قصة الموسيقى الغربية – الأوبرا الفرنسية الفخمة

محمد زكريا توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 4215 - 2013 / 9 / 14 - 12:55
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

كانت مدينة باريس، في نهاية القرن الثامن عشر، مركزا عالميا، يحج إليه الملحنون، لكي يقومون بعمل الأوبرات الفخمة (Grand Opera). لذلك تعتبر باريس مهد هذا النوع من الأوبرات.

الأوبرا الفخمة تتكون في الغالب من أربع أو خمس فصول. تتسم بعدد ضخم من الممثلين والمغنيين والعازفين. ديكوراتها رائعة براقة، تبنى على قصة درامية أو تاريخية كبيرة.

كما أن الأوبرا الفخمة يندر بها الحوار بدون موسيقى. تشمل الألحان العذبة التي يغنيها فرد أو اثنين أو ثلاثة أو الكورس. بالإضافة إلى الباليه وحركة جماعات بشرية كبيرة.

الأوبرا الهزلية، هي نوع آخر من الأوبرات. يمتزج فيها الغناء بالحوار المسرحي. غالبا ما يكون موضوعها خفيفا مرحا. الأوبريت نوع من الأوبرات الهزلية. أوبريت العشرة الطيبة، هي أوبرا هزلية رائعة لسيد درويش.

أوبريت العشرة الطيبة كاملة، رائعة سيد درويش، عندما كانت مصر تنتج الفن الرفيع، أول عرض عام 1920م. غناء كارم محمود، شهرزاد، أحلام.
http://www.youtube.com/watch?v=3pORFDgIcN8

"جلوك"، ألماني الجنسية، هو أبو الأوبرا الفخمة، التي ظهرت عندما ملّ الناس أوبرا "لولي" الهزلية. الأوبرا الفخمة تعتني أكثر بالناحية الإنسانية لشخصياتها، وتعطي اهتماما خاصا وكثافة زائدة للموسيقى.

تتكون الأوبرا من سبعة عناصر، هي: الشعر والموسيقى والغناء والباليه والديكور والفنون التشكيلية والتمثيل. تمتزج جميعها لتقدم قصة درامية للمشاهد. الأوبرا تعرض عملا فنيا، هو الأرقى بين أنواع الفنون كلها وأكثرها متعة.

الأوبرا لا يجب أن تسمع كموسيقى خلفية ونحن مشغولون بعمل آخر. الأوبرا يجب أن تشاهد حية على المسرح. حتى يمكن الاستمتاع بالتمثيل والديكورات والأنوار والأضواء ونقاء الصوت المذاع من أجهزة عالية المستوى، وكذلك الوسط والاستعداد النفسي للمشاهد،إلخ. سماع موسيقى الأوبرا لا يغني عن مشاهدتها حية.

بالطبع تذوق الأوبرا يحتاج إلى تدريب طويل. مثل قراءة شيكسبير أو أعمال الفلاسفة الكبار أو الشعر. لكن لمن يبغي الثقافة الرفيعة والمتعة الروحانية، لابد من المحاولة. فلا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس. النتيجة مضمونة ومؤكدة. وهي مستو آخر من المتعة، وسمو ورقة غير مسبوقة للشعور والتذوق.

"أورفيوس" ينعي زوجته الحبيبة "يوريديسي" من أوبرا ل"جلوك" غناء جانيت بيكر.
http://www.youtube.com/watch?v=C1B85UQT4AY

رقص الأرواح المباركة من أوبرا "أورفيوس" و"يوريديسي" ل "جلوك".
http://www.youtube.com/watch?v=oou2ywIbRxc

الأوبرا الفخمة جاءت إلى فرنسا عن طريق استيراد أعمال ملحنين أجانب. أمثال "جلوك"، "شيروبيني"، "سبونتيني"، روسيني، "مييربير".

"شيروبيني"، تأثر ب"جلوك" في البداية. لكنه تخطاه فيما بعد. كان له تأثير كبير كمدير لمعهد الموسيقى بباريس، كان صوت الثورة الفرنسية.

"سبونتيني"، مزج في موسيقاه عظمة الامبراطورية الفرنسية. "روسيني"، بيّن روح التمرد والثورة على الظلم في أوبرا "وليام تل". "مييربير"، صاحب الميلودي الرومانسية، حاول جاهدا الوصول ب"الأوبرا الفخمة" إلى حد الكمال.

مقدمة أوبرا "ستروينسيه" ل"مييربير".
https://www.youtube.com/watch?v=2H90t8W1MnQ

هناك أيضا ملحني الأوبرا الفرنسيين. منهم "ميهول"، صاحب الأصل المتواضع، والمستوى الموسيقي الرفيع.

مقدمة أوبرا "الصيد" ل"ميهول".
https://www.youtube.com/watch?v=JYX3Vw6QXoY

في إحدى الليالي، تسلل "ميهول" خلسة إلى دار الأوبرا. بعد أن اكتشف أمره، تدخل الموسيقار العظيم "جلوك" ومنعه من الطرد. منذ ذلك الحين، وقع "ميهول" في حب "جلوك" وكل أعماله الموسيقية. بعد ذلك، أشرف "جلوك" بنفسه على دراسته للموسيقى.

أفضل أعمال "ميهول" هي أوبرا "يوسف في مصر". أهمية "ميهول" (1763-1817م)، تأتي من كونه ظهر في فرنسا خلال الفترة الرومانسية التي أعقبت الثورة الفرنسية.

لحن من أوبرا "يوسف في مصر" ل"ميهول"، غناء التنور "روبيرتو ألاجنا".
https://www.youtube.com/watch?v=OorNKGKsfuY

"هاليفي"، تلميذ وصديق شيروبيني المفضل، ملحن أوبرالي بارع. أفضل أعماله أوبرا "اليهودية" عام 1835م، عن قصة حب بين مسيحي وفتاة يهودية. هي أول أوبرا فخمة تعتني بالديكورات الفاخرة، التي تضيف إلى فخامتها فخامة. قيل أنه قد أنفق في تحضيرها مبلغ 150 ألف فرنك فرنسي.

جزء من أوبرا "اليهودية" ل"هاليفي".
https://www.youtube.com/watch?v=uxWyFf2JYQY

أوبرا "اليهودية" كاملة ل"هاليفي".
https://www.youtube.com/watch?v=SV_ofKbbcB0

تلميذ "هاليفي" وزوج ابنته، هو الموسيقار العظيم "بيزيه". بعد بداية متواضعة وإنتاج أعمال غير هامة، ظهرت أوبرا "كارمن" مع نجاح كامل. لكن الموهوب بيزيه يموت في ريعان شبابه بعد عرض "كارمن" أول مرة بثلاثة شهور.

لحن مشهور من أوبرا كارمن لبيزيه.
https://www.youtube.com/watch?v=_8y1dj7bvjE

أوبرا "كارمن" ل"بيزيه" كاملة مع ترجمة إنجليزية، في العرض ال900 على مسرح المتروبوليتان بمدينة نيويورك.
https://www.youtube.com/watch?v=Z-4hd8KEtEo

نأتي الآن إلى "تشارلز جونو"، أشهر ملحني الأوبرا الفرنسيين. مشهور بموسيقى الكنائس وتلحين الأغاني والأوبرات. كان تلميذا نجيبا في معهد الكونسرفاتوار بباريس. حصل على جائزة "بريكس دي روم"، التي خولت له منحة دراسية لمدة ثلاث سنوات في روما.

هنا في روما، كون الصداقات مع أصحاب النفوذ الذين توسموا فيه النبوغ، وقام بدراسة أعمال ملحني الأوبرا الإيطاليين الكبار. كان يذهب لمشاهدة الأوبرات، وخصوصا أوبرات "بيلليني" و"دونيزيتي" التي كان يستمتع بها جدا.

ذهب يوما لحضور قداس الأحد في كنيسة "سيستين"، أثناء سماعه لموسيقى القداس، لاحظ وجود وحدة فنية بين الموسيقى وبين لوحات الرسم على الجدران. لقد وجد هناك علاقة بين موسيقى "باليسترينا" ورسم "مايكل أنجلو".

عندما كان يقيم "جونو" في روما، قام بعدة رحلات طويلة في كل البلاد. عندما كان يلحن، كان يستخدم كل ما سمعه وشاهده في تأليف موسيقاه. في أوبرا "فاوست"، في أحد المشاهد، نسمع أمواج البحر وهي ترتضم بالصخور على الشاطئ. ثم تأتي صيحة من طائر وحيد فريد.

كرجل عاشق للموسيقى والفن، أحب "جونو" الحياة في إيطاليا. وكان حزينا عندما شاهد قبة كاثيدرائية القديس بطرس، وهي تتضاءل في الحجم، عندما كان يبتعد عنها، مغادرا هذه المدينة الخالدة.

بعد ذلك، سافر شمالا عبر ألمانيا. ألف بعض الأعمال الناجحة. في فيينا، استمتع بمشاهد أوبرا "الناي السحري" ل"موزارت". قابل "مندلسون"، الذي كرمه وأشاد بأعماله. "جونو" كان دائما مفتونا بأعمال "موزارت" و"مندلسون" و"شومان" الموسيقية.

جزء من الفيلم الرائع عن حياة وموسيقى العبقري موزارت، "أماديس موزارت".
http://www.youtube.com/watch?v=vNaXQQbcgw0
أوبرا "الناي السحري" كاملة مع ترجمة إنجليزية، ل"موزارت".
http://www.youtube.com/watch?v=MP-o-hBTelI
مارش الزفاف ل"مندلسون".
https://www.youtube.com/watch?v=SDoT6V2M4MU
"هورويتز" يعزف على البيانو قطعة لشومان بعنوان "مناظر من الطفولة".
https://www.youtube.com/watch?v=j7W9lF42KkY

عندما عاد "جونو" إلى باريس، عمل كعازف أورغون في كنيسة "فورين ميشنز". أثناء الحرب الفرانكو-بروسية، هرب هو وآخرون إلى إنجلترا، حيث مكث بضع سنوات. لكنه مات في باريس عام 1893م.

كتب "جونو" بنفسه قصة حياته، التي تستحق القراءة. كتب يقول، "عندما كنت صغيرا، كنت أقول أنا فقط. بعد ذلك، كنت أقول أنا وموزارت. الآن أقول، موزارت فقط".

الحان أغانيه تتسم بالميلودي. كتب الكثير من موسيقى الكنائس والقداس، في المانيا وإنجلترا. أوبرا "لا رين دي سابا"، عن النبي سليمان والملكة بلقيس، لاقت نجاحا ملحوظا. أوبرا "روميو وجولييت"، مليئة بالعذوبة والجمال.

لحن من روميو وجولييت غناء "أنّا نتريبكو".
https://www.youtube.com/watch?v=reFulcDIfIU

لكن أوبرا "فاوست" هي رائعته بدون شك. كان يفكر في موضوع الأوبرا لسنوات عديدة. ساعده في اشتقاق نصها الغنائي، اثنان من الشعراء. كان يحب تأليف أغاني الحب. لذلك نجد مشاهد الحب مميزة في هذه الدراما العظيمة.

موسيقى باليه من أوبرا "فاوست" ل"جونو".
http://www.youtube.com/watch?v=nXmTcBKO9d4

أوبرا "فاوست" ل"جونو" كاملة في جزئين، مع ترجمة إنجليزية. تسجيل رائع مع جودة عالية نادر وجودها. هذا هو الفن في أسمى درجاته.

الجزء الأول.
http://www.youtube.com/watch?v=fMWwbXq7h60
الجزء الثاني.
http://www.youtube.com/watch?v=sGKUPr5nCcI

قصة "فاوست" مقتبسة من أعمال الشاعر الألماني جوته. تمثل في مضمونها، الصراع بين الخير والشر. الصراع بين الإيمان بالله والإيمان بالشيطان، الصراع بين الحياة والموت.

"فاوست"، يعقد اتفاقه مع الشيطان لكي يعيد إليه شبابه ويحقق له رغباته، في مقابل أن يكون عبدا له. بذلك يقوده الشيطان إلى حتفه ونار جهنم. الأوبرا مليئة أيضا بالصراعات. صراع بين حب الوطن وحب الذات. والحب العذري والحب الماجن.

"فاوست" حكاية مشهورة، لكن دعنا نعيد النظر في مضمونها لكي نفهم ألحانها الموسيقية. الساحر العجوز، الدكتور فاوست، الذي ينظر إلى الحياة في هذه السن بخيبة أمل عظيمة، يعقد اتفاقا مع الشيطان نفسه.

بمقتضى هذا الاتفاق الشيطاني، يسترجع فاوست شبابه المفقود، في مقابل أنه يبيع نفسه للشيطان. الشيطان يتمثل في الروح الشريرة "ميفيستوفيليس". ثم يقع فاوست في حب غادة ريفية بسيطة تدعى "مارجوريت".

أغرى فاوست الفتاة وطلب ودها بصندوق ملئ بالجواهر النادرة. لكنه لطبيعته الشريرة، تسبب في قتل أخيها. مما أدى إلى فقد مارجوريت لعقلها وموتها في النهاية. ثم بدأت تظهر مارجوريت إلى حبيبها السابق كطيف نوراني تحمله الملائكة.

الأوبرا مليئة بالروائع التي تتتابع واحدة تلو الأخرى مصحوبة بالمناظر الخلابة طول الدراما كلها. حفلات الفالس الغريبة والكورس، التي توضح قدرة "جونو" على تأليف موسيقى الرقص، والموسيقى الكنسية المبهرة. منظر ملك "ثول" ومنظر الجواهر ، والديكورات تضيف خصوصية لهذا العمل الفريد.

أوبرا "فاوست" ل"جونو"، أوبرا مثاليه مليئة بالجمال والرقة والعذوبة، نسجت بالألحان الجليلة والأصوات الملائكية. أول عرض كان في باريس عام 1859م. لم تلق النجاح في البداية. لكنها أصبحت، يوما بعد يوم، الأوبرا المفضلة. هي اليوم، تعتبر أشهر الأوبرات الحديثة. ساهم في عرضها مغنيون كبار من أجيال مختلفة.

يبدو أن حكاية الدكتور "فاوست" الغريبة مع الشيطان، كانت قد شغلت العديد من ملحني الأوبرا في كل الأزمان. ما لا يقل عن 17 أوبرا كتبت عن الموضوع نفسه.

هناك سمفونية "فانتاستيك" ل"بيرليوز"، وسيمفونيات "شومان" و"ليست" وأوبرات "فاجنر"، لكن أوبرا "فاوست" التي كتبها الفرنسي "شارل جونو"، ستظل هي الدراما الغنائية الرائعة التي لا يمل الناس مشاهدتها.

ولقصة الموسيقى الغربية بقية، فإلى اللقاء إن شاء الله.
[email protected]

#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات