسه , وحول الارض .
في هذا التجوال , او الركض في الماراثون الذي غزاه الخدر , وقاده لباب النوم ..
انتقل من احلام اليقظة الى احلام الخلط بين الكوابيس والجنان .
اندهش لوقوف هديّة امامه حزينة وهي تعاتبه و تعول بمرارة وتقول
كيف طاوعك قلبك وانت تبتعد عن محورك الذي تدور حوله ,؟
احمد بيتنا لو زرع بمئآت الفوانيس دون قنديلك فهو مظلم
قلّي بربّك متى متى تعود ؟
لقد نفد صبرنا , واختلّ توازننا : نحن بين الامل والخيبة ,
عائلتك مثل محطّة تنتظر قطار الفرح .
حبيبي احمد ايّها الطائر الضارب في البعيد . الكل بانتظارك
اين انت ؟ وفي ايّ الجزر القصيّة ؟
منذ متى صرت تألف الوحدة ؟
والابتعاد عن بيتك الذي يضمّك بدفئه . احمد صرنا على وشك الرحيل ,
اتخمتنا المرارات , وليس لنا من ثمار سوى ما تقدّمه لنا شجرة الزقّوم .
نحن على حافة هاوية لاندرك قرارها .
كن رحيماً وعد على جناح السرعة .
بل على جناح زاجل يحمل لنا البشائر المزحومة بالاحلام من قلعتك النائّية.
لا ادري ان كانت تقع على احدى الجزر المحاطة بالاسرار
وقد آتيك باجنحة بيضاء لاحلّق وادور حول قلعتك ببدلة عرسي الزاهية مطرّزة بالورد , والازهار , وباغصان خضراء تتمايس بجمالها وجلالها .
تيقن احمد ان هديّة مازالت تركض في المضمار مثل ايّ فرس عاشقة , ومتعلّقة بقطع اشواط العمر مهما تكلّفت كدحاً وعناءاً .
وما ان مسكت بيد احمد, واقتربت انفاسها من انفاسه وهي تلهث , وتعول ,
وتقول ايّها النسر الى متى انت في الغربة , والتجوال؟
متى تعود الى عشّك ؟
انهمرت الدموع من عيني احمد وكان احدهم يسحب يد احمد ويهتف احمد احمد كيف تنام وانت جالس, وجفونك مبتلّة وكانّك تبكي .
انهض , وتمدّد على فراشك : اشك في انّ ايّام الاعتقال قد نالت منك
فقم ونم على فراشك .الله يلعن الساعة التي قد يضعف فيها الرجل , وقد يضيق في المكان الذي يحيط به حتى ولو وسع العالم كلّه . قم حبيبي يظهر انّك في كوابيس من الاحلام . وكذلك نحن نحلم بحرّيّتنا في وطن تكثر فيه السجون والمعتقلات وتشح فيه الحدائق والمتنزّهات.
كيف علمت انّني احلم .؟
الرجل كان صوتك يرتفع ويجترح السكون وانت في السبات .
كلّنا سمعنا صوتك مثل نشيج غريق .
الآخر : بل مثل صهيل فرس تركض في المضمار.
نهض احمد وفرش بطّانيّته , وتمدّد , وغاص في نوم عميق .



00 0


كان احمد مثل السندباد البحري الاسطوري يعيش مغامراته بأدق التفاصيل
منذ ان عاش وتفتّحت عيناه على تراب قرية المكاسب التي هجرها
من اجل ان يدخل فردوس حماقاته : مثلما ذهب (جلجامش) وهو يبحث عن الخلود ..
ركض احمد حدّ اللهاث في مضمار العمر , وقطع المسافة ,
مساقة ارض السواد التي امتدّت من قرية المكاسب لبوّابة عاصمة الرشيد.
لاجل ذلك الفردوس الذي حلم به .

هاهو يقبع الآن في قعر الجحيم من فردوس احلامه الكاذبة والتي تزهو ,
وتشرق على الورق , في عالم من الوهم الذي تصوّره عالماً مثاليّاً ينمو , ويترسّخ في تصوّراته الراسبة في قعر البئر الذي استوعب كل المهاجرين من رومانسيّ ارض السواد , ومن السذّج .., الذين لم يقرؤا
الفصل الاخير من رواية العروس التي اغتصبها في ليلة عرسها التتريّون ,
والعثمانيّيون , والانجليز فكان الفردوس يخضع لتلك التصوّرات الثلاثيّة
في الحالة الغريزّيّة .., .., المنعكسة على الابناء .
مثلما ينمو الدغل في الارض الطيّبة : تنمو النفوس التي لا تميّز بين الفردوس , والجحيم .
ولتشكيل رافداً يجري في النفوس مجرى الدماء , وعنداما نستعرض تلك اللوحة التاريخيّة , تلوح في تضاعيفها تلك الانكسارات النفسيّة الدفينة , ولرد الاعتبار يجرون لأخذ الثأر الثلاثي : ولكن ممن يأخذون الثأر , ومن يأخذ .. ؟
الاضعب من الاقوى. هذه الصورة تجلّت في مخيّلتي
و في الجوهر من موقف المحقّق وهو يمنّي المرأة
العجوز برفع الضيم عنها لصبّه على رأسي .هكذا تتصاعد عندنا القاعدة الهرميّة معوجّة كمنارة الحدباء. ومثلما حبل البئر الرقيق يحزّ في الصخر مع مرور الليالي وتعاقب النهارات . اجل هكذا تتعثّر الايّام وتتداعى الشهور في مجتمع ارض السواد . كان عليّ ان ادرك ان شيخ القرية وسراكيله يتجسّدون في الضابط المحقّق ومن يحيطون به من فوق , ومن تحت وهم كدرجات السلّم تجري في دمائهم العدوى . وها انا الآن احدق في جغرافيا الكون لاتلمّس موقعي الفردوس والجحيم للفرز بينهما كما لا استطيع الفرز بين القرية والمدينة .
انهك احمد وهدّت جسده تلك التصوّرات في الليلة الليلاءا وهو خلف القضبان , وداخل القفص الحديدي وقد جعلته الاحلام مثل كرة بين عارضتين تحت ضعط الكوابيس
حيث انطبعت تلك الحكاية بين الاقوى , والاضعف (((يوم قال لصاحبه ان صدنا ارنباً فلك ارنب وان صدنا غزالاً فلك ارنب))) كان على احمد ان يقرأ الفصل الاخير من رواية العروس قبل دخوله الى الفردوس .
لقد عاش ايّاماً غير قليلة في المعتقل , وكانت تلك الليالي تمر محترقة والنهارات تغوص في الذاكرة دون ان يحسب لها حساباً .
ايّام الاعتقال تشد من عزمه , وتصلّب عوده الطري الّا هذه الليلة الفريدة ,
الغريبة , والمشحونة بالاحلام المشوّشة التي ما برحت تضغط على
اعصاب احمد , وتعتصره مثلما تُعتصر الليمونة بين قبضتين حديديّتين .
في الصباح , وبعد هتاف الديكة نهض احمد بعد ان نادى عليهم حارس المعتقل لاستلام فطور الصباح .
بينما كان احمد نهباً لتصوّراته جاء ذلك الرجل الذي اصطحبه بالامس , وفتح الباب , واشار اليه بيده .
ان انهض . نهض احمد , وخرج مع الرجل مثل حمل وديع .
قال الرجل لاحمد : لعلّ ساعة الفرج تقترب لانّك اتعبتنا واتعبناك . لم يعقّب احمد على كلام الرجل , بل ظلّ ساكتاً , وبعد ان وصل غرفة الضابط نظر احدهما الى الآخر .
قال الضابط اهلاً احمد .
لم يجب احمد وظلّ معتصماً بالصمت لاينبس .. مثل حجر الصوّان ..
الضابط : كم كان بودّي ان اقدّم لك خدمة لتبقى نكهتها , وطعمها
على طرف لسانك
ما حيّيت ولكنّك كنت وما زلت صخرة صمّاء لا تعرف مصلحتك كونك لم
تمر بعد بالمنعطفات المظلمة, ولم تذق ثمرة الحنظل وقد اخترت الطريق الوعر , والاشقى , والاشدّ مرارة .. اما نحن فاستنفدنا معك كلّ الذي نملك من اسلحة فكريّة تنطوي على حب الخير .. ولكنّك رفضت كلّ ما قدّمناه لك بالمجّان ولا حيلة عندنا بعد جميع تلك النصائح . لم يجب احمد وظلّ ساكتاً مثل تمثال من الجرانيت , ثمّ عقّب الضابط : الم تجب على حديثي ولو بحرف واحد قبل قتل الفرصة بانتظار الفرصة . ومثلما يقال عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة .
احمد ظلّ ساكتاً سكوت الموتى داخل في القيور .
التفت الضابط وقال للرجل افتح له ملفّاً فيه عنوانه . صورته الشمسيّة .
ادق المعلومات عنه . عن محيطه العائلي . اهم من يحيطون به
من الاصدقاء . واطلق سراحه حينما تستخلص ما نطلب منه .
ثمّ التفت الضابط لاحمد وقال :عيوننا خلفك اينما تتجه يميناً , او شمالاً .
شرقاً , او غرباً . احذّرك .. إإ
ايّاك والعود . .
سنطلق خلفك كلاباً تشمّ رائحة المطلوب وان اختفا خلف السحب ,
او في اعماق شط العرب . عليك ان تعرف حجمك . طول
قامتك وانت تقف بوجه الشوامخ من اسياد البلاد . انّها لمهزلة ما بعدها مهزلة : مثلك انت الابله البليد تطالب بطرد ملكاً من ملوك العصر . وممن ينحني له العالم اجلالاً , واحتراماً . طروحات آخر الزمان . انت يا دجاجة ارض المكاسب تحلم ان تكون ديكاً على مزبلة من مزابل بغداد وانت تهتف بحنجرة منتفخة ليخرج الشاه محمّد رضا من بلادنا ..,
انسحب الضابط ووجهه يتلوّن بين الزعفران , واللون البنجري وهو يرتعش مثل شجرة تكاد تقتلعها الريح من باطن الارض , وصفق الباب بقوّة , وتوارى مثل ضوء افل في محيط الظلام .

000

طرق احمد الباب وما ان فتح حتّى وقعت عيناه على هديّة ذات الوجه المشرق رغم اطاره الحزين المعلّم برموز الفقر, والحرمان , وما سبّب لها
اعتقال احمد من ويلات , ومصائب تتسجّر لها القلوب الرحيمة .
وردة الحياة لا تتفتّح حين ينطوي قمرها في البعيد.
من هول المفاجئة فقدت هديّة توازنها , ودار رأسها في دوّامة وهي تهمس
اح اح احمد . ثمّ انهارت مع انهمار الدموع الغزيرة وفقدت وعيها .
هرع من في البيت واخذ كلّ واحد يهتف الحمد لله لقد انتهت احزاننا ,
والخوف الذي غزا امننا . راحوا يسكبون الماء على وجه هديّة, ويفركون جسدها لتعود الى وعيها .
بعد وقت قصير عادت هديّة لعالمها وهي تحدّق بوجه احمد وتحمد الله جابر القلوب الكسيرة , كذلك راحت
ترفع آيات الشكر للعلي القدير على هذه النعمة لظهور احمد من غيبته , ثمّ رفعت يدها الى السماء وهي تردّد ربّ لقد يسّرت علينا . فيسّر على كلّ مفقود ولا تعسّر بعد ان يسّرت .
كان احمد بين اهله مثل دوحة نضرة , ومزهرة تحيطها السعادة وتسري في غصونها النشوة .
في تلك اللحظة الغامرة بالفرح والحبور.
جاء محمد وعلي فانحنيا على والدهما وامطراه قبلاً .
ثمّ اتت فاطمة ودموع الفرح تطفر من عينيها , ومعها مهنّد والسيّد طاهر,
واخيراً ناصر وعائلته يهنّؤون هديّة واولادها بهذه المناسبة الرائعة , والتي تعتبر فلتة من فلتات القدر . نعم ان احمد يعتبر من المحظوظين في خروجه
بمثل هذه الانسيابيّة غير المألوفة من قبل هذه الدائرة وتعاملها مع ضحاياها
وخاصّة بابها الذي يجب ان يكتب عليه _ نهاية المطاف لكلّ زائر من زوّارها_ في هذا التجمّع الصاخب, والاحاديث الساخنة , والاستغراب من
خروج احمد بهذه الفترة الوجيزة فيما لو قيست بالايام الخالية فهي فلتة , بل معجزة من معجزات اقبية الاموات الاحياء . واحمد في نظر من خبروا اساليب ومكر الدائرة اشبه بسمكة افلتت من شبكتها الحديديّة .
هديّة ردّدت نتيجة لدهشتها , واستغراب الجميع : لعلّ الضابط الذي اطلق سراح احمد من اهل المرؤة , ومن عنده ضمير , ويتحسّب , ويرق لحالة المظلومين . ومازال الخير علامة من علامات تسامح بعض المتنفّذين من اهل النخوة ولا اقول الجميع ولو خليت قلبت . ابتسم احمد بمكر ولم يعلّق وفي غمرة هذا الجمع العائلي قدّمت وجبة العشاء , ثمّ الفواكه , وبعدها اقداح الشاي . لقد استقرّت النفوس , وهدأت القلوب ,
وتوقّفت عن الاضطراب , نهض ناصر وقال اللهمّ اجعل هذا البيت بعيداًعن التصدّع , والكوارث, وادخل على اهله الفرح, والسعادة. نهض احمد واولاده يودعون ناصر وعائلته وقد شكروا مواقفه الكريمة ,
والمشرّفة وقد انطبعت على شغاف قلوبهم الملتاعة والمكتوبة يشواظ الحزن . ثمّ انسحب السيّد طاهر , وولده مهنّد , وزوجته .كان احمد مرهقاً ,
ومتعباَ, ويحسّ بالاعياء, وانسدال الجفون. ادركت هديّة ان لابد لاحمد الذهاب الى الفراش فهو بحاجة لاخذ قسطاً من النوم , وليكون بعيداً عن الضوضاء فقد اخذت منه ايّام وليالي المعتقل ما فيه الكفاية . هديّة تهتف باحمد ان انهض فانّك في حالة اعياء وتعب للغاية .
نعم فانا تعب واريد ان اخلد الى النوم .هديّة امّا نحن فدعنا في غمرة الفرح والحبور . وربّما لا ننام الليلة وقد اتخمنا بالمفاجئة السعيدة .
ذهب احمد وتكوّر على فراشه كعنكبوت في شبكته وهو يستحضر كلمات الضابط حين قال احمد نحن نحبّك وانت تبغضنا , وانت مثل جواد يحاول عبور الصحراء , واقتحام الربع الخالي . نعم لقد غاص الكثير من الفرسان في رماله , والاقل الاقل خرجوا من تحت الظل ليصطفّوا تحت شمس النهار الحارقة في صيف لا يرحم يوم اجتاحتهم العواصف الرمليّة حيث اندمج الرمل بالرمل , والطين بالطين. اما انت فستأخذ دورتك
مثلما تأخذ النجوم المطفأة دورتها . احمد انت قد تخرج عن دائرة الضوء متحدّياً ااكد لك
ستعود منكسراً وانت تطلب التسوية بعد ان اضعت فرصتك الثمينة وانت في غمرات الموج تحلم بالضفة قبل الغرق, ولا من منقذ . هكذا كان يحدّث نفسه . انتفض , ولعن هذه التداعيات, والصور التي رسمها الضابط
بصيغ الجد وليس بالرسم التخيّلي .
لقد تعبت , ودمّرت اعصابي , واهتزّ كياني مثلما تهتز الاشجار العملاقة عند هبوب رياح الخريف المجنونة , والشبيهة
بالهزّت الارضيّة حسب مقياس رختر.
وآخر عبارة انطلقت من فم الضابط
ستعود لنا نادماً : حفرت هذه التهديدات
في جمجمة احمد مثلما يحفر الازميل في الصخر.
كانت الكوابيس لا تتوقّف , واحلام الرعب تقض مضجع احمد .
انقسمت الليلة بين السعادة والاحزان : يكاد احمد يسقط عن سريره .
فهو مثل من يشاهد فلماّ من افلام الرعب المجسّمة التي لا تشاهد
الّا بواسطة النظّارات الملوّنة .
سمع احمد صوت الديك من على سطح في الجوار .
فتذكّرديك (بطرس..)راح يتعوّذ من الشيطان الرجيم , ومن ديك الجيران
الذي يذكّره بحراجة بطرس , وانكار العلاقة بينه وبين السيّد المسيح ع
نهض ورأسه مثقل بالاساطير , والاحلام ,وطفح الطموحات التي تبدّت له في منحنيات الطريق المسدود اذ لا فردوس إلّا على الورق , ولا نعيم في الجزر القصيّة , ولاوضوح في الطريق الممتدة من قرية المكاسب الى بغداد سوى الضياع , واللهاث وراء السراب .
القلم قد يدخل الماراثون على مساحات شاسعة وهو يتزلّج على مسطحات الورق في مرسم مفكّر, اوشاعر خصب الخيال ليرسم له (جنّة الحسن الصبّاح) والتي اشادها له خيال الحاقدين والكذبة ممن يرفعون العروش في الهواء . ما كان يسمعه احمد من اقاصيص , واساطير متناقلة من هنا , وهناك يجد صداه في رحلات السندباد البحري ..
لكنّه الآن صار يكتم ما نبت على جلده من شوك يدمي الجهلة بواقع المدينة
المزوّقة كما تتزوّق العجوز وهي تحلم بعرس غير متوقّع . غسل يديه ووجهه وهو يستعجل نور الشمس ويستعيد تلك الاحلام الساذجة والخليط بين نوم الملائكة , ولهاث الشياطين.
كان احمد قبل ان يستيقظ على هتاف الديك في الجوار . استيقظ وهو يرتعش , وفي حالة فزع رهيب وهديّة تحتضنه بحنان , وهي تصلّي على النبي محمد ع , وتصرخ احمد ما بك . فتح عينه وعجز عن النطق وهو في حالة ذهول . اخذته الهواجس وهو يقول في صمته المطبق انا
هنا , وفي بيتي , وبين من احبّهم ويحبّوني تنقلب المعادلة , وتنشط الاشباح
في حصني الحصين . ظلّ يبحث عن تفسير لهذه التحدّيات الليلية التي ترعب حتى الجن وليس البشر وحدهم .
كيف اهتز وانا مثل نخلة قريتي ؟ لقد ضربت جذوري في اعماق تلك الافكار التي تدفع الظلم عن المطلومين .
كيف اهتز وترهبني كوابيس هؤلاء وانا انا ..؟
قام على عجل .
هتفت هديّة الى اين ؟
الى موقع عملي .
ولم العجالة . خذ قسطاً من الراحة لمدى يومين على الاقل , ولكي تسترجع عافيتك لقد علّبوك كعلب السردين ,
فاترك جسدك يستريح ومن ثمّ يمكنك الذهاب الى دائرتك .
عملك لن يفرّ من بين يديك .
هديّة ارجوك يستوجب ان اذهب .
اذهب في حفظ الله مادمت تصر ..
خرج احمد تحت اشعة الشمس وقد خالجه شعور من الغرابة وكأنّه كان جديداً عليها ولم يمر في طرقاتها بشكل يومي. حاول تثبيت الحقائق كما هي الّا ان مشاعره تأبى , وتصر على التجاهل . كان يقف امام المقاهي , والحوانيت , ودور السينما , وكأنّ كلّ شئ ينتمي الى الحداثة حتى الشوارع القديمة التي شكّلت جزئّياتها معالم
المدينة . كان احمد مسكوناً بالدوران والعثور على الشئ في اللاشئ .
لقد خرق المدينة طولاً , وعرضاً واخيراً وخزه الاحساس بالتعب , وقيّده
الاعياء .. فركب في احدى حافلات مصلحة نقل الركّاب .
دخل الى دائرته . التقى اصحابه ممن تربطه وايّاهم علاقات العمل .
صاروا يستفسرون منه عن الغياب.
احمد انا الآن في وضع مزاجي لا يسمح لي بشرح السبب لهذا الانقطاع الطويل . دخل احمد على احد المعنييّن ليعلن عن تواجده , وللالتحاق بعمله ردّ عليه المسؤول بشكل جاف , وقال اين كنت ؟ في الغيبة الصغرى . ؟ ام.. وقبل ان يجيبه احمد . عقّب المسؤول : انت تعمل في دائرة مصلحة نقل الركّاب التابعة للدولة . ام انت تشتغل في (مسطر عمّالة ؟ ام سكن)
في سيّارة اجرة ؟ متى شئت تواريت عن الانظار , ودخلت في قوقعتك . احمد على مهلك لماذاهذا الجفاء , والتهجّم قبل ان تسألني , وتفهم مشكلتي ؟ . نحن نفهم مشكلتك , ولا تراجعني فقضيّتك لا تعود لي , وبالتالي هي تعود للمدير العام وانا ابلّغك كونك غبت عن العمل لفترة طويلة دون عذر شرعي : نصيحتي ان تذهب لمدير الحسابات لتستلم ما
بذمّة الدائرة مما تبقّى لك من حقوق والسلام على من اتبع الهدى .
انت تتصرّف معي بهذا الشكل الفض , ولا يحقّ لك . وقبل ان يكمل حديثه احمد : اجابه بشكل مقتضب اخي فصلك من الدائرة صدر من فم الذهب,
ولاوضّح لك اكثر صدر ممن يترصّدون تحرّكاتك وهم في الظل .
وليس من عندي. انّما صدر بحقّك من قيل حكومة الظل .. احمد لو سمحت لي فسأشرح لك قضيّتي . لا تشرح , ولا هم يحزنون .
احمد لماذا لا تعطني فرصة : ايّة فرصة وقد ضربك الاعصار الاحمر . احمد لا افهم ماذا تعني ؟
بل تفهم وقد سبقتك صحيفة اعمالك وهي بمثابت بطاقة إإ؟
وانا انصحك ان شئت العودة الى عملك فاذهب , واجلب معك بطاقة تزكية . من اين ؟ من نفس المكان الذي كنت فيه . اكرر ايّ مكان ؟ الفندق , والمطعم المجّاني وهم سيزوّدونك بها ان طلبت منهم . واقول لك بصراحة
المدير العام لا يحل ولا يربط ان فكّرت الذهاب اليه .
وعلى الرغم مما سمعه احمد الّا انّه قرّر مع نفسه ان يزور المدير العام .
خرج من الدائرة , وشعر ان المقابلة الآن مستحيلة لأن وقت الدوام اوشك على الانتهاء .
خرج وشعر ان رأسه كالسندان تحت المطرقة . كان يحس بثبات رغم الافكار , والهواجس الكاسحة , والتي تكاد تقتلع جذوره من فردوس الوهم . راح يدخل في مناقشات مع نفسه , ويحاول ان يجد تبريرات, وقناعات للعودة الى جحيم قرية المكاسب في اسوء الحالات ثمّ صار يناقش نفسه هل يستطيع ان يعود كبيرق مكسور إإ؟
وما هو الموقف من شيخ القرية , وسراكيله ؟
وهل يستطيع تجاوز نظرات التشفّي , والتنكيل ؟
وفي افضل الحالات قبوله تحت السقف المزري بانسانيّته , وعلى الارجح
ستغلق ابواب قرية المكاسب بوجهه , والويل له لو ركب قطار العودة
الذي هو الاصعب من الموت . كان يتعثّر في سيره مثل من غاب عن الوعي , ولا يدري اين ستقوده قدماه , وعلى غفلة سمع صوت الدواليب وهي تضرب عن الدوران ويصرخ سائق العجلة الا تخجل
وانت ثمل .؟ لم يأتي الليل بعد لتعود من الحانة وانت تتأرجح .
بربّك كيف تسير وانت مخموراً ؟ وقبل ان يجيب احمد , قال السائق اذهب والّا .., تحرّك قبل ان يرغمه الزحام على الوقوف لتبديد وقت اطول .
عاد احمد الى نفسه مهموماً مغموماً وهو يردّد احمد , احمد لا ينبغي لك ان تضعف لهذه الدرجة وانت على فاتحة الدرب , والخطوات الوليدة . كيف
ترهبك اوّل صعقة فارغة من شحنتها القاتلة ؟ والّا كيف نذرت نفسك للناس؟ . اانت ام غيرك الذي جعل من نفسه سفينة للعبور بقافلة المعدمين
من المياه الضحلة لاقتحام امواج المحيط المضطرب لمقبلات
ايّام زاهية ؟ . والآن , الآن تعاني ضعفاً قبل ان تطرق بابك المقبلات من الدواهي الحبالى بالكوارث الفادحة ؟
احمد عليك ان تعرف انّ الدرب له مصدّات من الاسلاك الشائكة , والاشواك تغور في بطن قدميك . قد تدخل في حرب ضروس مع جند الشيطان . وقد تذهب هدراً وانت صريع المخاوف .
عليك ان تثق بالمستقبل , والمستقبل فقط حليفك طالما انت صاحب قضيّة
عادلة لاتصب في مصلحتك انت : بل تصب في مصلحة الاكثريّة ,
وجموع هذا الشعب وانت منه , ومن يتصدّى للظلم , ويعمل على تغيير اللوحة قد يدفع ثمناً باهضاً : احمد عليك ان لا تقف في مفترق الطريق بعد ان حصلت لك قناعة تامة للاختيار ..
ها انت ترى هناك من وضعوا الصوى عند العوم , وكسروا التيّرات , ورسموا العلامات المضيئة في منعطفات الظلام . وروّضوا , المتاهات قبل ان تبتلعهم اللجة . احمد اجعل حدسك غير قابل للقشعريرة من المياه الزمهريريّة , او في المياه الحارة : وبينما هو مستغرق قي حواره الباطني تذكّر الاستاذ فاضل العاني , ذلك العنصر النيّر الفذ واسع المعرفة الذي غرس البذرة الاولى في الارض البكر , وفي الطين المبارك
في قرية المصائب المسمّاة بقرية المكاسب : لا ادري هل حلّت بي لعنة المعرفة ؟ , ام لعنة الارض التي حملت على ظهرها (قابيل) و (قارون)
ومن يشبههم في كل عصر من عصورنا الماضية . وستستنسخ الارحام
من هم اطول ذراعاً , واقوى مخلباً , واحدّ منقاراً , وهم ينحتون العروش ,
وينقشون التيجان , ويمارسون الحركة على المسرح برشاقة راقصة باليه ,
ليزيلوا الصدأ عن نجمة داودع. ويباركون الصليب المعقوف . وفي وويلي ستريت يبيعون يوسف بثمن بخس الى الى جانب براميل البترول .
فلو كنت كما كنت قبل لقائ بذلك الاستاذ لما حصل هذا الاضطراب , والوسواس , والقلق المرعب , والمطعّم بالالم , والغصّة ,
والجرح النازف..
اعود فاسأل نفسي : هل انا مسؤول عن حماية الناس من الظلم ,؟
وعن الاوضاع الشاذة , والتي يعانون منها ما يعانون .
لقد جرّعتني المعرفة السم الزعاف .
ها انا الآن اتناول منه نصيبي مع ظهور كلّ هلال اسود في سماء بيضاء
, كما تناول (سقراط) نصيبه ولكن لمرّة واحدة .
هناك العشرات من المتعلّمين وقد انقلبوا على جدول المعرفة بعد ان لبسوا الاقنعة , والنظّارات الملوّنة , وراحوا يساعدون على ترسيخ قواعد المغالطة , وتحدّي القواعد الانسانيّة , والعمل على تغيير جلودهم
قبل دبغها . اما انا فليس لي من منفذ . ها هي آثار سياط نظريّة المعرفة تجلدني في احلامي , وفي ىيقظتي . وفي كلّ صفحة من صفحات كتاب
رسمت حروفه بريش النعام , وقارورة الدماء . منذ خريف (اسبارتاكوس)
و غروب (كومونة باريس) حتى (ثورة زنج البصرة)
لم اصب بعقدة النسيان حتى ولو كان الكتاب يصبّ في نهر خفافيش الظلام,
ذلك لانّي لم افقد حاسة الشم , ولذّة الطعم , وتمييز اللون ..
هذه هي لعنتي . بل امنيّتي التي اعيش من اجلها . ولاجلها يهون كلّ شيء.
اخيراً صحا احمد , وخرج من شبكة الافكار المنفتحة بين النورانيّة والظلاميّة . تذكّر ما كان يطالع في صفحات كتاب القدر الذي يسرد سيرة المهاتماً (غاندي) يوم جعل ارض الهند تهتز تحت اقدام الغرباء.
كان يمشي وهو يتنفّس بعمق , ويحس بقوّة تفوق قوّة الانسان البدائ .
وصل البيت . ما ان طرق الباب حتى فتحت هديّة الباب وقالت بشّر.
خيراً ان شاء الله . الم تطلب اجازة ولو لبضعة ايّام لكي تسترد عافيتك.؟
كلّا لم اطلب منهم اجازة .
احمد لماذا تقسو على نفسكِ ..؟
اقسم عليك ان تعجّل بطلب الاجازة , وذلك لكي تستردّ عافيتك , ولنشبع من
النظر اليك . لقد غبت عنّا طويلاً وان طلبت منهم ذلك فسيمنحوك الاجازة .
احمد كيف .؟
هديّة انالا اعلم ولكن اقدّرذلك .
هديّة انت قد لا تعرفين هؤلاء .
كيف لا اعرفهم ؟
ربما يكونون اهون من سراكيل قرية المكاسب لانهم من المتعلّمين
عزيزتي انت تحكمين على الآخرين من خلال مشاعرك الرفيعة .
رجال الامن الم يكونوا من المتعلّمين .
هم نفس الاخوة قابيل وهابيل يفترثقان ثمّ يلتقيان في نفس الدائرة .
نحن نعوم في محيط ليس له ساحل .
ولا نصيب للتعليم في نزع المخالب ..
الصراع قائم منذ حروب الحجارة ..
لظهور حروب العصا .
ومن حروب العصا الى حروب السيف
ومن حروب السيف
لىحروب البندقيّة
ومن حروب البندقيّة
الى كارثتي هيرو شيما ونكزاكي : ونحن بانتظار ماهو اعنف.
كل ذلك قد حصل , وسيحصل . وقد تحدّث عنه شاعر المعرّة.. ولكن بشكل اضيق حيث قال واشرف من ترى الارض قدراً يعيش الدهر عبدفم وفرج.
قد تكون الحياة اوسع من هذه النظرة الضيّقة ,
والمحصورة بين قوسي اللذة , واسكات المعدة .
فالنظرة الماديّة التي ترسم طموحات الانسان تاكّد ما يكمل اللوحة التي هي
من نتاج الحركة بين المادي والروحي , وبذلك يتحقّق
اللحن الكوني للانسان الوارث.. , والمتحرّك في فلكي المادة والروح. والمرتبط اكثر فاكثر بحبل الرحم الطيني
والعامل باصرار على استقراء وفك رموز الطلّسم , وقد اطلق الرؤيا الباحثة عن مكنونات ما ابدعه الله في نطاق قدرته اللامحدودة , وقد عمل الانسان منذ حبا على مدرج طفولته لاستقراء
اللوحة بتداعيات حالمة . امّا انسان الغد, فهو مشحون بحيويّة بالغة قد تدفعه على تغيير الصورة بشكل ينسجم وسمفونيّة الوجود, والانسان يترك
بصمات واسعة , ومضافة الى متطلّبات الفم واللذّة .. ,
اخيراً راح احمد يراجع وضعه , ويبحث عن منفذ يمكن المرور
منه دون ان يلامس انفه التراب , ثمّ قال كيف يحق لهم فصلي عن العمل وانا المواضب , والكادح بلا كلل , والمرافق لتلك الحافلة والتي اصبحت غصناً من شجرتي , وانا مثل دواليبها التي تدور بها في شوارع بغداد الفردوسيّة , والممتدة مثل شارع العمر المحفوف بالعوسج البشري السام .
سحب سسجارة من العلبة , واصبح من سرايا المدخّنين .
اولع عود الثقاب الكبريتي , وراح يسحب النفس القوي ثمّ ينفثه دخاناً يغطّي
اشكاليّات تصوّراته المؤثّرة والتي تحدث شروخاً عميقاً في مسار حياته التي لم تسعفها السعادة.., وها هي مثل سحابة مستفرغة مما ينتظر المزارعون :
صفوفاً من اشجار الفاكهة التي تقرب مما يوصف في جنان النعيم .. وطوراً تعكس صوراً لحيوانات منقرضة , وخرافيّة , او عمارات كناطحات السحاب .
كان الرماد يتساقط على بنطال احمد مثلما تتساقط السنين العجاف التي خلت من اللون , والطعم , والرائحة .
كانت محصّلتها بحراً من السراب : كلّما اقترب منه تلاشى.
تسلّط عليه سلطان النوم .
كانت الغفوة بعد الغفوة مثل نخلة تتجاذبها الريح , واحمد يسرح على مسطّحات الاحلام العابرة , عبور دخان سجارته .
اخيراً استسلم الى النوم , وصحا على صوت هديّة تهتف احمد , احمد انت متعب فاذهب الى فراشك .
نهض احمد وهولا يستطيع فتح عينيه والقى بنفسه على الفراش , وبعد وقت
قليل صرخ احمد بصوت مسموع : سيّدي انا عائد من عملي , فحصل الذي حصل ولا اعرف عن المظاهرة شيئاً .
انا لم اكن معهم .
كان احمد ينشدّ في حلمه بقوّة وتأخذه الرعشة .
حرّكت هديّة احمد بيدها من كتفه وهي تردّد بسم الله
واعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم.
احمد مابك هل رأيت ما يزعجك ؟
فتح احمد عينيه , واطلق زفيراً مشحوناً بالمرارة , وقال لا شئ
انّها اضغاث احلام ثمّ عاد الى النوم .
مع اوّل المساء استيقظ احمد , ونهض , وراح يغسل وجهه ليستعيد نشاطه , وهو يستحضرصور الاحلام التي كانت تتراقص امامه .
خرج من البيت , ومن شبكة الخيال , والتوتّر ,
دخل الى المقهى وجلس في مكان منفرد ,
صارينصت الى قطعة موسيقيّة تبثّها محطّة بغداد .
كان يحلّق الى الاعالي بروحه الوثّابة
كعصفور يخفق بجناحيه داخل القفص الطيني .
يرتشف الشاي من القدح المنقوش باشكال مذهّبة .
في تلك اللحظة كاد يطير من الفرح , والبهجة .
نسي محنته
ثمّ عاد يفكّر في الغد وما يضمره الغد.
هتف في داخل صندوق صدره انّ غداً لناظره قريب .
راح يردّد احمد اقلب الصفحة من كتاب القدر , وما يضمّه الغد .
عش اللحظة بسلام مع نفسك ,
ولا تعكّر ساقية النغم وانت مع السنباطي ملك الموسيقى
وسيّدة الطرب امّ كلثوم وهي تضرب على وتريّة الجرح المفتوح , والحنجرة المتّقدة , وهي تطالب بالحرّيّة التي هي المتنفّس لكلّ انسان على وجه الارض .
قد تنهل الروح من ذلك الشلّال الانسيابي المتداعي
مثل برد يتساقط في صيف تمّوزي , ليطرد الهموم المتراكمة عبر مسيرة العمر . والانسان المهمّش على ضفاف المجهول : يسترجع آدميّته
في مجتمع تصطرع فيه الاضداد. وتكون الغلبة للمخالب الحادة ,
وللّذين يجلسون على تلال الذهب , وعروش الفضّة .
في تلك اللحظات حلّق احمد لعالم علوي في منأى عن جسد الطين الذي يسكنه . كانت كوكب الشرق تردّد اعطني حرّيّتي اطلق يديّا .
في ذلك الجوالذي انشدّ له احمد . جلس احد الروّاد بالقرب من احمد . سلّم
فردّ احمد السلام واعطى جانباً من اهتمامه لجليسه . الّا انّ حنجرة ام كلثوم
الفضّيّة كانت الغطاء المسيطر على مشاعر احمد .
كان صوتها مثل حمامة تدور بفلكه لتفتح كلّ النوافذ الرحبة مع انسيابيّة نغميّة على صفحات نهرمتموّج .
قال الرجل لاحمد اراك منشغلاً , ومأخوذاً بصوت كوكب الشرق امّ كلثوم ,
وحنجرتها الفضّيّة ذات التردّد الاخّاذ .
نعم انّها العالم الذي اذوب فيه , واللوحة التي اعشقها صوتاً , ولحناً , ورنيناً , وموسقة , ورقّة , ورقصة ترفعها الى ذرى قمّة بين روابي الفنون
العربيّة . لذلك تراني منشغلاً , ومأخوذاً بها حدّالوله . ثمّ عقّب حقّاً
انّها رائعة من روائع الفنون التي قد لا يجود الدهر بمثلها حيث
تلتقي فيها الروافد العديدة لتشكّل نهراً رفيع المستوى , لا يقف عند حدود الاغنية اليوميّة العابرة, والتي تذبل مثل وردة ما ان يمر موسمها حتى تجف, و تتناثر وريقاتها , وتصبح نهباً لرياح الخريف. انّها المواسم كلّها .
الرجل انا ايضاً من محبّي ام كلثوم .
هي عملة نادرة : بل الذهب عيار 24
احمد . ومع هذه المتعة نبقى فريسة الهموم امام القضايا المصيريّة لشعبنا المظلوم . الرجل الجميع لهم همومهم .
احمد هذا صحيح . من منّا خالي من الهموم . انا وانت , وغيرنا نشكّل مجرّة بشريّة حزامها الهموم تدورحول الافق . وقد يعوّقها الفقر , والمرض , والجهل الى جانب الحاضنة .؟
الرجل وما الحاضنة؟
احمد الحاضنة يا عزيزي وما ادراك ما الحاضنة : انّها البطالة
لعنة ابناء ارض السواد الذين يلوكون العاقول ومن تحت اقدامهم يجري الذهب الاسود , ليصبّ في جيوب القوارين.
وامّنا الرؤوم اقدامها تغوص في الطين , وتتدفّق من تحت اظافرها نافورات
هائلة من البترول لتغمر جزر سيّدة البحار.
انّها المفارقة .
ويا للهول لهذه المفارقة.
الرجل بل القسمة . انتفض احمد وقال للرجل ايّة قسمة تعني؟
بل قل الاقتسام تحت مظلّة قوانين الغاب. ومثلما يقال ان صدنا ارنباً فلك ارنب, وان صدنا غزالاً فلك ارنب ذلك هو الاقتسام . ابتسم الرجل, واخذ
يلتفت يميناً وشمالاً اتقاء الجفون المسدلة , والآذان المفتوحة المميّزة للنبرات حتى في ضجيج سوق الصفّارين وقال لاحمد على مهلك فانا اعيل عصبة لها افواه تجيد الطحن بالاضراس الحادة , ولا تعرف الكلل ,
وهي متمرّدة على كلّ قوانين الصبر , والتريّث , واخشى ما اخشى التزحلق على جليد الشيطان ,
والغطس في القليب الذي ليس له قرار .
احمد نحن في المقهى ولسنا في حضرة الحجّاج.. ولا ثالث معنا , لماذا هذا التحسّب , والتردّد عن قول الحقيقة . كما انّنا لم نكن تحت الاضواء, او امام مكبّرات الصوت , ولن نقترب من كورة الدبابير فلماذا ينبت الخوف على شغاف قلوبنا ؟ . الرجل لست خائفاً على نفسي فسفينتي قرينة للسفينة التي خرقها الرجل الصالح .. وقد اعترض المرافق له , وقبل ان يفترقا . نهض الرجل وقال ارجو ان لاتغضب : فليس لهم من يحميهم من بعدي .
كان الرجل مثل مشرط انسلّ من نسيج احمد ليرسم له جرحاً جديداً, يضاف الى جروجه القديمة . كلّما تحرّكت عقارب الساعة : كان الروّاد يخرجون
الواحد بعد الآخر . ظلّ احمد يعوم في بحر تخيّلاته وهو يتحسّب للغد القادم بسرّه المكتوم وان لاحت طلائعه على لسان ببغاء المدير العام لكّنه يأمل , ويطمح بدماثة خلق المدير , ثمّ ما مصلحة المديرفي فصلي انا خاصة انّه يجهل الظروف المحيطة بي . نهض أحمد وكان آخر الخار جين . دخل احمد البيت وآوى الى فراشه , وراح ينظر الى القبّة السماويّة
كفلكِيّ يستقرئي مواقع النجوم , والكواكب,
والرجوم التي تخترق الحجب لتدخل في جوّالارض وهي تسحب خلفها
ذيولاً ناريّة . عاش احمد تلك اللحظات ليستعرض كرنفالاً ساحراً ينفتح
على الجمال , وعلى عظمة المبدع خلال النسيج الكوني الذي يقف الانسان
على حافّته صاغراً , ومندهشاً رغم ما حقّق من انجازات على السطح ,
وفي اغوار كوكبه الارضي , وهو يرسل اشاراته بين الطلّسم والقمقم,
في صندوق الكون المغلق .
بعد ان اتعبه التحديق للبعيد , وانهكته حركة الاقدام في ذلك الصمت المطبق. عاوده النعاس . غاص في نوم عميق . سرح في انسيابية , واستدرجته صور الاشباح . كان يتحرّك على مهل والخوف يلفّه بين طيّاته وهوينظر , ويتفحّص كلّ منعطف ثم اقبل احد ضبّاط الشرطة باتجاهه .
وكلّما اقترب ازداد وجيب فؤاد احمد وهو يتذكّر كلمات الضابط المحقّق
حين قال له سنطلق كلابنا خلفك . وما ان اقترب الضابط منه حتى قال
له اين انت؟ لقد قلبنا الدنيا وما فيها ونحن نبحث عنك .
هل اختبئت في قوقعة داخل اعماق البحر الاحمر؟ ام في كهف من كهوفكم السرّيّة. جمد الدم في عروق أحمد . ارتبك ولاحت صورة الجب , ومناورات الضابط المحقّق , ومحنة انقطاعه عن العالم المحيط به .
وقبل ان يجيبه استيقظ من نومه مرعوباً فزعاً , وكاد ان يصرخ .
فوجد نفسه وحيداً متحفّزاً ليطلق ساقه للريح وهو يسبح في عرقه.
تعوّذ من الشيطان ,
وظلّ يسحب الحسرات تلو الحسرات لملازمته هذه الكوابيس .
عاد الى النموم وهو فريسة لاحلام مختلفة . استيقظ للمرّة الثانية على اصوات تسبيحات الديكة وهو تعب , ومنهك حدّالانسحاق . نهض من فراشه مثل زورق اعياه الموج وهو يروم الرسو على شاطئ المدينة التي تقذف بالانسان من هرم الخليقة الى زاوية من زوايا الاهمال والنسيان ,
والغائه من كتاب القيم الانسانيّة وان وجد على صفحات الدستور , والقوانين في حقل الحقوق , والواجبات : اكاذيب تستسيغها رومانسيّة العصر في بلد متخلّف , وغارق بالجهل والاميّة وهو يرتدي قفطان المدنيّة . الانسان فيه مرمي على السفح . كرمز من الرموز المنسيّة في جدول الانواع . حاول ان يبتعد , او يخرج من دوّامة هذه الافكار : والّاسيصاب بالجنون لا محالة .
تحرّك ليغسل وجهه وقال لهديّة احضري لي الفطور . نعم ولكن ما كنت راغبة في خروجك وانت في حالة تعب , وانهاك كما يلوح لي .
لقد عصرتك الايّام , واصبحت مثل ثمرة فجّة لا لون , ولا طعم , ولا نضارة ومع هذا
ان الدنيا ما زالت بخير . ازح عن كتفيكَ جبال الهموم وانفتح على الحياة , وابتسم فحياتنا مثل البحر , ونحن بين المد والجزر.
احمد اعلم انّ الله
لا يغلق باباً الّا ويفتح لنا الف باب. ومع علمي ان قابيل عمل ويعمل جاهداً
بيننا ليهدم مابناه هابيل, وانا اامن بأ نّ الله وضعنا على طريق الخير, ووضع لنا الخيار في ان نسلك الطريق القويم , والقلّة من الناس مع تجاربهم , و فراستهم لا يرغبون بافتراس الآخرين ,
ولا يستمرؤون الطعام من موائد الغير, ولا يهنؤون بنوم في اسرّة غيرهم , ولا يشربون الماء من غير جرارهم , ولا يرمون قدماً خارج حدودهم .
هذا الصنف من الناس هم يشكّلون الاقل الاقل , والندرة في مجتمع الجنس البشري . وهؤلاء الاقرب من مجتمع الانبياء .
هديّة علينا ان نبحث عنهم في الاساطير
احمد لماذا نبحث عنهم في الاساطير ؟
لانّك تتحدّث عن عالم الوهم , انا اتحدّث , وابحث عن
عالم ملائكة وانبياء يندر ان يكون بينهم
يهوذا الاسخريوطي , او نيرون .
لقد مرّت البشريّة بتقلّبات , واطوار , وقد ترين من يزرع الشوك
ومن يغرس الورد. والذي اتحدّث عنه الآن قد
لا يدخل الّا في تضاعيف الاحلام , وانسجة الوهم , وقد لا تتكرّر
تلك اللوحة في مرسمي الآن ما بقيت وبقي الانسان على الارض .
ومنذ ان دارت العجلة , وادخلتنا عصر السرعة صار الاخوة لا يلتفتون الى (يوسف) وهويستغيث داخل قعر الجب . هديّة انت ذهبت بعيداً كحصان طائر فوق الغيوم. احمد اتمنّى ان اكون من مريدي هؤلاء الذين يتحرّكون على شاشة احلامي في عالم اخضر يخالطه اللون الاحمر حتى ولو في ساحة مصارعة ثور اسباني . ااكّد انّكِ تغفلين الدور التاريخي
للهراوة , والحراب , والبندقيّة , والقفز الى اسلحة الدمار الشامل :
اسلحة الشيطان, الى جانب الدهم الحضاري..
ثمّ اكتساح ديلاب المدنيّة للانسان الخام : الذي كان يمشي شهراً , ولا يطفر نهراً. وبدل ان يقوّم قابيل زاده شغفاً في لعبة الموت داخل السيرك بتقنيّة, متقدّمة . الحياة تزوّده بمصل قاروني يضبب رؤيته للكتب المقدّسة , ولما خلّفه لنا المصلحون , والحكماء . فالخطوة المتقدّمة على عتبة الحياة
كانت وما زالت (لجنكيز خان) ول (تيمور لنك) و(هتلر) و(موسليني)
ولامثالهم .., وحين تقع عين ذلك النوع الخارج عن القطيع ..
على صفحة من صفحات كتاب الحكمة يجري عليها المسح , اويضعها في اطار لا لغرض التزوّد من عظاتها
بل للاستئناس وقتل الوقت . هديّة انت متشائم . بالامس القريب كنت تحدّثني عن اصحاب (حلف الفضول) وغيرهم ..
اجل مازلت ابحث عنهم في اجندتي , هم اهلي , وعشيرتي التي انتمي لها كما انّي ما زلت انظر بقدسيّة واعتزازلمن يفتح صدره للريح ولا يأكل الّا في اناء (عروة بن الورد) البالغ حدود انسانيّته الصاعدة ارفع درجات التجرّد من نرجسيّته . لو فكّر الانسان , وتحسّس التناظر في الهيئة , والنسيج الطيني,
وادرك وحدة الوجود , وكيف جاء عارياً , وسيذهب عارياً لما استذئب
بين القطيع الوديع, ولما تقلّب قرير العين على فراش ناعم , وترك من يفترش الشوك , ويلتحف السماء , ولما تذوّق اصناف الطعام بجوار من ينام طاوياً : وقد قال الصحابي الجليل ابو ذر عجبت لمن ينام طاوياً
ولا يشهر سيفه بوجه الخليفة .
هديّة ليأتي الغفّاري, وليتلمّس بيده البيضاء..
ما فعل قابيل القرن العشرين بهابيل : هابيل ما بعد القرون ..
ويحي لقد اتعبتني وانا بدوري اتعبتك في المخاضة التي ليس لها نهاية . قم تناول نصيبك من الطعام . نهض احمد وجلس قرب المائدة
وصار يتناول الطعام , ثمّ ارتدى ملابس الجباة التي غسلتها هديّة للمرّة الثانية دون ان تستطيع ازالة ما عليها من البقع الحمراء التي انطبعت على الكتف وهي تشبه النجوم العسكريّة حينما يحملها ضبّاط الجيش , او الشرطة . الّا ان تلك البقع تفتقر الى البريق ..
خرج أحمد, وراحت هديّة تبسمل, وتحوقل , وترش الماء خلف احمد , وتدعو بكلمات مبهمة . سرح احمد بخطواته , وما ان وصل الى الدائرة
قال لاحد العاملين حين لمحه يخرج من غرفة المدير العام , سأل الرجل , وقبل ان يكمل سؤاله عن المدير . قال الرجل نعم المدير في غرفته . نقر
احمد على الباب ودخل . كان المدير جالساً على الكرسي . الطاولة وضعت عليها اوراق كثيرة : منها اوامر اداريّة , ومنها شكاوى , وغير ذلك . قال احمد صباح الخير . ردّ المدير التحيّة وهو يبتسم
بودّ , وترحيب وهو ينظر لاحمد من خلف نظّارته الطبّيّة ثمّ عقّب تفضّل
واشار بيده الى احد الكراسي .
جلس احمد الى جانب المدير العام وانفاسه تتصاعد ..
نعم تفضّل , وطلب له قدحاً من الشاي
نطق احمد وهو يرتشف الشاي .
سيادة المدير الناس يخضعون للقضاء والقدر في اكثر الاحيان .
انا نفسي احد الذين سقط في مقلب قدره .
المدير العام : ابني انا لا افهم ؟
وطرحك يكتنفه الابهام والغموض. فارجو ان تجنح الى صميم الموضوح
والافصاح عن غرض مقابلتك لي .
نعم سيادة المدير .
لقد حصل لي انقطاع عن العمل , وقد تجاوز ما يزيد على اربعين يوماً .
ظروفي قاسية , وقد ارغمت على عدم اخبار الدائرة , ولمّا عدت لالتحق بعملي رفضت الدائرة عودتي للعمل . لماذا ترفض الدائرة عودتك اذا كان الانقطاع قسري ؟ هناك من يحصل له عارض , او حادث لا سمح الله : كأن يدهس بسيّارة, او يحصل له فقدان الذاكرة وليس له احد يخبر الدائرة
نيابة عنه فالدائرة بحاجة ماسة للعاملين فيها كونهم قد امتلكوا الخبرة , والتجربة في التعامل مع الركّاب . ومن الغباء والجهالة التفريط بامثال
هؤلاء الذين صقلتهم الايّام عبر التعامل مع الركّاب . ابني اعطني اسمك احمد عبد الحسين . على الفور ضغط المدير العام على الجرس . دخل احد العاملين وقال نعم سيّدي . اجلب لي اضبارة احمد عبد الحسين . ذهب الرجل , وعاد باضبارة احمد . ما ان فتح المدير الاضبارة
حتى عثر على بعض التقارير : ووثيقة انهاء الخدمة الصادرة بحق احمد دون علمه بذلك .
صعق المدير العام , وعلى وجه السرعة نظر الى احمد وهو ساهم .
رمق تلك البقع الحمراء الباهتة وقال كيف تأتي الى الدائرة ببدلتك هذه
وانت تحمل على كتفك الايمن النجوم. سيّدي لا امتلك غيرها . انا مضطر
على ارتدائها , وكذلك اجهل حديثك عن النجوم. وايّة نجوم ؟
اجاب المدير العام مع انقلابيّته السريعة : نجوم البطولة والشغب .
سيادة المدير جئت بملابسي هذه لكي تصدّقوا براءتي .
ابني كلّما تريد الحديث عنه ساصغي اليك, وساعاونك ولكن لا تورّطني
في الدخول الى النفق المظلم, ولو كنت مكاني امام هذا الحشد من التقارير
الخطيرة . احمد سيّدي .
ابني نحن لسنا سوى (قرقوزات) امام هؤلاء او (خرّاعات) في المزارع
فلا تحرجني, وتضعني امام ذلك الاخطبوط , ولا تنسى فانا مثلك صاحب عائلة , وحملي ثقيل , وقد يكون اثقل من حملك انت , وهمومي اكبر من
همومك وليس هناك من يستطيع حل عقدتك سوى الكواسج , وخلاصة القول : الحل والربط بأيديهم فهم الحكومة. ايّة حكومة ؟ حكومة الظل .
سيادة ال.... ابني لا تتعب نفسك ولا تتعبني . كل الابواب قد تفتح الّا بابهم السحريّة التي تأدي الى طريقين . طريق الجنّة , اوطريق النار وعلى المرء ان يختار . ثمّ ما معنى انّك تشترك في مظاهرة ضد الحكومة. ؟
سيادة المدير هذا كذب , وبهتان . حتى لو كان كذباً . كان عليك الانصياع
والامتثال لطلباتهم , والخضوع لارادتهم التي لا ترد . انا نفسي لو وقعت في فخّ مثلك لحسبت نفسي اصغر من نكرة امام بوليسهم الذي يلتحف بالقدسيّة المبطّنة , والشبيهة ببوليس محاكم التفتيش . اسمع احمد نصيحتي اليك ان تذهب اليهم فهم ايضاً رحماء في بعض الاحيان
واكثر إلفة , ويجرون الخيرات, ويدعمون الجدران التي التي تكاد تنهد , وتتهاوى . ومع اقراري للتأكيد على ضراوتهم , ووحشيّتهم في التعامل مع من يقف بوجههم , لا مع من يألفهم , ويقر سلوكيّتهم .
سيادة المدير اتوسّم فيك الخير , واطمع بانسانيّتك . ابني لا استطيع الوقوف بوجه تيّارهم , ولا انكر انّ الكثير قد وقفوا امام امواجهم لكنّهم ضاعوا ,
وصفا عليهم الماء , وانا اخاف الله وقد اطلت معك الحديث , وكان هدفي
ان تذهب اليهم لكي لا تقطع عن اهلك لقمة العيش : والّا ما الذي يمنعني
من ان اختزل حديثي معك ببضعة كلمات وينتهي الامر . حصراً اقول لك
قلبي , ومشاعري معك : وفي قرار الفصل انا معهم فاذهب راشداً ,
وعد بكتاب موافقة على عودتك , وينتهي كلّ شيء والله في عون العبد
مادام العبد في عون نفسه . ذهب احمد بعيداً بافكاره المشتّة
بعد ان سكت المديرالعام
وانقطع البث .
صار احمد في سياحة بعيدة عن المكان المتواجد فيه جسديّاً .
بدأت الصور تتداعى مثل جبل من الجليد اخذ يتهشّم , وراحت كتله العملاقة تتشظّى , وتقحمه امواج من الضباب , ورؤى تطلّ على قرية المكاسب , قرية الذل والهوان .
ماذا لو اغلقت الابواب بوجهه ؟ وعاد علماً مكسوراً , ومخذولاً .
لو حصل وذهب الى هناك ؟
قال في نفسه ومن يضمن قبولي بالعودة الى القطيع .
كاد قلبه يتفطّر , وينزف دماً .
كانت المدينة وطنه الثاني : وهي المرتجاة , والمرتقى , والفردوس قبل ان
ينكشف الغطاء , لافرق بين السراكيل , والشرطة .
كان في هذه الاثناء ينظر الى
المديرمن طرف خفي وهو يوقّع بعض الاوراق , ويستلم ما يخص امور الدائرة , ويصدّر بعض الاوامر والتوجيهات , وبين وقت وآخر يذهب اكثر فاكثر في حواره الباطني , ويريد ان يبدّد السأم , ويقضي على الوسواس الذي يجتاحه . وكذلك يحاول ان يوطّن
نفسه على هذا الوضع الشاذ , ولكي يعبر قناطر المحن دون التوقّف في الظروف التي يشوبها العذاب, وتطحنها المعاناة .
هو لا يريد ان ينتكس جوهريّاً مهما عاكسته الاقدار و عملت على تهشيمه,
وفي كلّ لحظة كان يحس انّه ذلك الرجل الحركي المشحون بالديناميكيّة الخارقة , والباعثة على التجاوز والاستشراف لتذليل ما هو عصي في الاشواط القدريّة . كان يستقريء , ويستعيد فصول حياته , وكيف يصمّم
للصعود الى الفردوس وهو في السفح من قرية المكاسب .
ظلّ يلاحق احلامه , وكوابيسه مندفعاً لمواصلة المسيرة : وباصرار حتى
يلامس باقدامه قاع الفردوس الذي كان بمثابت من الوهم الرومانسي .
انّه حقّق الوصول : ولكنّه دخل مثلّثاً شبيهاً بالمثلّث البرمودي , وليس الفردوسي . ومع هذا قرّر مع نفسه المواصلة لرفد الرحلة .
والّا فالتوقّف لا يحمل في رحمه سوى الموت المؤكّد .
بعد هذه المعاناة والمكابدة , والشعور بالتعب وتلك الهموم التي تسحق الانسان في شخص احمد . ومع انّ احمد هو الآن خارج القفص الحديدي
ولكنّه شعر وهو بين فكّي حوت ازرق . وتذكّر قول الضابط المحقّق
حين قال له ساطلق سراحك رحمة بالمسافرين على سفينتك وذلك لتحمهم
من الغرق في البحر الصاخب : وكوني لم احسن عمليّة الصيد , ولم اتقن
عمليّة اغراء , واستدراج السمك : ولكنّك ستبقى تحتي في المساحة التي
تتحرّك عليها , ولن تبتعد بجرمك عن ثقب اسود وانت تدور في فلك حرّيّتك كما تتصوّر في دنيا اوهامك.
حاول ان يزيح عن صدره الكابوس , ويلتفت الى المدير العام , ويقول
انا ذاهب سيادة المدير . وعلى الاثر نهض المدير العام ليودّع احمد
وقد سقطت من عينه دمعتان على احدى الاوراق فشوّهت الحروف التي
رسمها . ودّع المديراحمد وتصافحا . فانسحب والمدير يرسل نظراته خلفه
الى ان توارى , وغاب في ممرّات تلك الدائرة .
كان يسير كسفينة حطّمتها الامواج , والاعاصير.
الاقدام ترتفع وتهبط واحمد لا يدري الى اين يسير , ويذهب .
هل الذي حصل في اليقظة ام في الحلم؟ عثرت قدمه بقطعة حجارة
وعلى اثرها كاد يسقط ارضاً , فانتبه ثمّ عادالى حاله ليرى انّه اشتطّ
بعيداً عن هدفه المنشود ومن ثمّ عدّل مساره , وصار يراقب البوصلة
في محيط الحياة.
قال في نفسه كيف ساحافظ على الهرم الذي شيّدته: ثمّ قال ليكن ما يكون
على الاقل انّني اديت ما يترتّب عليّ . وقمت بالمهمّة بشرف , وبكامل الوعي , والادراك , والقناعة , ثمّ قال ما يسقط من السماء تتلقّاه الارض . لقد ازحت عن طريقي الاشواك , ثمّ همس في دخيلته : احمد كن عند مسؤوليّاتك كنخلة جنوبيّة تميل مع الريح قليلاً , ولكنّها لا تنكسر.
قد تحرق ريشة من قوادمك لاجل الاخر على سبيل التضحية .
وقد اخترت , ولا نكوص على عقبيك .
هذه بداية التجربة , واول الغيث في ميدان المنازلة , والصعقة القابيليّة
لتكن صبوراً والله معك مادامت قضيّتك لم تدخل في الاطار النرجسي,
وقد تمتد جذورك حيث تلتقي عروة بن الورد بسلوكه , وشعره , والدعوة
الى الطعام في الإناء الواحد . ومن ينظر لاحمد على هذه الحالة قد يظن انّه يهلوس لكثرة ازدحام الافكار , وانهمار تداعيات الصور غير المقصودة . انّها الانفعالات وردودها التي يصعب على المرء التخلّص منها
خاصة في مثل وضع احمد .
عاد الى البيت ظهراً فتلقّته هديّة بابتسامة عريضة وقالت بشّر.
قال خيراً ان شاء الله .
سحب سجارة , ووضعها بين شفتيه , وراح يحرّك عود الكبريت في المكان
المحدّد من جانب العلبة فاجّ العود وهويقرّبه من جانب السجارة . التهبت بضعة شعرات من شاربه , ولذعت النار شفتيه . استدرك وسحب العود
بعيداً , وراح ينفث الدخان . صار ينظر لتلك السحب التي يعجز حتى الرسّام البارع عن رسم مثل تلك الاشكاليّات التي تتغيّر بسرعة مدهشة وخارقة . كان يحس بمتعة متناهية . نطق من داخل صندوقه احمد
انت تعمل لحل مشاكل الناس ومشكلتك تعجز عن حلّها .
هكذا كان يخاطب نفسه بلغة الهمس . في الغد خرج احمد مبكّراًمع خيوط الصباح الاولى واندسّ بين تجمّعات العمّال من كل الاصناف في (المسطر)
الّا انّه لم يفز بفرصة عمل , تكرّر خروجه يوماً بعد يوم , وفي كلّ يوم يعود بخفّي حنين. سحب الخطوة تلوالخطوة ولا طحين سوى جعجعة الرحى.
يأس تماماً من الحصول على عمل في رحاب ذلك الفردوس الذي كان يحلم
بالوصول اليه.
فكّر ان يزور قرية المكاسب.
سرّ هديّة فيما ينوي القيام به .
انفجرت بااكية , وقالت كيف تزورها؟
انا اجهل مغزى زيارتك , وهل هي عبارة عن جس النبض.
انا من جهتي افضّل الموت على العودة .
وبهذه السرعة التي ترافقها الهزيمة .
تريد العودة كجيش مهزوم. سكت احمد , وغاص تحت السطح لما وراء النظر والتماس كونه يدرك عجزه عن المناقشة وقد اصابت هديّة
كبد الحقيقة. كان احمد في تلك اللحظة الحاسمة يرى نفسه في نفق مغلق .
فكّر في ان يشتغل بائع خضرة في سوق الخضار , وهو نفسه يعرف ليس له قدرة فتح محل خاص به, وفي الايام التي تلت ذهابه لىسوق الخضار.
رأى الباعة الذين ليس لهم (دكاكين) للبيع كيف يطاردون من قبل موظّفي
الدولة المناط بهم تطبيق القوانين.
كان البعض يطارد , وتصادر حاجياته من مواد , وادواة بيع كالميزان
وادواة الوزن لضبط الاشياء المراد بيعها . والآخر يقف عند حاجياته آمناً غير مبال بهؤلاء .
بحث احمد عن السر .
اخيراً عرف انّ الذين يبيعون على الارصفة , وفي طريق المتسوّقين
وهم لا يخشون احداً قد عبّدوا طريقهم , ومدّوا الجسور بين الرقيب , وبينهم . اعتبر احمد هذه العمليّة لا تخرج عن نطاق الارتشاء
من قبل البائع والرقيب الفاسد تحت مظلّة
الانفلات , وعدم الالتزام بالقانون .
ابى واستعفف , واخذته العزّة بالنفس, اذ كيف تتفق هذه الممارسات والعمل
على قيادة المجتمع ؟ والاخذ بيده , ووضعه في ظل العدل والمساواة
اذن لا يمكن ولا يليق بي وبامثالي ممارسة الارتشاء , وافساد النفوس ,
وتشجيع الإنحراف .
يأس احمد بالحصول على عمل يتناسب ووضعه كعنصر واعي .
كان هناك من يلاحقه اينما يذهب , ويعد انفاسه , ويتربّص به كظلّه
اينما حلّ او ارتحل .
صار وضعه يشكّل عقبة في تطوّر, وابداع عمله الحزبي.
وفي ظرف عسير يفتقر الحزب بالذات الى الكادر , وقد تعرّض الحزب
في تلك الفترة بالذات الى هجمات شرسة من قبل عدوّه التقليدي البوليس
المناط به ملاحقة المناضلين .
اقترح على احمد بعض الرفاق من قيادة الحزب مع اعطائه الخيار في ان ينظم للكادر المحترف في منظّمة الحزب.
وافق احمد بلا تردّد , وعلى وجه السرعة انتقل هو وعائلته الى سكن
جديد مع تغيّبه عن البيت في اغلب الايّام , وقد اقنع هديّة في هذا الموضوع.
كانت عمليّة التفرّغ فرصة العمر بالنسبة لاحمد .
فالخلاص من الالتزامات الاقتصاديّة وضعت الغريق على حافة الضفة
وانهت ازمته المستعصية .
كان الحزب يقوم بالتغطية لكلّ مستلزمات العيش بالنسبة لعائلة احمد .
انغمر في قراءآت مكثّفة , وصار يطوّر نفسه ذاتيّاً .
واضب على ارتشاف ينابيع الفكر الاشتراكي , ولم يترك فرصة من فراغه
الّا واستغلّها : امّا في المطالعة , او الكتابة .
كان يلاحق الافكار , مثل الفراشات حين تتنقّل
بين الازهار في الحقول الجميلة.
قراءآته المكثّفة , واستعداده النفسي , وميوله الجماليّة : حوّلته الى متذوّق للثمار الادبيّة في عوالم القصّة , والرواية , والشعر العربي , والاجنبي المترجم من جميع اللغات , وكذلك الموضوعات الاشتراكيّة حوّلته الى كاتب من الطراز الاوّل .
كان الحزب يتلمّس التطوّر, والقفزة النوعيّة التي شكّلت لاحمد , وجعلت منه كوكباً لامعاً يدور في فلك الفكر الثوري .
وقد اصبح بحق وحقيقة من مفاخر الحزب هذا الفلّاح المنحدر من الريف
المتخلّف كيف عمل ؟ وكيف يعمل على تبلور افكاره النيّرة ؟ وقد دفعت به من السفح الى قمّة الهرم .
كان الحزب ينتدبه الى الريف من مناطق الفرات الاوسط , وفي عمق مناطق الجنوب ليقوم بمهمّاته التثقيفيّة , والتنظيميّة . كان يسد الثغرات , ويملأ الفراغ بقدراته العالية .
الشهور تمر , والاحلام تتّسع , وتتشابك , والالوان تسكب على المساحة البيضاء لتحيلها الى لوحة نابضة بالوجود مأطّرة بالغصون الخضر النضرة
لذلك الافق الذي يحتلّه تصحّر البقاع المجدبة التي افترشت رؤى فلّاحي قرية المكاسب .
استقبل الحياة بروح التفاؤل العالية , والمجنّحة بقوادم العالم القادم , والطالع بالبشر , والفرح .
كان ينفر من الفلاسفة الذين يقضون سنوات عمرهم وهم يشيّدون اهراماتهم
على انقاض اهرامات العالم القديم من خلال تفسير اللوحة وهم ينغمرون, ويدورون في محور التفسير دون لجوئهم لتغير اللوحة , وطمر الاشياء القابلة للذبول تحت سقوط الغبار المتراكم لدفنها , ولدفنهم تحت
امواج المراوحة , والتخلّف .
فالمعركة تلتهب على كل الجبهات: بين الانسان والانسان , وبين الانسان
والطبيعة .
كان احمد يعبّر في كتاباته عن معاناة, ومكابدة المعدمين ,
وعن ظروفهم المعيشيّة القاسية , وكبتهم خلال هذا الواقع المر الذي يجتاح العالم .
روّض احمد قلمه على مضمار الصفحات . ظهر اوّل كاتب
عمل على بعث الزلزال , واستدراج العاصفة , واللعب مع الصاعقة .
دأب على زحزحة اهل الكهف في كهفهم المتخلّف عن التطوّر ,
وفي زمن يمتاز بارتفاع , وجنون القمع .
كانت السنوات تمر بالناس وهم يتعكّزون , ويشدون حجر المجاعة على البطون, ويرفعون الانسان الذي يطول لسانه على الصليب .
الكل ينهض من تحت حطام المدن الغائرة للاسفل ليمدوا
القناطر , والجسور , والعمل على حفر الانفاق من بين اقدام الجبال ,
والغوص في اعماق المحيطات , وحرث الارض , وتغير جوهر الثمار لاشاعة التنوّع . .في ظرف تنفض البشريّة الرماد عن جناحي العنقاء
رماد هيروشيما , ونجزاكي , وتوقد الشموع خشوعاً على ضحايا
المواقد الذرّيّة . لقد عاد الانسان كعودة تمّوز مع الربيع لغرس البذور, ولمواصلة المسيرة باصرار حتى يطأ باقدامه قاع الفردوس .
دخل مثلّثاً شبيهاً بالمثلّث البرمودي , وداس على بقايا الديناضورات في سقر الارض ليجعل بسمة الاطفال اكثر اشراقاً , ولتلقِ الامّهات حملهنّ الثقيل ,
وبعضاً من قيودهنّ: المرأة مازالت في الشوط تركض , وسيّدها
العبد لرغباته يضعها حجراً مهملاً على مربّع شطرنج لياليه البهيجة والحالكة بعد ان مُزّقت حدود , وانهارت اسوار , ومُسحت خرائط, وظهرت خرائط جديدة , واستبدلت نظماً بنظم اخرى . وظهرت معسكرات ,
واحلاف , وخرج العالم من هاوية الحرب الرهيبة والطاحنة الى واحات , وجزر للسلام .
ما ان تنفّس الانسان الهواء الخالي من رائحة البارود وانطفاء آخر جمرة للحرب العالميّة الثانية .
استبشرت شعوب الارض , وراحت لتغرس شتلة هنا وشتلة هناك وذلك لكي ترسّخ المفاهيم الجديدة بعيداً عن السنة اللهب , وامواج الدخان .
كلّ هذه الافكار كانت تدور في عالم احمد الواسع الرحيب : كانت مؤتمرات السلام تعقد في البلدان التي اصطلت بشواظ الحرب . ومن بينها المانيا التي انقسمت الى شرقيّة وغربيّة .
في ذلك المخاض الهائل , والعمل الدائب على تركيز مفاهيم السلام.
اعقبتها الحرب الباردة لتذر قرنيها هنا وهناك .
انتدب الحزب احمد وكلّفه الذهاب على رأس وفد لحضور مؤتمر السلام
الذي سيعقد في المانيا الشرقيّية
وذلك لرفع راية العراق عالياً , وجعل صوته مدوّياً في قاعة من قاعات الامميّة لدفع شبح الحرب عن العالم ,
وقطع الطريق امام المتاجرين بدماء الشعوب المقهورة .
كان احمد على رأس الوفد . غادر الارض العراقيّة بجواز سفر مزوّر.
كان ينظر الى البادية القاحلة , وليس امامه سوى الافق وهو يتحسّر , ويقول في حواره الصامت مع النفس.
هذه الارض المترامية الاطراف , وعلى امتداد النظر ,
لو استصلحت واستغلّت , لتحوّلت الى كنوز لاتنضب , ولكانت معادلاً
في ميزاننا الاقتصادي لكثير من الكنوز التي تحبل بها الارض . الزراعة
هي التي تمثّل مستقبل العالم الذي يفتقر الى الغذاء: الى جانب وجود التكنلوجيا في عالم التصنيع . ومع تدفّق , وانسياب الانهار , والروافد
في ارضنا الطيّبة والتي اهملت مثلما اهمل الانسان في ارض السواد .
كان الطريق متعباً وقد تحوّلت الشمس لتفسح المجال لسدرت الليل بنجومها المشرقة تحت قبّة السماء.
غفا احمد على مقعده , دخل بانوراما العالم الثاني .
نشطت الاحلام .
رأى رجلاً بملابس عسكريّة يقترب منه .
يطالبه بجواز السفر.
بعد التدقيق .
نظرالرجل لاحمد نظرة مريبة .
قال لاحمد تفضّل معي الى الدائرة .
ماذا تريد منّي .؟
اشك بصحّة صدورجوازك , ومدّ الرجل يده ليمسك بتلابيبه .
استيقظ وسط ضجيج , وهتافات الباعة قرب نافذة السيّارة
وهم يعرضون على المسافرين الطعام
حمد الله كونه في حلم وليس في يقظة
دخل الاراضي السوريّة بعد منتصف الليل . هبط من السيّارة .
راح يبحث عن فندق .
نام تلك الليلة قرير العين غارقاً في بحيرة السعادة .
في منتصف النهار خرج. من الفندق .
راح يتسكّع في المدينة .
عرّج لزيارة مقام السيّدة زينب ع ومن ثمّ قادته قدماه الى سوق الحميديّة ,
انسرح به لقتل الوقت , وللاطّلاع على ريف دمشق .
قال في نفسه اذا كان ريف دمشق يحتضنه هذا الجمال فكيف بالاميرة دمشق . عاد الى الفندق يجول باخيلته معالم سوق الحميديّة والشوارع , والساحات
. وفي اليوم الثاني خرج الى منطقة الزبداني وفي الطريق رأى الكثير من باعة العسل الخالص فاشترى منه , ومن ثمّ اقترب من محيط البحيرة .
كان المكان شديد البرودة في منتصف شهر تمّوز وقد نزل الى المنخفض . قبل الغروب وقد تمتّع بجمال وجلال البحيرة , ومن ثمّ ذهب في اليوم الآخر الى جبل قاسيون .
كان الكثير من المصطافين يتفسّحون افراداً , وجماعات وهم يطلّون على مجرّة من المصابيح المتألّقة مع هبوب نسيم دمشق . كان في نيّة احمد ان يلتقط كلّ شيء ليخزنه في الذاكرة , وذلك لكي يكتب عن تلك المعالم وما سيراه من مدن المانيا الشرقيّة .
وعلى العموم سيكتب كلّ ما يراه في البحر اوالبر .
في اليوم الثالث : خرج قاصداً الجامع الكبير الذي سمّي بالجامع الاموي .
كان احمد قد ادهشه ذلك البناء الشامخ , والمنتسب للدولة الامويّة .
زار مقام النبي يحى ع .
ثمّ عثر على مربّع في جدار المسجد: وقد اشير اليه بانّه المكان ا لذي وضع فيه رأس الحسين ع بعد مقتله في فاجعة كربلاء وحملهم الرأس
على الرمح الى دمشق .
كلّ ذلك كان قد سبق موعد اللقاء مع رفاقه من اعضاء الوفد العراقي
كان يدقّق بكثرة الاعمدة الاسطوانيّة وجماليّتها .
وهو يوغل في التاريخ , ويستحضر تلك الصور التي تدل على وحشيّة , وبربريّة ذلك النظام الدموي والفاسد في تلك الفترة التي خرج فيها الانسان عن طوره الانساني , وكيف انّ هذا الثائرالعظيم كان وما يزال يرفد نهر الثورة بالعزيمة وفيض الايمان , والاخلاص لقضيّة الاسلام , ولرفع راية القرآن , ولردع الطغاة وسحبهم الى وحل جرائمهم التي سيبقى التاريخ شاهداً عليها , ويحدّث بها ما بقي الانسان على الارض .
تمّ اللقاء مع اعضاء الوفد حسب تعليمات وتوصيات الحزب في المكان والزمان . وبعدها كان احمد مزوّداً بكلمة التعارف بشكل دقيق, وغاية في السرّيّة ومن ثمّ كانت خطة السفر هي ان يسافر كل واحد منهم على انفراد
وفي ايّام متفاوة ومن ثمّ يتم اللقاء في الجامع الاموي في الزمان والمكان المحدّد . وكذلك المنام في اماكن متفرّقة . ومن ثمّ يتم اللقاء في الجامع الاموي , وذلك لكي يكونون بعيدين عن انظار قوى الامن السوري
تحسّباً لضربات القدر . راح كلّ واحد يطوف في ارجاء ذلك البناء الفسيح والشامخ وهو يقف على سيقانه الاسطوانيّة العظيمة
بعد مرور نصف ساعة على لقائهم
بين البهجة والقلق العاصف .
ظهر الرفيق اسعد وهو ينظر لاحمد في الساعة والدقيقة المحدّدة بعد الظهر من يوم الجمعة .
كان احمد يحمل بيده وردة حمراء .
اقترب الرفيق اسعد سوري الجنسيّة ونطق بكلمة السر , وبصوت خافت
_ يا عراق الورد الاحمر ردّ احمد منذ متى تتعشّق الورد الاحمر
اسعد منذ ولادتي الثانية _ خطا احمد واحتضن اسعد , وعانقه عناقاً حارّاً
وقدّم له رفاق السفراعضاء الوفد العراقي , بقي احمد ورفاقه ليلة اخرى
في سوريا ومن ثمّ الذهاب الى لبنان ومن هناك رافقهم اسعد وقال
توجد سفينة على وشك الاقلاع الى وطن الرفيق الخالد جورجي ديمتروف ومن هناك تم نقلهم بالطائرة الى المانيا الشرقيّة .
هبط احمد مع اعضاء الوفد المرافق له
من سلم الطائرة , كان الممثّلون من منظّمةالسلام والشبيبة الديمقراطيّة
الالمانيّة يقفون وهم يحيّون الوفود من شعوب الارض .
بعد ان دخلوا صالة المطار رشقهم فتيان وفنيات الشبيبة الالمانيّة بالزهور , والورود الملوّنة والباعثة بالعطورالعبقة وهم يقرؤون نشيد الاممّية .
كان اسعد قد بذل جهوداً عظيمة حيث كلّف لكي يتلافى تأشيرة الدخول
الى الدول الاشتراكيّة , والخروج منها وذلك خاص بشعوب البلدان التي تقف موقف المعاداة من النظم الاشتراكية والتي تدور بالفلك الرأسمالي ,
وتنبح بصوت اقوى من نباح الدول الرأسماليّة .
ما ان وطأت قدما احمد تلك التربة الاوربّية التي تبعث النكهة الاشتراكيّة حيث تنفّس , واستنشق نسيم الحرّيّة .
كاد يطير من الفرح .
اخيراً انتقلوا بهم الى دار الضيافة التي تحيطها النباتات الخضراء , والاشجار المعمّرة , والورود الزاهية بالوانها .
كان سرير احمد قريباً من النافذة المطلّة على انواع من النباتات المتسلّقة ,
وعلى اجمل شارع من شوارع وطن الحرّية والديمقراطيّة .
احمد غير مصدّق بانّه وصل تلك البقعة التي اقتطعت من الجنّة الارضيّة
التي كانت ضرباً من ضربات الحظ , واحلام اليقظة .
اجفانه لا تنطبق , وهو لا يرغب بالنوم وقد قاوم النعاس بقوّة , ولكي
يضاعف المتعة , والتذوّق للجمال الاوربي , والاحاطة والمقارنة بين قرية المكاسب وفقرها , وبين البلدالمغرق بالشفّافيّة والنعيم ,
والصفات النادرة للناس هناك , ونبل التعامل مع الضيوف , وكرم الخلق في التعامل الانساني . كان احمد قريناً للغربة في وطنه وها هو يحس بين اهله واحبابه .
اجل هكذا كان احساسه بين من تجمعهم وحدة الهدف والمصير الواحد .
طاف على اجنحة ذكرياته موغلاً في القدم حيث تفتّحت عيناه على
تراب تلك القرية البائسة, وكيف كان وما يزال الفلّاحون يعيشون عيشة الدواب .
احمد يحمل بين جناحيه آمالاً كبيرة , وامنيات عظيمة في ان يساهم ببناء
الفردوس الموعود للشعب المظلوم , وليحرث الارض الجدباء , وينثر البذور, ليستنبت
حدائق باهرة , ومزارع كبيرة . تارة يفكّر بكلّ الشعب وطوراً يفكّر بفلّاحي قرية المكاسب التي تحوّلت الى جحيم يفصل الاسياد والاذناب من السراكيل عن الاموات الاحياء من الفلّاحين الفقراء ,
كان قد زار الاماكن التي دُمّرت اثناء الحرب العالميّة الثانية . وذلك يعود للتحرّك النازي والسياسة, الخرقاء, واندفاعات زعيمه المجذوب والاهوج صاحب البحث عن المجال الحيوي في طيّات خرائط العالم .
زار احمد بعض مراكز الاعلام .
شاهد صوراً مروّعة لحجم الدمار الذي دفع ثمن عصفه الشعب الالماني
جرّاء نزق هتلر , وزمرته التي قادت الشعب الالماني الى الهاوية , والرجوع بالمانيا الى الصفر , وسحبها الى الخلف , وتعطيل وتيرتها
التصاعديّة في مضمار الصناعة السلميّة , والهبوط الى وحل الخراب , والدمار الشامل الذي لحق بالشعب الالماني المسكين ومازال البعض يحاول
ان يولع عود الثقاب من جديد فوق اكداس من البارود بعد ان حصل على موقع قيادي وهاؤلاء الاوباش لا يرون المجد الّا بدفع الآخرين لاتون الموت خلال تبريرات سخيفة تمجّد القوّة وتعتبر السلام
بطاقة يتوسّل بها الجبناء.
استسلم احمد لسسلطان النوم وساح على شاطئ الاماني , ورأى نفسه يركض وراء حوريّات البحر , وفراشات الجنّة .
تذوّق العسل , واللبن , والخمرة التي لا تسكر.
كانت تلك الليلة خارج سقف عمليّتي الضغط والجذب الاجتماعي .
هو الآن بلا قيود حرّاً طليقاً يدور كما يشاء ولا معوّق لارادته الرائدة في ان يجول كما يحب في ان يجول في حقول الله التي ليس لها ما يشبهها الّا لمن ينعم عليهم فَيهب ما يشاء وهو المنعم بلا حدود . الفراشات
تتجول وتتذوّق الرحيق من كلّ زهرة من حدائق المانيا الدولة منحها الله طبيعة عظيمة تأخذ بمجامع القلوب حيث جعلت احمد يحلّق
بافكار واساطيرلما وراء تخوم الخيال في عوالم ترفع صخور الكوابيس عن صدره . لقد تحمّل الكثير من كبت , وحرمان في القرية التي احترقت فيها شموع سنوات عمره .
على سرير نومه كانت تتناوبه غفوة بعد غفوة واخيراً دخل باب النوم فتداولته الاحلام مثل قارب تتحكّم به الامواج بين دهاليز الكوابيس, وجزر تنام بين ذراعي الماء والافق المحتوي على الجمال والشفّافيّة . صار احمد
عرضة لهذه وتلك . بين ان تختطفه العفاريت او حوريّات البحر الى جزرالسعادة القصيّة.
كانت الاحلام لا تفارقه . تارة تقوده الى طريق مفروشة بالشوك السام
وطوراً تقوده الى طريق مفروشة بالوان الازهار . هو في الحالتين
يرتفع عن ارض الواقع المحسوس
ويتصوّر نفسه قد انتزع من ارضه دون ان يكون له الخيار حيث تقوده احلامه وينساب في زمان ومكان
غير مألوف قياساً بقرية المكاسب التي نغّصت حياته, او الفردوس الذي الذي انجذب اليه بكلّ ما تخزن روحه من اشراقات . استيقظ احمد فتناول فطور الصباح وخرج لتقوده قدماه لىساحات , وشوارع فسيحة تظلّلها الاشجار الداكنة الخضرة . توقّف فوق الجسر, وراح يرسل نظراته مع جريان الانهار مثل شاعر يتأمّل وهو في خضمّ
تجلّياته ساعة التدفق والفيض الالهامي مع تصاعد موسيقى الروح لتنبجس تلك الشرارات ساعة مخاض ولادة قصيدة شعر تفيض بالجمال ,
جمال المانيا الشرقيّة .
كان كنورس يحلّق فوق الماء. تذكّر الفرق بين الدانوب ونهر دجلة يوم استبيحت بغداد تحت سنابك , وصهيل الخيول التتريّة وكيف كان النهر يجري بالحبر والدماء. من خلال ذلك الجريان الحزين وتلك النكبات في الوطن المذبوح .
كانت الكوابيس لا تغادر احمد وهو في وطن الديمقراطيّة والاشتراكيّة . ظلّ يستعرض تلك الحقب السود والتي صودرت فيها الهويّة العربيّة وكيف هدمت الدور , واحرقت المزارع والبساتين , وصودر كلّ شيء وارتدت السواد مدن ارض السواد , وتحوّل كل شيء الى اكداس من الحطام والرماد .
كان الاعصار المغولي التتري يجتاح المدن والقرى والقصبات حيث اقتطف الارواح مثلما تقتطف الازهار من حدائق في ربيع الوطن .
في تلك الفترة العصيبة من محنة الامّة : كمّمت الافواه , وقصّت الاجنحة ,
وزجّت الزواجل في الاقفاص , ومنعت الاصوات ان تخرج من الحناجر في المحافل , وفي ذرى المنائر , وغاصت النواقيس في بئر السكون . ونست الاجراس رنينها , واستبيح العرض.... ولحق السيف كلّ من نبت له شعر فوق شفته العليا .
خيّم الظلام لقرون وقرون تحت سرادق الرعب , وامتدّت ازمنة الخوف يظلّلها الظلام الى حقب وحقب
كهلال اعتقله محاق لقرون وقرون .
كل شيء في الافق يأكد التطبيع على لوح التاريخ , وبانوراما ارض السواد . احمد يطيل النظر الى ذلك النهر الدانوبي , والى الجدار الرهيب الفاصل بين وطني المانيا فيرثي لذلك الواقع المصطنع والواقي من الشر الغربي .
الايّام تمر بصخب الالحان , وانسياب الموسيقى التي تنشدّ اليها القلوب , والمشاعر .
عيون احمد تتحرّك مثل عدسة الكاميرا الفوتغرافيّة . تلتقط الصور الجميلة والحزينة عبر تاريخ المانيا النازيّة ايّام الطغيان والظلام , وصباح الاشتراكيّة المشرق الجميل لتخزنها في ارشيف الذاكرة
ما دامت تعينه على لترسم خرائط , ولوحات لا تتجزّأ عن وحدة شعوب الارض , ووحدة الوجود بين شاطيء التألّق والافول , حقّاً انّها
لايّام فريدة تستعير الوانها من قوس السماء الملوّن ومن اجنحة طيور الحب , وخضرة اوراق الاشجار في موسم الربيع .
الايّام تمضي كانسياب الماء من القمم الى السفوح . احمد يودّ من صميم القلب لو يستطيع ايقاف عقارب الساعة وشل خطى الايّام التي تركض متسارعة دون الالتفات الى الوراء , او المراوحة .
حضر احمد قاعة المؤتمر مع اعضاء الوفد العراقي الى جانب الوفود التي حضرت من جميع ارجاء الارض . كانت الجموع تزوّد باجهزة انصات: الكل يستقبل كلمات الخطيب بلغته .
بعد وقت قليل باشر المشرفون على تهيئت الوضع وبدأ عريف الحفل
يقدّم الخطباء فقدّم ممثّل حركة السلم من الشبيبة الالمانيّة
وقد استعرض ذلك الشاب دور الشعب الالماني في قطع الطريق على بقايا القطعان النازيّة الهائمة في براري الجنون والتي عملت على تمزيق العالم , وحرقه , واحالته الى بقايا من الركام تحت سورة وجنون الخطاب النازي المسعور , ومفردات القوّة , والعمل على ترميم هيكل النازيّة , وصعود مدن الظل المقبورة والتي ما ارتقت ولن ترتقي لتكتسب شرعيّة صفة الدم الازرق . وكم عملت تلك القيادات المحمومة على الاطاحة بالحضارة , والقضاء على منجزاتها . كانت الكلمات موجّهة لتلك الجماعات المتطرّفة التي تستخف .. وتحتقر الاعراق , والقوميّات الاخرى .
بعد ان افاض الخطيب بالهجوم على البقايا من شراذم النازيّة المتطرّفة .
التي دمّرت , وقوّضت مقوّمات الشعوب, وحوّلت المدن المنكوبة الى فعل ماضي . وسَبَت نسوتها , وحَرَمت اطفالها من حنان اسرهم . كان على رأس ذلك الدمار العريف العسكري الفاشل والموّله بجنون العظمة الفارغة من الجوهر الانساني, وعصابته من اقطاب الكبوش النازيّة. كذلك قدّم الخطيب اعتذاراً الى الوفود التي تمّ اجتياح اوطانها , وتدمير شعوبها ,
من قبل البربريّة الهتلريّة التي مارست القمع , والابادة الجماعيّة, واستخفّت بمقدّرات ومنجزات الشعوب واطفأت قناديل الحضارة, ووجّهت الاهانات من خلال تنظيرها للاعراق والقوميّات.
بعد ان انهى الخطيب كلمته اخذت الوفود دورها .
ثمّ جاء دورالوفد العراقي
تقدّم احمد واشاد بحضور المؤتمرين وراح يتحدّث عن ظروف الحرب الباردة , والدور الامبريالي القبيح : والذي ترفع لواءه الولايات المتّحدة,
وكيف انّها غيّرت المساحيق , ولبست قفّازاً حريريّاً تضيق به ملايين الدولارات تحت عناوين مختلفة منها المساعدات السخيّة للشعوب الضعيفة ,
وفتح ابواب الترغيب للانظمام الى الحلف الاطلسي , وحلف الناتو, ومحطّات واسعة , تعرض صفة الصداقة كالنقطتة الرابعة , والحلف التركي الباكستاني , ومن ثمّ حلف بغداد , وقد دخلت في منافسات قويّة على المحك مع الامبراطوريّة العجوز حيث بدأت تأكل من جرفها, وتسرق مدّخرات صاحبتها عبر السنن البدائيّة وقوانين الغاب قبل الدخول في الشتاء النووي .
ثمّ استعرض وضع العراق البائس ما عانى ويعاني بمدنه , واريافه , بجنوبه , وشماله وكيفيّة ارتباط النظام الملكي شبه الاقطاعي المتخلّف , والمرتبط بعربة الامبراطوريّة العجوز , وكيف ان النظام يتطيّر من الاشتراكيّة وهو يخوض حرباً ضروساً مع الطلائع والشعب الذي يرفض
الدخول في الاحلاف العسكريّة , والارتباطات المريبة التي سبّبت , وتسبّب نهب خيراته , وتكبيل حرّيّاته .
ثمّ دعا المؤتمرين الى تمتين اواصر الصداقة , وتنسيق الاهداف , وتقريب وجهات النظر لكلٍّ حسب ظروف بلاده , ووضعها في الاطار الاممي, والعوم في تيّار المحيط الاشتراكي والتفاعل اكثر فاكثر مع دول العالم الثالث وشعوبها المقهورة , والعمل على الحد من تصنيع اسلحة الدمار .
وما ان انتهى احمد من خطابه حتى دوّت القاعة بالتصفيق .
استمر المؤتمر لمدة ثلاثة ايّام وبعدها اخذت الوفود تنسحب لتعود الى اوطانها . وفيما يخص الوفد العراقي فقد كانوا يتصرّفون كافراد كلّ واحد منهم على هواه , امّا فيما يخص احمد فقد انغمر في زيارات المعاهد والجامعات , وكذلك المصانع والمزارع , واماكن الاستجمام والشوارع والجسورالمعلّقة والواحات . احمد لا يكل ولا يشبع من التحرّك وهو يدوّن ما يرى بشكل مختصر وبتركيز بالغ , وقد يخزن كلّ ما يراه في دفتر الذاكرة , وكتاب الغيب . هو يحس بمتعة لا تضاهيها متعة على امتداد العمر الذي احترقت اوراقه مثل مزرعة احرق الملح نباتها . كلّ شيء جميل في البلد المضيّف باستثناء آثار الدمار
لبعض الاماكن وقد تركت لحالها لتكون معلماً من معالم الابادة والدمار , والقسوة التي تعود بك الى عصورما قبل التاريخ ايّام كان الانسان ينحت ابجديّة الغاب على لحاء الاشجار , وجدران الكهوف الموحشة .
في دمشق كان الوفد العراقي يتسلل واحداً بعد الآخر ولم يبق الّا احمد . قبل يرحل اعرب عن رغبته لزيارة الجامع الاموي مرّة اخرى .
كان اسعدخلفه وهو. يطوف في ارجاء الجامع ويطيل النظر الى الاعمدة الاسطوانيّة كصفوف من النخيل وهو ينشد لذلك الجو الساحر.
اسعد يراقب احمد وهو يبتسم لانشداده المذهل وعيناه تتحرّك مثل عدسة
تصوير لتلتقط كلّ شيء في المسجد .
اخيراً توقّف احمد قبالة المكان الذي وضع فيه رأس الحيين وهو
يطيل التأمّل مثل عابد استغرق في صلاته
وجفونه ابتلّت , وفاضت الدموع . طافت به رؤى ذلك اليوم عند اصطدام قوى الظلام , وطلائع النور . همس بشكل خافت لا يوم كيومك يا حسين .
كانت العلامة الدالة والحاسمة على انفصام الانسان , وخروجه عن شريعة العدل , وغرس بذور الشر في مزرعة الظلام . الاغراء , السحر المركّب لاختطاف عرش ملكي يوضع فوقه التاج والصولجان . النفوذ والجاه يقذفان
بالانسان الاحمق البليد ويطبعانه بطابع الحيوان الاعجم يوم تدفعه غرائزه على الايغال في االجريمة لكي يمضي لما يريد عابثاً , وظالماً , وقاتلاً . ان المسيرة لم تنجز بشروطها ومستلزماتها
الّا في يومك بين حواريّ الثورة , والرعاع الذين هم سقط الطريق من ابناء الامّهات..؟ حصلت المنازلة بين رجال الايمان , وبين ومن ابقوا عن الاسلام ورضعوا النفاق . كلّما حرث القلم على المساحة البيضاء , فاض عطراً من نزف الجرح يصوغ ابجديّة الثورة التي لا يخمد اوارها ما بقي الانسان على الارض .
مدّ اسعد يده ليجذب احمد بعيداً عن المكان . كانت الجمرة تتقد في وجدان احمد دون ان يكون لها انطفاء .
اخيراً خرج احمد من غيبوبته متّجهاً الى سيّارات السفر الى بغداد .
قال اسعد لاحمد عنواني في روزنامتك لحظة تصل بغداد الحبيبة ارسل
رسالة لاطمئن لوصولك سالماً ثمّ احتضنه , وقبّله وذهب واحمد يرسل نظراته الى ان ضاع في الزحام .
000




كان جمال يدور وهو في دوّامة الطواف على محيط الماضي .
صورة الهرب تلح وتضغط على شريط حياته , وترسم في مساحة الفرغ
لوحة مثل لوحة رسّام متجانس مع احاسيسه بالاغتراب عن تلك الرؤى
العاصفة, والتي تغتال الصفاء والشفّافيّة على ارض محكومة بالاهتزاز الزلزالي . هو يستحضر الماضي .
صوت القطار يقتحم سكونه , ويخلط الالوان , ويخترق لهاث الايّام , وحمحمة الشهور .
فالمقبرة هي هي لم تتغيّر, وشبح القطار كان يتمتاثل امامه
لحظة الهرب الحاسمة .
لعلعة الرصاص .
تلك الدراما تصلح لأن تكون فلماً من الافلام الوثائقيّة في منتصف القرن
العشرين .
قال في حواره الداخلي .
القيت بنفسي لمصافحة الموت لكي احقّق الهرب وذلك للخلاص من تبعات , واعباء العام , عام المراقبة وذلك لكي امنع العدومن مصادرة حرّيّتي ,
ومنعي من الحركة المثمرة لصالح الشعب . الآن اعوم في بحيرة قريبة من
منطلقات القرش القاتل , والحوت الازرق .
كيف احمي نفسي من فوهة المرمى ؟
اتحرّك وانا بين السقوط والنهوض , تارة تتغمّدني الهواجس , وطوراً احلّق
في فضاء التفاؤل .
اكاد احسد الطيور الطليقة وهي تنتقل من مكان لآخر دون ان توضع امامها الحواجز.
في تلك الفترة من فترات حياته حصلت له مشاكل جعلته في وضع لا يسمح له ان يستمر في وضعه التنظيمي .
اضحى مثل حلقة انفصلت عن السلسلة مع انّه بقي قلباً وقالباً في صميم الافكار الاشتراكيّة ومع كونه جرماً دار ويدورحول المجرّة , كالفنار الذي اكتسب وهجه من جوهر المجرّة وشواظها الخالي من الدخان , والشوائب
التي تساعد على الانطفاء , ومحق التألّق,
ولكي لا تكون الاشياء في الحيّز العشوايء.
كان على جمال ان يعمل وذلك لكي يكسب قوته اليومي ليعيل نفسه
ويرفدعائلة شقيقه قدر المستطاع , ولتحقيق ما امكن تحقيقه , وللتخفيف من حمل اخيه الثقيل رغم تقلّب الزمن , وجريان السفن بما لا تشتهي .
التقى جمال باحد الاصدقاء ممن يتعاطفون مع القضيّة ومناهلها الفكريّة .
بعد الجلوس . كان الصديق يسأل جمال عن ظروفه بالحاح .وخلال
الخوض في شتّى الاحاديث شرح جمال لصديقه الظروف الصعبة التي تحيط به , ومع الملاحقات قال احاول البحث عن عمل يقيني غائلةالعوز .قال ذلك الصديق لو كنت ترغب ثمّ سكت
. ردّجمال وعن ماذا ارغب . قال الصديق وهو مرتبك .
ثمّ عقّب في الخياطة معي .
قكّر جمال وهو مثل ظاميء اقترب من الينبوع وهو يكاد يموت عطشاً
ولا يستطيع الوصول اليه خوفاً من رمية قنّاص يتحيّن الفرص قرب الينبوع في الظلام . وافق جمال على العمل معه .
كانت الايّام والشهور تركض في الماراثون المعتم , ولا نجمة تشع تحت الخيمة , وشمس ايّامه خريفيّة ,وباهتة .
الليل يقضم نصف كعكة العمر , ويستنزف النهارات الضائعة , ويجعل من من كلّ جمعة كبيسة عمل لايام بدل ان يرتاح فيها .
وبعد كلّ محاق تكلّ , وتعيا فيها عيون الذئاب .
وفي احد الايّام كان جمال ماراً في سيّارة اجرة من منطقة الاعظميّة .
لمح منير في الشارع الذي يرتبط بالجسرالي يربط بين الكاظميّة والاعظميّة. طلب جمال من سائق وهبط من السيّرة , ونادى منير منير.
التفت منير . عاد مسرعاً واحتظن جمال , وسالت الدموغ دموع الدهشة , والمفاجئة . فتح الكتاب غير المنظورة سطوره .
بعد ان التقى الجبل بالجبل , اخيراً انعطفا الى مقهى صغير واقع قرب المقبرة
المجاورة للنهر. صارا يرتشفان اقداح الشاي وهما لا يصدّقان ضربة القدر السعيد التي اتاحت لهما فرصة اللقاء , لقاء المصادفة التي هي خارج الحسابات اليوميّة وذلك لأنّ ظروف جمال لا تسمح بالتجوال
وحرصاً على سلامته , وسلامة الرفاق الّا انه الان ومع الحذر الشديد صار يستطيع التحرّك مع الحذرالشديد والآن هو في حلّ لخصوصيّته صار يردد ما يسقط من السماء تتلقّاه الارض . بعد ان طال جلوسهم قال جمال معلوماتك عن احمد .
منير لقد اختفى عنّا فترة طويلة ثمّ انتقل من داره دون سابق انذار الى دار نجهلها , وعائلته لا اعرف عنها شيئاً الّا انّ ناصرابن خالته بقي لنا معه علاقة, كلّما اسأله عن احمد يقول لي : امّا عائلته فنعم وانا على اتّصال دائم
بها . مرّة قلت لناصر في احدى زياراتي له هل من جديد؟
اجابني لا يعلم غيبته الّا علّام الغيوب .
ناصر يشك بانّ احمد قد اختطف وكان يأكد بشكل واضح على ذلك في الايّام التي تلت فترة اختفائه وهو يتّهم رجال الامن , ويسمّيهم بشياطين الانس وممن لهم قدم راسخ في الاجرام , ودراية في تغييب الناس .
سكت جمال ورانت عليه سحابة حزن مؤلم , وراح يبحث لجمع الخيوط
حول هذا القروي الفذ وعن غيابه بهذه الطريقة المباغتة لعائلته وللحزب,
ولنا نحن الاصدقاء.
في كل الاحوال ان غياب احمد سوف لن يشل الحركة , ولن يوقفها عن رفع وتيرة النضال من اجل تحرير الوطن من قيوده .
منير لا اصدّق انّه يملك حرّيّته الآن . جمال بل قل وقع في فخ الطاغوت.
منير نعم , وانا قبلك راودتني صور سوداء بخصوصه .
سقطت دمعة على وجنة جمال .
عاد ليتذكّرذلك الحوار الرباعي الرائع .
كانت الاهداب مثل شوك اصابه رذاذ غمامة عابرة .
راح يستعرض صورته خلال امواج الدخان المنطلق من فمه وهو يرسم صوراً في خريف يخلو من الباء الفرح , وقد كبر في عين جمال ذلك
الرفيق المنحدر من الريف.
كان موضع فخر كل الذين يحيطون به ممن نذروا انفسهم للشعب , ولطبقاته
المسحوقة وقد . غاص خلال فضاء مطلق ليخرج الى الوجود لوحة الحياة الحقيقيّة وهو يرمزالى الجانب المريء تأكيداً على وقوع الحدث الاكبر في نهاية الصفحة الاخيرة من كتاب العمر لاسدال الستارعلى الممر المائي
لفتحة القبر .
سكت ثمّ نطق بعد صمت طويل قائلاً لقد انطفأ كوكب شديد اللمعان في مجرّتنا السائرة الى الانطفاء .
منير بحكم علاقتنا الاسريّة علمت مأخّراً انّ احمد كان يتغيّب عن بيته ولا يزوره
الّا قليلاً . واخيراً اختير على رأس وفد للذهاب الى المانيا الشرقيّة لحضور مؤتمر السلام للمشاركة فيه باسم العراق .
وبعد الانتهاء من اعمال المؤتمر عاد جميع الرفاق الّا احمد .
جمال لا احد يعرف اين هو الآن ؟ منير اجل لا احد يعرف وانت تعلم انّ الطريق غرس بالاشواك السامة, وليس بالورود , والازهار وقد نذر احمد نفسه للناس, وهذا قدر من ينذر نفسه الى الناس, ومادمت تتحرّك فانت معرّض للصدمات, ونقمة الاسياد الذين يصطادون الاسماك في البحيرة المغلقة , وفي الصحراء المغروسة بالعيون .
هذه هي المأساة . هناك الكثير ممن يجلسون على التل مثل روّاد السنما يرون ويسمعون وهم خارج الحدث , وعند الانتصار على الظالمين لهم
ما للمضحّين من ثمار التغيّير. ولكن عند حصول الهزيمة , او غرق السفينة.. لا سمح الله تراهم ممن يتفرّجون على المشهد .
جمال في خضم الحياة , واضطرابها القوي : يكونون هم الناجون في نهاية الطريق,
ثمّ عقّب كان احمد يغور بجذوره في تربة الاحداث مثل شجرة
لا تخضدها الرياح , ولا تستسلم لعزيف الخريف متشبّثة لما تمتلك من حقوق في النمو والعطاء.
وفي حدود عصرنا الراهن اصبح الناس يعون كلّ شيء ولكن عشب حبّ الذات ينمو على شغاف القلوب , ويصبغ النفس بلون خارج الوان الطيف الشمسي . اما الذين يلقون بانفسهم في البحيرة: هم من مختلف الفصائل
وقد ينتهون قي اغلب الاحيان الى الاصطفاف خلف (شبث بن ربعي.)
ما دامت خشبة المسرح عامرة : فالممثّلون جاهزون وهم يتقافزون مثل الضفادع من مستنقع الى مستنقع . ولكي يدور الطاحون . ولكن لا شيء سوى الجعجعة . منيريطرح بعض المملامح عن سيرة احمد ويخاطب جمال هل دار بخلدك انّ احمد قد اّلف كتاباً قبل سفره واوصى بنشره دون طلب رسمي لنشره .
جمال ما اسم الكتاب . منيراسمه (الاجراس تقرع للسلام ) جمال هل وصل ليد القرّاء . منير القليل الاقل حيث وزّع بالسر وقد احدث ضجّة بين القرّاء . واخيراً تسرّبت معلومات
عن كتاب احمد فتهستر رجال النظام , وازلامه للخبر الصاعق والمباغت.
جنّ جنونهم فنظّموا الحملات الواحدة تلو الاخرى على عائلة احمد وهم يطالبونهم دون ان تعرف العائلة ماحلّ باحمد .
كان هؤلاء يبحثون عن بصيص امل , وجميع شباكهم كانت تخرج فارغة
ثمّ صاروا يجرّبون العابهم الناريّة وهم يلقونها على المقرّبين لاحمد . وقد سخّروا كلابهم البوليسيّة على من كانوا يعملون مع احمد . قذفوا بقرعتهم
فسقطت على السائق اكرم عبد الكريم , وظنّوا ان جعبة اكرم ستلبّي
طلباتهم . وظنّوا ان اكرم بمثابت الخارطة للطريق التي يختفي خلفها احمد.
كان اكرم السائق في بعض الاحيان يعمل مع احمد , وفي بعض يتفسّح مع
احمد خارج عمله , وقد يكون لاكرم اكثر من خيط يربطه باحمد من بعيد , او قريب , وربّما يعرف عنه ادق المعلومات .
المحقّق يقطع شوطاً مع اكرم
ويأمل ان يعرف اين توارى احمدعن الانظار . هو في سباق مع الزمن , وذلك لكي يحقّف التجاوز
مثل جواد يركض , ويركض ليتميّز بطموحاته المبنيّة على الهدم والحرق , اوالمسح عن الخارطة . لقد تورّمت اوداجه وهو يعوم ليل نهار
ليتقدّم خطوة , ولكي يكسب بجدارته موقفاً حازماً يقرّبه من موقع
الحوت الازرق .
مارس مع اكرم اسلوب التحقيق المرن . ومن ثمّ مارس الاسلوب الخارج
عن شرعيّة القوانين والتي لم تدخل برج الحضارة لتكتسب الشرعيّة بعد.
كان المحقّق يقول لنفسه لا فرق لديّ في اختلاف الالوان , والطعم السليم او المسموم ما دام قد تجذّر عندي شعار الغاية تبرّرالوسيلة.
قضى الليالي الطويلة والساعات الثقيلة وهو يبحث عن اللؤلؤ في المحّار.

شعوب محمود علي
2/9/2014



#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (وحدك تليق بك الكلمات المذهّبة)
- (ذهب ولم يعد)
- (النبض وفعل الدورة)
- (النواقيس تقرع من جديد)
- (ايّها النجم المغترب)
- ذهب ولم يعد الجزء ما قبل الاخير
- يالمعان سيفك البتّار
- ذهب ولم يعد **
- (صفحة من كتاب الرمل)
- ذهب ولم يعد
- رؤيا مشوشة
- لسلام للسيّد العراق
- في غرفة مغلقة
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟الجزءالخامس 4
- بين الماضي والحاضر
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 3
- بأنتظار التحول
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 2
- رواية) ذهب ولم يعدإإ الجزء الخامس
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الرابع


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعد الجزء السادس