أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 15 المثقفون وأدوارهم 4 سوريا من جديد















المزيد.....



قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 15 المثقفون وأدوارهم 4 سوريا من جديد


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3671 - 2012 / 3 / 18 - 13:21
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
15
المثقفون وأدوارهم 4 سوريا من جديد
لأنها النموذج :
لأن ما حدث ويحدث في ليبيا ، يؤخذ كدليل ، أو كمؤشر ، على ما يحدث وسيحدث في سوريا ، فإنني أكاد أجزم ، أن ابتسامات ساخرة شامتة ، علت وستعلو وجوه مثقفين ، إعلاميين وسياسيين ، من معتنقي ومروجي نظرية المؤامرة ، بعد مؤتمر بنغازي . وأكاد أجزم بأنهم سيخرجون لنا ألسنتهم قائلين : ألم نحذركم ؟ ألم نقل لكم أن مؤامرة سايكس – بيكو جديدة معدة لبلداننا العربية منذ زمن ؟ ألم نقل لكم أن أوان تنفيذها قد حل الآن ، مع بدء وتطورات ثورات الربيع العربي ؟ قلتم أن ليبيا خرجت سالمة ولم يجر تقسيمها ، وهذا دليل أن المؤامرة من صنع خيالنا . إذن اقرأوا ، اسمعوا ، شاهدوا ما يجري الآن هناك . إقرأوا عن مؤتمر بنغازي . شاهدوا وعوا ما تمخض عنه من إعلان عن قيام حكم ذاتي لبرقة ، والدعوة لليبيا فيدرالية . الكل ، حتى رئيس المجلس الانتقالي الليبي ، مصطفى عبد الجليل ، وحتى رئيس وزرائه ، يقول بأنها مؤامرة لتقسيم ليبيا ، وأنه سيبذل كل جهد لإحباطها ، وأن بلدا عربيا ، وربما أكثر ، ضالعون في المؤامرة ، فهل بقي لكم منفذ للمكابرة ، فإعادة القول بأن فكرة المؤامرة من صنع خيالنا ؟ يا أيها القوم اصحوا تصحو .

ونقول " مكابرين !" : لا وجود فعلي أو عملي لهكذا مؤامرة . وليبيا ستبقى موحدة ولن يتم تقسيمها . ولا قدرة لأحد على فعل ذلك . نعم قرأنا ، شاهدنا وسمعنا ، مثلكم تماما . ولكننا قرأنا ، ونقرأ الأحداث ، من زاوية مخالفة . نسألكم : ما الذي كان يفعله حكم ، زعم لسنوات طويلة ، أنه يقود حركة التحرر العالمي ، لبلده ؟ كيف يمكن فهم أن المصروف الشهري الجاري ، العادي بلا حالات طارئة ، ولواحد من أبنائه فقط ، كان مليوني دولار ، في وقت ظلت فيه مدينة بنغازي ، بالثلاثة أرباع مليون من سكانها ، بدون شبكة صرف صحي ؟ كيف تفهمون أن نظام الثورة على الامبريالية ، يودع مئات المليارات في البنوك الامبريالية ، وولاية برقة ، كما الولايات الأخرى ، لا تنعم ببنية تحتية ، هي أهم مستلزمات الحياة في عصرنا الراهن هذا ؟ كيف تفهمون أن بلدا بحجم فلسطين ، بادرت سلطته الوطنية ، ومنذ اليوم الأول ، إلى تقسيمه إداريا لست عشرة محافظة ، في حين أن ليبيا ، بمساحتها الهائلة ، ما زالت لا تعرف هذا النوع من التقسيم الإداري ؟ وأكثر من ذلك تبرز مسألة التقسيم الإداري الآن ، كأحد المعضلات التي تعمل الحكومة الانتقالية على حلها ، وحيث المقترحات فيها كثيرة ، ومنها تقسيم ليبيا إلى ثلاث عشرة محافظة ؟ كيف تفهمون أن برقة تقوم على بحيرات النفط ، وبها مصافيه ، ومن موانئها يتم تصديره ، ومع ذلك لا تحظى بمستشفى معقول ، أو بجهاز صحي مقبول ؟ وإذن ضعوا أنفسكم مكانهم ، فكيف كنتم ستتصرفون للفت أنظار السلطة المركزية لمشاكلكم وحلها ؟
في بحثهم عن الحل رجع البنغازيون إلى تاريخهم . كانت ليبيا الملكية مكونة من ثلاث ولايات ، يضمها اتحاد فدرالي . رأوا أن العودة لهذا الوضع ، لا تعوضهم فقط عن سنوات الحرمان من عائد ثرواتهم ، بل وتنقل لهم كامل السيطرة على هذه الثروات ، وليتصدقوا هم منها على الولايات الأخرى . بديهي أن يرى الآخرون في هذا التوجه ، مقدمات للانفصال ، رغم تطمين مؤتمر بنغازي بأن الأمر ليس كذلك . تنبه المجلس الانتقالي ، والحكومة المؤقتة للأمر . ورأوا أن الحل لا يحتاج إلى الكثير من الجهد في التفكير . الحل هو في الخلاص من البطء الذي يسم خطوات الحكومة ، وبينها الاستقرار على تقسيم إداري سليم للبلد ، ثم إقراره ووضعه موضع التنفيذ ، وإلى جانبه ، وبذات الوضع ، التخلص من المركزية الشديدة ، وإقرار وتطبيق نظام لا مركزي ، يسمح بتوزيع عادل للثروة وللخدمات . وهذا ما تعمل عليه الحكومة ، حسبما يصدر عنها من بيانات . وبافتراض أن الحكومة المركزية فشلت في إيجاد حل مقبول لمشكلة ليبيا الإدارية ، وأن البنغازيين نجحوا في إعادة النظام الإداري في العهد الملكي ، أي إعادة تقسيم ليبيا إداريا إلى ثلاث ولايات ، يضمها اتحاد فدرالي ، فهل معنى ذلك المقدمة للتقسيم ؟ جوابنا لا قاطعة ، حتى ولو قالت الحكومة عكس ذلك . الحكومة ترفض العودة لنظام ما قبل القذافي . ومن حقها أن تعبئ الشارع على رفضه ز لكن النظام الفدرالي قائم في العالم ، في كل قاراته . والدول الفدرالية وحدتها متينة ، لايهددها الانقسام . من هذه الدول الولايات المتحدة ، كندا ، المملكة المتحدة ، وحيث بريطانيا واحدة من ولاياتها ، ألمانيا ، سويسرا والهند ، وغيرها كثيرا . ما يجب أن نعرفه أن طبيعة النظام هي من تقرر متانة الوحدة أو هشاشتها . من يقرر ثبات وحدة الدولة ، أو ضعفها وتهديدها الدائم بالانقسام . نظام ديموقراطي يوفر العدالة والكرامة والمساواة ويضمن الحريات والحقوق هو الحل ، إقرار المواطنة هو الحل . ذلك ما قامت من أجله الثورات العربية ، ساعية إلى تثبيت وتمتين وحدة بلدانها ، وذلك ما تحاول قوى ، تصف نفسها بالوطنية ، خطفه ، مهددة هذه الوحدة .
توصيف للحال :
وبالعود لسوريا بعد هذه المقدمة ، التي رأيت ضرورتها ، نقول : في توصيفهم للحال القائم في سوريا الآن ، يتفق طرفا المعادلة – من يساند الثورة ومن يتحفظ عليها ، وحتى من يساند النظام – في عرضهم للوقائع ، وفي إيرادهم للمعلومات . أما الخلاف فيأتي في التحليل والاستنتاج ، وتقرير المواقف . وكان أن عرض الأستاذ الكبير ، محمد حسنين هيكل ، في حوار مع جريدة الأخبار المصرية ، الجزء الثالث من الحلقة الثالثة ، والمنشور في عدد 16 / 2 الماضي ، عرض تلخيصا وافيا لتوصيف ورؤية المتحفظين لما جرى ويجري في سوريا . ولأنه كذلك ، ولأنه يطرح موضوعات وقضايا ، هي محل نقاش دائم ، وستكون موضوعات هذه الحلقة ، رأيت أن أعيد نقلها ، كاملة تقريبا للقارئ .
يقول هيكل لمحاوره ، وهو رئيس تحرير الأخبار ياسر رزق : " تأمل بدقة ما يجري في سوريا . في هذا البلد نظام سيء ، وهناك قوى كثيرة في سوريا بالفعل ترفضه . وفي كل الأحوال فقد طال حكمه بأكثر مما هو صحي ، وأكثر مما هو أخلاقي ، لأن ظروف البقاء في السلطة ، إلى درجة توريثها بإصرار ، يفاقم سلبياتها ويستنزف آداءها . بمعنى أن في سوريا بالفعل حالة ثورية ، لكن هناك من يستغل هذه الحالة ويوظف الربيع العربي لصالحه . ولك أن تقرأ كامل التقرير الذي قدمه رئيس مراقبي الجامعة العربية ، وهو الفريق " الدابي " . ففي هذا التقرير يتحدث الرجل صراحة عن أخطاء للنظام جسيمة ، وعن خطايا رصدها فريقه ، لكنه يتحدث أيضا عن ضحايا لم يقعوا ، وعن مشاهد لم تحدث ، وعن صور وأصوات يجري تصنيعها بالتدليس والتزييف ، وكثير منها في معامل باريس ولندن . لكن هذا التقرير تم إجهاضه منذ اللحظة الأولى ، ، ومن قبل أن يخط مقدمه حرفا واحدا في نصه . على أنه تقرير كاشف ، ثم إن الظروف التي أحاطت به ملتوية القصد . وفي الواقع فإن هناك حالة ثورة في سوريا ، لكن هناك من يحاول الاستيلاء من الخارج على الثورة وعلى سوريا . دعني أذكر لك أن المعركة على روح الثورة السورية ، وعلى سوريا نفسها ، سوف تبلغ ذروتها خلال أسابيع ، ومصر مشغولة مستغرقة في مطاردة نيران متفرقة لا تعالج صميم مشاكلها ، ولا تفتح طريقا لحلها ، وأسوأ من ذلك لا يبدو لي أننا في مصر واعون بما يجري ، ولا مهتمون به ، رغم أنه إذا نجح في مقصوده ، واستولى على الثورة في سوريا فقد استولى على سوريا ذاتها " .
ينتقل هيكل بعد هذا للتذكير بالثورة السورية على الخلافة العثمانية ، في مطلع القرن الماضي ، ثم تسليم قيادتها إلى الشريف حسين بن علي شريف مكة ، الذي كان قد تحالف مع بريطانيا ، فضياع تلك الثورة . ويعرج على ليبيا ومقارنات بين كتاب أعمدة الحكمة السبعة للكولونيل لورنس ، الذي عرف بلورنس العرب ، وما جرى في ليبيا ، وشبيه لورنس هناك ، وهو برنارد هنري ليفي ، وكتابه " الحرب دون أن نحبها "، الذي يزعم فيه ، أي ليفي ، بأنه هو من خطط لمشاركة الناتو في حرب ليبيا . الغريب ، وقد قرأت مقاطع مطولة من كتاب ليفي هذا ، ووجدته لا يستحق أي اهتمام ، لوضوح الكذب فيه ، وانتهاز صاحبه لفرصة كسب وشهره ، أن يقف هيكل عنده ، وأن يوحي للقارئ وكأن تكرارا للزمن وللحدث قد وقع ، وأن سذاجة الشريف حسين تتكرر أيضا في أشخاص قيادات الربيع العربي .
ما علينا كما يقال ، ونعود لهيكل وسوريا . قال : " والخلاصة أن هناك حالة ثورة في سوريا ، لكن ما حولها مثير للقلق . معبأ بالمخاطر . مزعج إلى أبعد حد " . ويتابع ، بعد إعادة تذكير بدور لورنس في الثورة العربية الكبرى ، كما تعرضها كتب التاريخ ، قائلا : " وأعترف أنني أستطيع أن أفهم موقف حلف الأطلنطي ، وأستطيع أن أفهم موقف أعضاء مجلس الأمن ، ومن وافقوا على القرار المقدم له ، ومن اعترضوا عليه ، ولكنني لا أستطيع أن أفهم موقف مجلس التعاون الخليجي مثلا ، ولا بعض المجالس العربية غيره ."
وينتقل هيكل إلى الفيتو الروسي الصيني ليقول : " والحقيقة أنه يجب أن نضع "الفيتو " الروسي ، و" الفيتو " الصيني في إطاره ومعناه . وإذا فعلنا فإن علينا جميعا أن نراجع تقرير الرئيس " اوباما "عن استراتيجية أمريكا الجديدة في هذا القرن ، وسوف نجد أن هذه الاستراتيجية تتجه إلى الشرق ، أي إلى المحيط الهادي قرب الصين مع احتواء روسيا . ولكي يتحقق ذلك بأمان فإن منطقة الشرق الأوسط ، التي كانت منطقة صراع الحرب الباردة ، لابد أن تتم تصفية باقي مشاكلها بسرعة ، لأنها على خلفية المسرح الأسيوي الجديد ، ومخاطره الطالعة ، خصوصا من الصين " . ويتابع هيكل رسم صورة أوسع للمشهد ويقول : " وكذلك فإن الهدف المباشر المقصود في المنطقة الآن هو إيران . ضرب إيران وإخلاء الفضاء السياسي والاستراتيجي في المنطقة لسيطرة القوة الإسرائيلية دون منازع ، إلى جانب تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية تصفية كاملة . وعند إجراء حساب حقيقي فقد أقول : إن هذا الفيتو ليس من أجلنا ، ولكنه أيضا ليس ضدنا ، بل إنه ليس ضد الثورة في سوريا ، إذا كانت الثورة في سوريا قادرة مستغنية بقوى شعبها ، لا تكرر مشاهد التاريخ ، ولا تحتاج إلى الشريف حسين الهاشمي ، والكولونيل لورنس والماريشال اللنبي ، ولا تنتظر أن تقرأ " أعمدة الحكمة السبعة " مرة أخرى ، أو تطالع طبعة أخرى من " الحرب دون أن نحبها " بقلم ليفي آخر ، لا تعرف بعد من هو " .
وفي مصر ، كما يعرف الجميع ، توالى ظهور مرشحي الرئاسة المحتملين في برامج الفضائيات ، وسؤالهم عن سوريا وموقفهم من أحداثها . لفت نظري مقابلة مع حمدين صباحي ، وهو مرشح محسوب على القوى القومية ، بعد نشر مقابلة هيكل ببضعة أيام ، أنه كرر ، كما هو حال باقي المرشحين ، ذات الحيرة التي عرضها هيكل . ومن جرب الحوار مع القوى المتحفظة على الثورة ، التيارين القومي واليساري الأممي ، يلاحظ ، وإن اختلفت العبارات ، توافقا ، وحتى تطابقا مع ما طرحه هيكل ، وبالمناسبة لم يكن ما اقتبسناه طرحه الأول أو الأوحد .
محاولة تلخيص :
وإذن تعالوا لنلخص القضايا التي طرحها ويطرحها المتحفظون على الثورة السورية ، والمسكونون بهاجس المؤامرة .
1. رغم تركيز هيكل على فكرة المؤامرة ، إلا أنه ، بعكس الآخرين ، لا يقول بنظرية تقسيم سوريا .
2. هناك اتفاق على سوء النظام السوري ، وارتكابه للأخطاء والخطايا ، وعلى تجاوزه لعمره الافتراضي ، وبما يعني توجب رحيله ، رغم عدم قولها صراحة . وهناك اتفاق على أن مصلحة الشعب السوري تكمن في رحيل هذا النظام ، وليس في إصلاحه عبر ترقيعات دستورية هنا وهناك .
3. هناك اتفاق على تشخيص ما يجري في سوريا بأنه حالة ثورية ، وأن الأحداث وقائع ثورة حقيقية .
4. هناك روية واضحة لواقع أطراف الثورة . قوى شعبية متنوعة ، منحدرة من أصول اجتماعية مختلفة . وقوى سياسية معبرة عنها ، وهي وإن اتفقت على هدف رحيل النظام ، لا يبدو أنها متفقة ، ولا تعرض رؤية واضحة متفق عليها ، لما بعده . وهي لذلك لم تنجح حتى الآن في توحيد جهودها ومطالبها ، والاتفاق على قيادة موحدة ، تشكل عنوانا للثورة ، وجهة مرجعية لأصدقائها ومسانديها .
5. هناك قلق من حال قوى الثورة هذا ، ومن وضع المواجهة على الأرض ، ومن احتمال استغلال طلب العون الخارجي ، وتحوله إلى تدخل مباشر في الشأن السوري ، بما ينسف الثورة وأهدافها ، ويلحق سوريا بركب التبعية لأعداء قضيتها الخاصة ، والقضايا العربية عامة .
6. هناك اتفاق على رصد المخططات الأمريكية ، والإسرائيلية بالتبعية ، واحتمالات استغلال حالة الثورة لوضع هذه المخططات موضع التنفيذ .
7. أخيرا هناك اهتمام بالدور المنوط بدول مجلس التعاون الخليجي ، ورأس حربتها قطر ، في هذا الأمر كله .
من أين تبدأ :
اسمحوا لي ، في الإجابة على هذا السؤال ، أن أعتمد المنهج الذي اعتدته ، على مدار حياتي السياسية ، لتحليل القضايا السالفة ، أن أبدأ من الدائرة الأوسع والأشمل ، أي الوضع الدولي والاستراتيجية الكونية الأمريكية ، إلى الدائرة الأضيق ، أي الأقل اتساعا وشمولية ، أي الإقليمية ، وأخيرا الدائرة الصغرى ، وهي الوطنية السورية .
أمريكا ومخططها الكوني :
لا أظن أن أحدا ، يتعامل مع السياسة ، يمكنه أن يتجاهل ، أو يقفز عن ، مخطط أمريكا الكوني بصفة عامة ، ومخططاتها تجاه كل منطقة ، إقليم أو حتى دولة بعينها ، بصفة خاصة . والمرء ليس بحاجة لقراءة أوباما ليتعرف على الاستراتيجيات الأمريكية تجاه منطقتنا أو غيرها . فالقادة الأمريكيون ، ومنذ الانتصار في الحرب الباردة ، وتفكك الاتحاد السوفييتي وزوال المنظومة الاشتراكية ، لم يألوا جهدا في عرض وشرح استراتيجياتهم ، تجاه العالم ككل ، وتجاه كل منطقة منه على حدة . وباختصار ترى أمريكا ، بتربعها على عرش العالم ، كالقوة العظمى الوحيدة ، أن تعمل على ضمان هذا الموقع لعقود طويلة قادمة . وهي لذلك تعمل على كبح تقدم قوى أخرى للمنافسة على هذا العرش ، من خلال ضمان تقوية ، دعم ، بسط فبقاء ، سيطرة قواها الاقتصادية والعسكرية على العالم . وبديهي في هذه الحال أن تعمل على تصفية بؤر ممانعة أو معارضة نفوذها من جهة ، ومحاصرة فكبح قوى منافسة كالصين وروسيا على وجه الخصوص من جهة أخرى. ولا أظن أن محللا ، يتمتع بقدر من المعرفة السياسية ، يخرج من حسابه مخطط أمريكا تجاه منطقتنا ، وتجاه ما تبقى فيه من بؤر الممانعة ، وهي سوريا وإيران على وجه التحديد ، وهو يحاول طرح رؤية لتطور مسار كل ثورة عربية على حدة ، ولكلها مجتمعة .
في هذا المقام أذكر أننا في قيادة الحزب ، الشعب الفلسطيني ، وبعد زلزال الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ، توقفنا نستطلع خطوات حلف أمريكا المنتصر ، تجاه بقية أطراف الحلف المهزوم ، وفي مقدمتها الدول المناوئة للإمبريالية ، ومنها كذلك الأحزاب الشيوعية ، وقوى ، فصائل وحركات التحرر الوطني ، في العالم عموما ، وفي منطقتنا على وجه الخصوص . وخلصنا إلى قناعة بأن الحلف المنتصر سوف يواصل عمليات تطهير البؤر المتبقية ، وبينها، بالإضافة للدول المحسوبة على الممانعة ، هذه الأحزاب والحركات التي كانت تصنف في عداد المعادية . وعن الأخيرة بدا لنا واضحا أنه سيكون هناك تغيير في أساليب المواجهة . مثلا لم تعد أمريكا بحاجة للدفع على الرأس للحكومات الموالية ، كما فعلت مع الأردن مثلا ، في حملات قمع الشيوعية . وربما أن من مصلحة أمريكا الإبقاء على يسار في دول المعارضة السابقة ، لكن مع ضمان بقائه في حالة من الضعف الشديد . والمتابع يرى كيف لجأ حلف أمريكا إلى استخدام جملة من الأساليب والوسائل والأدوات ، حققت لها نجاحات ملموسة في هذا الشأن ، وفي أكثر من بلد عربي على سبيل المثال .
شكل الهجوم على الماركسية ، على النواقص التي علقت بها ، والجهود التي حالت دون تطورها ، ومن ثم القول بعدم علميتها ، وثبوت عدم قدرتها على التصدي ، وتقديم الحلول ، للقضايا والمشاكل الناشئة ، أقوى أسلحة الحلف الأمريكي في مواجهة بقايا قوى الحلف المهزوم . وقد حصل تراجع ملموس في الثقة بالماركسية ، فتراجع ملموس من القوى ، الأحزاب والحركات التي كانت تتبناها . وكنا في حزب الشعب من بين القوى التي حدث لها هذا الأمر . إذ استبدلنا الماركسية في برنامجنا الجديد ، بما وصفناه بالمنهج العلمي الجدلي ، وبمنجزات الفكر التقدمي الإنساني ، وبضمنه العربي والإسلامي . وكما قلت في كتابي " شهادات " ، الذي كتبته بعد تقاعدي ، كنوع من كشف الحساب للرفاق والأصدقاء ، كان ذلك نوعا من هروب إلى أمام ، ترك الحزب ، كما حدث لباقي فصائل اليسار الفلسطيني ، وغيرهم في المنطقة والعالم ، بدون قاعدة فكرية ونظرية واضحة ، الأمر الذي سهل على تنظيمات الفكر الديني اختراق جبهات اليسار وإضعافها بالضرورة . لا يعني هذا أن التمسك بالماركسية ، مرجعية فكرية ، ودليل منهجي وعملي ، كما كانت ، كان هو الدواء للداء الذي حل ، ولكن التراجع عنها إلى الفراغ كان قاتلا . التراجع ، وبدون اختيار بديل ، عنى أن هذه القوى بقيت بدون نظرية ثورية ، وبدون مرجعية فكرية ، وبدون منهج عملي ونظري ، الأمر انعكس ضعفا ، سواء في صد الحملات عليها ، أو في مواصلة طريقها الكفاحي ، وحيث جزء كبير منه كان صراعا فكريا وعقائديا .
تلك كانت واحدة . والثانية تمثلت في الهجوم على الفكر القومي ، وحيث كان النجاح فيها أسهل من الأولى . والثالثة تمثلت في انتشار فكر العولمة وسيادة أنماطه الاستهلاكية . نتج عنها مثلا أن الأحزاب لم تعد قادرة على تمويل نشاطاتها استنادا لأساليبها السابقة المعروفة . صار كل نشاط يحتاج إلى تمويل يفوق الإمكانات الذاتية ، ويقتضي مد اليد للمساعدة الخارجية ، التي لها حساباتها وسياساتها وشروطها . وغدا وضع قوى اليسار ، من هذه الناحية ، قريبا من وضع المنظمات الأهلية .
والأخيرة ، ورغم أنها مكون أساسي من مكونات مدنية أي دولة ، جاءت وافدة على منطقتنا ، ولم يكن للقوى السياسية دراية كافية بطبيعة عملها ، حجوم تمويلها وحدود نشاطاتها ، قبل الانتصار الغربي الساحق في الحرب الباردة . وفقط من يعشق تجاهل الواقع وحقائقه الدامغة ، يمكن أن يجادل أن أمريكا وحلفاءها ، أصابتهم أمراض العفة ، عن استغلال منظمات العمل الأهلي ، الممولة منها ، في تحقيق مخططاتها السابقة . على كل يمكن للقارئ مراجعة كتابي " شهادات " ، الموجود على هذه الصفحة من الحوار المتمدن ، للوقوف على تفاصيل أوسع في هذا الشأن وغيره .
خلاصة القول أن أحدا ، وهو يستعرض الثورة السورية ومسارها ، لا يمكنه أن يتجاهل حقيقة استهداف سوريا ، وحزب الله بالتبعية ، لاحتوائها . وبديهي أن تكون إسرائيل وأطماعها في تصفية القضية الفلسطينية ، وضمان هيمنتها على المنطقة ، في صلب هذا المخطط . وهذه الحقيقة بالذات توجب طرح السؤال : هل على الشعب السوري ، في مقابل ذلك ، القبول بحاله كما هو عليه ، حتى لا تتوفر الفرصة لتنفيذ مخطط الاستهداف ذاك ؟ هل كان على النظام ، حفاظا على نفسه قبل وطنه ، أن يسلك هذا السلوك ، أم كان عليه لتحصين نفسه برضا شعبه ، أن يسلك سلوكا مغايرا ؟ ثم لماذا لم يستجب لمطالب شعبه ، وواجهها بالقتل وبالحديد والنار ، رغم استمرارها سلمية ، لأشهر عدة ، وهو يعلم بتربص أعدائه الخارجيين ، بعرشه قبل وطنه ؟

قطر ورأس الحربة :
وبالانتقال للدائرة الأضيق ، الإقليم ، وكما كان مع الدائرة الكونية ، لا يستطيع أي سياسي ، يحاول التعامل مع أي شأن سياسي ، لقطر من أقطار الإقليم ، أن يتجاهل ، أو أن يقفز على ، حقائق أوضاع محيطه . وفي الحال السوري ، الذي نحن بصدده ، لا يمكن غض النظر عن ، أو إغفال ، الأدوار المختلفة ، التي تنبع من اجتهاد بعض الدول العربية ، والأدوار الأخرى المكلفة بها بعض هذه الدول .
أحيانا قد ينسى بعضنا ، أو يتناسى حقائق تاريخية ، تتعلق بنشأة دول أقطارنا العربية ، وبالأدوار التي اشتقها بعضها لنفسه ، أو عُهِدت لِِ ، أو كلف بها البعض الآخر ، كضامن لبقائه . إحدى هذه الحقائق أن الوطن العربي كله ، وحتى نهاية الربع الأول من القرن الماضي ظل يخضع لسيطرة أجنبية . وأنه منذ ذلك الوقت أخذت دوله في الظهور واحدة بعد أخرى ، وليتكامل الخروج من تحت السيطرة الأجنبية مع مطلع ستينات القرن الماضي . وترك انحسار الاستعمار بصماته على الدول الناشئة ، وحيث حددت الطريقة التي تم بها هذا الانحسار ، العلاقة المستقبلية بينه – الاستعمار - وبين الدولة الناشئة .
ومع بداية النصف الثاني من القرن الماضي ، وبتجاوز تفاصيل وعوامل هامة كثيرة ، يمكن القول أن تيارين رئيسيين ومتعارضين ، بين الدول العربية التي انضوت تحت لواء الجامعة العربية ، تسيدا المشهد العربي . الأول رأى في المواجهة مع الاستعمار طريق التصدي للأطماع الإسرائيلية من جهة ، وطريقا للوحدة العربية ولتصفية عوائق الماضي ، والانضمام لركب الحضارة العالمية من جهة أخرى . تسلمت مصر عبد الناصر زمام قيادة هذا التيار ، وحازت قيادة عبد الناصر على رضا أعضائه . ورأى التيار الثاني في توثيق الروابط مع الاستعمار ، أمريكا بشكل خاص ، وتعميق الارتباط به ، بما في ذلك إسرائيل ، طريقا للحفاظ على بقائها ، ومواصلة الانتفاع بثرواتها . وتنافست كل من السعودية والمغرب على زعامته . ومثل سابقتها سايرت توصيفات دول هذا التيار ، التغيرات المتلاحقة على العالم والمنطقة ، من دول رجعية وعميلة ، إلى محافظة ، فبترولية غنية بدون توصيف الآن .
وبرحيل عبد الناصر ، ونقل السادات مصر إلى التيار الثاني ، تطلعت أكثر من دولة عربية ، العراق ، سوريا ، ليبيا والجزائر ، إلى خلافة مصر ودورها . وتراجع توصيف دول هذا التيار ، بمرور الزمن ، وتجاوبا مع المتغيرات التي عصفت بالعالم ، ومن مواقف المواجهة مع إسرائيل ، من التقدمية الثورية المعادية ، أو المناهضة ، للإمبريالية والاستعمار ، إلى المقاومة والمعارضة فالممانعة . وبمضي الوقت بدا أن المزاحمة على قيادة هذا التيار ، الذي واصل التراجع ، قد انتهت ، أو ضعفت حتى فقدان أي تأثير خارج نطاق الدولة . ودانت الزعامة للسعودية على التيار الثاني الذي اتسع ليشمل أكثرية الدول العربية . وظلت الجامعة العربية ، دورها ، اجتماعاتها ونشاطاتها ، مرآة عاكسة لهذه الأوضاع والتطورات .
كان أمرا بديهيا أن تستغل القوى العربية المحافظة ، الفرصة التي هيأتها الثورات العربية ، لإكمال سيطرة نهج هذا التيار على العالم العربي . وفي الحقيقة كنت قد خططت للوقوف على هذا الدور العربي منفردا ، بعد استكمال حلقات قراءة عوامل الفعل الداخلي على الثورة المصرية خاصة ، والثورات العربية عامة . وكان بديهيا أن تلعب السعودية ، وقد انفردت بالزعامة العربية ، هذا الدور ، في محاولة حرف الثورات العربية عن مسارها ، وتحقيق قيام نظم بديلة ، تختار الاصطفاف تحت الزعامة السعودية . لكن السعودية بدت مترددة في استلام زمام المبادرة ، لأكثر من سبب ، وبما بدا كفراغ مؤقت في قيادة المرحلة الراهنة .
أول وأهم هذه الأسباب أن الثورات ترفع شعارات الديموقراطية والحريات والحقوق والعدالة ...الخ ، وهو ما يتعارض مع فكر ورؤى ومناهج القيادة السعودية . والمساندة السعودية المكشوفة للثورات ، كطريق للوصول إلى أهدافها اللاحقة ، تعني نوعا من الموافقة العلنية ، التي قد تفسرها شعوبها بتبني لهذه الشعارات ، فانعكاس بمطالبة شعوب بلدان التعاون الخليجي بتطبيقها ، كليا أو جزئيا ، وهو خطر لا تستطيع السعودية التعايش معه ، فالمجازفة بوقوعه . إذن فقد احتاجت السعودية لمن يستعد لالتقاط حبات الكستنة من النار كما يقال .
وتصادف أن جاء دور قطر في ترؤس دورة الجامعة العربية . وكان ملاحظا أن قطر ، ومنذ نشوء الفراغ في زعامة الدول العربية ، تتطلع لدور يتخطى حدودها وإمكانياتها ، عربي في المكان الأول ، ودولي إن أمكن . تتحفز للإمساك باللحظة منذ زمن . والمراقب لا يمكنه إغفال ذلك ، بسعيها فنجاحها ، في استضافة دورة للألعاب الأوليمبية ، متغلبة في المنافسة على دول عظمى ، وأخرى تفوقها في القدرات بمسافات طويلة .
وفي واقع الحال ، وفي ظل الفراغ في الزعامة العربية ، فإن قطر الصغيرة تملك مميزات ، من الخطأ تجاهلها . تدين قطر ، كإحدى دول مجلس التعاون الخليجي ، وهو الحليف الأساسي لأمريكا ، فإسرائيل بالتبعية ، بزعامة السعودية ، وبلا أدنى جدال . ولأنها كذلك هي مستعدة لالتقاط الكستنة التي لا تستطيع السعودية التقاطها . فهي محمية بقواعد عسكرية أمريكية على أراضيها ، هي الأكبر والأقدر في المنطقة كلها . وهي تملك ثروة ، وعائدات لها ، هائلة ، تجعل معدل دخل الفرد فيها ، الأعلى في العالم ، وبأكثر من ضعف معدل دخل الأمريكي . وهي توزع من هذا الدخل على شعبها ، بما يكفل رضاه ، أو هكذا تتصور، لزمن طويل ، وبما يشكل نوعا من الحصانة ، أو المناعة ، ضد هبوب رياح الثورات العربية ، وشعاراتها ومطالبها ، عليه . وفوق ذلك ، تملك قطر فائضا ماليا ، يمكنها من كسب تعاطف ، فتعاون مع تطلعاتها . ولتعزيز تطلعاتها تلك ، ولامتلاكها أداة فعل خارجي ، تعوض النقص الواضح في تعداد شعبها ، وقدرتها العسكرية تبعا لذلك ، سبقت الجميع بإنشاء جهاز إعلامي ، متمثلا في قنوات الجزيرة ، أثبت تفوقه ، وقدرته على حمل الأهداف القطرية إلى الساحات العربية ، فأبعد منها إلى العالمية ، مهيأة المجال للدور الذي تتوق الحكومة القطرية لأدائه .
هكذا ، وبالميزات التي تملكها ، خصوصا رئاستها لدورة الجامعة العربية ، اهتبلت قطر الفرصة التي أتاحتها ثورات الربيع العربي ، لتتقدم لها ، في ثوب الدولة المتبنية لمطالبها ، والمساندة لشعوبها ، في مواجهة عسف نظمها . ولم تجد قطر غضاضة في التوحد مع حلف الناتو ، في تقديمه العون العسكري لليبيا ، ثم في منافسته على اقتسام الغنائم ، ومنها الفوز بمشاريع إعادة إعمار ليبيا . والأهم لم تواجه ، ولو بنقد على دورها هذا من جانب الدول العربية ، أو بإظهار عدم رضا من السعودية ، فيما بدا من تعد على زعامتها . ويتكرر هذا الدور مع سوريا الآن ، وليصرخ معتنقو ، ومروجو ، فكر المؤامرة ، بالإشارة لدور قطر كبرهان دامغ عليها .
والمفارقة التي لا يمكن أن تغيب عن نظر سياسي متابع لشأن الثورات العربية ، تتمثل في أن نظم الدول ، التي تدحرج موقفها من معاداة إلى مقاومة ومواجهة ، فممانعة الاستعمار ، تعرف عن يقين ، أن الاستعمار ومنظومته في المنطقة ، التي تتطلع قطر لدور فاعل في زعامتها ، تعمل دون كلل ، على إخراجها من طور الممانعة ، إلى اللحاق بدول التبعية . وهي تعرف عن يقين أن حصانة مواقفها فموقعها ، لا بد مستمدة من مساندة شعوبها لها . كما تعرف عن يقين ، بأن ضمان هذه المساندة يتأتى عبر توفير علاقة ثقة بها ، تقوم على توفير أسس العدل والحرية والكرامة ، وصيانة الحقوق ، ومحو كل ما يمكن أن ينغص هذه العلاقة . لكنها بدل ذلك ، أو ربما استنادا لرؤية تحقق ذلك ، سلكت سلوكا معاكسا ، يوفر لها ثباتا على كرسي الحكم ، من خلال قمع باطش بكل ما تصبو إليه شعوبها من آمال وتطلعات . وهكذا بدل أن تقف هي في موقف الهجوم على النظم العميلة ، أو الرجعية ، أو المحافظة ، أو البترولية ، أوسمها ما شئت ، وقفت تتلقى الضربات من شعوبها أولا ، ومن هذه النظم البترولية ، مخلب أمريكا وإسرائيل ثانيا . والسؤال : هل تركت هذه النظم ، الموصوفة الآن بنظم الممانعة ، خيارا آخر لشعوبها ؟ وهل على هذه الشعوب أن تتخلى عن آمالها وطموحاتها ، بسبب أجندات قطر وأخواتها ؟
الدائرة الصغرى :
وبعد هذا التجوال نصل إلى الدائرة الصغرى ، أي السورية الوطنية . وفيها نلاحظ أن كل المهتمين بالشأن السوري ، مؤيدي النظام ، قبل المحايدين ومعارضيه ، يتفقون على تجاوزه لكل الحدود . هو نظام ممانع لمخططات الهيمنة الأمريكية نعم . يشكل ، هو وحلفاؤه ، نوعا من سد في وجه مخططات التوسع والغطرسة الإسرائيلية ، نعم . لكنه في المقابل نظام قمعي ، لا يتقن غير لغة العنف في التعامل مع شعبه . نظام لا يقمع الحريات فقط ، ولكنه يرتكب كل يوم جرائم لا حد لها ولا حصر . يرتكب سلاسل من الأخطاء والخطايا ، حسب تعابير هيكل . نظام دشن مرحلة نقل الجمهوريات العربية إلى ممالك ، يتوارث حكمها الأبناء من الآباء . نظام لم يترك لشعبه خيارا غير الخروج للمطالبة بإعادة النظام جمهوريا كما كان أولا ، وبشم بعض نسائم الحريات والديموقراطية ثانيا . بدأت المطالب إصلاحية ، وبوسائل سلمية . لكن النظام ، واتساقا مع طبيعته رد بالعنف ، وسقط الشهداء نتيجة هذا العنف ، ليرتفع سقف المطالب ، كما حدث في الثورات العربية ، وليرتفع تبعا لذلك سقف العنف . وبعد شهور من دوران الدائرة ، حدث التطور الذي تمثل بمحاولة مجابهة العنف بالعنف . وهكذا انفتح الأفق ، وتوفرت الفرص ، أمام أصحاب الدائرتين ، الكونية والإقليمية ، للتدخل ، فالنفاذ إلى الداخل السوري ، ومن ثم توجيه الأحداث فالنتائج ، لصالح مخططاتهما ، سالفة الذكر .
لكن ورغم اعتراف كل الأطراف بأن النظام سيء ، وأنه مرفوض من شعبه ، وأنه تجاوز عمره الافتراضي منذ زمن ، أو بكلمات هيكل ، طال بأكثر مما هو صحي ، ومما هو أخلاقي ، وأن الثورة في سوريا ثورة حقيقية ، لكن منتقديه لا يتبنون مطلب الشعب برحيله . كما ، وهم يحملون قوى الثورة المسؤولية عن مخاطر التدخل الخارجي ، لا يشركونه في هذه المسؤولية ، رغم أنه صاحبها الفعلي ، وحيث يملك في يديه وسائل دحرها . وأيضا وهم يسوقون له الأوصاف السابقة يثمنون له استجابته الجزئية لمطالب الإصلاح ، رغم معرفتهم أنها لا تلتقي مع المطالب الشعبية ، ولا تحقق ولو جزءا يسيرا منها . وأكثر يطالبون الشعب ، بدعوى مواجهة الأخطار الخارجية ، بالرضا بهذه الإصلاحات الهامشية ، ومقايضتها بنهر الدم الذي جرى ، والذي سيجري .
أكثر من ذلك ، وهم يعرفون أن خطر التدخل الخارجي ، وبالاستفادة من التجربة الليبية ، لا تتوقف نتائجه عند حدود ضم سوريا إلى الحضن الأمريكي ، بل ستتجاوزه إلى القضاء التام على العائلة المالكة ، وإلى تدمير وشطب الجيش ، وتفكيك الحزب الحاكم ، وحيث مصلحة نظام الحكم المباشرة ألا يحدث ذلك ، وهو حادث بكل تأكيد إن وقع ذلك التدخل . والنظام يعرف أن لا الفيتو الروسي ، ولا الفيتو الصيني ، سيجنبه مصيرا كهذا . وبديهي أن مواصلته العناد ، وارتفاع وتائر القتل اليومي ، كما بات العالم يشاهده ، سيدفع التطورات دفعا إلى هذا الطريق والمصير .
الشعب في المواجهة :
هناك إقرار ، كما سبق وأشرنا ، وبكلمات هيكل ، أن الثورة في سوريا ، ثورة شعبية حقيقية . ولما هي كذلك لا أحد ينكر أن مطالبها مشروعة . ومطالبتها بخلع النظام ، بعد كل هذا الدم البرئ الذي سال ، من أجساد أطفال ، شباب ، نساء وشيوخ ، غير مغالية . ويعترفون بأن الشعب محق في قناعته بأن ممانعة أمريكا وإسرائيل ، ورفض مخططاتهما للضم والإخضاع للسيطرة ، لا تستوجب بالضرورة تحويل الجمهورية إلى ملكية ، ولا ضمان ثبوت النظام برفض الديموقراطية ومصادرة وقمع الحريات . وعلى العكس يمكن فعل كل ذلك بالتحول إلى نظام ديموقراطي وبإطلاق الحريات ، وإحقاق المساواة ، وإقرار المواطنة ، لفئات وطوائف الشعب كافة .
إذن يعترف ، حتى المتشككون بالثورة بكل ذلك . ولكنهم في المقابل يطرحون سلسلة القضايا المعبرة عن مخاوفهم ، والدافعة لتعزيز شكوكهم . منها مثلا أن قوى الثورة غير متجانسة ، لأنها تتكون من فئات وشرائح مجتمعية شتى ، بأهداف ومطالب ، يقف الاتفاق بينها عند حدود إسقاط النظام ، ولا يتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك . وبسبب وضعها هذا ظهر لها طيف من القيادات ، عجز حتى الآن ، رغم محاولات عديدة ومتكررة ، عن الخروج بقيادة موحدة ، تشكل عنوانا يتمكن الغير من التوجه إليه ، والتخاطب معه . وبسبب كل ذلك ليس للثورة برنامج واضح للمستقبل ، أي لبناء البلد بعد إسقاط النظام . والطرف الأبرز بين القيادات المختلفة ، هو ذلك الموجود في الخارج ، والذي ولد من رحم مؤتمرات انعقدت في تركيا ، وما أدراك ما تركيا وأطماعها في سوريا ، ودورها في خدمة الحلف التي تشكل جزءا منه ، وهو حلف الأطلنطي ، والآخر الاستراتيجي مع إسرائيل . وهذا الأخير ، أي المجلس الوطني السوري ، تصدر عن مسؤوليه ، وفي مقدمتهم رئيسه برهان غليون ، تصريحات لا تبعث على الطمأنينة . منها مثلا إعلان النية عن قطع العلاقات مع أطراف حلف سوريا الحالي ، أي إيران وحزب الله وغيره في لبنان . ويذهب بعض المحللين إلى حد الاستنتاج بأن هكذا بدايات ، من هكذا قيادة ، تشير إلى النهايات المبتغاة ، أي استبدال الاستقلال السوري القائم بالسيطرة الأمريكية ، التي ستوصل إلى صلح مع إسرائيل ، فنهاية للمقاومة في لبنان ، ودفن في أعماق أعماق التراب للقضية الفلسطينية . ومرة أخرى يجد القارئ نفسه في مواجهة جملة من القضايا ، التي تحتاج إلى نقاش .
المقارنات العرجاء :
في حلقة سابقة ، وتحت عنوان " الانكفاء على الذات " ، أشرت إلى أن إحدى السلبيات ، التي لحقت بعمل القائمين على الثورات العربية ، وأولئك الذين تناولوها بالتحليل ، تمثلت في إهمالهم لدروس الثورات ، التي وقعت في قارات العلم كلها تقريبا ، ومنذ بداية الربع الأخير من القرن الماضي . وأشرت إلى أن هذه الثورات ، والثورات العربية ، اختلفت جذريا عن الثورتين : البرجوازية الفرنسية ، والبلشفية الروسية ، اللتين أطاحتا بتركيبة اقتصادية اجتماعية كاملة ، وأحلتا محلهما تركيبة جديدة . البرجوازية الرأسمالية ، بدل الإقطاع في الأولى ، وتحالف الطبقة العاملة مع فقراء الفلاحين محل الرأسمالية والإقطاع وكبار ملاكي الأرض في الثانية . وهي أيضا مختلفة عن الثورة الأمريكية التي أنهت نظام العبودية ، وعن الثورتين الصينية والكوبية ، اللتين جاءتا نسختين مجددتين من الثورة البلشفية . وأضفت : رغم أن كل مقارنة لا بد أن تكون عرجاء ، لاختلافات كثيرة بين الثورات ، إلا أنها تكون كسيحة مع الثورتين الفرنسية والبلشفية . لكن معارضي الثورة السورية ، من طرف اليسار بالأساس ، واظبوا على مقارنتها بالثورة البلشفية . وأخذوا على السورية ، ما سبق وأشرنا إليه ، من عدم تجانس قواها ، وتشتت قياداتها ، وعدم وجود برنامج بناء لما بعد النصر ، وأخيرا لجوء أطراف من قياداتها لطلب العون الخارجي ، بما فيه التدخل العسكري ، وبما يثلم وطنية الثورة ، وحيث عدم تلقي المساعدة الخارجية ، قدم البرهان على وطنية الثورة البلشفية . وهذا ما يتوجب أن تكون عليه الثورة السورية .
في كل مقارنة ، وبغرض التخفيف من عرجها ، أو كساحها ، يتوجب الالتزام بالحقائق ، وعدم اختزالها ، أو إغفالها . وفي المقارنات المشار بها ، بدا أن المقارنين ملتصقون بنموذج الثورات التي فجرتها قيادات سياسية ، أحزاب أو حركات ثورية ، مخضرمة ، وذات تجربة سياسية عملية واسعة . ولأن الثورات العربية ليست كذلك ، بدا الميل للخصم من حسابها ومن البداية . من الحقائق أن كل الثورات ، وبمن فيها الثورة البلشفية ، احتاجت للعون الخارجي . ولأن الأخيرة بدت كمقدمة عالمية للثورة على الرأسمالية ، كان طبيعيا أن تتكتل ضدها نظم الرأسمالية ، التي كانت تقود العالم آنذاك . لكنها ، على الرغم من ذلك ، استقبلت متطوعين من كل أنحاء العالم ، كما تلقت عونا ماديا وغذائيا من عمال معظم بلدان أوروبا ومن كندا والولايات المتحدة . وعليه فلا يكون طلب العون الخارجي ، في عالم غدا الآن بمثابة قرية صغيرة ، بدعة ليبية أو سورية ، ولا عملا سلبيا يخصم من وطنية القائمين عليه .
وحقائق الثورات تقول أيضا ، أن قواها تكون بالعادة متنوعة . وأنها تتفق ، بالعادة ، على الأهداف الرئيسية ، وربما تختزل في هدف واحد ، وتختلف فيما عداها . وأنه في العادة يسودها عدم تجانس فكري ، لاختلاف عقائدها ، وتنوع منابعها ، وتعدد الشرائح والفئات الاجتماعية التي انحدرت منها. والمقارن المدقق يجد أن الثورة السورية لا تشكل ، في هذا الجانب حالة خاصة . ولمحبي المقارنة مع الثورة البلشفية ، نذكرهم بأن قواها الأولى تشكلت من طيف من الأحزاب اليسارية ، سادتها حالات من التنافس والاختلاف قبلها . وأثناء الثورة ، وبعد قطع مراحل منها ، تحول الخلاف إلى خروج على الثورة ، ، بما في ذلك محولة اغتيال قائدها ، لينين ، فتصفيات انتهت بنظرية الحزب الواحد ، التي كانت أول مسمار دقه الثوار أنفسهم في جسد الثورة .
ولقد شهدت الثورات العربية ظاهرة ، شاركتها فيها ثورات عديدة ، ومنها الثورة البلشفية . تمثلت هذه الظاهرة في أن نظم الحكم العربية ، وضعت المثقفين ، الفنانين ، الإعلاميين والسياسيين ، من معارضيها الذين لم تحقق نجاحا في تدجينهم ، أمام خيارين لا ثالث لهما : إما التعفن في سجون النظام ، وإما الاغتراب ، وطلب اللجوء في بلد آخر . وفي خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي ، كانت بلدان الاشتراكية الحضن الذي ضم هؤلاء بمختلف أطيافهم . لكن هذا الحضن انتهى مع تفكك المنظومة الاشتراكية ، فكان الغرب هو الملجأ الوحيد المتبقي . وليتذكر القارئ أن مصر لعبت هذا الدور منذ نهاية القرن التاسع عشر ، وحتى نهاية عهد عبد الناصر. والقارئ لا يحتاج إلى تذكير بأن الغربة ، حين تطول ، تترك بصماتها على المغترب ، وإلى حد الكفر بمبادئه ، فالتحول الكامل أحيانا عن أفكاره . والأمر الطبيعي أن يجد المغترب ، في ثورة وطنه ، الفرصة التي طالما انتظرها . ولأن بلدان الغربة واسعة ، وإمكانيات اللقاء محدودة ، يتعذر حدوث تفاهم تام بين هؤلاء المغتربين ، الذين أيضا قد تتعدد ولاءاتهم . كما يكون بديهيا أن تغلب عليهم روح الاستعجال من جهة ، وأن يروا أن من حقهم ترؤس مجالس قيادة الثورة من جهة أخرى ، وبما ينعكس عليها من تضارب في الرؤى من جهة ثالثة . ولأن سلاح التخوين ، غدا منذ عقود ، لازمة عربية ، يتم إشهارها بمجرد الاختلاف في وجهات النظر ، يكون إلصاق هكذا تهمة بهذه القيادات ، كلها أو بعضها ، أمرا ليس فقط غير مستبعد ، وإنما طبيعيا أيضا .
وما دامت المقارنة معقودة مع الثورة البلشفية ، فلعل القارئ يتذكر أن أغلب قادتها ، ولينين منهم ، اضطروا إلى الهروب ، فاللجوء إلى فرنسا ، سويسرا وغيرها . وحين قامت الثورة ، ورجع لينين من مخبأه السري ، اتهمه بعض أركان الحكومة ، بأنه كان لاجئا في ألمانيا ، كما اتهمه بالعمالة لها .
خطر الحرب الأهلية :
في ثورات نهاية القرن الماضي ، وبداية القرن الحالي ، والتي اجتاحت قارات العالم جميعا ، كما سبق وأشرنا ، لم يتحول أي منها إلى الحرب الأهلية ، باستثناء إيران ، وقرغيزستان التي أوشكت على ذلك . والتحول إلى الحرب الأهلية ، كما تدلل خبرات وتجارب الثورات العالمية ، يأتي عن طريق تشبث النظام بكرسي الحكم من جهة ، ولجوئه إلى الدفاع عنه بقوى الجيش والأمن المسلحة ، من جهة أخرى . عنف قمع النظام للجماهير الثائرة ، ظل يدفع قيادات هذه الجماهير للبحث عن وسيلة تحفظ لها دماءها . وظلت تضطر في نهاية المطاف إلى خوض المواجهة ، والرد على القوة بالقوة ، مستهدفة تحطيم قوى النظام ، لإجباره على النزول عن العرش . ذلك ما حدث مع الثورتين الفرنسية والبلشفية ، ثم الصينية والكوبية ، وقبلهما الحرب الأهلية الأمريكية . وهو للأسف ما حدث في ليبيا ، ويوشك على الحدوث في سوريا .
الثورتان الفرنسية والبلشفية ، كما سبق وأشرنا ، استهدفتا قلب التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية القائمة . ولما كانت نظم دول العالم ، القائمة آنذاك من نفس نوع التشكيلة المطاح بها ، قضى المنطق ، ليس فقط أن تمتنع هذه النظم ، وتمنع ، عن الثورة أية مساعدات عسكرية أو غير عسكرية ، بل وأن تبادر للمواجهة مع الثورة ، وهكذا كان . ولما كانت الثورات التي اجتاحت العالم ، في النصف الأول ، ثم في الربع الثالث ، من القرن الماضي ، ذات طبيعة معادية للإمبريالية ، ظل الاتحاد السوفييتي ، ومن منطلق واجبه الأممي ، يسارع إلى مد هذه الثورات ، باحتياجاتها العسكرية وغير العسكرية . وظل الغرب ومشايعوه يبادرون لمواجهتها ، كما وينعتونها بالعمالة للشيوعية .
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ، امتناع الصين عن تأدية دورها الأممي ، فقدت الثورات سندها . وكان ما كان من تراجع دور حركات التحرر الوطني ، وذوبان بعضها . وكما أشرت في بداية هذه الحلقات ، جاءت ثورات نهاية القرن الماضي ، والثورات العربية ، لأهداف مختلفة ، ومن ثم بطبيعة مختلفة . لم تستهدف قلب تشكيلة اجتماعية اقتصادية ، ولم ترفع شعارات معاداة الامبريالية ، والخروج على نظامها العالمي . رفعت مطلب تطبيق الديموقراطية ، وشعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية . وبتبسيط أكثر طلبت استبدال نظام قاس ومتعفن ، بنظام حديث يلتزم بالقانون والعدالة . نظام ، كما سبق وأوضحت ، يشابه نظام أحد البلدان الأوروبية . هكذا كان طبيعيا أن يبحث عن العون ، حين يضطر له ، وتنغلق الأبواب الأخرى أمامه ، هناك ، عند الدول التي يرى في نظمها بغيته ومحط آماله . هذا ما حدث في ليبيا ، وما يوشك على الحدوث في سوريا . ونعت قيادات الثورة ، أو بعضها ، بالعمالة والخيانة ، لا يغير من الأمر شيئا .
هل هي حتمية لا فكاك منها ؟:
يستند المتشككون في الثورة ، إلى تصريحات أعضاء في مجلسها الوطني ، ومنهم رئيسه برهان غليون ، لتبرير خوفهم على موقع سوريا في حال إسقاط النظام . يقولون أن تصريحات غليون عن النية لقطع العلاقات مع كل من إيران وحزب الله ، مؤشر على نية الانتقال إلى الجانب الآخر من المتراس ، أي إلى الانتقال للتبعية الأمريكية . هذا السند ، وإن كان للمشيرين إليه كل الحق في توجسهم على مستقبل سوريا ، لكنه لا يؤدي إلى نفس النتيجة بالضرورة . إذ أن خبرات الثورات تنبئنا أن الثورة المنتصرة تجري تغييرات كبيرة على علاقاتها الخارجية ، تشمل تكوين تحالفات جديدة ، تبدأ بفك التحالفات القديمة ، وبما في ذلك قطع العلاقات مع بعض أطرافها . وبديهي أن تكون البداية قطع العلاقات مع حلفاء النظام القديم ، الذين بمساعداتهم له ، برزوا أعداء صريحين للثورة . ومن جانب آخر لا يعني هذا بالضرورة ، استبدال عدو للثورة ، بعدو لسيادة الوطن . وهناك أكثر من نموذج في العالم ، ابتعدت فيها الثورة عن عدو مباشر ، واحتفظت بنفس مسافة البعد عن العدو الآخر .
ويحاجج يساريون معارضون للثورة ، بأن مؤشرات الثورية السورية تشير إلى واحد من توجهين ، وربما الاثنين معا ، لمستقبل سوريا ما بعد النظام . الأول اعتلاء تيارات الإسلام السياسي لسدة الحكم ، كما جرى في تونس ومصر ، ويوشك على الحدوث في ليبيا ، والثاني ، يؤشر عليه الحماس الخليجي ، والقطري بشكل خاص ، لمناصرة الثورة ، ونتائج العون العسكري الغربي ، الذي تلح بعض القيادات في طلبه ، وما نراه من حماس أمريكي غربي في مساندة الثورة . ويضيفون : لا أحد يمكنه أن يصدق ، أن قطر ودول الخليج الأخرى ، مؤيدة أو منحازة للديموقراطية . ولا حاجة للبرهان على أن أمريكا ، وحلفاءها في الناتو ، لا ينتصرون للديموقراطية والحريات والحقوق ، وإنما يستغلونها وسيلة ، ويتخذونها أداة ، للتدخل في شؤون الآخرين ، لاستكمال السيطرة على البؤر التي ما زالت خارج نطاق سيطرتها الكونية .
من جهتنا لا نجادل في صحة ، أو في منطقية ، هذا الطرح ، ولا في مبررات هذه المخاوف . وقد تكون النتائج على عكس المأمول ؛ لا ديموقراطية ولا حقوق ولا مواطنة ولا ما يحزنون . لكننا نسأل : هل مثل هذه النتائج حتمية قاهرة ؟ هل هذه النتائج قدر لا فكاك منه ؟
تقول جملة من التجارب الثورية ، أبرزها تجارب أمريكا اللاتينية ، وحيث كانت بلدانها توابع لأمريكا ، أن هذه النتائج التي تثير خوفنا ليست قدرا مكتوبا ، وليست حتمية قاهرة . والعكس ، أي الخروج من قبضة التبعية الأمريكية ، احتمالية كبيرة ، وإمكانية قابلة للتحقيق . المسألة الأساس تتمثل في دور قوى اليسار في هذه الثورات . إذا أحجم ، وانحاز للنظام ، كما هو الحال الآن مع سوريا ، فإن احتمالية حدوث إحدى النتيجتين السابقتين ، أو الاثنتين معا كبيرة ، لكن ليست حتمية . والأمر كذلك إذا ظل هذا الدور صغيرا ومحدودا ، كما حدث في مصر وليبيا .
ويجادل ممثلو اليسار بأن حاله الراهن ، ضعف تنظيماته ، لا يؤهله لاحتلال أماكن بارزة في قيادة الثورة السورية ، كما كان في مصر وسوريا ، وعليه لا تكون النتائج ، المعاكسة للتوقعات السابقة ، مضمونة . ونقول أن الأمر على عكس هذا القول تماما . فالمبادرة للانضمام للثورة ظل هو الطريق الوحيد المتبقي والمضمون ، لإخراج هذه التنظيمات ، أو الأحزاب ، من حالة ضعفها الراهن . والثورة ، بما تفتح من آفاق ، تتلاءم مع خبرات اليساريين المتكدسة ، ومع إمكانيتهم القيادية والفكرية والإدارية الكبيرة ، كفيلة بخلق مناخات تهيء الجماهير للالتفاف حول هذه القوى ، ومن ثم إيصالها إلى مواقع صنع القرار ، فضمان وصول الثورة إلى تحقيق أهدافها .
ومن جديد لنا أن نسأل : هل ببقاء النظام ، يمكن أن تتوفر فرصة ، وفي الخمسين سنة القادمة ، لخروج قوى اليسار من حالتها الراهنة ، والتغلب على ضعفها ؟ وجوابي : لا توجد مثل هذه الفرصة . هذا نظام لا يؤمن ، ولا يقبل ، بالمشاركة على أساس الندية . وهو لن يسمح لأي كان أن تتطاول قامته لتساوي ، أو لتباري قامة النظام ، خصوصا إذا كانت من اليسار . وفي حقيقة الحال وفرت الثورات العربية فرصا لهذا اليسار ، لكنه ، خصوصا في سوريا ، بكل أسف أضاعها . وإذا كان له من لوم على أحد ، فلا يلومن إلا نفسه ، سواء بخصوص مستقبل سوريا واحتمالاته المعتمة ، أو بخصوص مستقبله هو . الشعب السوري حدد خياره ، واتخذ قراره ، وكل وطني مناصر للديموقراطية ، للعدالة للحرية للكرامة ، للحفاظ على إنسانية الإنسان ، لا يملك غير خيار الانحياز له والانتصار لخياره . وهو إن فعل ينتصر لقضايا الحرية والعدالة التي تحتل مساحات واسعة من برامجه ، وينتصر لنفسه قبل أن ينتصر للشعب السوري .إما إن اختار العكس فبديهي أن يحصل على العكس ، وبعدها ليصرخ ما شاء له الصراخ .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آفاق المرأة والحركة النسوية بعد ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 14 المثقفون وادوارهم 3 مخ ...
- قرراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 13المثقفون وأدوارهم 2
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 10 مخاطر على الديموقراطية ...
- عن دور اليسار في ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 9 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 8 مخاطر على الديموقراطية ...
- الربيع العربي وقضايا الأقليات القومية
- قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
- عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
- دخول الى حقل المحرمات - 1 -
- وحدة الأضداد بدون صراعها


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 15 المثقفون وأدوارهم 4 سوريا من جديد