أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبدالوهاب حميد رشيد - التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف4















المزيد.....



التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف4


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 4060 - 2013 / 4 / 12 - 15:13
المحور: المجتمع المدني
    


المجتمع المدني: ق2.. ف4

الفصل الرابع
المجتمع المدني في العراق
(1) مقدمة تاريخية
المجتمع المدني هو قبل كل شيء مجتمع المدن ويشكل مرحلة تطور أعلى من المجتمعات البدوية أو الريفية، ويقوم على نظام قانوني شامل، ويتطلب وجود الدولة مسبقاً. وهناك اتفاق عام بين علماء الآثار على أن أرض الرافدين انفردت بظهور أول نظام لدولة المدينة (المجتمع السياسي) على أنه أول شكل من أشكال الحكم في التاريخ البشري. ويرجح طه باقر أن أصول دولة المدينة تمتد في جذورها إلى زمن ظهور أولى مراكز الاستيطان البشري في السهل الرسوبي منذ الألف الخامس ق.م لتتطور المراكز الزراعية إلى مدن في العصر الشبيه بالتاريخي أو الشبيه بالكتابي في منتصف الألف الرابع ق.م. وكان نظام دولة المدينة في حضارة وادي الرافدين هو النظام النموذجي للوحدة السياسية أو الدولة، ومثل هذا النظام ظهر بعد أكثر من ألفي سنة في الحضارة الاغريقية. ونمت في دولة المدينة فكرة المواطنة citizenship والمواطن. وكانت المدينة أكثر من كونها تجمعاً سكانياً أو قبلياً "بل أن ما يدهش الباحث في حضارة وادي الرافدين أن لا يجد آثاراً للنظام القبلي منذ أواخر عصور ما قبل التاريخ". ويُفَسَّر ذلك أن الوحدة السياسية في هذه الحضارة التي أشرقت في السهل الرسوبي (جنوب البلاد) كانت أولاً القرية الفلاحية ثم المدينة المعتمدة كل منهما على الاقتصاد الزراعي وجهاز الري والتجارة، فنشأت, بدلاً من الأنظمة القبلية والولاء القبلي، أنظمة مدنية سياسية واجتماعية "عجيبة" منذ أبعد العصور التاريخية مثل مجلس المدينة "أُوكن" Ukin باللغة السومرية و "بوخرم" Pukhrum باللغة الأكدية، ومشيخة (رئاسة) المدينة "شيبوت آلم" Shibutalm وغير ذلك من الأجهزة المدنية والتنظيمات الاجتماعية والسياسية.(195)
يتأكد ذلك من الدراسات والاكتشافات الأثرية التي بينت حدوث انتقال تدريجي لإنسان الكهوف في شمال البلاد من الصيد وجمع القوت إلى الزراعة والرعي(إنتاج القوت) والسكن في القرى أواخر العصر الحجري المتوسط في حدود ستة عشر ألف سنة مضت، فحقق بذلك أعظم ثورة اقتصادية في تاريخ البشرية، ونمت القرى الزراعية لتنطلق من الجزيرة شرقاً وغرباً وجنوباً حيث تطور أعداد منها إلى مدن حضارية عامرة شكلت أساس وباكورة دولة المدينة في الحضارة السومرية التي استكملت نضوجها في حدود 3000 ق.م باكتشاف وسيلة التدوين (الكتابة) ونقل العالم من مرحلة ما قبل التاريخ إلى مرحلة التاريخ.(196)
كذلك يؤكد علماء التاريخ على غياب النظام القبلي- العشائري في الحضارة السومرية. وبدلاً من ذلك، وكما سبق القول، ظهرت المجالس المحلية القريبة الشبه بالبرلمانات علاوة على نمو التجمعات المهنية. ينقل الدكتور خزعل الماجدي عن كريمر- المتخصص بالحضارة السومرية- قوله"إن أول برلمان سياسي معروف في تاريخ الإنسان المدون قد التأم في جلسة خطيرة في حدود 3000 ق.م. وكان مؤلفاً من مجلسين أحدهما للشيوخ والآخر للمواطنين القادرين على حمل السلاح (النواب). وكان (برلمان حرب) دُعِيَ للانعقاد ليتخذ قراراً في أمر خطير يخص الحرب والسلم".(197) ويخرج ليو اولينهايم بنفس الرأي ويبين قيام العلاقات في مجتمع المدينة السومرية على أساس اتحادات مهنية لإضفاء المنزلة والحماية للفرد. "أما عن المستوى الاجتماعي,فإن وحدة مدينة بلاد ما بين النهرين أظهرت عدم وجود أية مكانة أو ارتباط قبلي، لكنها أظهرت تشكيل جمعية تتألف من مجموعة من المواطنين تمكنوا بواسطتها من إدارة المدينة تحت إشراف موظف".(198) ومن الحقائق التاريخية المدهشة في الحضارة السومرية أنها قامت على تعددية لغوية، إذ كانت ثنائية اللغة biligual متمثلة باللغتين السومرية والأكدية (حيث تفرعت الأخيرة إلى اللغتين البابلية والآشورية).(199)
وهكذا يواجه المتتبع للحضارة السومرية نفسه أمام حضارة راقية "فالمجتمع السومري لعصر فجر السلالات كان أبعد ما يكون عن البدائية، فقد ساده التنظيم المتكامل، بل وحتى الزائد عن اللزوم. وكان الشعب السومري شعباً صارماً ذا عقلية (بيروقراطية) فترك لنا آلاف السجلات والقوائم والقسائم والعقود التي ترهق الباحث على الرغم من كونها مصدراً غنياً للمعلومات".(200)
وكانت الاتحادات السياسية كثيرة واحتلت أهمية وموقعاً أكبر من الاتحادات الأخرى. كذلك تواجدت اتحادات مهنية كثيرة ومهمة، حيث تمكنت بعض المهن المتخصصة من تطوير تقليد موروث. "ولا بُدَّ أن توصلت مجموعات من المهنيين من ذوي الخلفيات الاجتماعية المتباعدة إلى نوع من الاندماج لأِسباب اقتصادية خلال فترة تمدن جنوبي بلاد ما بين النهرين. ويجب علينا أن نفرق بين اتحادات شبيهة بالنقابات التابعة للمهنيين والتجار وبين اتحادات مجموعات مهنية مؤلفة من خبراء في التعاويذ والكهانة...". ضمت هذه (النقابات) مختلف الحرف الصناعية اليدوية والأعمال التجارية، وكانت تُنظم من قبل القصر خلال العصر البابلي القديم، ودُلَّ عليها بمصطلح سامي باللغة السومرية "اوكولا" وبالأكدية "وتكو". ويظهر أن هذه الاتحادات كانت جزءاً من تنظيمات القصر أو المعبد أكثر من أن تكون مستقلة. "ويبدو أن مهناً مثل الصياغة والتجارة وصنع الخمر أصبحت مستقلة وضمن تشكيلات تلك التنظيمات. وتمتع مراقبو (النقابات) بمنزلة اجتماعية كبيرة وبمنزلة إدارية عالية".(201)
وتشير النصوص الاقتصادية التي عُثِرَ عليها في لكش (تلوة) وفي شروباك (فارة) بانخراط كافة السكان العاملين في تلك المدينتين إلى("نقابات) أو (اتحادات) متنوعة، بعضها صغير القاعدة تعكس تخصصاً دقيقاً. وُجِدَ هناك مثلاً رعاة يختصون برعي الحمير من الذكور ويختص آخرون بالإناث. وتواجدت تجمعات منفصلة للسماكين تبعاً لمكان صيدهم فيما إذا كانوا يصطادون في المياه العذبة أو المياه شبه المالحة أو في مياه البحر. حتى سحرة الأفاعي شكلوا حرفة خاصة ترأسها "ساحر الأفاعي الأول". وكان التجار والحرفيون يُنَظَّمون بشكل مشابه ويعملون تارة لحسابهم وتارة لفائدة المعبد الذي كان المنظم الوحيد للتجارة في البداية ثم إلى جانب القصر لاحقاً.(202)
كما تطورت المواقف بالنسبة لكل مهنة. وردت إشارات تدل على وجود قطاعات خاصة اقتصرت عليها مهن معينة وكان يجتمع فيها أصحاب المهن لتبادل المهارات، وهناك أمثلة على تلك المهن وردت في نصوص العصر البابلي الحديث (مدينة الدباغين) و (مدينة صناع المعادن).. وربما كانت "الاتحادات الحقيقية الوحيدة في بلاد ما بين النهرين" تلك الاتحادات التي كانت تابعة إلى مهن تثقيفية مثل مهنة ماش (خبير التعاويذ وشعائر التأليه)، ومن المحتمل وجود ترتيبات مماثلة لخبراء الفأل والكهنوت (بارو) وللأطباء والكتاب.(203)
والجدير بالذكر أن الصناعات (الحرف) اليدوية لم تكن مقصورة على جماعات وأُسر معينة في العصور القديمة. وفي العصور التاريخية المبكرة بدأت تتجه نحو التخصص، فأخذت كل جماعة تحتفظ بِأسرار حرفتها، وغدا تعلم الحرفة لا يتحقق إلا بالتدريب الطويل على أيدي المهرة من الحرفيين، فبدأت الحرفة تنتقل من الأب إلى الابن. وكان يرأس كل حرفة أكثر الصناع شهرة ونفوذاً وسمعة، وكانوا يحتكمون إلى رئيس الحرفة لفض المنازعات التي قد تنشب بين أفراد الحرفة الواحدة،علاوة على دور الرئيس وسيطاً بين أفراد حرفته وبين السلطة. "ولنا أن نتصور أن وضع أصحاب الحرف ورؤسائها كان مشابها لوضع أصحاب الحرف في العراق الحديث حتى فترة قريبة جداً حيث كان لكل حرفة رئيس أو نقيب يُرجَعْ إليه وقت المنازعات والاختلافات".(204) ولا يُعرف هل كان أهل الحرفة الواحدة يمارسون أعمالهم في أسواق متخصصة أم أنهم كانوا موزعين فِراداً في أرجاء المدينة، غير أن نصوص عصر فجر السلالات تشير إلى وجود مشاغل متخصصة في المعابد يعمل فيها الصناع من الرجال والصبيان والنساء والإماء لقاء أجور معينة، وكان لكل مشغل مراقب ومشرف.(205)
خلاصة القول، أن الحرفيين تمتعوا بموقع اجتماعي متميز طوال فترة حضارة وادي الرافدين. وأظهرت وثائق مكتشفة تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد قوة الصلاة والعلاقات المهنية بين الحرفيين ووجود روابط مهنية جمعت كل مجموعة مهنية ضمن تنظيمها الحرفي، وكان لكل مجموعة رئيس حرفة يمثل المجموعة لدى السلطة.(206)
عاد العراق مركزاً للحضارة في العصر العباسي، وانتشرت الصناعات الحرفية التي كانت تعود في معظمها إلى حضارته القديمة (الأنسجة القطنية والصوفية والحريرية، التطريز، الخيام، القوارب والسفن، الصناعات الحديدية، الفخار والخزف والزجاج..) رغم أنها حققت تطورا أكبر وسعة أشمل. كما برزت ظاهرة التخصص سواء على مستوى الحرف الصناعية أو المدن، بالإضافة إلى ظهور أسواق متخصصة داخل الأسواق العامة. ففي البصرة كان أصحاب كل مهنة يجتمعون معاً في محل واحد مكونين سوقاً فرعية داخل السوق الكبير. وكذلك ظهرت مثل هذه الأسواق الفرعية المتخصصة في مدن أخرى: واسط، كوفة.. كما أن الإشراف الحكومي على الأسواق والمصانع ساعد على بروز ظاهرة التخصص.
يصعب التأكيد على وجود تنظيمات مهنية نقابية بمفهومها الحديث في بداية قيام الدولة العربية، ولكن شيئاً من التكتل تحقق بين أصحاب الحرف والصناعات اليدوية، وكان يُشار إليهم بـ (الأصناف) أو (أهل المهن) أو (أهل الصنايع)، وهي إشارات تدل على بروز ظاهرة التنظيم كحركة لها أصولها وترتيباتها. وفي النصف الثاني من العصر العباسي حدثت تطورات داخلية في تنظيم الحِرَف وضعتها في إطارها العام، إذ أصبح لكل حرفة شيخ (رئيس) ليكون ممثلاً للحرفة، سواء بالعلاقة بين شؤون الحرفة والحكومة أو بالعلاقة مع حل المشكلات التي تظهر داخل أفراد الحرفة ذاتها. وهذه التطورات تُلَمِّح إلى زيادة تماسك أهل الحرفة لحماية أنفسهم من أية تجاوزات. يتأكد ذلك في حركة المنسوجات القطنية والحريرية في بغداد عام 374هـ/984 حين فرض البويهيون ضريبة العشر على هذه المنسوجات ببغداد. ومما يبين قوة التماسك الحرفي، والشعور بالكيان لدى أهل الصناعات اليدوية شيوع الانتساب للمهن إلى جانب الانتساب إلى المدينة أو القبيلة, وظهرت ألقاب عائلية تدل على حرفتها المتوارثة: الزجاج، الزيات، الجراح، الحلاج، الفرّاء، النجار، الحداد، الجصاص.. وهذا يوضح أن الاشتغال بالمهن اليدوية لم يكن أقَلَّ شأناً من الحرف الأخرى، وأن ظاهرة التكتل أصبحت قوية بين أصحاب الصناعة الواحدة.
بلغ تماسك أصحاب الحرف- الصناعات اليدوية درجة أن القاضي الماوردي وجد في العرف الجاري بين أهل الحرف أساساً يستطيع المحتسب الرجوع إليه عند مراقبته للأسواق. من هنا يتبين أن الصناع كونوا فيما بينهم تقاليد وأعرافاً كانت محل اعتراف الحكومة وإقرارها، وأخذ بها القُضاة والمُحَكِمون عند حصول الخلافات بين هؤلاء الصناع. وكان القُضاة يلجئون أحياناً إلى استشارة أهل الحرف من الخبراء للاستفادة من رأيهم في فض المنازعات الحرفية. وبمرور الزمن قويت الرابطة بين أصحاب الحرفة الصناعية، وصار كل منهم يشعر بالارتباط الوثيق بِأهل صنفه, وصار من أقوالهم (الصناعات نسب). "ولعلَّ ذلك كان امتداداً للتقاليد العراقية الموروثة التي عرفتها أرض الرافدين، واكتسبها العراقيون عِبْرَ السنوات الطويلة، وانسجمت مع الوضع الجديد". ورغم وحشية الغزو المغولي وهمجيته، وعِظَم الأخطار والتخريب الذي لحق بالعراق (656هـ/1258م)، إلا أن التنظيمات الحرفية والمهنية سرعان ما استعادت مسيرتها، رغم أنها لم تتحقق بنفس المستوى السابق.(207)


2- المجتمع المدني في العراق الحديث
يصعب متابعة منظمات المجتمع المدني، خاصة تلك المهنية، في العراق بسبب غياب أو ندرة محاولات دراستها وبالذات الدراسات الميدانية. وتزداد هذه الصعوبة حالياً في ظروف القمع والحروب وآثارها المدمرة التي وقع شعب العراق ضحيتها. يضاف إلى ذلك أن انتعاش حركة هذه المنظمات تتطلب ابتداء وجود دولة دستورية، إذ أن الأنظمة الفردية- النخبوية والدكتاتورية لا تسمح بوجود قوة منافسة أخرى لها، كما سبق الحديث.
اتسم المجتمع العراقي مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتحول البلاد من التبعية العثمانية إلى تبعية المحتل البريطاني، بانقسامات وصراعات ونزاعات تقليدية عمودية، إضافة إلى الانقسامات بين المدن والريف. إن قوة ووحدة كل جماعة من هذه الجماعات اقترنت بحاجة الفرد لحمايته من قبل الجماعة في ظروف غياب حماية الدولة. ورغم أن الولاة العثمانيين الإصلاحيين للقرن التاسع عشر وجماعة تركيا الفتاة (1908) عملوا على كسر شوكة القبائل وفتحوا الطريق أمام تحلل الروابط الاجتماعية القبلية- العشائرية، إلا أن الإنكليز أوقفوا هذه العملية بمنح الشيوخ أراضي الدولة التي كانت "عائدة" للعشيرة ككل، وعززوها بِإجراءات قانونية بمنح الشيخ سلطة قضائية تجاه الفلاحين التابعين لهم. وهذه الإجراءات استمرت طوال العهد الملكي، وخلقت من الشيوخ قوة اقتصادية دعمت سيطرتهم على الريف، وقوة سياسية محافظة التزمت خط سير السياسة البريطانية والبلاط.
كما أن رياح الثقافة القادمة من الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر، وانتشار الأفكار الوطنية/ القومية بين الفئة القليلة المتعلمة والتي عبرَّت عن ولادة قوة جنينية جديدة (الوطنية/القومية) باتجاه تعزيز الشعور نحو دولة عراقية موحدة ومجتمع عراقي موحد لم تزح الولاءات التقليدية عن مواقفها، بل أن التأثيرات كانت متبادلة. ففي حين أثرت الأفكار الجديدة بتحريك الجماعات التقليدية نحو تبني والتزام فكرة الدولة- المجتمع في العراق، فإنها استمرت متعايشة معها متأثرة بقيمها وعناصرها النفسية وعبَّرت عن نفسها في إطار النماذج العاطفية والمفاهيمية للأفكار الدينية والقيم الاثنية والتقاليد العشائرية التي برزت في ممارساتها لاحقاً.
وهكذا، فإن غياب العلاقات الأفقية والتمايز الطبقي، مقابل انتشار العلاقات العمودية الأبوية- البطرياركية القائمة على علاقة الراعي بالرعية. هذه العلاقات الوثيقة والمتداخلة بين القيادات المحلية المعتمدة بدرجة عالية على مشاعر الألفة والقرابة والصداقة والثقة والنخوة، كثيراً ما تخطت الجماعات والتحالفات السياسية. كما احتلت المؤسسة الدينية في هذه العلاقات دور القائد والموجه والمرشد الروحي الذي أهَّلها للزعامة السياسية.
يتضح ذلك من أن الثورة العراقية الأولى (ربيع 1918) التي انفجرت في وجه الإنكليز (الكفار) انطلقت من الأماكن المقدسة في العراق (ثورة النجف) وساهمت في إشعالها "جمعية النهضة الإسلامية" التي ترأسها محمد علي بحر العلوم. ولم تنتشر الثورة خارج النجف نتيجة الحصار الذي فرضه الإنكليز على المدينة لفترة تجاوزت الأربعين يوماً مع قطع المياه عنها قبل أن يتمكنوا من إجهاضها.(208)
رغم التسارع النسبي للحركة الثقافية وزيادة عدد الصحف بعد ثورة تركيا الفتاة، استمر الوعي ضعيفاً، وكان التعبير الحر عن الرأي العام ظاهرة جديدة في العراق، لذلك فعندما أعلنت إدارة الاحتلال عن عزمها إجراء استفتاء في البلاد (نوفمبر 1918) بدعوى ظاهرها تحديد شكل نظام الحكم، بينما كان المخطط إخراجه بما يؤيد الحكم البريطاني المباشر في العراق، نظر عامة الناس إلى الاستفتاء كمفاجأة غير مفهومة. من جهة أخرى، أطلقت هذه العملية قوة دفع عالية من النشاط السياسي بين أنصار الاحتلال (الحكم المباشر) وأنصار الاستقلال المطالبين بالحكم العربي. وشكلت الفئة الثانية البذرة التي انبثقت منها ثورة العشرين. وأطلق الناس على هذه الفئة اسم (الوطنيين) أما المخالفون فهم خونة موالون للكفار.
وظهر النشاط السياسي في هذه الفترة بصور متعددة، فكانت الفئة الطليعية من المواطنين الواعين يجتمعون في المقاهي والبيوت والمدارس والجوامع والمساجد والحسينيات. ومن المعروف أن مسجد الحيدر خانة اشتهر في تاريخ بغداد باعتباره مقراً لثوار العشرينات.(209) وكانت هذه الاجتماعات تتم لمناقشة أمور السياسة وبث الوعي المعادي لبريطانيا وحث الناس على المطالبة بالاستقلال. ويمكن القول أن الاستفتاء كان حافزا على نشوء الحركة الوطنية في العراق. وهي الحركة التي تبناها المعارضون للحكم البريطاني واتخذوا من فكرة الاستقلال شعاراً.(210) ظهر في هذه الفترة (1918) حزبين سياسيين كان لامتداداتهما أن يلعبا دوراً خطيراً في الصراعات اللاحقة. واقتصرت نقطة الاتفاق الوحيدة بينهما على تحقيق استقلال العراق وتنصيب أحد أبناء شريف مكة ملكاً على العراق. وهما حزب العهد الذي يعود أصله إلى "جمعية العهد" التي أسسها عزيز علي المصري للدفاع عن الحقوق العربية وضمَّت أغلبية من الضباط العراقيين في الجيش العثماني. ورابطة حرس الاستقلال التي ضمّت في قيادتها عناصر أمثال: محمد الصدر, محمد باقر الشبيبي، محمد جعفر أبو التمن، أمين الجرجفجي، يوسف السويدي, ناجي شوكت، بهجت زينل، سامي شوكت، عبدالغفور البدري، عبدالمجيد كنة, شاكر قنبر، علي جلال بابان، عبدالحسين شلاش، عارف حكمت الآلوسي، علي البزركان.(211) واستطاع قادتها بناء تأييد واسع النطاق لصالح دعوتهم الاستقلالية، وذلك باستخدام نفوذهم وشبكة علاقاتهم ضمن الجماعات التقليدية التي كانوا ينتمون إليها، إضافة إلى علماء الدين وشيوخ العشائر.
كان الإخفاق في تشكيل حكومة أهلية تمثيلية، مقابل وصول أنباء مؤتمر سان ريمو (5/5/1920) بوضع البلاد تحت الانتداب البريطاني، من الأسباب القوية لتعاظم حركة المعارضة التي لعبت فيها رابطة حرس الاستقلال دورا حيوياً بتعبئة الرأي العام وعلماء الدين في الأماكن المقدسة وشيوخ العشائر المؤيدين للاستقلال. كما أن جهود عدد من رجالات حرس الاستقلال ساعدت على تحقيق التقارب بين الطائفتين الإسلاميتين الرئيستين في شهر رمضان (مايس/ أيار)1920 باتجاه وحدة المعارضة الدينية والسياسية والتي عبَّرت عن إدراك قادة المعارضة لأِهمية وحدة الصف الوطني لنجاح جهودهم. يضاف إلى ذلك ظهور معارضة ساخنة في كربلاء ضد الاحتلال بتأييد المجتهد تقي الدين الحائري الشيرازي وقيادة ابنه المرزا محمد رضا الذي أسس جمعية سرية "الجمعية الإسلامية" ساهمت في إشعال الثورة في الفرات الأوسط (1920). هذه الثورة التي هزت البلاد وأجبرت المحتل البريطاني التخلي عن الحكم المباشر لصالح الحكم غير المباشر بِإقامة نظام يديرونها من خلال العناصر المتعاونة معهم وعلى رأسهم الملك المختار.
دار صراع مرير مستمر حول شكل الدولة العراقية منذ ولادتها, وكان أبرز جانب في هذا الصراع هو مشكلة العلاقة مع بريطانيا، رغم أنها أخذت شكلها بصورة تدريجية خلال العشرينات وفق توجهات إدارة الاحتلال ببغداد. كما أخذ هذا الصراع شكلاً جديداً بين النخب المحلية، وبدأت التحالفات تتغير، حيث انتقلت أغلبية أنصار "العهد" والعديد من قادة حرس الاستقلال إلى مؤسسات الدولة الجديدة ليقودها الضباط السابقون في الجيش العثماني(الشريفيون)، بينما استمرت أغلبية حرس الاستقلال في جانب المعارضة.
وفي ظل التحالفات الجديدة غطت الساحة السياسية معاهدة 1922 التي قدمتها بريطانيا بديلاً عن الانتداب ودون أن تختلف عنه سوى غياب التسمية. ومع موافقة وزارة النقيب على المعاهدة في صيف 1922(25/6)، أصدرت في نفس الوقت قانون الأحزاب لإفساح المجال للتنفيس السياسي خشية تكرار أحداث صيف1920. فظهر حزبين معارضين النهضة، الوطني العراقي) ضمن ثلاثة أحزاب (كان الحزب الثالث: الحر العراقي حكومياً محافظاً موالياً للإنكليز). قاد الحزبان المذكوران المعارضة ضد المعاهدة بتعبئة جمهور الناس لمقاطعة انتخابات المجلس التأسيس المزمع قيامه للتصديق على المعاهدة في ظروف غياب ما يضمن نزاهة الانتخابات. وكان رد فعل الإدارة البريطانية في بغداد سريعاً، أقفلت الحزبين المعارضين وصحفهما واعتقلت عدداً من زعمائهما ونفتهم إلى جزيرة هنجام. كما عمدت الحكومة السعدونية إلى نفي رجال الدين المعارضين إلى إيران (1923)، ولم يُسمح لهم بالعودة (1924) إلا بعد تعهدهم عدم التدخل بالسياسة. وبذلك انتهت مرحلة سياسية، على الأقل رسمياً، كانت الزعامة السياسية فيها لرجال الدين.
يتبين من هذا العرض، أن المجتمع المدني في العراق، رغم قاعدته التقليدية كان حياً ونشطاً وقوياً، وربما كان في ذروة قوته ونشاطه في مطلع القرن العشرين، وأكد نفسه طوال مراحل العهد الملكي في صموده وتحديه وأثّر في أحداث هذه الفترة بصورة جلية، رغم كل سلبيات الدولة الجديدة، ولم يتلاشَ خلف ظهر الدولة. ساعد على ذلك بداية تشكل الدولة الحديثة في مجتمع يقوم على قيم التضامن والعلاقات التقليدية، وعدم انفصال الدولة عن المجتمع، بل وضعف قوة الدولة، علاوة على هامش الحرية الذي وفَّره الدستور على عيوبه وانحرافات تطبيقه.
من أحداث المعارضة التي تلقي ضوءاً على قوة المجتمع المدني في هذه المرحلة بالعلاقة مع طبيعة العلاقات العمودية التي كانت سائدة، هي وصول مظاهرة إلى ساحة المجلس التأسيسي والهتاف بسقوط المعاهدة، ومنع وزير المواصلات، القادم بسيارته للتصويت، من شق طريقه إلا بعد أن هتف مع الجمهور بسقوط المعاهدة وتعهد بعدم التصديق عليها.(212) وهي حالة تستحق المقارنة في ظل الأنظمة الجمهورية التالية التي بلغت قمة وحشيتها في عهد "البعث" الحاكم.
الحزب الوطني العراقي الذي أسسه محمد جعفر أبو التمن لتحقيق هدفين مترابطين: وحدة الطائفتين الإسلاميتين الرئيستين، والقضاء على الإنكليز، يستحق هنا ذكراً خاصاً، لأِنه جسَّد مدرسة وطنية. وهناك أمران يخصان الحزب في هذا المجال: أولهما ساهم الحزب ممثلاً بمؤسسه إطلاق حركة ثقافية تدعو إلى بناء المنظمات المهنية، وقاد الحزب المحاولة الأولى لوضع العمال ضمن الخريطة السياسية العراقية. إذ أوحى بِإنشاء "جمعية أصحاب الصنايع" التي حملت في بدايتها طابع نقابة الحرفيين. ولكن سرعان ما جذبت إليها عمالاً من ورش السكك الحديد والدفاع في بغداد. وبفضل زعيمها محمد صالح القزاز، وهو ميكانيكي وأول قائد عمالي في العراق سرعان ما اتخذت طابع التكوين السياسي. وأصبحت المركز المنظم لإضراب الأربعة عشر يوماً. لهذا حُلَّت عام 1931. استمر القزاز وأسس"جمعية عمال الميكانيك"عام 1932 أو "نقابة اتحاد عمال العراق" التي تبعثرت نهاية عام 1932 نتيجة دورها في مقاطعة شركة بغداد للنور والكهرباء البريطانية الملكية على مدى شهر واحد. "وعندما انبعثت النشاطات النقابية مجدداً بعد ذلك بعقد من الزمن، انبعثت تحت راية شيوعية". وثانيهما خرج من بين صفوف الحزب رجالاً قدموا القيادة لثلاثة تيارات مستقبلية أساسية معارضة، وهي: الإصلاحية العروبية الواعية للتقاليد التي تمثلت بـ "نادي المثنى" و "حزب الاستقلال"، والجناح اليساري للشعبوية العراقية الممثلة بـ "جماعة الأهالي" و "جمعية الإصلاح الشعبي", و "الحزب الوطني الديمقراطي". والتيار الثوري الذي وجد تعبيره في "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" و "الحزب الشيوعي العراقي"، إذ كان من بين أعضاء الحزب الوطني العراقي: محمد مهدي كبة، فائق السامرائي (الاستقلال)، كامل الجادرجي (الوطني الديمقراطي)، عبدالقادر اسماعيل وعاصم فليح (الحزب الشيوعي العراقي).(213)
بدأ العمل في الدستور (21/3/1925) وافتتح المجلس النيابي الجديد (16/7/1925)، وظهرت باكورة الأحزاب البرلمانية: "التقدم" الذي شكله عبدالمحسن السعدون من أغلبية برلمانية لدعم حكومته، و "الشعب" الذي أسسه ياسين الهاشمي لممارسة دور المعارضة. ولكن منذ البداية كان واضحاً أن بناء نظام نيابي سوي سيؤول لصالح القوى الديمقراطية والتحرر, وهو ما يتضارب مع المصالح البريطانية في البلاد. لذلك حرصت إدارة الاحتلال باستمرار على رفض تلبية المصالح المشروعة للمعارضة بِشأن إصلاح البرلمان والعملية الدستورية، بل وكانت مستعدة دوماً للتدخل وإجهاض أية محاولة جادة في هذا المسار. لكن هذه المحاولات لم تكن قادرة على احتواء منظمات المجتمع المدني التي استمرت تعمل بنشاط وحيوية. ويرتبط بذلك أن نشوء الدولة، بحد ذاته، كان عاملاً في تعزيز الوعي السياسي والمجتمع المدني بشكل غير مباشر من خلال بناء واستكمال مؤسسات الدولة- المجتمع. كذلك كان للملك نفسه خلال الفترة 1921-1939 مغزى اجتماعي متعارض مع أوضاع الشيوخ، فالشيخ كان يمثل رمزاً للمجتمع المفكك بينما عبَّر الملك عن فكرة المجتمع الواحد "شعب عراقي واحد وأمة عربية واحدة".
استمرت حركة انتعاش منظمات المجتمع المدني، رغم عيوب العملية الدستورية والإجراءات غير الديمقراطية، وشهدت نهاية العشرينات حركة جديدة هي انتشار منظمات المجتمع المدني المهنية التي بدأت ببغداد. إذ ظهرت منذ عام 1929 العديد من هذه المنظمات، منها: جمعية عمال الصحف العرقية، جمعية باعة الخضر، جمعية سواق السيارات، النادي الوطني لمهندسي الميكانيك، جمعية تعاون الحلاقين، جمعية الخياطين، جمعية تشجيع المنتجات الوطنية مع فروع لها في الديوانية وكربلاء والنجف. كما ظهرت ثلاث فرق مسرحية وناد للموسيقى أوائل الثلاثينات وعدة جمعيات لمكافحة الأمية وعدد من الجمعيات الخيرية الإسلامية والمسيحية واليهودية. وتم تأسيس جمعية للمحامين (1930) وأخرى طبية (1934) وجمعية أصحاب المقاهي (1934) وجمعية تجار السمن والفواكه والخضر (1933) وجمعية عمال المطابع العرقية (1930) وجمعية الدباغين(1930) وجمعية عمال السكك الحديد وجمعية الحرفيين. هذا إضافة إلى المنظمات المهنية السابقة.(214)
يذكر التميمي في رسالته للدكتوراه أن الحزب الوطني العراقي بعد عودته للساحة السياسية من خلال حزب "الجمعية الوطنية" عام 1929، عبَّر أبو التمن في كلمة الافتتاح عن مساندة الحزب لتأسيس اتحادات عمالية وتعاونيات للشغيلة، بل وواصل جهوده وبدأ حملة واسعة دعا فيها ذوي الأعمال والتجار والحرفيين إلى إنشاء جمعيات مهنية لحماية مصالحهم ودفع عجلة التطور الاقتصادي في البلاد. وهذا يؤكد أن دور الحزب الوطني العراقي لم يقتصر على توليد قادة لتيارات سياسية مستقبلية، بل بادر كذلك إلى بدء بناء النصف الآخر من منظمات المجتمع المدني، أي المنظمات المهنية.(215)
من منظمات المجتمع المدني التي تستحق كذلك ذكراً خاصاً هي "جماعة الأهالي" التي ظهرت عام 1931 منظمة غير سياسية في إطار علاقات صداقة بين مؤسسيها الأربعة: عبدالفتاح إبراهيم، محمد حديد، عبدالقادر إسماعيل، حسين جميل. قامت على توجه علماني وتجاوز الطائفية. عبَّرت عن تيار إصلاحي شعبي. تأثرت بالأفكار الاشتراكية. ورفعت بدءاً شعار مصلحة الشعب فوق كل مصلحة". وعَنَتْ بالشعب "الأكثرية العظمى". اهتمت "برفع مستوى المعيشة... وخلق نظام سياسي واقتصادي صلب، ووضع المواهب الفكرية والموارد الاقتصادية للبلاد في خدمتها بالشكل الأفضل". لذلك لا بُدَّ من "هجر الماضي" والسير إلى الأمام وفق "أسس جديدة" باتجاه "نهضة أصيلة" ينبع من "فلسفة اجتماعية وقوة روحية". وهذا يتطلب "ثورتين متزامنتين"، إحداهما "فكرية" والأخرى "أخلاقية نفسية". والأهالي هي الآلية لتنفيذ هذه الأهداف والمبادئ بالاعتماد على الشباب الوطني الواعي، ممن "يعمل ولا يُعلن". وهكذا قامت الجماعة على أساس التغيير التدريجي والسلمي بدلاً من العنف. وكان المنهج المفضل للجماعة هو التعليم. انتهت جماعة الأهالي بعد توريطها في انقلاب بكر صدقي (1936) من قبل الرؤوس الكبيرة التي انضمت إلى الجماعة لاحقاً: محمد جعفر أبو التمن، كامل الجادرجي، حكمت سليمان، وبخاصة الأخير مهندس الانقلاب. وبذلك كانت واحدة من النتائج الكثيرة والخطيرة للانقلاب تصفية وليد يحمل مشروعاً اجتماعياً ديمقراطياً قُتِلَ بِأيدي مُدَّعي الديمقراطية أنفسهم. وهذه الحصيلة حرَّمت البلاد من تجربة فكرة غنية رائدة. وكان عليها أن تنتظر قرابة نصف قرن بمحصلاتها وكوارثها قبل أن ترتفع الأصوات مجدداً للعودة إلى تلك الأفكار والمبادئ في سياق محاولات جنينية تبحث عن فاتحة الطريق الطويل لمعالجة العنف السياسي في ظل نظام اجتماعي يؤمن الخبز والحرية للأغلبية.(216)
شهدت فترة الثلاثينات كذلك حدثين بارزين فيما يخص حركة المجتمع المدني في ظروف التحديات والصراعات التي أخذت بالتصاعد في هذه الفترة, متمثلة في ظهور جمعية الإصلاح الشعبي (التيار الشعبي العراقي) ونادي المثنى (التيار القومي العربي).
شكلت جمعية الإصلاح الشعبي الوجه الآخر (السياسي) لـ "جماعة الأهالي" حيث أسستها منظمة سرية عام 1934 وأطلقتها إلى العلن كحزب سياسي في ظل حكومة انقلاب 1936. تلخص برنامج الحزب في: تحقيق إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية لصيانة المصلحة العامة وضمان تقدم الأفراد والقضاء على الاستغلال، تأميم وسائل النقل والبريد والاتصالات وتجهيزات الماء والكهرباء، استصلاح الأراضي الحكومية القاحلة وتوزيعها على الفلاحين المعدمين،بناء القرى العصرية، إلغاء القوانين والأعراف الزراعية الجائرة وسن قوانين تضمن تقدم ورخاء الزراعة والفلاح, ضريبة تصاعدية على الدخل والإرث. وبعد انسحاب جماعة الأهالي من الحكومة الانقلابية تعرضت الجماعة وجمعيتها للتصفية في ظروف التنكيل التي شملت القوى الديمقراطية واليسارية في الساحة السياسية العراقية. وبذلك أنهى قادة الانقلاب أية محاولة للتحرش بالهيكل الاجتماعي لغاية ثورة تموز 1958.(217)
أما نادي المثنى الذي تأسس عام 1935 فكان عروبياً التزم بـ "نشر الروح القومية العربية... والمحافظة على التقاليد العربية... وتقوية الشعور بالرجولة العربية بين الشباب، وخلق ثقافة عربية جديدة تجمع إلى التراث العربي ما يستحق من حضارة الغرب". واستمد النادي قوته بصورة رئيسة من علاقاته بالعقيد صلاح الدين الصباغ زعيم مجموعة الأربعة وقائد حركة مايس (1941). بلغ النادي ذروة قوته وتطوره خلال الفترة 1938-1941, أي خلال السنوات التي كان فيها الصباغ صوتاً مسموعاً ونافذاً في الجيش وفي إدارة البلاد. وبعد قضاء الإنكليز على حركة مايس، تمت تصفية النادي وتشتيت أعضائه، حيث شكل بقاياهم النواة المركزية لحزب الاستقلال (1946).(218)
وعموماً جسَّدت الثلاثينات فترة سياسية مضطربة تصاعدت فيها الصراعات وميول الحكم الفردية والانقلابات العسكرية والحد من حركة منظمات المجتمع المدني. ففي ظل وزارته (1935-1936)، بادر الهاشمي إلى حل الأحزاب السياسية بما فيها حزبه (الأخاء). وبعد تصفية"الأهالي"، لم يُسمح بوجود أحزاب سياسية خلال الفترة 1937-1946.(218) بل وحتى نهاية الحياة الملكية أخذ هامش الحرية الذي كان متاحاً في المرحلة الأولى يترك مكانه للعنف السياسي المتصاعد من قبل السلطة ضد الطلاب والعناصر الوطنية (الوثبة 1948) و (الانتفاضة 1952).. لكن محاولة قصيرة انطلقت من البلاط نهاية الحرب العالمية الثانية وبتشجيع من الإنكليز، فيما يُعرف بـ "سياسة الانفتاح". تم ترخيص خمسة أحزاب سياسية (2/4/1946): الأحرار (محافظ وسط- توفيق السويدي)، الاستقلال (قومي عربي- محمد مهدي كبة)، الوطني الديمقراطي (يسار وسط- كامل الجادرجي)، الاتحاد الوطني (ماركسي- عبدالفتاح إبراهيم), الشعب (ماركسي- عزيز شريف). أُجهضت هذه التجربة من قبل أغلبية أعضاء مجلس الأعيان والوصي بعد حوالي تسعين يوماً. وجاءت الضربة القاضية لمنظمات المجتمع المدني في عهد الوزارة السعيدية الثانية عشرة (مرسوم الجمعيات رقم 19 لسنة 1954)، وذلك في إطار توجهها هندسة حلف بغداد (1955). وجاء رد الأحزاب المعارضة تكوين الجبهة الوطنية (ملحق البحث) التي ولدت في الأسبوع الأخير من شباط/فبرار 1957، وضمَّت أحزاب المعارضة: الوطني الديمقراطي، الاستقلال, الشيوعي العراقي (المتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني)، البعث العربي الاشتراكي. وقد نجحت الجبهة لا في توحيد سلوك الأحزاب الأعضاء، حسب، بل وأيضاً الإيحاء بعملية مماثلة داخل قوت الجيش المعارضة، وفي إقامة رابط بينها وبين رأسها المُدبّر المتمثل في اللجنة العليا للضباط الأحرار. ولهذا قد لا تكون مبالغة في القول أنها استقطبت المجتمع العراقي أكثر من أي يوم مضى وإلى درجة شكلت فيها تهديداً حقيقياً لبنية الملكية".(219)
انتهت الحياة الدستورية وماتت معها الأحزاب العلنية مع إعلان الجمهورية، وأصبحت الساحة السياسة جاهزة للأحزاب السرية التي ظهرت نشيطة في العهد السابق، حيث غطت الصراعات الحزبية على الأحداث السياسية منذ ثورة تموز 1958 في سياق انشطار المجتمع العراقي. وفي غياب البنية الدستورية وسيطرة العسكر والحكم الفردي الدكتاتوري، تُعدم فُرَصَ بناء مجتمع مدني فعال. ورغم أن الفترة الجمهورية اقتصرت من الناحية القانونية على منظمات المجتمع المدني المهنية، إلا أنها بقيت ضعيفة ومشلولة أمام سلطة تنفيذية طاغية. هذا باستثناء بعض المحاولات لإثبات وجودها، كما في الإضرابات النقابية في بغداد (عهد قاسم) الذي شهد محاولة فاشلة (1960) لإحياء منظمات المجتمع المدني في استمرار غياب الدستور الدائم. وكذلك المحاولات المحدودة التي أبدتها بعض المنظمات المهنية لتأكيد استقلالها في إجراءاتها الانتخابية (عهد العارفين). كما شهد نظام البعث محاولة ثانية لإحياء منظمات المجتمع المدني السياسية والمهنية انتهت أيضاً بالفشل منتصف السبعينات مع انسحاب الحزب الشيوعي في ظروف الاحتكار السياسي والحكم الفردي الدكتاتوري. فعمد النظام إلى تصفية أو ضم كافة منظمات المجتمع المدني المهنية لسطوته، بعد أن مارس تصفية كافة مراكز المعارضة السياسية وعلى نحو تجاوز بقية الأنظمة العربية حتى التقليدية منها.



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف3
- التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف2
- التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني
- مليون طفل تأثروا من الألغام في العراق
- التحول الديمقراطي واامجتمع المدني
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-- الفصل السا ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-- الفصل السا ...
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة- الفصل الخامس
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة- الفصل الرابع
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-0الفصل الثال ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة--ف2/هدر الإم ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-
- نموذجكم الديمقراطي في العراق.. مقتل متظاهر غير مُسلّح وتسعة ...
- خمس وعشرون ساعة في بطن الحوت: أروقة الموت الطائفية في سجن ال ...
- نساء العالم.. ساعدن أخواتكن العراقيات
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- تلاستنتاج/ المصطلحات/ المراجع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السابع عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الحادي عشر
- مأسسة عدم المساواة في أمريكا
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس عشر


المزيد.....




- اليونيسف تؤكد ارتفاع عدد القتلى في صفوف الأطفال الأوكرانيين ...
- يضم أميركا و17 دولة.. بيان مشترك يدعو للإفراج الفوري عن الأس ...
- إيران: أمريكا لا تملك صلاحية الدخول في مجال حقوق الإنسان
- التوتر سيد الموقف في جامعات أمريكية: فض اعتصامات واعتقالات
- غواتيمالا.. مداهمة مكاتب منظمة خيرية بدعوى انتهاكها حقوق الأ ...
- شاهد.. لحظة اعتقال الشرطة رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري ال ...
- الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
- الرئيس الايراني: ادعياء حقوق الانسان يقمعون المدافعين عن مظل ...
- -التعاون الإسلامي- تدعو جميع الدول لدعم تقرير بشأن -الأونروا ...
- نادي الأسير الفلسطيني: عمليات الإفراج محدودة مقابل استمرار ح ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبدالوهاب حميد رشيد - التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني-ف4