|
غربة الشعر ،منظور جديد
خالد الصلعي
الحوار المتمدن-العدد: 4259 - 2013 / 10 / 29 - 02:05
المحور:
الادب والفن
غربة الشعر ، منظور جديد ******************** هل يمكن للشعر أن ينشأ مغتربا عن شاعره ؟ وهل يمكن للشاعر أن يشعرن خطابه في اغتراب عن محيطه ؟ ، وبالتالي ، هل بامكان الشعر أن ينفصل عن بؤرته الحميمية -الذات الشاعرة -المنخرطة في محيطها الحيوي ؟ ، هنا وبهذه الأسئلة نحاصر ليس فقط بيئة الشعر بل تاريخيته . لكن هذه الأسئلة تتجزأ الى أسئلة أكثر احراجا ، خاصة في ظل تراكم تاريخي لشعر أبى الا أن يتكئ على طبيعته الانسانية والكونية ،دون أن ينفصل عن محليته وخصوصياته الذاتية . لكل قصيدة هويتها الشخصية ، ولكل شاعر/ة بعده/ها الذاتي ، والذات هنا في مسألة الشعر ليست الا ذلك الانفكاك الفني والجمالي من أسر الذات العادية ، الذات التي لا تعقل الا حدودها ، بعكس الذات الشاعرة التي تتجاوز حدودها الى مستوى الجمعي والمطلق . هذه هي طبيعة وقدر الشعر والشاعر ، رحلة أبدية خارج الذات وتوغل مهووس داخلها . لكننا اليوم لا يمكن أن ننفصل عن روح عصرنا ، روح تتميز بغموض شديد في العلاقة التي تجمع الذات بالعالم الخارجي ، فبقدر ما يعمل جاهدا هذا العالم الخارجي على انتزاعك من ذاتك ورميك في أتونه المظلمة ، بقدر ما تتمسك الذات الشاعرة بهويتها الكونية . قد ينشأ هنا غموض ما ، لكن المشتغلين بالشعر ابداعا أو نقدا ، أو أولئك المرصعة روحهم بعشب الابداع ، المتذوقين للب الحياة ، يعرفون سر هذا الغموض ، وقد يعثرون على مفاتيح فك شيفرته الجمالية والانسانية . هكذا ندخل توا الى الأشمل دون أن نغفل أدق التفاصيل ، فبين الذات في أصغر أجزائها ، كالهنيهة أو الشزرة ، أوالأصبع الواحد ، وبين العالم ، علاقات لا تكاد تحصى بفضل كرم البلاغة التي تمنح للبعد الواحد أبعادا متعددة ، وللاسم الواحد صفات لا حد لها . والشعر من هذا المنطلق يصبح حوض الغربة الشاسع ، وحضنها الدافئ . قد تنشأ الغربة عن لحظة عابرة ، او عن علاقة هشة ، أو عن صيرورة لا متناهية من الاخفاقات والاحباطات ، وكلما كان الوعي شديدا ومرتبطا بمختلف تجارب الشاعر ، كلما انغمس هذا المبتلى برعشات الاحساس العالي ،أكثر في غربته المخملية القاسية . لا تناقض هنا ولا تعارض ، فكم من لمسة رقيقة تركت جروحا عميقة !!!! مفهوم الغربة / الاغتراب مفهوم حايث الابداع الفني منذ البدايات الأولى ، فالأسطورة الاغريقية بكل تجلياتها هي بحث عن جواب الغربة ، بارتحال أبدي الى الميتافيزيقي ، وكأن كل فرد كان يخلق الهه للاحتماء به من غربة الوجود ومن اغتراب الذات بين أهلها وفي ذاتها . ولنا في الشعر الجاهلي ما يعزز هذا الوعي الحاد باغتراب الفرد في بيئة قد لا تمنحه اللحمة الوجودية التي يبحث عنها ابداعيا في تلابيب الحياة المتحولة ، فنجد مثلا عنترة يقول مغتربا :
حَـكِّم سُيوفَكَ في رِقابِ العُذَّلِ.. .وَإِذا نَـزَلتَ بِـدارِ ذُلٍّ فَاِرحَلِ وَإِذا بُـليتَ بِـظالِمٍ كُن ظالِماً ....وَإِذا لَقيتَ ذَوي الجَهالَةِ فَاِجهَلي
ونجد شاعرا جاهليا آخر هو الشنفرى يعلن نفس المبدأ تقريبا :
وفي الأرض مَنْأيً، للكريم، عن الأذى .....وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ......... سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ
لكن الغربة / الاغتراب كمفهوم يمتلك نسقية دلالية علميا ، لم يجد مرتكزه المعرفي الا مع مدرسة فرانكفورت التي منحته بعده المعرفي والعلمي ، فنجد مثلا قطبا من اقطابها من خلال بحوثه السريرية ، وهو ايريك فروم ، يربط الغربة والاغتراب بالمحيط في ربط جدلي بين الانسان ومجاله الحيوي وبيئته الحميمة . فقد ربطت هذه المدرسة الاغتراب بمفهوم آخر هو التشيؤ وهو نفس الدلالة التي أشار اليها ماركس . وهذا المعنى قد نجده منحوتا في الفلسفة وعلوم السياسة منذ القديم ، منذ أن جعلت روما مفهوم الدولة فوق الانسان والأفراد ، وهو مسخر للدولة قبل الذات . وبتطور النظر والرؤية الى هذا المفهوم أصبح في القرن العشرين يحمل بعدا سياسيا خالصا . بعد تجذر الوعي السياسي في وجدان الانسان المعاصر ، وامتداد مفهوم حقوق الانسان بين الكيانات البشرية المختلفة . ومن خلال الاستشهادين الرائعين بالشاعرين الجاهليين ، يستوقفنا ذلك الانصهار الكلي بين الشاعر ومحيطه ، بين الوعي وشروطه ، بين الشاعرية ودوافعها الوجودية . فالشعر في أصوله الضاربة في العمق الوجداني للكائن الشعري ، الذي يعتبر الكائن المرجع للوجدان البشري ، لايمكن أن يعتمد على المهارات اللغوية والكفاية الصياغية ، فهذا النوع من الكتابة التي أصبحت سائدة اليوم في محيطنا الشعري ، يجعل القراءة تضع حدا بين اللغة الشعرية وبين ايحاءاتها الموضوعية ، وجدارا بين الرسالة والمرسِل بتعبير البنيويين ، وتنزع عن الشاعر هويته الشعرية ، ما دام أن القدرة على اللعب بالكلمات وباللغة هي المحدد الأساس لقول الشعر حسب فهم الكثير من الشعراء ، وليست تلك الحاجة الوجودية المنبثقة عن الحالة الانفعالية الجوانية للشعر ، وليس ذلك الانخراط الصوفي في ابتهالات الذات والحياة تحت سقف موت مفتوح وممدود . هذا العزل بين اللغة وبين وجدان واضطراب الشاعر ، هو الذي يُغَرِّب الشعر نفسه عن بعده الانساني الصميم ، من منظور وجودي ، يعتمد أساسا على التقاط جواهر اللحظة ، ودرر الأحوال النفسية المتقلبة .
#خالد_الصلعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رحيل أقسى من الخنجر
-
مسرحية بعنوان : من كسر الكمنجة ؟ -3-
-
الأنبياء لا يندهشون
-
مسرحية بعنوان : من كسر الكمنجة ؟ -2-
-
البحث عن الحاضر الغائب -رواية-22-
-
حصن اللغة
-
الياس العماري وقضية علي أنوزلا
-
ضد مركزية الثقافة وتركيزها
-
يوم خارج التقويم
-
مؤشر الحلم والكابوس - قصة قصيرة -
-
ملامسة قشرة الحياة
-
لبن الأمل
-
خطاب البرلمان والعودة الى الوراء -1
-
مسرحية بعنوان : من كسر الكمنجة ؟
-
موسيقى عسكرسة
-
المغرب وسياسة اللاسياسة
-
اله الدم
-
الانسان العربي : القيمة والحقيقة -1-
-
البحث عن الحاضر الغائب -رواية-21-
-
الأم خط أحمر
المزيد.....
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
-
باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح
...
-
مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل
...
-
لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش
...
-
مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|