أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة غانم - القصةوالرواية : ايديولوجيا وجمالية















المزيد.....


القصةوالرواية : ايديولوجيا وجمالية


أسامة غانم
ناقد

(Osama Ghanim)


الحوار المتمدن-العدد: 4390 - 2014 / 3 / 11 - 18:27
المحور: الادب والفن
    


لماذا الروائي غائب طعمة فرمان (1927-1990) ...؟!
يقول غائب في مقدمة مجموعته (حصاد الرحى – 1954) : (هدفي ان انقل بعض صور مجتمعنا العراقي الممتلئ بالصور القاتمة بقدر ما هو مثقل بالتذمر الخلاق..) هذا الخطاب يبين مدى إيمان (غائب) بالإنسان الخالق لمستقبله ...
إيمانه بانبثاق لحظته المشرقة من بين اللحظات القاتمة فكان :(هنالك تحسس شامل بضرورات التجديد و الحداثة فكانت هناك بعض المحاولات الشخصية التي ترفد هذا التحول وتدعمه منها محاولات ...غائب طعمة فرمان)(1). وبأن بذرة التغيير موجودة وسط الانحطاط والعجز والخنوع والقمع . ولأن الرواية هي (بحث عن قيم أصيلة في عالم متدهور)(2)، فالروائي في المجتمع يكون بالدرجة الأولى إنساناً محتجاً على القيم اللاأصيلة التي تسود مجتمعه ويكون شخصاً إشكالياً أي ناقداً ومعارضاً للقيم التي كونت هذا الوعي البرجوازي وممزقاً له، الذي يعتبر الأدب شكلاً من أشكاله ، لذا فإن الرواية في بنيتها رواية انتقادية – واقعية وعليه – أي الروائي – أن يلتزم بمفهوم عام ورؤية خاصة للعالم وللناس وإنشاء تفاهم متبادل بين الإنسان والعالم مع أيديولوجية تعري الواقع من الميتافيزيقيا والأوهام لبناء عالم برؤية جديدة ، الرواية ليست - كما يقول فيلدنك – ملحمة كوميدية في نثر ، لأن النظم الرواية المجردة تترك رؤية مشوهة للحقيقة ، وتعطي شعوراً مخادعاً للوجود بل تمثل إدانة للواقع للوصول إلى الحقيقة والعمل للقضاء على هذا الواقع وليس لتكريسه وتمجيد النزعة الفردية المطلقة كما فعل ديفو في (روبنسون كروز) وليست قطيعة مع المجتمع وإلا سقطت في العدمية وفي متاهات الذات كإحسان عبد القدوس ، ولا في اللاجدوى كما عند كامو في (سيزيف) ، ويرتكز أدب (غائب) على نقاط وأسس فنية – أيديولوجية .. كما هو موضح في الشكل التالي :

الفرد التاريخ


الثورة الشعب
أو على الشكل الآتي :
التاريخ الإيديولوجية النص
الشعب الثروة الفرد

وهذا المخطط يعطينا عمق الإمكانية الفنية لدى (غائب) وتمسكه بالإنسان والعالم وثقته بهما وللشروع في دخول حياة جديدة ، وخلق إتحاد فني جمالي يجعلنا قادرين على إكتشاف المضامين التعبيرية والرمزية في رسم شخصياته وأحداث رواياته وما يرغب أن يقوله وما يطمح إليه .
إن الشعب عند (غائب) هو الطموح ، الامل ، الشمس المشرقة ، الصانع للتاريخ ، السائر نحو أفق بلا حدود ، ولكن مم يتكون ؟ الافراد ...
هم الشعب هذه بديهية ، والفرد لا يحقق وجوده وحريته إلا في تحقيق الثورة في لحظة ما ، في الحاضر المتغير لا المستمر ، عندئذ تكون الصورة الجمالية – الأيديولوجية لديه في المسار الصائب .
وأن جودة الرواية تقوم على (قوة الرؤية التي تقدمها وإقناعها وقوة هذا الصوت الذي يتكلم أو على ذاك البيان الهندسي الذي يفرض نفسه بنفسه ويكشف عن بعض خصائص المدى الخيالي)(3) أو المرمز في بعض الأحيان .
أنشأ (غائب طعمة فرمان) رواية الأيديولوجية – الجمالية بفضاءات رمزية وفنية لفن الواقعية الحديثة ونصوصه تفصح عن ذلك جلياً ، ويمثل التطور الفني للرواية العراقية – العربية المعاصرة العميق .
وأن الدلالة الأيديولوجية لنص ادبي تلازم دائماً تعبيره الجمالي فـ( الرمز قبل كل شيء دلالة) كما يقول هيجل ، وقام باستخدام الرمز بشفافية رقيقة لا تحتاج إلى بيان ، لأن الرمز عنده يتغلغل بعمق في الواقع الاجتماعي – الاقتصادي مبتعداً عن المباشرة الفجة وتتصف رمزيته بثنائية إحداهما ظاهرة حسية والأخرى باطنية ذهنية متوازية لها ، فالنخلة عنده هي المعادل الحسي الظاهرة للمجتمع صامتة حتى النهاية ، شاهدة على عصرها ، متحدية ظروفها ، واما المعادل الذهني المستتر فيخضع للقراءة التأويلية رغم أنه لا يحيد عن نطاق الرمز إنما ينتج معاني ويكوّن مفاهيم ، موظفاً المرمز في خدمة الواقع المتفاعل معه جدلياً وليظهر لنا الصراع المؤدي إلى إبراز التناقضات بين الشخصيات والكون. رغم أن الفكر البرجوازي في تطوره يطرح مسالة الشخصية ولكنه في اللحظة ذاتها يعيق تطورها باستمرار .
ففي رواية (الانتباه) لـ ألبرتو مورافيا نجد الوعي الفردي يجدد باستمراره ويعمل على إلغائه في ذات الوقت ، بينما في روايات (غائب) الافراد يجددون وعيهم ويعمقونه بالديالكتيك القائم بين ذاتية الفرد والواقع – الموضوعي ، وهذا ما يطلق عليه (جورج لوكاش) الإمكانات المحسوسة والإمكانات المجردة .
وكلما كان هذا التناقض غير حاد كانت وضعيته غير بارزة ، لذا على الناقد أن يقوم بدفع التناقضات الى الواجهة للعمل على اكتشاف تعددية الصراع وإن كانت قليلة في الرواية لبيان الانحراف الطبيعي لأيديولوجيا البنى الفوقية التي تضع أيديولوجيتها للسيطرة بها ولتغطية مصالحها ومنع الوعي من استيعاب واقعه المخيف ..
والصراع في رواياته متنامٍ ، افقي ، متعدد مستفيداً من رمزيته التي هي ديالكتيكية – نقدية – ثورية مدموغة بالتاريخ مع رؤية إنسانية متحيزة بالضد من الفكر ذي الرؤى اللاإنسانية واللاتاريخية والمضاد لكل ثقافة تقدمية مما يجعلنا نشترك رغماً عنا في الرؤية للحياة من وجهة نظر رمزية ويجبرنا على تخطيها للوصول الى ما يرمي اليه ...
فروايات (غائب) كلها يمكن وضعها معاً تحت عنوان واحد قد يكون حكايات – رمزية، فالحكاية الرمزية في الرواية تتأتى منسجمة مع الواقعية – الحديثة الاجتماعية إذ يصبح لامفر من الرمز لأن الواقعية وحدها تكون ساذجة فجة ليس من الممكن استخدامها لوحدها في ظرف معين ووضع معين خاصين .
فهل ننتقص من واقعية غائب إذا قلنا إن رواياته تنحو منحى رمزياً ..؟
لا .. (بل إن روائع الواقعية – كما في اعمال تولستوي وفلوبير وبلزاك وديكنز – تستخدم الرمز استخداماً بارزاً في كثير من الأحيان )(4) .
وغائب يسلط الأضواء على الإنسان العراقي في فترة زمنية ما ، مع العمل على توضيح وتطور شخصياته دائرياً فالشخصية المستلبة حسين والقلقة سعيد والمغتربة كريم غزال والطاغية دبش والمستسلمة فاضل والخانعة معروف ، لم يكد يحققهم بهذا العمق والوضوح والواقعية الشفافة المرهفة إلا القلة من الروائيين العراقيين والعرب كـ عبد الرحمن منيف في (شرق المتوسط) والطيب صالح في (موسم الهجرة الى الشمال) .
ويؤمن غائب بأن (التفاؤل والإيمان بأصالة الإنسان وجدارته وقيمته)(5) ، لذا فإن سحر الرواية لديه يتربص في أسطورتها ، فهي تشرع من خلال حكاية خرافية الوجود والحياة والأسرار والأفكار الدفينة والفنتازيا ، لذا أعلن في جميع رواياته عن محاربة أصحاب الرايات السود، مانحاً ايانا إحساساً كاملاً بمأساوية وضعنا المعاصر الذي نعيشه في هذا القرن لأن (الجنس البشري لا يحتمل الواقع كثيراً – ولم يشترك العصر الجديد ككل في هذا الوعي المأساوي)(6) بالرغم من أن الهوة عميقة بين الواقع والحلم ، ولكن في العالم الثالث لا يتفتح إلا من خلال المأساوية الجماعية وتكون الرواية أصلح الأنواع الأدبية للتعبير عن هذا الوعي الإبداعي وللتفرد والتمييز حيث يعلن أيضاً عن إنتمائه الطبقي فيقول (أنا إنسان كادح وبسيط ومن عائلة كادحة وبسيطة) وعن رفضه للأدب البرجوازي في أي حالة يكون لأنه يعده ممهداً – للأيديولوجية – الرجعية او متواطئاً معها أو مشتركاً في تعميق المأساة للأغلبية وترسيخ الوعي السلبي - المزيف اللاممكن، بينما يعتقد غائب بان الرواية عليها نشر الوعي الممكن لأن العمل الروائي لديه (وثيقة إنسانية صادقة للحظات الإنسانية)(7) .
فالوعي الممكن لديه وعي طبقي متفتح دون أن يفقد طبيعته وأن (أعمال كبار الكتاب والفلاسفة والفنانين تكون ممثلة للواقع كلما عبرت عن رؤية العالم المتطابقة مع اقصى قدر من الوعي الممكن لطبقة من الطبقات)(8) فوعيه هذا يعطي الحق لوعي الناقد – القارئ للاندماج في وعي النص – المؤلف في ذات اللحظة التاريخية المهيمنة على النص لتأسيس جدلية مثمرة من خلال تلاقيهما لذا فإن (قارئ الرواية والذي أعني به هنا القارئ – الناقد هو كاتب روائي نفسه فهو صانع الكتاب الذي يرضي أو لا يرضي ذوقه )(9) وواقع الأدب ينشأ دائماً في لحظة الالتقاء المواجهة بين النص والقارئ .
والنص الأدبي هو تعبير عن أيديولوجية الكاتب ، وليس تعبيراً عن أيديولوجية القارئ، ولكن المواجهة لابد أن تحصل عند القراءة رغم اختلاف الأيديولوجيات ، وليس معنى هذا إن النص الأدبي ليس ((تعبيراً)) عن أيديولوجية الكاتب(10) .
وروايات (غائب) تتسم بالصدق الحقيقي لا مجرد مطابقة التفاصيل فوتوغرافياً بل يعني كذلك المشاعر والتجربة الشخصية وأفكار العصر، وأصبح الصدق المقياس الذي نحكم به على الأعمال الأدبية ونعطي رأينا عليها فيما إذا كانت صادقة مملوءة بالحيوية مقتنعة كما هي الحياة في الواقع .
فالخلود يبقى للذين عبروا بصدق عن واقعهم وعن الظروف التي مروا بها وعن الإنسان المسحوق المستلب ، وهذا ما فعله غائب في أدبه معطياً دلالة على أنه يتبنى قضية طبقة محورها الإنسان وملتزم بالدفاع عنها لأن ( المسألة المحورية تبقى دائماً التطور الموحد الشامل للشخصية الإنسانية) (11) محققاً الرواية البؤرية التي يكون فيها الإنسان نفسه نقطة مركزية أو محورها وليست المجردات بل التعامل معها بموضوعية متوازنة لا شكلية – ذاتية ويجعلها تمتلك حدوداً عميقة في المجتمع فيعمل على توحيد العمل الفني مع الإنسان لإثارة تجربة جمالية من بين محتوى جمالي وجعلها نقطة في التكنيك الروائي حيث يتداخل الواقع المتخيل مع الاختبارات .
والسرد المفتوح لديه يقودنا الى روايات رمزية وأحياناً رمزية – ديالكتيكية ذات مضامين فكرية أو اجتماعية – سياسية وأحياناً مزدوجة موصلها بشفرة لغوية كما في الشكل التالي :
فكرية
نهاية رمزية اجتماعية
سياسية
وفي الوقت ذاته تكون النهايات جميعها مأساوية تنتهي بوقوع مأساة مثل ارتكاب جريمة قتل أو الانتحار أو الهروب أو انحراف أخلاقي أو الضياع التام .
وليس من الممكن أن يوجد المأساوي خارج المأساة بل يمكن توفر الشروط المولدة للصدفة أو المفاجأة التي تقع (*).
ورغم ذلك تبقى روايات غائب مفتوحة للقارئ بمعنى لها دلالة وأن الحدث مستمر غير منتهي.. وهذا بدوره يفسح المجال للتأويل القادر على جعل المعنى أن يجمع بين الفعل الخاص والبنية الهامة بصورة لا يمكن الفصل بينهما: فإنها – أي الروايات تشترك بقواسم هي رمزية – مأساوية – مفتوحة .
ولكي تتوضح الرؤية وتكون شمولية مرتبطة بزمن الرواية – النص وواقع الزمن الوجودي للمؤلف أي زمن الذات الكاتبة في النص متداخل في زمن النص – المكتوب ، فعند تداخل هذين الزمنين يتولد عندنا تحليل دقيق من خلال قراءة – رمزية على وفق منظور ، سوسيو – اقتصادي – سياسي ، فهو ينظر للبنية الاجتماعية من خلال البنية الاقتصادية ، والبنية الاجتماعية هي قوى متصارعة ويمكن القول بشكل أوضح إن المجتمع هو بنيات متصارعة وكل بنية تمثل طبقة والصراع هو الذي يحكم المجتمع ، وإن هذه الحالة القائمة محكومة بحتمية تفككها للأغلبية فالنتيجة إن كل مجتمع هو بنيان طبقي، وعلى ضوء هذا تكشف روايات غائب عن مكونات الصراع الاجتماعي – الاقتصادي – النفسي الذي تعيشه شخصيات رواياته والذي يتمخض عن تمزقات وانحرافات اجتماعية – سياسية عميقة وانفصام سيكولوجي شامل .
أخذ من الطبقة الاولى شخصية البرجوازي الصغير المتذبذب القلق ومن الثانية أخذ الفئة المسحوقة والهامشية وغير الواعية وغير المتفتحة على العالم المحيط بها والمنفصلة عنه، لقد كتب غائب معظم رواياته وقصصه القصيرة وقام بنشرها خارج العراق.
لكن البيئة البغدادية – العراقية الصميمية ظلت محور أدبه فهو الغائب الحاضر فيها ، الموجود فيها وغير الموجود فيها ، فكلما ازداد ابتعاداً عنها ازداد قرباً إليها ... فالطريق دائرية والوجود عنده يتوحد مع نقطة الرحيل ( = الفناء فيه أو التلاشي) أي السفر أو الموت فالجذور في بغداد وثمارها في مدن العالم الأخرى بيروت .. القاهرة .. بودابست .. بكين .. موسكو .. جميع مراياه تعكس صورة واحدة .. صورة مدينته الحلم .. مدينة الزمن المشرق.. مدينة الذاكرة الذهبية .. والناس والشوارع والبارات والمباني مطبوعة في ذاكرته المتوقدة بخيالها الخصب والمحمولة على واقعية جمالية وهو أيضاً حاضر في (ذاكرة الزمن) .. فكان موته في الاكتشاف .. في رحلة داخل الذات المغتربة المعذبة بين المدن المختزلة في مدينة واحدة هي .. هي .. بغداد لذا فإن غائب عانى الأغترابين فكان في وضع مغترب فيه ووضع آخر مغترب منه، ورواية المخاض تصور هذه الحالة ادق تصوير عن الاغتراب مع دلالات عميقة لها، فهو قد وجد نفسه بعيداً عن وطنه لسبب ما دون أن يكون في استطاعته الانتماء إلى عالم الغربة ولم يستطع في وطنه الانتماء لفكر ما لأنه كان ينتمي للشمس ، وتبقى عباراته ترن مع الصدى،( ماذا كسب من الغربة ؟ .. لاشيء ) المخاض ص17 .
ان التقنية لدى (غائب) مهمة في الرواية وهي تزوده بوسيلة عالية من المرونة بحيث لا يجعل القارئ يشعر عند القراءة بأن شخصياته مقحمة ، ولا بالانتقال من الحاضر المستمر إلى حاضر الذاكرة ويكون السرد طبيعياً مهما تغير منظور الراوي ، وإذا أحس بذلك القارئ يكون قد فاته أن يتوقف .. وهو مصاب بشعور لذيذ بالاستمرار بالقراءة للنهاية .
ويركز على نحو كبير على الحالات والعمليات التي تحدث داخل وعي الشخصية بتوازن مع الحوادث العامة في العالم الخارجي ، هذا مما يتيح له أن تتداخل الأساليب لديه بعفوية وانسيابية وتدفق .. فينتقل من المونولوج الداخلي إلى تيار الوعي كما في الفصل الثالث من رواية المخاض وهو جالس مع صديقه محسن في مكتبة دون أن يشعر القارئ بذلك :
(تكلم الملعون كلمات طيبة ، ربما لأنني وخزت ذكرياته والذكريات إذا فاضت لا ترحم ..
عرفت هذه الوخزة حين دخلت مكتبك اليوم ورأيت الفتاة ) المخاض ص 53 .
وفجأة يتحول إلى تيار الوعي من كلمة الفتاة ...هكذا !
(كان فيها شبه لا يحدد بفتاتي الصغيرة هناك .. ما هو ؟ أنفها الصغير ..؟ وجهها المدور ؟ قصر قامتها حين نهضت ؟ ربما!) المخاض ص53 .
ويستمر إلى نهاية الفصل مستخدماً تيار الوعي وآخذاً حوالي نصف الفصل الثالث بشكل اعتيادي :
( - أتذكرين يوم آويتني تحت معطفك في سقف العالم ؟
- نعم .. أتذكر ..
- كنا ملتصقين هكذا .. وربما أقوى . هكذا .. هكذا . بل أقوى .. هكذا ..
- سنقع
- لا تخافي . نحن مستلقيان الان في أحضان الأرض الرؤوم ) ص59 .
أو يوظف الحلم أو أحلام اليقظة في رواياته للقيام بخدمة أغراضه الروائية من أجل توضيح فكرة أو تعزيز مشهد أو إجلاء غموض قد يكتنف السرد ، فيستعين بالحلم أو حلم اليقظة ، كما في حلم تماضر .. سأدونه دون تعليق : (حلمت ، ذات مرة ، بأنها في محطة قطار وحيدة مع صرتها وهي لا تعرف هل أن القطار فاتها أم لم يأت بعد . كانت المحطة فارغة لم تجد فيها من تسأله . واضطرت إلى الانتظار ، ملتفتة بعباءتها قرب صرتها التي كانت ثقيلة جداً لا تقوى على حملها ) ص120 النخلة والجيران .
من الممتع أن نعرف أن غائب طعمة فرمان في نهاية رواية القربان وهي نهاية زنوبة المأساوية ، يتداخل المونولوج الداخلي مع حلم اليقظة كما في مشهد رواية المخاض حينما تداخل المونولوج الداخلي بتيار الوعي، فكان غائب قارئاً جيداً لأن علاقته مع الشخصية الرئيسية حيادية تماماً رغم وضوح وجهة نظره وبيان منظوره السردي المختلف، ولأن شخصيات غائب تمتلك وعياً مأساوياً غامضاً لكنه مستمر بالقدر الذي تحمله، فمن الطبيعي جداً أن يظهر غائب هذا الوعي باستخدام المنولوجات الداخلية ويرى نفسه مع شخصياته: (ستذهب إلى الحمام في الصباح مع مظلومة ، لن تبخل عليها مظلومة بالحمام ، وان بخلت بالنفط ، وفي الليل تنتظره . سيدخل عليها .. عريسها المرتقب .
الرجل الذي لا تستطيع ان تتصور قسمات وجهه . لا تعرف إلا أنه طويل مثلها . ناجته : راح أتحضر لك ! سأكون لك حلوة مثل الوردة ) ص251-252 القربان .
في هذا المقطع تحكي وتحلم .. تحكي لمستمع وهمي وتحلم بالزواج الذي طالما راود خيالها . في هذا المقطع يتحقق النضوج في الشكل الفني عند غائب مع جمالية الشكل ..
أو من خلال الوسائل التعبيرية الفنية التي تتيح الارتداد إلى عالم الطفولة والكشف عن لاوعي الشخصية التي يعالجها .. فنقرأ هذا المقطع من رواية النخلة والجيران وهو في الحقيقة مونولوج داخلي لتماضر : (عندما جنت بنية جنت أسوي كل شيء ، ولما كبرت خطبني بياع الدبس ودهن العمارة . وهسة رفيجة واحد ما اعرف إلا اسمه) ص107 النخلة والجيران .
أما ما يميز غائب ويفرده عن بقية الكتاب العراقيين في مرحلة التأسيس وما بعدها . في تقنيته العالية المتوشحة بجمالية فائقة ، في استخدامه لأسلوب السرد المتداخل ، كعدسة كاميرا ملونة تلتقط مجموعة صور في صورة واحدة ، أو كشريط تسجيل عدة أصوات في نغمة واحدة ، هكذا :
( هو من أجلها يكسر أقفال الحجرات . من أجلها
يبيع الحوش ، من أجل أجلها يفعل كل شيء.
الملعونة حلوة تستاهل كل شيء ... وكانت
الأرض تحت عصعص مصطفى خشنة ... اليوم
راح أنام بالكاع . وقال حسين : هذا هو لازم آخذ
أحسن شي بالحجرة . وقالت سليمة الخبازة
لنفسها : اليوم سهرانة للصبح .. دايماً وحدي
نصيبي . وتوهجت الخمرة في رأس مصطفى توهجاً
حاداً . وتوقف حسين وسط الحوش .. لا شيء
غير النخلة .. ها هي أخيراً لا تصبر أكو مرية
تصبر ؟) (النخلة والجيران) ص 18- 169-170
ويفتتح ( النخلة والجيران) بأسلوب السرد المتداخل كالآتي :
( قبل أن تغرب الشمس سمع الجيران صوتها .
قالت أسومة العرجة
- الفرج خاتونة المحلة
وقال حمادي العربنجي في الطاولة المجاورة لبيتها :
- عبخانة .. خوب مو عبخانة !
وقال حسين وهو على بعد خطوتين منها :
- أنت يومية معذبتني .. مودا أحلف لج بالعباس ) (النخلة والجيران) ص5
(تلمظ حميد وهو يبتعد عن السدة واشتاق إلى الخمرة اشتياقاً يعصر مصارينه . وبدأ التراب يتسرب خلال ياقة عبد الخالق . بدلة السهرة من أين لي بدلة أخرى . هذه كل شيء . ربما هذه ((حوبة)) صبرية – قال شريف لنفسه ، وعزم على الذهاب إليها الآن . دق جرس التلفون وأمسك ابراهيم بالسماعة . كان صوت سعيد تعباً وبعيداً) خمسة أصوات ص139 .
لم تكن رواياته تقليدية قط، بأي معنى كان بل حديثة لأنها تمتلك رؤية للعصر وأطاراً للمستقبل ترفض كل صور الجمود والتقليد والتحنيط . لذا يعد (من أحسن الذين يمسكون القلم) كما يقول عنه غسان كنفاني، ليس من حيث الشكل بل من حيث الصيغ الفنية (السرد ، الحوار، البناء الدرامي) .
فهو يجعلنا نقوم بقراءة أدبه قراءتين ، قراءة داخل النص وقراءة خارج النص، بمعنى قراءة تتحرك خارج وداخل فضاء النص وعلى هذا الأساس قام غائب بجمع مدخلين في كتابته لأعماله هما المدخل الجدلي العامل على تصوير العلاقة بين الوجود والوعي والمدخل النصي الذي يستخرج الدلالات السوسيولوجية من داخله مع تفاعلاتها .
فالرواية لديه ملزمة أن تحررنا من عالمنا لدخول عالم آخر .. عالم ملئ بالحياة ، ينبض بها ، ويرتعش منها للعودة ثانية لبناء عالم الواقع العيني بطريقة فضلى .
قبل أن أنهي المدخل لابد لي من التوقف ولو قليلاً أمام عنوانات / أسماء روايات غائب طعمة فرمان ، لأن هذه العنوانات تعتبر مدخلاً رئيسياً للنص باعتبارها جزءاً من النص الروائي وبنيته رغم أني سأتناول ذلك لاحقاً .
بإيجاز شديد أقول إن العنوان لدى غائب يمتلك قصدية – دلالية ذات شفرة تأويلية – إيحائية .
إن القارئ يكتسب الحق في التأويل حالما تقع عيناه على عنوان الرواية مع القيام بمنحه أيحاءات مجازية ذات دلالات متعددة مفتوحة لا يمكنه الإفلات منها مثلاً عنوان (القربان) يجعلنا نتساءل فوراً ،من هو ( القربان) في الرواية ؟،ولمن قدم هذا ( القربان) ؟،ومن هي الضحية..؟
والقارئ لن يحصل على أجوبة جاهزة مباشرة أبداً .. إذ لم يقم بقراءة الرواية قراءتين كما أسلفت ، وهنا يبرز دور الرمز والإيحاء لاستبطان معنى العنوان والنص .



#أسامة_غانم (هاشتاغ)       Osama_Ghanim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية الذاكرة في سرد السيرة
- حوار - في الملحق الثقافي لطريق الشعب
- النصْ المتشظي في السرد المتجانس
- سلطة الواقع في تحولات الانا / الضوء
- سردية الرمز الغرائبي في جدلية الأنثى والذكر
- رمزية الصورة الشعرية في تجربة معد الجبوري
- قراءة سوسيوثقافية للحلاج
- استراتيجية لعبة الاسطورة المعولمة
- بنية الوعي الطبقي في الصورتين الواقعية والحلمية
- ازمنة السيرة المتداخلة في ذاكرة النص والجسد
- التجربة الجمالية والمكان في الرواية العربية
- التجربة الجمالية والزمن في الرواية العربية
- ازدواجية الجسد وشفراته السرية
- شعرية التجريب في رؤية الانثى لجسدها
- سلطة الجنس
- الرؤية الغرائبية في سوسيولوجية الجسد
- رواية - برهان العسل - قراءة سوسيوثقافية
- اللعبة الايروتيكية وتحولات التخييل السردي
- واقعية المتخييل السردي في التاريخ المؤول
- تحولات حداثية السرد في المتخييل التراثي


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة غانم - القصةوالرواية : ايديولوجيا وجمالية