أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم مرزة الاسدي - 5- دعبل الخزاعي بين الموقفين الموالي والمعارض (*)















المزيد.....


5- دعبل الخزاعي بين الموقفين الموالي والمعارض (*)


كريم مرزة الاسدي

الحوار المتمدن-العدد: 3990 - 2013 / 2 / 1 - 07:13
المحور: الادب والفن
    


5- دعبل الخزاعي بين الموقفين الموالي والمعارض (*)
( من سنة 200 هـ / 815 م - 203 هـ / 818 م ...)
دعبل الخزاعي الوجه الآخر للشعر العربي


دعبل الخزاعي لم يهجُ إلاّ بعد الخمسين عمراً ...!! دفاعا عن الرأي الآخر في التاريخ العربي وضرورة احترام وجهة نظره :
تناولنا في الحلقة الماضية عن توجه دعبل للموقف بعد عبوره الأربعين , وازداد تصلباً عند بلوغ الخمسين من عمره المديد , والحقيقة لموقفه المتصلب في كهولته وجهان , الوجه الموالي الملتزم الحاسم لنهج آل البيت (ع) , والوجه الثاني المعارض الجريء حتى حَمْل خشبة صلبه على كتفه توّلد بعد أن سم المأمون الإمام الرضا (ع) (203 هـ / 818 م) , حسب اعتقاد الشيعة .
أولاً - في الطريق إلى الموقف الموالي :
بعد أنْ خلـّف دعبل مصروولاية أسوانها , وقريبه المطلب الخزاعي بمدحه وهجائه ورثائه وراءه , وقدم إلى بغداد , وكانت قد " هاجت الفتن في الأمصار..." (117) - كما يقول الطبري - , والمأمون في خرسان ,
فقد خرج في أواخرسنة (198 هـ) الحسن الهرش يدعو إلى الرضى من آل محمد أتى النيل (العراق) , فجبى الأموال , وأغار على التجار وقتل في محرم (199 هـ) , وخرج هذه السنة بالكوفة محمد بن إبراهيم (ابن طباطبا ) يدعو إلى الرضى من آل محمد , والعمل بالكتاب والسنة , وكان القائم بأمره وتدبير الحرب بين يديه أبو السرايا السري بن منصور الشيباني , وقُتل مائتا ألف رجل , وأخيراً قـُتل الرجل الأخير في ربيع سنة (200 هـ) , بأمر الحسن بن سهل والي المأمون على العراق , وأبان ثورة ابن طباطبا " وثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس , ودور مواليهم وأتباعهم في الكوفة , فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة "(118) , وكان قد أرسل أبو السرايا إلى المدينة ومكة (حسين بن حسن الأفطس ) كأمير للحج .
دعبل بين إسماعيل العباسي وزيد النار :
وخرج في البصرة زيد بن الإمام موسى الكاظم الذي أطلق عليه المؤرخون ( زيد النار) بدعوى حرق الدور وخصومه السياسيين , المهم هرب منها واليها اسماعيل بن جعفر العباسي , وسخر دعبل من الأخير الهارب من قذائف زيد النار وسيوفه ولم يقاوم , وكان قد توّعد الدعبل بالقتل , فإذا به يخاطبه مفرداً , ويذكر خصمه (أطراداً) ...!! :
لقد خلـّف الأهواز من خلف ظهره***وزيدٌ وراء الزاب من أرض كسكر ِ
يهوّل إسماعيل بالبيض والقنا *** *وقد فر من زيد بن موسى بن جعفر ِ
وعاينتهُ في يوم خلـّى حريمـهُ ***** فيا قبحها منـهُ , ويا حسن منظر(119) ِ
وفي هذه السنة أعني (200 هـ) , خرج إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم باليمن , وأطلق المؤرخون هذه المرة وصف (الجزّار) لكثرة ما يدّعون مَن قتل باليمن , ولما رجعت الكوفة لبني العباس , اجتمع العلويون " إلى محمد بن جعفر (الصادق) بن محمد وكان شيخاً وادعاً محبباً في الناس...وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بن محمد، وكان الناس يكتبون عنه , وكان يظهر سمتاً وزهداً - فقالوا له : قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة , فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان , فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بن محمد بن جعفر و حسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه؛ فأجابهم. فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعاً وكرهاً , وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهراً " (120) - هذا ما رواه الطبري - هذه الأمور مجتمعة , ولقرابة المعارضين العلويين الأشداء من الإمام علي بن موسى الرضا (ع) , ولانشقاق العباسيين بعد خلع الأمين ومقتله , ولبعد المأمون عن عاصمة الخلافة , ولحكمة المأمون وحنكته السياسية , رأى لابدّ من إسناد ولاية العهد للعلويين ليحيّدهم , فأرسل رجاء بن أبي الضحاك مبعوثاً إليه - وهو في المدينة - للشخوص إلى خراسان , فاعتل عليه الإمام بعلل كثيرة , فما زال يكاتبه حتى علم الإمام لا مفـّر حتى القبول , فقبل وتوّجه من المدينة إلى خراسان , ولولده محمد الجواد من العمر سبع سنوات (121) , فبويع له بولاية العهد في (رمضان 201 هـ ) , وضربت الدراهم باسمه , وغيّر المأمون شعار العباسيين من الأسود إلى الأخضر , وهو شعار العلويين.
شريطة بشار بين دعبل وصديقه إبراهيم بن العباس الصولي:
هذه الأحداث بمجملها ومن بداياتها شجّعت الشاعر الأول في تلك الأيام أواخر سنة ( 200 هـ) - على أغلب الظن - أن يقول لصديقه الحميم " إبراهيم بن العباس: أريد أن أصحبك إلى خراسان , فقال له إبراهيم : حبذا أنت صاحبا مصحوبا إن كنا على شريطة بشار قال : وما شريطة بشار قال : قوله :
أخ خير من آخيت أحمل ثقله****ويحمل عني حين يفدحني ثقلي
أخ إن نبا دهر به كنت دونه *** وإن كان كون كان لي ثقة مثلي
أخ ماله لي لست أرهب بخله**ومالي له لا يرهب الدهر من بخلي
قال: ذلك لك ومزية فاصطحبا "(122) , ولا نذهب إلى ما ذهب إليه صاحب (الغدير ) الشيخ الأميني بأنها تمّت سنة (198 هـ) برفقة أخيه أبي الحسن علي (123) , لأن الشاعر في تلك السنة ذهب مع أخيه رزين للحج , ومن هناك عرّج على مصر , وأصبح والياً , والمطلب نفسه الذي ولاّه , كان والياً على مصر بين 198 هـ - 200 هـ حين وفاته , كما ذكرنا في الحلقة السابقة , فكيف يجتمع الأقليمان في مكان واحد ؟!!
دعبل ومسلم بن الوليد والوزير الفضل بن سهل ...عتاب وهجاء فجاء ردّ ٌمضاد !!:
وأبان رحلة دعبل ووجوده في خرسان - على أغلب الظن قبل إلقاء التائية الخالدة - بلغه حظوة أستاذه , وربيب طفولته , مسلم بن الوليد عند وزير المأمون الفضل بن سهل , فذهب لزيارته متمنياً له الرفعة , متوسماً فيه الخير والبركة , ولكن أستاذه جفاه , وخيّب ظنه " قال أبو تمام : ما زال دعبل مائلا إلى مسلم بن وليد مقرا بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم وكان فيه بخل فهجره دعبل وكتب إليه :
أبا مخلد كنا عقيدي مودة ****** هوانا وقلبانا جميعــا معـا معـا
أحوطك بالغيب الذي أنت حائطي***** وأنجع أشـفاقا لأن تتوجعا
فصيرتني بعد انتحائك متهما**** لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا
عششت الهوى حتى تداعت أصوله**بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشى ***** ذخيرة ودٍ طالمــا قد تمنعا
فلا تعذلني ليس لي فيك مطمع ***** تخرقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك يميني استأكلت فقطعتها ***** وجشمت قلبي صبره فتشجعا "(124)
بعد هذه القطيعة , دس دعبل هذين البيتين إلى الفضل بن سهل حين وصوله إلى مرو :
لا تعبأن بابن الوليد فإنه **** يرميك بعد ثلاثة بملال
إن الملول وإن تقادم عهده ** كانت مودته كفيء ظلال
فدفع الفضل الرقعة إلى مسلم وقال : انظر يا ابن الوليد رقعة دعبل فيك ,فلما قرأها قال له : هل عرفت لقب دعبل وهو غلام ؟ قال : لا، قال : كان يلقب بمياس , ثم كتب إليه يقول :
مياس قل لي أين أنت من الورى *** لا أنت معلوم ولا مجهول
أما الهجاء فدق عرضك دونه ** والمدح عنك كما علمت جليل (125)
من عجز البيت الأول لمسلم (الصريع غوانيه) : " لا أنت معلومٌ ولا مجهولُ" , نستطيع أنْ نستنج أنّ الأبيات قالها المسلم قبل الموقفين الموالي والمعارض , لأن الدعبل بعدهما , أي بعد التائية الشهيرة , وقصائد الهجاء والسخرية من الخلفاء وأركان الدولة الرفيعة , طارت شهرته في كلّ آفاق الدولة الإسلامية حتى الهند شرقاً والأندلس غرباً , وخفت أسم مسلم بن الوليد واعتزل حتى وفاته (208 هـ) , ومن قبله جمّد نفسه أبو العتاهية المتوفي (210 هـ) , وكلاهما من مواليد (130هـ) , أمأ دعبل , فهو من مواليد (148 هـ) .
التائية الخالدة في حضرة الإمام (ع) :
وعند مكوث دعبل في خراسان نظم قصيدته التائية الخالدة , ونظم صاحبه العباس قصيدة دالية , ورتـّبا أمرهما للوقوف أمام حضرة الإمام ليلقيا ما أبدعا . قدّم الرجل أوراق اعتماده بـ " أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت عليهم السلام " (126) , كما نعت الأصفهاني في (الأغاني) قصيدة الولاء , واعتمد الأدباء و النقاد هذه الكلمات لأوراق الأعتماد , ولكن عندما دخل الشاعر الموقف على حضرة الإمام الرضا , بادر الأول : يا ابن رسول الله أني قلت فيكم قصيدة , وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك , فقال هاتها ياخزاعي , ولهيبة المقام , وقدسية الإمام , لجم الشاعر إلهام نفسه من أن يبدأ بمطلع التشبيب (127) , فشرع بالمناقب - كما ذكرنا ودوّنا في الحلقات السابقة -
قال دعبل : " دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام فقال لي: أنشدني شيئا مما أحدثت. فأنشدته (الطويل) :
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
حتى انتهيت إلى قولي :
إذا وتروا مدوا إلي واتريهم *** أكفا عن الأوتار منقبضات
قال : فبكى حتى أغمي عليه وأومأ إلى الخادم كان على رأسه : أن اسكت. فسكت فمكث ساعة ثم قال لي : أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضا فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى وأومأ الخادم إلي : أن اسكت. فسكت فمكث ساعة أخرى ثم قال لي : أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها. فقال لي : أحسنت - ثلاث مرات . -
ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه ولم تكن دفعت إلى أحد بعد وأمر لي من في منزله بحلي كثير أخرجه إلى الخادم، فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم إشتراها مني الشيعة فحصل لي مائة ألف درهم فكان أول مال اعتقدته , قال ابن مهرويه : وحدثني حذيفة بن محمد : أن دعبلا قال له: إنه استوهب من الرضا عليه السلام ثوبا قد لبسه ليجعله في أكفانه فخلع جبة كانت عليه فأعطاه إياها وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها منه غصبا وقالوا له : إن شئت أن تأخذ المال فافعل وإلا فأنت أعلم .
فقال لهم : إني والله لا أعطيكم إياها طوعا ولا تنفعكم غصبا وأشكوكم إلى الرضا عليه السلام فصالحوه على أن أعطوه الثلاثين ألف الدرهم وفرد كم من بطانتها , فرضي بذلك فأعطوه فردكم فكان في أكفاته . " (128)
من مضمون النص نستدل على أن الإنشاد قد تمَّ , والإمام كان ولياً للعهد , وقد تلاقف مؤرخو الأدب القصيدة بالاستحسان والثناء , فذكر القيرواني الحصري في ( زهر آدابه ) عن دعبل وشهرة القصيدة , وإنها من جيد شعره " وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه : ثم إن المأمون لما ثبتت قدمه في الخلافة وضرب الدنانير باسمه أقبل بجمع الآثار في فضايل آل الرسول فتناهى إليه فيما تناهى من فضائلهم قول دعبل : (مدارس آيات ... ) , فما زالت تردد في صدر المأمون حتى قدم عليه دعبل) , فقال له : أنشدني قصيدتك التائية ولا بأس عليك ولك الأمان من كل شيئ فيها فإني أعرفها وقد رويتها إلا أني أحب أن أسمعها من فيك . قال : فأنشده حتى صار إلى هذا الموضع :
ألم تر أني مذ ثلاثين حجة *** أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسما **وأيديهم من فيئهم صفرات
فبكى المأمون حتى اخضلت لحيته وجرت دموعه على نحره , وكان دعبل أول داخل عليه وآخر خارج من عنده . (129) وقال ياقوت الحموي في ( معجم الأدباء ) : قصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر , وأسنى المدايح . وذكر الثعالبي في (ثمار القلوب) بيتين من القصيدة أحدهما : مدارس آيات. والثاني البيت الذي يتضمن (ذو الثفنات) , إذ كان يقال لكل من علي بن الحسين بن علي (ع) وعلي بن عبد الله بن عباس: ذو الثفنات. وذكر صلاح الدين الصفدي في ( الوافي بالوفيات ) طريق رواية القصيدة , وفي ( الإتحاف ) نقل الطبري في كتابه عن أبي الصلت الهروي قال : دخل الخزاعي على علي بن موسى الرضا بمرو فقال : يا بن رسول الله؟ إني قلت فيكم . (130) .
دعبل الموقف والهجاء بعد الخمسين :
رجاء تابع معي , تاريخ الرجل مشوّه , ومعظم من كتب عنه مادحاً , وبحث في أمره ساخطاً , لم يعطِهِ حقـّه من الإنصاف والدّقة , إنهم خلطوا الحابل بالنابل , دعبل إلى حدّ نهاية هذه الفترة الزمنية , وقد زاد على الخمسين عمراً , ( 148 هـ -201 هـ) , لم يهجُ أيً خليفة أو وزير أو سياسي أو قائد عسكري , لقد مرّت عهود المنصور والمهدي والهادي والرشيد والآمين برداً وسلاماً عليه وعلى رجال عصره الكبار سوى هجاء قريبه المطلب الخزاعي (ت 200 هـ ) من بعد قبل سنتين من نهاية التاريخ المذكور , أي في بدايات عهد المأمون , وهجاء إسماعيل بن جعفر العباسي المتوفي ( 216 هـ) الذي توّعده , فناصر زيد النار بن الإمام موسى الكاظم , وفي كلا الأمرين , قد اجتاز الخمسين , هكذا يخبرنا ديوانه المتبقي , نعم ذكر الرشيد هجاءً بعد موته بأكثر من عشر سنوات نكاية بالمأمون الذي سمّ الرضا , فالتزم الشاعرالموقف , إذن القضية تكتسي الحق العام , وليس المصلحة الشخصية , فأين يمكننا وضع بيت المعري (لو أنصف الدهر هجا نفسه ***كأنه الرومي أو دعبلُ ) , وأقواله الأخرى باتهامه بالارتزاق , وغير ذلك حتى استند عليها الدكتور شوقي ضيف معتمداً على النهج الإنتقائي التطويعي , فيأخذ ما يلائم فكرته , وهذا من ردّ الدكتور عبد المجيد زراقط على (ضيفه ) (131) , وهكذا ثبّت أيضاًعلى الشاعر المتمرد الأستاذ الكبير العقاد ظالماً له - ربّما دون مبالاة وتحقيق معمق منه - , وسار على نهجه الأديب حنا الفاخروي مقلـّداً ...!! وهذا ما ذكرناه سالفاً , ونحن نقول : السيء الطبع , والسليط اللسان , المفترض أن يتبيّن لنا من صغره لا عند كهولته ونضجه , إذن هذا دليل على موقف فكري حازم يصبّ في مصلحة الأمة العليا حسب ما كان يرتأيه هو وجناحه .
دعبل يسخر من إبراهيم بن المهدي (ابن شكلة) بعد مبايعته بالخلافة المزورة :
إضافة إلى ما ذكرناه , و في هذه الفترة , وبعد عودة دعبل إلى العراق أواخر سنة (201 هـ ) , شهد خروج إبراهيم بن المهدي - عم المأمون , وأخي الرشيد - على خلافة مأمونه بتحريض من العباسيين في بغداد الذين قلـّدوه الخلافة غير الشرعية , أي بدون توصية من الرشيد , وأصبح خليفة غير رسمي ما بين (25 ذي الحجة 201 حتى 15 ذي الحجة 203 هـ ) , وذلك عقبى خلع الأمين ومقتله , وترسيم الإمام الرضا جبراً ولياً للعهد , واستبدال شعار العباسيين الأسود بشعار العلويين الأخضر , فالشاعر إلى تلك الأيام الغابرة , لم يمس مقام الخلافة الشرعية بكل رموزها السابقين , ومأمونها الحكيم , وإنما كما استدركنا , صبّ سخريته على الخارج الإبراهيم , الذي لقبه معاصروه بابن شكلة , وهذا اسم أمه الأمَة السوداء , استصغاراً لشأنه , ولا سيما كان يجيد الغناء , بالرغم من أنه توّلى ولاية دمشق في عهد أخيه الرشيد لمدة ست سنوات على دفعتين , ونعت بالعدل والصرامة , وأبان خلافته المزعومة , حاربه الوزير الحسن بن سهل والي العراق المأموني , لم يقدر عليه , فردّه خائباً , مما جعل المأمون أن يرسل لقتاله قائده العسكري المقتدر حميد الطوسي , فانتصر عليه انتصاراً باهراً , فانهزم ابن شكلة , واختفى في بغداد حين وصلها المأمون سنة (204هـ) , وبقي مختفياً حتى سنة ( 210 هـ) , إذ عفا عنه المأمون وأكرمه , توفي في سامراء ( 224 هـ) , وصلـّى عليه ابن أخيه المعتصم , نعته الخطيب البغدادي بأوصاف رائعة : وافر الفضل , غزير الأدب , واسع النفس ,سخي الكف , وكان معروف بصناعة الغناء حاذقاً فيها , وقد قلّ المال عليه أيام خلافته ببغداد (132) , وكان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم من أوباش الناس وأوغادهم، فاحتبس عليهم العطاء , فجعل إبراهيم يسوفهم وهم لا يرون لوعده حقيقة , إلى أن خرج رسوله إليهم يوما وقد اجتمعوا وضجوا فصرح إليهم بأنه لا مال عنده , فقال قوم من غوغاء أهل بغداد : أخرجوا إلينا خليفتنا ليغني أهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءهم ولأهل هذا الجانب مثلها , قال إسحاق بن لإبراهيم الموصلي : فأنشدني دعبل بعد أيام من (السريع ) :
يا معشر الأجناد لا تقنطوا *** وارضوا بما كان ولا تسخطوا
فسوف تعطون حنينـــة ً ***** يلتــذها الأمـــــــرد والأشمط ُ
والمعبديات لقــــوادكم ******* لا تدخل الكيــس ولا تربط ُ
وهكذا يرزق قـــــــوادهُ ****** خليفة ٌ مصــــــحفهُ البربطُُ (133)
سخرية صارخة من مغن ٍيتطلع لعرش الخلافة الإسلامية , وإن كان ابن خليفة , وأخاً لهارون الرشيد , ولك أنْ تعرف - إنْ كنت لا تعرف -الأشمط هو الشايب , والحنينة بمعنى طور غنائي كان ينسب إلى حنين الحيري , ومثلها المعبديات التي تنسب إلى معبد المغني الأموي , والبربط نوع من الملاهي كعود الطرب , واستعار الشاعر (مصحفه البربط) للسخرية من مطرب يتطلع للخلافة الإسلامية , , وينقل الأصفهاني رواية في (أغانيه) : " قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولا في دعبل يحرضه عليه فضحك المأمون وقال إنما تحرضني عليه لقوله فيك :( يا معشر الأجناد...)
فقال له إبراهيم : فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين فقال : دع هذا عنك فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا وضحك ثم دخل أبو عباد فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم : دعبل يجسر على أبي عباد بالهجاء ويحجم عن أحد , فقال له : وكأن أبا عباد أبسط يدا منك يا أمير المؤمنين , قال لا ولكنه حديد جاهل لا يؤمن وأنا أحلم وأصفح , والله ما رأيت أبا عباد مقبلا إلا أضحكني قول دعبل فيه : (أولى الأمور بضيعة...) " (134) , طبعاً هذا الكلام بعد أن عفا المأمون عن عمه إبراهيم , وسنأتي على سخرية دعبل من الوزير أبي عباد في الحلقة القادمة عند الكلام عن موقف دعبل المعارض .
وقبل إفلاس خزينة خلافته بعدة أشهر رماه دعبل بسخرية لاذعة من (كامله) , يقول فيها :
علمٌ وتحكيمٌ وشيبُ مفارق ٍ ***طلـّسنَ ريعانَ الشبابِ الرائق ِ
وإمارة ٌ في دولةٍ ميمونةٍ ** *كانتْ على اللذات اشغب عائق ِ
فالآنَ لا اغدو ولستُ برائح ٍ***في كبر معشوق ٍ وذلـّة عاشق
نعرَ ابن شكلة بالعراق واهلهِ *** فهفــا إليــه كلّ اطلس مائق ِ
إن كانَ إبراهيم مضطلعاً بها**** فلتصلحنْ منْ بعدهِ لمخارق ِ
ولتصلحنْ من بعد ذاك لزلزل ٍ*** ولتصلحنْ منْ بعدهِ للمـارق ِ
أنـّى يكونُ وليس ذاك بكائن ٍ***يرث الخلافة فاسقٌ عن فاسق ِ(135)
إذن (ابن شكلة) قام بالفتنة في العراق وبين أهل العراق , وألتفَّ حوله كل ذئب أمرد أحمق , وهنيئاً للخلافة بهذا المغني , ولتصلح من بعده للمغنيين المطربين أمثال مخارق وزلزل والمارق كما يذكرهم خليل مردم في (جمهرة مغنيه) (136) , وأخيراً يختم شعره بالحقيقة المرة متسائلاً , ويجيب جازماً , لايمكن للخلافة أن يرثها الفاسقون , وعن هذه القصيدة الثانية يروي الأصفهاني عن عبد الله بن طاهر بن الحسين كيف دسّها دعبل إلى مأمونه قائلاً : " وأما الثانية فإن المأمون لم يزل يطلبه وهو طائر على وجهه حتى دس إليه قوله : (علم وتحكيم وشيب مفارق ...) , فلما قرأها المأمون ضحك وقال : قد صفحت عن كل ما هجانا به , إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة وولاه عهده , وكتب إلى (أبي) أن يكاتبه بالأمان ويحمل إليه مالاً , وإن شاء أن يقيم عنده أو يصير إلى حيث شاء فليفعل , فكتب إلي (أبي) بذلك وكان واثقا به فصار إليه فحمله , وخلع عليه وأجازه وأعطاه المال وأشار عليه بقصد المأمون ففعل فلما دخل وسلم عليه تبسم في وجهه ثم قال أنشدني :
مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات
فجزع فقال له : لك الأمان فلا تخف وقد رويتها , ولكني أحب سماعها من فيك فأنشده إياها إلى آخرها والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه فوالله ما شعرنا به إلا وقد شاعت له أبيات يهجو بها المأمون بعد إحسانه إليه وأنسه به حتى كان أول داخل وآخر خارج من عنده ..." . (137)
نعم هجا المأمون وقد أحسن إليه , بل هجا أباه الرشيد أيضاً , وهو أول من كرمه نكاية بابنه أواخر سنة (203 هـ ) , بعد أن تأكد من أنّ المأمون سمّ الإمام الرضا (ع) , عندما بلغ الشاعر من العمر خمس وخمسين سنة , فأتخذ الموقف المعارض , وشرع بأول قصيدة هجاء لرأس الخلافة , وهذا دليل ساطع على أن الأمر ليس بشخصي ومصلحي , وإنما عام , ومصلحة الأمة قبل مصلحة الأفراد , وعلى الآخرين احترام عقائد الناس ومبادئهم اتجاه الشخصيات العامة , وهذا نهج الأمم المتحضرة في زماننا المعاصر , وإلى الحلقة القادمة لنشرع بمسيرة القصائد المعارضة , وليس بالضرورة أن يكون رأيي رأيه في كلّ الأمور , ولكنني أدافع بكل ما أستطيع لتفهم وجهة نظره في أحداث التاريخ البائد , وخصوصاً بعد أن وصلنا إلى هذا الضياع السائد ...!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الحلقات كلـّها كتبت بإيجاز كبير وبتصرف من كتابي المخطوط ( دعبل الخزاعي الوجه الآخر للشعر العربي ).



#كريم_مرزة_الاسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تغيير الحكّام لا يعني تدمير الأوطان ...!!
- الثقافة العربية من أين...؟ والعراقية إلى أين ؟!!
- 22- التجديد في الشعر - الجاهلي : الوزن والقافية
- هؤلاء بين أيدي هؤلاء
- صرخاتٌ على عثراتٍ للتاريخ مرّة ثانية ...!!
- صرخاتٌ على عثراتٍ للتاريخ ...مرة ثانية ..!!
- التجديد في الشعر العربي (*) - 1 - المقدمة في الشعر الجاهلي
- 3 - عباقرة غربيون أخفتهم حياتهم وبرزوا بعد مماتهم ...!!
- سامي العامري و حقّه في -طرافة النقد الشعري العراقي...-
- 4 - ملامح مسيرة دعبل من الولاية حتى الولاية
- عباقرة عمالقة أخفتهم حياتهم وبرزوا بعد مماتهم ...!!
- 6 - انصهار المدرستين وبزوغ المدرسة النحوية البغدادية
- رضُ العراق ُكأرضكِ الحمراءِ منْ نزفِ القلوبِ
- 3 - ا - لمحات من مسيرة دعبل الوجه الآخر للشعر إمام المعارضين ...
- 5- مدخل لنشأة النحو العربي أضواء خاطفة عن ابن السكيت والمبرد ...
- نَّ العراقَ إذا أودعتهُ أملاً * أكرمْ به - إنْ تعافى- باذخ ا ...
- - دعبل بين هذا وذاك ...!! يجب أن نتعوّد على أحترام الرأي الآ ...
- - مدخل ل -لنشأة النحو العربي ..- سيطرة مدرسة الكوفة النحوية
- لبنانُ يا نبعً الأشاوس ِوالنفوسَ الثائرة ْ
- دعبل الخزاعي الوجه الأخر للشعر العربي... 1 - المقدمة ...لماذ ...


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم مرزة الاسدي - 5- دعبل الخزاعي بين الموقفين الموالي والمعارض (*)