أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد الحيدر - قصص مختارة من أدب د. ه. لورنس - السمكة الطائرة















المزيد.....



قصص مختارة من أدب د. ه. لورنس - السمكة الطائرة


ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم

(Majid Alhydar)


الحوار المتمدن-العدد: 4064 - 2013 / 4 / 16 - 02:31
المحور: الادب والفن
    


قصص مختارة من أدب د. هـ. لورنس
ترجمة: ماجد الحيدر
(1)
السمكة الطائرة
The flying fish

1-الرحيل عن المكسيك
"عد الى دّيْبروك وإلا لن يتبقى فيها أحدٌ من آل "دَي" .
كانت هذه البرقية أول ما قرأه "جيثين دَي" من كومة الرسائل التي وجدها بانتظاره في الفندق، في هذه البلدة الضائعة من جنوب المكسيك، بعد رجوعه من رحلته الى الساحل. ولقد أدرك على الفور مغزاها والشخص الذي أرسلها، رغم خلوها من التوقيع.
رقد في سريره، في أمسية اكتوبر الحارة، وهو لما يزل مريضا بالملاريا. ولما يزل في وميض الحمى يرى جبال الجنوب اليبيسة الظمأى، وقرى اكواخ القصب المتخفية ين الأشجار ، والأهالي ذوي العيون السود الذين تلفهم بلاهة وضجر ورثاء، وجمال سلالة منهوكة القوى؛ وفوق ذلك كله رأى الزهور السحرية الغريبة التي اصطادها في الهضبة العالية، بين الوديان، نزولا الى اللهيب البخاري الذي يعج بالتماسيح في "تييرا كالنتي" (1) نحو السواحل الرملية المحرقة التي لا تطاق. ذلك لأنه مفتون بالدماء الخضر التي تجري في عروق النباتات، وبالدماء الصفر، والحمر، والأرجوانية التي تصبغ محيا الزهور. غير أن الحياة النباتية المجهولة لجنوب المكسيك هي التي جذبته على وجه الخصوص. ولقد أراد أكثر من أي شيء آخر أن يقتفي في النباتات الحية آثار العطور الغامضة والسموم التي كان المايا والزابوتيك والازتيك يعرفونها بشكل مفصل عجيب.
كان رأسه يطن كالبعوضة ، وساقاه ساعتها مشلولتان من أثر حقنة الكوينين القوية التي زرقها فيهما الطبيب. أما روحه فكانت ميتة عمليا من أثر الملاريا. وهكذا ألقى كل الرسائل على الأرض دون فتحها وهو يأمل ألا يراها من جديد.
رقد وفي يده البرقية الصفراء الشاحبة "عد الى البيت وإلا لن يتبقى أحد من آل دَي في ديبروك". وعبرت اليه من خلال الابواب المفتوحة المطلة على باحة الفندق الروائح الثقيلة لتلك الزهرة الليلية الخضراء التي لا تُرى والتي يسميها الأهالي "رينا دي نوخ". جاءته الخادمة المكسيكية الصغيرة بكوب من الشاي. كانت تسير حافية بخطى واسعة فتتأرجح تنورتها القطنية المهدبة، وينسدل شعرها الفاحم الطويل حتى ظهرها. سألته بإسبانية تشبه أصوات الطيور إن كان يريد شيئاً آخر فأجابها: “Nada Mais” "لا أريد شيئا آخر. اتركيني وأغلقي الباب".
أراد أن يوصد الباب في وجه رائحة تلك الزهرة الليلية الأليفة التي يعرفها جيداً.
" لا "دَي" في ديبروك
موحش هو منظر الوادي "
لا دي في ديبروك! لم يخل ديبروك يوما من آل دي منذ بدء الزمان. هذا على الأقل ما كان يخيل اليه.
كان ديبروك منزلا حجريا يعود الى القرن السادس عشر، بين التلال في وسط انكلترا، انتصب في المكان الذي ينعطف فيه نهر كريجديل(2) نحو الجنوب حيث ينضم اليه نهر آشلي ديل(3) .
"ينتصب ديبروك في ملتقى الطرق، وفي مركز الشكل الثلاثي الشُعَب. إنه ليرسو داخل الوادي مثل فُلكٍ بين أبحر ثلاثة، حتى ليصبح في الحقيقة فلك هذه الوديان، إن لم يكن فلك انكلترا كلها" هكذا كتب السير "جلبرت دي" الذي بنى ديبروك الحالية في القرن السادس عشر. كان "كتاب آل دَيْ" الذي ألفه السير جلبرت والمخطوط بشكل رائع فوق ورق جلدي متين زخرفه بيديه واحدا من كنوز العائلة. في أيامه مخر السير جلبرت عباب البحار الاسبانية وعاد الى الوطن بثروة تكفي لإعادة بناء منزل ديبروك القديم على وفق ذوقه الخاص، فجعل منه منزلا جميلا مستدقا، صغيرا بعض الشيء، ينتصب فوق هضبة تطل على نهر "آش" (4) حيث يضيق الوادي وترتفع الغابات الشاهقة من خلفه.
"كلا" كتب هذا الاليزابيثي الغريب "رغم أني أقول أن ديبروك هو فُلك الوادي فإني لا أعني المنزل نفسه بل ذلك الـ "دي" الذي يعيش فيه في عصره. فطالما هناك أحد من آل دي في ديبروك فإن السيول لن تقدر على غمر الوادي، كلا، ولن تقدر على اكتساح انكلترا تماما"
كان جيثين دي يناهز الأربعين، لكنه لم يقض الكثير من عمره في ديبروك. كان قد عمل جندياً، وطاف أقطارا كثيرة. وكانت أخته "ليديا" التي ولدت قبله بعشرين عاما هي الوحيدة التي تبقت من آل دي في ديبروك. ولقد أدرك الآن من رسالتها أنها مريضة للغاية أو أنها قضت نحبها بالفعل. كانت قاسية ومتجهمة نوعا ما مثل صخور "كريجديل" لكنها كانت وفية أمينة مثل تمثال للصلابة. لقد تركته يخط طريقه الخاص، لكنها كانت في كل مرة يعود فيها الى الوطن تنظر في عينيه الزرقاوين تلك النظرة الكئيبة الغريبة وتسأله :
-"حسناً ، هل عدت؟ أم أنك لما تزل تتجول؟ "
-"أظن أني ما زلت أتجول"
-"أرجو ألا تظل طريقك فتدخل أحد السجون في يوم ما" كانت تجيبه "ستجد لنفسك في ديبروك محلا أكثر رحابة تلك البقاع الأجنبية إذا عرفت كيف تنال ما تستحق"
كان هذا على الدوام قرار أغنيتها له : إذا عرفت كيف تنال ما تستحق. وكان هذا يثير لديه على الدوام سخطا وإحساسا باللاجدوى، رغم أن لم يعرف إن كان هذا الإحساس نابعا منه أم من ليديا. كانت ليديا مفتونة بالكتاب القديم للسير جلبرت: "كتاب آل دي"، فخطت لأخيها نسخة جميلة بغلاف جلدي أنيق، وعندما بلغ سن الرشد ناولتها إياه دون أن تنبس بكلمة واكتفت بأن نظرت اليه تلك النظرة الغريبة من عينيها الرماديتين وهي تتوقع منه أن يفعل شيئاً، وهذا ما كان يدفعه دائما الى الهرب منها.
كان "كتاب آل دي" نوعا من الإنجيل السري في ديبروك. لم يكن يعرض على الغرباء ولا يؤتى على ذكره خارج دائرة العائلة الضيقة. والحق إنه لم يكن يشار اليه صراحة حتى ضمن العائلة إلا في بعض المناسبات الجليلة: في تلك الأمسيات النادرة، عند الغسق، عندما تبزغ نجمة المساء، حين كان الوالد الراحل يقرأ للصغيرين بصوت عال فقرات من الكتاب الذي لا اسم له.
في النسخة التي صنعتها ليديا لجيثين عمدت الى استخدام ألوان مختلفة من الحبر في المواضع المختلفة، وأحس جيثين أن المقاطع المفضلة عندها هي تلك المكتوبة بالحبر الأزرق الملكي، حيث تبدو الصفحات زرقاء كزرقة نبات القطريون(5) التي تستطيل حول مماشي الحديقة في ديبروك.
"جميل هو النهار(6) الذي تسطع فيه الشمس الصفراء، الذي هو نهار الناس العادي. ولكن، مثلما تندفع الرياح دون توقف فوق أشجار الأرض فإن النهار الأعظم الذي هو النهار الخاص الغير المعتاد يندفع فوق الأدغال الغير المشذبة لنهاراتنا الصغيرة.
كذلك كما تهز الشمس أجنحتها الذهبية على الأفق وترتفع محلقة، هكذا ينشر الطائر العظيم من ورائها قوادمه الزرقاء الغامقة ويضرب بجناحيه في ارتعاشات النهار الأعظم"
كان جيثين يحفظ قدرا كبيرا من كتاب "آل دي" الذي بحوزته. لقد كان بذوقه المحب للفنون يهوى الشعر الرفيع، لكن شيئا كامنا في الشمس القاسية الوحشية الفانية للمكسيك، في الأرض اليابسة الفظيعة، في العيون المحدقة السوداء للأهالي المتشككين جعل النهار العادي يفقد واقعيته بالنسبة اليه. لقد تشقق مثل فقاعة هائلة. وكان من دواعي خوفه وضيقه أن خيل اليه انه يرى من خلال الشقوق الى الزرقة الاكثر عمقا لذلك النهار الاعظم الآخر، الذي تتحرك فيه الشمس الأخرى وهي تهز اجنحتها الزرقاء الغامقة. ربما كانت الملاريا، ربما كان تطوره الشخصي المحتوم، أو ربما كان وجود أولئك الرجال الوسيمين الخطرين، ذوي الأعين الواسعة ، الذين تخلفوا في المكسيك من عصور ما قبل الطوفان، ربما كان واحد من هذه الأشياء قد حطم له علاقاته القديمة وعالمه التقليدي. كان مريضاً. كان يشعر أن غشاءً ما، في منتصف جسده، تماما تحت سرّته، قد تمزق. غشاءً كان يربطه بالعالم وبنهاره. ولقد أدرك أن الأهالي الذين يعتنون به- الهادئين، الناعمين، المتجهمين، البائسين بعض الشيء- بدوا كأنهم يحدقون دائماً بعيونهم السوداء الواسعة الى ذلك النهار الأعظم الذي جاءوا منه، والذي يتحرقون الى الرجوع اليه. رجال من سلالة محتضرة لم تكن هذه الكرة المعقدة المزدحمة من النهار العادي في نظرهم غير قشرة متكسرة راشحة.
أراد الذهاب الى بيته. لا يهمه الآن إن كانت انجلترا ضيقة أو صغيرة أو مزدحمة أو مكتضة بالأثاث. لم يعد يرفض الأجواء الهادئة الفضولية في ديبروك التي أحس في شبابه بأنه يختنق فيها. لم يعد يتذمر من ثقل التقاليد العائلية ولا الاحساس السلطوي الغريب الذي كان المنزل يفرضه عليه. كانت روحه عليلة من الخارج. كان النهار العادي قد تشقق أمام ناظريه وصار النهار الغير العادي يكشف له عن ضخامته الهائلة. أحس أن البيت هو مكانه. لم يعد يهمه أن انجلترا صغيرة وضيقة ومزدحمة بالأثاث إذا كان النهار الأعظم هو خاتمة الطريق المتعرج. أراد الذهاب الى الوطن، بعيدا عن هذه الاقطار المتوحشة الكبيرة، حيث يموت الناس راجعين الى النهار الأعظم. الوطن: حيث يجرؤ على مواجهة الشمس التي وراء الشمس، وينال ما يستحق في النهار الأعظم.
لكن مرضه ما زال يمنعه. وغثيان المناطق الاستوائية يغمره، فترك الأيام تمضي محلقة من فوقه. وظل باب غرفته مفتوحا على الباحة التي انتصبت فيها فوق الأرض المرشوشة بالماء أشجار موز خضراء وشجيرات عالية مزهرة تجري في عروقها أنساغ غريبة، وهي تواجه السماء التي اتقدت بالزرقة ونشرت خيمتها فوق هواء الفناء الداخلي المندى بالعطور.
وتحركت الظلال الزرقاء الداكنة من جانب الفناء، ثم اختفت، ثم ظهرت من الجانب الآخر.. لقد حل المساء. وها هم الأهالي بأقدامهم الحافية وثيابهم المصنوعة من الخام الأبيض يخطرون في سرعة وصمت من جانب الى آخر، ماضين الى الأبد .. ماضين في غموض الى لا مكان، ناظمين خيوط الأبدية برواحهم ومجيئهم، مثل سنونوات تطير في الظلام.
كان شباك غرفته المقابل للباب مفتوحا على الشارع الاستوائي المتيبس. كان شباكا كبيرا محكما بقضبان عمودية وأفقية قوية ويمتد حتى الأرض تقريبا. وكان الأهالي يمرون به بصنادلهم التي تصر صريرا خفيفا ناعما. وفي الفسحة التي وراء قضبانه كانت قبعات القش العريضة تتمايل، وخدود سمراء وأكتاف من خام أبيض تمر مرا خاطفا في السرعة المكتومة التي تميز الهنود. أحيانا كان بعض الصغار يتشبثون بالقضبان ويحدقون داخل الغرفة بعيونهم الكبيرة البراقة وشعورهم المنتصبة السوداء- الزرقاء كي ينظروا الى "الأمريكاني" الراقد في سريره الأبيض الفخم. وقد يقف هنا أحد المتسولين وقد أقحم يداً هزيلة بين القضبان الحديدية المتشابكة وهو يئن انين المتسولين الغريب الذي يتوالد ويتكرر دون نهاية:
- "Por Amor De Dios " (7)
ويستمر الأنين ويستمر، كما لو كان الى الأبد. لكن الرجل المريض فوق السرير يتحمل الأمر بنفس الجلَد الأبدي المقاوم، الجَلَد المقاوم الذي تعلمه في الأقطار الهندية: الأزتيك ، الماكستيك، الزابوتيك، أو المايا.. إنها على الدوام نفس القدرة على إدامة سبات من المقاومة كسبات الأفاعي.
جاء الطبيب: هندي متعلم، رغم أنه لم يستطع أن يفعل شيئا غير حقنه بالكوينين واعطائه جرعة من الكالوميل. لكنه هو الآخر كان ضائعا بين النهارين: نهار الهنود المصيري المحتوم الأعظم ونهار البيض، الصغير، المزدحم، المثقل بالتفاصيل.
-"كيف سينتهي الأمر؟" قال للرجل المريض وهو يفتش عن الكلمة "كيف سينتهي الأمر بالهنود؟ بالمكسيكيين؟ الجنود كلهم يتعاطون اليوم الماريجوانا، الحشيش!"
-"كلهم سيموتون. كلهم سينتحرون، كلهم، كلهم" أجاب الانكليزي وهو في غمرة هذيان الملاريا الواهن المستمر "على أية حال، فإن من الرائع أن تكون ميتا، من الرائع أن ترحل تماما"
نظر اليه الطبيب في صمت. لم يفهم تماما غير "من الرائع أن تكون ميتا". إنها اللازمة التي تتردد في المركز من قلب كل هندي، حيث النهار الأعظم مطوق بالنهار الأصغر: اليأس الذي يأتي عندما يطوق الأصغرُ الأعظمَ. لكن الطبيب نظر الى الرجل المريض الضامر في نوع من الشك "ماذا؟ أتريدون منا أن نزول تماما، أيها الأمريكيون!؟"
وأخيراً زحف جيثين دي خارجا الى الساحة العامة: كان الميدان مثل نبع عظيم خفيض من الظلال الخضراء والمعتمة. إنه الخريف. وها قد انقضى موسم الامطار وبرزت من الفوهات القرمزية أزهار القينا وهي تمد ألسنتها العظيمة الحمراء أو الصفراء الاستوائية.
ظلال قرمزية، ظلال صفراء، خضراء، زرقاء مخضرة، بيضاء كضوء الشمس، لا مرئية، زرقاء نيلية.. وأهالٍ ضئال، متلفعون بالبياض، يعبرون الساحة، خلال المروج الخضراء، تحت الظلال النيلية، وعبر المماشي الغارقة بضياء الشمس، نحو الأروقة المقوسة للبنايات الاسبانية الخفيضة التي تتراجع في مشهد ثقيل عليل وكأنها هي الأخرى تشعر بالملاريا الأبدية في أحشائها، بالنهار الأعظم للهنود المتحجرين وهو يسحق النهار الأوربي المتأنق الضامر الذي تمثله هي. وأحنت الكاتدرائية الصفراء أبراجها القصيرة العريضة التي ضربتها الزلازل ورنت أجراسها في خواء. واستلقى جنود صغار بلون التراب أو وقفوا حول مدخل قصر البلدية ذي الطراز الباروكي الاسباني الواضح، رغم أن الأهالي هم الذين يملكونه الآن. وكان النهار الأعظم يتدلى ثقيلاً، مثل ناقوس عجيب مصنوع من زجاج ملون ظليل، فوق هذه الساحة الملونة التي أوجدها الأوربيون مثل واحة داخل هذه الاعماق المكسيكية الضائعة. وجلس جيثين دي نصف مستلق فوق واحد من المقاعد المحطمة. كانت الطيور الاستوائية ترفرف وتطير بين الاشجار العظيمة، والاهالي يرفرفون أو يمرقون في صمت. وأدرك أن النهار الاوربي يُمحق هاهنا من جديد. كان جسده مريضا بالسم الذي يتخلل الهواء الاستوائي، وكانت روحه مريضة بذلك النهار الآخر: ذلك النهار الأعظم المخيف الذي يتخلل النهارات الصغيرة لهذه السلالات الشائخة.
ولقد أراد أن يخرج من هذا العقم الاستوائي الشنيع الذي هوى فيه، لكنه لم يستطع السفر حتى نهاية نوفمبر؛ ذلك لأن عددا من الثورات الصغيرة قطعت مجددا خيط السكة الحديدية الذي كانت هذه البلدة الجنوبية تتدلى في نهايته وهي تدور كالعنكبوت. كان خطاً من القياس الرفيع، طريقاً وحيداً مفرداً صغيراً يجري فوق الهضبة، ثم ينزلق هابطاً عبر الوادي الطويل الضيق، نازلاً خمسة آلاف قدم حتى أسفل الوادي الذي هو صدع يخترق الهضبة. ثم يعلو ثانية سبعة آلاف قدم حتى الهضبة العليا في الشمال. ما أسهل قطع الخيط ! واحد من العوارض الصغيرة التي لا عد لها يتم تدميره، وهذا كل شيء. كانت الأميال الثلاثمائة إلى الشمال مجرد برارٍ لا يمكن اجتيازها، شأنها شأن المائة والخمسين ميلاً التي تمتد خلال الغابات الخفيضة إلى الجنوب.
لكن القطار عاد أخيراً. واستطاع جيثين أن يدب مبتعداً بعد أن أبرق إلى إنكلترا، وجاءه الجواب بأن أخته ماتت. ولقد بدا من الطبيعي للغاية، هنا في تحت شمس نوفمبر القوية لجنوب المكسيك، هنا حيث يمتلئ الهواء بالعطور المخدرة القوية للأزهار الليلية، بدا طبيعيا أن تكون ليديا ميتة. إنها لتبدو أكثر واقعية، ولربما أكثر حياةً، وهي ميتة. إنه ليراها في موتها قريبة للغاية، يراها أكثر عوناً وحقيقية. بينما كانت في حياتها غريبة تماماً، قصية، منمقة، أشبه بالأشباح، في نهارها الصغير في ديربي شاير.
" لأن النهار الصغير مثلُ منزلٍ تتحلق فيه الأسرة حول الموقد وقد أوصدت الباب، بينا النهار الأعظم يهمس في الخارج دون جدران، دون مواقد. وسيأتي الوقت أخيراً عندما تتداعى الجدران ويجد من تبقى من أسرة البشر أنفسهم في الخارج، في النهار الأعظم، في العراء، دون مأوى، حتى هاهنا، بين أحضان الوديان، في كريجديل. إنه المصير الذي سيحل بالطوال من البشر، عندها سيحاولون التنفس بعمق، وستتقطع أنفاسهم في الهواء العظيم، وحين تعود الشمس سيتجمع العرق المالح على جباههم، ثخينا مثل براعم فوق شجيرات البرقوق(8) . أما الضئال فلسوف ينتفضون، ثم يموتون، مثل غيوم من جراد تسقط في البحر. عندها سيبقى الطوال وحدهم على الأرض، وسيمضون نحو أعماق النهار العظيم، سيمضون نحو الأعماق.
كذاك مثل سمكة طائرة تغادر الهواء لكي تستعيد عناصرها في الأعماق، فتندفع غاطسة وتمارس سعادتها في الخفاء، هكذا سيفرح الطوال من البشر بعد أن يطيروا خائفين خلال الهواء الشفيف، والموت يتعقبهم. ذلك لأن السمكة الطائرة إنما ترتفع لتطير على أجنحة الخوف، وتنتفض في الهواء، ثم تسرع بالإفلات من حلق الموت، فتسمع حفيفها المندهش وهي تشق طريقها ببريقها الفضي خلال النهار الصغير الشفيف. لكنها تغوص من جديد نحو السلام العظيم للنهار الأعمق، فتمر من تحت أخمص الموت، لتعبر نحو ما تملكه من …"
كان جيثين يقرأ من جديد في نسخته من "كتاب آل دي" في غسق أمسيته الأخير. كان ممتعضا من الناحية الشخصية من رمزية سلفه الإليزابيثي وصوفيته، لكنه شيء يجري في عروقه، وكان هو عائداً الى الوطن، راجعاً ، راجعا إلى المنزل الذي تنتصب فوق سقفه الأسماك الطائرة. وأحس بقدر مشؤوم هائل يجثم فوق كل الأشياء، ولازمه هذا الإحساس حتى في الصباح التالي، عندما تحرر القطار الصغير من البلدة الصغيرة المشؤومة ومضى نحو الهضبة، حيث تمد شجيرات الصبر انابيبها التي تشبه النايات، وحيث تتراجع الجبال، الزرقاء مثل القطريون، في هيأتها الشديدة النقاء والاعتام في ارض النهار الأعظم، نهار الشياطين. ومضى القطار الصغير ذو العربتين -واحدة مكتظة بالأهالي، وأخرى بأربعة أو خمسة مكسيكيين "بيض"- مضى في قعقعة خلال النهار الضئيل، نهار الدمى والآلات البشرية. واقتعد السقفَ جنود شديدو الصغر، يشبهون التراب، بسحن مسفوعة سوداء وبنادق وأحزمة من الرصاص. وكانوا يتمسكون بالسقف بقوة كيلا يسقطهم الارتجاج العنيف. وهكذا ابتعدت هذه اللعبة العجيبة، هذه القافلة الصغيرة المجنونة، فوق الأرض العظيمة الضائعة، بصبيرها، وجبالها المتراجعة للوراء، ومضت نحو الممر المقفل الضيق حيث يبدأ الانحدار الطويل.
في العاشرة والنصف، وفي محطة على مسافة ما نزولا في الوادي الضيق، محطة مربوطة الى مناجم الفضة القديمة، وقف القطار، وترجل الجميع لتناول الطعام: الديك الرومي الأزلي مع الصاص الأسود والبطاطا والسلطة وفطائر التفاح، فطائر التفاح الأمريكية التي هي سندويشات من التفاح المطبوخ بين طبقتين من رقاقات الفطائر، وكذلك الجعة المصنوعة في بيوبلا (9). قدم الطعام نادلان صينيان بكل اللباقة والنظافة وجودة الطهي التي تميز النهار الصغير للرجال البيض الذي يجيدون إعادة صنعه. إنه نهار حضارتنا الصغير. أما في الخارج فقد كان القطار الصغير ينتظر، والجنود الصغار ذوو الوجوه السمر يحدون سكاكينهم. وكان الانحدار الهائل المتنوع للوادي ينتصب بين الشمس والظل دون أن يمس، كما في يوم الدينونة.
الى الأمام من جديد، دائرا، نازلاً في المجرى أو الصدع الوحشي الهائل لحافة الهضبة، حيث لا يعيش إنسان. وتدلت أحراش تمد أغصانها المتسلقة القرنفلية الرائعة كما في البيوت الزجاجية، وانفتحت أزهار لبلاب عظيمة زرقاء، وخلال التشابك القبيح لهذا النماء برزت بين الأشجار نباتات أوركيد منتفخة تدلت منها ذيول من الزهور البيضاء والصفراء. إنها الفوضى المتشابكة الغريبة للغابات.
وأطل جيثين دي على الوادي الذي تتدفق فيه المياه، ورأى أربعة غزلان صغيرة ترفع رؤوسها عن الماء لتحدق في القطار. "الغزلان ! الغزلان! " سمع الجنود ينادون في خفوت، لكن الغزلان، وكأنها تعرف أنها بأمان، وقفت مندهشة، هناك، بعيداً في النهار الأعظم، في المدى الخالي من البشر، بينما استدار القطار حول صخرة حادة ناتئة.
ووصلوا أخيرا الى القاع، حيث الحر الشديد، وبعض الرجال المستسلمين يتسكعون حاملين سكاكين القصب السكري التي تشبه السيوف. وبدا القطار كأنه يرتجف من الخوف طوال الطريق كما لو كان يخشى انقطاع خيطه، وياله من خيط ضعيف، رفيع، خيط النهار الأصغر الذي ينظُم في حركته هذه الحرارة المتهورة العظيمة للأرض المتوحشة. ياله من خيط ضعيف، سريع الانقطاع!
بيد أن القطار واصل زحفه، الى الأعلى، الى الشمال. وحين بدأ سبات الحر بالزوال مع حلول العصر أبصر الرجل المريض بين أشجار المنجا ، من وراء الامتدادات الخضراء المشرقة لقصب السكر بيوت قرية تجمعت مثل عناقيد بيضاء وقبة كنيستها الملونة التي طليت بأسرها بالآجر الخزفي الأزرق والأصفر: إنها أسبانيا التي زرعت فقاعات نهارها الصغير بين الأشجار السوداء لهذا الذي ليس الى قهره من سبيل.
وصل القطار مع حلول الليل الى بلدة صغيرة محافظة، أكثر اتصالا بالمدنية، حيث أنهى القطار جريه الخائف، فنام فيها ليلته. واستقل في اليوم التالي قطارا متداعيا عبر حافة الهضبة الرئيسية. كان الريف بورا، لكنه أكثر أهولا بالسكان، فيحدث أحيانا أن مزرعة كبيرة ألحقت بها طواحين للسكر تقف متراجعة بين التلال. لكن السكون هو الطاغي؛ فقد استنفذت اسبانيا طاقة نهارها الصغير هاهنا، وها قد عاد الصمت، ورعب النهار الأعظم، الغامض، المشحون بالموت، ليملأ الآفاق من جديد.
وراح واحد من الأهالي: رجل وسيم ضخم الجثة، يروح ويجيء في القطار، بين المسافرين المكسيكيين الوجلين حاملاً صينية من أقداح الآيس كريم. كان بلا شك من قبيلة "تلاكسالا" (10). نظر اليه جيثين دي والتقت عيناه بعينيه السوداوين اللامعتين:
- " ؟Quiere helados senor " (11)
سأله الهندي وهو يقدم له قدحا بيده السمراء الصقيلة العاطلة. وسمع جيثين دي في نغمات صوته الغامضة صوت النهار الأعظم :
- " Gracias! " (12)
وارتفع أنين امرأة في المحطة :
- "Patron , Patron…Por amor de Dois, Patron! " (13)
ومدت يدها تسأل بضع سنتات. ومن جديد سمع الرجل الإنجليزي في اللحن الباكي لصوتها الهندي الاستغاثة المترنمة التي لا يسبر غورها للمرأة الهندية، وهي تنوح في غرابة وفظاعة تفوقان الحمام المطوق، في حزن لا تحده آفاق، في توسل باك يهز هزا، وينتزع من الرجل اللب من روحه. فوق باب رحمها لم يكن مكتوبا فقط " Lasciate ogny speranza, voi ch’entraye (14) ,” ولكن "Perdite ogni pianto, voi ch’uscite " (15). ذلك لأن الرجال الذين يعرفون هؤلاء النسوة كانوا أبعد من نطاق البكاء بل وحتى اليأس. إنهم صامتون في الإكراه الأبدي للنهار الأعظم. كان بمقدور الرجال الضخام، الفخورين، أن يبيعوا أقداح الآيس كريم بخمس وعشرين سنتا وهم لا يشعرون حقاً بأنهم يفعلون ذلك. لقد كانوا في مكانٍ آخر، بعيدين عن نطاق اليأس. وما كان ليحدث إلا في أحيان قليلة أن تكتسحهم النوبات الأخيرة من شهوة الموت وقد أوصدت عليهم المنافذ ، كما كانوا، في النهار الصغير للرجل الأبيض، منتمين، كما كانوا، الى النهار الأعظم.
واستمر القطار الصغير في جريه نحو الهضبة الرئيسية، ونحو نقطة الاتصال بالخط الرئيسي الذي يدعى "خط الملكة" وهو خط لما يزل مملوكا الى الإنجليز ويربط مكسيكو بخليج المكسيك. وهنا في مطعم المحطة الكبير المهجور طلب الرجل الإنجليزي الوجبة المعتادة التي جيء بها بالصراحة الأمريكية الآلية المعتادة أي بطريقة "خذها أو دعها". تناول الرجل ما استطاع ثم خرج ثانية. هنا كانت السهول الكبيرة مستوية عارية، تحت سماء الشتاء الزرقاء، في غاية النقاء، وقليل من الحر. وفي البعيد انتصبت، تماما في منتصف الهواء، القمة البيضاء لبركان "أوريزابا" (16)
"آهٍ أيها الإنسان. لا عون لك. الخوف يمنحك أجنحة كما الطير. الموت يلاحقك فاغر الفم وأنت تطير كالذبابة. لكنك لن تبتعد في طيرانك، وطيرانك لن يطول. أنت سمكة المحيط السرمدي، ولا بد لك أن تعود لتسقط فيه. حذار أن تحطم نفسك في سقوطك! فالموت لا يكمن في الاحتضار، بل في الخوف. أوقف إذن نضالك من أجل الطيران وارجع وارتم في العنصر العميق حيث الموت موجود وليس موجودا، وحيث الحياة ليست هروبا. جميل أن تعيش. جميل أن تحيا. عش إذن في النهار الأعظم ودع الماء يحملك والسيل يقدك، وعش. عش فحسب. وكف عن هذا الفرار العجول"
-" لا مزيد من هذا الفرار العجول"
حتى الإليزابيثيون كانوا يعرفون: القلق، "العجالة". إن جيثين دي يعلم حقا أنه كان مستعجلا على الدوام، ولربما استعجل أبعد من اللازم بقليل. والآن، وقد عركته التجارب صار يعي وجود ثغرة في تواصله الزمكاني: لقد كان- بكلمات سلفه- واعيا بالنهار الأعظم وهو يتراءى من شقوق النهار العادي. وكانت محاولة رتق الشقوق أمرا لا جدوى منه. كان محتما على النهار الصغير أن يتفتت ويزول -طالما تعلق الأمر به- وكان محتما عليه أن يحيا في النهار الأعظم. كان مرأى قمة البركان في منتصف الهواء وحده كافيا كي يدفعه الى إدراك ذلك. كانت ذاته الصغيرة مستهلكة، بالية. لقد شعر بالغثيان والضعف وهو يواجه هذا التحول في الحياة.
"إهدأ إذن، إهدأ ! لفّ نفسك بالصبر، وتدثر بالسلام، كما يدثر البركان الشاهق نفسه بالثلوج، لكنه ينظر رغم ذلك في أعماق نفسه ويبصر الشمس الندية في داخله، مصهورة ،شديدة البأس، تعجّ بنطف الحياة. إهدأ واسمُ فوق نطف الحياة التي تُراق وحيدةً حين تجيء ساعتها. إهدأ مثل تفاحة تحيط بقلبها، مثل عندليب في الشتاء، مثل جبل طال انتظاره على ناره. كن هادئا فوق شمسك.
ذلك لأن عندك شمس في أعماقك. عندك شمس ليس لها وقت معلوم. إنتظر إذن، وعش في سلام مع شمسك الخاصة التي هي نطفة حياتك. عش في سلام مع شمسك التي بداخلك، كما يفعل البركان، وشجيرة العليق قبل أوان الثمر، وساعات الليل الطويلات. تمسك بشمسك تلك، فحتى رؤوس البصل تفعل ذلك، رغم إنك لا تراها. ولكن حاول تقشيرها وستدفع شموسُها عينيك فتذرفان الدموع. كل شيء له شمسه الصغيرة، حتى الذبابة الكريهة، فإن فيها شيء يومض بالضياء"
واقفاً عند رصيف المحطة المفتوح على السهول العظيمة الممتدة على الهضبة قال جيثين دي لنفسه "إن سلفي القديم لأكثر واقعية عندي من المطعم، ومن الوجبة التي تناولتها"
لم يأت القطار بعد، لذلك تحول جيثين الى صفحة أخرى من المخطوطة الزرقاء بلون القطريون وهو يأمل العثور على شيء مسلٍ.
"حين تجثم الأرض الكسول وتفرط في ثقلها العظيم يثور فيزوف (17) ويبصق ناره. وكذاك العندليب تقتله أغنيته إن ظلت في جوفه. أغنية العندليب هي نيميسيس (18) بالنسبة إليه والأغاني التي لم يغنها هي الإيرينات(19) :أرواح الانتقام النجسة، والشمس في داخلك هي كل شيء فيك. فاصبر إذن ولا تبال. لا تبال. لأن ما تعرفه هو على الدوام أقل من حقيقتك. إنك لن تدرك حتى النار الكاملة لشمسك الخاصة التي في جسدك. فكيف تثقل شمسك بالهموم؟ تقبّل القلق، تقبل الألم، تقبل كل شيء كما تقدمه إليك شمسك. حذار فقط من أن توثق نفسك بحزام القلق على أي شيء. فالقلق هو انعدام التقوى. إنه البصاق في وجه الشمس"
حين رفع عينيه هنيهة عن "كتاب آل دي" بادله النظرَ البركانُ الأبيض الساكن، الحالم، عبر السهول المرتدة. لكن القطار قد وصل، بكل الجلال الزائف لعدته العظيمة. ودخل الرجل الإنجليزي عربة المنام، وجلس وكتابه في جيبه. ومضى القطار الذي يكاد يكتسي بفخامة النهار الأعظم، لكنه أحمق وهش في نهاية المطاف، مضى يسرع فوق السهل، ثم يدخل الشعب الضيق، ثم يزحف مستديرا هنا وهناك في حذر، هابطاً من الجانب الجرفي للهضبة، بينما رقدت الأراضي المنخفضة تحته بآلاف الأقدام وقد تنقطت بقرية أو اثنتين مثل بقع دقيقة. لكن الأراضي الواطئة انجرت الى الأعلى، وصعّدت أشجار الصنوبر نحو الأعالي، وتزاحمت الأشجار العريضة أخيرا حول الخط، وتراكض الأهالي السمر بجانب القطار يبيعون أزهار الجاردينيا التي ملأت الهواء بعطرها. غير أن القطار كان فارغاً تقريبا.
كانت فيراكروز (20) عند حلول الظلام ميناءً حجرياً حديثاً، لكن ذا مظهر استوائي مثبط، مغلقا في أغلب الأوقات كما لو أن الحياة غادرته بهدوء: بنايات الجمارك العظيمة، فدادين (21) من آلات البيانو في صناديقها، كل البضائع المطروحة التي لا تنتهي لنهار التجارة الصغير، ملقاة هنا في الانتظار، فدادين من بضائع مهملة، تنتظر أن ينهي عمال فيراكروز إضرابهم، بلدة/ ميناء يشله الخدر: الشمس الداخلية تسدد ضربات الانتقام الى حياة التجارة الصغيرة. ومع غروب شمس النهار خيم ضياء برتقالي ثقيل على صفحة الماء، شؤم، كآبة، غضب للطبيعة عميق، حتى في ترقرق موج البحر الدافئ. في هذه المياه المالحة ما زال الناس معمدين بالمسيحية، أما الاشتراكيون فقد عمدوا أنفاسهم –ربما في سخرية- بسر الغضب والانتقام. كان الميناء الخالي في أيدي المضربين وتاركي العمل الناقمين. واختفى الموظفون الرسميون تقريباً، فكانت امرأة، "سيدة" ما تتولى حتى هنا فحص جوازات السفر.
لكن السفينة رست في النهاية البعيدة للرصيف: سفينة الركاب المفردة، الوحيدة. وكانت هناك سفينة أخرى من السويد: زورق بضائع بخاري. أما من سوى ذلك فقد كان الميناء مهجوراً. كانت هذه هي النقطة التي يلتقي فيها النهار السحيق في القدم لهذه القارة بالنهار المزدحم للرجل الأبيض فيسحق أحدهما الآخر. وتكون النتيجة ميناءً من البطلان، والعدمية الحقيقية الراسخة، يسمي نفسه: مدينة الصليب الحقيقي(22) .

2- الخليج
وأبحروا مع الصباح مبتعدين عن السواحل الساخنة، وعن الهضبة التي تتدلى نحو الداخل. وأخلى عالمٌ مكانه لعالم ثانٍ. وفي ساعة واحدة لا غير لم يبق سوى البحر والسفينة. وولى عالم اليابسة والأعمال. لم يكن على متنها غير نفر قليل؛ كان صالون الدرجة الثانية التي يسافر فيها جيثين دي يضم سبعة عشر نفساً فقط. كان جيثين على يقين بأن القارب سيكون نظيفا ومريحا لأنه قارب ألماني. كانت أجرة الدرجة الثانية قد وصلت الى خمسة وأربعين باوندا، والرجل الذي ليس غنيا والذي يريد أن يعيش حياته بأقل ما يمكن من القسر يجب أن يحسب بدقة حساب المال وقوته. ذلك إن نهار النقود الصغير وشيطان الجشع المعسول اللسان (23) مستعدان على الدوام للإجهاز على ضحاياهما. والرجل الذي لمح النهار الأعظم والشمس الداخلية لن يقع –إذا استطاع- في قبضة النهار الوضيع لشيطان الجشع. كان لجيثين دي دخل متوسط ينظر اليه مثل حصن يقيه السلطة الخسيسة لشيطان الجشع. وكانت فكرة العمل من أجل لقمة العيش مقززة مهينة.
في صالون الدرجة الأولى كان أربعة أشخاص: تاجران دنمركيان غنيان ممتلئان جاءا الى المكسيك ضمن مجموعة من رجال الأعمال الدنمركيين الذين دعتهم الحكومة الى دراسة الموارد التجارية للأرض. وقد حظيا بالتكريم وأقيمت لهما المآدب واطلعا على ما أريد لهما أن يريا. وها هما الآن يعودان الى كوبنهاغن وهما أكثر انتفاخا بالأعمال كي يفقسا البيوض التي حبلا بها. لكنهما تناولا المحار أيضا في فيراكروز، وكان المحار في بطنيهما (24) فسقطا مسمومين ورقدا كالأموات طيلة الرحلة وتركا المسافرَين الآخرَين الوحيدَين على الدرجة الأولى ،وهما فارس إنجليزي وابنه، تركاهما وحيدين في هالة مجدهما. ولقد سر جيثين دي من قلبه لأنه أفلت من الدرجة الأولى، فالسفرة قد تطول عشرين يوما.
أما الأنفس السبع عشرة في الدرجة الثانية فكانت: أربعة من الإنجليز، واثنان من الدنمركيين، وخمسة أسبان، وخمسة ألمان، وكوبي واحد. كانوا جميعا يجلسون الى مائدة طويلة وحيدة في صالة الطعام: الكوبي في أحد الطرفين، على يمينه الإنجليز الأربعة يقابلون الأسبان الخمسة، ثم الدنمركيان اللذان جلسا متقابلين ليشكلا دولتين محايدتين بين الحاضرين وبين الألمان الخمسة الذين احتلوا الطرف القصي من المائدة. كان قارباً ألمانيا، لذلك كان هؤلاء يثيرون الكثير من الضجيج ويقدمهم النُدُل على الآخرين. أما الأسبان ومعهم الكوبي فقد فضلوا السكوت. وكان الإنجليز رسميين والدنمركيان مرتبكين والألمان صخابين. وهكذا انقضت وجبة الطعام الأولى. إنه نهار السفينة الأصغر، وهو صغير بما فيه الكفاية. كانت لائحة الطعام مكتوبة بألمانية سليمة وبأسبانية مشكوك فيها، لذلك لبست السيدة الإنجليزية التي على يمين جيثين دي عدستها وأطالت النظر فيها، لكنها ارتباكها منعها من التحديق فاضطرت الى وضعها جانبا وتناولت طعاما لا تعرف محتواه. جلس الأسباني المقابل لجيثين دي الى المائدة دون ارتداء ياقة أو ربطة عنق، وبأردان قميص مكشوفة يكاد بها أن يصرح بتلك اللمسة الاستعمارية القائلة:إذهبوا الى الجحيم. كان في الثانية والثلاثين تقريبا. نهق في وجه النادل بلهجة أسبانية غاليسية(25) غريبة أجشة فرسم الأخير ابتسامة عريضة تشي بالاستهزاء ثم أجاب بالألمانية لأنه لم بفهم شيئاً ولم يكن على استعداد لبذل جهد من أجل ذلك. وفي طرف المائدة كانت امرأة شقراء تشبه الحصان تصيح بأعلى صوتها في ألمانية شمالية خشنة مخاطبة رجلا ذي شاربين معقوفين للأعلى كان يترأس الطرف الألماني للمائدة نادته "الهر دكتور". وانحنى الأسبان للأمام في صف واحد لينظروا بنوع من الفزع الصامت الى المرأة التي تصرخ، ثم لينظر بعضهم الى بعض بابتسامة باهتة تنم عن ازدراء ساخر. قرع الغاليسي المنضدة بقارورة النبيذ الفارغة. كان النبيذ "ضمن الوجبة". جلب النادل إبريقا نصف مليء وقد ارتسمت على محياه تكشيرة احتقار صغيرة من هذا السلوك. لم يكن النبيذ "مفتوحا للطلب" بل "محدودا". وعندما أدرك الأسبان ذلك صاروا يخطفون القوارير ويفرغونها في أجوافهم قبل أن يرشف منها الإنجليز، وأمتع هذا ندل المائدة الذين سرتهم رؤية هؤلاء الأجانب وهم يتقاتلون على النبيذ. لكن جيثين دي حل المشكلة بأن أخذ يمد يده الى الباسكي البدين الحليق الذقن فور أن يصل الدورق لذلك الرجل ويقول له "هل تسمح لي أن أخدم السيدة؟" فيناوله الباسكي (26) الدورق فيصب منه له وللسيدتين قبل أن يعيده الى الأسبان. هنا، في الأسفل، لا يطلب الإنسان إلا النزر اليسير، لكنه –ويا للشيطان- حريص على الحصول عليه. إن هذا كله جزء من النهار الصغير، ويجب أن يولى العناية. أما كونه ممتعا أم لا فيعتمد على حالة المرء الروحية.
كان جيثين دي ينزل خلال المجاز الضيق للسطح السفلي للمركب، مدرعاً بكل أشواك الهجوم والدفاع التي يجب على الإنسان أن يتدرع بها في الأيام الأولى لصحبة كهذه، ثم ينزل الى المنطقة المخصصة لركاب الدرجة الدنيا حيث يضطجع بعضهم هنا وهناك في قمصانهم وسراويلهم، ثم يصل الى أقصى الطرف الأمامي للسفينة.
مضت السفينة في سرعة وسلاسة، تشق طريقها نحو الخليج. إنها سفينة قديمة، طويلة ورفيعة مثل سيجار. لكنها تتمتع بلطف وجمال خاص. كانت سفينة حقيقية، وليست مجرد ناقلة خطية.
إعتاد جيثين دي على الجلوس عند أقصى مقدم السفينة فوق الدَقَل المائل (27) ليطل على الشروق الساطع للشمس في خليج المكسيك الساخن. هنا كان وحده، وكان العالم بأسره هو الشروق الأبيض الغريب، الأبلج؛ والماء، الماء الدافئ البراق الذي يتدفق من تحته نقيا، في اخضرار رائع رقيق. كان الماء يرفع من مقدم السفينة المندفع الناتئ أجنحةً تنبض بالحياة، ثم ينفض رشاشا فوارا أبيض من حافاتها الخضراء. ودائماً، دائماً، دائماً كان ثمة نبع ذي جناحين يرتفعان إذ تتقدم السفينة بينهما كالحياة نفسها، وإذ يسقط الرشاش هامسا مثرثرا من القوس الأخضر لأطواق النجاة. والى الأسفل، متقدمة بلحظة واحدة لا غيرها، متقدمة على الدوام، سالمة تماما، لم تتكسر بعد ولم تمس، كانت الأعماق الخضراء الرائعة، الأعماق القصية تارة والضحلة تارة أخرى، مثل غشاءين من زمرد شاحب فوق الاخضرار الياقوتي وتحته، داكنة وشاحبة، زرقاء وخضراء وامضة. ماءان كانا، أمواه كثيرة، ماء واحد، كامل في انسجامه، يتقدم السفينة للحظة واحدة، هادئا، وقورا، عميقا، لا يسبر غوره، متحررا من قيود الزمن. كان شيئا رائع الجمال، هنا فوق الدقل المائل الذي يرتفع بنعومة في هذه السفينة الرشيقة الطويلة. إنه الجسد وهو يتأرجح في مهد الحياة التي لا تحدها أزمان. إنها الروح تضطجع في لحظة تلونها الجواهر، تلونها الأبدية الصافية كالجواهر لخليج اللامكان هذا.
ودائما، دائما كما في الأحلام، كانت رفوف من الأسماك الطائرة تخترق الهواء، قادمة من لا مكان، ثم تمضي، مرفرفة ملتمعة، في طيران أجنحتها المائية الفضية التي تخفق مسرعة، وتبتعد هابطة مثل طيور السنونو فوق صفحة الماء الناعمة الرقراقة، لتمضي من جديد، تختفي فجأة دون أثر أو صوت ارتطام، مثل التماع فضي ضئيل. لقد اختفت! ويظل البحر الأزرق ساجيا، ناعم الوجه كالحرير، يجيش في نعومة ورقة. إنه النقاء بعينه. إنه البحر، البحر، البحر.
وفجأة تكسر الهمس الرقيق، وحلقت فوق صفحة الماء غيمة من فضة تحلق بها زعانف شفيفة مثل ماء نقي مرتعش. إنها تطير في زاوية مع خط السفينة وكأنها تتدفق من مقدمتها لتحلق في قوس منخفض، مرتعشة في إصرار جامح مثل سرب من الجراد أو الجنادب يتفجر خارجا من بين العشب في اندفاع وحشي ليشق طريقه مبتعدا، ثم ليختفي على حين غرة، مثل حشد من الشموع يطفئها نفَس واحد. ومضت السفينة لا تلوي على شيء، مثلما يمضي القمر دون أن يتوقف هنيهة ليلقي نظرة أو يلتقط الأنفاس. لكن الروح تتوقف وتحبس أنفاسها من العجب، العجب الذي ليس سوى تنفس الروح.
كان يقضي الصباح الطويل برمته ملتفا في دهشته من خليج الإبداع هذا؛ حيث الأسماك الطائرة التي تندفع في غمامات من النشوة، خارجة من الماء في رهبة مضيئة كالفرح، وفي فرح مضاء بالرهبة، بأجنحة صيغت من ماء صافٍ تصطفق بسرعة عظيمة، بأجساد طويلة الجذوع صنعت من فضة شفيفة، مثل انبجاسات ماء الحياة، هناك في الهواء، مضيئة في الهواء، قبل أن تختفي فجأة، ويرتعش البحر الأزرق بغشائه الأخضر الرقيق، ويمتد البحر الساجي، متقدما بهنيهة واحدة، سليماً، باكراً، منذ ابتداء الزمان، في جماله المائي.
كان أحد ضباط السفينة يأتي أحيانا ويحدق من فوق الحافة ويشاهده وهو مضطجع هناك. لكن أحدا لم يقل شيئا. لم يكن الناس يحبون النظر من فوق الحافة، إنه مشهد مفرط في الجمال، مفرط في النقاء والعذوبة، إنه النهار الأعظم. هم يدفعون أخطامهم لوهلة فوق الحاجز الحديدي، ثم ينكفئون متراجعين مرتبكين في خور، ساخرين في خور، مذلولين في خور. إنهم على أية حال قد كشفوا أخطامهم للصباح الذي لم يولد بعد. لا شيء سوى أخطامهم، وهم على ذلك يستحقون الإذلال.
أحيانا كانت تبدوا لهم جزيرة ما، جزيرتان، ثلاث جزائر، صغيرة وموحشة، بكآبتها الأمريكية الفريدة، ولكن ما من يابسة! كانت الروح تتوق لرؤية اليابسة، وكان الماء الذي يمتد دون انقطاع هو الوحيد الموغل في القدم، والنقاء، صافيا وجميلا.
في الصباح الثالث ظهر سرب من الدلافين يتقدم السفينة، لكنه ظل تحت سطح الماء فلم يتسبب في جلبة من تجمع الركاب لرؤيته. لم يرها غير جيثين دي. ويا له من مرح! يا لها من بهجة للحياة! يا لها من بهجة عجيبة نقية في أن تكون دلفينا في البحر العظيم، أن تكون دلافين كثيرة تتقدم ساخرة في اندفاع شفيف يهزأ بالاندفاع المتهور، العديم الجدوى للسفينة العظيمة!
كان مشهدا من أنقى وأكمل مشاهد الفرح التي يراها في حياته: إنها عشرة دلافين وربما اثنا عشر دلفينا مدور الجذع من الأسماك الطوربيدية. ظلت هناك وكأنها ساكنة لا تريم، دائما في مكانها دون حراك ظاهر، تحت الماء النقي الرائق. لكنها رغم ذلك تندفع في سرعة السفينة ذاتها، دون أدنى مظهر للحركة، ومسرعة رغم ذلك في دقة أشبه بالمعجزات. بدا كأن طرف الزعنفة الذيلية للسمكة الأخيرة يلامس بالضبط الأقواس الأمامية للسفينة من تحت الماء، في لمسة هي أضعف ما تكون، لكنها دقيقة ومستمرة, وبدا كأن لا شيء يتحرك، لكن السفينة والأسماك كانوا جميعا يمضون قدما في المحيط الاستوائي. وتحركت الأسماك، غيرت أماكنها المرة تلو الأخرى، تحركت في غيمة صغيرة وكأنها تؤدي لعبة رياضية رائعة، تصعد تارة، وتنزل تارة، وتتقدم تارة ثالثة، ولكن في سرعة واحدة على الدوام، في سرعة واحدة. وتبقى السمكة الأخيرة تلامس بطرف ذيلها الدفة الحديدية في مقدم السفينة. أحيانا تغطس إحداها في العمق الأزرق فتغدو مثل خيال ثابت على السرعة نفسها. ثم تصعد في ثورة عجيبة الى الماء الأخضر الشاحب لتنزل سمكة أخرى مكانها. أما تلك الملامسة للسفينة فكانت هي الأخرى تتبدل في طرفة عين. وتظل السرعة الأفقية الصافية دون تحول. أحيانا كان أحد الظهور الداكنة يكاد يلامس صفحة الماء من الأسفل، دون أن يشق أديمه. ويظل الدلفين الأخير يلامس السفينة. ويظل الآخرون يمضون في سرعة لا حراك فيها ولا جهد، ويتبادلون الأماكن بسرعة ونعومة غريبة كالحرير. إنهم يتلاشون في الظل الأزرق المعتم، ثم ينبثقون بشكل عجيب من بين الآخرين، الصامتين، المسرعين في الماء الأخضر، وهم يبدون طوال الوقت وكأنهم يتبادلون الضحكات.
وظل جيثين دي يراقب كالمأخوذ، دقيقة إثر دقيقة، ساعة، ساعتين. وظل الأمر كما هو: السفينة تسرع، تشق الماء، والأسماك المتينة القوية تتقدمها في اتزان كامل من تحت الماء وتمتزج فيما بينها في ضحكة غريبة واحدة لعقلها المركب، وتشع منها بهجة الحياة، بهجتها المطلقة التي توحدها في حركة كاملة صافية. أسماك كثيرة، بأجساد تنبض بالشهوة والحيوية، تتمتع بضحكة واحدة للحياة. إتحاد مطلق، كلي مثل العشق. إنهم يشعون ببهجة الحياة العجيبة، بهجة لم يصادفها الرجل من قبل، بهجة أسكرته طربا.
"… لكنهم يعرفون البهجة، يعرفون البهجة الصافية" قال لنفسه مندهشاً "إنها لأروع ما رأيت في حياتي من بهجة ضاحكة نقية صافية. لطالما ظننت أن الزهور قد ظفرت أجمل ما في الطبيعة من كمال. لكن هذه الأسماك، المكتنزة الدافئة فاقت الزهور بما انجزت وتقدمتها شوطا كبيرا. إن هذه الأسماك القوية اللامبالية هي أنقى إنجاز للفرح أراه في حياتي. لم يحز البشر في دواخلهم ذلك السر في أن يكونوا أحياء سوية، وأن يتحدوا مثل ضحكة واحدة، وأن يحافظ كل منهم –رغم ذلك- على مشيته الخاصة. هذه هي البهجة الخالصة، ولقد فقدها بنو البشر، أو ربما لم يحققوها قط. إن أمهر الرياضيين ليسوا إلا طيور بوم لو قورنوا بهذه الأسماك. وليس تآلف العاشقين بشيء يذكر إزاء هذا الانسجام المدوم للدلافين التي تمرح تحت الماء. كم سيكون رائعا لو أننا عرفنا الفرح كما تعرفه هذه الأسماك. إن حياة الأعماق لمتقدمة على حياتنا، إنها تتسع للاتحاد الخالص وللفرح الخالص. أما نحن فلم نصل أبدا الى ذلك الحد.."
وهناك، حيث يميل على الدقل المائل، كان مأخوذا كمن نوّم مغناطيسيا بشيء واحد لا غير: بالبهجة، ببهجة الحياة، بالأسماك التي تسرع في الماء بابتهاج لعوب. لا عجب في أن المحيط لما يزل غامضاً إذ تنبض في أمواهه قلوب حمراء كهذه! ولا عجب في أن الانسان وهو يتخبط في مأساته لم يكن إذ يقارن بها غير شيء شاحب بائس! ترى أية حضارة يمكنها أن تسمو بنا الى إتحاد ضاحك رشيق كهذا الذي وصلت إليه هذه الاسماك؟

3-الأطلسي:
ووصلت السفينة في الليل الى كوبا، الى هافانا، وحين توقفت تماما نظر جيثين من كوة حجرته وأبصر أضواءً صغيرة فوق الظلام الشاخص. إنها هافانا!
ونزلوا الى الساحل في الصبح، ومضوا خلال أزقة الميناء حتى بلغوا الشارع الكبير. كان صباحا دافئا جميلا من صباحات ديسمبر الاولى، وكانت البلدة كلها في الشوارع، ذاهبين الى القداسات أو خارجين من الكنائس القديمة الكبيرة المتجهمة. وتجول الانجليزي قرابة الساعة برفقة الدنمركيين في المدينة التي ليس فيها الكثير من الاثارة. كان العديد من الامريكان يتسكعون هنا وهناك وكلهم تقريبا يحملون "باجات" من نوع معين. وبدت المدينة –من الخارج على الاقل- امريكية للغاية. أما من الداخل فقد أضاعت فيما يبدو كل سمة شخصية تخصها.
إستأجر الرجال الثلاثة سيارة يتجولون بها. كان الدنمركي الأكبر سنا وهو رجل يناهز الخامسة والاربعين يتحدث إسبانية عامية طليقة تعلمها في حقول النفط في تامبيكو(28) .
-" أخبرني" قال للسائق "لماذا يضع كل هؤلاء الأمريكان، هؤلاء اليانكيين، تلك الباجات على صدورهم؟"
كان يتحدث كما يتحدث كل الأجانب تقريبا عن اليانكيين في نبرة تنم عن سخرية نصف حاقدة.
-" آه يا سنيور" قال السائق بضحكة كوبية ساخرة "أنت تعرف أنهم يأتون الى هنا كي يشربوا (29). وهم يفرطون في الشرب حتى ليضلون طريقهم في الليل ولهذا هم يضعون الباجات: الإسم، إسم الفندق ومكانه الخ.ز ثم يعثر عليهم رجال شرطتنا وهم منكفئين على وجوههم على الارصفة فيقلبونهم ويقرؤون الاسم واسم الفندق ومكانه ويرمونهم في عربة ما ويرسلونهم الى أماكن إقامتهم. آه لقد بدأ الموسم للتو. إنتظر أسبوعا أو اثنين وستراهم ممدين في الشوارع كما في أرض المعركة فيما يقوم رجال الشرطة بدور الصليب الأحمر وهم يحملونهم الى فنادقهم بالعربات.. آه، الأمريكان! إنهم طيبون جداً! أنت تعلم أنهم يملكوننا الآن. نعم إنهم يملكوننا. إنهم يملكون هافانا. إننا جمهورية يملكها الأمريكان. حسن جدا. نحن نعطيهم الخمر وهم يعطوننا النقود. باه! "
ثم ضحك بنوع من اللامبالاة اللاذعة. كان يسخر من المشهد برمته، لكنه لم يقدم على فعل شيء إزاءه. وخرجت السيارة الى حدائق البيرة الشهيرة –حيث يعكف الجميع على تناولها- ثم الى المقبرة التي لا يمكن تجنب المرور بها والتي تكاد تنافس مقبرة نيو أولينز حيث "كل من يدفن فيها يضمن أن ينصب له شاهد بكلفة لا تقل عن خمسين ألف دولار". ثم مروا بضاحية الفيلات الجديدة التي تنتصب لامعة براقة نظيفة أنيقة "كما في كل أرجاء الدنيا" ثم خرجوا الى الريف ومروا بمزارع السكر القديمة وأخيرا مضوا نحو التلال.
كان الأمر برمته بالنسبة الى جيثين دي مدعاةً للقنوط وخاليا من أي متعة. لقد ملك اليانكيين كل شيء فيه. ولم يتبق فيه الكثير من سمات الخصوصية، اللهم إلا تلك السمة الفريدة الموحشة لكل مكان في أمريكا حين تمتد اليه يد الهجران. الكآبة الفريدة لكنكتكت (30) أو نيوجيرسي (31) أو لويزيانا (32) أو جورجيا (33). وحشة تضرب في الأرض حتى عظامها وتبدو جلية حالما يخبو النشاط البشري. يا لها من سرعة تلك التي لا بد ان كوبا وكآبتها الداخلية قد جرحت بها أرواح أولئك الغزاة الأولين، وحتى كولومبس!
وأقفلوا عائدين الى البلدة وتناولوا غذاءً ممتازا حقا، وراقبوا زوجا من الأمريكيين السمان؛ رجل وامرأته كما يبدوان، وهما ينسفان أثناء الغذاء قنينة من الشمبانيا، ثم قنينة من الهوك (34) ثم قنينة من البورغندي (35)، وكل ذلك في سرعة عظيمة. كان شيئاَ يدير الرأس من العجب. وأمضوا العصر المشرق المشمس في متنزه على الساحل، حيث الفنادق الكبيرة لما تزل مقفلة، لكنها والحق يقال تنام بنصف عين؛ فهناك مثلاً صالة للشاي فتحت أبوابها للزبائن.
وتفكر جيثين دي من جديد؛ ما أتفه النهار الصغير! ما أصعب أن تقضي فيه ولو أمسية من أماسي الأحد متفرجا على مدينة مثل هافانا، حتى لو كنت قضيت النهار بأسره متجولا في الريف. التفاهة المطلقة للتفرج الى الأشياء! الملل المطلق للأشياء كلها! لم يكن هنا ما يمنح الإحساس بالحياة غير القلعة القديمة والبحر المتماوج الأزرق الشاحب. أما خلاهما: المتنزه الساحلي الكبير، الشارع الكبير، الفنادق الكبيرة، فقد انكشفت كلها على حقيقتها: أسمنت يابس ميت، أسمنت وموات يبيس.
كان الجميع ممتلئين بفكرة الرجوع الى السفينة لتناول العشاء في الوحدة الظلماء لأرصفة الميناء. شاهد نابولي ثم مت! إذهب وشاهد أي مكان في الدنيا وستمسي بحلول العشاء نصف ميت من الإرهاق والإحساس بالتفاهة.
الوداع إذن يا هافانا!
ودارت المكائن قبل الإفطار. كان صباحا أزرق مشمسا. وانزلق الميناء وأرصفته متراجعين. وتحركت السفينة الى الوراء، ثم أدارت ظهرها في تأنٍ لكوبا ولساحلها الكئيب، وشرعت تتحرك شمالا، خلال النهار الأزرق الذي مر مثل إغفاءة نائمٍ. كانوا الآن يدخلون الفضاء الوسيع.
في الصباح التالي فتحوا عيونهم على لون الرماد؛ السماء الرمادية الخفيضة، والماء الرمادي الخفيض الشنيع، والهواء الساكن. وصارت السفينة الطويلة، الفظيعة، العجوز تغذ السير كأنما نحو الموت، وقد حوصرت كالسندويشة بين الرمادين.
-" ماذا حدث؟" سأل دي أحد الضباط.
-" لقد تحركنا شمالا لنلتحق بالتيار المتوجه نحو الشرق. سنمضي شمالا حتى خط العرض المار بنيويورك ثم شرقا مع التيار"
-"يا للعار العظيم! "
ولقد كان كذلك حقا. لقد غابت الشمس واختفت الزرقة. لقد ولت الحياة. كان الأطلسي كمثل مقبرة. مقبرة لا حد لها ولا نهاية، يسود فيها التجهم الرمادي ويدفن عالم الأطلسي المضيء.
إنه ديسمبر- ديسمبر المعتم الرمادي- يمتد فوق الماء القبيح الرمادي الميت وتحت السماء الرمادية الميتة.
وهكذا جروا نحو كتلة الأمواج العالية: كتلة طويلة بدت أمواجها الزيتية المقززة كأنها تبلغ مئات الأميال طولا، مرتحلة في نفس مسار السفينة.
وتسلقت السفينة/السيجار الرفيعة صفحة الموج المنحدر في صعود يثير الغثيان: عالياً، عالياً، عالياً حتى استوت في ترنح ثانية واحدة فوق القمة. ثم مالت وانطلق لولبها مثل مثقب لطبيب أسنان في سن نخرة، وهوت نازلة من فوق المنحدر الطويل المرتعش وهي تترك وراءها كل ما في جوفها وما في أجواف ركابها أيضا. وما هي إلا ساعة حتى عرا الجميع شحوب كشحوب الميتين، تخالطه ضحكات مريضة وهم يظنون الأمر ضربا من مزاح سرعان ما يزول. ثم اختفى الجميع، واستمرت اللعبة: عاليا، عاليا، عاليا حتى السماء، ثم وقفة قصير. آه، ثم "بررر" حين يخرج اللولب من الماء وتتحطم الأعصاب. ثم "هووو..ش" ! الانحدار السريع الطويل المرعب الذي يترك من وراءه الأحشاء.
كانت مثل سفينة ضربها الطاعون، فقد اختفى الجميع بما فيهم الخدم. وكان جيثين دي مثل من تناول سما، فنام ونام ونام ونام. لكنه كان طوال الوقت يعي الحركة المقيتة: عاليا، عاليا، عاليا، عاليا للسماء، ثم، آه! لحظة واحدة يعقبها الـ"بررررر" الممزق! والقبح الذي لا يوصف للانزلاق عن هذا الجبل. حيث الموت يبدو كامنا داخل الاحشاء، وحيث الماء يتحكم مثل عقابيل الموت. كان يعي الأنين المتصل للمرأة المكسيكية الشاحبة البدينة، زوجة الطبيب الأسباني، والذي ظل يصل اليه طوال ساعة كاملة من مسافة حجرتين وكأنه سيستمر الى الأبد. كل شيء يستمر الى الأبد، كل شيء يمضي مثل هذا الأنين، للأبد، للأبد. أما هو فقد نام ونام ونام طوال ثلاثين ساعة، وهو يدرك –رغم ذلك- كل شيء، ويسجل بدقة التكرار الذي لا ينتهي لهذه الحركة، والصرير والسقسقة العاليين للسفينة، أو الأنين الذي لا ينتهي للمرأة.
وفجأة عصر اليوم الثاني شعر بالتحسن فنهض. كانت السفينة خالية تماما. ناوله نادل مقزز كوبا من الشاي المقزز ثم اختفى. وعاوده الدوار، لكنه حضر عند العشاء. كانت المائدة الطويلة تجتمع ثلاثة أشخاص يلفهم صمت السفر المتجهم الفظيع: هو وشاب دنمركي، وعجوز انكليزية ضامرة ظلت تتكلم وتتكلم. نظر الثلاثة في فزع الى الكروت (36) ودخنوا تبغا من صنف lion of pork لكنهم تناولوا نزرا يسيرا من الطعام. ثم أطلوا بأنظارهم على الليل البغيض الموحش الدبق الذي لا ريح فيه، ثم أقفلوا الى أسرتهم.
في المساء الثالث بدأ المطر بالنزول وشرعت الحركة بالاختفاء. كانوا يخرجون من كتلة الموج. لكنها ظلت تجربة جديرة بالتذكر.
(نهاية المخطوط)


هوامش:

(1) Tierra caliente وتعني بالاسبانية الأرض الساخنة وهي المنطقة الاستوائية الشديدة الحر في أمريكا الوسطى ويتراوح فيها ارتفاع سطح الارض بين 3000 قدم ومستوى سطح البحر.
(2) Crichdale
(3) Ashleydale
(4) Ashe.
(5) القطريون :cornflower أو برعم العازب bachelor’s button نبتة عشبية مركبة تتميز رؤوس أزهارها بشعاعات زرقاء أو قرمزية أو بيضاء.
(6) يستفيد لورنس في هذه القصة من التطابق اللفظي بين كلمة day التي تعني النهار وبين اسم البطل Gethin Day.
(7) بالأسبانية : على حب الله !
(8) البرقوق sloe : نوع من الخوخ البري الصغير.
(9) Puebla
(10) Tlaxcala : إحدى ولايات المكسيك الوسطى الصغيرة وهي موطن القوم المسمين بنفس الاسم والذين عرف عنهم رفضهم لسيطرة إمبراطورية الأزتيك وتعاونهم بالتالي مع الغزاة الأسبان في القضاء عليها.
(11) هل تريد شيئاً من المثلجات يا سيدي؟
(12) شكرا !
(13) أيها الرئيس، أيها الرئيس، على حب الله !
(14) بالإيطالية ومعناها: أهجر كل آمالك، أنت يا من تدخل الى هنا (من الكوميديا الإلهية)
(15) بالإيطالية: اسفح كل دموعك، أنت يا من تغادر هذا المكان!
(16) Orizaba : قمة بركانية شاهقة تغطيها الثلوج تقع في الشرق الأوسط المكسيكي تعد ثالث أعلى قمة في قارة أمريكا الشمالية (5610م) والبركان خامد منذ أواخر القرن السابع عشر.
(17) فيزوف (Vesuvius) وهو الجبل البركاني الشهير المطل على خليج نابولي جنوبي إيطاليا وقد ثار أعظم ثوراته عام 79 م فدفن مدينة بومبي ومدن أخرى.
(18) نيميسيس (Nemesis ): في الميثولوجيا الإغريقية هي إلهة الانتقام ويقال أنها حولت نفسها الى إوزة هربا من زيوس الذي تحول الى طائر التم وواقعها ثم وضعت بيضة خرجت منها هيلين الجميلة التي تسببت في حرب طروادة.
(19) الإيرينات (Ernyes) : في الميثولوجيا الاغريقية إلهات الغضب والثأر وعددها ثلاث ويعشن في العالم الأسفل.وهن بنات إلهة الأرض (جيا) وقد انبثقن من أشلاء زوجها أورانوس إله السماء.
(20) Veracruz : مدينة تقع شرقي المكسيك وتطل على خليج كامبيشي (وهو ذراع من خليج المكسيك) وهي ميناء رئيسي في قلب منطقة نفطية وصناعية وتجارية مهمة ويبلغ عدد سكانها حوالي نصف مليون نسمة.
(21) الفدان (Acre) مساحة تساوي (4200) متر مربع تقريبا.
(22) الصليب الحقيقي (The True Cross) : كانت العشرات من المدن والأماكن الدينية تدعي وجود أجزاء من الخشب المقدس الذي صلب عليه السيد المسيح والذي تقول الأسطورة أن القديسة هيلينا والدة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأعظم قد اكتشفته عام 326 خلال زيارتها الى الأراضي المقدسة في فلسطين
(23) شيطان الجشع (Mammon) في مسيحية القرون الوسطى واحد من الشياطين السبعة الذين يقفون وراء "الكبائر السبع".
(24) كناية عن أنهما منتفخان بالثروة التي يرمز لها بالمحار وما بداخله من لؤلؤ.
(25) غاليسيا (Galicia) منطقة في الشمال الغربي لأسبانيا ينحدر سكانها من السلت الغالسيين الذين أسسوا مملكة مستقلة في القرون الوسطى وهي الآن منطقة تنعم بالحكم الذاتي، وهي غير غاليسيا الأخرى الواقعة في بولندا والتي كانت مسرحا لمنافسات مريرة ومعارك طاحنة خصوصا في الحرب العالمية الأولى.
(26) الباسك (Basque) شعب يعيش في كل من فرنسا وأسبانيا في المنطقة المحيطة بخليج باسكاي والسفوح الغربية لجبال البيرينيه. وقد تمتعوا باستقلال قصير عامي 1936-1937 خلال الحرب الأهلية الأسبانية. يمتاز الباسكيون عن غيرهم من شعوب أوربا الجنوبية الغربية بأن لغتهم هي الوحيدة المتبقية عن فترة ما قبل الاحتلال الروماني ولا تنحدر من أصول هندو-أوربية.
(27) الدقل المائل (bow-sprit) : عمود ضخم ينبثق من مقدمة السفينة ويتجه نحو الأمام.
(28) Tampico: ميناء هام ومدينة في الشمال الشرقي للمكسيك قريبا من خليج المكسيك.
(29) بسبب تحريم الخمر في الولايات المتحدة في تلك الفترة.
(30) كنكتكت Connecticut : ولاية أمريكية تقع في إقليم نيو انجلند الواقع في الشمال الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية عاصمتها هارتفورد وتحدها من الشمال ولاية ماساشوستس ومن الغرب ولاية نيويورك ومن الغرب ولاية رود آيلند.
(31) نيوجرسي New Jersey : ولاية أمريكية شرقية لها سواحل طويلة على المحيط الأطلسي تحاذيها من الشمال نيويورك ومن الغرب بنسلفانيا ومن الجنوب ديلاور. عاصمتها ترنتون وأكبر مدنها نيوأرك.
(32) لويزيانا Louisiana : إحدى الولايات الجنوبية للولايات المتحدة وتقع على خليج المكسيك ونهر الميسيسيبي. عاصمتها باتون روج وأكبر مدنها نيو أولينز. سماها المستعمرون الفرنسيون نسبة الى ملكهم لويس الرابع عشر ثم بيعت الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1803. أصبحت عام 1812 الولاية الأمريكية الثامنة عشرة. وهي من الولايات الغنية بصناعاتها وبثرواتها المعدنية والنفطية.
(33) جورجيا Georgia : من ولايات الجنوب الشرقي الأمريكي . سماها المستعمرون البريطانيون نسبة الى ملكهم جورج الثاني وكانت من أولى الولايات التي وقعت على وثيقة الاستقلال. أصبحت ولاية زراعية غنية وقاومت إعلان تحرير العبيد وهزمت ودمرت في الحرب الأهلية وظلت بعدها بقيت ولاية زراعية فقيرة حتى خمسينات الفرن العشرين حيث تحولت بالتدريج الى ولاية صناعية مزدهرة. عاصمتها وأكبر مدنها هي أتلانتا.
(34) الهوك hock: نوع من النبيذ الأبيض الألماني.
(35) البورغندي burgundy : نبيذ أحمر أو أبيض تشتهر به في الأصل مقاطعة بورغنديا في فرنسا.
(36) الكروت sauerkraut طعام معد من كرنب مخمر.



#ماجد_الحيدر (هاشتاغ)       Majid_Alhydar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيها الجدار .. أيها الجدار البليد -شعر
- إفتحي الباب يا أمي
- عن الشاعر الهمام وأخطاء سيده الضرغام
- دعاء.. أو جنة الكردي
- لا خادم للشبكة - شعر
- من أقوال صاحب الجلالة الأعور بين العميان-المجموعة السادسة
- صور ومؤثرات مسيحية في أدب أبي نؤاس
- ثلاث قصائد للشاعر الإيراني سيد علي صالحي
- من أقوال صاحب الجلالة الأعور بين العميان-المجموعة الخامسة
- من الشعر السويدي المعاصر - قصيدتان للشاعرة لينا إكدال
- من الشعر الكوردي المعاصر-كل عام مع العشبِ نورق شعر: حسن سليف ...
- من أقوال صاحب الجلالة الأعور بين العميان-المجموعة الرابعة
- أغنية للربيع الجديد
- هكذا أراده الله -شعر: مؤيد طيب
- فرق توقيت - شعر
- من أقوال صاحب الجلالة الأعور بين العميان-المجموعة الثالثة
- من أقوال صاحب السعادة الأعور بين العميان-المجموعة الثانية
- من أقوال صاحب السعادة الأعور بين العميان-المجموعة الأولى
- رحيل - شعر
- شاهدة .. على قبرٍ جندي -متخاذل-


المزيد.....




- مصر.. الفنان محمد عادل إمام يعلق على قرار إعادة عرض فيلم - ...
- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد الحيدر - قصص مختارة من أدب د. ه. لورنس - السمكة الطائرة