أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - الظلام















المزيد.....

الظلام


ممدوح رزق

الحوار المتمدن-العدد: 4112 - 2013 / 6 / 3 - 21:53
المحور: الادب والفن
    


أنت لا تراها الآن .. لكن ذلك لا يعطي أكثر من راحة قلقة، يائسة .. تشبه الاستلقاء المنهك فوق سحابة اُحتجزت للأبد داخل صورة فوتوغرافية لطائرة تقصف حضانة أطفال .. حتى وهي بعيدة، وربما خاصة وهي بعيدة عن ذهنك يزيد عذاب التفكير في حضورها .. الإدراك الثقيل، المخبوء كشوكة عملاقة ممتدة فروعها داخل كل مليمتر من جسدك .. هي موجودة في مكان ما قريب منك .. تذكير دائم لا تشفى منه ولا يقتلك نهائيا، يتوارى في كل انشغال بأمر لا يخصها .. لن تمر فترة طويلة حتى تعود إليك .. تدخل من باب الشقة ومعها ابنتكما، تطلب بأنفاس مقطوعة حمل الأكياس التي جاءت بها للداخل .. تصرخ في الطفلة التي تلاحقها لأخذ الشوكولاته من حقيبة يدها .. يختفيان معا في الردهة تاركة للفراغ الخالي من الهواء دليلا جديدا على أن الحياة تنكر فاضح لتحنيط كل رجل وامرآة فقدا الإيمان بكونهما استثناء .. حينما تغلق أنت الباب، وتذهب بالأكياس إلى المطبخ؛ لن تصطدم بحاملي دروع الفرسان والموسيقيين والحلاقين الذين يشتغلون بالجراحة ومحركي العرائس .. ستمر من خلالهم دون أي مشكلة.

ليست هذه ملامحها، وبالتأكيد ليس هذا صوتها بالضبط مثلما فقدت أنت عينيك وأذنيك منذ فترة طويلة .. لماذا فعلت هذا في نفسك .. الجزاء الذي ينتظر خالق ما؛ ليس حين يفشل في خلق ما يريد، ولا حين يعجز عن تحديد ما يريد خلقه، وإنما حين يظن أن بإمكانه أن يخلق فعلا .. تعيش الآن مع جثة تكونت من أشلاء جثث أخرى .. تسمع سعالها الخفيف المعتاد، المذيل بصوت تخليص حلقها من كتمان تعب اللوزتين الذي لا يفارقها .. لا تريدها أن تخرج الآن من الحجرة .. بالتأكيد كان هذا المشهد من ضمن التصورات التي صاحبت فكرة غاية في القدم عن صنع جحيم محكم: تجلس بجوارك أمام التليفزيون لتشتغل بمهارة وإتقان في قضم الجلد الميت حول أظافرها بصوت مقزز، مقترن بتحديق ذاهل من عينيها الجاحظتين لما يُعرض على الشاشة مع تعليقات واستفسارات سمجة تمدها إليك كأنها طرف حوار عادي ينبغي أن تلتقطه دون أن تنفجر أعصابك .. لا يأخذ الزمن رأي أحد .. يتكفل وحده بتجميع وتشكيل الجلود الميتة .. تسألك: لماذا تبتسم ؟ .. لا شيء .. فقط رأيت نساء حدادات وجامعي الدود وبائعي أصواف الأغنام وطبيبات شعبيات يعبرون الآن في طريقهم إلى الثلاجة .. هم يعرفون طريقهم جيدا.

أجزاء مهشمة من لعب كارتونية وبلاستيكية قديمة لها أوجه تشبه المرايا، وتتبادل رسائل خفية عن الفشل في فهم العمى الصخري لصمت أصبح نهاية لمعجزة عاطفية .. صمت عميق حد رؤية النعيم السماوي بوضوح من داخله، وحيث يمكن الاطمئنان المتواصل لخلود ملامح القاتل في وجه الآخر .. اللحظة المضحكة التي نأتي فيها من اتجاهين متقابلين، ونعبر بجوار بعضنا عند نقطة ما داخل البيت كغريبين تائهين في مكان لا ننتمي إليه .. حيث لا نلتفت إلى بعضنا، بل نمر في خرس محصن يتولى بدلا منا قول نفس الكلمات المحرَجة، الآسفة، التي لا تخرج إلا من ثقب صغير في قبر: ( هم الذين أتوا بي إلى هنا ) .. الكلمات التي بالطبع لا تخص العائلة فحسب، ولا تتنازل عن الصراع الضمني المتفق عليه لامتلاك النبرة الأعلى في الثأر .. اللحظة التي تُضحك البنّائون وكاتبو الخطابات للأميين وحارقو الجير وصانعو الأقمشة والورود والأحذية والقبعات.

لم تعد هناك حسابات يمكنها مجاراة الكوميديا المتدفقة من استمرار الأمنيات والتوقع والمطالبة بالتعويض أو التحرر أو محو الذاكرة .. النظر المرتجف، المتوسل من ثقبي بابين مغلقين حيث يصرخ كل واحد منا دون أن يراه الآخر أو يسمعه .. تأكل جسمها كأنك تبحث عنها وراء اللحم، أو تريد بهوس الاندماج والتوحد التام بآخر جمال تبقى منها .. لكن هياجك الشديد في سريركما يثبت ـ ربما دون قصد واضح ـ وضعها المجرد كامرأة لرجل .. درجة أهميتها أو الفائدة التي تليق بها، بشكل أدق الحقيقة الوحيدة المؤكدة التي تعطيها النساء خاصة زوجتك .. الثمن الذي تأخذه أنت بما أنك تدفع دائما من مرور الثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور والسنوات .. أنت تعطيها مقابل أيضا بذلك .. تطمئنها على أنوثتها كاعتذار عن كل ما لاقته منك طوال السنوات الماضية وأنتما بملابسكما .. درجة أهميتك أو الفائدة التي تليق بك .. كيف يمكن نسيان الأنقاض التي نحرص تلقائيا على الحفاظ عليها، بينما الموتى الذين ينظرون إلى كل منا في عيني الآخر لا يتبخرون .. الكارثة طبيعية جدا على أي حال، ويسهل معها إدعاء الشكل التقليدي لرفض الموت.. هذا ما يخبرنا به دائما الطباخون ومشغلو الرافعات ولاعبو النار والرواة الذين لا يكونون كذلك إلا باختراع كذبة جديدة لنفس الحكاية كل مرة.

كانت تتابع فيلم رعب بسرور وتركيز؛ الأمر الذي منعها من رؤيتي بينما استوقف امرأة قررت أن تكون ساحرة فعلا وهي في طريقها لاختبار الساحرات .. كانت مقيدة اليدين والقدمين بالحديد، والأقفال موصولة بأثقال سترمى معها في النهر .. نظرت في عيني امرأة ساعدها قرارها اللحظي قبل الموت ـ سواء غرقت أو حُرقت إذا طفى جسدها ـ على حدوث طول مفاجيء في شعرها، وظهور شامات متفرقة في وجهها .. اختفى الحراس على الفور، وظلت مكبلة بينما أسألها عن تفسير الحلم الذي يتكرر دائما:
أعود أنا وزوجتي خطيبين .. جاران خطيبان؛ أنا في الدور العلوي وهي في شقة الدور الأرضي .. لكنني أجد نفسي داخل الحلم منقطعا عن زياراتها والرد على اتصالاتها منذ فترة طويلة .. هي لا تعاتبني ولا تسألني عن سبب ذلك .. فقط تأتي إلى شرفة باب شقتها لتراني كلما سمعت ما يدل على صعودي أو نزولي السلالم .. تنظر لي دون شكوى ولكن بحزن .. أراها كما كانت .. جميلة ورقيقة جدا وغامضة كملاك ـ لماذا لا أضيف الشجن لتكون " غامضة بشجن ملائكي " حفاظا على البرواز المعتاد لوصف بنت في حالة كهذه، والذي لا يمكنني التشكيك في صدقه أو ملائمته الآن .. أما أنا فلا أتوقف عن سؤال نفسي باستغراب عنيف: لماذا لم أعد أزورها أو حتى اتصل بها .. كيف قضيت تلك المدة عيني في عينها ولا أكلمها ونحن خطيبان .. كيف ظلت ساكتة، ومستسلمة بتعاسة مهينة لتجاهلي لها الأشبه بالنسيان المثالي وعدم الإحساس بوجودها أصلا ؟! .. هكذا يبدأ الحلم من منتصفه دائما، متخلصا من البداية التي تبرره .. لكنه أيضا لا يكتمل .. ينتهي عند قراري بالذهاب إليها لأعتذر عما سببته لبراءتها من ألم، وإعادة الحياة كما كانت بيننا دون أن أعرف ماذا حدث بعد ذلك .. أستيقظ من النوم وليس عندي أي فكرة هل ذهبت إليها فعلا، أم أنني لم أنفّذ قراري.
تبتسم المرأة ـ لابد للمرأة أن تبتسم بعد سماع حلم على وشك تفسيره خاصة حينما تقرر أن تكون ساحرة أثناء ذهابها إلى الموت ـ ثم قالت بلغة غير مفهومة إلا لي ـ وهذا طبيعي جدا ـ أنني في الحلم أريد استعادة البنت التي أصبحت زوجتي .. استعادتها كجارة وحبيبة فقط بكل ما كان يعنيه هذا وينتج عنه .. أن تكون خطيبة أيضا كي لا ينقطع الممر الذي يتيح لي أن أمشيه إليها دون عائق في أي وقت .. أما انقطاعي عنها فهو الرغبة في استرداد البعد الذي كان يحمي شغفي بها، الغارق في بحر أسطوري .. يضمن البعد كذلك التحرر من العبء العدائي الهائل للزواج الذي حوّل أحلامنا إلى هياكل عظمية .. قالت المرأة أنني أريد استرجاع الضباب المثير الذي كان يفصل بيننا، حيث يمكننا أن نكون أكثر قربا وأشد تمسكا ببعضنا .. التفكير من داخل العزلة التي لا تغضب أحدا، ولا يسعى أي منا لتحطيمها .. شعوري بالذنب في الحلم هو محاولة لترويض غضبي الذي لا يهدأ من مجرد وجودها في الحياة، ولأنه لا يصل إلى نهاية شافية كان عليه أن يعيد اختراع الواقع بشكل عكسي ليجعلني مذنبا وتصبح المأساة أكثر خفة .. ( تريد أن يعود كل منكما خيالا بالنسبة للآخر ) أنهت تفسيرها بهذه الجملة ثم ظهر الحراس ثانية واقتادوها وهي لا تزال تنظر إليّ ناحية النهر.
لم أخبرها أنني كنت أرى زوجتي في الحلم ـ حينما كانت خطيبتي فقط ـ وهي ترتدي الأسود دائما .. ربما المرأة كانت تعرف ذلك.



#ممدوح_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقمص العمى والنسيان
- يوميات: محمد عمّار
- سرير
- قطع الحبال
- حروب الظلال في مجموعة - أنا ظل الآخر - لفكري عمر
- نكاية / سام سيلفا ترجمة / ممدوح رزق
- يوميات: السيطرة
- المؤخرات
- ممدوح رزق
- عن (كلمات الموتى) ل فيليب كلوديل
- يوميات: backspace
- عدم التعرّض للآلهة
- يوميات: احترام المعجزات
- يوميات: ( مدحت )
- لا يوجد موت مفاجيء
- يوميات: الشكل العادي للجنون
- رائحة الفم الكريهة
- Hitomi Tanaka In The Bus
- كلما كان هناك ولم يجد شيئا يفعله
- ( وهج ) أماني خليل


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - الظلام