أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسن محسن رمضان - متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس - 1















المزيد.....

متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس - 1


حسن محسن رمضان

الحوار المتمدن-العدد: 4070 - 2013 / 4 / 22 - 20:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    




ملاحظة: هذه المقالة تُعتبر كتكملة للمقالة السابقة تحت عنوان (مشكلة نقد النصوص المقدسة)، ويجب أن تُقرأ المقالة السابقة كمقدمة لهذه المقالة.


بعد نشر مقالتي (مشكلة نقد النصوص المقدسة) تلقيت العديد من ردود الأفعال من بعض الزملاء والزميلات يطلبون فيها بيان المنهج العلمي في النقد من خلال طرح أمثلة أكثر. فعقدت العزم على مناقشة مثالين إثنين من (العهد الجديد)، هما، أولاً، ما يُعرف في الدراسات النقدية بـ (The Comma Johanneum) (مشكلة الفاصلة اليوحناوية) أي ما ورد في رسالة يوحنا الأولى: (فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد) [رسالة يوحنا الأولى 5: 7]، وثانياً، ما ورد في إنجيل مرقس على لسان يسوع عندما سأله تلاميذه عن ضرب الأمثال للجماهير التي تستمع ليسوع ولا تبدو أنها تفهم ما يقول [مرقس 4: 10] فأجابهم: (أما الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء. لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا، ويسمعوا سامعين ولا يفهموا، لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم) [مرقس 4: 11-12]. إلا أنه في وقت فراغي الذي أستغله في كتابة المقالات، وقبل كتابة هذه المقالة، تصفحت محتوى موقع (الحوار المتمدن) لأعثر على مقالة للأستاذ سامي الذيب بعنوان (لا تزعجونا بصلاتكم وصيامكم) وهو يقتبس فيها من إنجيل متّى على لسان يسوع الإنجيلي، ويوجه الاقتباس إلى كل مؤمني الأديان. لا أخفي حقيقة أنه عند قراءة الاقتباسات افترّت شفتاي عن ابتسامة، لأن هذا الاقتباس من إنجيل متّى بالفعل يصلح أكثر من غيره كمثال لبيان أسلوب النقد في تلك النصوص وما يقودنا إليه هذا النقد من استنتاجات. وهكذا نشأت هذه المقالة أدناه.

جاء في إنجيل متّى على لسان يسوع الإنجيلي ما يلي:
(ومتى صليت فلا تكن كالمرائين، فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية. وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم، فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه) [متى 6: 5-8]، (ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك. لكي لا تظهر للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية) [متى 6: 16-18].

حتى نفهم النص، لابد لنا في البداية أن نلتفت إلى شخصية كاتب إنجيل متّى لنحاول أن نعرف أي شخص هو على الحقيقة، ثم بعد ذلك نحاول أن نفهم منهجه في كتابة (النص) (الإنجيل). كاتب الإنجيل المنسوب إلى متّى هو شخص مجهول الهوية، كتب إنجيله في حوالي سنة 80 مـ، أي بعد حوالي خمسين سنة على قتل يسوع، ونُسب هذا الإنجيل مجهول الكاتب إلى تلميذ يسوع متّى في حوالي نهاية القرن الثاني للميلاد [من الغريب أن الدليل على نفي نسبة هذا الإنجيل للحواري متّى موجود في نفس الإنجيل، فنحن نقرأ فيه بقلم كاتب إنجيل متّى: (وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متّى، فقال له: اتبعني. فقام وتبعه) (متّى 9: 9)، فكيف يكتب متّى في إنجيله عن نفسه بهكذا صيغة؟! وكيف يكتب إنجيله بضمير الغائب وهو من المفترض أن يكون في قلب الحدث؟!]. كتب إنجيله بالاعتماد الكلي على إنجيل مرقس، ونقل منه حرفياً، إلا أنه عدّل وحوّر في بعض القصص وأضاف إليها مادة أخرى. لم يرَ يسوع بالتأكيد ولا حتى أحد تلامذته. يهودي، ضليع جداً في الكتابة اليونانية ومتمرس فيها [على عكس تلامذة يسوع المتحدثين بالآرامية فقط وبعضهم نعرف بالتأكيد أنهم كانوا أميين كما جاء في العهد الجديد عن بطرس ويوحنا بأنهما (عديما العلم وعاميان) (أعمال الرسل 4: 13)]. ليس من سكان فلسطين ولا حتى يعرف جغرافيتها [انظر مقالة الكاتب: مشكلة اليهودية والجغرافيا عند كتبة الإنجيل]. لا يعرف اللغة العبرية، ولذلك كان يضطر إلى الاعتماد على الترجمة اليونانية للعهد القديم وهذا كان يقوده إلى أخطاء في فهم النص العبري وإلى اختراع القصص لينسبها إلى يسوع حتى يوافق ما يفهمه على أنها نبوءات في العهد القديم [سوف نتطرق لمثالين أدناه لهذا الاختراع المتعمد]. بسبب يهوديته الأكيدة، وبسبب جمهوره اليهودي الذي كان هذا الإنجيل موجهاً لهم بالأساس، أراد أن يصور يسوع على أنه مدافع عن (الناموس) اليهودي الموسوي ومحافظ عليه ومُفسر له، فوضع على لسان يسوع مقولته: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) [متّى 5: 17-18]، هذا النص الذي لم يعرفه بولس الرسول نفسه [انظر رسالة بولس إلى أهل غلاطية 2: 1-21، مع التركيز على نص مقاومة بولس لبطرس (2: 11)، كُتبت هذه الرسالة حوالي سنة 57 مـ]، بولس الذي نقض الناموس اليهودي في مواضع عدة، ونقضها المسيحيون بعده نصاً نصاً. بل كاتب إنجيل متّى نراه يصور يسوع على أنه يزيد تقييداً بعض قيود الناموس اليهودي وتعاليم الفريسيين. فيسوع في إنجيل متّى يهودي قح، يدافع عن الناموس ليزيده تأكيداً ورسوخاً، وفي سبيل ذلك نرى كاتب إنجيل متّى يرادف في إنجيله بين مقولة يسوع (قد سمعتم أنه قيل للقدماء) وبين قوله (وأما أنا فأقول لكم) [متى 5: 21-22 و 27-28 و 31-32 و 33-34 و 38-39 و 43-44] حتى يعقد المقارنات ويقيّد التعليم اليهودي بصورة أكثر شدة إلى درجة أنه جعل النظرة زنا، ومنع الطلاق بتاتاً إلا لعلة الزنا، ومنع الزواج من المطلقات، ومنع الحلف بالله أو غيره إطلاقاً، ومنع مقاومة الشر [للمزيد حول هذه النقطة انظر: Who Wrote the New Testament, Burton Mack, pp. 164]. وأخيراً، كاتب إنجيل متّى كان مهووساً بإثبات كل ما يراه أو يفهمه على أنه (نبوءة) في أي نص يقرأه باليونانية في العهد القديم على أنه قد (تم) ليسوع، وفي سبيل ذلك هو يكرر عبارة (لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل) [متى 1: 22 و 2: 15]، (تم ما قيل بإرميا النبي القائل) [متى 2: 17 و 27: 9]، (لكي يتم ما قيل بالأنبياء) [متى 2: 23]، (لكي يتم ما قيل بالنبي القائل) [متى 13: 35 و 21: 4 و 27: 35]، (لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي) [متى 4: 14 و 8: 17 و 12: 17] وهذا الاقتباس المركز من سفر إشعياء سوف يكون ذو أهمية قصوى في الاستدلال في هذه المقالة.

لا شك أن كاتب إنجيل متّى كان يخترع بعض القصص وينسبها إلى يسوع، والأدلة على ذلك متعددة [انظر على سبيل المثال لا الحصر المصدر السابق: Who Wrote the New Testament, Burton Mack, pp. 164-167]. كان دافعه الأساس والرئيسي في ذلك هو محاولة إثبات كل ما يفهمه على أنه (نبوءة) في يسوع على أنه المسيح اليهودي القادم بالإضافة إلى دوافع أخرى ثانوية. إلا أن محدودية علمه بفقه النص العبري اليهودي وتعابيره، وعدم معرفته بالعبرية واضطراره لقراءة العهد القديم من خلال الترجمة اليونانية، أدى ذلك إلى كشف منهجه في النسبة إلى يسوع ما لم يقله أو يفعله واختراعه للروايات أمام النقاد. وحتى ندلل على الحياكة الإسطورية المتعمدة والواعية لقصة حياة يسوع في إنجيل متّى فإن مثالين إثنين سوف يتم عرضهما هنا بصورة مختصرة [للتفصيل حول هذين المثالين انظر مقالتي: من إشكاليات قصة يسوع الإنجيلي].

المثال الأول هو قصة الولادة العذرية ليسوع. تَظهر هذه القصة في إنجيلين اثنين من الأناجيل الأربعة المعترف بها من الكنيسة. ظهرت أولاً في إنجيل متّى ثم بعد ذلك في إنجيل لوقا (كُتبَ إنجيل لوقا ما بين حوالي سنة 85 مـ و 90 مـ، أي بعد كتابة إنجيل متّى). إنجيل متّى يحدد سبب هذه الولادة العذرية ليسوع: (وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراءُ تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمّانوئيل الذي تفسيره الله معنا) [متى 1: 22-23]. وما يقصده كاتب إنجيل متّى (بالنبي القائل) هو نص ورد في سفر إشعياء في العهد القديم [يتكرر سفر إشعياء عند كاتب إنجيل متّى، وهو أمر ذو أهمية لاحقة في الجزء الثاني من هذه المقالة]: (فقال اسمعوا يا بيت داود: هل هو قليلٌ عليكم أن تضجروا الناسَ حتى تُضجروا إلهي أيضاً. ولكن يعطيكم السيدُ نفسهُ آيةً: ها العذراءُ تحبلُ وتلدُ ابناً وتدعو اسمه عمّانوئيل) [إشعياء 7: 13-14]. هذا الاقتباس من إشعياء يبدو وكأنه يتكلم بالفعل عن (عذراء) سوف تلد ابناً، وأن ولادتها سوف تكون (آية)، هذا على الأقل ما فهمه كاتب إنجيل متّى عند قراءته للترجمة اليونانية لسفر إشعياء. إلا أن حقيقة النص العبري هي أبعد ما تكون عن ذلك، وأبعد ما تكون عن الكلام عن (مسيح) من نوع ما. في النص العبري لسفر إشعياء الذي لا يزال، بالطبع، موجوداً متداولاً مطبوعاً ومقروءاً بين اليهود أنفسهم وعلى الشبكات الرقمية، فإن لفظ الكلمة الواردة في سفر إشعياء هي: (הָעַלְמָה) (ألْما) (almah)، وهي تعني (المرأة الصغيرة، الصغيرة في أول سن الزواج، الصغيرة المتزوجة حديثاً)، ولا تعني إطلاقاً (العذراء). وكذا هي كل الترجمات والشروح الدينية اليهودية، الرسمية وغير الرسمية، من دون إستثناء [انظر على سبيل المثال ترجمات: Judaica Press]، وقد تبعتها العديد من الترجمات المسيحية الحديثة ومنها العربية أيضاً حيث ترجمت النص (ها الصَّبِيَّةُ تَحبَلُ، وَتَلِدُ ابناً) [انظر على سبيل المثال: Arabic Bible: Easy-to-Read Version]. العذراء في العبرية تُكتب بلفظ (בתולה) (بيتولا) (bethulah)، ولو قصد كاتب إشعياء ولادة من عذراء لاستخدم هذا اللفظ تحديداً وحصراً دون غيره. ولهذا السبب بالذات لم يتوقع اليهود في كل تاريخهم الممتد لآلاف السنين حتى وقتنا الحاضر ولادة مسيحهم المنتظر من عذراء أو من خلال ولادة عجائبية مُعجزة، على عكس العقيدة المسيحية التي نشأت منها، وهذا على افتراض أن نبوءة إشعياء كانت تتعلق بالمسيح من الأساس وهو افتراض خاطئ بطبيعة الحال. إلا أن مترجم النص العبري للعهد القديم إلى اليونانية قد فهم خطئاً لسبب ما من كلمة (ألما) العبرية بأنها تعني (عذراء)، وترجمها باللغة اليونانية إلى (παρθένος) (parthenos) المرادف اليوناني لـ (عذراء)، وهذه الترجمة اليونانية الخاطئة هي التي استخدمها كاتب إنجيل متّى في كتابة إنجيله ورأى فيها نبوءة في قدوم المسيح، مسيحه هو بالطبع، يسوع. وبسبب خطأ الترجمة هذه لنبوءة إشعياء أصبح كاتب إنجيل متّى أمام مشكلة، مشكلة وهمية على حقيقتها، ولكن لابد لها من حل. وجاء الحل لكاتب إنجيل متى من خلال الاقتباس من الفضاء الأسطوري اليوناني والروماني للولادة العذرية من إله وثني، وهي قصص متعددة في الميثولوجيا اليونانية - الرومانية، وانعكست كلها في التفاصيل التي نقرؤها في إنجيل متّى ثم من بعده في إنجيل لوقا الذي أتى بعده في الترتيب التاريخي، بينما القصة مفقودة تماماً حتى من إشارة عابرة في إنجيل مرقس، الإنجيل الأول من حيث تاريخ الكتابة. فعلى الحقيقة، لم تكن هناك نبوءة إطلاقاً عن ولادة عذرية في النصوص اليهودية، ولم تكن هناك أية مشكلة إطلاقاً للمسيح في أن يولد ولادة طبيعية من رجل وامرأة من وجهة النظر اليهودية، الديانة الأصلية ليسوع، ولكن خطأ المترجم اليوناني في الترجمة كشف لنا الاضطرار المسيحي المبكر للسرد والاقتباس الإسطوري في قصة يسوع، وهو ما فعله بامتياز كاتب إنجيل متّى. وقد يثور اعتراض هنا بأن الاقتباس الوارد باللغة العربية في بداية هذه الفقرة من سفر إشعياء يقول (هوذا العذراء)؟ والجواب هو أن الترجمات العربية وبعض الأجنبية القديمة للعهد القديم من الواضح جداً أنها متأثرة بالعقيدة المسيحية، فالمترجمون مسيحيون في النهاية، إلى درجة أنهم ألغوا الترجمة الصحيحة للكلمة العبرية واستبدلوها بما ورد في إنجيل متّى، وليس على القارئ الكريم سوى أن يفتح أي ترجمة إنجليزية أو فرنسية معاصرة حديثة للعهد القديم ليثبت لنفسه أن الترجمة الصحيحة للنص العبري في سفر إشعياء هي (المرأة الصغيرة) وليس العذراء أو أن يرجع للنص العبري مباشرة وهو متوفر بكل سهولة على الشبكات الرقمية. فلا وجود لعذراء، ولا وجود لولادة عذرية. ومما يدلل على اختراع القصة أن بولس الرسول في كل رسائله، وهي تاريخياً سابقة على كتابة الأناجيل الأربعة، لا يتطرق إطلاقاً للولادة العذرية ليسوع، لا من قريب ولا من بعيد، ويبدو وكأنه لا يعرفها أصلاً. نعم، نحن نجد أن بولس يقول في رسالته إلى أهل غلاطية (أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس) [رسالة بولس إلى أهل غلاطية 4: 4]، إلا أن في هذا التقرير ليس هناك دليل إطلاقاً على معرفته بولادة عذرية، فهو لم يذكرها أصلاً، وإنما كان يريد أن يرادف بين (إنسان) مولود ولادة إنسانية طبيعية و (إله). وهذا بالإضافة إلى أن إنجيل مرقس، أول إنجيل كُتبَ من حيث التاريخ، لا يتطرق لهذه الولادة العذرية لا من قريب ولا من بعيد، بل إن كاتب النص لا يبدو إطلاقاً أنه كان واعياً لهذه الولادة العجائبية ليسوع.

المثال الثاني يتعلق بكيفية دخول يسوع إلى أورشليم (القدس). إذ كاتب إنجيل متّى بالذات، بسبب لغته الأصلية اليونانية، كانت لديه مشكلة حقيقية في فهم نصوص العهد القديم المكتوبة أصلاً بالعبرية. هذه المشكلة دفعته دفعاً إلى "تحوير" بعض القصص الواردة عن يسوع حتى تتوافق مع ما كان يفهمه من نصوص كان يقرؤها في نسخته اليونانية للعهد القديم وكان يراها كنبوءة مستقبلية في المسيح اليهودي المنتظر. ففي أناجيل مرقس ولوقا ويوحنا نقرأ أن يسوع يدخل إلى أورشليم (القدس) راكباً جحشاً، إلا في إنجيل متّى وحده نراه يدخل المدينة راكباً حيوانين معاً، حماراً وجحشاً (!!!). السبب الحقيقي وراء هذا الاختلاف (التحوير المتعمد) في إنجيل متّى هو أن كاتبه قد قرأ في نسخته اليونانية من سفر زكريا الآتي: (ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هُوَذَا مَلِكُكِ يأتي إليكِ، هو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان) [زكريا 9: 9]، فاعتقد خطئاً أن هذا النص يتحدث عن ركوب حيوانين اثنين عند دخول أورشليم، فكان لابد، بالطبع، لكاتب إنجيل متّى أن يصوّر يسوع داخلاً إليها كذلك وأن يُعدّلَ ويحوّر متعمداً على قصة إنجيل مرقس الذي كان ينقل منه مباشرة. إلا أن الحقيقة هي أن كاتب إنجيل متّى قد فهم النص المُترجَم باليونانية بصورة خاطئة جداً بسبب حاجز اللغة التي كان يعاني منها. الحقيقة هي أن النص باللغة العبرية عبارة عن نبوءة شعرية تحتوي على ثلاثة أبيات. البيت الثاني ينتهي عند (راكب على حمار)، والبيت الثالث (وعلى جحش ابن أتان). وكل دارس للغة العبرية في نصوص العهد القديم يعرف تمام المعرفة أن "هذا النوع من النبوءات الشعرية، يكون البيت الثالث هو تكرار لما سبق قوله في البيت الثاني. ويُسمى هذا (التوازي المرادف) (Synonymous parallelism)، بحيث يكون بيتين متواليين من الشعر يقولان نفس الشيء ولكن باستخدام مفردات مختلفة. ولكن من الواضح أن متّى لم يفهم العُرف الشعري [العبري] في هذا الموضع مما أدى إلى نتائج غريبة [في قصته]" (لمزيد من التفاصيل انظر: Jesus Interrupted, Bart D Ehrman, HarperCollins Books, pp. 50). ولهذا السبب فإننا نجد في إنجيل متّى فقط، دون الثلاثة الباقين الذين صوروه داخلاً على جحش واحد فقط، أن يسوع قد ركب حماراً وجحشاً معاً، وفي آن واحد، عند دخول أورشليم (القدس) بعد أن وضع ثياب تلاميذه عليهما وجلس على الحيوانين معاً ودخل بهذه الصورة المدينة. وحتى تفهم ما المقصود بـ "النتائج الغريبة" لسوء الفهم هذا عند كاتب إنجيل متّى، أنا أدعو القارئ الكريم أن يغمض عينيه ويتخيل حماراً وبجانبه جحش أصغر حجماً منه، وعليهما ثياب تغطي ظهريهما معاً، ثم رجل راكب في نفس الوقت على ظهر حمار وأحد رجليه على جانبه ونصفه الثاني على ظهر جحش أصغر حجماً منه ورجله الثانية على جانبه، ثم يدخل مدينة ما بهذه الصورة وعلى ذلك الوضع، ماذا سوف تكون ردة فعلك أنت؟! ولكن كل هذا لا يهم عند كاتب إنجيل متّى إذ كان لابد للنبوءة أن تتحقق على حسب فهمه للنصوص اليهودية التي كان يقرؤها باليونانية، وكما رأيناه في الولادة العجائبية العذرية ليسوع، رأينا يسوع راكباً على حمار وجحش أصغر منه في آن واحد وداخلٌ لمدينة مكتظة بالسكان ليتأملوه وهو على تلك الحال. وكِلا القصتين كانا اختراعاً قصصياً لا شأن للواقع بهما، واضطراراً لا شأن للحقيقة التاريخية بهما.

.... يتبع في المقالة القادمة



#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشكلة نقد النصوص المقدسة
- مشكلة الآخر المختلف في الإسلام
- مصطلح الثوابت الإسلامية
- يسوع والمسيحية والمرأة – 2
- يسوع والمسيحية والمرأة - 1
- من تاريخ التوحش المسيحي – 2
- من تاريخ التوحش المسيحي
- الازدواجية في الذهنية الدينية ... الموقف من نوال السعداوي
- في الاستعباد كنزعة إنسانية متأصلة
- الأحاديث الموضوعة كأداة لتصحيح التاريخ
- مشكلة الإيحاء الجنسي في إنجيل يوحنا
- صراع
- معارك الله
- مقالة في طقس الإفخارستيا – أكل الله
- رقص الجريح
- المسيحية وحوادث أكل لحوم المسلمين
- في مشكلة تعاليم يسوع الإنجيلي
- إشكالية العقل السلفي العربي
- في طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة
- عندما نفقد خارطة طريقنا


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسن محسن رمضان - متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس - 1