أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - الأب ضد الأم وقصص أخرى















المزيد.....



الأب ضد الأم وقصص أخرى


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3715 - 2012 / 5 / 2 - 19:38
المحور: الادب والفن
    


الأب ضد الأم وقصص أخرى
قصص قصيرة للكاتب البرازيلى: ماشادو ده أسيس (1839-1908)
ترجمة: خليل كلفت

المحتويات
1: الأب ضد الأم (1905) ...................................................
2: المرآة (مسوَّدة لنظرية جديدة عن روح الإنسان) (1882) .....................
3: ماريانا (1891) ...........................................................
4: آدم وحواء (1885) ........................................................
5: الحياة ....................................................................

الكاتب فى سطور

چواكين ماريا ماشادو ده أسيس Joaquim Maria Machado de Assis (1839-1908): البرازيل
* روائى وقاص ولد وعاش فى ريو دى جانيرو. وهو الأب الحقيقى للأدب البرازيلى الحديث، ومؤسس الأكاديمية البرازيلية للآداب ورئيسها حتى وفاته.
* تربو مجلدات أعماله الكاملة على واحد وثلاثين مجلدا، غير أن شهرته العالمية تقوم على إنتاجه الروائى والقصصى والشعرى منذ 1880 وحتى وفاته، وتقوم بوجه خاص على رواياته الثلاث:
ـ مذكرات براس كوباس يكتبها بعد وفاته (1880).
ـ كينكاس بوربا - الفيلسوف أم الكلب؟ (1891).
ـ دون كازمورو (1900).
والروايتان الأخيرتان مترجمتان إلى العربية: كينكاس بوربا أو الفيلسوف أم الكلب؟، ترجمة: سامى الدروبى، و دون كازمورو، ترجمة: خليل كلفت.

1
الأب ضد الأم

جلبتْ العبودية معها حِرَفَها وأدواتها الخاصة بها، كما يحدث دون شك مع أىّ مؤسسة اجتماعية. وإذا ذكرتُ بعض الأدوات فهذا فقط لأنها مرتبطة بحرفة ما. تمثلتْ إحدى هذه الأدوات فى الطوق الحديدىّ، وتمثلتْ أخرى فى القيد الحديدىّ للرِّجْليْن، وكان هناك أيضا القناع المصنوع من صفيح القصدير.
كان القناع يعالج العبيد من رذيلة شُرْب الخمر عن طريق إحكام سدّ فواههم. وكانت له ثلاثة ثقوب، ثقبان للنظر من خلالهما، وثقب للتنفس، وكان يجرى ربطه وراء الرأس بقفل وسلسلة. وجنبا إلى جنب مع رذيلة شُرْب الخمر فقدوا إغراء السرقة، لأنه، فى العادة، كانت الڤينتينات المسروقة من سيِّدهم هى التى كانت تقتل عطشهم: كانت هنا خطيئتان جرى محوهما دفعة واحدة، وجرى تأمين الاتزان والأمانة. كان شيئا فظا، هذا القناع! غير أنه لا يتمّ دائما تحقيق نظام اجتماعىّ إنسانىّ دون ما هو فظ، وفى بعض الأحيان ليس دون ما هو قاسٍ. وكان السمكرية يعلقونها للبيع على أبواب وِرَشهم. ولكنْ دعونا لا نشغل أنفسنا بالأقنعة.
وكان الطوق الحديدىّ يُستعمَل للعبيد الهاربين. تصوَّرْ طوقا سميكا لكلب مصنوعا من الحديد بمقبض حديدىّ بارز، على اليمين أو اليسار، تماما حتى قمة الرأس. وكان أيضا يُقْفَل بقفل بمفتاح. وربما كان ثقيلا، غير أنه لم يكن عقابا بقدر ما كان تحديدا للهوية. فالعبد الهارب الذى يلبس مثل هذا القناع، مهما كان المكان الذى يذهب إليه، كان يظهر عليه أنه مُذْنب متحجر القلب، وكان من السهل القبض عليه.
وقبل نصف قرن، كان العبيد يهربون فى كثير من الأحيان. وكان هناك عبيد كثيرون، ولم يكونوا جميعا يحبُّون العبودية. وكان يحدث أحيانا ضربهم، ولم يكونوا جميعا يحبُّون الضرب. وكان جانب كبير منهم يجرى توبيخهم فقط: كان يوجد شخص ما فى المنزل يعمل كفيلا، ولم يكن المالك نفسه حقيرا دائما؛ وإلى جانب هذا، كان الإحساس بالملكية يلطِّف تصرفاته، لأن المال يُوجِع أيضا. ومع هذا كان الهروب يتواصل. وفى بعض الحالات، مع أنها ربما كانت نادرة، كان يحدث أن العبد المهرَّب، الذى يكون قد تمّ شراؤه فى سوق المُهَرِّبين فى ڤالونجو، ينطلق هاربا حتى دون أنْ يعرف شوارع المدينة. وكان العبيد الأكثر ذكاءً يتابعون سيرهم مُسالِمين إلى المنزل، حيث كانوا يطلبون من السيد أنْ يحدِّد سعرا لخدمتهم اليومية، ويخرجون ويكسبون رزقهم بالاشتغال متجولين فى الشوارع.
وكان الرجل الذى يهرب عبده يُعْطِى مبلغا صغيرا لأىّ شخص يُعِيده إليه. وكان يضع بلاغات فى الجرائد، مع وصف للهارب، اسمه، ملابسه، عيب بدنىّ، إنْ كان له، الحىّ الذى كان فيه، ومبلغ المكافأة. وعندما لا يكون المبلغ مذكورا، كان هناك وَعْد: "ستتمّ مكافأته بسخاء"، أو "سيتلقَّى مكافأة كبيرة". وفى كثير من الأحيان كان البلاغ يحمل فى أعلاه، أو فى أحد جوانبه، صورة قلمية عن شخص أسود، حافى القدميْن، هارب بعمود فوق كتفه وحزمة فى طرفه. وكان يهدِّد بالملاحقة بكل الإجراءات القضائية أىّ شخص يضربه.
وكما ترى، كان القبض على العبيد الهاربين حرفة من حِرَف ذلك الزمن. وربما لم تكن مهنة نبيلة غير أنها، كأداة للقوة التى تتمّ بها المحافظة على القانون وحقوق الملكية، كانت تتمتع بالنبل الآخر المتعلق بالدفاع عن الملكية الخاصة. ولم يتخذ أحد لنفسه هذه الحرفة بدافع مَيْل إليها، أو لأنه كان قد تدرَّب عليها. الفقر، الحاجة إلى قليل من النقود الإضافية، عدم الإعداد لعمل آخر، المصادفة، وفى بعض الأحيان، ومع مَيْلٍ طبيعىٍّ إلى الخدمة، وإنْ بطريقة مختلفة، كانت هذه الأشياء تمدّ بالحافز رجلا يشعر بأنه حازم بما يكفى للحدّ من الاضطراب والخطر اللذين يعانى منهما نظام.
وكانديدو نيڤيس – كاندينيو بالنسبة لأسرته – هو الشخص المرتبط بهذه القصة لهارب. كان قد استسلم للفقر عندما اتخذ لنفسه حرفة القبض على العبيد. وكان الرجل يعانى عيبا خطيرا: كان لا يستطيع أنْ يثابر على عمل أو حرفة. كان يعوزه الاستقرار؛ وكان يسمى ذلك ب "الحظ العاثر". بدأ باتخاذ قرار بأنْ يتعلم الطباعة ولكنه سرعان ما رأى أنه سوف يستغرق بعض الوقت ليصير مُنَضِّدًا جيدا، وحتى مع هذا فإنه لن يكسب ما فيه الكفاية. هذا هو ما قاله لنفسه. بعد ذلك جذبتْه التجارة، كانت مهنة ممتازة. وبقليل من الجهد حصل على عمل ككاتب فى دكان خردوات. غير أن واجب أنْ ينتظر بعبودية كل شخص وأىّ شخص كان يجرح كبرياءه. وبعد خمسة أو ستة أسابيع خرج، بملء إرادته، باحثا عن عمل. صرافا فى مكتب تسجيل، ساعيا فى إدارة فرعية للوزارة الإمپراطورية، كاتب مبيعات، وأعمال أخرى تركها بعد الحصول عليها بوقت قصير. عندئذ جاءت اللحظة التى وقع فيها فى حُبّ كلارا. لم يكن يملك شيئا سوى الديون – وليس الكثير جدا منها مع هذا، لأنه عاش مع ابن عمّ، حفار خشب من ناحية الحرفة. وبعد محاولات عديدة للحصول على عمل قرَّر أنْ يتخذ لنفسه حرفة ابن عمه، خاصة بعد أن أعطاه ابن عمه بالفعل قليلا من الدروس. غير أنه، لرغبته فى أنْ يتعلم بسرعة، تعلَّم بطريقة سيئة. ولم يكن يصنع قِطَعًا دقيقة أو مرهفة، كان فقط يحفر أقداما للأرائك وزخرفات بارزة بسيطة للكراسى. رغب فى عمل يقوم به عندما يغدو متزوجا، ولم يكن الزواج بعيدا كما اتضح فى النهاية.
كان فى الثلاثين من عمره، وكلارا فى الثانية والعشرين. وكانت يتيمة، وعاشت مع عمتها مونيكا. كانت المرأتان تعملان بالخياطة لكسب رزقهما. ولم تكن كلارا تقوم بكثير من الخياطة بحيث لم يكن لديها وقت لقليل من المغازلة. غير أن المعجبين بها كانوا يريدون فقط أنْ يقتلوا الوقت؛ ولم يكن لديهم أىّ تفكير أبعد من ذلك. كانوا يزورون فى الأصائل، ويرمقونها بنظرات غرامية، وترمقهم هى، إلى أنْ يجعلها الليل تدخل عائدةً إلى خياطتها. وكانت قد لاحظتْ أنه لا أحد منهم سبَّب لها أىّ تلهُّف أو أشعل أىّ شرارة هوًى بداخلها. وربما كانت لم تعرف حتى أسماء كثير منهم. وبالطبع كان الزواج فى عقلها. كانت، كما قالت لها عمتها، تصطاد السَّمك بصنارة لترى ما إذا كان السَّمك سيأكل الطُّعْم. غير أن السَّمك مرّ بها على مسافة ما. وإذا توقف أحد الأسماك، فإنما كان ذلك فقط ليدور حول الطُّعْم، ويتفحصه، ويشمّه، ويتركه، ويواصل طريقه إلى صنارات أخرى مُغْرية.
ويأتى الحب فى ظرف عليه اسم وعنوان. فعندما رأتْ الشابة كانديدو نيڤيس أحسَّتْ بأنه يمكن أنْ يكون زوجها، زوجها الحقيقىّ، الوحيد. حدث اللقاء فى حفلة رقص: كان ذلك – إذا تذكَّرنا الحرفة السابقة للشاب – الصفحة الأولى من ذلك الكتاب، الذى كان سيخرج من المطبعة مطبوعا بطريقة سيئة وبتغليف أسوأ. وحدث الزفاف بعد ذلك بأحد عشر شهرا، وكان الاحتفال الأفضل الذى تمتع به أقارب الزوجين الشابين فى يوم من الأيام. بعض صديقات كلارا حاولنَ، ليس بدافع الصداقة بقدر ما كان بدافع الحسد، إثناءها عن الخطوة التى كانت فى سبيل اتخاذها. لم يُنْكِرْنَ التصرفات الرقيقة لخطيبها، ولا الحب الذى كان يحمله لها، ولا حتى فضيلة أو فضيلتين؛ قُلْنَ إنه كان مستسلما أكثر مما ينبغى للَّهْو والحفلات.
"هذا أفضل كثيرا"، أجابت العروس. "على الأقل أنا لا أتزوج من جثة".
"لا، ليس جثة! الأمر ببساطة أن ..."
لم يَقُلْنَ ما هو الأمر. بعد الزواج، فى المنزل الفقير الصغير الذى اتخذه الزوجان والعمة مأوًى، أثارت العمة مونيكا، ذات يوم، إمكانية إنجاب أطفال. كانا يريدان طفلا، واحدا لا غير، حتى إذا كان هذا سيفاقم فقرهم.
"إذا أنجبتما طفلا"، قالت العمة لابن أخيها، "ستموتان جوعا".
"سيدتنا مريم العذراء فى السماء سوف تُطْعمنا"، رَدَّتْ كلارا بسرعة. وكان على العمة مونيكا أنْ تُعْطِى النصيحة، أو التحذير، عندما انتهى كانديدو إلى طلب يد الفتاة، غير أنها هى أيضا كانت مُغْرَمة باللهو والحفلات، وكان من المؤكد أنْ يكون الزفاف احتفالا كبيرا – وكان كذلك!
كانوا ثلاثتهم سعداء. ضحك المتزوجان حديثا على كل شيء. حتى أسماهما كانا موضوعين لتلاعبات لفظية: كلارا (ساطعة)، نيڤيس (الثلج)، كانديدو (أبيض). لم يُنْتِجا طعاما، لكنهما أنتجا الضحك، والضحك يتمّ هضمه دون جهد. كانت تخيط الآن أكثر؛ وكان يقوم بأعمال عارضة، بشيء أو آخر، لكنه لم يكن لديه عمل مضمون.
ومع هذا، لم يتخليا عن الأمل فى طفل. غير أن الطفل غير عارف بهذه الرغبة الخاصة، سمح لنفسه بأنْ يبقى مختفيا فى الأبدية. لكنه أعلن ذات يوم عن وجوده. ذكرا كان أم أنثى، كان الثمرة المباركة التى ستجلب للزوجين حظهما السعيد الذى كانا يتوقان إليه منذ وقت طويل. فزعتْ العمة مونيكا. وضحك كانديدو وكلارا على مخاوفها.
"سيساعدنا الرب، يا عمتى"، أصرَّت الأم المنتظَرة.
انطلقتْ الكلمة فى أنحاء الحىّ. ولم يكن هناك ما يفعلان سوى انتظار يوم فجرهما العظيم. كانت الزوجة تعمل الآن بإرادة، وكان من الضرورىّ أنْ تفعل ذلك، نظرا إلى أنه إلى جانب الخياطة لآخرين كان عليها أنْ تصنع ملابس للطفل، من القصاصات. ولأنها كانت تفكر فيه دائما، انتهت إلى أنْ تعيش به، فيما كانت تقيس أقمطته، قمصانه الصغيرة. كانت القصاصات قليلة وكان الدفع قليلا، وكانت الفترات بين الأمرين طويلة. ساعدتْ العمة مونيكا، لك أنْ تكون متأكدا، ولكنْ ليس دون تذمُّر.
"ستكون حياتكما كئيبة"، تنهدتْ.
"لكنْ ألا يُولَد أطفال آخرون؟"، سألتْ كلارا.
"يُولَدون، ويكونون ضامنين شيئا ما يأكلونه، وإنْ كان هذا قليلا جدا ..."
"ضامنين شيئا ما ..."
"ضامنين ... عملا، حرفة، ولكنْ فى أىّ شيء يضيِّع وقته أبُ هذا الطفل التعيس؟"
بمجرد أنْ علم كانديدو نيڤيس بتعليق العمة، ذهب إليها مباشرة. لم يكن وقحا معها، لكنه كان أقل لطفا من المعتاد بكثير. سألها ما إذا كان هناك مطلقا يوم لم تأكل فيه.
"لم تصومى مطلقا، يا سنيورا، إلا أثناء الأسبوع المقدس، وعندئذ لأنك لم تختارى أنْ تأكلى على مائدتى. لم نستغن مطلقا عن سمك القُدّ ..."
"أعرف، لكننا ثلاثة".
"سنكون أربعة".
"ليس نفس الشيء".
"ماذا تريديننى أنْ أفعل، أكثر مما أفعل؟"
"شيئا مضمونا أكثر. اُنظرْ إلى النجار الذى على الناصية، الشخص الذى يعمل فى دكان الخردوات، وعامل الطباعة الذى تزوج يوم السبت، كلُّهم لديهم عمل مضمون ... لا تغضبْ! أنا لا أقول إنك متسكِّع، ولكنْ المهنة التى اخترتَها ... إنها ليست ثابتة. أنت تستمر أسابيع دون أنْ تكسب ڤينتينًا واحدا".
"نعم، ولكنْ عندئذ تأتى ليلة تعوِّض كل شيء، وأكثر. الرب لن يتخلَّى عنى، والعبيد الهاربون يعلمون أننى لستُ مَنْ يعبث به أحد. لا أحد منهم مُعَدّ للقتال، وكثير منهم يسلِّمون أنفسهم فى الحال". افتخرَ بهذا، وتحدَّث عن الآمال وكأنها رأس مال فعلىّ فى البنك. وخلال دقائق قليلة كان يضحك، وجعل العمة تضحك أيضا. كانت ذات مزاج سعيد بطبيعتها، وتوقعتْ حفلا فى التعميد.
كان كانديدو نيڤيس قد تخلَّى عن حرفة حفر الخشب، مثلما كان قد تخلَّى عن مهن أخرى كثيرة، أفضل وأسوأ. وكان القبض على العبيد الهاربين يحمل سحرا غريبا له. لم يُجْبِره على أنْ يبقى جالسا على مقعد ساعات طويلة بلا انقطاع. كان كل ما يحتاج إليه هو القوة، وعيْن سريعة الملاحظة، والصبر، والجرأة، وقطعة حبل. كان يقرأ البلاغات، وينسخ منها، ويضعها فى جيبه، وينطلق باحثا. وكان يتمتع بذاكرة جيدة. وبالمظهر الجسمانىّ للعبد وبعاداته فى ذهنه بقوة، كان لا يكاد يفقد وقتا فى العثور عليه، والإمساك به، وربطه، وأخذه إلى مالكه. وكانت القوة هى النقطة الكبيرة، وخفة الحركة أيضا. أكثر من مرة، فيما كان يقف على ناصية شارع، يتحدث عن أمور أخرى، كان يرى عبدا يمرّ، مثل عبيد آخرين، وكان يعرف على الفور أنه فى طريقه إلى الهرب، مَنْ يكون، اسمه، مالكه، عنوان هذا الأخير ومبلغ المكافأة: كان يقطع حديثه ويتعقَّب المجرم. ولم يكن يقبض عليه فى الحال، بل كان ينتظر المكان المناسب واللحظة المناسبة، وعندئذ وبقفزة واحدة كانت المكافأة تصير فى جيبه. ولم يكن يخرج من ذلك دائما بدون فقدان بعض دمه، ذلك أن أظافر العبد وأسنانه كانت تشرع فى القتال، غير أنه كان يقبض عليهم عادةً دون خدشة واحدة.
ثم أخذتْ المكاسب تتضاءل. لم يَعُدْ العبيد الهاربون يأتون ويلقون بأنفسهم بين يدىْ كانديدو نيڤيس. وكانت هناك أيدٍ ماهرة جديدة. ومع نموّ المهنة، أقدم فجأة أكثر من شخص عاطل وحصل كل منهم على حبل، وذهبوا إلى مكاتب الصحف، ونسخوا إعلانات، وانضموا إلى المطاردة. وصار له أكثر من منافس فى حَيِّه ذاته. ويعنى هذا أن ديون كانديدو نيڤيس بدأتْ تزداد، ولم يكن هناك أىّ سداد عاجل، أو عاجل تقريبا، كما كان الحال من قبل. صارت الحياة شاقة وأليمة، وكان الطعام قليلا وفقيرا، فكانوا لا يأكلون بانتظام. وأرسل صاحب المنزل يطلب الإيجار المتأخر.
وقلما كانت كلارا تجد وقتا ترفو فيه ملابس زوجها، ذلك أن ضرورة خياطةٍ مقابل المال كانت كبيرة. وكانت العمة مونيكا تساعد ابنة أخيها بالطبع. وعندما كان نيڤيس يأتى إلى البيت بعد الظهر كانتا تفهمان من وجهه أنه لم يكسب ڤينتينًا واحدا. وكان يتناول الغداء ويخرج من جديد بحثا عن عبد هارب. بل كان يحدث، وإنْ لم يكن فى كثير من الأحيان، أنْ يرتكب خطأً فيقبض على عبد مخلص يشرع فى القيام بأعمال سيِّده: كان عَمَى الضرورة يصل إلى هذا الحدّ. وفى مناسبة بعينها، ألقى القبض على زنجىّ حرّ؛ وذاب فى ألف اعتذار، غير أنه لم يَفُتْهُ الضرب على أيدى أقاربه.
"هذا كل ما كان ينقصك!" صاحت العمة مونيكا عندما رأته يدخل من الباب. وبعد أنْ سمعتْ عن خطئه وعواقبه، أضافت: "اُتْرُكْ هذا، يا كانديدو. ابحثْ عن عمل آخر".
والواقع أن كانديدو كان يودّ أنْ يقوم بأىّ شيء آخر. ليس للسبب الذى أشارت إليه العمة مونيكا، بل لمجرد الرغبة فى تغيير حرفته. كان هذا سيكون طريقة لتغيير جلده، أو شخصيته. وكانت المشكلة أنه كان لا يعرف مهنة يمكن أنْ يتعلمها بسرعة.
واصلتْ الطبيعة سيرها فى طريقها؛ أخذ الجنين ينمو، وصار عبئا على أمه قبل أنْ يُولَد. كان ذلك هو الشهر الثامن، وكان شهرا من الاضطراب والحرمان، وكان مع هذا أقلّ فى ذلك من الشهر التاسع، وهذا أيضا ما أستغنى عن سرده. ومن الأفضل أنْ نروى المحصلة فقط: لم يكن من الممكن أنْ يكون هناك ما هو أكثر مرارة.
"لا، يا عمة مونيكا!"، صرخ كانديدو، رافضا نصيحة منها، من المؤلم لى أنْ أكتبها – وكم من الصعب على الأب أنْ يسمعها! "أبدا! لن أفعل هذا أبدا!"
ففى الأسبوع الأخير من ذلك الشهر الأخير المفزع، نصحتْ العمة مونيكا الزوجين بحمل الطفل الذى كان على وشك أنْ يُولَد ليُوضَع فى غرفة اللقطاء(1). وما كانت لتوجد كلمة أقسى يمكن أنْ يسمعها والدان شابّان، عندما كانا ينتظران بتلهُّف طفلهما، ليقبِّلاه، ليسهرا عليه، ليرياه يضحك، ينمو، يَسْمن، ليقفزا فرحًا حوله ... أنْ يتركاه؟ ماذا تعنى بأنْ يتركاه؟ حملق كاندينيو فى وجهها، وانتهى بالضرب بقبضته على مائدة الطعام. المائدة، التى كانت قديمة، وضعيفة المفاصل، ومحطَّمة تقريبا. وقاطعتْ كلارا.
"عمتى لا تعنى أىّ أذًى، يا كاندينيو".
"أذًى؟" ردَّت العمة مونيكا بسرعة. "أذًى أو خير، لا يهمّ ما أعنيه، أنا أقول إن هذا أفضل شيء يمكنك عمله. أنتَ مدين للجميع. اللحم والفاصوليا على وشك النفاد. وإذا لم نحصل على بعض المال، كيف يمكن أنْ تنشأ عائلة. وبالإضافة إلى هذا، يوجد وقت. فيما بعد، عندما يكون عندك مورد رزق مضمون أكثر، يا سيدى، سوف تستقبل الأطفال الذين سيُولَدون بنفس الحب الذى تشعر به الآن، أو بحبّ أكبر. وسيتلقَّى ذلك الطفل تربية أفضل، ولن يحتاج إلى أىّ شيء. وعلى كل حال فإن غرفة اللقطاء ليست ساحلا قاحلا، أو مقلب زبالة، أليس كذلك؟ لا أحد يُقْتَل هناك، لا أحد يموت هناك دون سبب وجيه، بينما هنا من المؤكد أنْ يموت، حيث سيعيش على لاشيء تقريبا. وعلى كل حال ..."
أنهتْ العمة مونيكا الجملة بهزّة استخفاف من كتفيْها، واستدارت، وذهبتْ إلى حجرة نومها. وكانت قد لَمَّحَتْ إلى هذا الحل من قبل، غير أن هذه كانت المرة الأولى التى تحدثتْ فيها عن ذلك بمثل هذه الصراحة وهذه الروح – بمثل هذه القسوة، إنْ شئتَ. مدَّت كلارا يدها إلى زوجها، كأنما لكىْ تُقَوِّى شجاعته.
حنان الزوجين الشابَّيْن قاطعه شخص يطرق باب الشارع.
"من الذى يطرق؟"، نادى الزوج.
"إنه أنا".
كان صاحب البيت، الذى كان دائنا بأجر ثلاثة أشهر. وكان قد جاء شخصيا ليهدد مستأجره. وطلب منه هذا الأخير أنْ يدخل.
"لا ضرورة لذلك ...."
"من فضلك!"
دخل الدائن ولكنه رفض أنْ يجلس. ألقى نظرة خاطفة حوله إلى الأثاث ليرى كم يمكن أنْ يجلب. واستنتج، قليلا جدا. قال إنه جاء من أجل الإيجار المتأخر، ولم يتوقع أكثر؛ ولكنْ إذا لم يُدْفَع فى بحر خمسة أيام فإنه سوف يطرده إلى الشارع. فهو لم يعمل بجد لمجرد متعة أنْ يجعل الآخرين يعيشون فى ترف. وإذا نظر إليه شخص فإنه لم يكن بوسعه أنْ يقول إنه صاحب مِلْك، غير أن كلماته عوّضتْ عما كان ينقص مظهره، وفضَّل كانديدو نيڤيس أنْ يبقى صامتا بدلا من أنْ يُدْلِى بأىّ رد. وانحنى برأسه فى إشارة فى وقت واحد بالوعد والتوسل. ولم يتزحزح صاحب البيت قِيدَ أنملة.
"خمسة أيام، أو تخرج"، كرر، واضعا يده على المزلاج، وانصرف.
انصرف كاندينيو من باب آخر. وفى مثل هذه الأزمات لم يصل مطلقا إلى نقطة اليأس. كان يعتمد على دَيْن. ولم يكن يعرف كيف سيحصل عليه، غير أنه كان يعتمد عليه. وذهب أيضا وفحص بلاغات العبيد الهاربين. كان هناك عدد منهم، بعضهم قدماء، أشخاص سبق أنْ بحث عنهم دون نجاح. وقضى ساعات عديدة بلا هدف، وعاد إلى البيت. وعند نهاية أربعة أيام، كان ما يزال لم يضع يده على النقود. وحاول الحصول على دعم مؤثر، فذهب إلى أشخاص على علاقة طيبة بصاحب البيت، غير أن كل ما حصل عليه كان إشارة إلى أنْ يرحل.
كان الموقف حادًّا. لم يستطيعوا العثور على منزل. ولم يأخذوا فى اعتبارهم أىّ شخص يُقْرضهم واحدا. وكانوا سيُطرَدون إلى الشارع. ولم يأخذا فى اعتبارهما عمتهما. وكانت لدى العمة مونيكا مهارة الحصول على مسكن لثلاثتهم فى بيت سيدة عجوز غنية كانت مستعدة للسماح لهم باستعمال بعض الغُرَف تحت مسكنها، فى الجزء الخلفىّ من إسطبل، فى حوش داخلىّ. بل كانت عند العمة مونيكا المهارة الأكبر حيث لم تُخْبِر الزوجين الشابين بذلك، حتى يقوم كانديدو نيڤيس، يائسا بشأن الأزمة، بالبدء فى التخلِّى عن الطفل والانتهاء إلى الحصول على طريقة ما آمنة ومنتظمة فى كسب العيش – وإصلاح حاله، باختصار. وأصغتْ إلى شكاوى كلارا، صحيح دون أنْ تنضم إليها، ولكنْ دون أنْ تواسيها أيضا. وفى اليوم الذى كان عليهم الرحيل فيه كان بوسعها أنْ تدهشهم بنبأ عطف السيدة العجوز، وكان بوسعهم الحصول على مكان ينامون فيه أفضل مما كانوا يأملون.
هذا ما حدث. مطرودين من منزلهم، ذهبوا مباشرة إلى المسكن الذى أُعِير لهم، وبعد يومين وُلِدَ الطفل. كان ابتهاج الأب هائلا، وكانت كذلك تعاسته. وأصرَّتْ مونيكا على أنْ يضعوا الطفل فى غرفة اللقطاء.
"إذا كنت لا تريد أنْ تأخذه بنفسك، دعْنى أقوم أنا بذلك. سأذهب إلى شارع باربونوس".
توسَّل إليها كانديدو نيڤيس ألا تذهب، وأنْ تنتظر، سيأخذه بنفسه.
لاحظوا من فضلكم أن الطفل كان صبيًّا، وأن كلا الوالدين كانا يريدان ذلك النوع. كانوا قد أرضعوه منذ قليل، ولأنه حدث أن السماء كانت تمطر فى تلك الليلة، قال الأب إنه سيأخذه إلى غرفة اللقطاء فى الليلة التالية.
قضى باقى المساء فى مراجعة مذكراته عن العبيد الهاربين. وكانت مكافآت الجانب الأكبر منها فى شكل وعود غامضة. وذكر قليلون المبلغ الدقيق – وكانت مبالغ هزيلة. غير أن إحدى المكافآت وصلتْ إلى مائة ميلريِيس. وكانت عن امرأة خلاسية. وكان هناك وصف لمظهرها وملبسها. وكان كانديدو نيڤيس قد بحث عنها دون نجاح، وكان قد يئس؛ وتخيَّل أن عاشقا ما يخبئها. والآن، رغم ذلك، حفزه الاطلاع على المبلغ والحاجة إليه على بذل جهد كبير أخير.
خرج فى الصباح التالى ليبحث ويقوم باستفسارات على طول شارع كاريوكا وميدانه، وعلى طول شارع پارتو وشارع أچودا، حيث شوهدتْ مؤخرا وفقا للبلاغ. ولم يعثر عليها. فقط تذكَّر صيدلىٌّ، فى شارع أچودا، أنه باع أوقية من عقار ما، قبل ثلاثة أيام، لامرأة تتفق مع هذا الوصف. تحدث كانديدو نيڤيس وكأنه مالك الأَمَة (العبدة) وشكر الرجل بلطف على المعلومات. ولم يكن له حظ أفضل مع هاربين آخرين كانت المكافأة الخاصة بهم غامضة أو زهيدة.
عاد إلى البيت إلى المأوى البائس الذى أُعِير لهم. كانت العمة مونيكا قد أعدَّتْ بنفسها وجبة للأم الشابة، وكانت قد أعدَّتْ الرضيع للحمل إلى غرفة اللقطاء. الأب، رغم الاتفاق، كان لا يكاد بوسعه أنْ يُخْفِى حزنه أمام المشهد. ورفض أنْ يأكل ما أبقتْه العمة مونيكا له. قال إنه ليس جائعا، وكان صادقا. كان قد فكَّر فى ألف طريقة لينقذ ابنه من غرفة اللقطاء. ولم تكن لأىّ طريقة منها قيمة. ولم يكن بوسعه أنْ ينسى الكهف الذى كانوا يعيشون فيه. تكلم مع زوجته، التى اتضح أنها استسلمتْ. كانت العمة مونيكا قد صوَّرتْ لها ماذا ستكون حياة الطفل الرضيع معهم: ستعنى فقرا أشدّ، وعلى الأرجح سيكون محكوما على الطفل بالموت. وكان على كانديدو نيڤيس أنْ يفى بوعده. طلب من زوجته أنْ تُعْطِى طفلهما اللبن الأخير الذى سيشربه من ثدى أمه. بعد أنْ تمّ هذا، سقط الطفل نائما، والتقطه الأب وخرج فى اتجاه شارع باربونوس.
من المؤكد أنه فكَّر أكثر من مرة فى الاستدارة عائدا به. ومن المؤكد بصورة لا تقلّ عن هذا أنه ضمَّه إلى صدره بقوة، وأنه قبَّله، وأنه غطى وجهه ليمنع عنه هواء الليل. وعندما انعطف متجها إلى شارع جوارديا ڤيليا، بدأ يبطئ خطوه.
"سأعطيه لهم فى وقت متأخر بأقصى قدر ممكن"، غمغم.
ولكنْ، لأن الشارع لم يمتدّ إلى اللانهاية، أو حتى إلى مسافة بعيدة، كان لا مناص من أنْ يصل إلى آخره. وإنما عندئذ خطر له أنْ يذهب عن طريق أحد الأزقة التى تربط ذلك الشارع بشارع أچودا. وعندما وصل إلى آخر الزقاق وكان يوشك على أنْ يستدير إلى اليمين فى اتجاه قبالة شارع أچودا، رأى الشبح الغامض لامرأة أمامه بالضبط. كانت هى الخلاسية الهاربة. لن أصف اهتياج كانديديو لأننى لن أُنصفه فى ذلك. فليكنْ نعتٌ واحد كافيا، دعنا نقول فقط إنه كان هائلا. ولأن المرأة كانت تسير هابطة الشارع، سار هو، أيضا، هابطا الشارع. وعلى مسافة خطوات كانت توجد الصيدلية التى كان قد حصل منها على المعلومات التى ذكرتُها أعلاه. دخلها، ووجد الصيدلىّ، وسأله عما إذا كان يمكنه أنْ يتكرم بالعناية بالطفل الرضيع دقيقة واحدة: سيعود بالتأكيد.
"ولكنْ ..."
لم يُعْطِه كانديدو نيڤيس وقتا ليقول أىّ شيء، واندفع خارجا، وعبر الشارع ليصل إلى مكان يمكن فيه أنْ يقبض على المرأة دون أنْ يصدر عنه تنبيه. وفى آخر الشارع، عندما كانت على وشك الاستدارة إلى شارع سان چوزيه، اقترب منها. كانت هى، كانت المرأة الخلاسية الهاربة.
"آرميندا!"، نادى؛ كان ذلك هو الاسم المذكور فى الإعلان.
استدارت، دون أنْ ترتاب مطلقا فى أىّ شيء. فقط عندما أخرج الحبل من جيبه وقبض على ذراعيْها فهمتْ الفتاة الأَمَة وحاولتْ الهرب. وفى تلك اللحظة، كان هذا مستحيلا. فبيديْه القويتين ربط كانديدو نيڤيس معصميْها. وطلب منها أنْ تواصل المشى. كانت على وشك أنْ تصرخ، بل حتى أطلقتْ صرخة عالية إلى حد ما، عندما أدركتْ فجأة أنه لن يأتى أحد لتخليصها، بل العكس تماما. توسلتْ إليه عنئذ أن يتركها تذهب، لوجه الله.
"أنا حبلى، يا سيدى العزيز!"، صرختْ باكيةً. "إذا كان عند سيادتك طفل، أتوسل إليك، إكراما له، أنْ تدعنى أذهب. سأكون جاريتك، سأخدمك طالما شئتَ. دعنى أذهب أيها السيد الشاب! دعنى أذهب!"
"لا تتركينى أنتظر! تقدَّمِى!"
كان هناك صراع عندئذ، لأن الأَمَة تراجعتْ إلى الخلف، وهى تئنّ، جارَّة نفسها وطفلها غير المولود. وفهم أىّ شخص عابر أو واقف عند باب دكان ما الأمر وبالطبع لم يأتِ لإنقاذها. قالت آرميندا ل كانديدو إن سيدها رجل حقير للغاية وربما ستجعلهم يضربونها بالسياط، وفى حالتها سيكون ذلك مؤذيا أكثر كثيرا. نعم، لا شك فى أنه سوف يأمر بجلدها بالسياط.
"اللوم يقع عليك أنتِ. مَنْ قال لك أن تنجبى أطفالا ثم أنْ تهربى؟" سأل. لم يكن فى مزاج مزاح، بسبب طفله الرضيع الذى تركه هناك فى الصيدلية، فى انتظاره. ومن المؤكد أيضا أنه لم يكن من عادته إلقاء خُطَب طويلة. ظل يجرّ المرأة الأَمَة هابطا شارع أوريڤيس فى اتجاه شارع أفلانديجا، حيث كان منزل سيدها. على ناصية ذلك الشارع، ازداد صراعها: وضعتْ قدميْها فى مواجهة جدار منزل بقوة هائلة، ولكن ذلك كان بلا فائدة. كل ما كسبتْه كان تأخير قليل من الدقائق فى الوصول إلى المنزل، الذى كان قريبا بالفعل. وأخيرا وصلتْ – مجرورةً، يائسةً، لاهثة الأنفاس. وحتى هناك نزلتْ زاحفة على ركبتيْها، ولكنْ دون جدوى. كان السيد بالمنزل وجاء جاريا للإنقاذ على الضجة والصياح باسمه.
"ها هى الهاربة من عندك"، قال كانديدو نيڤيس.
"إنها هى، صحيح".
"سيدى العزيز!"
"تعالى، اُدْخلى ..."
سقطتْ آرميندا فى المدخل. فتح سيدها محفظته وأخرج مكافأة المائة ميلريِيس. وضع كانديدو نيڤيس الورقتين من فئة خمسين ميلريِيس فى جيبه بعناية فيما كان السيد يطلب من الأَمَة مرة أخرى أنْ تدخل. وهناك، على الأرضية التى كانت قد سقطتْ عليها، مدفوعة بالخوف والألم، وبعد شيء من الصراع، أجهضتْ جنينها. ثمرة بعض الشهور دخل هذا العالم بلا حياة، بين تأوُّهات أمه والبوادر اليائسة لمالكه. شهد كانديدو نيڤيس المشهد كله. لم يعرف كم من الوقت استغرق ذلك. ومهما كانت الساعة، كان من الملحّ العاجل أنْ يجرى مباشرة إلى شارع أچودا، وهذا ما فعله، دون أنْ يهتمّ بمعرفة النتائج.
عندما وصل إلى الصيدلية وجد الصيدلىَّ وحيدا ولا علامة على الطفل. كان كانديدو نيڤيس مستعدًّا لخنقه. ولحسن الحظ شرح الرجل كل شيء فى الوقت المناسب. كان الطفل بالداخل مع أسرة الصيدلىّ، وذهبا كلاهما إلى الداخل هناك. أخذ الأب ابنه بنفس العنف الشديد الذى قبض به على الأَمَة الهاربة قبل وقت قصير – نوع مختلف من العنف بالطبع، عنف الحب. غمغم بكلمات شكر قليلة وانصرف بسرعة – ليس فى اتجاه غرفة اللقطاء، بل فى اتجاه المسكن المقترَض - مع ابنه، ومكافأة مائة ميلريِيس.
سامحتْه العمة مونيكا على عودته بالطفل، بعد أن سمعتْ التفسير، نظرا لأنه جلب معه مائة ميلريِيس. وصحيح أنه كانت لديها أشياء قاسية تقولها ضد المرأة الأَمَة بسبب إجهاضها، وكذلك بسبب هروبها. أمطر كانديدو نيڤيس ابنه بقبلات وبدموع، وبارك الأَمَة على هروبها. ولم يُبْدِ أىّ اهتمام بشأن الإجهاض.
"لا حظّ لكل الأطفال فى أنْ يُولَدوا!"، كانت تلك هى الكلمات التى خفق بها قلبه له.

إشارة
(1) غرفة اللقطاء: غرفة الأطفال الرُّضَّع المتروكين فى مستشفى، إلخ. – المترجم.

*****
2
المرآة
(مسوَّدة لنظرية جديدة عن روح الإنسان)

جلس أربعة أو خمسة سادة يتناقشون، ذات ليلة، حول مسائل متباينة ذات طبيعة ترانسندنتالية عليا ـ ولكن دون أن يكون لأىّ آراء يعبرون عنها أدنى تأثير على أمزجتهم. وكان المنزل يرتفع فوق تل سانتا تريزا؛ وكانت حجرة الجلوس الصغيرة المضاءة بشموع ضاع لمعانها بصورة مبهمة فى ضوء القمر الذى أتى من الخارج. وبين المدينة باضطرابها الشديد الذى لا يهدأ ومغامراتها، والسماء حيث كانت النجوم تومض، فى جو صاف هادئ، جلس باحثونا الأربعة أو الخمسة فى الأمور الميتافيزيقية يحلون بكل مودّة أعقد المشكلات الشائكة للكون.
لماذا أربعة أو خمسة؟ الواقع أن أربعة كانوا يتكلمون، غير أنه بالإضافة إليهم كان يوجد فرد خامس فى الحجرة، وكان يجلس صامتا، مستغرقا فى التفكير، ونصف نائم. ولم تتجاوز مساهمته فى المناقشة شهقة موافقة من وقت لآخر. وكان فى نفس عمر رفاقه ـ بين الأربعين والخمسين، وكان ريفيا، رأسماليا، ذكيا، لا ينقصه التعليم، وكان، كما قد يبدو، فطنا وساخرا. ولم يكن يشترك مطلقا فى مناقشات، معتذرا بمفارقة. كان يقول إن المناقشة هى الشكل المهذب لغريزة القتال التى تترسخ بعمق فى الإنسان كميراث وحشى، وكان يضيف أن ملائكة الشيروبيم والسيرافيم لم تدخل مطلقا فى مجادلات، وأنها كانت آيات الكمال الروحى والأبدى.
ولأنه قدم هذا العذر نفسه فى تلك الليلة ذاتها فقد هاجمه أحد أولئك الحاضرين وتحداه أن يدعم موقفه بمثال ـ لو استطاع. فكّر چاكوبينا (وكان هذا اسمه) لحظة وأجاب:
- إذا أخذنا كل شيء فى الاعتبار فربما كان ما تسأل عنه، يا سيدى، معقولا فى النهاية.
وعندئذ حدث فجأة، فى منتصف الليل، أن هذا الشخص الغريب الانطوائى بدأ يتحدث ليس دقيقتين أو ثلاث دقائق بل على مدى ثلاثين أو أربعين دقيقة.
وأخيرا انتهى الحديث، فى سياق تعرجاته، إلى طبيعة الروح، وهذا موضوع جعل الأصدقاء الأربعة يختلفون جذريا. "رؤوس كثيرة جدا، آراء كثيرة جدا". وليس فقط الاتفاق بينهم بل حتى النقاش صار صعبا، إن لم يكن مستحيلا، بسبب الكثرة من الأسئلة التى تفرعت من الجذع الرئيسى للمناقشة ـ وربما، جزئيا، بسبب عدم تماسك الحجج. وتوسل أحد المتجادلين إلى چاكوبينا أن يعطى رأيا من نوع ما، أىّ نوع ـ حدسا، على الأقل. رد قائلا:
- لا حدس ولا رأى. فأىٌّ منهما يمكن أن يقود إلى الخلاف، وأنا، كما تعرف، لا أجادل مطلقا. ولكن إذا أردتم أن تسمعونى فى صمت، يمكننى أن أقص عليكم حادثا من حياتى سوف يوضح كل طبيعة المسألة المطروحة للبحث. أولا، ليس هناك روح واحد، بل اثنان...
- اثنان؟
- ليس أقل من روحين اثنين. كل كائن بشرى يحمل معه روحين: روح ينظر من الداخل إلى الخارج وآخر ينظر من الخارج إلى الداخل... اندهشوا كما شئتم، افغروا أفواهكم، هزّوا أكتافكم، أىّ شيء... ولكنْ لا تحاولوا أن تردوا علىّ. إذا حاولتم أن تجادلوا حول هذا الموضوع، سأنتهى من سيجارى وأعود إلى البيت لأنام. والروح الخارجى يمكن أن يكون شبحا، سائلا، رجلا، رجالا كثيرين، شيئا، نشاطا. وهناك حالات، على سبيل المثال، يكون فيها مجرد زرار قميص كل الروح الخارجى لشخص ـ وقد يكون رقصة الپولكا، لعبة ورق الأومبر، كتابا، آلة، زوجا من البوت، لحنا، طبلة، إلخ.. ومن الواضح أن وظيفة هذا الروح الثانى هى، مثل وظيفة الروح الأول، أن تبثّ الحياة. وهما كلاهما يكملان الإنسان، الذى هو، إذا تحدثنا من الناحية الميتافيزيقية، برتقالة. إنّ مَنْ يفقد أحد النصفين، يعانى بطبيعة الحال فقدان نصف وجوده. وهناك حالات ـ وهى ليست نادرة على الإطلاق ـ كان فقدان الروح الخارجى فيها يعنى فقدان الوجود بأكمله. شايلوك، مثلا، كان الروح الخارجى لذلك اليهودى يتمثل فى دوقاته(1)؛ وكان فقدانها يساوى الموت. وهو يقول لتوبال: "لن أرى ذهبى مطلقا مرة أخرى" و"أنت تغرز خنجرا فى قلبى". فكروا فى هذا التعليق بعناية: فقدان الدوقات، روحه الخارجى، كان الموت بالنسبة له. ويجب أن تفهموا، بالطبع، أن الروح الخارجى لا يبقى دائما نفس الشيء...
- لا؟
- لا، يا سيدى. إنه يمكن أن يغير طبيعته وحالته. أنا لا أتحدث عن بعض الأرواح المستحوذة، مثل وطن المرء، الذى أعلن كامونس أنه يموت معه، أو السلطة الدنيوية، التى كانت الروح الخارجى لقيصر وكرومويل. فهذه أرواح فعالة مستأثرة؛ غير أن هناك أخرى مع أنها مليئة بالنشاط فهى ذات طبيعة متغيرة غير ثابتة. وهناك أشخاص، مثلا، روحهم الخارجى فى سنواتهم الأولى شُخْشيخة أو حصان خشبى، وفيما بعد، لنفترضْ، كان يتمثل فى الرئاسة الشرفية لمؤسسة خيرية. ومن ناحيتى، أعرف سيدة ـ فتاة فاتنة حقا ـ تغير روحها الخارجى خمس، ست مرات فى السنة. أثناء موسم الأوپرا يتمثل فى الأوپرا. وعندما ينتهى هذا الموسم يتم تبديل هذا الروح الخارجى بآخر ـ حفلة موسيقية، حفلة رقص فى الكازينو، فى شارع أوڤيدور، فى پتروپوليس...
- اعذرونى، ولكن هذه السيدة... مَنْ هى؟ هذه السيدة من أقارب الشيطان، ولها نفس الاسم. اسمها ليچياون... وهناك حالات كثيرة مماثلة. أنا نفسى مررت بمثل هذه التغيرات فى الروح. ولن أحاول أن أصفها هنا، لأن هذا سوف يستغرق وقتا طويلا جدا. وسأكتفى بالحدث الذى ذكرته لكم. وقد جرى وأنا فى الخامسة والعشرين من عمرى...
ومتلهفين على سماع القصة الموعودة، نسى الأصدقاء الأربعة جدالهم. أيها الفضول المبارك! أنت لست فقط روح الحضارة بل أيضا تفاحة الانسجام، ثمرة إلهية وبمذاق مختلف للغاية عن التفاحة الميثولوچية الشهيرة! الحجرة التى كانت إلى الآن صاخبة بالفيزياء والميتافيزيقا، صارت الآن ساكنة سكون الموت. كل العيون كانت على چاكوبينا، الذى نفض الرماد عن سيجاره فيما كان يستجمع ذكرياته. ثم بدأ يروى:
- كنت فى الخامسة والعشرين من عمرى فى ذلك الحين، وكنت فقيرا، وكانت قد تمت ترقيتى قبل فترة قصيرة إلى رتبة الملازم الثانى فى الحرس الوطنى. ولا يمكنكم أن تتصوروا أىّ حدث كان هذا فى منزلنا. كانت أمى فخورة جدا! وسعيدة جدا! وظلت تنادينى ملازمها. أبناء وبنات العم والخال، الأعمام والعمات، والأخوال والخالات... كانت فرحة صافية خالصة تماما. صحيح أنه فى القرية كان هناك بعض الأشخاص الناقمين، والنحيب، والعويل، وصرير الأسنان، كما فى الكتاب المقدس. ولم يكن من الصعب التوصل إلى الدافع: كان هناك مرشحون كثيرون لهذا المنصب وقد فقده هؤلاء الأشخاص. وأنا أفترض، أيضا، أن جانبا من استيائهم كان مجانيا تماما، ليس وليد أىّ شيء أكثر من مجرد التميز. وأتذكر أن بعض الشبان من معارفى كانوا، لفترة ما، ينظرون إلىّ بارتياب عند مرورهم بى فى الشارع. ومن ناحية أخرى كان هناك كثيرون سعداء بالتعيين، والدليل هو أن بعض الأصدقاء أهدوا إلىّ زيا عسكريا كاملا... وحدث عندئذ أن إحدى خالاتى، دونا ماركولينا، أرملة الكاپتن پيسانيا، وكانت تعيش على بعد فراسخ عديدة من القرية فى منطقة ريفية بعيدة منعزلة، أرادت أن ترانى وتوسلت إلىّ أن آتى إلى مكانها وأن أحضر زيِّى الرسمى. ذهبتُ يرافقنى أحد العبيد، وقد عاد إلى القرية بعد ذلك بأيام قليلة لأن الخالة ماركولينا، بمجرد أن أتت بى إلى بيتها، كتبت إلى أمى أنها لن تتركنى أذهب لمدة شهر على الأقل. وكيف عانقتنى! وهى، أيضا، ظلت تنادينى ملازمها. وأصدرت حكما بأننى شيطان وسيم (كانت امرأة مرحة، خالتى) وأعلنت أنها تحسد الفتاة التى ستصير زوجتى ذات يوم. وأقسمتْ أنه لا يوجد رجل فى الإقليم كله يمكن مقارنته بى. وكان هناك دائما "الملازم": الملازم هنا، الملازم هناك، الملازم فى كل ثانية. توسلت إليها أن تدعونى چوازينيو، كما اعتادت أن تفعل. هزت رأسها، صارخة، "لا"، قائلة إننى "السنيور الملازم". أخ لزوجها، أخ للمرحوم پيسانيا، وكان يعيش هناك، لم يخاطبنى مطلقا بأىّ طريقة أخرى. إنه "السيد الملازم"، ليس بمزاح، بل بجدية، وأمام العبيد، الذين فعلوا بالطبع نفس الشيء. وعلى المائدة كان يخصصون لى مكان الصدارة وكنتُ أول من يقدَّم إليه الطعام. لا يمكنكم أن تتصوروا! إذا كان لى أن أروى لكم أن حماس الخالة ماركولينا ارتفع إلى درجة أنها جعلتهم يركّبون فى حجرة نومى مرآة ضخمة! وكانت قطعة أنيقة وفخمة برزت متنافرة مع أثاثات باقى المنزل، التى كانت بسيطة ومتواضعة... وكانت مرآة كانت قد أعطتها إياها أمها فى العماد، التى كانت قد ورثتها من أمها، التى كانت قد اشترتها من إحدى النبيلات البرتغاليات اللائى جئن إلى البرازيل مع حاشية دون چوان السادس فى 1808. ولا أعرف نصيب الحقيقة فى كل هذا: كان هذا هو التراث العائلى. وعلى كل حال كانت المرآة قديمة جدا؛ لكنْ كان ما يزال بإمكانك أن ترى الذهب، متآكلا جزئيا بفعل الزمن، وبعض الدرافيل المنقوشة فى الأركان العلوية للإطار، وبعض الزخارف بعرق اللؤلؤ، وبعض النزوات الفنية. وكلها قديمة، ولكن جيدة...
- مرآة ضخمة؟
- ضخمة. وكانت، فى الواقع، بادرة هائلة من خالتى لأن المرآة كانت فى حجرة الاستقبال، وكانت أجمل قطعة أثاث فى المنزل. غير أنه لم يكن من الممكن زحزحتها عن هدفها. قالت إنه لن يفتقدها أحد، وإن ذلك كان فقط لمدة أسابيع قليلة، وإن "السنيور الملازم" يستحق أكثر كثيرا، مع كل هذا. والأمر الأكيد دون أدنى شك هو أن كل هذه الأشياء ـ التدليل، الملاطفة، المراعاة ـ أحدثت تحولا فى داخلى، زادته وأكملته المشاعر الطبيعية للشباب. أنتم تفهمون ما أقصد، أليس كذلك؟
- لا...
- الملازم ألغى الإنسان. ولأيام عديدة، كانت الطبيعتان تتأرجحان إلى الوراء وإلى الأمام، ولكن لم يمض وقت طويل قبل أن تستسلم الطبيعة الأصلية للأخرى، وصرت متروكا مع جانب تافه فقط من إنسانيتى الكاملة التطور. ما حدث هو أن روحى الخارجى، الذى كان يتمثل قبل ذلك الحين فى الشمس، والهواء، والريف، وعيون السيدات الشابات، غير طبيعته وصار يتمثل فى الانحناء والتملق فى بيت المزرعة ـ كل شيء ذكرنى بالضابط ولا شيء بالإنسان. وكان الجانب الوحيد الذى بقى معى من المواطن هو الجانب الذى يتعلق بممارسة الامتياز العسكرى، أما الجانب الآخر فقد ذاب فى الهواء والماضى. من الصعب عليكم أن تصدقوا هذا، هه؟
- من الصعب علىّ حتى أن أفهمه... رد أحد سامعيه بسرعة.
- ستفهم. أفعالى سوف تفسر أحاسيسى. الأفعال هى كل شيء. وأفضل تعريف للحب فى العالم لا يساوى قبلة واحدة من الفتاة التى تحبها، وإذا كنت أتذكر جيدا فإن فيلسوفا قديما أثبت حقيقة الحركة بالمشى. فلننظر إلى الأفعال. فَلْنَرَ كيف أنه فى نفس الوقت الذى كان يجرى فيه محو وعى الإنسان من الوجود جاء وعى الملازم حيًّا بشدة. إن الأحزان البشرية، والأفراح البشرية، عندما تكون كذلك فى حد ذاتها، قلما تحصل منى على أكثر من شفقة فاترة أو ابتسامة متعطفة. وفى نهاية ثلاثة أسابيع كنتُ كيانا مختلفا، مختلفا تماما. كنت ملازما ثانيا على وجه الحصر. ثم، ذات يوم، تلقت الخالة ماركولينا أنباءً سيئة: ابنة، متزوجة من مالك أرض وتعيش على مسافة خمسة فراسخ من هناك، سقطت مريضة وكانت على شفا الموت. استودعك الله يا ابن أختى! استودعك الله يا ملازم! كانت أُمًّا مُحبة. حزمت حقيبتها، وطلبت من أخى زوجها أن يرافقها، وطلبت منى العناية بالمزرعة. وأعتقد أنها لولا اضطرابها البالغ لقامت بترتيب الأمور على عكس ما فعلت، كانت ستترك أخا زوجها للعناية بالمزرعة، وتأخذنى معها. ومها يكن من شيء فقد بقيت هناك وحدى باستثناء العبيد. وفى الحال أصابنى إحساس خانق بالاضطهاد، وكأن أربعة جدران لسجن قد انغلقت فجأة حولى. والواقع أن روحى الخارجى هو الذى كان قد بدأ ينكمش. وكان الآن مختزَلا إلى حفنة من العقول الجاهلة الجلفة التى كان بمستطاعها بالكاد أن تتكلم اللغة. وواصل الملازم سيطرته بداخلى، غير أن قوة حياته كانت أقل حدة، وكان وجوده الواعى ضعيفا. وقد وضع العبيد سمة من التواضع فى عنايتهم بى وهو ما عوض، وإنْ كان هذا على نحو غير مُرْضٍ، عن تدليل الأقارب والألفة العائلية اللذين كانا قد انقطعا فجأة. وحتى فى تلك الليلة، لاحظتُ، أنهم ضاعفوا احترامهم، ومرحهم، وتأكيداتهم. وكل ثانية كان يتردد "نيو(2) الملازم": "نيو الملازم وسيم جدا"، "نيو الملازم سرعان ما سيكون عقيدا"، "نيو الملازم سيتزوج فتاة جميلة، ابنة چنرال..." وابل من الثناء والتنبؤات السعيدة التى تركتنى منتشيا. آه! الخونة! كيف كان لى أن أرتاب فى نيتهم الخفية؟
- على أن يقتلوك؟
- ليتها كانت كذلك!
- شيء أسوأ؟
- اصغوا إلىّ. فى الصباح التالى وجدت أننى كنت وحيدا. كان الأوغاد، بإغراء من آخرين، أو بروح تمرد عفوى، قد تآمروا على الهروب أثناء الليل؛ وهذا ما فعلوه. كنتُ وحيدا، لا أحد غيرى، وحيدا بين أربعة جدران. الشرفة الكبيرة مهجورة، الحقول غودرت. ما من نَفَس حياة بشرية فى أىّ مكان. أخذت أجرى عبر مختلف أنحاء المنزل، ومساكن العبيد، وكل مكان. لا شيء، لا أحد، ما من طفل زنجى واحد متروك وراءهم. بعض الديكة والدجاج، هذا كل شيء، وزوج من البغال يتفلسفان حول الحياة فيما كانا يهزان جسميهما لطرد الذباب، وثلاثة ثيران. حتى الكلاب كان العبيد قد نقلوها بالقوة. ما من كائن بشرى واحد! هل تعتقدون أن هذا كان أفضل من القتل؟ كان أسوأ. ليس معنى هذا أننى كنت خائفا، أقسم لكم أننى لم أكن خائفا. بل كنت حتى شجاعا إلى حد ما... لم أقلق فى الساعات القليلة الأولى. كنت حزينا بسبب الخسارة التى لحقت بالخالة ماركولينا، وكنت فى حيرة حول ما إذا كان ينبغى أن أذهب إليها لأبلغها النبأ المحزن، أم ينبغى أن أبقى لأحرس المزرعة. واخترت الطريق الثانى، لكى لا أترك المكان بدون حماية؛ وإذا كانت ابنة خالتى مريضة بصورة خطيرة فإننى كنت سأزيد ألم الأم دون جدوى. إلى جانب هذا، كنت آمل فى عودة أخى العم پيسانيا فى ذلك اليوم أو اليوم التالى، نظرا لأنه كان قد مضى بالفعل على رحيلة ست وثلاثون ساعة. غير أن الصباح انتهى دون أىّ أثر له. وفى العصر بدأت أشعر بأن أعصابى لم تعد تعمل وبأننى فقدت سيطرتى على عضلاتى. ولم يعد أخو العم پيسانيا فى ذلك اليوم ولا فى اليوم التالى، ولا حتى فى ذلك الأسبوع كله. واتخذت عزلتى أبعادا هائلة. لم تكن الأيام من قبل طويلة إلى ذلك الحد مطلقا، ولم تكن الشمس قبل ذلك تحرق الأرض بمثل ذلك العناد المرهق مطلقا. وكانت الساعات تدق من قرن إلى قرن على ساعة الحائط القديمة فى حجرة الاستقبال، وكان تيك ـ توك، تيك ـ توك بندولها يضرب روحى الداخلى مثل نقر متواصل للأبدية. وبعد ذلك بسنوات عديدة، فيما كنت أقرأ قصيدة أمريكية ـ أعتقد أنها كانت من قصائد لونجفيلو Longfellow ـ وصادفتنى تلك اللازمة الشهيرة Never, for ever! For ever never ، [مطلقا، إلى الأبد! إلى الأبد، مطلقا!] أقول لكم، جعلت بدنى يقشعر، وقد تذكرت تلك الأيام المفزعة. كان الأمر بهذه الطريقة بالضبط مع ساعة حائط الخالة ماركولينا، Never, for ever! For ever never ولم تكن ضربات بندول: كانت حوارا من جهنم، همسا من الفراغ. ثم فى الليل! ليس لأنه كان أكثر صمتا. كان صمته مثل صمت النهار تماما. ولكن الليل كان الظل، كان العزلة حتى الأضيق أو الأوسع، من عزلة النهار. تيك ـ توك، تيك ـ توك. لا أحد فى الغرف الواسعة، ولا فى الڤراندا، لا أحد فى الصالات، لا أحد فى الشرفة الكبيرة، لا أحد فى أى مكان... أتضحكون؟
- بلى، يمكن أن أقول أنك كنت فقط خائفا قليلا.
- أوه! كان سيكون أفضل لو أننى أحسست بالخوف! كنت سأبقى حيا. غير أن الشيء الغريب هو أننى لم يكن بوسعى أن أشعر بالخوف ـ الخوف، أىْ، بالمعنى المعتاد للكلمة. لقد سيطر علىّ إحساس غير قابل للتفسير ـ وكأننى كنت رجلا ميتا يمشى، شخصا يسير نائما، دمية ميكانيكية. النوم، النوم الحقيقى، كان أمرا مختلفا: كان يجلب لى الراحة ـ ليس للسبب المعتاد، وهو أنه أخ للموت ـ بل لسبب آخر. أعتقد أنه يمكننى أن أفسر بصورة أفضل بهذه الطريقة. النوم، بإلغائه الحاجة إلى روح خارجى، كان يسمح للروح الداخلى بأن يعمل. ففى الليل، فى أحلامى، كنت ألبس زيى الرسمى، بفخر، وسط العائلة والأصدقاء، الذين كانوا يثنون على أناقتى، وكانوا يدعوننى الملازم. وعندئذ جاء صديق للعائلة ووعدنى برتبة الملازم الأول، وآخر برتبة النقيب أو الرائد. كل هذا نفخ الحياة فىّ. ولكن عندما استيقظت فى الضوء الساطع لرابعة النهار، ونظرا لأن الحياة الواعية لكينونتى الجديدة ذات الروح الوحيد تبخرت مع الحلم، لأن روحى الداخلى كان قد فقد قدرته الوحيدة على العمل وكان الآن معتمدا على الآخر، على الروح الخارجى، الذى أصر بعناد على أن لا يعود. وواصل عدم العودة. وكنت أذهب إلى الخارج، وأنظر فى هذا الاتجاه وذاك، لأرى ما إذا كان بإمكانى أن أكتشف علامة على عودته Soeur Anne, soeur Anne, ne vois-tu rien venir? [الأخت آن، الأخت آن، ألا تريْن شيئا آتيا؟] لا شيء، ما من شيء ـ تماما مثل حكاية الجنيات الفرنسية. فقط التراب على الطريق والحشائش تنمو على التل. وأعود إلى داخل البيت، عصبيا ومحبطا، وأتمدد على الأريكة فى حجرة الاستقبال. تيك ـ توك، تيك ـ توك. وأستيقظ، وأتمشى، وأقرع نوبة الرجوع على اللوح الزجاجى للنافذة، وأصفر. وفى مرحلة قررتُ أن أكتب شيئا ما... مقالا سياسيا، رواية، أنشودة: لم أذهب بعيدا إلى حد القيام باختيار محدد. جلستُ وخربشتُ بعض الكلمات والجمل غير المترابطة على الورق، لأخلق أسلوبى. غير أن أسلوبى، مثل الخالة ماركولينا، لم يأت Soeur Anne, soeur Anne.... لا شيء مطلقا. وعلى الأكثر، رأيتُ الحبر يسودّ والورق يبيضّ.
- ألم تأكل؟
- قليلا جدا، فاكهة، وجبة منيهوت، أطعمة محفوظة، بعض الجذور المشوية فى النار، ولكننى كنت سأتحمل كل شيء بسعادة لولا الحالة الذهنية المرعبة التى كنتُ فيها. تَلَوْتُ أشعارا، أحاديث، شذرات لاتينية، قصائد حب ل جونساجا، مقاطع شعرية ل كامونس، قطع من سونيتات ـ مختارات فى ثلاثين مجلدا. وأحيانا زاولتُ تمارين رياضية، وفى أحيان أخرى كنت أقرص رِجْلىّ؛ ولكن النتيجة كانت فقط إحساسا جسمانيا بالألم، أو بالإجهاد، لا أكثر. وفى كل مكان: صمت هائل، لا حدّ له، لا نهائى، يؤكده التيك ـ توك الأبدىّ لبندول ساعة الحائط القديمة. تيك ـ توك، تيك ـ توك...
- كافٍ لإصابة شخص بالجنون.
- لكنكم لم تسمعوا الأسوأ بعد. يجب أن أخبركم بأننى منذ أن صرت وحيدا، لم أنظر مرة واحدة فى المرآة. ولم أتجنب هذا عن عمد؛ لم يكن عندى سبب لأن أفعل هذا. كان دافعا غير واع، فَزَعا من اكتشاف أننى فى ذلك البيت المهجور كنت واحدا واثنين فى آن معا. وإذا كان هذا التفسير هو الصحيح، فليس هناك برهان أفضل على التناقض البشرى، لأننى بعد نهاية أسبوع قررت أن أنظر فى المرآة بالهدف المحدد المتمثل فى أن أجد نفسى منقسما إلى اثنين. نظرتُ، وأجفلت متراجعا. لقد بدا أن المرآة ذاتها، جنبا إلى جنب مع باقى الكون، تآمرت ضدى. فهى لم تطبع صورتى واضحة وكاملة، بل مبهمة، ضبابية، مشتتة، كانت ظلا لظل. ولا تسمح لى حقيقة قوانين الفيزياء بإنكار أن المرآة نسختنى طبق الأصل بنفس هيئتى وملامحى. لابد من أنها فعلت هذا. غير أن هذا لم يكن ما رأيته. ولهذا ملأنى الرعب. أرجعت الظاهرة إلى الاهتياج العصبى. وكنت خائفا إذا بقيت وقتا أطول أن يصيبنى الجنون. "سأغادر"، قلتُ لنفسى. ورفعت ذراعى فى بادرة كانت غاضبة. وكانت فى الوقت نفسه بادرة إصرار. نظرتُ فى المرآة: كانت البادرة هناك، ولكنْ محطمة، ممزقة، مشوهة... بدأت أرتدى ملابسى، مغمغما لنفسى فيما كنت أفعل هذا، متنحنحا، نافضا ملابسى بضوضاء، فيما كنت أبث شكواى لأزرارى لمجرد أن أقول شيئا ما. ومن حين لآخر كنت ألقى نظرة عجلى مختلسة نحو المرآة: كان الانعكاس هو نفس تشتت الخطوط، نفس الخطوط الخارجية المتداخلة... واصلتُ ارتداء ملابسى. وفجأة، بإلهام لا يمكن تفسيره، بدافع مفاجئ، خطرت الفكرة ببالى... لن تخمنوا مطلقا ماذا كانت فكرتى...
- ماذا؟ ماذا كانت؟
- كنتُ أنظر فى المرآة بإصرار مستميت، متأملا ملامحى المفككة والناقصة، التى كانت سحابة من خطوط سائبة مشوهة، عندما جاءتنى الفكرة... لا، لا يمكنكم مطلقا تخمين ماذا كانت.
- استمر، قلْ لنا! ماذا كانت؟
- تذكرتُ أن أرتدى زىّ الملازم. ارتديته، زيا رسميا كاملا. ولأننى كنت واقفا أمام المرآة، رفعتُ عينىَّ و... (لا شك فى أنكم خمنتم) عندئذ نسخت المرآة الصورة الكاملة، دون نقص خط واحد، ودون انحراف ملمح واحد. كنت أنا حقا، الملازم الثانى، الذى عثر أخيرا على روحه الخارجى. هذا الروح، الذى رحل مع سيدة المكان، والذى تبعثر وهرب مع العبيد، كان هناك، كاملا من جديد فى المرآة. تخيلوا إنسانا يخرج شيئا فشيئا من غيبوبة، يفتح عينيه دون أن يرى، ثم يبدأ يرى، ويميز الأشخاص من الأشياء لكنه لا يستطيع بعد تمييزهم كأفراد، ثم أخيرا يعرف أن هذا فلان، وأن ذلك عِلان، هنا كرسى، وهناك أريكة. ويعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل أن يغرق فى النوم. هذا ما حدث لى. حملقت فى المرآة، تحركت من جانب إلى الآخر، ورجعت إلى الوراء، وأومأت، وابتسمت، وكانت المرآة تكشف كل شيء. كنتُ لم أَعُدْ آلة أوتوماتيكية؛ كنت حيا. ومنذ ذلك الحين فصاعدا كنت شخصا آخر. وكل يوم، فى وقت بعينه، كنت أرتدى الزى الرسمى الكامل للملازم وأجلس أمام المرآة، أقرأ، وأنظر، وأتأمل. وبعد ساعتين أو ثلاث ساعات، كنت أخلع الزى من جديد. وبالاتباع الصارم لهذا الروتين، كنت قادرا على أن أتحمل ستة أيام أخرى من العزلة دون أن أحسّ بها...
وعندما عاد الآخرون فى الحجرة إلى وعيهم، كان راوى القصة قد وصل إلى أسفل السلالم فى طريقه إلى الشارع.
إشارات
(1) دوقة ducat: عملة ذهبية أوروپية ـ المترجم.
(2) "نيو" nho نطق مشوه لكلمة "سنيور" ـ المترجم.

*****
3
ماريانا

الفصل 1
"تـُرَى ماذا حدث ل ماريانا"، سأل إيڤاريستو نفسه فى ميدان كاريوكا، فيما كان ينصرف مودّعا صديقا قديما كان قد جعله يتذكر حبيبته القديمة تلك.
كان ذلك فى 1890. وكان إيڤاريستو قد عاد من أوروپا قبل ذلك بأيام فقط، بعد غياب دام ثمانية عشر عاما. وكان قد غادر ريو ده چانيرو فى 1872، متوقعا أن يبقى فى أوروپا حتى 1874 أو 1875 بعد أن يرى قليلا من المدن الشهيرة أو الطريفة، غير أن المسافر فى التفكير وپاريس فى التدبير. فبمجرد أن دخل إيڤاريستو ذلك العالم، فى 1873، سمح لنفسه بأن يبقى أطول من حدود تخطيطه. أجَّل رحلة العودة سنة، ثم أخرى، وفى النهاية لم يعد يفكر فى العودة. كان قد كفَّ عن الاهتمام بالأمور البرازيلية – وفيما بعد لم يكن حتى يقرأ الصحف البرازيلية. وكان تعرُّضه الوحيد للأخبار من وطنه يأتى من طالب فقير من باييا كان يستعير الصحف منه وينبهه إلى الموضوعات المتصلة بالأحداث الجارية. وفجأة، فى نوڤمبر 1889، دخل مراسل پاريسىّ بيته، وتكلم معه عن الثورة فى ريو، وطلب بيانات سياسية واجتماعية وبيوجرافية. وفكر إيڤاريستو.
"يا صديقى الطيب"، قال للمراسل، "أعتقد أنه سيكون من الأفضل أن أذهب بنفسى للبحث عن تلك المعلومات".
ولأنه لم تكن لديه أية آراء سياسية، ولم يكن ينتمى إلى أىّ حزب سياسى، ولم تكن لديه قرابات أو مصالح وثيقة فى ريو (كانت كل اهتماماته فى أوروپا)، يبدو أن قرار إيڤاريستو المفاجئ لا يمكن تفسيره بصورة ملائمة بحب الاستطلاع وحده، غير أنه، فى الحقيقة، لم يكن هناك أىّ سبب آخر. لقد أرد ببساطة أن يرى كيف تغيرت الأمور. استفسر عن تاريخ عرضٍ أول على مسرح أوديون، وكان مسرحية لأحد أصدقائه، واعتبر أنه بالسفر على أول باخرة والعودة على الباخرة الرابعة سيكون قد عاد إلى پاريس فى الوقت المناسب لشراء تذكرة وحضور العرض. وحزم حقائبه، وأسرع إلى بوردو، وركب الباخرة.
"تـُرَى ماذا حدث لماريانا"، كرر الآن، بينما كان يسير فى شارع أسّيمبلييا. "ربما ماتت... وإذا كانت ما تزال على قيد الحياة فمن المؤكد أنها تغيرت. لا بد أنها الآن فى حوالى الخامسة والأربعين... آخ! فى الثامنة والأربعين، فقد كانت أصغر منى بحوالى خمس سنوات. فى الثامنة والأربعين... سيدة جميلة! سيدة رائعة! ما أروع الحب الذى كان بيننا!"
أراد أن يراها. استفسر فى كتمان واكتشف أنها ما زالت على قيد الحياة. ما زالت تسكن فى نفس المنزل فى شارع إنچينيو ڤيليو. غير أنها كانت لم تظهر منذ عدة أشهر بسبب زوجها، الذى كان مريضا، وكان فيما يبدو موشكا على الموت.
"لا بد أنها كبرت جدا"، قال إيڤاريستو لأحد المعارف الذى أمدّه بهذه المعلومات.
"يا إلهى، لا. فى المرة الأخيرة التى رأيتها فيها اعتقدت أنها تبدو شابة جدا – لا تزيد يوما واحدا على الأربعين!... تعرف، ما زالت توجد بعض شجيرات الورد الرائعة حولنا هنا، ولكن لم تعد توجد أشجار أرْز من تلك الرائعة التى عرفناها عندما كنا صغارا".
"نعم، توجد، ولكن عليك أن تذهب إلى لبنان لكى تراها"، ردّ إيڤاريستو بسرعة.
كانت رغبته فى أن يرى ماريانا قد ازدادت. ماذا يمكن أن تكون المشاعر لدى كل منهما نحو الآخر؟ ما هى الرؤى التى يمكن أن تأتى من الماضى لكى تقوم بتحويل الواقع الحالى؟ ينبغى أن نعرف أن هدف رحلة إيڤاريستو لم يكن البحث عن المتعة بل إشباع حب الاستطلاع. والآن وقد فعل الزمن فعله، كيف يمكن أن يتأثر كل منهما بذكريات 1872، تلك السنة المحزنة من الفراق الذى كاد يدفعه إلى الجنون وكاد يتركه ميتا؟

الفصل 2
بعد هذا بأيام، كان إيڤاريستو ينزل من عربة عند باب ماريانا وكان يسلـِّم بطاقة زيارة إلى الخادم الذى فتح له باب المدخل.
وفيما كان ينتظر، أخذ يمسح الغرفة وكان مذهولا بما رآه. كان الأثاث هو نفس الطقم الذى كان هناك منذ ثمانية عشر عاما مضت. واستطاعت ذاكرته، التى كانت غير قادرة على إعادة تركيبه أثناء غيابه، التعرُّف على كل القطع بالإضافة إلى ترتيبها، الذى لم يتغير أيضا. وكان لكل شيء مظهر أبلاه الزمن. حتى الأزهار الصناعية، الموضوعة فى ڤازة ضخمة على سطح البوفيه، تساقطت بفعل العمر. وكان كل شيء فوضى من عظام مبعثرة كان بوسع خيال المرء أن يضمها إلى بعضها من جديد لاستعادة جسم لا ينقصه سوى روح.
ولكن الروح لم يكن ناقصا. كانت هناك لوحة پورتريه لماريانا معلقة على الجدار فوق الأريكة. كانت مرسومة عندما كانت فى الخامسة والعشرين. وكان الإطار، المموه بماء الذهب مرة واحدة فقط، يتقشر فى بعض المواضع – وكان يقدم تناقضا صارخا مع مظهرها الضاحك العذب. لم يكن الزمن قد أفسد جمالها. وكانت ماريانا هناك، لابسة وفقا لأزياء 1865، بعينين مستديرتين جذابتين لامرأة تحبّ. وكانت اللوحة الپورتريه الروح الحى الوحيد فى الغرفة، غير أنها فى حد ذاتها كانت كافية لإعطاء جو من الشباب الهارب إلى الزوال. أصيب إيڤاريستو بدهشة بالغة. وكان هناك كرسي يواجه الپورتريه. جلس عليه وأخذ يحدق النظر فى الفتاة التى من زمن آخر. وردّت العينان المرسومتان بالتحديق فى العينين الطبيعيتين، ربما مندهشتين باللقاء والتغير، إذ أن العينين الطبيعيتين لم يكن لهما دفء وجاذبية العينين اللتين كانتا فى الپورتريه. غير أن الاختلاف لم يدم طويلا: ماضى الرجل استعاد خارجيا شبابه. وجرى امتصاص كل زوج من زوجىْ العيون فى الزوج الآخر وفى كل خطاياهما القديمة.
ثم، ببطء شديد جدا، نزلت ماريانا من اللوحة الزيتية والإطار وجلست قبالة إيڤاريستو. انحنت، ومدّت ذراعيها فوق ركبتيها، وقدمت إليه يديها. وقدم إيڤاريستو، بدوره، يديه، وتصافحت الأيدى الأربع بحنان. لم يسأل أىّ منهما عن أىّ شيء يشير إلى الماضى، لأنه لم يكن هناك ماضٍ. كانا، كلاهما، فى الحاضر – كان الزمن قد توقف فى الحال وبصورة ثابتة إلى حد أنه بدا أنه قد تدرب فى المساء السابق على هذا الأداء اللانهائى، الواحد الوحيد. كل الساعات فى المدينة وفى كل أنحاء العالم كسرت بحصافة زنبركاتها، وغيّر كل صناع الساعات مهنتهم. Adieu, vieux lac de Lamartine! [وداعا يا بحيرة لامارتين العجوزة!] أرسى إيڤاريستو و ماريانا مراسيهما فى محيط الزمن. وهناك جاءت أرقّ الكلمات التى تفوهت بها شفتا الرجل والمرأة، وكذلك أحرّ الكلمات، والكلمات المرخمة، والمندفعة، والمهموسة، كلمات الغيرة وكلمات الصفح.
"هل أنت بخير؟"
"أجل، وأنتِ؟"
"كم عانيت بسببك! ظللت أنتظرك ساعة، قلقة جدا، باكية تقريبا، لكنْ يمكنك أن ترى جيدا جدا أننى مبتهجة وسعيدة، وكل هذا لأن أروع رجل فى العالم دخل الحجرة، ما الذى أخَّرك كل هذا الوقت الطويل؟"
"اعترضنى عائقان وأنا فى طريقى إليكِ، وكان الثانى مرعبا أكثر من الأول."
"لو أحببتنى حقا، كنت ستقضى دقيقتين معهما كليهما فتكون هنا منذ خمس وأربعين دقيقة. لماذا تضحك بهذه الطريقة؟"
"العائق الثانى كان زوجك."
ذهلت ماريانا.
"كان ذلك هنا، قريبا جدا"، واصل إيڤاريستو. "تكلمنا عنكِ، هو أولا – لا أدرى لماذا – وقد تكلم بلطف، وتقريبا بحنان. صرت مقتنعا بأن الأمر كله كان مكيدة، طريقة فى كسب ثقتى. وفى النهاية افترقنا، لكننى بقيت هنا أراقب، أنتظر لأرى ما إذا كان سيعود. ولم أرَ أحدا. هذا هو سبب تأخيرى، ها أنتِ تعرفين سبب كل عذاباتى."
"لا تأتِ إلىّ مرة أخرى بعدم ثقتك الأبدىّ"، قاطعت ماريانا مبتسمة كما فعلت لوحة الپورتريه قبل ذلك بلحظات. "ماذا تتوقع منى أن أفعل؟ شاڤيير هو زوجى – أنا لن أطرده، أو أعاقبه، أو أقتله ببساطة لأننا أنت وأنا نحبّ بعضنا."
"أنا لا أطلب منك أن تغتاليه، لكنك تحبينه بالفعل، يا ماريانا."
"أنا لا أحب أحدا سواك"، أجابت، متفادية بذلك ردًّا بالنفى، كان من شأنه أن يكون فظا.
هذا ما فكر فيه إيڤاريستو، لكنه لم يقبل تنميق الرد غير المباشر. فقط الرد القاسى والبسيط بالنفى كان سيطمئنه.
"أنتِ تحبينه بالفعل"،أصرّ.
ترددت ماريانا لحظة.
"لماذا تعكر صفو روحى وماضىّ؟" قالت. "بالنسبة لنا، العالم بدأ منذ أربعة أشهر ولن ينتهى أبدا – أو سينتهى فقط عندما تصاب بالملل منى، لأننى لن أتغير أبدا..."
ركع إيڤاريستو على ركبتيه، وجذب ذراعيها نحوه، وقبَّل يديها، وغطى وجهه بهما. وأخيرا، أراح رأسه على ركبتيها. وبقيا فى ذلك الوضع لحظات قليلة، ثم شعرت ماريانا بالرطوبة على أصابعها، ورفعت رأس إيڤاريستو، ورأت عينيه مليئتين بالدموع. ماذا جرى؟
"لا شيء"، أصرّ. "وداعا".
"ولكنْ ما ذا حدث؟ ما الأمر؟"
"أنت تحبينه"، أجاب إيڤاريستو، "وهذه الفكرة ترعبنى وتؤذينى فى نفس الوقت، لأننى مستعدّ لقتله إذا اكتشفت على وجه التأكيد أنك ما زلت تحبينه".
"أنت رجل فريد"، أجابت ماريانا، بعد أن جففت عينيه بشعرها، الذى تركته يسقط بسرعة، فأمدّته بأروع منديل فى العالم. "أنت تعتقد أننى أحبه؟ لا، أنا لم أعد أحبه – ها أنت تحصل على إجابتك. ولكنْ الآن يجب أن تأذن لى بأن أخبرك بكل شيء، لأن طبيعتى لا تسمح لى بأنصاف الثقة".
فى هذه المرة كان إيڤاريستو هو الذى أثيرت مشاعره، ولكن حب الاستطلاع كان ينهش قلبه بحيث لم يعد هناك أىّ سبب لأن يكون خائفا – كل ما كان عليه هو أن ينتظر ويصغى. وفيما كان يستريح، مستندا إلى ركبتيها، سمع القصة الموجزة. أخبرته ماريانا عن زواجها، معارضة أبيها، معاناة أمها، مثابرتهما هى و شاڤيير. انتظرا عشرة شهور، حازميْن فى قرارهما، هى أقل صبرا منه، لأن العاطفة التى استبدّت بها أعطتها كل القوة اللازمة لقرارات عنيفة. كم من دموع ذرفتها من أجله! وكم من لعنات جاءت من قلبها ضد والديْها وكظمتها، لأنها خشيت الله ولم ترغب فى أن تقضى عليها تلك الكلمات، كأسلحة لقتل الأم والأب، بأسوأ من الجحيم، بالفراق الأبدى عن الرجل الذى أحبته. وانتصر الإخلاص، الزمن استرضى والديْها، وحدث الزواج بعد مرور سبع سنوات. واستمرت عاطفة العاشقيْن فى السنوات التالية لزواجهما. وعندما جلب الزمن الهدوء، جلب الاحترام أيضا. قلباهما كانا منسجميْن، وكانت ذكريات كفاحهما حلوة مرّة. السعادة الصافية اتخذت مقعدها على بابهما مثل حارس. غير أن الحارس غادر بسرعة. ولم يترك مكانه لا لسوء الحظ ولا حتى للضجر، بل الفتور بدلا منهما – شبحا شاحبا لا حراك له بالكاد يبتسم ولا يتذكر شيئا. وأثناء هذه الفترة ظهر إيڤاريستو أمام عينىْ ماريا وغمرها بالابتهاج. ولم يأخذها من بين ذراعىْ شاڤيير، ولهذا السبب لم يكن إيڤاريستو جزءا من الماضى: الماضى كان لغزا كان من المحتمل أن يجلب الندم.
"الندم"، قاطع.
"ربما تكونين قد افترضت أننى ندمت، لكننى لم أفعل، وكذلك لن أفعل أبدا".
"أشكرك!" قال إيڤاريستو بعد لحظات قليلة. "أنا شديد التقدير لاعترافك. لن أذكر هذا الموضوع مرة أخرى. أنت لا تحبينه، هذا هو ما يهم. ما أجملك عندما تقسمين لى بتلك الطريقة وتتحدثين عن المستقبل! نعم، يمكن أن ننسى الماضى، الآن أنا هنا وأنت حرّة لتحبينى!"
"أنت فقط، يا عزيزى".
"أنا فقط؟ مرة أخرى، أقسمى لى على أن هذا صحيح!"
"أقسم بهاتين العينين"، أجابت، مقبِّلة عينيه، "بهاتين الشفتين"، استمرّت، زارعة قبلة على شفتيه. "بحياتى وحياتك، أقسم أننى أحبك أنت فقط!"
ردّد إيڤاريستو نفس العبارات بنفس الطقوس. ثم اتخذ مكانه أمام ماريانا، فى نفس الوضع الذى كان فيه عند بداية لقائهما. ومضت لتركع عند قدميه، وذراعاها فوق ركبتيه. خصل الشعر التى كانت قد تركتها تنسدل صنعت إطارا حول وجهها بكمال تام إلى حدّ أنه أسف على أنه لم يكن عبقريا يمكنه أن ينسخه ويُسْلمه لبقية العالم. أخبرها بهذا، ولكن الشابة لم تقل كلمة – ارتفعت عيناها نحوه، مناشدة. مال إيڤاريستو إلى الأمام، محملقا فيها، وبقيا هما الاثنان يواجهان كل منهما الآخر، ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات، إلى أن دخل شخص ما وقاطعهما.
"تفضَّلْ ادخلْ".

الفصل 3
جفل إيڤاريستو. كان يواجه رجلا، نفس الخادم الذى كان قد أخذ بطاقة زيارته. وقف مسرعا. عادت ماريانا إلى اللوحة الزيتية المعلقة على الحائط، حيث رآها مرة أخرى، لابسة وفقا لأزياء 1865، جيدة التسريح وهادئة. وكما هو نموذجى فى الأحلام، مرّ الوقت بطريقة غريبة: رغم أنه بدا ل إيڤاريستو أن ثلاث ساعات قد انقضت، حدث كل شيء فى الواقع خلال خمس أو ست دقائق، الوقت الذى استغرقه الخادم فى أخذ بطاقة إيڤاريستو والمجيئ بالدعوة. وفى الوقت نفسه من المؤكد أن إيڤاريستو كان ما يزال يشعر بالإحساس بملاطفات الشابة، ذلك أن الزمن سمح له حتى بأن يعانى رؤيته للثلاث سنوات بين عامىْ 1869 و 1872. وعادت القصة بكاملها إليه بغيرته من شاڤيير، وتعبيراته هو عن الصفح، وعروض الحب المتبادل التى قدمتها ماريانا. وكان الشيء الوحيد الناقص هو الأزمة الأخيرة، عندما توسطت أم ماريانا بغضب، مدركة كل شيء، وفرقت بين الاثنين. وقررت ماريانا أن تموت وحملت نفسها على أن تشرب السمّ – وكان استقتال أمها ضروريا لإعادتها إلى الحياة. أما شاڤيير، الذى كان فى ولاية ريو، فإنه لم يكتشف شيئا مطلقا عن هذه المأساة، باستثناء أن زوجته كانت قد نجت من الموت بعد أن تعاطت أدوية خاطئة. وقد تمنى إيڤاريستو أن يراها قبل أن يرحل إلى أوروپا، غير أن هذا كان مستحيلا.
"دعنا نذهب"، قال الخادم، الذى كان فى انتظاره.
كان شاڤيير فى الغرفة المجاورة، راقدا على أريكة، وكانت زوجته وقلة من الزوار إلى جانبه. دخل إيڤاريستو مليئا بالقلق. كان الضوء معتما، والصمت عميقا. أمسكت ماريانا بإحدى يدىْ الرجل المريض، فيما كانت تراقبه عن قرب، خائفة إما من الموت وإما من أزمة. واستطاعت بالكاد أن ترفع عينيها نحو إيڤاريستو وأن تعطيه يدها – كانت توجِّه كل انتباهها نحو زوجها، الذى حمل وجهه دلائل معاناة طويلة والذى كان تنفسه يُحْدث صوتا أشبه بصوت يصدر عن الجوقة غير المرئية. إيڤاريستو، الذى كان لم ير سوى وجه ماريانا، انسحب إلى ركن، دون أن يجرؤ على أن يتطلع إلى شكلها أو حتى على أن يتابع حركاتها. وصل الطبيب، وفحص الرجل المريض، وأوصى بالأدوية الموصوفة من قبل، وغادر مع التفاهم على أنه سيعود فى المساء. رافقته ماريانا إلى الباب، سائلة إياه بصوت خفيض، محاولة أن تقرأ فى تعبير وجهه الكلمات التى رفضت شفتاه أن تنطق بها. عندئذ فقط رآها إيڤاريستو بوضوح. بدا أن الألم قد أضناها أكثر مما فعلت السنون. وعندئذ أدرك الطابع الواضح لهيئتها: إنها لم تهبط من اللوحة الزيتية كما فعلت ماريانا خياله، بل من الزمن. وقبل أن تستأنف سهرها عند فراش زوجها، أدرك إيڤاريستو أنه ينبغى أن يكون فى طريقه، وتحرك نحو الباب.
"من فضلك اعذرينى ... أنا آسف جدا لأننى لن أستطيع أن أتكلم مع زوجك الآن".
"هذا ليس ممكنا، على الأقل الآن: الطبيب أوصى بالراحة والهدوء. ربما فى يوم آخر ..."
"كان ينبغى أن أجيئ لرؤيته من قبل، لكننى لم أعرف إلا مؤخرا ... وقد وصلتُ من أوروپا منذ فترة قصيرة فقط".
"أشكرك على زيارتك".
مدّ إيڤاريستو يده إليها وغادر، مكسور الخاطر، وجلست هى من جديد إلى جوار الرجل العليل. ولم تكشف يد ماريانا ولا عيناها عن أىّ ردّ فعل خاص نحو إيڤاريستو، وافترقا كأنهما غريبان على بعضهما البعض. ومن المؤكد أن حبهما كان قد انتهى منذ وقت طويل، فقد كبر قلبها مع الزمن، وكان زوجها يحتضر، وأخذ يفكر، ولكنْ كيف يمكن تفسير أن ماريانا، بعد ثمانية عشر عاما من الفراق، رأت أمامها الرجل الذى كان ذات يوم جزءا مهمّا إلى ذلك الحدّ من حياتها، دون أدنى شعور بالصدمة، أو الارتباك، أو عدم الارتياح؟ من الواضح أنه كان هناك لغز. وسمَّى ذلك لغزا. وحتى الآن، عند الفراق، كان قد أحسّ بانقباض، شيء ما جعل كل كلمة عقبة تربك كل الأفكار، حتى عبارات الأسف والأمل البسيطة المبتذلة. وهى، مع هذا، لم تستجب له حتى بأدنى أثر للانفعال. وعندما استدعى لوحة الپورتريه فى الصالون، انتهى إيڤاريستو إلى أن الفن أسمى من الطبيعة – اللوحة الزيتية احتفظت بالجسد والروح. كل هذا توَّجَه الوخز الحادّ للاستياء.
تحمّل شاڤيير أسبوعا آخر. وفى زيارته الثانية لمنزل ماريانا، كان إيڤاريستو حاضرا فى موت العليل ولم يستطع الهروب من التشوش الطبيعىّ للـَّحْظة، والمكان، والظروف. ماريانا، منهكة بسهرها ودموعها، رقدت مشعثة الشعر عند قدم السرير. وعندما لفظ شاڤيير أنفاسه الأخيرة أخيرا بعد الاحتضار الطويل، كان بكاء الأقارب والأصدقاء ملحوظا بالكاد – الصرخة الثاقبة لماريانا وفقدانها اللاحق للوعى جعلاها مركز الاهتمام. ظلت فاقدة الوعى دقائق عديدة. وبمجرد أن أفاقت، جرت إلى الجثمان واحتضنته، منتحبة فى يأس وصارخة بأرقّ أسماء التدليل. لم تكن عينا الجثة مغمضتين، وبسبب هذا وقعت حادثة سوداوية مرعبة جدا. فبعد تقبيل عينىْ الجثمان بصورة متكررة، أصيبت ماريانا بوضوح بالهلوسة وصرخت بأن زوجها ما يزال حيًّا، وأنه شـُفى. ورغم كل الجهود لانتزاعها بعيدا عن الجثمان، لم تتراجع – دفعت الجميع إلى الوراء، صارخة بأنهم يريدون أن يأخذوا زوجها بعيدا عنها. وسقطت مقلوبة على الأرض بسبب هذه الأزمة الجديدة فأخذوها بسرعة إلى حجرة أخرى.
وعندما غادر الموكب الجنائزى المنزل فى اليوم التالى، لم تكن ماريانا حاضرة، رغم إصرارها على وداع زوجها – كانت لم تعد تملك القوة على تنفيذ رغبتها فى حضور الجنازة. رافق إيڤاريستو موكب تشييع الجنازة. وفيما كان يسير وراء عربة الجنازة، أدرك بالكاد أين كان وماذا كان يفعل. وفى الجبانة تكلم مع أحد أقارب شاڤيير، وأفضى إليه بمواساته ل ماريانا.
"من الواضح تماما أنهما كانا يحبان بعضهما البعض كثيرا جدا"، ختم كلامه.
"آه، كثيرا جدا جدا"، قال القريب. "كان زواج حب. لم أحضر احتفال الزفاف لأننى لم أكن أتيت إلى ريو حتى 1874. لكننى وجدتهما مخلصين لبعضهما البعض وكأنهما ما يزالان عاشقين، وقد شهدت حياتهما إلى الآن. عاش كل منهما من أجل الآخر –ولا أعرف ما إذا كانت ستبقى طويلا فى هذا العالم".
"1874"، فكر إيڤاريستو، "بعد ذلك بسنتين".
ماريانا لم تحضر قداس اليوم السابع: أحد الأقرباء – نفس القريب الذى كان إيڤاريستو قد تكلم معه فى الجبانة - قام بتمثيلها فى هذه المناسبة. واكتشف إيڤاريستو من خلاله أن الحالة الصحية للأرملة لم تسمح لها بالمخاطرة بنفسها بحضور إحياء ذكرى الكارثة. سمح بمرور أيام قليلة قبل أن يذهب لزيارتها لتقديم فروض الاحترام الأخيرة إليها، ولكنْ بعد تقديم بطاقته، تم إبلاغه بأنها لا تستقبل أحدا. وعندئذ ذهب إلى سان پاولو، وعاد إلى ريو بعد ذلك بخمسة أو ستة أسابيع، واستعدّ لمغادرة البلاد. وقبل أن يغادر، كان ما يزال يفكر فى زيارة ماريانا – ليس رغبة فى المجاملة، بل ربما ليأخذ معه صورة، وإنْ كانت تالفة، لحبّ تلك الأعوام الأربعة.
لم يجدها فى البيت. وانصرف، غاضبا ومشمئزا، معتبرا تصرفه وقحا وعديم الذوق. وبعد مسافة قصيرة من هناك، لاحظ امرأة فى ثوب الحداد كانت تشبه ماريانا، تظهر خارجة من كنيسة الروح القدس. كانت ماريانا بالفعل، وكانت على قدميها. وعندما مرت بجوار العربة، ألقت نظرة خاطفة نحوه، وتظاهرت بعدم التعرف عليه، وواصلت المشى – وهكذا تركت تحية إيڤاريستو غير مقبولة. أراد أن يأمر العربة بالتوقف ليكون بوسعه أن يودِّعها، هناك مباشرة فى الشارع، فى تلك اللحظة ذاتها، دقيقة، ثلاث كلمات. ولكنْ، لأنه تردد فى قراره، لم تتوقف العربة إلى أن كانت قد تجاوزت الكنيسة بالفعل، وعندئذ كانت ماريانا على مسافة معتبرة إلى الأمام. ومع هذا، خرج من العربة ومشى عائدا فى الشارع، ولكنْ إما بدافع الاحترام أو بدافع النكاية، غيّر رأيه، وعاد ودخل العربة، وانصرف.
"مخلصة ثلاث مرات"، ختم معلـِّقا عليها بعد عدة دقائق من التفكير.
بعد ذلك بأقلّ من شهر، كان فى پاريس. ولم ينسَ المسرحية الجديدة لصديقه، الذى كان من المتوقع أن يقام عرضها الأول فى مسرح الأوديون. وسارع ليعرف هل أصابها النجاح أم الفشل – لقد سقطت تماما.
"هكذا المسرح"، واسى إيڤاريستو المؤلف. "هناك أعمال تفشل. وهناك أعمال أخرى يستمر عرضها إلى الأبد".

*****
4
آدم وحواء

فى وقت ما خلال العقد الأول من القرن الثامن عشر، دعت زوجة صاحب مزرعة فى باييا عدة أصدقاء حميمين إلى العشاء، وأعلنت تقديم نوع خاص من "الحلو" لأحد الضيوف، وكان معروفا بأنه فى غاية الشره. وأراد فى الحال أن يعرف نوع الحلو، فوصفته سيدة البيت بأنه شخص فضولى. ولم تكن هناك حاجة إلى أىّ شيء آخر ـ بعد ذلك بقليل، كان الجميع يتناقشون حول الفضول، وما إذا كان سمة ذكورية أم أنثوية وما إذا كان آدم أم حواء هو المسؤول عن السقوط من الجنة: قالت السيدات إنه كان خطأ آدم، وقال السادة إنه كان خطأ حواء. لم يقل القاضى شيئا وأجاب الأب بنتو، وكان راهبا كرمليًّا، بابتسامة عندما سألته مضيفته، دونا ليونور، عن رأيه: "أنا، يا سيدتى العزيزة، أعزف الڤيولا". وكان يكذب، لأنه لم يكن أكثر شهرة كعازف ڤيولا وعازف قيثار منه كلاهوتىّ.
وعندما دُعى القاضى إلى الكلام، أجاب بأنه لا يوجد أساس لتكوين رأى، لأن السقوط من الجنة لم يحدث بالطريقة التى رُوى بها فى الكتاب الأول من أسفار موسى الخمسة [التوراة]، فهى أسفار مشكوك فى صحتها. ووسط الدهشة العامة، ارتفع ضحك الكرملىّ، الذى كان يعرف أن القاضى كان أحد أتقى الرجال فى المدينة وأنه أيضا كان مرحا، وصاحب خيال مبدع، وحتى كثير المزاح حقا، طالما بقيت الأمور فى الحدود الكهنوتية ومهذبة. أما فى الأمور الجادة فقد كان جادًّا جدًّا.
"أيها الأب بنتو"، قالت دونا ليونور، "اطلبْ من السنيور ڤيلوسو أن يلزم الصمت".
"لن أطلب منه أن يلزم الصمت"، أجاب الراهب، "لأننى أعرف أن كل شيء يقوله مقصود تماما".
"لكن الكتاب المقدس..." قال الآمر بالجيش، چوان باربوسا".
"فلنتركْ الكتاب المقدس فى سلام"، قاطع الكرملىّ. "السنيور ڤيلوسو مطلع على كتب أخرى، بالطبع..."
"أنا أعرف الرواية الحقيقية للقصة"، أصرّ القاضى، فيما كان يتناول طبق "الحلو" الذى قدمته إليه دونا ليونور، "وأنا مستعد لأن أقول لكم ما أعرف، طالما كنتم لا تطلبون منى أن أفعل شيئا آخر".
"تفضَّلْ، قلْ لنا من فضلك!"
"هذه هى الطريقة التى حدث بها الأمر فعلا. فى المقام الأول، لم يكن الرب هو الذى خلق العالم، بل الشيطان..."
"يا للسماء!" صرخت السيدات.
"لا تذكر هذا الاسم"، رجتْه دونا ليونور.
"أجل، يبدو أن..." تدخّل الأب بنتو.
"نسميه الشرير، إذن. كان الشرير هو الذى خلق العالم، لكن الرب، الذى استطاع أن يقرأ أفكاره، سمح له بأن يتصرف بحرية لكنه احتاط لتصحيح وصقل عمله، بحيث لا يترك الخلاص أو المحبة عرضة لأذى قوى الشر. وسرعان ما ظهر الفعل الإلهى، لأنه بعد أن خلق الكائن الشرير الظلام، خلق الرب النور، وهكذا خُلق اليوم الأول. وفى اليوم الثانى، عندما خُلقت المياه، وُلدت العواصف والأعاصير، ولكن أنسام الأصيل الرقيقة هبطت من الفكر الإلهى. وفى اليوم الثالث، خُلقت الأرض، ومنها طلعت النباتات، لكن فقط تلك التى لا تحمل ثمارا أو أزهارا: النباتات الشوكية والنباتات القاتلة، مثل الشوكران. ولكن الرب خلق الأشجار المثمرة والنباتات التى تغذى أو تسرّ الإنسان. ولأن الكائن الشرير كان قد قام بتجويف الأغوار والكهوف فى الأرض، خلق الرب الشمس، والقمر، والنجوم ـ وهكذا كان عمل اليوم الرابع. وفى اليوم الخامس، خُلقت حيوانات اليابسة والماء والجو. ونحن نقترب الآن من اليوم السادس، وهنا ألتمس انتباهكم الكلى".
ولم يكن بحاجة إلى أن يلتمس ذلك، إذ أن الجميع كانوا يحملقون إليه بفضول.
استمرّ ڤيلوسو، قائلا إنه فى اليوم السادس خُلق الرجل، وبعده فى الحال المرأة. وكان كل منهما جميلا، ولكنهما كان يملكان فقط غرائز دنيئة ويفتقران إلى الروحيْن، اللذين لم يكن بوسع الكائن الشرير أن يمنحهما إياهما. ونفخ الرب فيهما روحيْن بنَفَس واحد، وعواطف نبيلة وطاهرة بنَفَس آخر. ولم تقف النعمة الإلهية عند ذلك الحدّ ـ جعل الرب جنة عَدْن تطلع هناك وقاد إليها آدم و حواء، مانحاً إياهما امتلاك كل شيء. كل منهما خرّ ساجدا عند أقدام الرب، يذرفان دموع العرفان بالجميل.
"سوف تعيشان هنا"، قال لهما الرب، ". لكما أن تأكلا من كل الفواكه ما عدا تلك التى من هذه الشجرة، التى هى شجرة معرفة الخير والشرّ".
أصغى آدم و حواء مطيعيْن، وعندما تـُركا وحدهما، حملق كل منهما إلى الآخر فى ذهول ـ وبدا أنهما كليهما صارا شخصين مختلفين. وقبل أن يهبها الرب مشاعر نبيلة، فكرت حواء فى تكتيف آدم بحبل، ورغب آدم فى أن يضربها. غير أنهما الآن استغرقا فى تأمل كل منهما الآخر وكذلك المشاهد الطبيعية الرائعة. ومن قبل لم يعرفا مطلقا الجو بمثل هذا النقاء، أو الماء بمثل هذه العذوبة، أو الزهور بمثل هذا الجمال والشذا، ولم يحدث أن صبّت الشمس مثل هذه الشلالات من الضوء فى أىّ مكان آخر. ويدًا فى يدٍ أخذا يهيمان على وجهيهما، ضاحكين من قلبهما فى البداية، لأنهما حتى تلك اللحظة لم يعرفا كيف يضحكان. ولم يكن لديهما أىّ تصور عن الزمن، ولهذا فإن كسلهما لم يفسح مجالا للضجر ـ وعاشا فى حالة من التأمل. وفى الأمسيات كانا يذهبان ليشاهدا غروب الشمس وطلوع القمر وكانا يُحصيان النجوم. ونادرا ما كان بوسعهما أن يُحصيا حتى ألف نجمة، لأنهما فى العادة كان يسقطان نائمين وينامان مثل اثنين من الملائكة.
وبطبيعة الحال فإن الشرير صار فى منتهى الغضب عندما اكتشف كل هذا. ولم يكن يستطيع الذهاب إلى الفردوس لأن كل شيء هناك كان منفرا له، كما أنه لم يكن يستطيع أن يأتى للمثول بنفسه ليواجه الرب. ثم إنه سمع حفيفا لأوراق الشجر الجافة على الأرض فنظر إلى أسفل ورأى حية. أثاره هذا الاكتشاف فناداها: "تعالى هنا، أيتها الأفعى، يا سرعة الغضب الزاحفة، سُمّ السموم، هل تكونين سفيرة أبيك وتُصلحى أعماله؟"
بذيلها، قامت الحية ببادرة غامضة بدا أنها إيجابية. منحها الشرير القدرة على الكلام، وأجابت هى بالإيجاب، إنها ستذهب إلى أىّ مكان قد يرسلها إليه ـ إلى النجوم، إذا أعطاها جناحىْ نسر؛ إلى البحر، إذا كشف لها عن سرّ التنفس تحت الماء؛ إلى أعماق الأرض، إذا علمها مواهب النملة. أخذت الخبيثة تتلوى بلا توقف، راضية بصورة مسرفة بكلامها، غير أن الشرير قاطعها: "لا شيء من هذا القبيل، ليس إلى الجو، أو البحر، أو أعماق الأرض، فقط إلى جَنَّة عَدْن، حيث يعيش آدم و حواء".
"آدم و حواء؟"
"نعم، آدم و حواء".
"المخلوقان الجميلان الذان رأيناهما ذات مرة، يسيران مستقيمين. وطويلين مثل أشجار النخيل؟"
"هما ذاتهما".
"أوه، أنا أمقتهما! آدم وحواء؟ لا، لا، أرسلنى إلى مكان آخر. أنا أمقتهما! مجرد رؤيتهما تصيبنى بالغثيان. أنت لا تريد أن أصيبهما بأىّ أذى..."
"لكننى أريد!"
"حقا، إذن سأذهب، سأفعل ما تشاء، يا سيدى ويا أبى. الآن أسرعْ وقلْ لى ماذا تريدنى أن أفعل. أن ألدغ كعب حواء؟ سألدغ..."
"لا"، قاطع الشرير. "أريد العكس بالضبط. هناك شجرة فى الجنة، شجرة معرفة الخير والشر، التى من المحظور عليهما لمسها ومن المحظور عليهما أن يأكلا من ثمارها. اذهبى، وتكوَّرى فى أعلى هذه الشجرة، وعندما يمرّ بك أحدهما، ناديه بلطف، واقطفى واحدة من ثمارها، وقدميها له، قائلة إنها ألذ ثمرة فى العالم. وإذا رفض، سوف تُصِرِّين على أن يأخذها، قائلة إنه يحتاج فقط إلى أن يأكلها ليكتشف سرّ الحياة ذاتها. اذهبى، اذهبى..."
"سأذهب، لكننى لن أتكلم مع آدم، سأتكلم مع حواء. سأذهب، سأذهب. هل تعنى حقا سرّ الحياة ذاتها؟"
"نعم، هذا صحيح. انطلقى، يا أفعى لحمى، يا زهرة الشرّ، وإذا نجحتِ، أقسم أنك سوف تمتلكين الجانب البشرى من الكون، وهو الجانب الأفضل، لأنه ستكون لديك كعوب كثيرات من بنات حواء لتلدغيها ودم عدد هائل من بنى آدم لتحقنى فيه ڤيروس الشر. اذهبى، اذهبى، ولا تنسى..."
تنسى؟ لقد حفظت بالفعل كل شيء عن ظهر قلبها. ذهبت ودخلت الفردوس الأرضية، وسَعَتْ متسلقة إلى أعلى شجرة المعرفة، وتكوّرت، وانتظرت. ظهرت حواء بعد ذلك بوقت قصير، تمشى برشاقة ومنفردة، بثقة ملكة تعرف أنه لا أحد سيسرق منها تاجها. وممزقة بالحسد، كانت الحية على وشك استدعاء السُّمّ إلى لسانها، لكنها تذكرت أنها كانت هناك بأوامر من الشرير ونادت حواء بصوت معسول. وأصيبت حواء بالذهول.
- "مَنْ ينادينى؟"
- "أنا التى أناديك، أنا آكل هذه الثمرة...
- "أيتها البائسة! هذه شجرة معرفة الخير والشر!"
- "هذا صحيح. أنا أعرف كل شيء الآن، أصْل الأشياء وسرّ الحياة. واصلى، خذى قضمة، وسوف تفوزين بقدرات عظيمة على الأرض".
- "لا، أيتها الحية الغادرة!"
- "أيتها الحمقاء! كيف يمكن أن ترفضى عَظمة العصور؟ استمعى إلىّ، وافعلى كما أقول، وسوف تصبحان عددا هائلا من البشر، سوف تشيدون مُدنا، وسيكون اسمك كليوپاترا، دايدو، سميراميس. الأبطال سيولدون من رحمك وستكونين كورنيليا. وسوف تسمعين صوتا من السماء وستكونين ديبورا. وستغنّين وسوف تصيرين سافو. وذات يوم، إذا رغب الرب فى النزول إلى الأرض، فسوف يختار جسمك، وسيكون اسمك مريم الناصرية. فيم يمكن أن ترغبى أكثر؟ الملكية، الشِّعر، الألوهية ـ أنت تتنازلين عن كل شيء بسبب طاعة حمقاء. وليس هذا كل شيء. الطبيعة ستجعلك حتى أكثر جمالا. الألوان المشرقة وكذلك الباهتة لأوراق الشجر، والسماء، والليل، سوف تنعكس فى عينيك. الليل، فى تنافس مع الشمس، سوف يعربد فى شَعْرك. أطفال رحمك سوف ينسجون لك أروع الملابس، ويبتكرون أزكى العطور، والطيور سوف تعطيك ريشها، والأرض أزهارها، وكل شيء، كل شيء، كل شيء..."
استمعت حواء بفتور. وصل آدم، واستمع إلى الحية، وأكد إجابات حواء: لا شيء يستحق المخاطرة بفقدان الفردوس، لا المعرفة، ولا القوة، ولا أىّ وهم دنيوى آخر. وحالما قالا هذا، تصافحا واستدارا بعيدا عن الحية، التى غادرت مندفعة لتخبر الشرير بما حدث...
الرب، الذى كان قد سمع كل شيء، قال ل جبريل: "اذهب، يا رئيس ملائكتى، واهبط إلى الجنة الأرضية التى يعيش فيها آدم و حواء، وخذهما إلى النعيم الأبدى، الذى يستحقانه على مقاومتهما لغوايات الشرير".
عندئذ وضع رئيس الملائكة على رأسه الخوذة التى تألقت مثل ألف شمس، وعبر السماوات فى لحظة، ووصل إلى آدم و حواء، وقال لهما: "مرحبا، آدم و حواء. تعاليا معى إلى الفردوس التى فزْتما بها لمقاومتكما غوايات الشرير".
مندهشيْن ومرتبكيْن، أحنى آدم و حواء رأسيهما فى طاعة، وأخرج جبريل لهما يديه. وصعد الثلاثة إلى المثوى الأبدى، حيث كان فى انتظارهما حشود من الملائكة يغنون.
"ادخلا، ادخلا. الأرض التى غادرتماها متروكة الآن لمخلوقات الشرير، الحيوانات الضارية والحاقدة، النباتات الضارة والسامة، الجو غير النقى، المستنقعات. الحية الزاحفة، الكريهة، اللادغة سوف تسيطر على الأرض، وما من مخلوقات مثلكما ستجلب بصيصا من الأمل والتقوى إلى مثل هذا الشيء البغيض".
كانت تلك هى الطريقة التى دخل بها آدم و حواء الجنة ـ على صوت كلّ آلات القانون الموسيقية فيها، التى وحدت ألحانها فى ترنيمة للمرتديْن عن العالم...
... انتهت قصته، وأعطى القاضى طبقه ل دونا ليونور لكى تقدم له مزيدا من الحلو، فيما كان الضيوف الآخرون يحملقون الواحد فى الآخر بدهشة ذلك أنهم، بدلا من تفسير، سمعوا سردا ملغزا، أو على الأقل قصة بدون معنى ظاهر. وكانت دونا ليونور أول من تكلم: "كنتُ على حق عندما قلت إن السنيور ڤيلوسو يعبث بنا. فهو لم يفعل ما طلبنا منه أن يفعل، كما أن الأمر لم يحدث بالطريقة التى قال إنه حدث بها. أليس هذا صحيحا، أيها الأب بنتو؟"
"القاضى الجليل سيعرف الرد على ذلك"، أجاب الكرملى، مبتسما.
وبمجرد أن رفع القاضى ملعقة من الحلو إلى فمه، قال: "عند إعادة النظر، لا أعتقد أن أىّ شيء من هذا قد حدث بالفعل، لكنْ، يا دونا ليونور، إذا كان قد حدث فإننا لم نكن لنوجد هنا مستمتعين بهذا الحلو، فهو بكل إخلاص لذيذ تماما! هل هو من صنع طباخ حلوياتك القديم من إتاپاچيپى؟"


*****
5
الحياة

نهاية الزمن. أحشويرش، جالسا على صخرة، يحملق وقتا طويلا فى الأفق، الذى يشقه نسران، يطيران متعامدين كل منهما على الآخر فى طريقهما. وهو يتأمل، ثم يسقط دائخا. النهار يخبو.
أحشويرش. لقد وصلتُ إلى نهاية الزمن؛ هذه عتبة الأبدية. الأرض مهجورة، ولا إنسان آخر يتنفس هواء الحياة. أنا الأخير؛ أستطيع أن أموت. أموت! فكرة ثمينة! لقد عشتُ قرونا من القرون، متعبا، مُذلا، متجولا أبدا، أما الآن فإن القرون تصل إلى نهاية، وسأموت معها. أيتها الطبيعة القديمة، وداعا! السماء اللازوردية، السحب التى تولد أبدا من جديد، ورْد يوم وكل يوم، المياه الخالدة، الأرض المعادية التى لن تلتهم أبدا عظامى، وداعا! المتجول الأبدى لن يتجول بعد الآن. فليغفر الرب لى إنْ شاء، غير أن الموت سوف يعزِّينى. ذلك الجبل لا يلين مثل حزنى؛ هذان النسران اللذان يطيران هنالك لا بد أنهما جائعان مثل يأسى. هل ستموتان أنتما، أيضا، أيها النسران المقدسان؟
پروميثيوس. بالتأكيد هلك الجنس البشرى؛ الأرض خالية منهم.
أحشويرش. أسمع صوتا.... صوت كائن بشرى؟ أيتها السماء العنيدة، ألستُ أنا الأخير؟ إنه يقترب.... مَنْ أنت؟ ها هو يشعّ فى عينيك الواسعتين الضوء الغامض لكبار ملائكة إسرائيل؛ أنت لستَ كائنا بشريا....؟
پروميثيوس. لا.
أحشويرش. من جنس إلهى، إذن؟
پروميثيوس. لقد قلتها أنت.
أحشويرش. أنا لا أعرفك؛ ولكنْ ما أهمية أن لا أعرف؟ أنت لستَ كائنا بشريا، إذن أنا يمكن أن أموت؛ لأننى الأخير وأنا أغلق بوابة الحياة.
پروميثيوس. الحياة، مثل طيبة القديمة، لها مائة بوابة. أنت تغلق واحدة، وآخرون سيفتحونها. أنت الأخير من نوعك؟ إذن سيأتى نوع آخر أفضل، مصنوع ليس من طين، بل من النور نفسه. نعم، آخر البشر، كل الأرواح العادية سوف تفنى إلى الأبد؛ وصفوتها هى التى ستعود إلى الأرض وتحكم. الأعمار سيتم تصحيحها. الشر سينتهى؛ الرياح من الآن فصاعدا لن تنثر لا جراثيم الموت ولا صراخ المقهورين، بل فقط أغنية الحب الأبدية وبركة العدالة الشاملة....
أحشويرش. ماذا يمكن أن تكون أهمية كل بهجة ما بعد الموت هذه بالنسبة لنوع يموت معى؟ صدِّقـْنى، أنت أيها الخالد، بالنسبة للعظام التى تتعفن فى التراب لا قيمة لثروات سيدونيا. إن ما ترويه لى أفضل حتى مما حلم به كامپانيلا. ففى المدينة الفاضلة لذلك الرجل كانت توجد مباهج وأمراض؛ ومدينتك تستبعد كل العلل المهلكة والجسدية. عسى أن يسمعك الرب! لكنْ دعْنى أذهب لأموت.
پروميثيوس. اذهبْ، اذهبْ. لكنْ لماذا هذه العجلة لإنهاء أيامك؟
أحشويرش. عجلة رجل عاش آلاف السنين. نعم، آلاف السنين. الناس الذين بالكاد عاشوا عشرات من السنين اخترعوا إحساسا بالسأم، tedium vitae [- حياة الضجر -]، الذى لم يعرفوه مطلقا، على الأقل فى كل واقعه العنيد والهائل، لأن من الضرورى أن يكون المرء قد ترحَّل عبر كل الأجيال وكل الجوائح ليحسّ بتلك التخمة العميقة بالوجود.
پروميثيوس. آلاف السنين؟
أحشويرش. اسمى أحشويرش؛ أقمتُ فى أورشليم فى الزمن الذى كانوا يوشكون فيه على صلب المسيح. وعندما عبر بابى كان واهنا تحت ثقل الخشبة التى كان يحملها على كتفيه، دفعتـُه إلى الأمام، طالبا منه أن لا يتوقف، أن لا يستريح، أن يواصل طريقه إلى التل حيث كان سيتم صلبه.... عندئذ جاء صوت من السماء، قائلا لى أننى، أيضا، سيكون علىَّ أن أتنقل إلى الأبد، بصورة متواصلة، إلى نهاية الزمن. تلك كانت جريمتى؛ لم أشعر بأىّ شفقة نحوه هو الذى كان ذاهبا إلى موته. وأنا نفسى لا أعرف كيف حدث هذا. قال الفريسيون أن ابن مريم كان قد جاء ليدمر القانون، وأنه يجب قتله؛ وأنا، البائس الجاهل، رغبت فى أن أعرض حماسى وبالتالى ما فعلته فى ذلك اليوم. وما أكثر ما رأيت ذلك الشيء نفسه منذ ذلك الحين، راحلا بلا توقف عبر المدن والعصور! ومنذ تغلغل الحماس فى روح خانع، صار قاسيا وسخيفا. وكانت جريمتى لا تـُغتفر.
پروميثيوس. جريمة فادحة، فى الحقيقة، ولكن العقاب كان متساهلا. الناس الآخرون قرأوا فقط فصلا من كتاب الحياة؛ أنت قرأت الكتاب كله. ماذا يعرف فصل عن الفصل الآخر؟ لا شيء. ولكن مَنْ قرأها جميعا، يربطها ببعضها ويستنتج. هل هناك صفحات كئيبة؟ هناك، أيضا، صفحات مرحة وسعيدة. التشنج المأساوى يسبق تشنج الضحك؛ الحياة تنمو من الموت، البجع والعصافير تغير المناخ، دون أن تهجره تماما؛ وهكذا ينسجم كل شيء ويبدأ من جديد. أنت رأيت هذا، ليس عشر مرات، ليس ألف مرة، بل دائما؛ أنت شاهدت روعة الأرض وهى تعالج مصاب الروح، وبهجة الروح تعوِّض كآبة الأشياء؛ الرقص التناوبى للطبيعة، التى تعطى يدها اليسرى لأيوب ويدها اليمنى لسارداناپالوس.
أحشويرش. ماذا تعرف عن حياتى؟ لا شيء؛ أنت تجهل الوجود البشرى.
پروميثيوس. أنا، أجهل الحياة البشرية؟ هذا مضحك حقا! تعال، أيها الإنسان الأبدىّ، اشرح نفسك. قلْ لى كل شيء، أنت غادرت أورشليم....
أحشويرش. غادرتُ أورشليم. وبدأت التيه عبر العصور. ارتحلت فى كل مكان، مهما كان العِرْق، العقيدة أو اللغة، ثلوج الشموس، الشعوب البربرية والمتحضرة، الجزر، القارات؛ حيثما تنفس إنسان، هناك كنت أتنفس. لم أعمل مطلقا. العمل ملاذ، وذلك الملاذ تم إنكاره علىّ. كل صباح كنت أجد عندى النقود الضرورية لليوم... انظرْ؛ كان هذا هو توزيع الحصص الأخير. اذهبْ، لأننى لم أعد بحاجة إليك. (-يُظهر النقود ويلقى بها بعيدا-) لم أعمل؛ كنت أترحل فقط، دوما دوما، يوما بعد يوم، عاما بعد آخر، قرنا بعد قرن. العدالة الأبدية كانت تعرف ما تفعل: أضافت البطالة إلى الأبدية. أورثنى جيل للآخر. اللغات، عندما كانت تموت، كانت تحتفظ باسمى مثل أحفور. ومع مرور الزمن كان كل شيء يُنسى؛ الأبطال تلاشوا متحولين إلى أساطير، إلى أشباح، وتفتت التاريخ إلى شظايا، فقط سمتان أو ثلاث سمات غامضة بعيدة تبقى منه. ورأيتها فى مظهر متغير. أنت تكلمت عن فصل؟ سعداء هم أولئك قرأوا فقط فصلا واحدا من الحياة. أولئك الذين يرحلون عند مولد إمپراطوريات يحملون معهم انطباع دوامها؛ وأولئك الذين يموتون عند سقوطها، يُدفنون على أمل استعادتها؛ ولكن ألا تدرك ماذا يعنى أن ترى الأشياء نفسها بلا انقطاع، نفس تعاقب الازدهار والدمار، الدمار والازدهار، المآتم الأبدية وترانيم الشكر الأبدية، فجرا بعد فجر، غروبا بعد غروب.
پروميثيوس. لكنك لم تكن تعانى، فيما أعتقد. إنه شيء لا معاناة فيه.
أحشويرش. نعم، لكننى رأيت بشرا آخرين يعانون، وفى النهاية كان مشهد البهجة يعطينى نفس الأحاسيس مثل خطابات أبله. فواجع اللحم والدم، الصراع لا ينتهى، رأيت كل شيء يمرّ أمام عينىّ، إلى أن جعلنى الليل أفقد طعم النهار، والآن لا أستطيع أن أميِّز الأزهار من الأشواك. كل شيء مشوش فى شبكية عينى المرهقة.
پروميثيوس. لكن لم يؤلمك شيء شخصيا؛ وماذا عنى، أنا الذى أعانى منذ زمن سحيق غضب الآلهة؟
أحشويرش. أنت؟
پروميثيوس. اسمى پروميثيوس.
أحشويرش. أنت! پروميثيوس!
پروميثيوس. وماذا كانت جريمتى؟ من الطين والنار صنعتُ البشر الأوائل، وفيما بعد، وقد سيطر علىَّ التعاطف، سرقت من أجلهم النار من السماء. تلك كانت جريمتى. چوپيتر، الذى كان حينئذ يسيطر على الأوليمپ، حكم علىَّ بأقسى أشكال التعذيب. تعالَ، تسلـَّق هذه الصخرة معى.

أحشويرش. أنت تحكى لى حكاية. أنا أعرف تلك الأسطورة الهيلينية.
پروميثيوس. أيها الصديق القديم المتشكك! تعالَ شاهدْ نفس الأغلال التى كبلتنى؛ كان عقابا مفرطا دون أىّ جريمة على الإطلاق؛ ولكن التكبر الإلهى مرعب... انظرْ، ها هى هناك...
أحشويرش. والزمن، الذى يقضم كل شيء، لا يرغب فيها، إذن؟
پروميثيوس. كانت مصنوعة بيدٍ إلهية. سبكها ڤولكان. جاء مبعوثان من السماء لتأمين تقييدى إلى الصخرة، وأخذ نسر، مثل ذلك الذى يطير الآن عبر الأفق، يقضم كبدى دون أن يأتى عليه أبدا. ودام هذا وقتا لا قبل لى بتقديره. لا، لا، أنت لا تستطيع أن تتصور هذا العذاب...
أحشويرش. ألست تخدعنى؟ أنت، پروميثيوس؟ ألم يكن هذا ، إذن، اختلاقا من الخيال القديم؟
پروميثيوس. انظرْ إلىَّ جيدا؛ المسْ هاتين اليدين. انظرْ ما إذا كنتُ موجودا حقا.
أحشويرش. إذن موسى كذب علىّ. أنت پروميثيوس، خالق البشر الأوائل؟
پروميثيوس. تلك كانت جريمتى.
أحشويرش. نعم، كانت جريمتك، حيلة جهنمية؛ جريمتك كانت لا تغتفر. كان ينبغى أن تبقى إلى الأبد، مقيدا ويتواصل التهامك، أنت، أصل الأمراض التى تصيبنى. كانت تنقصنى الرحمة، هذا صحيح، ولكنك، أنت الذى منحتنى الحياة، أيها الإله المنحرف، كنت سبب كل شيء.
پروميثيوس. الموت المقترب يشوش عقلك.
أحشويرش. نعم، إنه أنت؛ لك الجبين الأوليمپى، أنت العملاق القوى والجميل، إنه أنت حقا... هل هذه أغلالك؟ أنا لا أرى عليها أىّ أثر لدموعك.
پروميثيوس. لقد ذرفتها من أجل جنسك البشرىّ.
أحشويرش. البشرية بكت أكثر بكثير بسبب جريمتك.
پروميثيوس. اسمعنى، يا آخر البشر، يا آخر منكرى الجميل!
أحشويرش. ما حاجتى إلى كلماتك؟ أنا أرغب فى تذمراتك، أيها الإله المنحرف. هاهى الأغلال. انظرْ كيف أرفعها؛ استمع إلى صليل الحديد... مَنْ فكّ قيودك الآن؟
پروميثيوس. هرقل.
أحشويرش. هرقل.... انظرْ ما إذا كان سيكرر خدمته الآن فأنت سيجرى تقييدك من جديد.
پروميثيوس. أنت تخرِّف.
أحشويرش. السماء أعطتك عقابك الأول، والآن ستعطيك الأرض عقابك الثانى والأخير. حتى هرقل لن يكون قادرا على كسر هذه الأغلال. انظرْ كيف ألوِّح بها فى الهواء، مثل الريش! لأننى أمثل قوة يأس ألف سنة. كل البشرية مركّزة بداخلى. وقبل أن أغرق فى الهوة، سأكتب على هذا الحجر الكتابة على قبر عالم. وسأستدعى النسر، وسيأتى؛ وسأخبره أن الإنسان الأخير، عند رحيله من الحياة، يترك له إلها كهدية.
پروميثيوس. مسكين، أيها البائس الجاهل، الذى يرفض عرشا! لا، أنت لا تستطيع أن ترفضه.
أحشويرش. الآن أنت الذى تخرِّف. اركعْ، ودعنى أقيِّد ذراعيك. هكذا، جميل أنك لن تقاوم بعد الآن. انحنِ هكذا؛ والآن رِجْليْك....
پروميثيوس. افعله، افعله. إن آلام الأرض هى التى تدور دائرتها علىّ؛ لكننى، أنا الذى لست كائنا بشريا، لا أعرف نكران الجميل. أنت لن يُبخل عليك بمثقال ذرة من قـَدَرِك؛ سيجرى تحقيقه بالحرف. أنت نفسك ستكون هرقل الجديد. أنا، الذى أعلنت مجد الآخر، أعلن الآن مجدك؛ وأنت لن تكون أقل كرما منه.
أحشويرش. هل أنت مجنون؟
پروميثيوس. الحقيقة التى يجهلها الإنسان هى جنون من يعلنها. واصلْ، افعله.
أحشويرش. المجد لا يعود بشيء، إنه يموت.
پروميثيوس. هذا المجد لن يموت أبدا. افعله ؛ اجعلْ المنقار الحاد للنسر يرى أين سيكون عليه أن يلتهم أحشائى. لكن اسمعْ... لا، لا تسمع شيئا؛ أن لا تستطيع أن تفهمنى.
أحشويرش. تكلـَّمْ؛ تكلـَّمْ.
پروميثيوس. العالم الزائل لا يستطيع أن يفهم العالم الأبدىّ؛ ولكنك ستكون حلقة الوصل بين الاثنين.
أحشويرش. احكِ لى كل شيء.
پروميثيوس. أنا لا أقول شيئا؛ قيِّدْ هذه الأصفاد جيدا، فأنا لن أهرب، بحيث أننى سأكون هنا عند عودتك. أحكى لك كل شيء؟ لقد أخبرتك بالفعل أن جنسا جديدا سيسكن الأرض، وهو يتكون من الأرواح المختارة للبشرية المنقرضة؛ وهذه الكثرة من الآخرين سيهلكون. أسرة نبيلة، كلية الرؤية وقوية، ستكون محصلة الدمج الكامل بين الإلهى والبشرى. الأزمنة ستكون مختلفة، غير أن بينها وبين هذه الأزمنة ستكون حلقة ما ضرورية، وستكون أنت تلك الحلقة.
أحشويرش. أنا؟
پروميثيوس. أنت نفسك؛ أنت، المختار؛ أنت، الملك. نعم، يا أحشويرش. أنت ستكون الملك. التائه سيجد الراحة. المحتقر من البشر سيحكم البشرية.
أحشويرش. أيها العملاق الخبيث، أنت تخدعنى... الملك، أنا؟
پروميثيوس. أنت، الملك. مَنْ غيرك، إذن؟ العالم الجديد سيحتاج إلى أن يكون مقيَّدًا بتراث، ولا أحد يستطيع أن يتحدث عن تراث للآخر كما تستطيع أنت. وهكذا لن تكون هناك فجوة بين البشريتين. الكامل سينطلق من الناقص، وستخبر شفتاك العالم الجديد بأصله. سوف تروى للبشرية الجديدة كل الخير والشر القديمين. وعلى هذا النحو ستعيش أنت من جديد مثل الشجرة التى تقطع أغصانها الميتة، ولا يتم الاحتفاظ إلا بالأغصان الريانة، ولكن النمو هنا سيكون أبديًّا.
أحشويرش. رؤية باهرة! أنا نفسى؟
پروميثيوس. أنت ذات نفسك.
أحشويرش. هاتان العينان... هاتان اليدان... حياة جديدة وأفضل... رؤية مجيدة! أيها العملاق، إنه عادل. العقاب كان عادلا؛ ولكنه عادل أيضا الغفران المجيد لخطيئتى. هل سأعيش؟ أنا نفسى؟ حياة جديدة وأفضل؟ لا، أنت تمزح معى.
پروميثيوس. حسن جدا، إذن؛ اتركنى. ستعود ذات يوم، عندما ستكون هذه السماء الشاسعة مفتوحة لتدع أرواح الحياة الجديدة تهبط. سوف تجدنى هنا فى سلام. اذهبْ.
أحشويرش. هل سأقوم بتحية الشمس مرة أخرى؟
پروميثيوس. نفس الشمس ذاتها توشك على الغروب. أيتها الصديقة الشمس، عين الزمن، لن تغمض جفونك بعد الآن أبدا. حملقْ فيها، إنْ استطعت.
أحشويرش. لا أستطيع.
پروميثيوس. ستكون قادرا على هذا، عندما ستكون أوضاع الحياة الجديدة قد تغيرت. عندئذ سوف تحملق شبكية عينك فى الشمس دون خطر، لأنه سيتركز فى إنسان المستقبل كل ما هو الأفضل فى الطبيعة، منشطا أو رقيقا، متألقا أو نقيا.
أحشويرش. أقسمْ على أنك لا تكذب.
پروميثيوس. سوف ترى ما إذا كنتُ أكذب.
أحشويرش. تكلـَّمْ، استمرّ؛ احكِ لى كل شيء.
پروميثيوس. وصف الحياة لا يساوى الإحساس بالحياة؛ سوف تجرب هذا بعمق. حضن إبراهيم فى توراتك القديمة ليس سوى هذا العالم النهائى، الكامل. هناك ستقوم بتحية داود والأنبياء. وهناك سوف تروى للمستمعين المذهولين، ليس فقط الأحداث الكبرى للعالم المنقرض، بل أيضا الأدواء التى لن يعرفوها أبدا: المرض، الشيخوخة، الحزن، الأنانية، النفاق، التكبر البغيض، البلاهة، والباقى. الروح، مثل الأرض، سوف يملك غلافا غير قابل للتلف.
أحشويرش. سأحملق دائما فى السماء الزرقاء الشاسعة؟
پروميثيوس. انظرْ كم هى جميلة.
أحشويرش. جميلة وهادئة مثل العدل الأبدىّ. السماء الرائعة، أجمل من خيام القيصر. سأراك إلى الأبد؛ وسوف تتلقى أفكارى، كما كان الأمر من قبل؛ وسوف تمنحنى أياما صافية، وليالى ودودة.
پروميثيوس. فجرا على فجر.
أحشويرش. آه، واصلْ كلامك، واصلْ كلامك. احكِ لى كل شيء. دعنى أفكّ هذه السلاسل....
پروميثيوس. أرخها، يا هرقل الجديد، الإنسان الأخير من العالم القديم، الذى سيكون أول الجديد. هذا هو قـَدَرُك؛ لا أنت ولا أنا، ولا أحد يستطيع أن يبدِّله. ستذهب أبعد من نبيك موسى. من أعلى جبل نيبو، عند نقطة الموت، أبصر أرض أريحا، التى كانت ستخص ذريته وقال له الرب: "أنت رأيت بعينيك، ولكن لن تذهب أبعد." - أنت – ستذهب أبعد، يا أحشويرش؛ سوف تسكن فى أريحا.
أحشويرش. ضعْ يدك على رأسى؛ انظر جيدا إلىّ؛ املأنى بحقيقة نبوءتك؛ دعنى أتنفس قليلا من الحياة الجديدة المليئة.... هل قلت الملك؟
پروميثيوس. الملك المختار لشعب مختار.
أحشويرش. ليس هذا بالكثير كتعويض عن الهوان الشديد الذى عشته. وحيث كوَّمت حياة منهما الوحل، ستضع حياة أخرى هالة. تكلمْ، واصلْ الكلام... واصلْ الكلام... (- يواصل الحلم. النسران يقتربان-.)
النسر الأول. آىْ، آىْ، آىْ! وا أسفاه على هذا الإنسان الأخير؛ إنه يحتضر، لكنه ما يزال يحلم بالحياة.

النسر الثانى. هو لم يكرهها كثيرا بقدر ما أحبها كثيرا.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طريق الآلام
- وَقْع أقدام
- الازدواج فى اللغة العربية بين -الفصحى- و-العامية-
- شعار -ثورتنا برلمان وميدان- مُخَدِّر جديد لقوى الثورة!
- المهدى الرئاسى المنتظر فى مصر!
- من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثو ...
- الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع بين المجلس العسكرى والإ ...
- -الجحيم، 1، 32- ، لويس بورخيس ت: خليل كلفت
- توفيت ابنتى السيدة هند خليل كلفت
- النسوية - أندرو ڤنسنت
- ثورة 25 يناير: سؤال السبب (ملخص حديث سوف يُلقَى فى مؤتمر بوز ...
- سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لج ...
- ندوة لخليل كلفت عن الحوار المفتوح
- النساء يحركن العالم - فيديريكو مايور و چيروم بانديه
- خليل كلفت - مفكر وسياسي ماركسي- في حوار مفتوح حول: طبيعة الث ...
- معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة
- إشكالية مدرسة فرانكفورت (بين النظريتين النقديتين: الأصلية وا ...
- كتابى -من أجل نحو عربىّ جديد- فى نقاط أساسية بقلم: خليل كلفت
- من أجل نحو عربى جديد (الجزء الثانى)
- من أجل نحو عربى جديد - الجزء الأول


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - الأب ضد الأم وقصص أخرى