أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - شيطان طرابلس















المزيد.....



شيطان طرابلس


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3742 - 2012 / 5 / 29 - 12:20
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (29)


د. أفنان القاسم


فرانك لانج، أبولين دوفيل
و
شيطان طرابلس
FRANCK LANGE, APOLLINE DEVILLE
ET
LE SATAN DE TRIPOLI




رواية















































إلى ملائكة ليبيا



































القسم الأول

كان فندق لوتيسيا في الليل مضيئًا كالعادة، وعلى غير العادة، كانت الأضواء تضفي على التوريق العربي لواجهته روح ما كان يجري في داخله من محفل ماسوني خاص بانتماء عضوين جديدين من ليبيا، وعلى التحديد من بنغازي. ما كان يجري أو ما كان بصدد الجري، فالسيارات الحاملة للأعضاء والمدعوين المائتين والحادي والثلاثين، بقدر حجرات فندق الأربع نجوم، لم تزل تصل تحت الحراسة المشددة من قبل رجال الأمن، وشارع راسباي لم يكن وحده الشاهد على ذلك، لأن الحركة غير العادية قد تجاوزته إلى الشوارع الفرعية، سيفر وبابيلون وأسّاس وغيرها من الدائرة السادسة. حركة غير عادية، وقمر غير عادي، كأنه عين العناية الإلهية، بأشعتها المطوقة للكون.
في القاعة الكبرى للمطعم، قاعة من طراز الفن الجديد، كان كل شيء عظيمًا. بين نحائت هيكيلي وآرمان وسيزار ولوحات بيش وديكور سونيا ريكييل، كانت فساتين وبَدَلات إيف سان لوران وكريستيان ديور وإيلي صعب تتمايل على إيقاع الجاز ونوتات البيانو، وكأن روح جوزيفين بيكر، النزيلة القديمة للفندق، تحلق هناك، وكانت أفخر أنواع الشمبانيا تهرق، فترشفها الشفاه الرقيقة مع لُقَم الكافيار. لم يكونوا نِعاجًا ما بين الذئاب، كانوا الكواكب ما بينها، ومجد باريس، وحصافة الثعابين، وبساطة اليمام.
لم يكن فرانك لانج، رجل التحري الخاص، ينصت إلى آرمسترونغ، ولم يكن يرشف المائع اللذيذ من الكأس الذي يشده بين أصابعه، كان يراقب كل شيء ليقع على ما يشذ عن القاعدة بين تلك الأشياء التي لم نكن آلفَ لها. كان كل شيء متجانسًا، كان كل شيء متشابهًا، كان كل شيء متكاملاً. كان فرانك لانج ينتقل بين جموع الحاضرين، وينظر إلى الثروة في عينيها، وإلى القوة في عينيها، وإلى الرِّفعة في عينيها، ولا أحد ينظر إليه. كانت الدولة بين أيديهم، والبنوك بين أيديهم، والمؤسسات بين أيديهم، ولا شيء بين يديه. كان أبعد مكان في الكون على مرمى حجر، وأكثر الصوامع عزلة على مرمى حجر، وأعمق نقطة في اليم على مرمى حجر، وعلى مرمى حجر تمثال لا يعرف النطق، ووردة لا تدرك الحقيقة، وإناء ليس مقدسًا لا يفهم ما التَّرجيس. كان الزمن اللانهائي يبدأ، ومن العدم ينهض الموتى، والنظام العالمي الجديد يتأسس بزاوية قائمة، ولا شيء من هذا يبدو.
أول ما دخلت أبولين دوفيل، الضابطة في مركز المخابرات للأمن الخارجي دي جي إس إي، من الباب الكبير، لمحها فرانك لانج، لكنه ما لبث أن أضاعها بين جموع المدعوين، على الرغم من قامتها الفارعة، وفستانها المخملي الأحمر، وشعرها الأشقر المنسدل. وضع كأس الشمبانيا جانبًا، وأخذ يدور بين البدلات الفخمة والفساتين الباذخة، عندما أعياه الصبر في البحث عنها، توقف حائرًا، وإذا بصوت أنثوي يأتيه من ورائه:
- ربما كنت بحاجة إلى عون في البحث عن أحد.
التفت فرانك لانج، وقال لأبولين دوفيل مبتسمًا:
- لم أعد بحاجة إلى عون بعد أن وجدته.
ابتسمت أبولين دوفيل:
- لم أكن أتوقع أن أجدك هنا.
- ولا أنا، لم أكن أتوقع أن أجدك هنا.
تناولت أبولين دوفيل كأسي شمبانيا عن صينية تتجول بين النخبة الباريسية، قدمت إحداها لفرانك لانج، وهذا يقول:
- الحقيقة أنني كما لو كنت في حلم.
- هل هي المرة الأولى؟ سألت الشقراء الفاتنة.
- إنها المرة الأولى.
- أفهم تمامًا ما يدور في ذهنك.
- هل تعرفينهم كلهم؟
- ليس مهمًا أن أعرفهم كلهم، المهم أن يعرفوني، هم، كلهم.
- هذه غاية كل واحد منا.
- ليس الأمر كما ترى.
- فهمت، إنها المفاجأة.
- لقد اقتربت قليلاً من حافة الجحيم.
- سأقف على السر، وبعد ذلك...
- إذا كان الأمر متعلقًا بي، فلن أكون سرًا لأحد.
- هذا ما يقوله كل ضابط مخابرات بعد أن ينجح في مهمته.
- تقصد قبل أن ينجح في مهمته.
- لماذا ترفضين النوم معي، كابتن دوفيل؟
- بكل بساطة لأنك لست رجلي، لانج، لأن رجل التحري الخاص الذي هو أنت، فُطر على شكل قبعة، وأنا لا أحب القبعات. لقد ذكرتني، لماذا لا تضع قبعتك؟
- أنا لا أضع قبعة أبدًا.
- آه، لم أكن أشك يومًا في ذلك.
- بجد، لماذا لا تجعلين مني عشيقًا؟ تعرفين جيدًا مشاعري نحوك، وستحتاجين إليّ ذات يوم.
- أحتاج إليك؟
- ربما رماك الشيطان ذات يوم بين مخالبه.
جاء أحدهم، وسيم جدًا، جميل جدًا، سلم على أبولين دوفيل، وهو يأخذ أصابعها بيده، ويضغط على وسط ظاهر يدها بإبهامه. وفي الحال، وضعت كأسها التي لم ترشف منها رشفة واحدة على صينية متجولة، وذهبت معه دون أن تعتذر لرجل التحري الخاص. ناداها: كابتن دوفيل! لكنها لم تبال به. راقبهما فرانك لانج حتى اختفيا في حجرة من الحجرات، وعاد ينظر إلى كل ذلك العالم المهيمن على العالم، أو على الأقل كان ذلك ما توحي به كل تلك العظمة، وكل تلك القدرة، وكل تلك المشيئة، وكأن كل أولئك كانوا حكومة الكون.
أشار فرانك لانج برأسه إلى سموكن كان بانتظاره في أعلى درج الطابق الأول، فصفق هذا، في نفس الوقت الذي توقفت فيه الموسيقى، ورفع صوته ليسمعه الحضور:
- أيها السيدات والسادة، إلى المحفل من فضلكم!
بدأ قسم من الحاضرين بالصعود إلى الطابق الأول، وقسم بالتوجه إلى صالون "بريزيدنت"، هذا الفضاء الأسطوري، بثرياته، فأين الثريا من يد الراغب! قبل الدخول، كانت المضيفات يعطين لكل واحد من الأجانب عن الطائفة لباسًا أبيض مفتوحًا يرميه على كتفيه، وكان في صدر الصالون قبر رمزي لسليمان عليه زاويتان قائمتان وُضعت فيهما نسختان من القرآن، وأقيم على جانبيه عمودان يمثلان النهار والليل تحت كل رموزهما الثنائية من ماء ونار وخير وشر وحب وكره... وخلف القبر الوهمي كان هناك العرش بمقعده السنيّ للقطب الأجلّ صاحب الأمر والنهي، الرئيس، الموشى بالنسر ذي الرأسين لصاحب أعلى درجة 33، ومن ناحيتيه مقعدان أقل حجمًا للحارسين، نائبي الرئيس، المقاعد الثلاثة منجدة بمخمل أسود، ومن وراء العرش انتصب درج نصف دائري ينتهي بشعار ضخم للماسونية، الفرجار وما يعنيه من انفتاح والزاوية القائمة وما تعنيه من أصول وقوانين وقياسات، في وسطهما العين الثالثة عين العناية الإلهية المشعة داخل القسم الأعلى من الهرم المفصول عن باقيِهِ تحت رمز عدم اكتمال بناء العالم. في أعلى السلم، كان هناك مقعد بحجم مقعدي نائبي الرئيس، منجد بمخمل أحمر، ينزل السلم من ناحيته الأخرى، وكل هذا تحيطه ستائر المخمل بلونها البنفسجيّ الموشحة بالشرائط الذهبية. وفي وسط الصالون كانت كراسي الأعضاء المرقمة موضوعة على شكل مثلثين متداخلين يمثلان خَتْمَ سليمان مقابل قبره الرمزي، بينما أخذ المدعوون يقفون حولها بانتظار أن تبدأ المراسم.
على حين غِرة، انطفأت الثريات، وأضاء كشاف نور تم تسليطه من ظهر الصالون على القبر الرمزي. إثر ذلك، بدأت الأردية السوداء الكهنوتية تزحف بالشمعدانات المحمولة بالقفازات البيضاء، وعلى رؤوس أصحابها قلانس مخروطية سوداء، تنزل حتى الصدر، ولا يبين من الوجه تحتها أي شيء ما عدا العينين. انتشرت البدلات السوداء والنظارات السوداء هنا وهناك من أجل الحراسة، وبعد أن جلس كل الأعضاء، ولم يعد أحد يتحرك أو يتكلم، في الصمت التام والسكون، وعندما أصبح من الممكن سماع ريشة طائر من العلياء لو سقطت، انبثق رئيس المحفل من وراء السلم النصف الدائري برفقة نائبيه، وهم يخفون وجوههم كغيرهم من الأعضاء بالقلانس السوداء المخروطية، ويرتدون الأردية السوداء الكهنوتية، ويغطون أياديهم بالقفازات البيضاء، لكن ما ميز الرئيس عن نائبيه، السيف الوهاج الذي يحمله، والقلادة الكبرى المرصعة بالجواهر التي يضعها حول عنقه، وعلى الخصوص بجوهرة الأسد الملكي، والخواتم الضخمة العشرة الموضوعة مع القفاز الأبيض بينما وضع النائبان السبابة والإبهام في خاتمين ضخمين، بالطبع مع قفازهما الأبيض، وعلى صدريهما ألقيا وشاحًا أصفر ينتهي بجوهرة، فقام لهم كل من كان جالسًا، وهو يحني هامته تبجيلاً وتوقيرًا. بعد أن أخذ الثلاثي الجليل مكانه، أشار رئيس المحفل صاحب الأمر والنهي بسبابته إلى رجل كان يقف طوال الوقت في ظله، رجل لم يكن يختلف عن غيره من الأعضاء في زيه، كان السكرتير، فانحنى هذا كثيرًا، وبدوره أشار بيد آمرة إلى اثنين من البدلات السوداء والنظارات السوداء أن يتبعاه، واتجه نحو باب مغلق، دفعه بيدين قويتين، فانفتح على مصراعيه، ومن كشاف نور تساقط الشعاع في خط دقيق على قبرين في جوف الحلكة. كانت الجماجم في كل مكان، والهياكل العظمية، وكانت تتصاعد رائحة خبيثة، والغبار يتنافس مع العناكب في خنق كل روح حي.
رفع حارسا الأمن غطائي القبرين، وجذبا بعنف العضوين الجديدين الممددين عاريين بين الجماجم والعظام. كانا يرتعدان فرقًا، ولخط الشعاع الدقيق أقفلا عينيهما، واستدارا عن الضوء بوجهيهما، فأخرج السكرتير من جيبه رباطًا لكل واحد، عصبه الحارسان الأمنيان حول عيني العضوين الليبيين، وجعلاهما يخرجان من قبريهما. ربط السكرتير كلاً منهما بحبل عقده فوق السرة، وجذبهما، وحارسا الأمن يساعدانهما على التقدم إلى أن وصلا قبر سليمان. تركوهما في حال من عاد من الموت في ظل قبر ملك الجان، وانتظر كل الحاضرين أعضاء وغير أعضاء القطب الأجلّ أن يبدأ طقس الانتماء إلى المحفل.
- محفلنا معبد الفلسفة والفن، بدأ الرئيس الكلام، وهو يحرك كرة خفية في يده، الفلسفة تحت كل معانيها، والفن تحت كل معانيه، حسب هذا المفهوم يصبح الدين فلسفة، والهندسة فنًا، يصبح المهندس الأعظم للكون فنانًا وفيلسوفًا. من الحق أن عقائدنا الأخلاقية هي الأخوّة والحرية والمساواة، لكن الحقيقة تتعدى كل هذا إلى قدر الإنسان كإنسان: كيف يكون الإنسان إنسانًا. نعم، الإنسان أخلاق، ولكنه في الوقت نفسه، ذاته. وليجد ذاته، تتعدد من أمامه السبل، دينية أم غير دينية. لهذا فتحنا الأبواب لكل الأديان بما فيها الإلحاد دينًا. ما يهم هو فعل الإنسان، فعل الخير، الخير بالمعنى العملي لا المثالي، أيًا كانت العقيدة، أيًا كانت المهنة، أيًا كان الأصل، أيًا كان اللون، أيًا كان شعاع الشمس الذي لكل واحد منا. ولهذا أيضًا فتحنا الأبواب للنساء وللرجال على قدم المساواة، ففهمنا المهندس الأعظم للكون أحسن فهم، فالكون رجال ونساء، والكون حب المرء تحت كافة أشكاله. هذا هو الحب الصادق الأخوي لأجل بناء النفس، والحب الصادق الجسدي لأجل بناء الكون.
تنحنح القطب الأجل، وهو يشير إلى سكرتيره، فأحضر هذا له كأس ماء، شرب بعضه من تحت قلنسوته، ثم أعاده للسكرتير قبل أن يعود إلى الكلام:
- لم تعد لدينا أسرار نخبئها، ولا أماكن نختبئ فيها، بعد أن تركنا عصور ترهيب النفوس من ورائنا، نحن اليوم في عصر الحب الصادق الأخوي لأجل بناء النفس، والحب الصادق الجسدي لأجل بناء الكون، نحن اليوم في العصر ما قبل الأخير من التطور، بفضلنا نحن البنائين الأحرار، ولماذا ما قبل الأخير؟ لأن المستقبل لم يزل غامضًا على الرغم من كل التقدم الذي أحرزناه، ونحن لهذا نعمل اليوم كما عملنا البارحة في كل مكان من المعمورة من أجل تطور كل البشرية. من روح هذا العمل الكوني نستقبل اليوم عضوين جديدين من ليبيا، عربيين ومسلمين، وهذا شيء من حقهما، ومن طبيعة الأمور في معبد الفلسفة والفن الذي هو محفلنا. هذا شيء نقبل به مرحبين وسعداء، كما أن ذلك شيء يخص كل واحد منا، يقبلان به مرحبيْن وسعيديْن. وعلى كل حال، يخضع قبول العضو معنا لقانون بسيط يعرفه الجميع: الموافقة بالإجماع. فلنبدأ بالاقتراع...
أشار رئيس المحفل بسبابته إلى سكرتيره، فأحضر السكرتير صندوقًا شفافًا راح يدور به بين الأعضاء واحدًا واحدًا وكل عضو يخرج من جيبه كرة بيضاء بحجم كرة البنغ بونغ يضعها فيه علامة الموافقة ما عدا أحدهم: كانت الكرة التي وضعها سوداء. تبادل القطب الأجلّ والسكرتير نظرة استغراب واستياء، وعندما انتهى هذا من اللف على كل الذين أدلوا بأصواتهم، ذهب بالصندوق إليه. أخرج الكرة السوداء، وانحنى على أذنه. قال الرئيس ما قال في أذن السكرتير، فرفع هذا عقيرته بالشَّكاوَى:
- يطلب المعبود من صاحب الكرة السوداء الوقوف.
وقف أحدهم، فمال السكرتير بأذنه على فم الرئيس، وبعد ذلك:
- يطلب المعبود منك السبب الذي دفعك إلى اختيار الكرة السوداء ومعارضة الأغلبية في موافقتها على العضوين الجديدين.
- لأنهما من الرجال السابقين للنظام، أيها القطب الأجلّ، أجاب.
مال السكرتير بأذنه على فم الرئيس، وبعد ذلك:
- يقول المعبود لك إنهما من الرجال السابقين للنظام، مما يبدل كل شيء.
قال المعارض:
- قبول هذين الليبيين، والوضع المتأزم في بلدهما، على صدر محفلنا، لا يخلو من قصد خفي يتجاوزنا كلنا إلى قرار لا يعود علينا. نحن في ديمقراطية، ولا يمكن لأية سلطة أن تقوم مقام الديمقراطية. هذا يعني أن على المنتخَبين، والحالة هذه، حكام بلدنا الحاليون، أن يتخذوا القرار الذي يجدونه مناسبًا.
استشاط الرئيس غضبًا، فصاح دون وسيط:
- نحن نقر بأننا في ديمقراطية، لهذا نحن هنا، ولكن ككل سلطة ثقافية أو سياسية، نريد أن نؤثر في مجرى الأحداث، وبالتالي أن ندفع حكامنا إلى اتخاذ القرار المناسب بأسرع وقت.
- ليست هي الطريقة الوحيدة، أيها القطب الأجل، فالطرق عديدة، وأول الطرق استدعاء الرجل الأول للبلاد كما هو متبع، السيد رئيس الجمهورية، والاستماع لشهادته. أنتم بهذا، أيها القطب الأجلّ، تتجاوزون السيد رئيس الجمهورية.
- لن يتأخر السيد رئيس الجمهورية عن الخضوع للرأي العادل للعادلين كما هي عادته.
- الرأي لا القرار، فالقرار، كل القرار، يعود إليه.
عاد القطب الأجلّ يصيح بعصبية واضطراب:
- الرأي العادل، العادل، أقول العادل، فهو بمثابة القرار لما يكون عادلاً، بمثابة القرار العادل.
همس في أذن النائب الأول ما لم يسمعه أحد، وهذا يهز رأسه موافقًا، وفي أذن النائب الثاني، وهذا أيضًا يهز رأسه موافقًا، ثم أمر بعنف:
- ارفع قَلَنْسُوتك!
استدارت كل الرؤوس باتجاه المعارض الذي لم يخضع للأمر.
- ارفع قَلَنْسُوتك حالاً!
دون أي أثر.
أشار القطب الأجلّ بسبابته المثقلة بالخاتم الضخم إلى سكرتيره، فسارع هذا إلى الذهاب أمام المعارض، وبعد قليل من التردد، جذب القلنسوة بحركة متوترة تحت الصرخات الدهشة للحضور:
- السيد وزير الدفاع!
أخذ الأعضاء يهدرون في وجهه، وهم يلوحون بالسبابة والخنصر على شكل قرنين ليطردوا الشيطان بالتعزيم. وبعد أن صمتوا، همهم وزير الدفاع:
- سأقدم استقالتي، بعد إذنكم، أيها القطب الأجلّ.
هدر صاحب الأمر والنفي:
- في عز الأزمة، تستقيل؟ أهذا هو التعاضد الذي علمناك إياه؟
- الكشف عن هويتي هو السبب، ولا شأن بالتعاضد أو غيره.
وراح وزير الدفاع يشد ربطة عنقه إشارة للاستغاثة، وهو يضيف:
- إضافة إلى ذلك تخلي المحفل عني.
عاد الأعضاء يهدرون في وجه وزير الدفاع، وهم يلوحون بالسبابة والخنصر على شكل قرنين غاضِبِيِن. أسكتهم الرئيس جميعًا بحركة من يديه المديدتين، وطلب إلى وزير الدفاع:
- لتغادر المحفل في الحال.
وفي الحال، غادر وزير الدفاع المحفل دون أن يلحق به رجل التحري الخاص فرانك لانج الذي قضى كل وقته مراقبًا باهتمام كل ما يجري، ربما لأنه لم يفهم إشارة الخطر المحدق بوزير الدفاع، وربما لأنه كان يفضل متابعة باقي المراسم التي بدت غريبة من نوعها، بينما ذهب في أعقاب وزير الحرب اثنان من البدلات السوداء والنظارات السوداء بعد إشارة خفية من السكرتير.
وقف الرئيس ونائباه، فوقف كل الأعضاء، وهم يفرشون أصابع أياديهم اليمنى على قلوبهم، بينما وضع السكرتير نسخة من القرآن في اليد اليسرى لليبيين العاريين دومًا، الواقفين في ظل قبر سليمان الرمزي دومًا، المعصوبين دومًا، وضع مصحفًا في اليد اليسرى لكل منهما، وجعل اليد اليمنى تضغط فوقه. طلب إليهما السكرتير:
- أعيدا ما يقوله المعبود لكما.
قال القطب الأجلّ وهو يلوّح بالسيف الوهاج:
- أقسم على المصحف الشريف أنا الأخ أن أكون وفيًا لكل إخوتي وأخواتي.
أعاد العضوان الجديدان بصوت واحد:
- أقسم على المصحف الشريف أنا الأخ أن أكون وفيًا لكل إخوتي وأخواتي.
- أقسم على المصحف الشريف أنا البنّاء الحر أن أنشط مع كل البنائين الأحرار لأجل بناء العالم.
- أقسم على المصحف الشريف أنا البنّاء الحر أن أنشط مع كل البنائين الأحرار لأجل بناء العالم.
- أقسم على المصحف الشريف أنا العادل أن أعدل وأساوي بين كل بني البشر على حد سواء.
- أقسم على المصحف الشريف أنا العادل أن أعدل وأساوي بين كل بني البشر على حد سواء.
- أقسم على المصحف الشريف أنا الباحث عن الحقيقة أن تكون حقيقتي إحدى الحقائق لا كل الحقائق.
- أقسم على المصحف الشريف أنا الباحث عن الحقيقة أن تكون حقيقتي إحدى الحقائق لا كل الحقائق.
- أقسم على المصحف الشريف أنا الحجر أنحته بإرادتي التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون.
- أقسم على المصحف الشريف أنا الحجر أنحته بإرادتي التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون.
- أقسم على المصحف الشريف أنا الحطب أحفره بإرادتي التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون.
- أقسم على المصحف الشريف أنا الحطب أحفره بإرادتي التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون.
- أقسم على المصحف الشريف أنا المعدن أصهره بإرادتي التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون.
- أقسم على المصحف الشريف أنا المعدن أصهره بإرادتي التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون.
كان كل الأعضاء على رأسهم القطب الأجلّ ونائباه يأخذون بالترداد، وهم ينظرون إلى أعلى، إلى أعلى، ويرفعون ذراعهم اليسرى في زاوية قائمة ويدهم منبسطة جانبًا علامة الثبات في الرأي والمعتقد بينما ترك العضوان الجديدان المصحف على قبر سليمان الوهمي، وتناول كل منهما زاوية قائمة من الزاويتين اللتين وضعتا عليه، وبدآ الطواف باتجاه عقرب الساعة حول القبر، والسكرتير يسحبهما من الحبل كما لو كان يسحبهما من حبل سرتهما:
- أنت الأخ الوفي لكل إخوتك وأخواتك، أنت البنّاء الحر مع كل البنائين الأحرار لأجل بناء العالم، أنت العادل المساوي بين كل البشر على حد سواء، أنت الذي حقيقتك إحدى الحقائق لا كل الحقائق، أنت الحجر المنحوت بإرادتك التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون، أنت الحطب المحفور بإرادتك التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون، أنت المعدن المصهور بإرادتك التي هي إرادة المهندس الأعظم للكون... لا تفعل الشر أبدًا، افعل الخير. لا تساوم الشر أبدًا، ساوم الخير. لا تفتتن بالشر أبدًا، افتتن بالخير. افعل الخير وساومه وافتتن به لحب الخير. أكْبِرِ الأخيار، أشفق على الضعفاء، واهرب من الأشرار، دعهم يكرهونك، لكن لا تكره أحدًا. اسكت لما يطيب السكوت ولما لا يطيب، واترك البشر يتكلمون. البشر كلهم أجانب عنا، جاهلون بأصولنا.
عندما توقف الأعضاء عن تأكيد القَسَم، رفعوا أياديهم مفتوحة الأصابع بينما صنعوا من السبابتين والإبهامين المتباعدين هرمًا يتعدى في رمزه ما يربط الأرض بالسماء، العقل بالروح، الواقع بالحلم، الظلام بالضياء، الجِرم بالفضاء، وكل ما لدى المصريين القدامى من عقائد، إلى الصاعدين في المراتب حتى المنورين في أعلاها، نخبة العالم. كان الليبيان يقفان عند قدم السلم النصف الدائري بعد أن أعادا الزاويتين القائمتين إلى موضعهما فوق القبر الرمزي لسليمان، فراح السكرتير يسوطهما ولا أدنى آهة تند عنهما برهانًا على صفة الاحتمال والثبات التي يتحليان بها. كان امتحانهما الجسدي، ولامتحانهما الذهني، للأول: كم عمرك؟ لم أولد بعد. من هو ابن الأرملة؟ حيرام. ما هي المعادن؟ الحُلى. للثاني: طرابلس تحترق وأنت في وسطها ماذا ستفعل؟ كما فعل أهل روما. لماذا بحر ليبيا أزرق؟ لأن أول محفل تم عقده فيه. كيف يمكن لفأر أن يتفادى التهام أسد؟ بسحب الشوكة من باطن قدمه. نزلت السلم النصف الدائري عشر شقراوات من كل ناحية مرتديات لثوب من المخمل أسود ضيق مشقوق حتى أعلى الساق اليسرى، وفوق على رأس السلم وقفت أبولين دوفيل بشعرها الأشقر المنسدل المزين بلوتس أُذُنِ الفأر، وهي ترتدي الثوب نفسه كربة من الربات. انطفأ كشاف النور المسلط من ظهر الصالون على القبر الرمزي، واشتعل آخر من العين الثالثة، وهو ينصب على "الأعميين الصغيرين". وقبل أن ينزع السكرتير العصابة عن عينيهما، راح يستجوبهما عن الإخلاص فيؤكدانه، عن الفداء فيؤكدانه، عن الوِفاق فيؤكدانه، عن سماعهما لصوت ضميرهما فيؤكدانه، عن تفاديهما للشجار فيؤكدانه، عن حبهما لكل البشرية فيؤكدانه. نزع السكرتير العصابة عن عينيهما، فوجدا الكثير من الصعوبة حتى تمكنا من فتحهما. أشربهما السكرتير بعضًا من كوب المرارة، وسحبهما من الحبل، والشقراوات يساعدنهما على الصعود، تحت ابتهالات كل الأعضاء القدامى، ابتهالات أقرب إلى الترانيم:

الجهل الذي كنتُ فيه تركته من ورائي
الظلام الذي كنتُ فيه تركته لغيري
عما قليل سيكون اكتشافي لحقيقة ذاتي

وصل المبتدئان بين يدي أبولين دوفيل، فقطع السكرتير الحبل لكل منهما، وتركهما يسقطان كوليدين على قدميها، والصمت قد عاد سيدًا للمكان. جلست الربة على كرسيها العالي، وكشفت عن نهديها الأبيضين، فجاء السكرتير بفرجار، وخز بسنّه حلمتيها، فسالت قطرة دم منهما، لعقها الليبيان، والترانيم تدق أعتاب السماء:

العالم الذي جئتُ إليه صحن مجدي
الأوج الذي سأرقى إليه صبو نفسي
السر الذي سأقف عليه عبادة قلبي

ألقى السكرتير مَشْلَحًا على كتفي العضوين الجديدين، وترك أبولين دوفيل تنزل وإياها الليبيان السلم الخلفي، ومن باب خلفي إلى ردهة الفندق الكبرى. لحق بها فرانك لانج، لكنها كانت أسرع منه إلى المصعد، فالطابق الأخير. أول ما رآها حارس الغرفة ذو البدلة السوداء والنظارة السوداء تتقدم في الممر مع نعجتيها، فتح الباب، وأدخلها في الحال، وهو يلتفت حوله. وقبل أن يغلق الباب، طبعت أبولين دوفيل قبلة تحت أذنه اليمنى. بعد ذلك، تم كل شيء بسرعة. أخرجت أبولين دوفيل مسدسًا صغيرًا مربوطًا حول ربلة ساقها اليمنى، وأردت الليبيين قتيلين الواحد بعد الآخر. مزقت فستانها الضيق من ناحيته المدروزة حتى أعلى الساق، وارتدت فوقه الرداء الأسود ثم القلنسوة السوداء والقفاز الأبيض إضافة إلى بابوج أسود كانت كلها مفروشة على السرير، وخرجت برأسها من الباب حذرة. لم يكن الحارس هناك، ودومًا لم يكن أحد في الممر. عجلت النزول من الدرج إلى الردهة الكبرى، فباب الخروج، والترانيم لم تزل أصداؤها تتردد في أرجاء الفندق:

العنايةُ التي سيخصني بها المهندس الأعظم للكون عنايةُ إخوتي
الحياة التي سأتذوق طعمها حياةٌ بين إخوتي
الموتُ الذي سأسير إليه لن يكون أحمر أو أسود بل أبيض بفضل إخوتي

وبفطرة رجل التحري الشاكّ في كل شيء، لاحظ فرانك لانج ذلك الفرار السريع، فأغذ السير من وراء الشبح الأسود ذي الرشاقة المدهشة. صعد شارع سيفر إلى شارع دوفور، فاختفى الشبح في أحد الأزقة، وبعد قليل، ظهرت أشباح ثلاثة. احتار فرانك لانج، فأيها يتبع؟ أخذ يعدو من وراء أحدها، وبينما كان على مسافة ليست بعيدة منه، امتد القفاز إلى القلنسوة، ورفعها، فإذا بفتاة سوداء كالقمر، تنتفض بشعرها الطويل الأشقر. تركها رجل التحري الخاص تنهي ابتسامتها اللذيذة، وعاد يجري إلى شارع دوفور، فشارع رين، وعند تقاطع شارع سان جيرمان، لمح الشبحين قرب مقهى فلور، فلم يقل لنفسه أيهما سيتبع، وهو على أي حال أضاع أحدهما في نواحي سان جيرمان دي بريه. وكما حصل مع الأول، عند تقاطع شارع سان-بونوا وشارع جاكوب، امتد القفاز إلى القلنسوة، ورفعها، فإذا بفتاة أخرى سوداء كالقمر، تنتفض بشعرها الطويل الأشقر. كانت تضحك، وتنحني، وفرانك لانج يفكر في أن يعود أدراجه، وهو ينظر خلفه غير مصدق ما يقع. قال رجل التحري الخاص لنفسه، وجهة الشبح الثالث لا بد أن تكون السين، فكل خط السير يشير إلى ذلك، لهذا راح ينهب شارع بونابرت نهبًا، وهو يخال البنايات ستضغط عليه لضيقه، وأعمدة مدرسة الفنون الجميلة ستسقط عليه لميلانها. وبينما هو يطل من أعلى رصيف مالاكيه، وصله صوت قارب بمحرك كان الشبح الثالث قد شغله. وقبل أن يشق الشبح السين، امتد القفاز إلى القلنسوة، ورفعها لتبين أبولين دوفيل، وهي تنتفض بشعر الشمس والموت الذي كان شعرها، وما لبثت أن انطلقت بقاربها من تحت قنطرة الكاروسيل للذهاب إلى حيث لا يعلم أحد... حتى تلك اللحظة.

















القسم الثاني

عاد فرانك لانج إلى فندق لوتيسيا ليجد كل شيء فيه قائمًا قاعدًا بعد معرفة الجميع بمقتل العضوين الجديدين الليبيين، لكن هوية القاتل بقيت سرًا من أسرار كبار الماسونيين. ودون أن يتوقع رجل التحري الخاص استدعاء رئيس المحفل، أو على الأقل أن يكون استدعاؤه بتلك السرعة، سار من وراء أحد البدلات السوداء والنظارات السوداء إلى الدرج، فالطابق الأول، فالجناح الملكي للقطب الأجلّ. أغلق الحارس الآليّ الباب بعد أن أدخله، فوجد نفسه وجهًا لظهر أحدهم، ما أن استدار حتى أطلق فرانك لانج صفير التعجب والاستغراب:
- جيرار تيري، القطب الأجلّ!
همهم صاحب الأمر والنهي، وهو يضرب بمسطرة في كفه:
- الأمور خطيرة، خطيرة جدًا.
تقدم رجل التحري الخاص من المعبود دون أن يزايله تعجبه ولا استغرابه:
- الصِّحافي ورجل الأعمال العالمي!
- لهذا كنت أصر دومًا على أن يكون محفلنا ليس محفلاً بل معبدًا للفن والفلسفة، فالصحافة بالنسبة لي فلسفة قبل أن تكون الكلام الفارغ الذي نقرأه كل يوم.
- يا لها من مفاجأة! بل يا لها من مفاجآت لم يكن وزير الدفاع أولها ولا الآنسة دوفيل آخرها.
وضع القطب الأجلّ المسطرة جانبًا، وتناول عن عربة كأسين وقنينة نبيذ أبيض مدفونة في وعاء مليء بالثلج. صب فيهما، وهو يقول:
- وزير الدفاع اختفى دون أن يقع رجالي عليه، إنه على التأكيد في خطر، والكابتن دوفيل (قدم الكأس لفرانك لانج، وهو يهمهم "بعض المسحوق الأبيض"، قبل أن يضيف بنبرة جسيمة) في خطر أعظم.
- أنا لا أفهم شيئًا، وزير الدفاع في خطر؟ بعد موقفه في المحفلِ الخطرُ هو أنتم. أبولين دوفيل في خطر؟ بعد قتلها لليبييْنِ الخطرُ هو أنتم.
- لهذا السبب كلفتك بمراقبة المحفل، لأن الخطر في كلتا الحالتين ليس نحن.
- العنايةُ التي سيخصني بها المهندس الأعظم للكون عنايةُ إخوتي! ألقى فرانك لانج، وانفجر ضاحكًا.
- لا تضحك رجاء.
لكنه استمر يضحك:
- الموتُ الذي سأسير إليه لن يكون أحمر أو أسود بل أبيض بفضل إخوتي!
- هلا توقفت عن الضحك؟
لكنه لم يتوقف:
- لا تفعل الشر أبدًا، افعل الخير!
انتهره، وهو ينظر إلى أعلى نظرة الحنق:
- كفى!
وبعد أن توقف رجل التحري الخاص عن الضحك:
- غالبًا ما يبرر الوجود فعلٌ غيرُ عادي.
- القتل، هذا ما تريد القول؟ القتل يبرر الوجود؟
جرع القطب الأعظم كأسه دفعة واحدة، وعاد يملأها:
- غالبًا ما تبرر الغاية الوسيلة، والغاية هنا...
- ليس كل الوسائل.
- ...مشرفة. إنها حرية شعب.
- ما العلاقة؟ أنا لا أفهم.
فتح الحارسان اللذان من المفترض أنهما ذهبا في أعقاب وزير الدفاع الباب بكل هدوء، وظهرا بجسديهما العملاقين، وهما يهزان رأسيهما علامة النفي، وبعد ذلك انسحبا، وهما يغلقان الباب بكل هدوء من ورائهما.
- رجالي لا يجدون دومًا وزير الدفاع، همهم جيرار تيري بشيء من القلق. المعركة حامية الوطيس بيننا وبين السي آي إيه، هل تفهم الآن؟
أنهى فرانك لانج كأسه، ووضعها:
- أفهم الآن لماذا كان موقف وزير الدفاع المعارض.
- ليس لأن هذا موقفه، ولكن السي آي إيه، وهم يهددونه.
وبعد بعض الصمت:
- في السي آي إيه هم لا يريدون أن يسمعوا بأي تغيير في ليبيا، لهذا كان علينا أن نلجأ إلى ما هو غير عادي، إلى أقبح الوسائل ليكون التغيير بعد اثنين وأربعين عامًا من الظلم والقمع والاضطهاد وكل ما يشترك مع هذه المفردات في معناها منذ سقراط مرورًا بإنجلز وماركس حتى مقالاتي المتواضعة.
- وهل سينهض الليبيون في وجه الطغيان لأجل زعيمين كانا محسوبين على النظام اغتالتهما الآنسة دوفيل؟
- الكابتن دوفيل عميل مزدوج، تحملها في هذه الساعة طائرة خاصة إلى طرابلس. قَتْلُهَا لليبييْنِ سيعلي من شأنها في عيني رئيس البلاد كامور التُّكالي، وسيدفع الليبيين، ليبيي بنغازي أول ذي بدء، فالقتيلان من بنغازي، إلى التحرك. البناؤون الأحرار في بنغازي يفهمون الكود "شيطان طرابلس" على أكمل وجه.
- المراهنة خطرة.
- أعرف.
- النتيجة خطرة.
- أعرف.
- ستذهب ضحيتها أبولين دوفيل.
- أعرف.
- تعرف، ولا تفعل شيئًا!
- أفعل كل شيء.
أفرغ القطب الأجلّ كأسه الثانية في حلقه، ووضعها جانبًا:
- ستذهب إلى طرابلس لحماية الكابتن دوفيل، فرانك لانج، والعودة بها إلى باريس سالمة.
- ولماذا بعثتم بها إلى شدق الذئب إذن؟
- لأن مهمتها تبدأ هنا وتنتهي هناك.
انحنى على الكمبيوتر، وراح يقرأ رسائل عديدة على الفيسبوك يتنادى أصحابها إلى التظاهر في كل ليبيا.
- لم ينتظر الليبيون أن نؤثر على طريقتنا في حركتهم، همهم جيرار تيري، فها هم يتداعون إلى قلب النظام عن طريق الشبكات الاجتماعية. لسنا من وراء ما سيجري كما كان ذلك في كل مكان وكل زمان من الثورة الفرنسية إلى الثورة الليبية ولكن يحصل أن نكون جزءًا من هذا.
- أرى ذلك.
- وفي كثير من الأحيان يحصل أن نكون مهيأين ومستعدين أكثر من غيرنا للانخراط فيما يجري.
- إذن لماذا لم تنتظروا قبل أن...
- كان على كل شيء أن يقع، فهذا ينهل من ذاك، وهذا يصب في ذاك، ويزيد من حظوظ التغيير.
- تغيير ما في جيوبكم.
- تغيير ما في جيوبنا كما تقول القراءة الأخرى لكود شيطان طرابلس، وهذا شيء طبيعي، فلكل تغيير القدر الذي يستحقه. وأنت فيما يخصك...
- أبولين دوفيل.
- أمرها بين يديك.
- ومهمتها؟
- عند وصولك طرابلس تكون مهمتها قد انتهت أو بصدد الانتهاء.
خلال ذلك، كان رجال السي آي إيه يستجوبون وزير الدفاع في أحد مطابخ الفندق المهجورة التحت الأرضية على ضوء الشمعدانات، وهو في حال يرثى لها. كان مربوط اليدين من الوراء إلى حنفية أحد الأحواض، وعليه تبدو آثار التعذيب. كانوا ثلاثة، اثنان يدخنان سيجارة، والثالث يضع على رأسه قبعة، وهو يقول لوزير الدفاع:
- تعذب دون أن تشكو، إذا ما احمر وجهك من وضعك، فوضعك موضع فخرك، اسمع دومًا صوت ضميرك، تفادى الخصام، اجعل دومًا العقل إلى جانبك...
شعر وزير الدفاع بأنفاس الناجين من معسكرات الموت الذين نزلوا في الفندق على عنقه، فاعتدل بعنقه، وراح يبحث في العتمة عن أسدافها، لكنه لم ير شيئًا. كانت في رأسه صورتان، واحدة لعساكر النازيين، وهم يصعدون بأرتال مشاتهم الشانزلزيه، وواحدة لقطارات المنفيين المبعدين إلى بولندا. جعله رجل السي آي إيه ذو القبعة، يعتدل بنصفه الأعلى، وهو يلصق صدره بصدره، وعُرقوبه بعُرقوبه، ويردد مفردة صاحب الأمر والنهي في مكان آخر وزمان آخر صائحًا: ماها-بين!
ثم دفعه عنه بعيدًا، ونبر:
- لا نريد أي تغيير، فلماذا لم تفهم؟
همهم وزير الدفاع:
- هم الذين لم يفهموا.
- التغيير هو هذا النظام الشيطاني الذي أردناه منذ اثنين وأربعين عامًا، هذا هو التغيير الذي أردناه على أن يكون دائمًا وإلى الأبد. الباقي كله تمثيل، الحصار، الاعتداء على الشيطان، قتلنا لابنته المتبناة التي لم نقتلها، أسلحة الدمار الشامل التي قيل إنه يمتلكها ثم قيل إنه سلمنا إياها، كل هذا تمثيل، يا معالي الوزير، كل هذا قصة من القصص الشيطانية.
- من البحر ستأتي السفن، من البحر ستأتي أسماك القرش، راح وزير الدفاع يهلوس.
اعتمد رجل السي آي إيه على ركبته اليسرى، ورفع يده اليمنى نحو الشمس السوداء:
- من البحر سنبول عليكم نفطًا بالقدر الذي نريده، ولن يمكنكم إعادة توزيعه كما ترغبون.
- من البحر سيأتي المهندس الأعظم للكون ليروز صُنعه.
وأخذ المبعدون إلى معسكرات الموت يفتحون أصابع أياديهم من أمامهم إشارة الخطر والاستغاثة، ويصرخون بأعلى أصواتهم، وهو يصرخ معهم، فنزل رجلا السي آي إيه الآخران به ضربًا، وكل منهما في فمه سيجارته. وفي الأخير، سحق كل منهما سيجارته في جبهته وفي وجنته، فصرخ، وفقد الوعي. لم يكن البدلات السود والنظارات السود الذين يبحثون دومًا عن وزير الدفاع غير بعيد، فجاءوا إثر الصراخ، وأخذوا بالباب الموصد تحطيمًا. عندما دخلوا، كان رجال السي آي إيه الثلاثة قد خرجوا من باب صغير لسرداب يوصل إلى الخارج.
همهم وزير الدفاع، وهو يستلقي في سرير المعبود:
- سنعود إلى فزان، أيها القطب الأجلّ، أقسم لك. ليس لأننا نعزف الموسيقى في الكنيسة، فنحن نعزف الموسيقى في الماخور، ولكن لأننا نصنع الموسيقى، أجمل الألحان نصنع، ونصنع الإنسان. كيف نصنع الإنسان؟ وأي إنسان نعني؟ هذا شيء آخر لا علاقة له بالدين. سنعود إلى فزان لأننا كونيون نتجاوز الحدود، فالإنسان بلا حدود، والحضارة بلا حدود، والعالم اليوم قرية كبيرة.
كان الضماد يحيط بجبهته ووجنته، وكان صاحب الأمر والنهي يقف أمامه صامتًا.
- وسنعيد تقسيم الحصص، على أن تكون حصة الأسد لنا. المن الليبي، أيها المعبود!
- لنا أم لنا؟ سأل جيرار تيري.
- لنا ولنا.
- أرى أن هذا من ذنب السياسة.
- الضرورات تبيح المحظورات.
- هل يمكن السياسة أن تكون روحية؟
- يمكنها.
- أحيانًا، ستقول لي.
- غالبًا.
- غالبًا تحت أي مفهوم؟
- لازمني.
- كأي سلطة شيطانية.
- إن هذا من ذنب السياسة.
- والاقتصاد؟
- الأزمة المالية في العالم حلها في ليبيا، والحل سياسي.
- الضرورات تبيح المحظورات.
خرج فرانك لانج من الظل على رؤوس أصابع رجليه دون أن يشعرا به، وتركهما في الجناح الملكي يواصلان الحديث ما بينهما وحيدين.
القسم الثالث

لم يكن وصول فرانك لانج إلى طرابلس غير خافية أسبابه عن رجال المخابرات، لهذا عملوا كل ما بوسعهم على تسهيل معاملاته في لحظة من أصعب لحظات البلد، وتبعوا التاكسي الذي أخذه إلى الفندق الكبير. كان رجل التحري يلاحظ كل هذا بفضل حاسته السادسة حاسة كل من له مهنته، لكنه ترك نفسه تحلق قليلاً مع تلك الطيور الغريبة السوداء ذات المناقير الحمراء، تحت سماء شديدة الزرقة، شفافة كالكريستال. كان يراها، وهي تختفي فجأة، وكأنها تسقط في البحر، ثم تظهر فجأة، وكأنها تجيء بالشمس على مناقيرها. أمام الاحمرار البادي على وجه فرانك لانج للحرارة الشديدة، ضحك السائق، وقال ليداعبه، وهو ينظر إليه من المرآة الارتدادية:
- هذه غرباننا، وهي ترحب بالزائرين القادمين من بلاد الجليد على طريقتها.
لم يعلق رجل التحري الخاص، لكنه استدار ليرى السيارة التي تتبعه. كان فيها السائق وواحد يجلس إلى جانبه، وواحد ثان يجلس في المقعد الخلفي. بدأ التاكسي يخترق شوارع طرابلس، وبدأت صورة لطرابلس أخرى تظهر غير تلك التي عرفها فرانك لانج في أسفار سابقة. كان الشباب الملثمون يرشقون رجال الشرطة بالحجارة، ورجال الشرطة يرمونهم بقنابلهم، ويطلقون عليهم رصاصهم. تكرر المشهد مع كل تقاطع بين شارعين، فعجل السائق الذهاب ليتفادى هذه المواجهة أو تلك بين المتمردين وأفراد الأمن حتى وجد نفسه مضطرًا إلى الوقوف أمام نفر غفير من الناس المحيطين بأحدهم، وهذا يقول:
- ليبيا العظمى هي ليبيا الذكاء، وليبيا الذكاء هي ليبيا المنطق، وعلى ليبيا المنطق هذه لا ليبيا العِرق والرِّياء تقوم كل قناعاتنا، كل أهدافنا، كل قيمنا، كل رغائبنا، كل أفعالنا...
أنزل فرانك لانج الزجاج، وراح ينظر إلى الشاب الملائكي القسمات، وهو يواصل كلامه بين أناس يصغون إليه باستغراب كما لو كانوا يصغون إلى شيطان غريب عنهم:
- ليبيا المنطق هذه تعني أن تكون أحكامنا من مسئوليتنا وعيشنا من عمل روحنا، ليبيا المنطق هذه تعني ألا نترك آراءنا لنقبل بما لا يدرك بالعقل، ليبيا المنطق هذه تعني ألا نسعى إلى امتلاك ما لا نستأهله أو ما لا يعود بالحق علينا، ليبيا المنطق هذه تعني ألا يكون دافع لنا دون أن نلقي على عاتقنا مسئولية نتائجه، ليبيا المنطق هذه تعني أن نعرف ما هي أهدافنا وما هي دوافعنا، ليبيا المنطق هذه تعني ألا نتخذ قرارات خارجة عن سياقاتها ما دون معارفنا، ليبيا المنطق هذه تعني ألا يوجد للمعرفة مصدر فوق طبيعي ولا حسّي، ليبيا المنطق هذه تعني ليبيا العقل في كل الظروف وكل الأوقات، إنها الدين الشخصي لكل واحد منا، الاحتفال بالفردية والتضامن والموضوعية...
نزل رجال المخابرات الملاحقين لفرانك لانج من سيارتهم، وبعنف راحوا يفرقون المتجمهرين من حول الشاب الملائكي القسمات. انقضوا عليه، وأشبعوه ضربًا، وهو لم يزل يقول:
- الإنسان عصامي في المادة والروح، هو قيمته الكبرى في تحقيق ذاته وأخلاقه، وهو رفضه لكل الفضائل اللامعقولة، فمكارم الأخلاق لا تكون إلا برفض دور الحيوان المضحى به كفضيلة... الإنسان هو فرديته المستنيرة، والإنساني هو القيمة العليا الوحيدة... الحرية هي أعظم خير للإنسان...
عاد التاكسي إلى السير، وفرانك لانج يسمع آخر كلمات الشاب الملائكي القسمات:
- من الأفضل أن تكون سيدًا في الجحيم على أن تكون عبدًا في الجنة!
كان رجل التحري الخاص يستدير برأسه، وهو يرى كيف ترك رجال المباحث الثوريّ الشاب غارقًا في دمه، عندما سمع السائق يقول بشيء من الهزء:
- إنه شيطان طرابلس.
- كيف؟
- الشاب. إنه شيطان طرابلس.
- شيطان طرابلس؟
- وكما ترى، طرابلس أكثر مدن العالم جوامع ومآذن، طرابلس الدين، وهناك على الرغم من كل شيء من يصغي إلى ما يقول.
لم يعلق فرانك لانج بشيء، فهو لم يكن يرى في كلام الشاب أية شيطانية، على الأقل كما كان يفهمها، ولم يكن يرى في طرابلس وحدها الدين، فالدين أينما كان طرابلس، الدين عسل اللاوعي، والمتدينون الذباب. بقي صامتًا، ومشاهد العنف تتكرر عند تقاطع كل شارعين. لكن السائق عاد وتوقف من جديد لمظاهرة من النساء والأطفال، كانت النساء يحملن العلم الأخضر، ويربطن به جباه الأطفال، وكن يرقصن، وهن يغنين لرجل البلاد الأول كامور التُّكالي. كن يغنين، وهن يبتسمن تحت أحجبتهن أو غطاء رؤوسهن، ويضغطن صور كامور التُّكالي على أثدائهن. كانت بعض أسنان العجائز منهن مغطاة بالفضة، وكن يبتسمن، ويغنين، ويزغردن. انتبه فرانك لانج على امرأة تلف شعرها بوشاح ورديّ، وهي تنقر بإصبعها زجاج نافذة السيارة من الناحية التي لم يكن يجلس قربها. كان الانتظار يُقرأ على وجهها. الانتظار الطويل. كان الانتظار يقبع على وجهها منذ مولدها. انحنى رجل التحري الخاص، وعجل بإنزال الزجاج، فنظرت المرأة إليه، دون أن تبحث عن استدرار شفقته، وسألته:
- على أية ساعة يمر ساعي البريد؟
هب السائق واقفًا، وراح يطردها دافعًا إياها من صدرها، ويسبها، ثم عاد يأخذ مكانه من وراء المقود، وأخذ يزمر شاقًا طريقه بصعوبة بين المتظاهرات. لما التفت فرانك لانج إلى المرأة، رآها من زجاج السيارة الخلفي، وهي تداوم على النظر إليه، وكأنها تنتظر أن يعود إليها ليجيبها على سؤالها.
- الشياطين في هذا البلد لا يعدون ولا يحصون، رمى السائق، وهو ينظر إلى فرانك لانج من مرآته الارتدادية، وهذا الأخير يداوم على النظر إلى المرأة حتى خرجت من حقل نظره.
كانت المناوشات بين رجال الشرطة وشباب طرابلس على أشدها عند مفترق طرق، ومائة متر فيما بعد، فرقة من خمسة، بآلات موسيقية غربية، تعزف، وتغني للثورة.
- هؤلاء أيضًا منهم، قال السائق.
- ممن؟
- الشياطين.
- الشياطين؟
- الغيتار كان ممنوعًا، وكل تلك الآلات الموسيقية المستوردة، آلات الجن.
كانت السيارة التي تتبع فرانك لانج قد توقفت، ونزل منها رجال المخابرات الثلاثة، وراحوا بالموسيقيين ضربًا وبالآلات الموسيقية كسرًا، مضى ذلك بلمح البصر، فابتسم السائق ابتهاجًا.
- لم نعد بعيدين كثيرًا عن الفندق، قال السائق.
رأى فرانك لانج عددًا هائلاً من المصلين خارج مسجد يعبر التاكسي من أمامه، كان أحدهم تبدو عليه هيئة الشيطان، يقف على العتبة، ويرفع يده بعصا كمايسترو، وبالعصا يقود المصلين. كانوا يقفون بإشارة منه، ثم ينحنون، ثم يركعون، ثم ينحنون، ثم يركعون، ومن جديد يقفون، ثم ينحنون، ثم يركعون، ثم ينحنون، ثم يركعون، فلم يمتنع فرانك لانج عن الضحك، وكذلك السائق، ثم انفجر كلاهما مقهقهًا.
عند باب الفندق الكبير، دفع رجل التحري الخاص للسائق، وبينما كان يهم بحمل حقيبته، أخذها من يده أحد رجال المخابرات الثلاثة، وسار به متبوعًا بزميليه إلى داخل الفندق، وامرأة تصرخ أمام مراسلي الصحافة العالمية، وتقول إنها محامية، وإن أزلام كامور التُّكالي اغتصبوها خلال التحقيق معها، فإذا برجال مخابرات الفندق ينقضون عليها، ويدفعونها دفعًا إلى سيارة ذهبت بها إلى حيث لا يعلم أحد. ذهب أحد رجال المخابرات الثلاثة لإحضار مفتاح إحدى الحجرات، دون أن يبدو على شاب الاستقبال أي رد فعل. صعد ثلاثتهم برجل التحري الخاص إلى الطابق الثالث، وقطعوا الممر الطويل حتى أقصاه. فتحوا باب الحجرة 33، وأدخلوه من أمامهم.
- تفضل بالدخول، يا سيد لانج، قال حامل الحقيبة الذي يبدو عليه أنه أعلى رتبة من زميليه.
- أشكركم على هذا الاستقبال الرسمي، أيها السادة، رمى فرانك لانج دون أن تخلو نبرته من التهكم.
- نعتذر، يا سيد لانج، إنها الظروف، هي التي تشاء.
- كل شيء نلقيه على ظهر الظروف بالأحرى لا كما تشاء الظروف.
- كامور التُّكالي بانتظارك، يا سيد لانج.
- ألا يتركني أبدل على الأقل ثياب السفر، كامور التُّكالي؟
- سننتظرك في الخارج، اقترح ضابط المخابرات، وهو يشير إلى زميليه بالخروج، على ألا يطول بك الأمر كثيرًا.
أول ما أغلقوا الباب، عجل رجل التحري الخاص إلى تفقد الحجرة، فوقع على ميكروفون وكاميرا. لم يكن يمكنه الهرب من نافذة الحجرة، ومن نافذة الحمام لم يكن يمكنه النفاذ، فنافذة الحمام في السقف، وهي حتمًا لا تؤدي إلى منفذ. بال، وغسل يديه ووجهه. ارتدى ثيابًا خفيفة تتناسب وجو طرابلس الحار، وتعطر. ألقى على نفسه نظرة أخيرة في المرآة، وتردد: هل يبتسم؟ ابتسم، وفتح الباب.
- الهيلوكبتر تنتظرنا على السطح، يا سيد لانج، أعلن ضابط المخابرات.
حملهم المصعد إلى آخر طابق، ومنه صعدوا على القدمين إلى السطح. كانت المروحية تدور استعدادًا لنقلهم، وهي ما أن أقلتهم حتى حلقت قاطعة طرابلس من الجو. عاد فرانك لانج يرى مشاهد العنف التي رآها، وهو في التاكسي، من الأعلى. كانت مهمته أن يعود بأبولين دوفيل، لا شيء غير أن يعود بها. لكن كل ما جرى معه منذ حط القدم على الأرض الليبية لا يوحي بسهولة المهمة، وها هو رجل البلاد الأول يعمل على رؤيته بكل الوسائل. لم يكن فرانك لانج يحب ذلك، أن يعمل غيره غير ما يريد هو أن يعمل. كان في طرابلس منذ الساعة الأولى لوصوله غير ذي إرادة، فانتظر أن يعلم ما يريده كامور التُّكالي، وبعد ذلك سيتدبر أمره. لم يشعر بالهيلوكبتر، وهي توغل في الصحراء، وعن الذهب ينعكس موت الزمن جميلاً، فالرمال كانت الزمن في مقبرة الكون.
حطت بهم الهيلوكبتر في ثُكْنة عسكرية تقوم في وسطها خيمة كبيرة، خيمة أقرب إلى خيام السيرك. كانت الدبابات والمدافع المضادة للطائرات في كل مكان، وكانت عقارب الساعة واقفة. أدخل رجال المباحث فرانك لانج في الخيمة، فلم يتمكن رجل التحري الخاص من رؤية كامور التُّكالي على الرغم من كشافات النور، إلا بعد أن اقترب منه، لِما كان يحيط به من ضباط هنا وهناك، ومجموعات سداسية جالسة على مطارح لرجال ارتدوا كلهم برانس بيضاء بقلانس تركوها ملقاة على ظهورهم. كان كامور التُّكالي يقشر برتقالة، وهو يرتدي عباءته التقليدية، بينما يجلس على يمينه ولده الأكبر سيف زبول وعلى يساره ولده الأوسط رومل ومن ورائه أبولين دوفيل. كان يقشر البرتقالة، ويبدو غير آبه بما يقول له من هم معه، ولا بما يقوله لهم. ابتسمت لفرانك لانج ضابطة الدي جي إس إي أول ما لمحته، وأشارت إليه بالاقتراب، فتقدم، وجلس قربها تحت نظرة سيف زبول العدوانية. تلفت فرانك لانج كما كان من طبيعته أن يفعل ليقف على المكان الذي هو فيه، كان من ورائه سرير ضخم، وهنا وهناك كمبيوترات، كمبيوترات كثيرة، وشتى أنواع الأدوات الإلكترونية.
قال كامور التُّكالي بنبرته المتباطئة وخيلائه المتعالي، وقد انتهى من تقشير البرتقالة، وأخذ يمضغ حزًا منها:
- الظلم لو شئت ألحقته بكم، والشر لو شئت رميتكم به، والدمامة لو شئت ألبستكم إياها، وصيرت كل هذا لكم تاريخًا وكيانًا، فقوموا إلى الصلاة أقوم معكم، واسعوا إلى الحق أسعى معكم، وأشيروا إلى الجَمال أشير معكم، وهذا كتابي (ترك البرتقالة تسقط من يده وأخذ يلوّح بالكتاب الأخضر) اجعلوه لكم قرآنًا.
خر الكل على قدمي الرجل الأول للبلاد، فوقف هذا تحت كشافات النور الأحمر، وهو يتمايل تمايل المسكون بقوة عفريتية، وبدا كشيطان دانت بثلاثة وجوه وقرنين معقوفين كأنهما قرنا تيس. اعتدلوا، وهم يخفون رؤوسهم ووجوههم في قلانسهم، وأخذوا يهمهمون كلامًا غير مفهوم. وسيدهم يقول كمن يقول لنفسه: العصيان كراهية، الغواية خبث، الضرر خداع... ثم أخذ يصرخ كالمعتوه وكل البرانس والقلانس يداومون على الغمغمة:
- الله يسمع لشكواي فأنا المظلوم، والملائكة تسمع لشكواي فأنا المطرود، عن خطأ أنا المطرود، والجن تسمع لشكواي فأنا النار، والبشر تسمع لشكواي فأنا السيد.
وأخذ يهتز هزًا عنيفًا، وراح يرقص رقصًا جنونيًا، وهو لا يتوقف عن رفع عباءته على كتفه، بينما الغمغمة وصلت أقصاها، ثم، دفعة واحدة، حط صمت ثقيل بثقل الرصاص. انطفأت كشافات النور الأحمر، وانتهرهم كامور التُّكالي:
- لتعد كل مجموعة إلى قبيلتها، ولتوقف العصيان، بالحسنى توقف العصيان، والإنصاف مني الجزاء. بغير هذا لن أقبل، وإذا لم يكن ما أريد جعلت من ليبيا جهنم ومن مدنكم الخراب.
وطردهم، وهو يضربهم بقدمه:
- هيا انهضوا! إلى الواجب، انهضوا!
نهضوا، وغادروا الخيمة، وهم ينحنون، ويشكرون.
عاد كامور التُّكالي يجلس تحت أعين ضباطه، تناول البرتقالة، ووضع حزًا في فمه. أخذ يخاطب فرانك لانج، دون أن يلتفت إليه:
- هذه هي حقيقتنا، يا سيد لانج، نثبتها بالإكراه.
- بالإكراه هذا شيء، أجاب التحري الخاص.
- أهم شيء.
- قبلك كانت أعمال البشر تقاس بميزان آخر.
- هذا لا يهم كيف كانت تقاس قبلي. الخير أنا والشر أنا.
- إلى متى؟
- الوهم شيء راسخ في عقلنا.
- شيء راسخ وشوارع طرابلس تغلي بالغضب؟
- بالباطل، تغلي بالباطل، والباطل على أي حال شيء نافع.
- هناك من سيدفع الثمن. هكذا هي الأمور، لا بد ممن يدفع الثمن.
- ألهذا السبب تريد العودة بالكابتن أبولين، كيلا تدفع الثمن؟
- أبولين دوفيل لن تدفع الثمن وحدها، هذا إذا ما كان عليها أن تدفع ثمن بعض من هذا.
- لن نتركها تدفع أي ثمن وهي المخلصة لنا.
- إذن اتركني أعود بها إلى البيت.
- ليس بعد أن تتوقف الأحداث.
- الأحداث لن تتوقف، وأنت أدرى الناس بذلك.
تدخل سيف زبول بعنف، وهو يهدد بأصابع يده اليمنى:
- بل ستتوقف، وإذا لم تتوقف سيدفع كل الليبيين الثمن، سيدفع كل الليبيين الثمن غاليًا وكل من يقف إلى جانبهم.
في تلك اللحظة دخلت آمنة، الابنة الوحيدة غير المتبناة لكامور التُّكالي، وبين ذراعيها موسوليني ذو الفخار، ابنها ذو العامين، فرحب بها رومل، أخوها الأوسط، وبابنها:
- أهلاً بالحبيبة آمنة، وبالحبيب موسوليني ذي الفخار ابنها.
قبّلت آمنة رومل من وجنتيه وكذلك سيف زبول، وسجدت لأبيها، فرمى كامور التُّكالي البرتقالة، وأخذ الحفيد بين ذراعيه. رفع قميصه، وباسه من زبيبته، ثم أعاده إليها، فجلست آمنة بولدها بين أبولين دوفيل وفرانك لانج، سلمت عليه بكل يدها، وسلمت عليها بأصابعها، وهي تضغط إبهامها على وسط ظاهر يدها، مما فاجأ أبولين دوفيل، فغمزتها آمنة، وفرانك لانج يتابع كل شيء.
- جئتك، يا أبي، من طرف أخي الأصغر نرجس الذي يعتذر إليك عن تغيبه، ويطلب منك أن تعفيه...
- أن أعفيه! صاح كامور التُّكالي، في هذا الظرف الحرج أن أعفيه!
- نرجس ليس ابنًا لك، يا أبي، طَنَّ سيف زبول، هو ابنٌ لصورته، فارمه في المعتقل، أو اقتله، يكون أفضل.
- اقتلني، ولا تقتله، يا أبي! طَنَّت آمنة بدورها، نرجس لم يخلق للحرب، والحرب القادمة ستكون وخيمة.
- ما لك، يا آمنة؟ سأل رومل مبتسمًا، لن تكون هناك حرب قادمة، الوالد أنهى الحرب دون أن تقع...
- ...وانتصر فيها، أضاف سيف زبول، وهو يهتز في زَهْوٍ وَخُيَلاء.
- ستكون هناك حرب ولن ينتصر كامور التُّكالي فيها، رمى فرانك لانج، فسقط عليه سيف زبول يريد خنقه بأصابع يده اليمنى، لكن الأب صاح به موقفًا.
- سأفكر في أمر نرجس، قال كامور التُّكالي لابنته، وفي أمرك.
- في أمري؟ سألت آمنة خائفة، وهي تسترق النظر إلى أبولين دوفيل.
وضع كامور التُّكالي قشرة البرتقالة مقلوبة في فمه، وفتحه فجأة في وجه الطفل، وهو يحرك يديه فوق رأسه، ويجأر كالشيطان، فارتعب الصغير، وانفجر باكيًا، بينما انفجر الرجل الأول للبلاد ضاحكًا، ولا أحد يضحك معه. فقد كامور التُّكالي رباطة جأشه، وتوجه إلى ابنته آمرًا:
- اذهبي مع الكابتن أبولين الآن، ودعيني أرحب بفرانك لانج على طريقتي.
قامت المرأتان بشيء من التردد، آمنة تحمل موسوليني ذا الفخار كطفل مات، وأبولين دوفيل تحمل نفسها كقمر معتم في الحي اللاتيني. وقبل أن تغادرا الخيمة، دست ضابطة المخابرات الفرنسية الخارجية في جيب فرانك لانج قصاصة مطوية، وفي الوقت ذاته، دخلت بعض الراقصات في سراويل حريرية منتفخة وقمصان بنفسجية شفافة، وبصحبتهن بعض الموسيقيين المرتدين للثياب التقليدية، ورحن يرقصن للرجال الأربعة، ويغنجن بين أياديهن. انطفأت أضواء، واشتعلت أضواء، حمراء، بانت فيها أصابع الراقصات تتلوى كالحيات، وألسنتهن تتدلى كالكلبات. بعد مضي بعض الوقت، طردهن كامور التُّكالي، وسارع إلى مغادرة الخيمة هو وابناه وفرانك لانج وكل الضباط.
كانت ناقة مربوطة من قائمتيها وعنقها إلى أوتاد شدتها على الأرض في مكانها، فذهب الرجل الأول للبلاد بكثير من الغضب، وكأنه قوة لعينة. حمل بلطة من بلطات، وسدد بطن الناقة بكل قواه الجهنمية، فإذا بها تندق فيها، وتظل عالقة، وفي الأجواء ينتشر شهيقٌ جنيّ للحيوان. صفق لكامور التُّكالي رجاله الأشرار، مما جعله أكثر وحشية. حمل بلطة ثانية، وسدد عنق الناقة بكل قواه الجهنمية، فإذا به يفصل العنق عن الجسد، ومن شلال الدم يشرب حتى يرتوي، وكذلك فعل ابناه تحت تصفيق الضباط وصيحات إعجابهم. وضع فرانك لانج منديلاً على فمه، ومنع نفسه عن التقيؤ. لم يدم ذلك طويلاً، تهوّع، وقذف الأشعة، وشعر بالأرض تميد تحت قدميه، فدفعه الضباط من أمامهم إلى حيث ذهب الرجل الأول للبلاد. كان بعض المعتقلين الذين جاءوا بهم من سجن أبي سليم، وهم مقيدون بالسلاسل، فانتزع كامور التُّكالي بندقية من يد أحد الضباط، وقوس أحد المعتقلين في قلبه، وصرعه تحت تصفيق الضباط وتشجيعهم، ومن الحماس قوس آخر في جبهته، وأرداه قتيلاً، والتصفيق يعلو، ثم قوس ثالثًا في بطنه، والتصفيق يعلو ويعلو، فتفجرت أمعاؤه، ولوثت ليبيا كلها. كان فرانك لانج قد غادر العيد السوقيّ إلى الهيلوكبتر، وكامور التُّكالي يقهقه.
في إحدى حجرات الثكنة، قالت أبولين دوفيل لآمنة، ابنة كامور التُّكالي:
- سيكون كل شيء كما تشائين.
- في الجزائر إخوتنا كثر، أوضحت آمنة، وهي تحاول أن تنيم ابنها، الرئيس من إخوتنا، والجنرالات من إخوتنا، والأغلب من أولي الأمر، وأنا أفضل الجزائر عن غيرها. لا أريد تونس، ولا أريد السودان، لا أريد التشاد، ولا أريد النيجر.
- هذا المساء، سأحكي في أمرك.
- إذا لم أغادر ليبيا خلال يومين، قتل أبي ابني كما يقتل بهائمه، ابني وليس أخي، موسوليني ذو الفخار ابني أكثر براءة من نرجس أخي، وللشيطان ضحيته الأعظم هي الأكثر براءة.
- أعرف هذا.
- هل رأيته كيف أخاف الطفل؟ دومًا ما كانت طريقته عندما يريد أن ينذر أحدًا.
- كان المشهد لنا مرعبًا، فكيف للطفل؟
- طوال حياته لم يحب الأطفال. لا أذكر يومًا، وأنا طفلة، أحبني فيه. أما إذا ما أظهر حبه لطفل، فليقتله.
- لم يشأ قتلك.
- تريدين القول إنه كان يحبني، يا أبولين دوفيل، دون أن يظهر ذلك كيلا يقتلني؟
- اعذريني، لا أريد أن أزيدك ضِغثًا على إبَّالة.
- لا، لا تجعلي قلبي يرق عليه.
- أبوك كان يحبك ولم يزل.
- لو كان يحبني ولم يزل لما كان يسعى لما سعى لقتل ابني.
- يا آمنة! أبوك لن يقتل ابنك، هلا فهمت؟ ولن يقتل أخاك، لقد قتل من الناس ما يكفيه.
- هذا لأنك لا تعرفينه.
- يا آمنة! أنت تعيشين في كابوس فقط لا غير.
- هلوسات؟
- كل هذا هلوسات.
- كل هذا هلوسات!
- كل هذا هلوسات.
- أيعقل هذا؟
- بسببه هذا صحيح، لكن هذا لا يبرر كل خوفك.
- لا يبرر كل خوفي!
- يا آمنة! أنت لم تشكلي أبدًا أي خطر عليه.
- ليس من الضروري أن أشكل خطرًا عليه، فالخطر هو، وجوده يهدد كل من هم حوله، كل من هم في طرابلس، كل من هم في ليبيا، كل من هم في العالم.
- صحيح ما تقولين، كل ما تقولينه صحيح.
- رفع في الفيلا التي أسكن فيها جدارًا يمنع الجيران من النظر إليّ تحت ذريعة أن الخطر يأتي منهم، جدارًا عظيمًا يخنق كل شيء، فماتت ورود الحديقة، لأن الشمس لم تعد تطل برأسها عليها. وبعد ذلك، لم تعد الطيور تحط على الأشجار، ثم جفت البئر بمائها. جاء بالموت إلى كل مكان، وجعلني أنتظر النهاية. وكل ليلة أقول الأخيرة، فأنظر إلى القمر، وأفتح أصابع يديّ المديدتين طلبًا للنجاة.
- لستُ القمر، رمت أبولين دوفيل باسمة، ولكن سيكون كل شيء كما تشائين.
- لستِ القمر، ولكنك القمر، يا أبولين!
كان ابنها قد أغفى، فأخذت يديها بيديها، واقتربت بشفتيها من شفتيها، وملأت ذراعيها بجسدها.
عندما وجد فرانك لانج نفسه وحيدًا في حجرة فندقه، قرأ الكلمة التي دستها أبولين دوفيل في جيبه: موعدنا هذا المساء عند منتصف الليل في حوش القَرَمانلي الطابق الأول الباب المقابل لعين العناية الإلهية المعلقة على عامود بين كثير الأعمدة.
لم يكن يمكنه الذهاب إلى موعده من الباب، فالباب يحرسه رجال المخابرات، ولم يكن يمكنه النزول من النافذة، فالحجرة في الطابق الثالث. راح ينظر إلى نافذة الحمام السقفية، وهو يقول لنفسه، ربما تؤدي إلى منفذ. كانت بالأحرى نافذة المكيف، ومن العادة ما تؤدي نافدة المكيف إلى منفذ. ضرب قدمه بالأرض، وبثلاثة أرباع الثانية كان فوق، فتحها، ونظر فيها. كان هناك مسلك طويل لا تبين نهايته، مسلك طويل يستدير عند نهايته. لكنه عاد ينزل، فلم تحن الساعة بعد. لم يكن الوقت بعيدًا، ولكن لرجل التحري كان بعيدًا، حتى ولو كان بعد عدة دقائق، كان بعيدًا جدًا. لأن فرانك لانج كان على عجلة دائمة من أمره، لأجل أن يحل اللغز في أسرع وقت، مهنته كانت هكذا، كلها ألغاز، وهو كان هكذا كله استعجال لحلها. سألوه إذا كان يرغب في العشاء، قال إنه لا يرغب في شيء بعد كل الدم الذي شربه الرجل الأول للبلاد مكانه، وطلب أن يتركوه ينام. وضع نفسه في الفراش بملابسه، فدخلوا ليتأكدوا من نومه. مذ كان صغيرًا كان يضع نفسه في الفراش بملابسه، فتدخل أمه لتتأكد من نومه.
- هل ينام فرانك، يا فرانك؟ كانت أم فرانك لانج تسأل.
- ينام فرانك، يا ماما. كان فرانك لانج يجيب.
- هل ينام فرانك حقًا، يا فرانك؟
- ينام فرانك حقًا، يا ماما.
- هل ينام فرانك حقًا حقًا، يا فرانك؟
- ينام فرانك حقًا حقًا، يا ماما.
- هل ينام فرانك حقًا حقًا حقًا، يا فرانك؟
- ينام فرانك حقًا حقًا حقًا، يا ماما.
على الساعة الثالثة والعشرين، نهض فرانك لانج، وغطى عين السيد الساهرة. جعل الأغطية توهم رجال المباحث بكونه لم يزل ينام في الفراش، وبعد ذلك، كشف عين الكاميرا، وهو يأخذ حذره دون الوقوع في حقلها. تسلق النافذة السقفية للحمام من جديد، وانتقل في مسلكها حتى نهايته، ليقع على نافذة سقفية أخرى، نزل منها في حمام، ومنه اخترق حجرة كان النزيل فيها ينام نومًا عميقًا. فتح فرانك لانج الباب، وقبل أن يغلقه من ورائه، نظر في الممر، فرأى في أقصاه رجال المخابرات الثلاثة، وهم يتهالكون على كراسيهم. خف يقطع الممر إلى الدرج، وأخذ ينزله ثلاثًا ثلاثًا.







القسم الرابع

في الثكنة، أوقف الحراس العربة العسكرية، وعندما رأوا أبولين دوفيل، تركوها تذهب، وما لبثت أن لحقت بها عربة عسكرية أخرى فيها مع السائق ثلاثة من الضباط. بقوا يحافظون على مسافة غير بعيدة، في الطريق الصحراوي المستقيم كخط المسطرة، حتى باب طرابلس. هبت على الشعر الأشقر نسمة ساخنة مثقلة برائحة متعددة العناصر، رائحة الفساد والإثم، رائحة لذيذة، راحت أبولين دوفيل تتنشقها بقوة، وتملأ بها رئتيها. كانت رائحة الثورة، الخير الدموي والشر الدموي في جِبلة واحدة، رائحة الثورة على الضيم والقهر، ومن أجل التحرر من كل سلطان، التحرر من سلطان الإنسان وسلطان الله وسلطان الشيطان. هكذا هي الثورة. التحرر من كل سلطان. من كل سيطرة. هكذا هي الدورة. التحرر من كل سلطان. من كل هيمنة. من كل سيادة. هكذا هي دورانات الأجرام. التحرر من كل سلطان. من كل علم. من كل مِلْك. من كل حق. رأت من حولها الليل كيف ينام في حضن الرمل، والسماء كيف تجعل من نفسها لليل لحافًا. كانت النجوم لا تعد ولا تحصى في السماء، لكنها لم تكن بعدد ضحايا كامور التُّكالي منذ اثنين وأربعين عامًا. كانت النجوم لا تعد ولا تحصى، تتلألأ بالدم، كانت النجوم مدماة كسكاكين ليبيا، والسماء يتغطى بها الليل ليدفأ. وتلك الرائحة الغريبة، الرائحة اللذيذة، رائحة الحرية التي كانت تنتشر مع الريح، فتتنشقها أبولين دوفيل بقوة، وتملأ بها رئتيها.
وهي تشق شوارع طرابلس، كانت ترى كيف تدور المعارك عند تقاطعها بين رجال النظام من سمر ليبيين وسود إفريقيين وبين شباب لا لون لبشرتهم السمراء والسوداء، وهم يقذفون الأوائل بحجارتهم، ورأت بعض الشباب، وهم يجهزون على بعض المسلحين، ويأخذون أسلحتهم، ويدافعون بها عن أنفسهم. كان من طرف تيوس سود وسمر بقرونها المعقوفة، ومن طرف تيوس سود وسمر لا لون لها بقرونها المعقوفة، وكانت عشرات التيوس مئات التيوس آلاف التيوس تدفع قرونها من أمامها، وتعدو في شوارع طرابلس، كانت التيوس تدق قرونها بقرونها، وعيونها تقدح شررًا، ولغضبها من بعضها تعود وتدق قرونها بقرونها، وشوارع طرابلس، كل شوارع طرابلس امتلأت بها، وغدت لها شوارع طرابلس ساحة للقتال ولإرواء ظمأها بالدم ولإشباع نهمها بالنار. فكرت أبولين دوفيل في الحرب الأهلية، وقالت لنفسها لقد بدأت الحرب الأهلية. لم تكن سعيدة، على الرغم من أن القتل كان جزءًا من مهنتها. لقد بدأت الحرب الأهلية. لقد بدأت الحرب الأهلية قبل أن تنهي مهمتها. عندما لم تر العربة العسكرية التي تتبعها من ورائها، توقفت فجأة في قلب الساحة الخضراء، وهي تُخرج من صندوق الواجهة الأمامية ملاءة بيضاء، وراحت تعدو في أحد الأزقة. لمحها الضباط الثلاثة أول ما اخترقوا الساحة الشهيرة، فتركوا مركبتهم مع السائق في قلبها كما تركت مركبتها، وراحوا يركضون في أعقابها. لم تدوِّ الأزقة بخطوات أبولين دوفيل، فدويُّ الرصاص كان عاليًا، ولم يكن هناك دويٌّ آخر يعلو عليه. كانت الأزقة تسعى إلى حماية الكابتن الفرنسي الملتف من قمة الرأس إلى أخمص القدم بملاءة بيضاء وكأنه سر الأسرار الذي يسعى المطاردون إلى كشفه، دون أن يقدروا، إذ ظهرت عند تقاطع الأزقة ثلاثة أسداف بيضاء بدلاً من واحد، وتفرقت كاللغز المحير. ركض كل ضابط من وراء شبح، فكشف الأول عن وجه امرأة أسمر بجمال أفروديت الصحراء، والثاني عن وجه مماثل، والثالث أضاع الشبح، وضاع في تيه المدينة القديمة، فاستطاعت أبولين دوفيل الهرب من عين الشر.
وصلت الشقراء المحجبة إلى حوش القَرَمانلي معًا وفرانك لانج، خلعت ملاءتها ليطمئن رجل التحري الخاص إليها، ويخف صاعدًا الدرج من ورائها إلى الطابق الأول. عن أحد الأعمدة، نزعت أبولين دوفيل عين العناية الإلهية، وقبلتها، ثم ضربت الباب المقابل ضربتين خفيفتين أتبعتهما بضربة قوية، وإذا بالباب ينفتح، وإذا بهما أمام شيطان طرابلس، ذلك الشاب الملائكي القسمات، قسمات تبدو عليها آثار الضرب.
- يدعونه شيطان طرابلس، قالت أبولين دوفيل بعد أن نظر الشاب هنا وهناك في أنحاء الحوش وأعاد غلق الباب.
- أعرف هذا.
- تعرف هذا؟
- أتساءل كيف لم يدمره كامور التُّكالي إلى حد الآن.
- وهل يمكن لأحد أن يدمر الشيطان؟ رمى الشاب، وهو يبتسم.
- يمكن، قالت أبولين دوفيل، إذا كان هذا الأحد شيطانًا آخر، شيطانًا جهنميًا بالفعل. بشرط أن يحين الوقت لذلك.
- كامور التُّكالي يتحين الفرصة للتنكيل بي، لكني لن أتيحها له، لهذا نحن هنا. سيكون كل شيء كما اتفقنا، يا أبولين دوفيل.
- كل شيء ماذا؟ سأل فرانك لانج.
- لماذا لا تفهم شيئًا، لانج؟ العربة العسكرية التي تركتها في الساحة الخضراء والأخرى التي كانت تطاردني سينقلهما أصحاب شيطان طرابلس إلى الشاطئ المجاور لفندق ماريوت.
- اعتبري أنهم نقلوهما بعد تحييد السائق، قال الشاب.
- على الساعة الثالثة صباحًا سنكون باستقبال كوماندوس فرنسي يأتي من البحر، أوضحت أبولين دوفيل، وهي تنظر إلى ساعتها.
- أفهم الآن مهمتك التي تبدأ في باريس وتنتهي في طرابلس، قال فرانك لانج، ولكن تنتهي كيف؟
- سنقتل كامور التُّكالي في سريره، ونؤسس للتغيير دون حرب أهلية، قالت أبولين دوفيل. كفى الليبيين تضحيات وعذابات!
- نؤسس للمساواة بين البشر بالأحرى، قال شيطان طرابلس متوجهًا لفرانك لانج، مساواة تقوم على القيمة البشرية لا المساواة الكذبة التي هي عندكم، مساواة عندكم تقوم على الحرية الانتخابية، بمعنى حرية تبديل الوجوه لا النظام، حرية تبقى شكلية، خلقية، مجازية، فالمساواة يصنعها الإنسان ولا تصنعها رؤوس الأموال، يصنعها قانونًا للروح وللجسد ولا يجعل الروح والجسد لها قانونًا، لأن القانون يؤتى به ولا يؤخد، القانون لما يسمون أنفسهم بالمتحضرين يظل قانونًا من قوانين الغاب طالما ظلت لهم فطرة الإنسان الحيوانية.
- المساواة كالحرية أثمن الحجارة النفيسة لديكم، همهم فرانك لانج.
- الإنساني لديهم يأخذ تاج الرباني، همهمت أبولين دوفيل.
- وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، همهم شيطان طرابلس.
- كامور التُّكالي هو الشيطان كما أتى على ذكره في القرآن، أوضحت أبولين دوفيل.
- وكما يراه فرويد، أضاف الشاب.
- كما يراه فرويد؟ استفهم فرانك لانج.
- كما يراه فرويد، أعاد الشاب، على الأقل فيما يخصنا نحن الليبيين. الشيطان غريزة من غرائز الليبيين الشرجية التي لم يشبعوها، فقضوا كل أيامهم، وهم يلقون منها الأمرّين تحت جبروتها، لهذا ظلوا يرتعدون فزعًا أمام كامور التُّكالي طوال اثنين وأربعين عامًا دون أن يفعلوا شيئًا.
- ستكون نهايته الليلة، أكدت أبولين دوفيل، ونهاية كل الكوابيس الشيطانية الأخرى، كما أتى على ذكرها في القرآن.
- وكما يراها علم النفس، أضاف الشاب.
- آمنة، الابنة الوحيدة غير المتبناة لكامور التُّكالي، كشفت أبولين دوفيل، تريدكم أن تساعدوها هي وابنها موسوليني ذا الفخار وأخاها الأصغر نرجس على اجتياز الحدود إلى الجزائر.
- ألم أقل لك إن عقدة الليبيين في حاكمهم السالب لعقلهم قد انتهت من أبعد الناس عنه إلى أقربهم منه؟ قال شيطان طرابلس العاقل.
- في حاكمهم ربما، قال فرانك لانج، وليس في كل شيء.
- كل شيء يجيء لما يؤون أوانه، قال الشاب، حرر الأنا فقط، واتركها تتحقق بحرية دون إكراه الفردية المستنيرة.
- الفردية المستنيرة هي أبعد ما يكون عن الليبيين كما أعرفهم، عارضت أبولين دوفيل.
- كل شيء يجيء لما يؤون أوانه، أعاد الشاب، كل شيء، كل شيء يحضر لما يحين له الحضور، وبعد أن سكت قليلاً قال لكابتن الدي جي إس إي، سنذهب بآمنه وابنها وأخيها إلى الجزائر، فطمئنيها.
ومع ذلك، بدا الشاب أهوج، وهو يفتح صفحة الفيسبوك التي له، ويعطى كالشيطان تعليماته. أغمض عينيه، وما لبث أن أغفى بسلام القديسين، وكذلك فعل رجل التحري وامرأة المخابرات الخارجية. ناموا ساعة أو بضع ساعة، وأم فرانك لانج لا تكف عن سؤاله: هل ينام فرانك، يا فرانك؟ وفرانك لانج يجيب: ينام فرانك، يا ماما. ثم نهضوا، وغادروا المكان، أبولين دوفيل مع جهاز التوجيه وفرانك لانج إلى شاطئ البحر، والشاب إلى حرب المتاريس التي لم تتوقف طوال الليل عند تقاطع الشوارع.
وصل رجل التحري الخاص وضابطة المخابرات للأمن الخارجي إلى العربتين العسكريتين، قرب حفرة كبيرة مع ثلاثة معاول ملقاة على الرمل. كان المكان الذي من المفترض أن يصل الكوماندوس الفرنسي إليه من البحر، والبحر لا يتوقف عن إلقاء أمواجه على الشاطئ، أمواج ثقيلة بطيئة، محملة بالخوف والتوجس وعدم اليقين واللذة والألم. كانت الأمواج لا تعرف شيئًا من الخبث والخداع والبغض والكراهية والحسد، لم يكن البحر أحاسيس الأشرار من الناس، ولم يكن شيئًا ميتافيزيقي الجوهر، كان كل ذلك الملموس، الممتد، المترامي، بأبعاد لم تكن لانهائية، كان كل ذلك الموجود، دون أسرار ولا ألغاز أو أحاجٍ، فمن البحر ستأتي السفن عما قليل، ومن البحر ستأتي أسماك القرش. وبالفعل أخذ المؤشر في يد أبولين دوفيل يتحرك، فنظر فرانك لانج في ظلام البحر إلى البحر، وما لبث أن رأى ثلاثة قوارب مطاطية تنبثق من اللجين وثمانية من رجال الضفادع. سارعت أبولين دوفيل إلى احتضانهم، وهم سلموا على فرانك لانج، وهذا يسألهم:
- كل شيء على ما يرام؟
- كل شيء على ما يرام، أجاب رئيس الكوماندوس، حتى الآن.
- سيكون كل شيء على ما يرام، قالت أبولين دوفيل، فلا تقلقوا.
خلع رجال الضفادع ملابسهم الجلدية، ورموها في الحفرة. أخرجوا ما كانوا يحملونه من أسلحة وذخيرة، نفّسوا القوارب المطاطية، ورموها هي الأخرى في الحفرة. وبينما أخذ بعضهم يرتدي اللباس العسكري الليبي، كان بعضهم الآخر يملأ الحفرة بالرمل. دفنوا المعاول، وأزالوا الآثار، وارتدوا كلهم اللباس العسكري بمن فيهم أبولين دوفيل وفرانك لانج. توزعوا السلاح والذخيرة، وصعد نصفهم في العربة العسكرية التي تقودها ضابطة الدي جي إس إي، ونصفهم الآخر في العربة العسكرية التي يقودها رجل التحري الخاص، وانطلقوا إلى الثكنة العسكرية حيث ينام كامور التُّكالي في خيمته محاذين الشاطئ متفادين بقدر الإمكان مدينة طرابلس. وبعد مضي بعض الوقت، كانوا يوغلون في الصحراء. كانوا قوة الخلق والتكوين، ولم يكونوا كذلك. وكانوا قوة نقض النقض، ولم يكونوا كذلك. كانوا صيرورة ما سيكون، صيرورة بدأت، ولم تنته. لهذا كانوا ينظرون في الليل إلى أشياء الليل، ولا يرون شيئًا. وكانوا يفكرون في الموت، في موتهم، ولم يكن ذلك بالنسبة لهم ممتعًا. كانوا ذاهبين إلى تحقيقِ موتٍ غير موتهم، وهم يفكرون في الوقت نفسه في موتهم، وفي قبلات طبعها أحباؤهم على وجناتهم قبل أن يأخذوا طريقهم إلى الموت، موتهم هم قبل أن يكون موت غيرهم. لم يكن الموت غيره في طرابلس، كان الموت هو الموت في طرابلس وغير طرابلس، ولكن في طرابلس كان الموت وجه الشيطان البشع كما صوّره دانت. كان وجهًا ثلاثيًا، بأسنان منشارية تقضم البشر، وتتلذذ بطعمها. كوجه الشيطان كان الموت. كاحتفال الشيطان بقضمنا كان الموت. وكحكاية من حكايا شروجنا كان الموت. حكاية شيطانية. آية شيطانية. مزمور شيطاني. صليب شيطاني. بيان شيطاني. كان الموت بشعًا كأجمل شيطان، متأججا كأشد نار، شرجيًا كأجلّ وثن: تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترجى.
وهم على باب الثكنة، أحاط بهم خمسة جنود، أردوهم قتلى بمسدساتهم الصامتة كالذباب، وكذلك فعلوا بكل الآخرين المنتشرين هنا وهناك وفوق وتحت. تم ذلك بإرادة منع الموت من مداهمته إياهم، وببضع ثوان، وخفوا، وهم في عربتيهم العسكريتين، يجتازون الثكنة الصامتة صمت القبر حتى خيمة كامور التُّكالي. اخترقوها بحذر، وتوجهوا من وراء أبولين دوفيل إلى سرير الرجل الأول للبلاد، وفي رأس فرانك لانج يدور الحوار القديم بينه وبين أمه: هل ينام فرانك، يا فرانك؟ ينام فرانك، يا ماما. صوبوا إلى كامور التُّكالي مسدساتهم، وأفرغوها في جسده. لكن المفاجأة كانت عندما اشتعلت كشافات النور الوهاجة، وكأنها تنطلق من أكثر من عين للعناية الإلهية، وبنادق عشرات العسكريين موجهة صوبهم. تركوا أسلحتهم تسقط، ورفعوا أيديهم استسلامًا على صوت سيف زبول الآمر، فانقض رجال كامور التُّكالي عليهم، وقيدوهم بعنف المنتقم الفاقد لعقله. قفز سيف زبول وسطهم، وكأنه عفريت من العفاريت. كشف عن جثة أبيه المخرّقة بالرصاص، وفي منتصف جبينها، أطلق رصاصة، وأخذ يقهقه قهقهةَ مختالٍ قطعها على دخول كامور التُّكالي الذي كان الشخص القتيل ليمه، ثم عاد يقهقه قهقهة المختل.


القسم الخامس

رمى كامور التُّكالي أبولين دوفيل وفرانك لانج وأفراد الكوماندوس الثمانية في سجن أبي سليم، واستدار نحو المدن التي استولى الثوار عليها ليستعيدها واحدة واحدة، خاصة مصراتة وسرت وبني وليد وراس لانوف والبريقة، أحرق أحياء في طرابلس العاصمة بأكملها، فنزل أهلها إلى الشوارع يهتفون بحياته. وفي الساحة الخضراء، سجدوا له سجودهم للنار، وأعلوا أصواتهم رافعين من شأنه بالترانيم الشيطانية. جاء بينهم كسيد الإغواء، وكان المتهِم والمنفذ. اتهم من نفذ فيهم حكم الموت، وهو يبدل شكله المرعب بشكله الرحيم، نصف إنسان تارة، ونصف تيس تارة، وبدل الله أراد أن يهيمن على البشر. أنا الشيطان، فاعبدوني، صاح من فوق رؤوس أهل طرابلس، وأهل طرابلس بالترانيم الشيطانية يعلون أصواتهم أعلى وأعلى مجلّين إياه. لم يكونوا غير مواطني جمهورية الشيطان، والنار كانت إلههم، ومن جديد، خروا للشيطان ساجدين.
ولما استعصت عليه استعادة بنغازي، عزم كامور التُّكالي على محوها هي وأهلها من الوجود، فاجتمع وزراء الدفاع الأمريكي والبريطاني والإيطالي والفرنسي (على جبهته ضمادة صغيرة وعلى وجنته ضمادة صغيرة) برفقة صاحب الأمر والنهي مع رئيس الجمهورية في الإليزيه. كانت الطيور في حدائق القصر الغناء تغرد غير آبهة بما يجري من خلف الستائر الحمراء المخملية، وكانت قيم الحق والخير والجمال لا تعادل شيئًا مقابل قيم المصلحة والقوة والمال التي يسعى إلى تجسيدها أساطين السياسة في نظام عالمي، كانوا بشكل من الأشكال شياطين الأزمنة المعاصرة. صيرورة الكون كانت بأيديهم، كما كانت بأيديهم صيرورة التاريخ.
- أيها السادة، بعد كل ما قدم الشعب الليبي من تضحيات، قررت حكومتي التخلي عن كامور التُّكالي، بدأ وزير الدفاع الأمريكي الكلام.
- كل ما قدم الشعب الليبي من تضحيات لن تكون الأخيرة، ولن تكون دوافعها كما كانت سيكوباتية، قال وزير الدفاع الفرنسي.
- لسنا بصدد البحث في علم النفس المرضي رجاء، قال رئيس الجمهورية.
- براغماتيون كما نحن دومًا، قال صاحب الأمر والنهي، ومستعدون دومًا، فالحدس والحدث جدليان لدينا، وما نقوم به من استثناء يعجل من سير عجلة التاريخ إلى الأمام، قَتْلُ الليبيين في محفل باريس "على يد كامور التُّكالي" عجل من التفاف الناس في بنغازي وكل الشرق الليبي حول الثورة، هذا لأننا خير من يفهم العقلية القبلية، وبوصفنا مهيئين وجديرين بكل معنى الكلمة، واكبنا سير عجلة التاريخ، وفاجأنا العالم أجمع، نعم هكذا غداة ثورة لم تبدأ بعد أو يكاد، بتشكيل مجلس وطني مؤقت وحكومة مؤقتة وقيادة عسكرية مؤقتة...
قاطعه وزير الدفاع البريطاني:
- مجلس وطني مؤقت وحكومة مؤقتة وقيادة عسكرية مؤقتة أفرادها في غالبيتهم هم من أصحاب مقامات النظام.
- فليستمر النظام، رمى وزير الدفاع الإيطالي، كما هو، ولتأت وجوه جديدة، أعني وجوه قديمة غير الوجوه القديمة.
- أيها السادة، هذا ليس موضوعنا اليوم، قال وزير الدفاع الأمريكي.
- حتى النظام، قال الصِّحافي ورجل الأعمال القطب الأجلّ، نظام قديم غير النظام القديم.
- الشريعة؟ هل هذا ما تعنيه؟ سأل رئيس الجمهورية.
- في محفلنا الشريعة لا ترعب أحدًا، أوضح صاحب الأمر والنهي، إنها اختيار من بين اختيارات، والمهم هو التآخي والتضامن في سبيل تحقيق المشروع الأسمى.
- المشروع الروحي حتى وإن كان سياسيًا، فالضرورات تبيح المحظورات، رمى وزير الدفاع الفرنسي.
- أيها السادة، لا بد من بعض التغيير وإلا ما كانت ثورة الليبيين الثورة التي يطمحون إليها، قال وزير الدفاع الأمريكي. أنا من وراء هذا الموقف الجديد للبيت الأبيض، وبفضلي تغير موقفه التقليدي المعروف، فيما يخص ليبيا، منذ اكتشافنا للبترول في أواسط الخمسينات. هكذا سيبقى النفط لنا.
- سيبقى النفط لنا ولنا، رمى وزير الدفاع الفرنسي قبل أن يسارع إلى القول، وهو يلتفت نحو صاحب الأمر والنهي، لنا ولنا ولنا.
- على الحاضرين ألا ينسونا عند إعادة توزيع هذه الثروة المشتركة، قال الصِّحافي ورجل الأعمال.
- لن ننساكم، أكد رئيس الجمهورية، لولاكم لذهبت بنغازي وكل الشرق الليبي بِشَرَبة ماء. واجتماعنا اليوم لأجل وقف الهجمة البربرية على شعب يقاتل جيشًا برمته برشاشات متواضعة وسيارات بك أب مستعملة.
- فليكن الحظر الجوي، اقترح وزير الدفاع الإيطالي.
- فليكن الحظر الجوي في الحال، صحح وزير الدفاع الفرنسي. أردنا أن نوفر على الشعب الليبي كل باقي التضحيات باغتيال الرجل الأول للبلاد لكننا فشلنا.
- أيها السادة، أمريكا ستكون في أول الصفوف تحت غطاء الحلف الأطلسي، قال وزير الدفاع الأمريكي.
- طائراتنا المطاردة نحن والفرنسيون، بعد إذنك، يا سيادة الرئيس، ستكون مستعدة خلال ثمان وأربعين ساعة، هتف وزير الدفاع البريطاني.
- اتفقنا، اختتم رئيس الجمهورية الفرنسي الاجتماع، تحت نظرات كل الحاضرين الموافقة وابتساماتهم المتواطئة.
تمكنت الطائرات المطاردة الفرنسية والبريطانية من الحيلولة دون جريمة جماعية ترتكب ضد أهل بنغازي بعد أن دحرت جيش كامور التُّكالي ومرتزقته الإفريقيين، وبدأت استعادة الثوار العكسية للمدن التي كانت في أيديهم. كانت جميلة كل تلك الدبابات المدكوكة، كل تلك المدافع المصهورة، كل تلك الجثث المكربنة. كانت جميلة الحرب القذرة من الطرف الآخر، وكان الثوار الصارخون في كل لحظة "الله أكبر" أجمل رموز لإيديولوجيا الظفر (يعني الله أكبر تاعكم بتسوى شي ولو فلس واحد بدون غارات الحلف الأطلسي؟ حلف أطلسي أكبر!)، إيديولوجيا متخلفة على الرغم من ذلك، ذات نبرة وخيمة العاقبة كنبرة الشيطان، ومؤسسة عمياء على الرغم من ذلك، ذات أزمان ثلاثة ككل مؤسسة، أزمان جامدة يتوقف العالم على أعتابها. لكن جمال من لا جمال له كان انحطاطيًا في اللحظة التي يصرخ فيها الثائر "الله أكبر" على الرايح والجاي، دون أن يعرف لماذا. ضد الطغيان؟ ضد فخذ مغلقة؟ ضد البطاطا المستوردة؟ كل شيء مستورد في ليبيا إلا الله! ضد الأرق في الليل والإحساس بالبرد في جهنم ليبيا الحمراء وانتظار بزوغ النهار للذهاب إلى المسجد من أجل ممارسة الاستمناء الروحاني؟ كل ذلك كان تمويهًا لحقيقة الصرخة "الثورية". سيبكي البحر صرخة لم تفهم أن الله لن يسمعها، فالله يغدو أطرش لما يموه عليه الأمر. الله أكبر الفراغ الذي في الرؤوس، فراغ تملأه التقوى، والله أكبر الهوة التي في الصدور، هوة يردمها الإيمان، والله أكبر اللولب الذي في البطون، لولب يفرده الغفران. ومن يأس البحر منكم، سيعطيكم الله، فخذوه، كلوه، اشربوه، انقعوه، افقعوه، ضاجعوه، حلال لكم!
وبينما كانت الطائرات المطاردة الفرنسية والبريطانية تقصف أهدافًا إستراتيجية في العاصمة الليبية، جاءت آمنة بأربع سيارات لاندروفر إلى سجن أبي سليم، وأمرت رئيس السجن بإطلاق سراح أبولين دوفيل وفرانك لانج وأفراد الكوماندوس الثمانية بوصفها ابنة الرجل الأول للبلاد، كان ذلك في البداية، دون تهديد، ثم تحت التهديد. كان الشاب المدعو شيطان طرابلس معها، وكان نرجس أخوها الأصغر معها، وكان اثنان من إخوتها البنائين الأحرار وثلاث من أخواتها معها. فتحوا أبواب الزنازين، الزنازين المشاخخ، الزنازين المخاري، الزنازين حقوق الحيوان، الزنازين الإجرام، المجرمة بمن هم فيها، لمجرد أن يكونوا فيها، زنازين جهنم، زنازين كامور التُّكالي، زنازين سيف زبول، زنازين رومل، ورموا للمحررين أسلحة الجلادين. وهم مع أصحابهم في الخارج، سمعوا قعقعة الأسلحة وانفجارات القنابل. ارتدى أفراد الكوماندوس الثياب الليبية التقليدية، وسارعوا بصحبة الثوار إلى المغادرة، ووجهتهم بنغازي. بينما ركبت آمنة وأخوها نرجس وابنها موسوليني ذو الفخار في لاندروفر يسوقها شاب أجمل من قمر طرابلس، وأبولين دوفيل وفرانك لانج في لاندروفر ثانية يسوقها شاب بجمال الآخر، الأولى غادرت إلى الجزائر، والثانية إلى غات في الصحراء الليبية الغربية حيث سيقام محفل للطوارق يتوقف عليه مصير الحرب. كانت آخر تحية بين البنّاءتين الحرتين أبولين وآمنة علامة أوكي المعروفة في لغتهم الإشارية، وذلك بثني السبابة في زاوية قائمة على الإبهام، علامة الرضى. وجد شيطان طرابلس ذو القسمات الملائكية نفسه وحيدًا بعد أن ذهب الجميع، وبعد قليل، أخذ المعتقلون يتواردون من داخل سجن أبي سليم الرهيب، فذهب إلى إغاثتهم. كانوا ينقذون أنفسهم من سلطان البطش، سلطان لا يحتاج إلى برهان وجود الله.

القسم السادس

منذ أكثر من ساعة، واللاندروفر تشق بأبولين دوفيل وفرانك لانج الذهب والضوء، وكلما ابتعدت السيارة عن الحرب التي تركتها من ورائها كلما كان التماثل مملاً. كانت ضابطة المخابرات الفرنسية للأمن الخارجي تجلس إلى جانب السائق الشاب، ولا تنظر من حولها، بينما كان رجل التحري الخاص ينظر إليها من المقعد الخلفي، إلى شعرها الأشقر المربوط كذيل الحصان، وإلى عنقها الأبيض. لم يكن تماثلٌ هناك، بل تكامل. كانت لوحة المرأة تختلف عن لوحة الصحراء. كانت لوحة المرأة تمثل لوحة الحياة، ولوحة الصحراء لوحة الموت. كان الموت في كل مكان، الذهب جسد الموت، والضوء ثوبه، وفي اللاندروفر أبولين دوفيل، جسدها الحياة، وثوبها الكون.
نظر فرانك لانج إلى السماء الملامسة لعجلتي اللاند روفر الأماميتين، سماء زرقاء واطئة تلامس عجلتي السيارة الأماميتين، وأحيانًا يبدو أنها تفتح ذراعيها، وتجعل من نفسها لهم طريقًا إلى اللانهاية. لم يكن التماثل الأزرق، التماثل الأبدي، يدفع إلى الملل، كان يدفع إلى النوم، فوضعت أبولين دوفيل وجنتها على مسند مقعدها، وأغمضت عينيها، وكيلا ينام مثلها، ترك فرانك لانج السماء الزرقاء لعجلات اللاندروفر، وهي تنهبها نهبًا، ونظر إلى الوجه الأبيض، والعنق الأبيض، والكتف الأبيض، والورد الأبيض، والحلم الأبيض، وما لبث أن أصابه العياء، حتى تأمل الجمال إذا ما جاوز الحدود يصيب بالعياء. تثاءب، ورمى رأسه إلى الوراء، ونام هو الآخر.
بعد ساعة من الزمن، فتح عينيه، وهو يرتعش من تكييف الهواء. ابتسم السائق الشاب، وهو يراه يخفض زجاج النافذة، ويخرج في نار جهنم كل رأسه.
- اقفل زجاج نافذتك، يا لانج، طلبت أبولين دوفيل، وهي تغلق عينيها، ستفسد الجو.
أطاع فرانك لانج بعد بعض التردد، والسائق الشاب لا يتوقف عن الابتسام.
- أنصحك أن تنام قليلاً، فلم نزل بعيدين، أضافت أبولين دوفيل، وهي تغلق دومًا عينيها.
لكنه لم يذعن للنصيحة، عاد ينظر من حوله، ومن حوله لا شيء غير الذهب والضوء. كانت كثبان الرمل لانهائية، أشبه بيد ملساء أصابعها العالم. شيء مرعب أن يكون العالم أصابع من رمل لا نهاية لها، ممتدة من أعماق الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة. شيء مرعب. شيء لا يطاق. شيء غير طبيعي كل هذه الطبيعة. شيء رباني. كان كل ذلك كابوسًا للبشرية. كل الذهب، كل الضوء. كان لكل ذلك قدرة الافتراض. ومن الافتراض قدرة الإيحاء. لهذا كانت الخيالات الأكثر جنونية، ومنها كان الله واحدًا، وكانت أول سلطة في تاريخ البشرية تهبط من السماء الزرقاء إلى ما لا نهاية، الممتدة إلى ما لا نهاية. من كابوس البشرية. أول سلطة في تاريخها. من الكثبان الرملية. من كثبان الرمل وحزم الضوء. من البحور الزرقاء للسماء. البحور الشفافة شفافية المرايا. من الطبيعة الكابوسية. ودومًا ما كانت للكوابيس طبيعة إعجازية. لهذا كان الله معجزًا. متسلطًا ليكون مترحمًا. مميتًا ليكون محييًا. مهلكًا ليكون منقذًا. طبيعة كابوسية لكنها مريحة. منعشة. كتكييف الهواء في اللاندروفر. منعشة. فردوسية. منعشة حتى إخراج الرأس من النافذة، وطلب اللجوء إلى الجحيم. التضاد الحر. الشيطاني. الإبداعي. الزماني. الثوري. في الوضع الليبي الوضع البشري الثوري. التحرري من كل سلطان، سلطان الطبيعة المونوتوني، وكل سلطان، كل سلطان، فالحرية هي التحرر من كل سلطان، من كل سلطان، من كل سلطان، سلطان كامور التُّكالي الوليد الثاني للطبيعة الكابوسية كسلطان الله الوليد الأول.
بدأت الريح تزفر، بدأت ضعيفة، وما لبثت أن غدت قوية. رفعت الرمل حتى السماء، وجعلت منه جدارًا. توقفت اللاندروفر، وكأنها تصطدم بجدار من الإسمنت المسلح. انهار الرمل عليها، وأخفاها، فوجدوا أنفسهم تائهين في الظلام. أشعل السائق الشاب الضوء، وحاول عن طريق هاتفه المحمول الاتصال بأحدهم دون فائدة. على الرغم من ذلك، نظر إليهما دونما أدنى قلق في عينيه، وطمأنهما بابتسامته الدائمة على شفتيه:
- لن تلبث الزوبعة أن تنتهي، فنواصل طريقنا.
- سنموت اختناقًا، صرخت أبولين دوفيل من الهلع.
- لدينا ما يكفي من هواء المكيف، عاد السائق الشاب يقول، وهو يبتسم.
- وعندما يتوقف المكيف عن العمل؟ رمى فرانك لانج دون أن يخفي هلعه.
- لن يتوقف المكيف عن العمل، أكد السائق الشاب، وهو يقطع ابتسامته.
كانت تصلهم زمجرات الزوبعة، همجية، شيطانية، بربرية، وهم، كانوا في رؤوسهم يجترون السؤال نفسه: كيف سيخرجون من قبرهم البديع؟ رفعوا رؤوسهم إلى النافذة السقفية، ثم أنزلوها. فتحت أبولين دوفيل الراديو، فكانت نشرة الأخبار: دمر الحلف الأطلسي لفيفًا من الثوار بدافع الخطأ. أخذ السائق الشاب يسب، ويلعن، فبدلت أبولين دوفيل المحطة. لم تكن موسيقى الهيب هوب مناسبة في تلك اللحظة، فأقفلت الراديو. حمل فرانك لانج مسدسه، وراح يداعبه بيد مرتعشة، ثم ربطه حول خصره، وكذلك فعلت الضابطة الفرنسية للمخابرات الخارجية. عاد السائق الشاب يسب، ويلعن، وسمعاه يكلم نفسه: هناك الأعلام السنوسية، أعلام غير الأعلام الخضراء. أمي خيطت بعضها، مع الجارات. لأجل عمر المختار ابني، ومن معه من أبناء الحي. الله أكبر. بالخطأ. لا يوجد خطأ. كل ذلك تم عن عمد. لئلا نقوى كثيرًا. لأجل ابني عمر المختار. الأواكس لا تخطئ أبدًا. هم يعرفون الآن أين نحن. عمر المختار. الله أكبر. الله أكبر. رأيا دموعه كيف تسيل على وجنتيه. ابني. لأجل ابني عمر المختار. أعلام سنوسية واضحة حتى من على سطح القمر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. لماذا ذبحوهم كالتيوس؟ في العيد نذبح التيوس. لأجل عمر المختار ابني. في عيد الأضحى نلبس الثياب الجديدة، ونذهب لنعيد على الأقارب والأصدقاء. ربما كان عيد الأضحى دون أن يعلم أحد، لهذا ذبحوهم كالتيوس. كالتيوس ذبحوهم. ذبحوهم. ذبحوهم كالتيوس. ابني. لأجل ابني عمر المختار. هذا التيس لأجل ابني. هل التيس لأجلي أم أنا لأجله؟ في عقليتنا الأمر واحد. نحن من آكلي لحم الإنسان. أنا آكل لحم أمي وأمي تأكل لحمي وكل واحد يأكل لحم الآخر. نذبحنا كالتيوس. ذبحونا كالتيوس. ابني. عمر المختار. لأجل. لأجل عمر المختار ابني. عمر بن الخطاب. عمرو بن العاص. عمر بن عبد العزيز. عمر المختار. لأجل ابني عمر المختار. ابني. لأجل ابني. لأجل ابني عمر المختار. لم يعودوا يسمعون أي زفير للزوبعة، فربضوا على فرائسهم متخوفين متوجسين. نظروا إلى بعضهم، والسائق الشاب يمسح دموعه بأصابع متوترة. فجأة، قام، وحاول دفع النافذة السقفية، لكنه لم يفلح. عمل كل ما في وسعه، لكنه لم يفلح. جاء فرانك لانج إلى عونه، لكنهما لم يفلحا. كانت طبقات الرمل كثيفة. كثيرة. الطامة الكبرى. كانت طبقات الرمل الطامة الكبرى. قفزت أبولين دوفيل على مقعدها، وراحت تدفع معهما، محنية الظهر، النافذة السقفية، بكل قواها، لكنها لم تفلح. الطامة الكبرى. كانت تئن كأنها تعانق الله، وكانت يائسة كأنها لاعبة تنس لا يسعدها الحظ في المباراة الأخيرة. كانت تئن كأنها مريم المجدلية، وكانت تبكي كأنها الخنساء. كانت طبقات الرمل الطامة الكبرى. لكنهم في الأخير، تمكنوا من رفع النافذة السقفية، فتساقط الرمل كالشلال حتى ملأ اللاندروفر، وكاد يخنقهم. تسلل الضوء الذي كان حامله هناك بانتظارهم، وساعدهم على الخروج واحدًا بعد الآخر.
وهم في الخارج، أخذوا يضحكون. كان ضحكهم كالهديل في البداية، ثم كقهقهة المجانين. لكنهم توقفوا فجأة، وهم يرون أنفسهم وسط بحر من الرمل لا بداية له ولا نهاية. كانت الشمس ثابتة كالسفينة الراسية على شاطئ جهنم، وهم لا ماء لديهم ولا طعام. بحث السائق الشاب عن هاتفه المحمول في كل جيوبه، فلم يقع عليه. لم يكن أمامهم من خيار آخر سوى السير، فسار رجل التحري الخاص، ومسدسه يهتز حول خصره، وسارت الكابتن الشقراء، ومسدسها يهتز حول خصرها، وسار السائق الشاب، ولا مسدس لديه، ولا هاتف محمول لديه، ولا قربة ماء لديه، ولا شيء لديه سوى ظله. نظروا إلى ظلالهم، وساروا. كان الجحيم من حولهم، من فوقهم، من تحتهم، فعادوا ينظرون إلى ظلالهم، ويسيرون. وبعد مسير ساعة، والظمأ والجوع يمارسان عليهم جبروت ما في الإنسان إضافة إلى جبروت ما في الطبيعة، أخذ كل واحد يشك في الآخر، وليتفادى أحدهم الآخر، ذهب كل منهم في طريق. كان الشك، ففرقهم، ثم كان الكره، فأبعدهم، وما لبث الخوف من الضياع والهلاك أن عاد وقرّبهم. اعتمدوا على بعضهم البعض، وساروا على غير هدى، والشمس دومًا ثابتة، لا تتحرك، كالسفينة الراسية على شاطئ جهنم، ترسل أشعة الموت، أشعة حمراء، أشعة جهنمية، أشعة شيطانية. جمدوا في أماكنهم، وتساقطوا كما يتساقطون في فراشهم. كانت جهنم مسكنهم، لا سلام في جهنم، ولا نهر الحياة. سمع الفرنسيان الليبيَّ يتلو بعض الآيات القرآنية، ويستغفر، يتلو، ويلهج بالدعاء، ثم يعود ويستغفر. همهم، وهو يمد أصابعه صوب جنة السراب، ونهض يجري باتجاه اللازمان واللامكان، وما لبث أن تساقط ميتًا. اقترب فرانك لانج من السائق الشاب، وحمله بين ذراعيه، وهو يبكي عليه بعينين جفت فيهما الدموع، وما لبث أن وضع رأس المسدس في وريده الوداجي، وأطلق، فتفجر دمه ينبوعًا راح يعب منه، وكذلك فعلت أبولين دوفيل، حتى ارتويا، واستعادا بعضًا من قواهما لمتابعة الطريق إلى غات.
إلا أنهما ما أن سارا في لهب الشمس الراسية على شاطئ جهنم، ووجدا أنهما يستطيعان التقدم بفضل ينبوع الدم الذي عبا منه، أصابهما الغرور، وظنا أنهما قوتان من قوى الطبيعة، أن الطبيعة هي الله، وهما مظهران من مظاهر الذات الإلهية. بحثا عن نفسيهما في السماء الزرقاء، فوجداهما نجمًا لا يُرى وقمرًا لا يُرتجى. كانت الحرارة لا تطاق، فراحا يخلعان عنهما كل لباس، وذهبا عاريين من كل شيء إلا من المسدس المتدلي من حزام حول خصريهما. جثا الواحد بين يدي الآخر، وكأن الواحد للآخر إله. أمدهما ذلك بالقوة على النهوض، ومواصلة الطريق. الآلهة هي هكذا منذ عهد الإغريق، تستمد القوة من خضوع أحدها للآخر، وخضوع الجميع لواحد منها، هو في الحالة الليبية الله. وبعد مسافة طويلة قطعاها في تيهانهما ولا طريق تبين ولا طير يطير، اكتشفا اكتشاف الصلف المغرور أن الإله في نفسيهما شيطانٌ، وهما لهذا تعانقا عناق الشياطين، ونثرا في الرمل الخطايا، ومن الأشعة الحمراء حتمية كل شر على الأرض... ثم كان هذا الحوار الطويل بينهما، الجدير بالأوديسة:
- ماذا سنقول لليل؟
- سنقول لليل إنه الثوب.
- ماذا سنقول للنهار؟
- سنقول للنهار إنه الثدي.
- ماذا سنقول للشمس؟
- سنقول للشمس إنها البغيّ.
- ماذا سنقول للرمل؟
- سنقول للرمل إنه النبيّ.
- ماذا سنقول للثعبان؟
- سنقول للثعبان إنه الوفيّ.
- ماذا سنقول للصقر؟
- سنقول للصقر إنه الغبيّ.
- ماذا سنقول للماء؟
- سنقول للماء إنه عين الأعمى.
- ماذا سنقول للهواء؟
- سنقول للهواء إنه الثروة.
- ماذا سنقول للأحياء؟
- سنقول للأحياء إن الحياة الأخرى لن تكون.
- ماذا سنقول للموتى؟
- سنقول للموتى إن الحياة الدنيا كانت.
- ماذا سنقول للجحيم؟
- سنقول للجحيم إن الجنة جحيم.
- ماذا سنقول للجنة؟
- سنقول للجنة إن الجحيم جحيم.
- ماذا سنقول للزمان؟
- سنقول للزمان إنه أخطأ المكان.
- ماذا سنقول للمكان؟
- سنقول للمكان إنه أخطأ المكان.
- ماذا سنقول للفكرة؟
- سنقول للفكرة أن لا فائدة من التحليق في الفراغ.
- ماذا سنقول للمادة؟
- سنقول للمادة إنها الفكرة.
- ماذا سنقول للمرأة القذرة؟
- سنقول للمرأة القذرة إنها أكثر طهارة من الأخت العذراء.
- ماذا سنقول للأخت العذراء؟
- سنقول للأخت العذراء إنها نعل في ماخور العظماء.
- ماذا سنقول للعظماء؟
- سنقول للعظماء إنهم عظماء لأن البشر أدنياء.
- ماذا سنقول للأدنياء؟
- سنقول للأدنياء إنهم أدنياء لأنهم أرقاء.
- ماذا سنقول للتفاحة؟
- سنقول للتفاحة إنها السكين.
- ماذا سنقول للسكين؟
- سنقول للسكين إنه نظام الأشياء.
- ماذا سنقول للعقرب؟
- سنقول للعقرب إنها الجمهورية.
- ماذا سنقول لشجرة الصبار؟
- سنقول لشجرة الصبار إنها البنوك.
- ماذا سنقول لبئر الماء؟
- سنقول لبئر الماء إنها النهاية الأولى للعالم.
- ماذا سنقول لبئر النفط؟
- سنقول لبئر النفط إنها النهاية الثانية للعالم.
- ماذا سنقول للقوادين؟
- سنقول للقوادين إنهم آباؤنا.
- ماذا سنقول للمتدينين؟
- سنقول للمتدينين إن الله مات.
- ماذا سنقول للملحدين؟
- سنقول للملحدين إن الله كان يرضى عنهم.
- ماذا سنقول للشيوخ؟
- سنقول للشيوخ إن كل صلواتهم صلاة الميت.
- ماذا سنقول للموسيقيين؟
- سنقول للموسيقيين إن المساجد مفتوحة لهم.
- ماذا سنقول للممثلين؟
- سنقول للممثلين إن محمدًا غاضبٌ منهم.
- ماذا سنقول للراقصين؟
- سنقول للراقصين إن الكعبة غاضبةٌ منهم.
- ماذا سنقول للراقصات؟
- سنقول للراقصات إن داوود غاضبٌ منهن.
- ماذا سنقول لنجمة داوود؟
- سنقول لنجمة داوود إن كل إسرائيل لا تعرفها.
- ماذا سنقول لإسرائيل؟
- سنقول لإسرائيل إن الله كان يحبها.
- ماذا سنقول للشيطان؟
- سنقول للشيطان إنه بروميثوس.
- ماذا سنقول لآلهة اليونان؟
- سنقول لآلهة اليونان إن زوسَ فلسطينيّ.
- ماذا سنقول للقدس؟
- سنقول للقدس إنها عاصمةٌ للعاهرات.
- ماذا سنقول للعاهرات؟
- سنقول للعاهرات إنهن أمهاتنا.
- ماذا سنقول للحمام كل الحمام مذ كان الحمام؟
- سنقول للحمام إن الحرب أمتع من كل السلامات.
- ماذا سنقول للثوار كل الثوار مذ كان الثوار؟
- سنقول للثوار إنهم الغريزة الشرجية للحكام.
- ماذا سنقول للحكام كل الحكام مذ كان الحكام؟
- سنقول للحكام إنهم حتمية كل الأوهام.




القسم السابع

استيقظت أبولين دوفيل من نومها دفعة واحدة، فوجدت نفسها عارية على الأرض في فراش رجل عار مكحل ومزوق لا تعرفه. وفي لمح البصر، تناولت مسدسها الملقى على مقربة منها، ودفعته في ثدي الرجل. وفي الوقت ذاته، استيقظ فرانك لانج من نومه دفعة واحدة، كما استيقظت، ووجد نفسه هو الآخر عاريًا على الأرض في فراش امرأة عارية مكحلة ومزوقة لا يعرفها، فتناول مسدسه الملقى على مقربة منه في لمح البصر كما تناولت، ودفعه في ثدي المرأة. كان على صدر الرجل وبطنه وشم يمثل تيسًا معقوف القرنين، وعلى صدر المرأة وبطنها وشم يمثل تنينًا قاذفًا للنار مدخلاً ذيله في غابتها. وكان في كل أُذن من أُذُنَيِ الرجل وأُذُنَيِ المرأة حلق من البلاستيك الأسود كبير، وحلق أقل كبرًا في كل حلمة من حلمتيهما، وحلق أقل من الأقل كبرًا في سرتهما، وحلق أقل من أقل الأقل كبرًا في أنفهما، بينما وضع الرجل كالمرأة أصابع يديهما العشرة وأصابع قدميهما العشرة في خواتم بلاستيكية من كل الأصناف والألوان. أوضح الرجل بلغته، وهو يضع يديه على رأسه، علامة الاستسلام، أنه من الطوارق، وما هذه سوى عادة من عاداتهم: إعارة الفروج. كانت أبولين دوفيل تفهم الأمازيغية، فحنت رأسها، وهي تبعد مسدسها، وراحت تصهل في عبها. أمام علامات الاستنكار التي جرفت محيا رفيقها، أوضحت بدورها:
- الطوارق يستقبلوننا على طريقتهم، وللترحيب بضيوفهم، يتركون للرجال زوجاتهم، وهذه هي إعارة الفروج.
- ولماذا أنت؟ قال فرانك غاضبًا، وهو لم يزل يدفع مسدسه في ثدي المرأة المرتعدة من الفزع.
- ولماذا أنا؟ صاحت كابتن الدي جي إس إي بالأمازيغية، وهي تعود إلى دفع مسدسها في ثدي الرجل متظاهرة بالغضب.
- عندما أحضرتك، يا كاهنتي، كنت على وشك الموت، وكانت تلك الطريقة الوحيدة التي تبعث فيك الروح، عاد الرجل يوضح.
ومن جديد، أخذت أبولين دوفيل تصهل في عبها، ثم انفجرت ضاحكة، فسأل فرانك لانج حائرًا:
- ماذا قال هذا الوغد؟
- لا شيء، أجابت أبولين دوفيل. ابعد مسدسك عن ثدي المسكينة، فهي أنقذتك على طريقتها من موت محقق.
أبعد سلاحه، فخفت المرأة إلى اللحاق بزوجها، والالتصاق به، وزوجها لم يزل يضع يديه على رأسه، علامة الاستسلام.
- أنزل يديك، انتهرته الكابتن بالأمازيغية، وعلى شكله الملخبط انفجرت ضاحكة من جديد، وهي تحاول منع نفسها من القهقهة بضغط فوهة المسدس على فمها إلى أن تمكنت من ذلك. هل لديكما ماء للحمام؟
- لدينا، قالت المرأة، وهي تبتسم، وتبين كل أسنانها الملبسة بالذهب، وتقوم من مكانها ساحبة فرانك لانج من يده.
- تعالي، يا كاهنتي، قال الرجل، وهو يبتسم، وتبين كل أسنانه الملبسة بالذهب، ويقوم من مكانه ساحبًا أبولين دوفيل من يدها.
ارتدى كل من الرجل والمرأة ثوبًا أبيض فضفاضًا كان معلقًا على حبل قرب بئر، وغطيا فمهما بمنديل عقداه خلف رأسهما، ثم سارعا إلى إخراج دلو من وراء دلو أخذا يصبان ما فيها من ماء على جسدي الضيفين. كان الماء فاترًا، ولذيذًا، وكان الرجل والمرأة يرغيان شعر الضيفين بقطعة صابون أسود ضخمة، المرأة ترغي شعر فرانك لانج، والرجل يرغي شعر أبولين دوفيل، ويصبان الماء الكثير على رأسيهما. وبعد ذلك، حمل كل منهما قفازًا من وبر الناقة، ومع الصابون الأسود، راحا يدلكان الضيفين، والضيفان مستسلمان للمتعة البربرية. غسل الرجل جسد الإلهة المستسلم بين أصابعه، وكذلك فعلت المرأة بجسد الإله المستسلم بين أصابعها، وراح الرجل يكلم المرأة بلغتهما، وهو يداعب بيديه ثديي أبولين دوفيل، ويرفعهما من حلمتيهما. كان يمتدح صلابتهما وصلفهما، لكن كابتن المخابرات الفرنسية ضربته على أصابعه لينزل يديه، فأنزلهما، ثم عاد إلى مداعبة الثديين، ورفعهما من حلمتيهما، بينما المرأة تمسك عضو فرانك لانج غير المختون، وتضغط، فتظهر طمرته، فتضحك، فترخي العضو، فتختفي، فتضغط، فتظهر طمرته، وهي وزوجها يكاد يغشى عليهما من كثرة الضحك. وفرانك لانج هنا وهناك وهنا، يعيش لحظات ثلاث، وانتهى به المقام إلى القيام. مما جعل المرأة تسقط على الأرض دون أن تمسك نفسها، وهي تداوم على الضحك، والرجل يواصل مداعبة ثديي أبولين دوفيل، ورفعهما من حلمتيهما، دون أن يعلم إية إثارة يسببها لها. أمسك الضيفان بيدي بعضهما، وسارعا إلى الالتفاف بما كان معلقًا على الحبل، والعودة إلى بيت الطين. رمى الرجل إليهما ثياب الطوارق، فارتدياها، بينما أخذت المرأة تقوم بالطهي، وبعد ساعة، وجدا نفسيهما يجلسان أمام طاولة قصيرة ملأى بشتى أنواع الطعام: أرز، ومرق، ولحم ناقة، وحليب ناقة، وسلطات، وخضروات، إلى جانب قرص خبز أسود ضخم. أكلا والرجل والمرأة ينظران إليهما مسرورين حتى شبعا وقاما إلى الفراش ليستلقيا، عند ذلك، كان دور المضيفين، فأكلا من تحت المنديل، وهما يتبادلان الكلام، ويضحكان دون توقف، وكأن لا أحد معهما.
- هل ينام فرانك، يا فرانك؟ كانت أم فرانك لانج تسأل.
- ينام فرانك، يا ماما. كان فرانك لانج يجيب.
- كما أرى لا ينام فرانك، يا فرانك!
- ينام فرانك، يا ماما.
- هل ينام فرانك حقًا، يا فرانك؟
- ينام فرانك حقًا، يا ماما.
- هل ينام فرانك حقًا حقًا، يا فرانك؟
- ينام فرانك حقًا حقًا، يا ماما.
- هل ينام فرانك حقًا حقًا حقًا، يا فرانك؟
- ينام فرانك حقًا حقًا حقًا، يا ماما.
نام فرانك لانج وأبولين دوفيل من جديد حتى غروب الشمس، وعندما استيقظا، لم يجدا الرجل والمرأة، فخفا بمسدسيهما إلى الخارج. وفي الخارج السماء الليلكية جد بعيدة بنجومها الكثيرة، ملايين نجومها التي لا تعد ولا تحصى، ملايين نجومها التي اللاتُقَدَّر، وصدر الصحراء يعلو ويهبط عند شهيقها وزفيرها. كانا قبل ذهابهما قد أعدا لهما الشاي، وتركا الإبريق على الجمر في منقل. علق كل منهما مسدسه على خصره، وشربا عدة كؤوس، وانتظرا. وفي الأخير، رأيا أشباحًا ثلاثة تجيء على ناقات ثلاث، تتبعها ناقتان لا أحد عليهما. كانا على وشك استلال مسدسيهما، لكنهما ما لبثا أن تبينا ثلاثة من الطوارق بلثام أزرق، لم يكن المُضَيِّفان بينهم. وهم قرب راعيي البقر الفرنسيين، هبطوا عن ناقاتهم بحركة كأنها طقس دينيّ، وانحنوا بكل إجلال للضيفين المعظمين.
- الكل بانتظاركما في غات، قال أحد الطوارق الثلاثة بفرنسية خالية من كل عيب.
- وأين هما... سأل فرانك لانج، وهو يشير إلى ناحية البيت الطيني.
- هما أيضًا بانتظاركما، أوضح الرجل الملثم. واجب الطوارق يحتم ذلك، أن ينتظرك مُضَيِّفُك ولا يجعلك تنتظره.
- ومتى سيكون المحفل؟ سألت أبولين دوفيل.
- غدًا، يا كاهنتي، أجاب الرجل، وهو يبالغ في الانحناء إجلالاً.
عقدوا لهما لثامًا أزرق، وأركبوا كلاً منهما على ناقة من الناقتين الحرتين، ثم أطرقوا، أي غادروا المكان.
وهم في منتصف الطريق، أشار من كان في رأس القافلة إليهم بالتوقف. كانوا على هضبة عالية، وهناك تحت حركة غير عادية. كانت هناك مجموعة كبيرة من الطوارق ذوي اللثم السوداء، بين الخيم كانت المشاعل، والرجال كالنساء يرتعشون، وهم يتلون آيات من الكتاب الأخضر، ويسجدون.
- إنهم الطوارق الموالون لشيطان ليبيا، أوضح الرجل المجيد للفرنسية، اسمهم الملثمون السود، في كل واحد منهم كامور التُّكالي، الكتاب الأخضر قرآنهم الشيطاني، والمكان الذي يصلون فيه مسجدهم الشيطاني، لن نتخلص من الشيطان إلا إذا تخلصنا منهم.
- أن تجهزوا على كل هؤلاء؟ سألت أبولين دوفيل.
- لن يكون الأمر سهلاً، يا كاهنتي، أجاب قائد القافلة.
- سنمحوهم كلهم عن بكرة أبيهم، قال أحد الآخرين بالأمازيغية.
- ولكن كيف؟ سألت أبولين دوفيل بالأمازيغية.
- ماذا يقول؟ سأل فرانك لانج.
- يقول إنهم سيمحون...
- يكفي أن يعطينا المحفل موافقته، أما الباقي، فليتركه علينا، قال الرجل بالأمازيغية.
- ماذا يقول؟
- لن يكون الأمر على مثل هذه البساطة، قالت أبولين دوفيل بالأمازيغية.
- ماذا يقول؟ ماذا تقولين؟
- إذا لم يتم ذلك، يا كاهنتي، قال قائد القافلة، فلن تتحرر طرابلس.
- ماذا يقول، يا دين الرب؟
- يقول إنهم سيمحون الملثمين السود من الطوارق كلهم عن بكرة أبيهم.
- يا دين دين الرب! قولي له إن الحوار معهم أفضل طريقة للتفاهم.
- قلت له.
- وماذا قال لك؟
- الحقيقة لم أقل له.
- سيمحون الملثمين السو... يا دين دين دين الرب، إذن ماذا؟
- قلت له إن الأمر لن يكون على مثل هذه البساطة.
- الحوار، الحوار، قولي له إن الحوار معهم أفض...
- لن يكون حوار بيننا وبين هؤلاء المجرمين، قال العارف للفرنسية.
- هل سبق وحاولتم؟
- لا.
- سأحاول أنا والكابتن دوفيل باسمكم.
- لدى الطوارق مَثَلٌ لا تعرفونه أنتم في الغرب، يا كاهنتي، قال الرجل متوجهًا بكلامه إلى ضابطة المخابرات الفرنسية.
- ما هو؟ سألت أبولين دوفيل.
- عندما يختلف اثنان من الطوارق أحدهما ميت.
- ألهذه الدرجة تكرهون بعضكم؟ أرعد فرانك لانج.
- لهذا السبب، إما أن نموت وإما أن نتفاهم، ونحن غالبًا ما نموت.
- إذن؟
- لا تفاهم مع الملثمين السود.
- دعونا نحاول أنا والكابتن دوفيل.
- عندما كانت فزان تحت حكمكم وغات لكم كان الأمر يختلف، يا كاهنتي.
- كان يختلف كيف؟
- كنتم أسيادنا واليوم نحن أسيادنا.
كانت آخر كلماته قبل أن يعود إلى قيادة القافلة بكل ما يتطلب ذلك من حذر، وكذلك فعل الكل، وابتعد الكل عن الخطر. وشيئًا فشيئًا أخذت السماء الليلكية تدنو، والأفق ينحسر. بدت غات من بعيد كمدينة تنبثق من الرمل والظلام، مدينة كالحلم، تدخل في رأسك دون تدري كيف، ثم لا تلبث أن تختفي، فتسمع صوت البحر، ولا بحر هناك، أو أنه صوت حور الصحراء، ثم لا تلبث أن تظهر، قلعتها أول ما يظهر، فبيوتها الطينية، فأزقتها الطينية، فأصابعها الطينية، ثم تسمع صوت البحر، حتى أنك ترى الأمواج التي تغرق فيها قلعتها، ولا أمواج هناك.













القسم الثامن

كان محفل الطوارق الزرق الأحرار يقام في فناء القلعة التركية الواسع لمدينة غات، كل الأعضاء ذكورًا وإناثًا كانوا يتواردون، وهم يرتدون فساتينهم البيضاء وسراويلهم البيضاء وقفازاتهم البيضاء، ويتلثمون بلُثُمِهِم الزرقاء، فلا تظهر منهم سوى عيونهم، وكان كل الأعضاء يأخذون أمكنتهم على مقاعد ذات أرقام في مثلثين متداخلين يمثلان خَتْمَ سليمان، وأمامهم ينتصب قبره الرمزي الذي وضعت عليه أشرطة عشرة تنتهي بميداليات على شكل فرجار مفتوح وزاوية قائمة. ومن الجهة الأخرى للقبر، كان يقوم عرش صاحب الأمر والنهي، رئيس المحفل، بكرسيه الضخم المذهب وكرسيين أقل ضخامة للنائبين، وخلف العرش كانت هناك ستارة من المخمل الأزرق خِيط عليها شعار الماسونية بفرجاره المفتوح وزاويته القائمة، ووُضعت في وسطهما عين العناية الإلهية بأشعتها المخترقة للأرض من جهاتها الأربع. وكالعادة مع كل محفل، كان أفراد الحرس ينتشرون هنا وهناك، وهم يرتدون الأزرق والأبيض، ولكن ما كان يميزهم عن غيرهم النظارات السوداء التي كانوا يضعونها على عيونهم. إضافة إلى ذلك، كانت هناك فرقة قارعي الطبول الملثمة أفرادها والمرتدية للونين السابقي الذكر.
جاء فرانك لانج بصحبة أبولين دوفيل، وهما يرتديان الأزرق والأبيض كالباقين، وأخذا مكانًا كان لهما في المقدمة، وما لبث شخصان أن جلسا خلفهما، ومالا عليهما، وهما يضحكان، فعرفا فيهما من عينيهما مُضَيِّف ذلك اليوم ومُضَيِّفته. قرعت الطبول، فنهض الكل على مقدم القطب الأجلّ المعبود صاحب الأمر والنهي الحامل للسيف الوهاج ونائبيه وسكرتيره، وهم يرتدون الأزرق والأبيض، ولكن ما يفرقهم عن غيرهم أحلى الحلى وأثمنها. انحنوا أمام المحفل في احترام قبل أن يجلسوا، فاعتمد كل الأعضاء على ركبهم اليسرى، وانحنوا بدورهم إكبارًا وإجلالاً. لم يفطن فرانك لانج إلى ذلك، بقي لا يقوم بأقل حركة إلا بعد أن دقته أبولين دوفيل في خاصرته، لأن المحفل كان غريبًا عنه، وهو كان غريبًا عن المحفل. ظلوا كذلك ثلاثًا وثلاثين ثانية، ثم عادوا يجلسون على مقاعدهم، وجمدوا في أماكنهم. أشار السكرتير بيده إلى عشرة أفراد من العضوات والأعضاء الذين ظهروا من خلف الستارة بالقدوم، فقدموا، وهم يكشفون عن صدورهم، ومن أثدائهم كان المحفل يميز بين الذكر والأنثى وبين الشاب والشيخ. وقفوا بين يدي صاحب الأمر والنهي الذي راح يقول:
- مناسبة محفلنا العظمى اليوم هي عيد ميلاد إخوتنا وأخواتنا، فعيد مبارك للجميع، ويوم مبروك لنا، نجدد فيه حبنا لبعضنا، وأسمى آيات الولاء لمبادئنا، وأغلى الأمنيات لليبيين ولليبيا وللبشر وللكون.
نهض المعبود، وهو يتناول السيف الوهاج، فنهض الجميع، ووضعوا أياديهم اليمنى مفتوحة على قلوبهم، بمن فيهم فرانك لانج دون أن يسهو عن ذلك هذه المرة. سارع السكرتير إلى حمل ميدالية، وهو يشير إلى أول العشرة الذين هم عيد ميلادهم اليوم بالاقتراب. كان يبدو مسنًا، يكاد يسلم الروح، وعندما سأله صاحب الأمر والنهي عن عمره، قال:
- واحد وعشرون عامًا.
وضع السكرتير الميدالية حول عنقه، وجعله ينحني بين يدي المعبود، والزاوية القائمة والفرجار يتأرجحان. غمغم رئيس المحفل ما لا يُفهم، وباركه بالسيف الوهاج، وهو يمس برأس السيف الوهاج حلمته الأولى، فالثانية، وهكذا فعل مع التسعة الباقين من الأعضاء، وهو يسألهم عن أعمارهم، وهذا يقول عامًا، وذاك يقول عامين، وتلك تقول ثلاثة أو عشرة أو خمسة عشر إلى آخره، وكان المقصود طبعًا أن يقول الواحد عدد السنين التي مضت على عضويته. وعلى إيقاع الطبول أخذ الطوارق كلهم يطرقون بأقدامهم اليمنى الأرض، ويدورون ربع دورة، يطرقون بأقدامهم اليمنى الأرض، ويدورون ربع دورة، بمن فيهم المعبود ومعاوناه وسكرتيره، يطرقون بأقدامهم اليمنى الأرض، ويدورون ربع دورة، يطرقون بأقدامهم الأرض، ويدورون ربع دورة، والغبار يتصاعد كما يتصاعد من بركان. في البداية، دار فرانك لانج على العكس منهم، وبعد زجر أبولين دوفيل له، وشده من ذراعه، أتقن الرقصة كالآخرين.
أوقف المعبود الطبول بحركة من يده، وعاد إلى عرشه ليجلس وكل من كان حاضرًا من الأعضاء، والسكرتير يجعل من هم عيد ميلادهم اليوم يقفون غير بعيد. حط الصمت، كان صمتًا ثقيلاً، فكأنه صمت الصحراء في علبة الوجود. حيرهم الصمت، وأعياهم، ففتح المعبود فمه، وقال بالأمازيغية:
- آه، يا إخوتي ويا أخواتي! لقد سبق السيف العذل! نعم، لقد تأخر كل شيء، فالكارثة التي تحل بنا كارثة لا تعادلها كارثة، لا فائدة من مواجهتها...
أطلق كل الأعضاء الحاضرين صيحة رافضة واحدة، وعملوا بالسبابة والخنصر إشارة التحدي للشيطان ما عدا رجل التحري - الذي لم يكن عضوًا على كل حال - وربيبة المخابرات.
- ...إلا إذا كانت التضحية كبيرة.
همهم كل الأعضاء الحاضرين بالإيجاب، ما عدا فرانك لانج، الذي لم يكن عضوًا على أي حال، وأبولين دوفيل.
- هذه الأرض التي أنجبتكم تحب دمكم، فارأفوا بأنفسكم.
عاد كل الأعضاء الحاضرين يطلقون صيحة الرفض الواحدة، ويعملون بالسبابة والخنصر إشارة التحدي للشيطان، ودائمًا ما عدا فرانك لانج وأبولين دوفيل.
- سيكون إذن ثمن الذهاب إلى الحرية باهظًا.
همهم كل الأعضاء الحاضرين بالإيجاب، ما عدا فرانك لانج وأبولين دوفيل دائمًا وأبدًا. همس القطب الأجلّ في أذن نائبه الأول ما لم يسمعه أحد، وهذا يهز رأسه موافقًا، وفي أذن نائبه الثاني، وهذا أيضًا يهز رأسه موافقًا، ثم أرعد:
- الليلة إذن ستكون ليلتكم.
أخذ كل الأعضاء الحاضرين يطرقون الأرض بأقدامهم اليمنى واليسرى تأييدًا واستجابة إلا الفرنسي والفرنسية، والغبار يتزايد تصاعدًا.
- وغدًا ستدخلون طرابلس محررة من الشيطان.
قاموا كلهم، وعادوا إلى الرقص الدوراني، على قرعات الطبول، والغبار يغطيهم، فلم يعودوا يرون أنفسهم ولا غيرهم أو الأشياء من حولهم. أشار المعبود بسبابته إلى السكرتير، فسحب الستارة، وبانت أهرامات من صناديق الأسلحة والذخيرة، عليها ختم "جيش النيجر"، في الناحية الأخرى من الغبار دون أن يميزوها. وهم لهذا توقفوا عن طرق الأرض بأقدامهم، وصمتوا، وأخذوا يدفعون الغبار بأكفهم من أمام عيونهم. على مرأى صناديق الأسلحة والذخيرة، راح الكل يهتف بالأمازيغية الهتافات الهستيرية. حاول فرانك لانج أن يأخذ الكلمة، فلم يستطع، وكذلك حاولت أبولين دوفيل أن تأخذ الكلمة، فلم تستطع. وقف كل منهما في طرفٍ من المحفل مواجهٍ للآخر، وأطلقا الرصاص في الهواء، وإذا بكل واحد من الأعضاء الحاضرين يخفي نفسه تحت مقعده خوفًا بمن فيهم النائبان والسكرتير، وإذا بأفراد الحرس وقارعي الطبول يولون الأدبار، ثم يتوقفون، ويلتفتون. قال رجل التحري الخاص لصاحب الأمر والنهي:
- أنا أعتذر، كنت مضطرًا إلى ذلك.
أشار المعبود بسبابته إلى سكرتيره، وهذا بيده إلى الحرس، لكن أبولين أوقفت الجميع مهددة:
- أنصحكم بسماع ما يود قوله، أنذرتهم، وهي تشير برأسها إلى فرانك لانج.
- صاحب الأمر والنهي، الطوارق ذوو اللثم السوداء يمكن التفاهم معهم للحيلولة دون إراقة الدماء، رجا فرانك لانج، وهو ينزع لثامه.
- لا يمكن التفاهم مع الشياطين، صاح المعبود، وهو ينزع لثامه هو الآخر تحت صيحات أعضاء المحفل الذين عرفوا فيه الصِّحافي ورجل الأعمال جيرار تيري. الضرورات تبيح المحظورات، ونحن إذا لم نتغد بهم، تعشوا بنا، وكان الانتصار لكامور التُّكالي مؤكدًا.
- للثورة ثمن باهظ هذا صحيح، تدخلت أبولين دوفيل، وهي تنزع لثامها، ولكن ليس إلى هذه الدرجة العالية جدًا، جيرار تيري.
- ليبيا مستقبل الكون، أرعد المعبود، وسيكون هذا المستقبل أسود إذا لم نبدأ من هنا التأسيس لمستقبل العالم الذي هو النظام العالمي الجديد.
فرقع أصابعه، وأخذ يعطي أوامره بالأمازيغية، فإذا بحراسه يقعون على الفرنسي والفرنسية من كل ناحية، ويحيدونهما، وبعد ذلك يحملونهما إلى سجن القلعة. لحق مُضَيِّف الأمس ومُضَيِّفته بهما عن كثب في الاتجاه الذي ذهبا منه، بينما عادت صيحات الثأر والانتقام تتصادى في الاتجاه المضاد.




القسم التاسع

لم يتمكن مُضَيِّف ومُضَيِّفة الأمس من تحرير فرانك لانج وأبولين دوفيل إلا في ساعة بعيدة من الليل، بعد أن هاجما الحارسين خلال نومهما، وفكا الأسيرين من سلاسلهما. كان سجن القلعة سجنًا اتفاقيًا، تبقى أبوابه مفتوحة إلى أن يُرمى أحدهم فيه، وفي مملكة الطوارق الزرق، القليل من كان يُرمى فيه. ومن هناك، ذهبوا على الناقات مباشرة إلى حيث كان يخيم الطوارق السود، فوجدوهم كلهم مذبوحين عن بكرة أبيهم. كانوا يغرقون كلهم في بحيرة من الدم أخذت السماء لونها الفاقع، وعامت في الخضاب النجوم منشرحة الصدر. كان عبث الطبيعة يصل أقصاه، وللإنسان إحساس بأنه غريب كل الغربة. كانت غربة الإنسان أقصى غربة في تلك اللحظة، وكان ينظر إلى نفسه، فتشمئز نفسه من نفسه. قاءت أبولين دوفيل، وقاء فرانك لانج، وقاء المُضَيِّف، وقاءت المُضَيِّفة، وبعد ذلك، أخذ المُضَيِّف والمُضَيِّفة يغطيان أفواه الموتى المهشمة بلُثُمِها، فمن تقاليدهم ألا يكشف الطوارق عن أفواههم أحياءً كانوا أم أمواتًا، أحياءً ليغطوا الذهب الذي في أفواههم، وأمواتًا ليخفوا البشاعة التي هي الإنسان بعد تحطيم أسنانه، فالإنسان هو الأبشع بأشكاله وأفعاله، الإنسان هو الشيطان.
كان عليهم طرق باب السفر، والسير في أعقاب قوافل المجرمين، العودة إلى طرابلس، هناك حيث كانت المعارك الضارمة على أبوابها. استعاد جيش المجلس الوطني المؤقت معظم المدن كما سمعوا من الترانزستور، وأخبرهم الترانزستور أن الحلف الأطلسي يقنبل الآن قريتي الطوارق السود، الجميل وريقدالين، المواليتين لكامور التُّكالي، دعمًا للطوارق الزرق في مدينة زوارة الساحلية، التابعة لها القريتان السابقتان، وسيلتحق هؤلاء "بالغاتيين"، للانقضاض على فلول "الطرابلسيين" الذين يحاصرهم "جيش" بنغازي.
ساروا طوال الليل، وعندما بانت الزُّهَرة إلى جانب الشمس، كان الفجر، فصلى المُضَيِّف والمُضَيِّفة، وهما يرفعان يديهما صوب حامل الضوء، ثم جمع الواحد نفسه في حضن الآخر، وناما. نام فرانك لانج قرب ناقته، والعياء ينيخ بكلكله عليه، وكذلك فعلت أبولين دوفيل. وبعد ساعتين أو ثلاث، بدأوا يفتحون أعينهم على صفير الرياح. كان الصفير يأتيهم مع الغبار خفيفًا، فشدوا اللثام الأزرق على وجوههم جيدًا، وركبوا ناقاتهم، وراحوا يغذون السير، وهم يتركون الرياح من ورائهم. لكن الرياح ما لبثت أن لحقت بهم، وتجاوزتهم، فصاروا في قلب الزوبعة. جمعوا ناقاتهم من حولهم بعد أن أناخوها، ودفنوا رؤؤسهم في صدورهم، بانتظار أن تهدأ الزوبعة، ولم تهدأ الزوبعة، بل ازدادت وحشية. أبرزت مخالبها، وزرعتها في رقابهم، فصرخوا من حدة الألم. رفعت سياطها، ورمت بها ظهورهم، فعادوا يصرخون من حدة الألم. ضغطتهم على صدرها، وكادت تسحقهم، وهم يصرخون من حدة الألم. لم تكن الحلولية، لم تكن الوحدانية، كانت ظاهرة من ظواهر الطبيعة. ومع ذلك، أخذ المُضَيِّف والمُضَيِّفة يتضرعان إلى الله، وأخذ الفرنسي والفرنسية يلعنان الله. رتل المُضَيِّف والمُضَيِّفة القرآن، ومجد الفرنسي والفرنسية الشيطان. بكى المُضَيِّف والمُضَيِّفة، وقهقه الفرنسي والفرنسية. أخافا المُضَيِّف والمُضَيِّفة اللذين حسباهما عفريتين، فنهضا ليهربا، لكن الرياح حملتهما بين أذرعها الشيطانية، ورمتهما في جوف الهلاك. لم ينجح فرانك لانج في الإمساك بالمرأة، ولم تنجح أبولين دوفيل في الإمساك بالرجل. اضطرا إلى الإمساك ببعضهما، وهما يريان إحدى الناقات كيف تلتهمها الرياح، وتضيع في جوفها، ولولا ذلك، لما هدأت الرياح، كان ذلك الشرط الواجب مقابل بقاء الإنسان حيًا. قام فرانك لانج، وأخذ يرسم في الرمل صلبانًا، ويبول عليها، بينما يسمع أبولين دوفيل تخاطب المسيح قائلة: يا عيسى، تعال إلى حضن زوجتك مريم، هكذا لن يقمع البشر البشرية التي فيهم باسمك، ويفكون كود الشيطان.
جاء بعض الخيالة المدججين بالسلاح وبعض سيارات البك أب المسلحة كل منها بمدفع رشاش، وحملا الفرنسي والفرنسية معهم. أعطوهما ما يشربان وما يأكلان، فشربا، وأكلا. قال الثوار لهما إن المعارك طاحنة في طرابلس، المقاتلون في الشوارع، والرماة على السطوح. مقاتلون من كل أنحاء ليبيا كانوا في طرابلس، وأهمهم كانوا من الملثمين الزرق. لم تكن الأهمية بالعدد بل بالشجاعة والإقدام بعد أن تركوا الجريمة التي ارتكبوها في حق أندادهم الملثمين السود من ورائهم. كانت إرادة التاريخ عليهم كي يصنعوه بالدم، وكانت إرادة ليبيا عليهم كي يصنعوها بالنار. وتحت سماء طرابلس كانت تحوم تلك الطيور السوداء ذات المناقير الحمراء، رأوها، وهم على أبوابها، وهي تحوم تحت سماء الموت، جميلة كالموت، مكبِّلة كسلاسل الحرية، ممتعة كعناق البنادق. وصلتهم أصوات الانفجارات، ورأوا النيران، ومن بعيد كانت الطائرات الفرنسية والبريطانية المطاردة تبذر الرعب. كانت تبدو كما في ألعاب الفيديو، جميلة، أنيقة، خلابة، وكانت تبذر الرعب بالألوان، والأيادي الناعمة تضغط على الأزرار، وكلما أصابت الطائرات أهدافها كلما أحس اللاعبون بالاغتباط، وشعروا بذواتهم شعور العملاقة. وكانت الطائرات الفرنسية والبريطانية ترقص في الأجواء على أنغام سيمفونية الموت، تدور على نفسها، ثم ترتفع فجأة إلى نقطة لا تبين فيها، ثم تنقض فجأة على عدو وهميّ. هكذا كان الطيارون يتسلون على طريقتهم بعد أن يبذروا الرعب، ويحققوا مهمتهم. كانوا يتسلون، وفي آذان بعضهم كانوا يقهقهون، بينما على الأرض ترقى الحرائق حتى أعتاب السماء.
- هل تفكر في طبق اليوم كما أفكر؟ سأل الطيار الفرنسي الأول الطيار الفرنسي الثاني عبر ميكروفون خوذته بعد أن دمرا العديد من الأهداف الخاصة بكود شيطان طرابلس، وتركا جثثًا عديدة مكربنة.
- لن يكون شيئًا آخر غير دجاج مع البطاطا، وأنا لا أحب هذا، أجاب الطيار الثاني.
- إذن أنت لا تشعر بالجوع بعد كل هذا القصف.
- أشعر بالجوع، ولكن...
- ولكن ماذا؟
- أنا لا أحب الدجاج مع البطاطا كما قلت لك.
- إذن أنت تفكر في شيء آخر.
- لا بد.
- وما هو؟
- فرج أختك.
- لا، بجد.
- أفكر في زوجتي.
- لها فخذان جميلتان، زوجتك؟
- أجمل فخذين.
- يا لك من محظوظ!
- وأنت؟
- وأنا ماذا؟
- فخذا زوجتك.
- لست متزوجًا، مع الأسف.
- وماذا تفعل دون فخذين جميلتين؟
- أذهب إلى الماخور.
- لا، بجد.
- مصابي هو أنني دون فخذين جميلتين.
- الفخذان الجميلتان شيء آخر غير الاستحلاب.
- أنا لا أمارسه، مع الأسف.
- لماذا لا تجد لك ليبية أو شيئًا كهذا، امرأة محجبة، يقال إنهن ساخنات في الفراش كشياطين جهنم.
- كيف سأجدها؟ من الجو؟
- أما الآخرون، الذين يعملون في الصفوف الخلفية، فهم المحظوظون، كل شيء يعملونه من الخلف، رمى، وانفجر ضاحكًا.
- يا لك من منحصرٍ جنسيّ، رمى الآخر، وهو يقهقه.
- إنه الشيطان الذي يوسوس لي في بلاد الإسلام.
توقف القتال من الطرفين على صوت المؤذن، كان وقت الصلاة، وكان على شيزوفرينيي الله أن يركعوا بين يديه، ولا يهم أن يموتوا بين يديه إذا ما بدل هذا الطرف أو الآخر رأيه، فكلهم سيذهبون إلى الجنة، مع كامور التُّكالي أو ضده، كلهم سيذهبون إلى الفردوس. كان وعد الله لهم، والله لا يخلف وعدًا مع أحد. سيذهبون كلهم إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، ولا أحد منهم إلى الجحيم. سيكون الجحيم خاليًا، فكلهم سيذهبون إلى الجنة. حتى الشياطين سيذهبون إلى الجنة بعد أن يؤدوا فريضة الصلاة، فالله غفور رحيم. سيذهب الشياطين إلى الجنة، ولن يكون في الجحيم أحد تتسلى الملائكة وإياه، تلعب وإياه البوكر أو تأكل وإياه الهمبرغر أو ترى وإياه فيلم بورنو أو تضاجع وإياه، فتقوم بالإضراب عن الطعام، وتهدد بعدم الإيمان بعالم الغيب، لكن الله ستلين قناته، فالله غفور رحيم، والله على كل شيء قدير.
القسم العاشر

لم تكن قعقعات الأسلحة وانفجارات القنابل الداكة لخطوط الأعداء في شارع الاستقلال تطغى على صرخات الكرب وآهات النحيب، فالأم التي تضرب بكفها على صدرها، وتصرخ، وتتأوه، كانت تحيط بابنها القتيل كل الجارات، وهن يضربن بأكفهن على صدورهن، ويصرخن، ويتأوهن. كن كلهن في ثيابهن السوداء، وكن كلهن مزوقات على أكمل وجه: بُودرة وحُمرة وكحل. كن يصرخن بصوت عال لكنه جميل، وينتحبن بدمع حار لكنه لا ينضب، ولا ينظرن إلى الجثة، بل إلى زاوية جلس فيها شاب ثان على الأرض، وهو يثني رأسه فوق ركبتيه، وكأنه يسعى إلى إخفاء عاره.
- أخوك مات، وأنت لم تزل حيًا، صاحت الأم بالشاب دون أن تلتفت إليه.
فلم يبدر عن الشاب أي رد فعل.
- أخوك قاتَلَ، وأنت اختبأت، عادت الأم تصيح بالشاب دون أن تلتفت إليه.
فداوم الشاب على تجاهلها.
- أخوك مسكنه الجنة، وأنت مسكنك جهنم، رمت الأم كسهم من النار، ونهضت.
أخذت الأم بالابن ضربًا بيديها وقدميها، وهي تحثه على حمل السلاح، ومقاتلة الشيطان، والموت كما مات أخوه، فالموت شرف المقاتل. اضطر الابن إلى الهرب من بين يديها وقدميها، وغادر زاويته على نحيب الجارات وصراخهن الذي فاق قعقعات الأسلحة وانفجارات القنابل أكثر ما يكون.
اختلت الأم بإحدى النساء في الحجرة المجاورة.
- المازوزي ابني سيحمل السلاح هذه المرة، قالت الأم مبتهجة، وسيُقتل كما قُتل أخوه التلاوي.
- أم قوجيل جارتك، قالت المرأة متشككة، ثلاثة من أبنائها حملوا السلاح، لا واحدٌ ولا اثنان، وكلهم قُتلوا.
- لا تنسي أن لديّ بناتي خدوجة ولطفية وردينة، والأنثى اليوم كالذكر بل أهم.
- وللذكر حق الأنثيين قال الله في شرعه.
- حق الأنثيين ونص، وسأفقأ عينها المتعجرفة، أم قوجيل، هي ليست أحسن مني.
- لا أحد أحسن منك، يا ست الستات، وستفقأين عينها، وعين أبوها، وعين أمها، وعين جدها، وعين جد جدها، وعين كل جدود جدود جدود جدودها.

وفي الناحية المقابلة من شارع الاستقلال، كانت امرأة في الخمسين من عمرها، لم تزل تحتفظ بجمال، تتبادل وابنها الشاب المدجج بالسلاح الكلمات التالية:
- هل ترى قرنيّ، أنا الزوجة المخدوعة؟
- ماذا تقولين، يا أمي؟ أنت الزوجة المخدوعة!
- أنا الزوجة المخدوعة.
- أنت الزوجة المخدوعة.
- الزوجة المخدوعة.
- الزوجة المخدوعة.
- المخدوعة.
- المخدوعة.
- أبوك جعل لي قرنين.
- أبي جعل لك...
- قرنين.
- قرنين.
- أنا الزوجة المخدوعة.
- أنت الزوجة المخدوعة.
- الزوجة المخدوعة.
- الزوجة المخدوعة.
- المخدوعة.
- المخدوعة.
- وإلا تراه أين يذهب؟ أمس في الليل واليوم في النهار؟
- أنت الزوجة المخدوعة.
- أنا الزوجة المخدوعة.
- الزوجة المخدوعة.
- الزوجة المخدوعة.
- المخدوعة.
- المخدوعة.
- كم عشيقة له؟
- عشيقاته كثيرات.
- كثيرات؟
- كثيرات.
- كم؟
- كثيرات.
- كم؟
- لم أعدهن.
- عشيقاته كثيرات.
- كثيرات.
في المساء، جاء الثوار بالزوج قتيلاً.
- قتله ابنه، فقتلناه، قال الثوار، وهم يجيئون بالابن والأب.
عندما غادر الثوار المكان، خرج عشيق المرأة من حجرة النوم، وأخذ بعناقها كالهمجيّ بمتعة همجية أمام عيون الميتين المفتوحة.

ودومًا في شارع الاستقلال، في شقة مغلقة النوافذ لا تسمع منها صرخات البحر، كان رجل في الستين من العمر، في قميصه الأبيض الطويل وسرواله الأبيض الفضفاض، يضرب ابنته الحبلى، وهو يردد: يا للعار! يا للعار! وزوجاته الأربع ينحن عاجزات دون أن يكون باستطاعتهن فعل شيء للمعذبة. ثم ما لبث البعل أن ترك ابنته، وراح بهن ضربًا وشتمًا.
- هي ابنتي أقتلها، أذبحها، أفعل فيها ما أشاء، ردد الجبار لاهثًا.
طردهن، وأقفل الباب بالمفتاح. استدار نحو ابنته، وجاءها ليمسح دمعها، ويقبلها من عينيها، ومن وجنتيها، ومن شفتيها، ثم رفع ثوبها، وراح يبسمل، وهو يضع كفه على بطنها، ويقبلها من جانبيها، ومن فخذيها، ومن ساقيها، ومن قدميها. بعد ساعة، خرج بزيه السنوسي مهيبًا، شتم نساءه الأربع، وعاد يضربهن. وقبل أن يغادر البيت، حمل سلاحًا، بعد أن تأكد من أن لا رصاصة واحدة فيه، وذهب ليأمر ثوار ساحة الجزائر، وهو يختبئ من وراء جدار:
- حذار! انتبه إلى ذلك الرامي القذر الشيطان ابن الشيطان! وأنت انتبه إلى تلك المصفحة القذرة على يسارك، مصفحة الشياطين أبناء الشياطين! أما أنت، فانتبه إلى هؤلاء السود المرتزقة الكلاب أبناء الكلاب، من التشاد هم أو من النيجر أو من السودان، أقتلهم، ولا يكن لقلبك بهم رحمة، هؤلاء الشياطين أبناء الشياطين! عاشت الثورة! عاشت ليبيا! عاش كامور التُّكالي!
ثم استدرك أمام نظرات الثوار المستغربة:
- يسقط كامور التُّكالي!
واستطرد:
- تسقط الظلامية! تسقط التوكالية! تسقط التراجعية!
دون أن يزيل من أعين الثوار نظراتهم المستغربة إلا بعد أن أخذ يوزع عليهم بعض الأوراق النقدية، فرفعه الثوار من الحماس على أكتافهم، ورقصوا به، وهم يدوسون بأقدامهم صور كامور التُّكالي، ويشهرون سكاكينهم مهددين بذبحه.

في شارع الاستقلال، كانت طالبتان محجبتان تركضان، وهما تهدلان هديل الحمام. كانتا فخورتين بالمشاركة في تحطيم النُّصب الخاص بالكتاب الأخضر في الحرم الجامعي:
- والنُّصب يخر تحت أيدينا أحسست بمولدي، قالت الأولى، وهي تلهث.
- أنا أحسست بشيء مذهل شيء خارق للعادة شيء أشبه برئيس الملائكة جبرائيل يهبط عليّ، قالت الثانية، وهي كالأولى تلهث.
- ربما كنت نبية دون أن ندري، رمت الأولى، وهي تضحك.
- على أي حال كان ما فعلناه شيء أقرب إلى اجتراح المعجزات شيء لا يصدق، رمت الثانية، وهي تضحك.
دخلت الفتاتان إحدى البنايات القوطية، وأخذتا المصعد إلى الطابق الثالث، ومنه إلى شقة بالغة الثراء.
- هذه أنت، يا رجاء؟ سأل أخو رجاء.
- هذه أنا، أجابت رجاء، ومعي روحية، نحن ذاهبتان إلى حجرتي.
أطل الأخ برأسه من باب حجرته، وقال لهما:
- كونا عاقلتين.
كركرت الفتاتان، وسألت رجاء:
- ماما ليست هنا؟
- غادرت طرابلس إلى تونس، أجاب أخو رجاء.
- هي وبابا؟
- هي وبابا.
أول ما دخلت الفتاتان الحجرة أخذتا بخلع الحجاب وما تحت الحجاب من فستان آخر موضة باريسية لِما كانتا تحسان به من حرارة، واستلقتا بثيابهما الداخلية الشانيل السحرية على السرير لاهثتين، وهما تحدقان في السقف إلى أن هدأتا تمامًا، وفجأة انفجرتا ضاحكتين. نهضت رجاء ونزعت العلم السنوسي المعلق فوق مكتبها، والتفّت به، وهي تقوم بحركات الزهو والفخار بينما روحية تقهقه. نهضت روحية، وخلصت رجاء العلم السنوسي، وبدورها راحت تقوم بحركات الزهو والفخار. أرادت الأولى أن تستعيد العلم السنوسي من الثانية، فرفضت هذه، وراحت الفتاتان الثوريتان تتعاركان، وهما تكركران. قذفت رجاء صديقتها على السرير، وهي تحاول دون أن تستطيع أخذ العلم السنوسي منها، ثم ما لبثت أن نامت عليها، والاثنتان لا تكفان عن الضحك إلى أن توقفتا تمامًا. حط بهما الذهول، ذهول العاشق المشتهي لقطف روحه، لذبح روحه، للفتك بإنسانيته، فتركت روحية رجاء تسحب العلم السنوسي التي تلف به جسدها، وتركتها تفك معلق ثدييها. فكت معلق ثدييها هي، وجعلت حلمتيها تنقران حلمتيها. بعد ذلك، جعلتها تقطف حلمتيها هي الواحدة بعد الأخرى بشفتيها، ثم قطفت هي حلمتيها بشفتيها.
في الحجرة المجاورة، كان الأخ يحتضن كلاشنيكوفه عاريًا. كان يشده إليه كمن يشد امرأة، وكان يقبله، وكان يداعبه، وكان يدور به دورات لا تنتهي، وكان يهمس في أذنه: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا. وفي الأخير، سقط وإياه على السرير. بعد قليل، دوت في الأرجاء رشة قصيرة من الرصاص.

وفي شارع الاستقلال، كانت المرأة ذات الوشاح الورديّ تسأل، ولا أحد في الشارع:
- على أية ساعة يمر ساعي البريد؟
طرقت أحد الأبواب، فخرج لها شخص ساخط:
- ماذا تريدين، يا دين الرب؟
لكنها أعطته ظهرها، وذهبت، والآخر يشخر، ويطرق الباب.
- على أية ساعة يمر ساعي البريد؟
ولا أحد في الشارع.

في شارع الاستقلال، كان مسجد كامور التُّكالي، ولم يكن في المسجد أحد غير الإمام وثوري جريح ممدد على سجادة عند قدم المنبر. كان الثوري جريحًا من ركبته حتى منبت فخذه، وكان الشيخ قد نزع السروال الداخلي للشاب ليسهل عليه مسح الجرح وتضميده. كانت كل فخذ الشاب الأخرى تحت هيمنته، وكل ما بين فخذيه، كل الجمال الرباني كان تحت أمره ونهيه، فراح به مداعبًا، تارة بيديه، وتارة بشفتيه، والثوري الجريح يهمهم همهمة الضعيف الواني:
- الله أكبر! الله أكبر!

- على أية ساعة يمر ساعي البريد؟ داومت المرأة ذات الوشاح الورديّ على السؤال ولا من عابر في شارع الاستقلال.

في شارع الاستقلال، كانت تفوح رائحة الجثث من ردبين، في الردب الأيمن كانت تفوح رائحة المغتالين من الموالين، وفي الردب الأيسر كانت تفوح رائحة المغتالين من الثوريين. كان المغتالون من الطرفين يشبهون بعضهم، فالبشر كلهم بعد الموت يشبهون بعضهم. وفي الحالة الليبية، كانوا يشبهون بعضهم بشكل يختلف عن سائر البشر، بشكل جهنمي، كانوا يشبهون بعضهم بشكل شيطاني، فهم كلهم جرت تصفيتهم بعد تعذيبهم بنفس الطريقة، بعد تعذيبهم العذاب الليبيّ، العذاب الشهيّ، بطلقة في منتصف الجبين، بطلقة واحدة، بطلقة واحدة في منتصف الجبين، بين العينين، بطلقة واحدة لكنها جهنمية شيطانية إلهية حتى.

توقفت قعقعات الأسلحة وانفجارات القنابل من الطرفين على صوت المؤذن المدوي كأنه الرعد في كل أرجاء طرابلس، حتى البحر توقف عن المد والجزر، حتى القمر توقف عن العوم، حتى النجوم توقفت عن لعق جراح الذئاب. وكانت فرصته، فرصة من كان يدعوه البعض شيطان طرابلس، الشاب الملائكي القسمات. صعد على سلم إلى مكبرات الصوت، واقتلعها، فخنق الآذان في حلق الثورة. لكنه لم ينتظر كثيرًا، أحاط به الثوار من كل جانب، وألقوا القبض عليه، بعد أن أطلقوا النار عليه، وجرحوه في ساقه. نقلوه إلى المستشفى، وقيدوه بسلاسل السرير. كان الكثير من الجرحى مثله، الكثير من الليبيين، الكثير من التشاديين، الكثير من الجزائريين، الكثير من النيجريين، الكثير من النمل الحزين، الكثير من التماسيح، الكثير من كلاب الصيد، الكثير من ظباء الواحات، الكثير من طيور النخيل، وكانوا كلهم مقيدين كالبهائم بسلاسل أسرّتهم. كان على فرانك لانج وأبولين دوفيل أن يخاطرا بحياتهما من أجل إنقاذ شيطانهم الأهوج، كان عليهما أن يلجآ في البداية إلى الادعاء المعروف بكونهما طبيبين من أطباء اللاحدود، فارتديا ما يرتديه الطبيب، وحملا السماعة، وذهبا بعد ذلك مع غيرهم من الأطباء الليبيين والجلادين الثوريين لزيارة الجرحى. قال أحد الإفريقيين المربوط إلى سريره بالسلاسل إلى جانب شيطان طرابلس الشاب الأهوج إنه لم يشارك الموالين في القتال، وإن مهنته الصيد، فهمس جلاد ثوري في أذني الفرنسييْنِ قائلاً لا تصدقوه، فهو يكذب. طلبا أن يفكوا قيد الإفريقي والشاب الأهوج لأجل فحصهما، وما أن فعل الجلاد الثوري، حتى هدده الفرنسيان بمسدسيهما وكل من كان معه، وانسحبا مع الجريحين بعد أن أحكما إغلاق الباب من ورائهما، إلا أن الجلاد الثوري تمكن من تحطيم الباب وإنذار الآخرين من الجلادين الثوريين الذين كانوا هناك لتصفية الجرحى، فجرى تبادل نار شديد، قُتل فيه الإفريقي، وأصيب رجل التحري الخاص في كتفه.
وهما ينهبان شوارع طرابلس نهبًا، قالت أبولين لفرانك لانج من وراء مقودها:
- أنت تنزف، أيها الفُطر!
ضحك فرانك لانج، والدم يسيل من بين أصابعه، وهمهم:
- نسيت كوني فُطرًا منذ زمن بعيد.
- لكنني أنا لم أنس، أيها الفُطر!
- هل ما زلت فُطرًا في عينيك؟
- لا، ليس بعد الآن، أيها الفُطر!
- إذن متى سننام معًا كسائر البشر، كابتن دوفيل؟
- إذا كنت مصرًا على ذلك بالفعل، فلا تترك كتفك تنزف، أنت تحتاج معي إلى القيام بالكثير من الجهد.
خلع قميصه، ومزق ما يربط به كتفه.
- أحسنت فعلاً، أيها الفُطر! همهمت أبولين دوفيل.
- ماذا قلت لي منذ قليل؟ همهم رجل التحري الخاص.
- ربما كنت أكذب، أيها الفُطر!
- نسيت أنك لم تبدلي مهنتك.
- ولن أبدلها، هل يروق لك ألا أبدلها، أيها الفُطر؟
نظر فرانك لانج إلى شيطان طرابلس، الشاب الأهوج، فوجده يبتسم له.
- أشكرك كثيرًا على كل ما فعلته من أجلي، أيها الفُطر! قال الشاب ذو القسمات الملائكية.
- أنت أيضًا؟
- أنا أيضًا، أيها الفُطر! هذا أحسن من قول أيها التيس أو أيها الجرذ!
جست أبولين دوفيل كتف فرانك لانج بتحنان، وهمهمت:
- سأعالجها لك.
- ستعالجينها لي.
- بشرط أن تبقى عاقلاً ابتداء من اليوم.
- أنا أم أنت؟
- أنتما الاثنان، قال الليبي اللبق، وهو يبتسم.
جاء الفرنسي والفرنسية الحفرة وراء فندق ماريوت التي دفن الكوماندوس الفرنسي فيها أغراضه وقواربه المطاطية، وأخرجا منها قاربًا، نفخاه، وركباه مع الشاب الليبي. وقبل أن يبحروا، أراد فرانك لانج أن يلقي على طرابلس نظرة أخيرة، فرأى المرأة ذات الوشاح الورديّ، تلك التي تسأل على أية ساعة يمر ساعي البريد. كانت تقف وحيدة، ساكنة، كتمثال روماني كانت ساكنة، كانت ساكنة، وكانت تنظر إليه، ثم ما لبثت أن خلعت الوشاح الورديّ، فتهدل شعرها على كتفيها، وراحت تلوح به مودعة. ابتعد المركب المطاطي، وهم يسترشدون ببوصلة كانت بين الأغراض، وفرانك لانج ينظر إلى المرأة ذات الوشاح الورديّ حتى أخفتها الأمواج.
اتصلت أبولين دوفيل من هاتفها المحمول بحاملة الطائرات شارل دو غول.
- الكود شيطان طرابلس، بدأت ضابطة الجوسسة الخارجية حديثها.
- ماذا؟ سأل محدثها مستوضحًا.
- قلت الكود شيطان طرابلس، وها نحن نقلع على قارب مطاطي، ونترك الشاطئ.
- ماذا؟ عاد محدثها إلى السؤال.
- قلت الكود شيطان طرابلس، وها نحن...
- انتظري قليلاً، سأحول القطار إلى خط جانبي.
- من معي؟
- قلت انتظري قليلاً، كود شيطان طرابلس.
- لن أنتظر كثيرًا.
- قلت انتظري قليلاً، هلا أردت؟
- عجل يا هذا ، فنحن في خطر.
- قلت انتظري قليلاً، انتظري قليلاً.
- نحن في خطر.
- قلت انتظري قليلاً، يا دين الرب!
وبعد انتظار طال، والأمواج تتقاذف بالمركب المطاطي:
- انتظري قليلاً.
- انتظرت أكثر من اللازم، فنحن في خطر.
- قلت انتظري قليلاً، كود شيطان طرابلس.
- سأنتظر، سأنتظر.
- هكذا تغدوين عاقلة، كود شيطان طرابلس.
- عجل يا هذا.
- أعمل ما أقدر عليه.
- نحن في خطر.
- نحن في خطر، نحن في خطر، أعمل ما أقدر عليه.
- عجل يا هذا.
- أعمل ما أقدر عليه.
انبثقت الطائرات المقاتلة من السماء، وراحت تقذف قنابلها عليهم.
- ولكنكم معتوهون، يا دين الرب! صرخت أبولين دوفيل بغضب. تريدون قتلنا أم ماذا؟ أعطني الأميرال، وهو سيفهم.
- إنها أوامر الأميرال، كود شيطان طرابلس.
- هل يريد تصفيتنا، هذا المعتوه؟
انتزع فرانك لانج الهاتف المحمول من يد أبولين دوفيل، وصاح بغضب:
- هنا فرانك لانج، ماذا أنتم بفاعلين، يا دين الرب؟
- فرانك لانج؟ صاح المتحدث بحرارة، رجل التحري الخاص المعروف؟
- هو بعينه.
- أنه لشرف عظيم أن يكون معي على الطرف الآخر من هاتفي فرانك لانج، الملاك الظريف!
- هل سمعتِ ما يقول؟ قال رجل التحري الخاص لأبولين دوفيل مزهوًا بنفسه.
- ماذا يقول هذا المعتوه؟ صاحت كابتن الدي جي إس إي دون أن يزول غضبها.
- كن ظريفًا وأرسل طائرة هيلوكبتر تقلنا في الحال، طلب فرانك لانج من محدثه، فنحن في خطر، كما قالت كابتن دوفيل.
- كابتن أبولين دوفيل؟
- هي بعينها.
- ولماذا تقول كود شيطان طرابلس، يا دين الرب؟ يا دين دين الرب! يا دين دين دين الرب! سأستدرك الخطأ في الحال، وأرسل طائرة هيلوكبتر لالتقاطكم.


























القسم الحادي عشر

غادر كامور التُّكالي وولداه سيف زبول ورومل على رأس فرقة مدرعة إلى مدينة سرت، تاركين طرابلس أنقاضًا من ورائهم. كانت الفكرة لرومل، ثعلب الصحراء، فَتَرْكُ طرابلس لم يكن سوى تكتيك ليعودوا إليها منتصرين فيما بعد، وليكسبوا وقتًا يكون خلاله رسول سيف زبول إلى تل أبيب قد عاد بوعد الإبقاء على النظام مقابل الاعتراف، بل وأكثر من الاعتراف، مقابل أن يُلغى مشروع "إسراطين" إلى الأبد من قاموس السياسة الخارجية الليبية، وبالتالي أن يشطب نهائيًا على شيء اسمه خرائِين، فهل هناك شيء اسمه خرائِين؟ كان هناك شيء اسمه طيور طرابلس السوداء ذات المناقير الحمراء بلون الدم والقهر، فالدم والقهر لونهما واحد، أحمر، لون المتعة، ولون الموت، ولون كل شيء أبيض فوق رمال ليبيا التي لا حد لها، رمال كالقدر، لا شيء غير الرمال. كانت ليبيا الرمال. وكانت الرمال قدر ليبيا. كالرمال في خرائِيِن قدرًا لشيء لم يعد موجودًا، بينما الرمال في طرابلس قدر كل الأشياء الموجودة. آه، كيف تتغير الأقدار من مكان إلى مكان! مكان يشبه المكان، وقدر لا يشبه القدر. حتى بين المهزومين تختلف الأقدار بين مهزوم ومهزوم، والطيور السوداء ذات المناقير الحمراء تختلف في معانيها بين طيور وطيور.
- سنقاتل حتى الموت من أجلك، يا أبي، أقسم سيف زبول الابن البكر بين يدي كامور التُّكالي ثم ابتسم بحياء المرأة، كان يرتعش عندما يبتسم، وترتسم على وجهه أمارات عدم الواثق من نفسه.
- نعم، سنقاتل حتى الموت من أجلك، يا أبي، أقسم رومل الابن الأوسط بين يدي كامور التُّكالي ثم رفع قبضته في الهواء، وحركها كما يفعل أبوه، وهو يبتسم ابتسامة أبيه، ابتسامة لا تعرف الحياء.
- وأنا أيضًا سأقاتل حتى الموت من أجلي، يا ولديّ، أقسم كامور التُّكالي بين يدي كامور التُّكالي ثم رفع قبضته في الهواء، كما فعل رومل، وحركها، وهو يبتسم، ابتسامة لا تعرف الحياء.
رمى كل من كان حاضرًا بنفسه أرضًا للتعبير عن الاستعداد للموت، فطلب كامور التُّكالي من الكل النهوض، وقال:
- في سرت ستكون النهاية...
صرخ الكل علامة التحدي.
- لكنها لن تكون النهاية...
عاد الكل يصرخ علامة الرضاء.
- لأني البداية.
همهم الكل علامة الموافقة.
- كبحر طرابلس أنا، أبدأ من الشاطئ لما أنتهي. أنا لن أعود بعد موتي، لأني عدت. هل يستطيع المرء أن يزيل ظلاً بقي في مكانه اثنين وأربعين عامًا دون حراك؟ لقد نبتت للظل جذور تذهب عميقًا في أحشاء الأرض، كل رمال ليبيا من لحمه، وليبيا كلها رمال. الرمال في ليبيا دوام الموت إلى الأبد، فالموت رمال، مثلما هي الثلوج موت في بلاد الجليد. هناك استطاعوا مع مر الأيام إذابة بعضها، فتغيرت عندهم النظم والرؤى، أما عندنا، فمن سيذيب الرمال؟
انفجر كامور التُّكالي ضاحكًا، ولا أحد ممن كان معه. نهضوا ليقبلوا يده، فداعب الواحد من شعره والآخر من عنقه، ثم ذهب بعينيه بعيدًا.
- ما عاش أحد من بعدك، يا أبي، همهم سيف زبول.
- ما كانت ليبيا من بعدك، يا أبي، همهم رومل.
انفجر كامور التُّكالي باكيًا، فجمد الكل دون حراك.
- هذا جزاء كل ما فعلته لهم، الجرذان!
- لا تبك، يا أبي، رجا سيف زبول.
- كلنا فداك، يا أبي، أكد رومل.
- كل ما فعلته لهم، كل ما قدمته لهم، كل ما بنيت، كل ما رفعت، كل من رفعت، كل حياتي التي أنفقتها من أجلهم، كل أيامي التي ذهبت بسرعة دون أن أشعر بها، دون أن أذوق يومًا حلوًا، دون أن أفكر في نفسي بل فيهم، في صحتهم، وليس في صحتي، في هنائهم، وليس في هنائي، في درء كل خطر عنهم، وتعريض نفسي لكل الأخطار. نعم، هذا جزائي!
وعاد ينفجر باكيًا.
- أرجوك، يا أبي، توسل سيف زبول.
- أتوسل إليك، يا أبي، همهم رومل، وهو يمسح دمعة سالت على خده.
- لكنهم سيرون، سأسحقهم، سأمحقهم، سأمحوهم من الوجود، إما أنا وإما هم.
- أنت، سارع سيف زبول إلى القول.
- أنت، سارع رومل بدوره إلى القول.
- أنا، همهم كامور التُّكالي.
- أنت، أنت، أنت، صاح الحاضرون، وكامور التُّكالي يرفع رأسه عاليًا، عاليًا جدًا، أعلى ما يكون.
- لم يكن يبدو لي أني كنت عملاقًا بهذا القدر، رمى كامور التُّكالي، وهو يجفف دمعه.
- لأن العملاق لا ينظر إلى نفسه، وينظر دومًا إلى الأمام، قال سيف زبول، وهو يرسم ابتسامة الحياء على شفتيه.
- العمالقة كلهم لا يبدون هكذا لأنفسهم إلا وقت التحدي، قال رومل، وهو يلف كتفي أبيه بذراعه.
- سيفتقدونني، همهم كامور التُّكالي.
- بعد عمر طويل، يا أبي، أرعد الابنان المضطربان من الانفعال بصوت واحد.
- سيندمون على أيامي، وسيقولون كامور التُّكالي!
كان قوس ماركوس أوريليوس الروماني لم يزل يقف على قدميه منذ ألفي عام، بينما باب العزيزية قد تحول إلى ركام من الجثث والأشياء. لم تكن في باب العزيزية جرذان ميتة، كانت هناك جثث لبشر. ولم تكن في باب العزيزية تيوس ذبيحة، كانت هناك جراح لبشر. ولم تكن في باب العزيزية تماثيل مهدمة، كانت هناك أحلام لبشر. أحلام احترقت. أحلام. لم تكن مجرد أحلام. كانت الأحلام الكبرى الحرية أجملها. كان حلم الحرية أجمل حلم. لكنه في رأس كامور التُّكالي كان الأبشع. كانت الحرية دميمة في رأس كامور التُّكالي، لأنها لم تكن حريته. لم تكن ملك يديه كما كان شعبه ملك يديه. كما كان غنمه ملك يديه. وناقاته. كما كان دجاجه ملك يديه. ونعاله. كما كان فراش الليل. والليل. والنجوم. واللجين في الليل. كما كانت السماء ملك يديه. والبحر. والصحراء. كما كانت المدن ملك يديه. والقرى. والبيوت. كما كانت النساء ملك يديه. والرجال. والصبية. والبنات. وكما كان الحزن ملك يديه. والفرح. والندم. وكما كان الألم ملك يديه. والمتعة. والشهوة. لم يكن كل هذا كما نقول تمامًا، فهو لم يكن يعرف أن الشهوة والمتعة والألم للإنسان، للإنسان وحده. كان كالبهائم لا يعرف، بل مدفوعًا بغرائزه كالبهائم. لهذا لم يكن يعرف أن هناك بشرًا من حوله، وأن أكبر حظيرة حيوانات في الوجود ليست ليبيا بل ليبيا. لم يكن يعرف أن ليبيا بلد بشر يحلمون، وأن لليبيا بحرًا تجيء منه السفن، وأن الطير في ليبيا له كرامته كالليبيين. ومرة أخرى، لم يكن كل هذا كما نقول تمامًا، فالليبيون لم يكونوا يعرفون، هم أيضًا. كان في رأس كل واحد منهم كامور التُّكالي دون أن يعرفوا. في رأس كل واحد. كل واحد. كان في رأس كل واحد جلاد اسمه كامور التُّكالي. من كان معه، ومن كان ضده. كان في رأس كل واحد طاغية. كان في رأس كل واحد جلاد على طريقته، وطاغية على طريقته. كان في رأس كل واحد عقل المجرم لا المفكر، وكان في رأس كل واحد عقل المعتوه لا العاقل، وكان في رأس كل واحد شيء آخر غير العقل بعد أن نصب فيه كامور التُّكالي خيمته وأغلق عليه لينام. كان كامور التُّكالي هو العقل في خيمة مغلقة، وهو العلم، وهو العلماء، وهو الأدب، وهو الأدباء، وهو الفلسفة، وهو الفلاسفة، وباختصار كان كامور التُّكالي هو التقدم، والتكنولوجيا، والمعرفة. وبالمفهوم الليبي التقدم هو التأخر، والتكنولوجيا هي حليب الناقة، والمعرفة هي الجهل.
كيف ستكون إذن المواجهة بين الجلاد وصوره من بشر صنعهم على شاكلته؟ بين جلاد كبير وجلادين صغارًا؟ هم سينتقمون من أبيهم، هذا شيء عرفه أوديب من قبلهم، ولكن في السياق الليبي ليس هذا هو المهم، فالمهم هو كيف سينتقمون من أبيهم؟ ولن ينتظر الجلادون الصغار الجواب طويلاً، وفي التاريخ من التراجيديات ما يكفي، وأجمل التراجيديات وأبشعها مصرع القيصر، الجلاد الأكبر، على أيدي صُوَرِهِ من الجلادين الصغار. لهذا، وهم يمسكون بكامور التُّكالي – أو ليمه فمن يدري؟ - في إحدى القنوات كالجرذ، أخذوا بطعنه كما طُعن القيصر من قبله، كل واحد على حدة أخذ بطعنه، على حدة، كل واحد على حدة أخذ بطعنه، أخذ بطعنه، كل واحد على حدة أخذ بطعنه، أخذ بطعنه، أخذ بطعنه، كل واحد على حدة أخذ بطعنه، أخذ بطعنه، أخذ بطعنه، أخذ بطعنه، ليقتل كل واحد شيئًا منه، ليمحو كل واحد من المرآة بعضًا من صورته، ليزيل كل واحد أثرًا من الآثار التي سيتركها من ورائه، فيخلص من عناء الجلاد الصغير الذي كانه.
- بالله عليكم، لا تقتلوني، يا أبنائي! همهم الجلاد الكبير متوجهًا بالكلام إلى الجلادين الصغار، وهو يرجو دون أن يستجيبوا له.
فأيقن أنه صنعهم بالفعل على صورته، وأن لا فائدة هناك:
- ولكنكم أنتم لا تعرفون الله!
كانت آخر كلمات الجلاد الكبير قبل أن يلفظ النفس الأخير، وعند ذلك، لم يعد الجلادون الصغار صغارًا.
















القسم الثاني عشر

كان الهَرْج والمَرْج داخل فندق لوتيسيا وخارجه كبيرين، فالمحفل الماسوني الذي يقام في بالاس الضفة اليسرى، بمناسبة انضمام عضوين جديدين إليه، كان عظيمًا بعظمة هذين العضوين الليبيين اللذين يؤسسان للنظام الجديد. لم تكن الشمبانيا المشرب الوحيد، ولم يكن الكافيار المأكل الوحيد، ولم تكن الفطائر المُوَرَّقات الوحيدة، فالشراهة في المآكل عادة من عادات كل مناسبة استثنائية كهذه. كذلك لم تكن البدلات الباذخة ولا الفساتين الأبذخ وحدها مما يخرج من تحت يدي كبار الخياطين الباريسيين، فالحلي الثمينة أيضًا كانت مما يبتكره كبار الجوهريين في العالم. كانت الفرادة سمة لكل ما هو موجود من أشياء وأناس، سمة لوجود خاص، خاص جدًا.
وبينما كانت بعض القامات تتمايل على إيقاع موسيقى الجاز المصاحبة للبيانو، كانت أبولين دوفيل في فستانها المخملي الأحمر لا تتابع الحديث الدائر بين بعض النخبة الأرستقراطية، لأنها لم تنقطع عن النظر إلى الباب الرئيسي، كي تقع، كما كانت في سرها ترجو، على فرانك لانج الذي تأخر كثيرًا.
- الأزمة، يا سيدي، دومًا ما كانت هنا، قال الأول، وهي ليست وليدة اليوم.
- أعترف أن الأزمة دومًا ما كانت هنا، قال الثاني، ولكن ليست بقدرها اليوم.
- هذا لا يهم، قال الثالث، طالما أنها لا تكلفنا شيئًا.
- سيأتي يوم وتكلفنا فيه الكثير، قالت المرأة الثانية في المجموعة بعد أبولين دوفيل، كل ما لم ندفعه فيما مضى، فما رأي الآنسة دوفيل؟
أوقفت أبولين دوفيل رأسها بشعرها الذهبي المنسدل على ظهرها، الذي كانت تحركه مع نصفها العلوي مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، وسألت:
- رأيي في ماذا؟
- في الأزمة.
- اعذروني، عن أية أزمة تتكلمون؟
- وهل هناك غيرها؟
- آه، الأزمة، الأزمة المالية؟ أليس كذلك؟ لا أزمة هناك طالما بقيت الدعاية، رمت أبولين دوفيل قبل أن تذهب باتجاه الباب الرئيسي.
- كابتن دوفيل، صاح الأول من ورائها، فالتفتت، الدعاية برهان مذهل لم أفكر فيه. شكرًا.
- لا شكر على واجب.
- أنا شخصيًا لست بحاجة إلى دعاية، علق الثاني، الدعاية في المطلق طبعًا، فمشروع مثل إعادة إعمار ليبيا سيدر عليّ من الأموال ما لا يقدر... مليارات.
- أنا أيضًا لست بحاجة إلى دعاية، رمى الثالث، الدعاية شيء زائد لمّا تعمل مصانع الأسلحة ليل نهار لتسليح الجيش الليبي.
- أما أنا، أيها السادة، فأنا بحاجة إلى دعاية، قالت المرأة، في ليبيا المحجبات لا يسرفن في العناية بوجوههن كما هو الحال في المشرق، إلا في الحالات الخاصة، الخاصة جدًا، وإلا ما بعت من المساحيق الشيء الكثير.
- طالما قدرت على ذلك، فلا شيء يدعو للقلق، قال الأول.
- أنا قادرة على ذلك.
- أما إذا لم تقدري على ذلك، فهذا يعني أن أزمة حقيقية هناك.
- نعم، هو كذلك.
- هذا ما عنته أبولين دوفيل.
ما أن خرجت ضابطة الدي جي إس إي لتنظر إلى شارع راسباي من ناحيتيه حتى وصلها زامور سيارة تحاول تجاوز كل ذلك الصف من السيارات اللوكس، كانت سيارة الفيراري الحمراء لصديقها. عندما رآها فرانك لانج، ترك سيارته في وسط الطريق تحت غضب الزوامير الأخرى، ومد المفاتيح لمكاريّ الفندق، وهو يقول لأبولين دوفيل:
- أعرف أنني آخر من يصل.
- لست آخر من يصل، رمت، والسيارات تواصل إطلاق زواميرها، ولكنك تأخرت كثيرًا.
في الداخل، قال، وهو يتناول عن صينية كأسي شمبانيا قدم إحداهما للفاتنة الشقراء:
- بصحة ما ينتظرنا من مفاجآت.
- هذا نخب لا يتمناه أحد وكل التهديدات التي استلمها صاحب الأمر والنهي.
- إذن بصحتنا، قال وهو يقرع كأسه بكأسها.
- أفضّل هذا، ردت، وهي تجرع كأسها كما جرع دفعة واحدة.
ألقى الكأس من خلف كتفيه، فصاحت:
- هيه!
- لا تخشي على الأقدام الناعمة شيئًا، فهي كؤوس لا تتكسر.
ترددت قليلاً، ثم فعلت مثله، وهي تأتي بحركة لامبالية، فتشظت كأسها إلى ألف شظية.
- يا لك من كاذب! همهمت أبولين دوفيل باسمة، وهي تسحبه من ذراعه بعيدًا عن "الجنحة" التي ارتكبتها.
- آخر تهديد استلمه صاحب الأمر والنهي، التهديد الذي لا أحد غيري وضع اليد عليه، يقول صاحبه فيه... قال فرانك لانج.
- ...غيرتم الوجوه ولم تغيروا النظام، قاطعته أبولين دوفيل.
- كيف عرفت؟
- سلبتم الشعب الليبي حريته بعد أن امتصصتم غضبه وحرفتم ثورته.
- قرأتِ هذا على إنترنت.
- لتبقى ليبيا متخلفة، فتسهل عليكم حرية التصرف بثرواتها إلى الأبد.
- أليس كذلك؟
- كل المواقع تردد هذا كاللازمة.
- للتمويه.
- وهم سيحاولون هذا المساء.
- أتظنين ذلك؟ هذا المساء؟
- أنا لا أظن، أنا متأكدة.
- لنفتح أعيننا جيدًا إذن.
- وإذا ما جاؤوا من اللامكان؟
- أتظنين ذلك؟ من اللامكان؟
- أنا لا أظن، أنا متأكدة.
- تجعلينني أشك في نفسي.
- شُك، لانج، فكل شيء متوقع.
- إلى هذه الدرجة؟
- إلى هذه الدرجة، بل وأكثر.
- ربما كانوا رجالاً خفيين.
- هم رجال خفيون.
- أتظنين ذلك؟ رجال خفيون؟
- أنا لا أظن، أنا متأكدة.
أشار فرانك لانج برأسه إلى سموكن كان بانتظاره في أعلى درج الطابق الأول، فصفق هذا، في نفس الوقت الذي توقفت فيه الموسيقى، ورفع صوته ليسمعه الحضور:
- أيها السيدات والسادة، إلى المحفل من فضلكم!
صعد البعض الدرج أو أخذ المصعد ليضع نفسه في الأسود، كله ما عدا العينين، واتجه البعض الآخر إلى قاعة "بريزيدنت" ليضع نفسه في الأبيض. وكالمحفل السابق، كانت كراسي الأعضاء المرقمة مصفوفة في مثلثين متداخلين تعبيرًا عن خَتْمِ سليمان، وكان هناك القبر الرمزي لملك الجان، وكذلك عرش المعبود بكرسيه الملكي الذي على جانبيه كرسيا النائبين، ووراء العرش السلم المنحرف في نصف دائرة تنزل من الناحية الأخرى، المنتهي بعين العناية الإلهية، بينما ستائر المخمل الأحمر البنفسجيّ الموشحة بالشرائط الذهبية في كل مكان.
امتلأت القاعة بالأردية السوداء والقلانس المخروطية السوداء والقفازات البيضاء، وهم الأعضاء، وبالأردية البيضاء من حولهم، وهم المدعوون، وبالبدلات السوداء والنظارات السوداء الموزعين هنا وهناك، وهم الحرس. وما هي سوى بضع دقائق حتى دخل القبط الأجلّ المعبود صاحب الأمر والنهي، وهو يحمل السيف الوهاج، برفقة نائبيه وسكرتيره، وكلهم يتغطون بالأسود من قمة الرأس إلى أخمص القدم وبالحلى المعهودة، يتغطون بالأسود، ما عدا أياديهم المدفونة في قفازات بيضاء، فقام الكل لهم إكبارًا، وانحنى الكل لهم إجلالاً. وبعد قليل، انطفأت الثريات إلا من كشاف نور وشمعدانات جلبتها الأردية السوداء والقلانس السوداء والقفازات البيضاء، فجلس الكل من جديد، وبدأت المراسم، وذلك بإحضار العضوين الليبيين الجديدين من حجرة الموتى عاريين معصوبي العينين مجروري الجسد بحبل من السرة، بينما كان رجل التحري الخاص يراقب الحركات والسكنات، يقدّر المساحات بمجرد النظر، ويلاحظ أن مقعدًا في الصف الأمامي، المقعد رقم 13، لا أحد يحتله.
- هذه المناسبة هي الأغلى على قلوبنا بعد أن تحررت ليبيا الحبيبة من الطغيان، بدأ القبط الأجلّ الكلام، وإنها لأعظم سعادة أن نستقبل عضوين جديدين من أهم وجوه النظام الجديد على صدر محفلنا. واختصارًا للمراسم، أطلب من قدامى الأعضاء القبول بوضع علامة أوكي باليدين الاثنتين على العينين، فوضعوها. وفي اللحظة ذاتها دخل أحدهم بقلنسوة سوداء ورداء أسود وقفاز أبيض تحت نُصب عيني فرانك لانج، وتوجه إلى الصف الأول حيث كان المقعد رقم 13 فارغًا، كان المكان في الحقيقة مكان المرأة التي ترمي إلى بيع مساحيقها لمحجبات ليبيا، ربطها الدخيل بقدم السرير، وألصق فمها، بينما المعبود يقف متابعًا، وهو يبارك العضوين الجديدين بسيفه الوهاج: لتكن الأخوّة لكما ملبسًا، والحرية لكما مسكنًا، والحقيقة لكما طريقًا وهدفاً.
عاد رئيس المحفل إلى مكانه، ووضع السيف الوهاج إلى جانبه. وقف كل الأعضاء القدامى خلال طواف العضوين الجديدين حول قبر سليمان، وكلهم يضع يده مفتوحة على قلبه، دون الدخيل في البداية، وكلهم يهمهم همهمة مديدة. توقف السكرتير بالعضوين الليبيين عند قدم السلم النصف الدائري، ومن ناحيته الأخرى، صعدت عشر شقراوات وعشر شقراوات أخرى، ثم نزلن من كل جانب من جانبي السلم النصف الدائري، في رداء المخمل الأسود الضيق المشقوق حتى أعلى الساق اليسرى، وظهرت في القمة أبولين دوفيل في الرداء نفسه ولوتس أُذُنِ الفأر المزينة للشعر والجمال الرباني الصارخ المخضع. انطفأ كشاف النور المسلط من ظهر الصالون إلى القبر الرمزي، واشتعل آخر ينهمر من العين الثالثة، وينسكب على الأعميين الصغيرين. وقبل أن ينزع السكرتير العصابة عن عينيهما، راح يستجوبهما عن الإخلاص فيؤكدانه، عن الفداء فيؤكدانه، عن الوِفاق فيؤكدانه، عن سماعهما لصوت ضميرهما فيؤكدانه، عن تفاديهما للشجار فيؤكدانه، عن حبهما لكل البشرية فيؤكدانه. نزع السكرتير العصابة عن عينيهما، فوجدا الكثير من الصعوبة حتى تمكنا من فتحهما. أشربهما السكرتير بعضًا من كوب المرارة، وسحبهما من الحبل السري. أخذت الفتيات يساعدن العضوين الجديدين على الصعود، والسكرتير يواصل سحبهما من سرتهما. في تلك اللحظة، انقض الدخيل على المعبود، وهو يرفع السيف الوهاج إلى أقصى ما يستطيع صارخًا "المساواة بين البشر"، في الوقت الذي دفن فيه النائبان رأسيهما في القفازين الأبيضين بدافع الخوف، وهناك من بين الفتيات العشرين من راحت تصرخ، لكن رصاصات أبولين دوفيل التي انطلقت من مسدس كان يحيط بربلة ساقها اليمنى أصابته في صدره تحت تزايد الصرخات، ورصاصات فرانك لانج التي انطلقت من مسدس كان يحيط بربلة ساقه اليسرى أصابته في ظهره، فسقط على ركبتي المعبود صريعًا. دفعه القطب الأجلّ عنه دفع المشمئز، وهو يرفع عن رأسه القلنسوة، فتفاجأ الكل برؤية وزير الدفاع، وكان رد فعل الكل هائلاً. كان التوتر سيد المكان، سيد باريس، سيد فرنسا، سيد أوروبا، سيد الكون، ولم يرفع فرانك لانج القلنسوة عن رأس القتيل إلا بعد أن نزلت أبولين دوفيل الدرج النصف الدائري قفزًا. ثم، بحركة مباغتة، رفع رجل التحري الخاص القلنسوة عن وجهٍ لم يتوقع أن يكون صاحبه هو الذي خاطر بحياته من أجل إنقاذه، كان الوجه للمدعو شيطان طرابلس ذي القسمات الملائكية.


الكتابة الثالثة
الاثنين 03 حزيران 2013
باريس.







أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

[email protected]
شيطان طرابلس رواية الثورة الليبية عن معمر القذافي كما كان يبدو إلهًا للشر في أيامه الأخيرة، وعن طرابلس الغرب، كما كانت ترتدي جلد التيس أيام الثورة، وعن الماسونية، كما كان دورها المفترض في الثورة، وعن الشيطانية المادية، كما يراها الأمريكي أنطون لافي، وعن الشيطانية الميتافيزيقية، كما جاءت في الكتب السماوية، ومن يتكلم عن الشيطان، لا بد أن يتكلم عن الله، بكل الروائية التي هي في أبعادها الفلسفية قادرة على الذهاب إلى المسائل القصوى الخاصة بالمعرفة البشرية، والتي هي في معانيها اللفظية سابقة لغيرها من نصوص تؤسس لطريقة جديدة في التمثيل الأدبي.

أي شيطان إذن كان معمر القذافي؟ هل هو الشيطان الوحيد في المسألة الليبية؟ وهل هناك شياطين كبار وشياطين صغار في بلد الاثنين والأربعين عامًا اضطهاد؟ حسب هذا التصور كل فرد من أفراد الشعب الليبي شيطان على طريقته، صورة عن الشيطان الأكبر سواء أكان مع القذافي أم ضده.

تجرؤ هذه الرواية في كل شيء، شخصياتها، مواضيعها، بيئاتها... تشكلاتها، أشكالها، أنظمتها... بنياتها، جملها، مفرداتها... رموزها، استعاراتها، كناياتها... ألوانها، روائحها، سراباتها... وهي بهذا تتميز عن كل ما كتب حول الثورة الليبية عربيًا وعالميًا.

هذه الرواية هي الأولى من سلسلة سوداء في أجزاء سبعة يكتبها أفنان القاسم عن الربيع العربي، مع بطليه التيميين، فرانك لانج، رجل التحري الخاص، وأبولين دوفيل، ضابطة الدي جي إس إي.


* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ستوكهولم
- تراجيديا النعامة
- الشيخ والحاسوب
- وصول غودو
- مؤتمر بال الفلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم في كتاب
- أمين القاسم الأيام الفلسطينية
- خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - شيطان طرابلس