أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مزمل الباقر - امرأة بأفكار مجنونة















المزيد.....


امرأة بأفكار مجنونة


مزمل الباقر

الحوار المتمدن-العدد: 4165 - 2013 / 7 / 26 - 18:25
المحور: الادب والفن
    


امرأة بأفكار مجنونة






إلى التاية أبو عاقلة.. وردتان على قبرها وأبيات من شعر مصادم


كانت ترنو باسمة إلى رواد الكازينو وهم يتراقصون في صخبٍ ظاهرٍ على انغام الفرقة الأثيوبية. وجدتني أباغتها:
- ( نقوم نرقص معاهم)
ضحكت وهي تنظر إليّ ولم تعقب. أخذت اتفرس في ملامحها الفاتنة في شوق. فغضت طرفها عني في خجل واضح، امتدت يدي ضاغطة كفها، فرفعت بصرها نحو متسائلة:
- ( الوش السمح دا ما اتخلق عشان يطاطي). ابتسمت في رقة. فقلت لها مداعباً:
- ( أوعى تكوني صدقتي؟). واخرجت لها لساني
ضربتي على يدي برفق، ضاحكة في مرح. فتسيدنا الصمت المترقب للحيظات قبل أن ابادرها :
- ( لاكين معقول يا رندا .. سنتين ما أشوفك؟!!).
- ( بالله .. ما معقول؟ حضرة سيادتك عامل فيها تقيل. وقال شنو! .. داير أسافر عشان أحضر وتقول ماشي عـــ..)
- ( يعني خلاص عشان انتي خلصتي التحضير .. بتتمسخري؟). أقاطعها مازحاً.
- ( لا لا.. العفو يا مهند، ما قصدي كدا .. بس لو بتذكر أنا قلت ليك .. تعال نحضّر في الجامعة سوا .. قلت لا لا وشنو ما بعرف .. أخير أسافر عشان تشتاقي ليّ!). وتضحك قبل أن تواصل حديثها لي:
- ( حسع .. عليك الله ما بتخجل؟.. في ذمتك كدي .. متنهز قااايم وقاااااعد .. بس داير تسافر عشان أشتاق ليك؟!!!).
- ( أها .. ما اشتقتي لي .. خالص؟).
- ( بَرِي!! ) .. وضربت بكفها على صدرها كما تفعل جدتها كلما نطقت بهذه الكلمة، ثم لوحت بكفها بحركة مسرحية قبل ان تواصل ( أمشي يا يابا .. اشتاقو ليك في شنو؟ .. بالله شوف الخِلقة!!).
وانفجرنا ضاحكين .. ثم صمتنا للحيظات .. قبل أن تبادرني بسؤال:
- ( عمي محمود . وخالتي عشة كيف؟).
- ( والله في أمانة الله، ما عندهم عوجة. وبسلمو عليك .. تعرفي الليلة أول يوم أمرق فيهو من ما جيت من السفر).

ضحكت ضحكتها تلك التي لا تلبث أن تنزوي بمكان ما في شفتيها قبل أن تقول لي:
- ( أموت وأعرف دي منو المانعاك المرَقة من الخُدّير؟).
- ( من الخُدّير ؟! .... ما فاهم!!).
- ( مهند .. إحنا كان ما متنا .. شقينا التُرب!).
- ( أيوااا .. هه هه هاي .. غلطانة في العنوان يا ماما .. الحاماني المّرقة من حيّنا دا.. مرا مشلخة اسمها عشة بت مساعد ود التوم وراجلا مشلخ زيها، نضارتو قعر كبّايه، اسمو محمود ود مالك ود التوم!!).
تصمت باسمةً .. يغشاني صمتها فأصمت، والناس من حولنا يثرثرون. ثم أبادرها بسؤال:
- ( إنتي عارفة يا ميرندا.. أنا جبتك لي الجندول بالذات ليه؟ وقطعت المسافة دي كلها من الخدّير للموردة.. ليه؟).
- ( والله ...... ما عارفة!).
- ( أوكي .. زمانك وكت كنت صغيّر .. )
- ( بلعّب بالشراب .. ماما لابستني الجزمة والشراب ... مشيت لي الأفندي .. أداني كرسات .. قال لي أكتب عربي .. كتبتا ليو حساب.. والمزيكا .. ) ثم توقفت عن إكمال تلك الأغنية الطفولية حينما أشحت ببصري نحو الفرقة الإثيوبية..
- ( معليش .. كمل كلامك !)
- ( زمانك .. وكت كنت صغير، جيت كازينو الجندول دا مع ناس البيت. قبل ما يتبعوهو لي الجامعة.. ولمَن عرفت إنو رجع تاني كازينو بعد ما سقط النظام.. قلت كدي يا ود .. سُوق معاك البت دي للجندول، واستعيد طفولتك!).
- ( حلاتو يا ناسي .. أها وإن شاء الله استعدت طفولتك؟)
- ( والله .. افتكر اني استعدت شبابي معاك!).

نكست رأسها في صمت، اجتازني صمتها إلى سؤال جديد، ابطأه شعور بأني قد اثرت شجونها بطريقة أو بأخرى. ألح علي السؤال فسألتها:
- ( ما قلت ليّ " الاسبتالية" كيف؟).
- ( .. . بتسلم عليك!!)

وتضحك ضحكتها تلك التي لا تلبث أن تنزوي في مكان ما بشفتيها قبل أن تقول لي بعد طول صمت:
- ( والله بقت كلها عمارات يا مهند. ناسها زاتم بقوا ما زي زمان .. كل زول في حالو)!

آثرت أن اغير دفة الحديث. وقبل أن ازيح صداع اشجاننا جانبا وانفلونزا غربة الروح بعيداً. قبل ان تسعفني ذاكرتي بنكتة تفرغ أسانا، أكملت حديثها:
- ( ما الاسبتالية براها .. أمدرمان كلها .. بقت ماياها .. زي التقول مرا تانية .. مرا غريبة ما بنعرفا؟!!).

وزفرت في أسى ظاهر، وهي تصلح من وضع الزّراق على رأسها، فألمح بضع شعرات بيض تتوسد بهيم فرعها، فانتهز الفرصة لتغير مجرى الحديث مجدداً:
- ( إنتي تعالي النسألك .. متين شيبتي كدا!!).
- ( أب سنينه بضحك علي أب سنينتين!!). أدري شعري الأشيب بيمناي وابتسم.
- ( حضرة سيادتك حاجزني ليك سنتين ودايرني ما أشيب!!. بعدين تعال انت ناسي إني أكبر منك بي سنة ولا شنو؟!!).
- ( يلاَ .. أمسكيها لي زلة .. اضحكي كويس .. غايتو أنا لو محلك.. كان واقفت علي أول زول يدق بابي!)
- ( والله فكرة .. بس انا عارفا لو علمت كدا .. كنت حتلحق أمات طه يا مهند!)

وانفجرنا ضاحكين إلا أن عشرات الأعين الدهشة لرواد الكازينو جعلتنا نلوذ بضحكٍ مكتوم
- ( لاكين بي صراااحة كدا .. الشيب أداكي جمال فوق جمالك بقيت حلـ..)!
- ( ما تكبر لي راسي ساكت .. أقوم اصدقك!). قاطعتني في خفوت، فأوميء لها هامساً:
- ( بيني وبينك .. المرة دي صدقيني بقيت حلوة شديد .. ساحرة عديل .. الحقيقة مش الشيب براهو .. توب الزراق دا برضو عامل مساعد .. " الزراق فوقا تقول .. حرير"!) (1).

طأطأت رأسها في خجلٍ بالغ، كان الدم يسري من تحت بشرتها البيضاء، ويصب عند خديها، فيحيلهما حديقتين من الورد. وترتعش شفتاها ارتعاش فراخ الطير أوان ريح باردة بعد انقطاع مطرٍ ليلي. ترتعش شفتاها، فأحس بجيش نملٍ عرمرمٍ يسري في جسدي من رأسي حتى أخمص قدميّ. وأنا أرقب ارتعاش شفتاها. أحك عنقي، وعيني بشفتيها المرتعشتين.
- ( حتنز.. أحم أحم .. حتنزل مُعيد في الجامعة مش؟).
- (Was? Ich hö-;-re nichts!) . رفعت بصرها نحو قبل أن تقول:
- ( بالله العظيم يا مستهبل..!!. Du hö-;-rt mich klar!).
- ( ههههه فعلاً سمعت كويس .. كدي خليني من الجامعة هسع .. وسيبيني مُعيد في ميرندا!).
- ( يا ود .. أمورك دي لسع ما بطلتها؟!) جاوبتني بخجل
- ( ياريت .. ياريت). جاوبتها.

حملت أنظارها الخجلة بعيداً عبر النافذة، حيث كان النيل يستلقي خارجها، كان فنجان القهوة في طريقه إلى شفتيها. عندما توقف فجأة قيد انملة منهما .. انحسر الزراق شيئاً فشيئاً عن رأسها واستقر فوق كتفيها. اكتشفت أن هنالك وحمة تعلو عظمة ترقوتها اليمنى.

دققت النظر، أكاد أقسم أن الوحمة تحمل خارطة بلدي. ألح علي سؤال فألقيته بين يديها:
- ( إنتي يا ميرندا .. خالتي التايه لمّن جابتك .. كانت متوحمة (2)علي شنو؟!)
أسفت على ضياع سؤالي، لقد كانت مستغرقة في التحديق إلى النيل. اشتممت رائحة الغيرة، بحثتت عن مكمنها بداخلي فلم أحدده. بحثت حولي عن رندا الحاضرة الغائبة. وجدتها ترخي قبضتها رويداً وريداً عن فنجان القهوة. أمسكت الفنجان ويمناها.. شهقت قبل أن تؤوب عيناها إلىّ وتترك النيل مستلقياً خارج نافذتها.
- ( رندا .. سرحت وين؟!).
- ( آه يا مهند .. الحال لسع زي ما هوّ .. كل يوم .. الحال زي ما هوّ .. خسارة ما بستاهل؟!).
اتنحنح، أحاول ان ازدرد ريقي فلا أجده، تطبق العبرة على حنجرتي. أشعر ان صوتي يناظل وهو يشق طريقه من جوفي حتى يصل أذنيها الجميلتين.
- (عايني يا رندا .. أحم أحم .. نف نف .. آآآه .. بتتفقي معاي انو العهد دا احسن من القبلو؟ ).
- ( آأي .. بس ياهو سودانا القديم زااااتو).
- ( يعني؟)
- ( يعني دا ما سودانا " البنحلم بيهو يوماتي"! (3). بي اختصار يا مهند ، حصل تغيير شكلي بس!).
- ( لا تغيير شكلي ولا حاجة .. يا ميرندا إحنا دايرين زمن أطول من كدا، عشان يحصل التغيير العايزاهو!).
- ( زمن قدر شنو؟!!).
- ( يعني .. قدر الفترة اللي حددا حزبنا للتغيير المجتمعي).
- ( أوف ... انا غايتو ما متفائلة نهائي!)
- ( عديل كدا !).
- ( أيوه)
- ( الله يعدل الحال .. الله يعدل الحال يا ميرندا!).

ارتشفت رشفة من فنجانها، نظرت إلى فنجاني وجدته فارغاً إلا من القهوة. أرجحته عابثاً ذات اليمين وذات اليسار، لما استقر نظرت فيه ملياً. كانت خارطة بلدي تشغل حيزاً بعرض الفنجان وقد اتخذ نهر النيل فيها لون القهوة ورائحتها.
رفعت بصري عن فنجاني، ابحث عن خارطة أخرى لبلدي على جيد رندا، حال الرزاق بيني وبين الخارطة الأخرى، سموت فوق جيدها حتى انتهيت إلى عينيها.

كانت عيناها عبر النافذة تحدق في مركب صنع من خشب السنط، شاله النيل الابيض إلى توتي، فلامس أديم الجزيرة الوسنانة. كانت رياح أمشير الباردة تصفع خد النيل الأيمن فيدير لها خده الأيسر..

اكتست ملامح رندا بحزن مباغت، أتراها رثت لحال النيل أو لحال توتي؟ أرثت لحالي أم لحالها، أو لحال هذه الأرض التي انجبتنا.

طفر الدمع من عينيها الفاتنتين، وددت لو خبأت دمعها بمنديلي، لكنني فضلت أن اجعل من صوتي حبلاً ينتشلها من احزانها.. غير أن حبالي الصوتية خذلتني. تحركت شفتاها، كلي آذان صاغية .. واسمعتني شيئاً من اشعارها الأسيانة. تدحرجت دمعتان من مقلتيّ، وسقطتا على تلك الورقة التي تحمل عطر قصيدتها وعطر امدرمان على ايامنا.

رميت ببصري عبر النافذة، كانت الريح تعوي في الخارج، عواء ذئابٍ جائعة، ونار المدفأة في الرمق الأخير. وضعت بضع أعوادٍ من الحطب الجاف على نارها، فسمعت لها صوتاً كالتشفي.

تحاملت على نفسي، ووقفت من خلف النافذة ارقب الشارع، وقد غطته الثلوج وكلماتها لا زالت تقرع ناقوس ذاكرتي.
- ( يا مهند .. تمشي وتجي بالسلامة . وأنا مستنياك حتى كان جيت بعد مية سنة، حتلقاني ياني رندا الخليتا وراك!).
- ( الخليتا وراك!!. هسع ما بتخجلين تقولي لي كدا وأنا مسافر.. أنا ما خليتك وراي .. أنا بخليك معاي شقيش قبلتا (4).. انت عارفة ، خايف لما أصل هناك، خايف ألقاكي وصلتي قبلي!!).

ضحكت، مبالغةً نوبة بكاءٍ مباغت، ثم تمالكت نفسها وقالت لي وابتسامة تعلو شفتيها الصغيرتين، بعد أن مسحت حبات دمع اطلت من مقلتيها:
- (بكّاااااش.. غايتو انتو يا الرجال، الواحدة فينا .. ما بتطلع منكم لا بي حق ... لا بي باطل!!).
- ( أيوه .. لكن بعد دا كلو ما بتخلونا بي أخوي وأخوك!).

يتسيدنا الصمت المرتقبل للحظات قلائل بدت لنا أجيال. قبل أن امد لها يدي مودعاً، وأحاول أن ارسم ابتسامةٍ على شفتيّ، وانجح في مسعاي وإن احسستها ابتسامة باهتة وقد وجدت ارتعاشت كفها بكفي، فتخنقني العبرة وطعم الدمع بحلقي اتذوقه. انادي صوتي فيتثاقل إلى جوفي، ثم لا يلبث أن يستجيب:
- ( أها .. أديني خاطر.. أحم أحم .. أديني خاطرك وإن شاء الله نتلاقى في ساعة خير.. أوعك تنسيني وخليني في بالك طوالي!).
- ( هو أنا .. آآآه .. هو أنا بقدر انساك .. انت روحي .. في زول بنسى روحو يا حبيبي!!).
- ( أيوه كدا طمنتينا .. يلا .. باي، يا ميرندا!!).
- ( مهند!!)
- ( روح مهند .. زاتو!).
- ( أنا خايفة!).
- ( ما تخافي!!).
- ( أنا خايفة عليك!).
- ( من شنو؟!!).
- ( خايفاهم . يلقوك!).
- ( يلقوني!!.. دا عشم الكلب في موية الإبريق! ,, يا ميرندا يا حبيبتي .. يا روحي أنا، دي ما أول مرة اختفى فيها وانت عارفة كدا!).
- (........)
- (.......)
- ( أوكي .. توعديني إنك .. تذكّرني؟!)
- ( أوعدك)
- ( مهند!)
- ( وحياة الله , ما بنساكي!).
- ( مهند..!)
- ( آآآه.. روح مهند زاتو!).
- ( بريدك!!).
- ( يا الله ... الكلمة دي انا كنت راجيها من قبيل .. خستمك بالرسول .. ههههه .. النبي فوقك كان ما قلتيها تاني يا ميرندا ياختي . هههههههه).
- (آأي .. أضحك .... ما هاميك، انت حتكون مدّسي في أمانة الله.. وأنا بي جاي .. في وش المدفع، كان زول ساكت في الشارع كُورك .. حيسألوني كورك ليه!!.. كان واحد نضم في الشارع حيسألوني الحفظو الكلام دا منو؟. كان زول سب الحكومة حيعتقلوني أول حاجة بعدين ...).
- ( أفّو .. بت الزبير باشا رحمة، تخاف من الحبس .. هلاّ هلاّ ما يسمعك عمي السنوسي!).
- ( انت عارفني كويس يا مهند ، ما أنا البت البتخاف الحبس!).
- ( عارفك " أنثى ولا دستة رجال" (5). انا بس داير اغيظك شويه يا ميرندا!!).
- ( كويس يا غيّاظ .. مقبولة منك!. بس عشان انت مسافر).
- ( أها .. كان ما كنت مسافر كنتي حتسوي شنو؟)
- (بتعرف لمن ترجع ليّ بالسلامة!).
- ( .......... )
- (............)
- (يلاّ !!.. ودعتك لي الله يا ميرندا!).
- ( طيب يا مهند .. الله يكتب ليك في كل خطوة سلامة.. وسلم ليّ علي المعاك!!).
- ( يبلغ إن شاء الله .. وإنتي كمان سلمي ليّ علي.. اسما .. قبيل جيت أودعا، لقيتا مافيشة!)
- ( الغريبة اسما .. دي لحدي الضهرية، كانت قاعدة في بطن البيت... إلا تكون مشت لي مها صاحبتا ).
- ( جايز .. آأي وبالله، كان خالد أخوك ضرب تلفون، سلمي ليّ عليهو شديد، وعليّ عمي السنوسي وخالتي التايه.. ربنا يرجعم من مصر بالسلامة !. ).
- ( إن شاء الله ).

جلبةُ بالجوار، لرهط من نزلاء العمارة هابطين في طريقهم لأعمالهم، تأتيني فتنتشلني من يم الذكريات انتشالاً، آه إنها الغربة من جديد، لكنها هذه المرة غربة روحٍ وبدن.

شردت ببصري حزيناً نحو ( الراين ) كانت اوراق الحور والصفصاف برتقالية اللون، صفراء اللون، حمراء اللون، تتساقط من علٍ لترتطم بالأرض الباردة، فتذكرني بارتطامي بإحدى زنازين سجن كوبر (6). وتحمل الريح التي تعوي عواء ذئاب جائعة، الاوراق التي جفت من اشجارها، كما حلمتني غربة الروح ذات أصيلٍ خريفي إلى غربة الروح والبدن.

كانت امدرمان في ذلك الأصيل فاتنة جداً، رغم سنوات الأسى والحسرة والذل .. رغم سنوات الكِبر، كانت رندا، امرأةً بأفكار مجنونة، امرأة مهووسة بحواري المدينة القديمة وأزقتها. كنا نتسكع بطرقاتها ذلك الأصيل، وقد بدأت غيوم السماء في الانقشاع، مخلفةً حبات مطرٍ هنا وهناك.

انحنت رندا قامتها وقبلت مكاناً بالبوابة فلم اتعجب، إنها امرأة مجنونة أفكارها على كل حالٍ!.
- ( شايف المحل السلمت عليهو دا .. هوّ محل عناق طوب السور للبوابة!!.. عاين .. شايف هناك!).
- ( وين؟)
امسكتني من يدي وقادتني لمنتصف البوابة وعلي بعد اقدام من مدخلها
- ( الحته الواقفين فوقا دي ، ... أيوه دي ... كان عم عبد القيوم قاعد فوق كرسي!!).
كانت مولعة لحد الجنون بالنسوان المشلخات. تقول:
- ( هن جعليات لأنهن اتشلخن بدون بنج، ومافيش واحدة فيهن قالت: واي ).

تحدثني عن الترابلة والشغيلة والكادحين، فتشجيني، تحدثني عن ضياع الشماشمة في زحام المدن المزدحمة أوساخاً، وعن ضحايا الحروب الأهلية بالجنوب، وعن أطفال يبيعون السجائر ويدخنونه وآخرين يبيعون الماء في بلدٍ النيل العظيم فتثير سخطي على الحكومة فأسبها.

قالت لي ساعة تجلي ذات نهارٍ غائط من نهارات صيف امدرمان:
- ( تعرف .. أمدرمان زي المانيا).
- ( نعم.. نعم !!!!! .. امدرمان برااااها ، زي المانيا، يعني ما السودان كلو!!).
- ( لا .. لا .. أنا قاصده الكلام القلتو .. أمدرمان زي ألمانيا!).
- ( كيف؟!!!).
- ( أيوه سألتني .. كويس وكت ألمانيا انهزمت في الحرب الأمبريالية التانية .. قامت النسوان الألمانيات بنوها طوبه .. طوبه.. اشتغلن مُونة .. اشتغلن في الطوابين .. اشتغلن في المصانع .. بي اختصار كدا .. اشتغلن في كل شيء لانو الرجال كانو في الحرب... يلاّ حبوباتنا وأماتنا .. نسوان سوق الطواقي، هن اللي قامت امدرمان على اكتافهن بعد مجاعة سنة ستة (7)، أها إيه رأيك؟ .. امدرمان زي المانيا ولاّ ما زيها؟!).
- ( والله افتكر .. إنو كلامــ...).

خشخة من تحت الباب، ترديني إلى واقعي وتجتاز بي المسافة الفاصلة بين السودان وألمانيا، عدد من صحيفة Der Welt دفع بها صبي الصحف من تحت باب شفتي ومضى، مشهد يتكرر كل صباح. اطالع مانشيتات الصحيفة، فأرتد إلى الماضي من جديد.

- ( مهند .. يا مهند .. عاين ، جريدة جديدة صدرت الليلة، اسمها السودان الجديد).
- ( كدي!)
- ( هاك .. دا عددك ودا عددي).
- ( مشكورة يا ستي .. عارفة إنتي زولة رايعة. وكان مفروض أكون زيّ وزي الناس البحبو .. اقرأ ليك الشعر، وأعلق علي تسريحة شعرك، وعلي ذوقك في اللبس، لاكين حظك كعب .. وقعك في زول لا شاعر . لا بحفظ شعر .. اللهم إلا الشعر بتاع أركان النقاش في الجامعة، زول غير السياسة ما فالح في شيء! ).
- ( ولا يهمك يا عسل ! .. حظك أكعب من حظيّ، الله أداك زولة لا شافت رقة البنات، ولا سمعت بيها، واحدة بالها بس في ندوات الحزب وسياسات الحزب اللي عايز يرفع بيها رجل افريقيا المريض دا من رقدتو الطويلة دي!).
- ( ميرندا .. إنتي مجنونة .. مجنونة عدييييل,, وعشان جنك داك ، أنا حبيتك! )

كو .. كو .. كو .. طرقات ثلاث على باب شقتي، أعادتني إلى حاضري مجدداً، تقدمت نحو الباب، فتحت .. لا أحد. وجدتي انظر إلى الأرض دون مناسبة، مظروف ورديّ اللون مستلقي على البلاط امام الباب، لابد أنه من رندا فتحت المظروف على عجلٍ بعد ان قفلت راجعاً، قرأت عيناي البرقية ذات اللون الوردي:
( بعد التحية،،
( عازة) دايرة تلد.. إن شاء الله تجيب (ولد) .. أديني البشارة.
ملحوظة:
امدر بتسلم عليك ....
التاية،،)

أخيراً .. الحمد لله ، لقد انتظرت برقيتك كثيراً، ولكنك لم تخذليني كعادتك يا رندا .. تناولت مظروفاً اخضر من خزانتي وكتبت بداخله على ورقةٍ صغيرةٍ خضراء اللون

( بعد التحية،،
مش قلت ليك (عازة ) دايرة زمن حتى تلد، إن شاء الله تكوني هسع قاعدة جنبها ومتفائلة كمان ..
ملحوظة:
اتمنى بشارتك وأنا أقول ليك شبيك لبيك ..
الماظ،،)

ادخلت البرقية بداخل المظروف ومضيت نحو الباب، فتحته، وامتدت عنقي خارجه، ادرتها ذات اليمين وذات اليسار. ثم وضعت مظروفي واغلق باب شقتي خلفي. بعدها بقليل امتدت يد احدهم وتناولت مظروفي بعد ان نقرت بابي ثلاث نقرات.


مزمل الباقر
امدرمان في 11 مايو 1999م


(1) الزراق فوقا تقول حرير : هو مقطع من أغنية للفنان محمد وردي من كلمات الشاعر اسماعيل حسن تحمل عنوان( القمر بوبا).
(2)الوحمة: هو الخال أو الشامة. يعتقد كثير من السودانيين ان المرأة في فترة الوحم إذا توحمت علي شيئاً أي اشتهت شيئاً تأكله ولم تجده ولد مولدوها وهو يحمل على جلده خالاً أو شامة لها نفس شكل الشيء الذي اشتهت امه ولم تأكله.
(3)وطنا البنحلم بيهو يوماتي : شطر بيت شعري بقصيدة للشاعر محجوب شريف، لأغنية تغنى بها الفنان محمد وردي
(4)شقيش قبلتا: حيثما توجهت. وكلمة: شقيش مستخدمة بكثرة في عامية أهل كردفان ودارفورفي غرب السودان للدلالة على المكان أو الوجهة وتارة أخرى تسخدم في السؤال بمعنى : إلى أين؟.
(5)انثى ولا دستة رجال: شطر بيت شعري بقصيدة للشاعر محجوب شريف
(6)سجن كوبر: من اشهر السجون الموجودة بالخرطوم، ومعظم الساسة السودانيين اعتقلوا فيه. ويقع بحي كوبر بمدينة الخرطوم بحري
(7)مجاعة سنة ستة: هي المجاعة الشهيرة التي حدثت سنة 1306هـ . في عهد عبد الله التعايشي خليفة الإمام محمد أحد المهدي ومؤسس مدينة امدرمان



#مزمل_الباقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مستعمرة قديمة
- إيه آخرتا
- وردة حمراء من أجل مارغريت
- يا أمدر .. يا حلوة
- الشرفة
- العمدة أحمد الرفاعي ( 5 – 5 )
- العمدة أحمد الرفاعي ( 4 – 5 )
- العمدة أحمد الرفاعي ( 3 – 5 )
- العمدة أحمد الرفاعي ( 2 – 5 )
- العمدة أحمد الرفاعي ( 1 – 5 )
- كنخلة جاءت إلى النيل حزينة
- الغرباء
- بابك .. قفلتو
- تفاصيل مقتضبة
- طيفك
- س. ج.
- البسوس .. وصديقي .. وأنا ( مناحة .. على قبر صديقٍ .. حي)
- من يوميات الناس التحت
- طيف
- اعتراف


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مزمل الباقر - امرأة بأفكار مجنونة