نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1092 - 2005 / 1 / 28 - 07:56
المحور:
الادب والفن
هل ثمة مصري واحد يسير في أي شارع من شوارع القاهرة, بينما يتردد الصوت الهادر لأم كلثوم, و لا يردد معها بعض جملها, بشجن ربما, و بحنين, و بخلو بال تام في مدينة مزدحمة بسياراتها و عادمها و ضجيجها و منغصات أعصاب سكانيها؟ في الغالب لا. غير أن الأجنبي لا يفهم هذا الحب الجارف لصوت أم كلثوم, يراه صوتاً قوياً ربما غير أنه ليس جميلاً, يراه صوتا استعراضياً و مدوياً يرتفع إلى طبقات عالية, لكنه ليس رشيقاً كصوت فيروز و لا رقيقاً كصوت نجاة الصغيرة مثلاً. قد يكون هذا على العكس من صوت عبد الحليم حافظ, عبد الحليم الذي يندر وجود فتاة مصرية لا تحفظ أغانيه, ترددها بتنهد و رحمة. هو صوت مفهوم من وجهة نظر الأجنبي, صوت جميل, أي: عذب و رقيق, و هو في ذات الوقت ضعيف, لا يتخطى طبقات معينة, مثلما أن عبد الحليم نفسه إنسان ضعيف و مريض.
تواجدت في الشرق أسطورة قديمة عن إيزيس/ عشتار التي تحيي أوزوريس/ تموز بعد أن كان قد مات, و هو الإله. هذه المرأة هي تناسل لإلهة أم تواجدت في الثقافات القديمة , إلهة قامت بخلق الكون, خصّبت نفسها و خرج من رحمها البشر, غير أنه بعد أن بدأ الطابع الذكوري يغزو الثقافات القديمة, صار الإله الأكبر ذكراً, و تراجعت الإلهة الأم الكبرى إلى هذه الصورة, امرأة فخمة, تعيد خلق الإله الأكبر, أي تحييه (بعد أن كانت تخلقه سابقاً), و بدونها يموت الإله و يختل العالم تماماً. يفهم المصريون هذا. يرون في أم كلثوم أما حقيقياً, ذات صوت هادر, يليق بإلهة كاملة, أزلية, تواجدت في الهيولي لتخلق العالم. هكذا ينسحق المصريون أمام أم كلثوم و صوتها. يجلس عبد الناصر بكامل بزته العسكرية أمامها كتلميذ مهذب. يتدافع السكارى, بخضوع من يقدم قرباناً لإلهه, نحوها ليمدوا إليها سطل كونياك لكي تسير عليه و تعبق الكونياك برائحة قدميها فيمكنهم عندئذ احتساؤه و الانتشاء به, و سواء كان هذا صحيحاً أم أنه من اختراع عقل ذاب ولعاً في أمه الأزلية, فإنه يدل على الكيفية التي رآها بها الناس ساعتها. و عندما تندر الشيخ عبد الحميد كشك في فكاهته الشهيرة على مقطعها الذي تقول فيه "خدني لحنانك خدني", و قال كشك "ربنا هو اللي بياخد", لم يستنكر المصريون تزمته و سخريته من الفنانين و إنما استنكروا عقوق ابن لا يخاطب والدته بالاحترام الكافي. و هكذا أيضاً لا يستريح محبو الشاعر أحمد فؤاد نجم كثيراً إلى هجائيته فيها "يا ولية عيب اختشي يا مرضعة قلاوون".
هنا يمكننا التطلع إلى ملامح أم كلثوم الشهيرة: شعر أسود معقوص بمنتهى الرصانة إلى الخلف, ذراع هائل و وافر اللحم يتجلي من وراء القماش الأسود الساتان, ثدي ضخم كضرع بقرة (البقرة مجاز مناسب, بحنانها و أمومتها, فالبقرة هي حتحور, الإلهة المصرية القديمة), و نظارة سوداء تشابه تلك التي كان يرتديها رجال الثورة, صلاح نصر و صلاح سالم, نظارة يشابه سوادها و غموضها الهيولي الذي وجدت فيه الأم العملاقة. هذه الملامح هي النقيض التام من ملامح عبد الحليم حافظ, إذا عدنا للمقارنة بينهما. فملامح عبد الحليم شاحبة و متعبة. هي ملامح ابن مثالي, شاب صغير و نحيف يعذبه المرض الذي ينهش في جسده, و مع هذا فهو ينهك ما تبقى من جسده عبر العلاقات النسائية المتعددة, أما الجسد الأم كلثومي الفخم للغاية, غير الجميل و إنما المهيب, لم يكن له أن يناله أحد, كما أن الأم لا تُنال, فالأم لم يتم نَيلها إلا في زمن ماض لا يتذكره أحد, و هكذا أصبحت أماً, غير أنها ليست امرأة الآن, إنها أم فقط, و عندما تنال فإن ذلك يحدث بارتعاشة من يتعبد لإلهه. أي أن المرأة هنا تسيطر, و للمرة الأولى, على الرجل في العملية الجنسية. هي المرأة التي يضاجعها الرجال بتوقير من يقبل يديها. هكذا تطفو ابتسامة ساخرة على شفاه المصريين عندما يقرأون على تسجيلاتها القديمة "الآنسة أم كلثوم", فهي ليست أنسة بالتأكيد و إلا لما كانت أماً, كما أنها في ذات الوقت ليست امرأة تنال, أو على الأقل لا تنال كما تنال سائر النساء, إنما مضاجعتها لابد أن تكون طقساً خاشعاً و متبتلاً. بسبب هذا تحديداً لا يتناول المصريون قصة زيجتيها بحماس وافر, بل و لا يعرفون الشيء الكثير عن تفاصيلهما.
يطلق المصريون على أم كلثوم بعفوية مطلقة "الست". هنا لا يعد وصف الست وصمة عار كما تشير كافة الكلمات الدالة على الأنوثة في لغتنا العربية, فتحديداً بإضافة ألف لام التعريف ينقلب المعنى كلية من كائن ضعيف و عاطفي و منتهك جنسياً, إلى ذروة السطوة (المعنوية غالباً و إنما القاهرة), هكذا تصبح هذه السيدة "الست" مرادفة لأم السلطان في العصور المملوكية, السيدة التي تدير كل شيء في القصر و يخضع لها السلطان كالطفل. غير أنه بالتحديد, يصبح اللفظ مقارباً لمعنى الإلهة الأم, أصل الوجود. و بسبب ذلك تحديدا, بسبب كونها إلهة أم, غير مرتبطة بزمن, لم يجد رجال الثورة أي حرج من سماعها بل و الجنون بها, هي التي غنت للملك بمنتهى الحماس من قبل, فالإلهة الأم تواجدت في زمن ماض مستمر, في الأزل, و هي لذلك صالحة لكل زمان و مكان, و عندما يخضع الجميع لقوانين الثورة الصارمة التي تجب ما قبلها فإن أم كلثوم هي الوحيدة التي تقف خارج هذه القوانين, كما تقف خارج الزمان و المكان.
و هكذا تلتقي أم كلثوم بعبد الحليم حافظ, عبد الحليم الشاب الرائع الذي أحبته الفتيات و المعذب بالبلهارسيا, الشاحب و المقدس لفنه, باختصار, الإله الشهيد (أوزريس أو تموز) الذي يستثير رحمة الكون عليه, لكونه شهيداً, و إعجابه به, لكونه إلهاً, في آن. تنقلب الفتيات إلى أمهات فورما تتطلعن إلى ذلك الصبي الذي يصر بعناد طفولي على أن يواصل الغناء برغم تحذيرات الأطباء و يتم الحفل ثم يسقط على الأرض نازفاً الدم من فمه. و سواء كان يفعل ذلك عامداً أم لا فإن ما يصل إلى المراهقات كونه يستحق ربتة عطف على وجه المنهك و على صوته العذب الضعيف. يثير عبد الحليم مشاعرالأمومة لدى الفتيات, كما بالضبط تثير أم كلثوم مشاعر البنوة لدى الرجال ذوي الشوارب. و عندما تلتقي الإلهة الأم الخالقة, و هي جدة إيزيس التي تعيد الخلق, بالإله الشهيد أوزوريس, فإنه يصبح واجباً على عبد الحليم أن يقبل يدي الست, بتبتل ابن أخطأ عندما أصر أن لا يحيي حفل عيد الثورة إلا هو. بانكسار في عينيه و بتقطيبة وقور لأم كلثوم التي تمد يديها برصانة نحو ابنها لكي يقبلهما.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟