أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - سمفونية اللون - للمخرج قاسم حول: شريط يجمع بين تقنيات الفيلم التسجيلي والثقافي والفني















المزيد.....


سمفونية اللون - للمخرج قاسم حول: شريط يجمع بين تقنيات الفيلم التسجيلي والثقافي والفني


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1189 - 2005 / 5 / 6 - 10:59
المحور: الادب والفن
    


انتبه بعض المخرجين السينمائيين العراقيين منذ زمن مبكر إلى أهمية الفن التشكيلي، وحاولوا توثيقه بالقدر المستطاع. ففي عام 1962 أنجز المخرج فكتور حدّاد فيلماً عن نحّات العراق الشهير جواد سليم، إذ صوّر مراسيم تشييعه، ووثّق التفاصيل الدقيقة لمحترفه الفني، والحيّ الشعبي الذي عاش فيه، ثم ركّز كثيراً على أثره الفني الخالد " نُصب الحرية "وكشف عن كيفية انغماسه في مراحل عمله المختلفة. وفي عام 1977 أنجز المخرج طارق عبد الكريم فيلماً تسجيلياً بعنوان " تماثيل بغداد " إذ رصد كل التماثيل الموجودة في مدينة بغداد آنذاك، وركز على أهميتها الفنية والجمالية. وفي عام 1978 أخرج صبيح عبد الكريم فيلماً تسجيلياً عن الفنان فائق حسن صاحب الجدارية ذائعة الصيت " جدارية فائقة حسن " والتي تقع في الطرف الآخر من حديقة " الأمة " التي تحتوي " النصب والجدارية معاً ". وقد توقف المخرج عند أبرز المراحل المهمة في تجربة فائق الفنية من بينها توظيفه للحياة البغدادية في منجزة الفني. وفي عام 1985 أنجز صبيح عبد الكريم فيلماً وثائقياً بعنوان " جذور الفن التشكيلي في العراق " تحدث من خلاله عن مراحل ظهور الفنون التشكيلية في العراق، ثم عرّج على أبرز التجارب الفنية في السنوات اللاحقة. وفي عام 1989 أنهمك المخرج علي صاوي الحسون في فيلمه الموسوم بـ " سمفونية الضوء واللون " والذي تمحور حول " مهرجان بغداد العالمي للفن التشكيلي ". وفي العام ذاته أنجز علي صاوي الحسون فيلماً وثائقياً آخر حمل عنوان " حكايات تشكيلية " والذي يتحدث عن حياة النحات اسماعيل الشيخلي، وموجز عن رحلته إلى فرنسا، وتجاربه النحتية الجديدة في العراق. وفي العام ذاته أيضاً أنجزت المخرجة خيرية المنصور فيلماً بعنوان " الأنامل الساحرة " وهو يتحدث عن الفن التشكيلي النسوي في العراق، كما توقفت في هذا الفيلم عند أبرز الفنانات التشكيليات العراقيات. وفي خارج العراق رصد المخرجون العراقيون بعض التجارب الفنية، إذ أقدم قاسم عبد على إخراج فيلم " حقول الذرة الغريبة " الذي يتمحور حول تجارب عدد من الفنانين العراقيين المقيمين في إيطاليا. وفي عام 1999 أنجز محمد توفيق فيلم " شاعر القصبة " الذي تناول فيه تجربة الخطاط والفنان محمد سعيد الصكار. وفي عام 2001 انتهى جمال أمين من وضع اللمسات الأخيرة لفيلم " جبار " الذي يدور حول تجربة الفنان التشكيلي جبار سلمان المقيم في النرويج. وفي العام ذاته أنجز المخرج قاسم حول فيلماً تسجيلياً بعنوان " سمفونية اللون " عن بينالي الشارقة في دورته الخامسة عام 2001. وهناك أفلام تسجيلية أخر عالجت موضوعات الفن التشكيلي لا يتسع المجال لذكرها الآن.
آلية التلّقي بعيون إماراتية وسودانية
هناك مداخل عديدة لاستجلاء الأبعاد الفنية، والفكرية، والجمالية لفيلم " سمفونية اللون " للمخرج قاسم حول، فهذا الفيلم رغم كونه تسجيلياً إلا أنه يتمرّد على هذا التوصيف النقدي، ويحطّم الإطار الذي يقيّده ضمن جنس فني محدّد ليطلقه في فضاء ثقافي أعمل وأشمل يتعاطى مع جماليات التكوين التشكيلي والسينمائي على حد سواء. ويقرأ في الوقت ذاته طبيعة العلاقة المتداخلة التي تربط بين التشكيل والسينما. ولا يخفى على المتتبعين للسينما، والمولعين بها بأن هناك عدداً كبيراً من المخرجين والمصورين السينمائيين قد أفادوا من بنية التكوين التشكيلي بما ينطوي عليه من ثيمة، وخطوط، وألوان، وإضاءة، وزوايا نظر، وما إلى ذلك من مكونات داخلية لمتن التكوين التشكيلي، ومنظومته الجمالية متعددة المستويات. وسنكتفي بالإشارة إلى بعض أولئك السينمائيين من دون الولوج في التفاصيل الدقيقة لطبيعة هذه العلاقة المتداخلة بين هذين النوعين الفنيين اللذين يغذيان بعضهما البعض، فلقد تأثر المخرج الأمريكي روبن ماموليان بالعديد من الأعمال الفنية لموريللو وآل غريكو وغويا. كما أفاد تاركوفسكي من دوشيو وبوتشيللي، وتأثر ديفيد لينش بفرانسيس بيكون، وهنري روسو، ورمبرانت، وأعرب بيتر غرينوي عن إعجابه منقطع النظير بأعمال فيرمير، وتقنياته الفنية. ونتيجة لهذا الإعجاب فلقد كرَّس بعض المخرجين جزءاً كبيراً من وقتهم وأنجزوا أفلاماً سينمائية مهمة مستوحاة من حياة بعض الفنانين العظام، أو من أعمالهم الفنية التي رسخت في الذاكرة الجمعية للناس. فلقد اخرج فينسنت مينللي عام 1956 فيلماً عن الفنان الهولندي فنسنت فان خوخ بعنوان " شهوة إلى الحياة "، وهو ذات الاسم الذي تحمله واحدة من لوحاته الشهيرة. كما أخرج جون بيرالي فيلماً عن الرسام روسو بعنوان " نزهة ساحرة ". وأنجز ديريك جارمان فيلماً عن كرافاجيو عام 1986 وأفلام أخر كثيرة تناولت حيوات الفنانين، وإبداعاتهم، وأساليبهم الفنية. لنعد إلى " سمفونية اللون " موضوع بحثنا ودراستنا النقدية، فهو لا يقتصر على حياة فنان أو منجزه الفني حسب، وإنما يتناول حدثاً فنياً وثقافياً كبيراً هو " الدورة الخامسة لبينالي الشارقة الذي أقيم عام 2001 " حيث تجولت عدسة قاسم حول في أروقة " متحف الفن المعاصر، والمركز العربي للفنون ". وكما هو معروف فإن هذا البينالي يضم أعمالاً فنية لفنانين عرباً وأجانب. وبالرغم من أن المخرج قد تحرك على وفق المساحة الزمنية المتاحة للفيلم وهي " 45 " دقيقة إلا أنه توقف عند العديد من الأعمال الفنية القديمة والحديثة، فهناك أعمال فنية كلاسيكية لرمبرانت مثلاً، وأخرى للفنانة الباكستانية " مسارات " وثالثة للإيرانية أفشان كتابجي، هذا إضافة للفنانين العرب الذين توقف عندهم لمدد زمنية مختلفة، كل حسب تجربته، وطبيعتها، وأهميتها في المشهد التشكيلي العربي ومن بينهم الفنان الإماراتي عبد القادر الريس، والسوداني راشد ذياب، والعراقي رافع الناصري، والسوري " الكردي " جهاد موسى. كما تجول بنا المخرج في أكثر من بلد عربي، ففضلاً عن الإمارات، انتقلت الكاميرا إلى مصر، والسودان، والعراق، وسوريا، وفلسطين، وقدمت لنا كماً هائلاً من الوقائع والأعمال الفنية بعضها يعود إلى أيام الاحتلال الفرنسي لمصر، وبعضها معاصر ما تزال تفوح منه رائحة الألوان الطرية. كما تجولت الكاميرا في أهوار العراق " عبر لقطات ومشاهد مُصورة قديماً " ثم انتقل أيضاً إلى ضريح " السيدة زينب " في سورية، وما ينطوي عليه هذا الضريح من إشارات ورموز مهمة سنتوقف عندها لاحقاً. ويبدو أن المخرج قاسم حول قد ركّز في هذا الفيلم تحديداً، على " آلية التلّقي " وكيفية استقبال المرأة العربية للمنجزين الفنيين العربي والعالمي. في هذا الفيلم رصدت الكاميرا فتيات إماراتيات يتجولن في أروقة البينالي، غير أن التركيز قد جاء على ثلاثة منهن، ثم اقتصر على فتاة واحدة كانت تحمل ملامح جمال غامض وغريب، وكأنها هي المعنية بفعل التلقي بعد أن تضاءل حضور الفتاتين اللتين يقاربنها في السن وفي تذوّق الأعمال الفنية والانشداد إليها. لم يأتِ هذا التركيز بشكل اعتباطي، وإنما جاء نتيجة تأمل مدروس، فالأنثى هي إلهة الجمال في كل الأساطير القديمة. وقد أراد لنا المخرج أن نرى سمفونية اللون، ونستمع إلى رنينها من خلال عيون فتيات حسناوات هنّ أقرب إلى الآلهة منهن إلى النساء العاديات. كما أراد المخرج أن ينوّع في آلية التلقي لذلك أنتقل بنا إلى السودان، ومن خلال عيني المرأة السودانية الجملية " أو الإلهة الأفريقية السمراء " التي تطيل النظر إلى الأعمال الفنية جعلنا نرى لوحات الفنان أحمد شبرين، وأحمد عبد العال، وراشد ذياب. وعلى رغم أهمية هذه الانتقالة، والتنويع على شخصية المتلقية، إلا أن الفتاة الإماراتية تظل هي العنصر المهيمن في آلية التلقي. وتتجلى أهمية هذا الحضور الطاغي عندما يتحدث الفنان السوري الكردي جهاد موسى عن لوحته المستوحاة من ذاكرة الطفولة، حيث البراءة والنقاء والصفاء الروحي في قريته التي تشبه الفردوس السماوي الذي دخله الإنسان ثم خرج منه بعد أن تناول الثمرة المحرمة. وبطريقة ذكيه يزاوج المخرج قاسم حول بين خروج الإنسان من الجنة، وبين خروج الفتاة الإماراتية المتلقية للأعمال الفنية العربية والعالمية من البينالي، وكأنه يقول لنا بلسان فصيح أن الإبداع الفني هو فردوس آخر، وعلينا أن نعيش بين جنباته أو في جواره على الأقل. هذه النهاية المحكمة، والمدروسة توحي لنا بأن المخرج قد اعتمد بنية القصة السينمائية المحبوكة التي تحاول أن تقول شيئاً آخر لا يستطع الفيلم التسجيلي أن يقوله ضمن توصيفاته وشروطه الصارمة. من هنا يمكننا القول بأن هذا الفيلم، هو فيلم تسجيلي من جهة، وثقافي من جهة ثانية، ولا يخلو من حبكة وتقنيات الفيلم الروائي من جهة ثالثة.
الأبعاد المعرفية والمعلوماتية لسمفونية اللون
يهدف أي فيلم تسجيلي إلى تزويد المُشاهد بكمٍ كبير من المعلومات المعرفية المفيدة التي تتعلق بالموضوعة التي يعالجها الفيلم، غير أن فيلم " سمفونية اللون " يبتغي رفد المشاهد بالمعلومة المقترنة بالمتعة البصرية، والخطاب الجمالي، إضافة إلى بعض الإحالات المثيولوجية التي حاول المخرج أن يلامسها عبر رؤية حقيقية ومجازية في آن معاً. هذا إذا ما استثنينا التقنيات واللُعب الفينة التي أثْرت الفيلم مثل تقنية المزج والإستيلاد كما حصل في مفتتح الفيلم حينما تناهى إلى سمعنا صوت الكمان ثم تكشفت لنا صورة كلاسيكية لعازف الكمان. أو حينما رأينا لوحة فيها لقلق، ثم تناسلت هذه اللوحة إلى مشهد حقيقي لعدد من اللقالق التي تخوض في مياه الهور. كما سبق لقاسم حول أن استخدم هذه التقنية في فيلمه ذائع الصيت " الأهوار " وبقية أفلامه التسجيلية الأخر. يثير هذا الفيلم، مثلما يثير أي فيلم تسجيلي تتمحور فكرته حول الفن التشكيلي، إشكالية في التلقي، فالمعروف أن العمل الفني سواء أكان لوحة أو منحوتة أو عملاً إنشائياً " يأسر الحركة والزمن " ويحتاج المتلقي إلى وقت، قد يطول أو يقصر، للاستغراق في تفاصيله، والتأمل في مكوناته الداخلية التي شكلّت متن العمل الفني، بينما لو صادف المُشاهد العمل الفني نفسه على الشاشة الكبيرة فإن فرصة التأمل والاستغراق ستسقط حتماً لأن الزمن السينمائي يختلف عن الزمن الواقعي، ولا يمنح المتلقي أية فرصة لإطالة النظر التي قد تفضي إلى تحقيق المتعة البصرية. ويتفق أغلب المخرجين بأن السينما هي فن الواقع بامتياز، بما فيهم المخرج قاسم حول. وقد أكدّ بازوليني ذات مرة قائلاً بأن " الكلمات هي رموز للواقع، ولكن السينما هي الواقع. " وكلنا يعرف جيداً بأن العمل التشكيلي ليس مطابقاً للواقع حتى وإن حاول الفنان استنساخه أو نقله نقلاً حرْفياً، فلا بد أن تكون هناك فروقات تميّز الصورة عن الأصل. ولا أريد هنا أن أتوقف عند أوجه التشابه والاختلاف بين طبيعة التكوين السينمائي والتكوين التشكيلي، ولكن تقتضي الإشارة إلى أن بعض السينمائيين قد تأثروا بالتكوينات التشكيلية وأفادوا منها كما ذكرنا سابقاً، وربما تكون السينما التعبيرية هي أصدق مثال للإفادة من " الرسم التعبيري " الذي مثلّته المدرسة التعبيرية الألمانية وعدد آخر من الفنانين الموزعين في مختلف أنحاء العالم. في " سمفونية اللون " حاول شاعر السينما العراقية الفنان قاسم حول أن يضخ للمتلقي كماً كبيراً من الخطابات البصرية بعضها محلي، إذ شاهدنا أعمالاً فنية لجبر علوان، وفائق حسن، ورافع الناصري، وبعضها عربي مثل أعمال عبد القادر الريس، وطلال معلا، وعبد الكريم السيد، وأحمد شبرين، وأحمد عبد العال، وراشد ذياب، وجهاد موسى، وبعضها الآخر أجنبي من بينها لوحة " بائعة الخضار " العمل الكلاسيكي الهولندي، ولوحات لرمبرانت، وأعمال فنية استشراقية أغلبها ذات طابع ملحمي صعدّت من النَفس الدرامي للفيلم، إضافة إلى الأعمال الفنية للفنانة الإيرانية لأفشان كتابجي، والباكستانية " مسارات " وغيرها من الأعمال التي كانت تمر عليها عدسة التصوير في أثناء تجوالها في أروقة البينالي. وللتأكيد على أهمية المعلومات الفنية والنقدية، كمّاً ونوعاً، سأتوقف عند بعض من هؤلاء الفنانين والنقاد الذين عززوا قيمة هذا الفيلم على الأصعدة الفنية والفكرية والجمالية. فالمتلقي سيفهم في الحال بأن عبد القادر الريّس " المولود في دبي 1951 " قد مرّ بمختلف المراحل الفنية: الكلاسيكية، والرومانسية، والانطباعية، والتعبيرية، ثم انتقل لاحقاً إلى المذهب التجريدي، كنوع من التحدي الداخلي لأقرانه الذين تصوروا أنه لا يستطع أن يرسم سوى أعمال تقليدية تدور في الفلك الكلاسيكي. كما نكتشف لاحقاً أنه يزاوج بين الأسلوبين الواقعي الكلاسيكي والتجريدي، مع هيمنة للحس التعبيري الواضح في أغلب أعماله الفنية المتأخرة. ثم نعرف أن ولعه بالمدارس القديمة، كالكلاسيكية، والانطباعية قد انتهى في نهاية الستينات وبداية السبعينات عندما تحرر بشكل نهائي من القيود المنهجية الصارمة، لكن هذه الحرية قد وفرّت له الفرصة لظهور بقع لونية ومربعات في أعماله الفنية مستمدة من مادة الحجر الملوّن الذي يستخرجه الإماراتيون من البحر، كما أن موتيفات الحجر الملون والأشكال الهندسية الأخر مستنبطة من المطابقة المنظورية للتراث المعماري المحلي النابع من الأبواب والنوافذ والأقواس والألوان المحلية وما إلى ذلك.
الفنان الثاني الذي وقع عليه اختيار المخرج قاسم حول هو عبد الكريم السيد، وقد تحدث السيد باقتضاب شديد عن المرحلة الأخيرة من تجربته الفنية والتي تتمحور حول الإنسان المجرّد من معالمه الخارجية الدقيقة، والمدينة المتلاشية التي فقدت ملامحها أيضاً بحيث أصبحت مجرد بقايا لذاكرة قد تبدو متعبة أو منهكة. وقد اعتمد كثيراً على المناخ الأبيض لمجمل أعماله الفنية. وهذا اللون يعكس من وجهة نظره الصفاء الذي تتمظهر فيه الأجواء الصوفية. قد تبدو إطلالة الفنان الفلسطيني عبد الكريم السيد مقتضبة، وربما كانت تحتاج إلى وقت إضافي لم يسمح به طول الفيلم " 45 ق " فهذا الفنان، مثل زميله السابق عبد القادر الريّس مرّ بمختلف المدارس الفنية حتى وصل إلى مرحلة التجريد اللوني المقترن بالخط القوي. ويذكرنا هذا الفنان بتجربته التعبيرية التجريدية التي كانت تعتمد على فيكر الإنسان أول الأمر، ثم انتقل إلى مشروع جديد هو " النخلة " حيث درسها كرمز واحد، لكنه توسع في التنويع عليها لاحقاً على الصعيدين التعبيري والتجريدي كما استخدم الكومبيوتر والفيديو في معالجة هذه الموضوعة، بينما كان يعالجها في السابق على وفق رؤية فنية واحدة أو أسلوب واحد. كما قام هذا الفنان " الطبيب " بدراسات على الضوء واللون من منظور فيزيائي وكيمائي استغرقه وقتاً طويلاً. ومن تقنياته أنه يستخدم السكين في مزج الألوان، والرسم على ملمس القماشة " التي تنوء بألوان سميكة " بطريقة تعبيرية تجريدية تتكئ على خلفية قاتمة، وضربات بألوان مشرقة أو مضيئة، كي تخلق تضاداً لونياً يجذب الانتباه. ولدى هذا الفنان تجربة مهمة نفذها في معرض أسماه " وجوه منسيّة " حيث اعتمد على اللون الأبيض ودرجاته، والأسود ودرجاته فقط، معولاً على التضاد اللوني، وما ينجم عنه من صيغة درامية، لكنه سرعان ما تخلى عن فكرة التضاد اللوني وعاد لكي يستعمل الأبيض كلون أبيض من دون تدرجات. ربما تكون الخطوط القوية للفيكرات الإنسانية هي الآصرة الوحيدة التي تربط بين التجربتين، وغالباً ما تمنح هذه الخطوط لوحته بُعداً غرافيكياً كنت أتمنى على المخرج قاسم حول ألا يفوّت مثل هذه الالتقاطات الذكية التي تستغور التجربة الفنية لأي فنان تشكيلي، وتتوقف عند أبرز المحطات في تجربته الفنية، ولا بأس بالاستعانة في فيلم من هذا النوع بناقد فني له باع طويل في هذا المضمار، ويعرف كل صغيرة وكبيرة عن تجربة الفنان التي يريد المخرج أن يضعها في دائرة الضوء. الفنانة الإيرانية أفشان كتابجي لم تقل شيئاً ينطوي على أهمية معرفية أو جمالية أو نقدية فقد اكتفت بتقسيم الفن الإيراني خلال القرن المنصرم إلى مرحلتين " ما قبل الثورة وما بعدها ". وقالت بأن " الفنان الإيراني ما يزال منهمكاً في الجانب التشخيصي الذي يحمل مؤثرات الفن الأكاديمي الغربي، أما الآخرون فهم يتطلعون إلى فضاء آخر، ويتوقون إلى نوع آخر من العمل الفني ". الفنان الإيراني، حسب وجهة نظرها، يوظف الثيمات الفارسية، ولكن الشيء الأكثر أهمية هو أن الفنانين الإيرانيين يستثمرون الثيمات التي تعتمد على تاريخ البلد. " ويبدو أن اللغة الإنكليزية لم تسعفها في التعبير عما يجول في ذاكرتها من رؤى وأفكار محددة. على أية حال لقد اختتمت الفنانة أفشان كتابجي حديثها بما معناه أن البيئة تلعب دوراً مهماً في الفن الإيراني، كما تلعب علاقة إيران في تعاطيها مع الموقف الراهن دوراً مهماً في خلق العمل الفني. وتظل هذه التصورات العامة عائمة، ولم تكشف شيئاً فيما يتعلق بتجربتها الفنية أو بالتجارب الفنية الأخر سواء المعروضة في بينالي الشارقة أو الموجودة في إيران، هذا البلد الغني في تراثه الفني، وفي انفتاحه على التجارب العالمية المهمة.
سأكتفي بهذا القدر من مراجعة وتقييم الحوارات التي أجريت مع بعض الفنانين، ومدى تأثيرها في سياق الفيلم، وسأعرّج قليلاً على آراء النقاد الثلاثة الذين تحدثوا في الفيلم لنرى طبيعة مساهمتهم النقدية، وحجم التأثير الذي خلّفوه في ذاكرة المتلقي. فطلال معلا، كما هو معروف فنان وناقد تشكيلي في آن معاً، ويُفترض أن يكون ملّماً أكثر من غيره في العملية النقدية التي تتعلق بالفن التشكيلي تحديداً. أشار معلا إلى أن الفن التشكيلي العربي بدأ بمحاولات فردية منذ معرض " حي الخرنفش " في مصر وحتى الآن. ثم قسّم المراحل التي مرّ بها الفن التشكيلي العربي إلى ثلاث مراحل، الأولى أسماها بمحاكاة الغرب، والثانية بـ " المحدثين " وهم الذين درسوا في أوروبا، ثم المبدعين الذين أفادوا من التراث العربي، وحرروا للوحة من إرثها الغربي، وأسسوا لمشاريع عربية خالصة. وفي إطلالته الثانية قال معلا كلاماً مهماً مفاده " أن الفن العربي يحاول اليوم أن يتخلص من ربقة الآيديولوجيات، و" نير " المؤسسات الحكومية ليكوّن له مشروعه الخاص مع بداية القرن الجديد.". وعند حديثة عن اللوحة الإستشراقية بصرف النظر عن الرأي الشعبي العربي بها " إلا أنها تشكّل وثيقة سياسية، وعسكرية، ومعمارية، وتراثية، فمن خلالها نعرف نوع السلاح، والمواد، والألبسة المستعملة، وطرز التصميم المعماري ." كما تحدث أن أهمية الرسامين المهرة، وخصوصاً أولئك الذين استقدمهم نابليون بونابرت في حملته على مصر، وأفاد منهم في رسم المناطق المحيطة بالنيل في وقت لم تتوفر فيه الكاميرا، ولم يكن فيه التصوير الفوتوغرافي متاحاً، بحيث جمع معلومات مفيدة جداً في مصر.
ثم توقف الناقد محمد الجزائري عند القرن الماضي برمته متسائلاً عن هوية اللوحة العربية، وهل تنتمي إلى بلادها أم إلى الآخر " الغربي تحديداً "؟ وقد قسّم المنجز الفني العربي إلى اتجاهين، الأول يتمثل في الانكفاء على الذات، والانغماس في التراث، والمثيولوجيا العربية. والاتجاه الثاني هو القطيعة مع التراث، والهروب إلى الآخر التجريدي تحديداً حيث المرجعيات المُستعارة ثيمة وتقنية وألواناً بحجة الاستجابة لمتطلبات السوق. ثم تحدث أهمية الصورة الفوتوغرافية، ودورها في إثراء بنية العمل الفني، ثم انطلق منها إلى الصورة الخبرية " التلفازية " ورسوخها في ذاكرة الناس حيث رأينا ضمن سياق الفيلم " إصابة محمد الدورة، واستشهاد ولده بين يديه " إلى أن ينتهي المشهد بوالدة محمد الدرة وهي تنتحب بمرارة ". ثم يُختتم المشهد بلوحة لامرأة تحتضن طفلاً وحمامة وقمر. الفنان رافع الناصري، والذي يكتب النقد الفني بين أوان وآخر، أكد بأن الفنان العربي كان يعبّر عن واقعه دائماً. وقد أشار إلى بدايات الفن في القرن الماضي، ووصفه بأنه " بسيط " ولكنه كان " يعبّر عن ذات الفنان، والواقع الذي يعيشه. " لكن الفنان الناصري لم يوضح لنا طبيعة هذا البساطة الفنية، فقد تكون اللوحة بسيطة لكنها عميقة فنياً، ثم كيف ينظر إلى الأجيال اللاحقة منذ منتصف القرن الماضي وحتى نهايته، خصوصاً وأننا قد شهدنا في العراق العديد من الأجيال الفنية المهمة في الخمسينات، والستينات، والسبعينات الخ، وقد قدّم هؤلاء منجزاً فنياً لا يمكن التغاضي عنه. ثم وصف الأعمال الإنشائية للفنانين العرب في مرحلة التشتت السياسي والثقافي والاقتصادي بأنها " ساذجة جداً " وطالب بالعودة إلى دراسة الفن العربي والعالمي من جديد مركِّزاً في إشارته على الفن الشرقي الموجود في الصين واليابان وتايلندا وأندونيسيا، حيث يرى فيه الناصري تلاقحاً فنياً ثراً بين التراث والمعاصرة. وهو يعتقد أيضاً بأن الفنان الشرقي محدث، ومعاصر، ويرسم لوحة " روحية " فيها أصالة وهوية واضحة، كما يؤمن بأن العودة إلى منابع الفن العربي ليست أمراً معقداً، ولا تكتنفه الصعوبة. لقد توقفت طويلاً عند الأبعاد الفنية والمعرفية والمعلوماتية لأكثر من سبب، ومن بين هذه الأسباب هي أنني أردت التنويه إلى أن موقف وكيل وزير الثقافة المصري آنذاك كان متشنجاً، وعدوانياً تجاه هذا الفيلم في الندوة التي أعقبت العرض، إذ تهجّم هجوماً شديداً، لا مبرر له على الصعيد الفني أو الفكري أو المعلوماتي، ولم يرَ في هذه السمفونية الحقيقة أي جانب إيجابي. كما أنني حاولت في متن هذه الدراسة النقدية التي تنتصف للفيلم فنياً وجمالياً أن أبيّن مكامن الجمال التي لم يرها وكيل الوزير تحديداً، ولم ينتبه لها بعض النقاد العرب الذين كانوا متواجدين سواء في وقت عرض الفيلم أو في أثناء المناقشة التي أعقبت العرض. ومن الجدير بالذكر أنني لم أتوقف عند التجارب الثلاث المهمة للفنانين السودانيين المعروفين أحمد شبرين وأحمد عبد العال، وراشد ذياب. كما أنني لم أتوقف عند بعض المشاهد المؤثرة التي يدور بعضها في العراق الذبيح أو في ضريح السيدة " زينب " في دمشق، فقد كان النسوة العراقيات يجلبن ثياب أبنائهن أو أزواجهن أو إخوانهن ليمسحن بها شباك السيدة زينب علها تحفظ هؤلاء الرجال الذين ساقتهم المقادير إلى ساحات الحروب العبثية، وخنادق الموت المجاني في إيران والكويت، وفي بعض المدن العراق التي تحولت إلى جبهات قتالية حقيقية. كما لم أتوقف عند المشاهد الصوفية الجميلة في السودان، وغيرها من اللقطات والمشاهد المعبّرة في مصر والعراق والإمارات. كل هذه المعلومات التي حشدّها المخرج المبدع قاسم حول، وكل هذه اللمسات الفنية التي طرّزت صفحات الفيلم، وكل هذه الآراء النقدية القيّمة لم تُثر اهتمام السيد وكيل الوزير، فماذا يثيره إذاً بعد أن عجزت " سمفونية اللون " عن إثارته أو وضعه في دائرة الترّقب والرهافة والحذر، حيث يقتضي استيعاب العملية الفنية والإبداعية أن يستنفر الإنسان حواسه الخمس، مضافاً إليها الحاسة السادسة، إن كان يتوفر عليها، كي لا ينطق عن الهوى، ولا يصرخ في بئر مهجورة.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الروائي بختيار علي لـ - الحوار المتمدن -: النص لا يخضع لسلطة ...
- في جولته الجديدة لكل من لاتيفيا وهولندا وروسيا وجيورجيا جورج ...
- التشكيلي سعد علي في معرضه الجديد - المحبة في مدينة الليمون - ...
- الملكة بياتريكس في يبويلها الفضي: لا نيّة لها للتخلي عن العر ...
- نزلاء حتى إشعار آخر - للمخرج فرات سلام: فيلم تسجيلي يقتحم قل ...
- المخرجة الإيرانية رخشان بني اعتماد: - سيدة أيار - إدانة صارخ ...
- التشكيلي ستار كاووش لـ ( الحوار المتمدن):أنا ضد المحلية البح ...
- المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد - سندباديون - أو - تيتانك ...
- جهاد أبو سليمان في فيلمه التسجيلي - أستوديو سعد علي -: رؤية ...
- أول امرأة هولندية تُصاب بجنون البقر، وتسبب هلعاً جماعياً
- المخرج العراقي ماجد جابر في فيلمه التسجيلي الجديد - المقابر ...
- الفنانة التشكيلية حنان عبد الكريم في معرضها الأخير: من الرمز ...
- الروائي العراقي اليهودي شمعون بلاص لـ - الحوار المتمدن -:عند ...
- الروائي اليهودي العراقي شمعون بلاص لـ - الحوار المتمدن -: نز ...
- الفنان سعد علي في معرضه الشخصي الجديد - الحب في مدينة الليمو ...
- التشكيلي زياد حيدر لـ ( الحوار المتمدّن ): اللوحة بالنسبة لي ...
- حفل لسيّدة المقام العراقي فريدة في دار الأوبرا في مدينة نايم ...
- أكرم سليمان في فيلمه الجديد - هلو هولندا -: دقّة المخرج في إ ...
- المخرج جمال أمين لـ - الحوار المتمدن -: شعوب الشرق الأوسط هم ...
- المخرج جمال أمين لـ - الحوار المتمدن -: الفيلم التسجيلي هو ع ...


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - سمفونية اللون - للمخرج قاسم حول: شريط يجمع بين تقنيات الفيلم التسجيلي والثقافي والفني