أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - صهوة الشر















المزيد.....


صهوة الشر


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 3645 - 2012 / 2 / 21 - 18:48
المحور: الادب والفن
    


عندما يحل النهار في قرية الرهايمه ، يمتد كل شيء عبر أوسع مدى ، حيث يتحكم موسم الصيف في البشر والحجر ، ويجعل من جحور الحشرات افرانا تضطرها للانتشار في الحيز المحيط ، تبحث عن ملاذ بارد ، غير آبهة حتى باشباع بطونها من جوع .. النهار في قرية الرهايمه ، حافل بالحركه .. فتبدو الاجساد على اختلاف انواعها وهي تتحرك بعصبية ظاهرة للعيان ، لا يخفيها غير سكون قد يحل بعد طول عناء ، حتى تبدأ الحركة من جديد ، ضمن سلسلة متصلة الحلقات وبعناد غريب .. انها واحدة من سنن حب البقاء ، عندما يقاوم الجسد ، أي جسد حي ، وخز المناخ وملوحة الارض ، وضيق التنفس بفعل الجفاف .
ليس هناك من فزاعة ترعب أم صالح كما ترعبها كلمة الموت .. فلقد اعتادت ان تضع كفها على يمين صدرها لتحصي عدد دقات قلبها المصاب بالتسارع ، فتزداد تلك الضربات عفويا وبفعل عامل الخوف .. لم يتمكن صالح وهو ابنها البكر ، من اقناعها بان سلوكها هذا قد يؤدي بها الى حالة صعبة .. كان يخشى استخدام مفردة الموت أمامها لانها تخاف ، ولم يكن احد من العائلة ، يدرك حقيقة الاحاسيس الدفينة في صدر ام صالح وهي تواجه كل يوم خطر السكتة القلبية كما كان يخيل لها ، رغم ان الاطباء أوحوا لها بان مرض تسارع دقات القلب ، يمكن تخطيه لو حضيت برعاية خاصه ، ولو استعملت ادويتها بانتظام .
بديعه زوجة صالح ، لوث جمالها الأخاذ كونها تعرضت قبل ثلاث سنين ، لشضية صغيرة من الخشب ، قفزت من امامها وهي تحاول تقطيع اطراف الحطب لتنور الخبز ، فأصابت عدسة عينها اليسرى لتذهب عنها البصر ، وهي الان بعين واحده ، ويوخز في نفسها ان صالح وفي بعض الاحيان ، يبدو ساهما ، فتضن بأنه قد يفكر بغيرها وهن كثيرات في القريه .
كانت بديعه تدور كالفراشة ، بين إعداد وجبات الطعام في اوقاتها المحدده ، وبين رعاية ابنائها الثلاثه ، ولم تكن تنسى ، او تتغافل ، عن تنفيذ ما يوجه لها من اوامر من قبل حماتها ام صالح طيلة النهار .. يتخلل ذلك كله ، تقديم العلف الاخضر للبقرتين عند المساء بعد عودتهما من الرعي ، والحرص على صنع اقراص من روثهما ونشره ليجف لتوفير وقود لنار الطهي والتدفئة .
في قرية الرهايمه ، لم تكن هناك ارض كالتي عند صالح .. فهي وسط الاراضي المحيطة تبدو كعروس ترتدي بدلة خضراء ، تزينها حلل من الازهار البريه .. كان يجلس عند شجرة التوت الضخمه ، في بداية الممر المنساب من الطريق الترابي على ضفة النهر ، وقد امتدت ساقاه امامه ، يتطلع بزهو الى لفائف الطين النافرة من بين اصابع قدميه ، في حين راحت نسائم انفاس النباتات تنفث من حوله رائحة ممزوجة بالهواء الحار ، فتضيف الى روحه شعورا بالرغبة في ان يغمر جسده في مياه النهر ، ولا يخرج منها حتى ينقضي النهار .
تطلع الى القرية من مكانه .. وكانت اطراف البيوت الطينية توحي له بالكثير مما يربطه بتلك الهياكل المنبثقة من اعماق الارض .. حيث بدت له حياته منذ وعاها وكأنها تكورت في لحظة واحدة ، كخيوط الغزل حينما تجمعها امه حول عود يابس ، وتدسها في خزانة الخشب كي تعود لها في اليوم التالي ، لتخيط بها رقاب اكياس تحتفظ في داخلها بالقطن العتيق .. انها حياة مكورة يمكن فك خيوطها في أية لحظة لاستذكار احداثها المتعاقبه .. آه .. كم هي حلوة تلكم الاماسي الشتوية ، حينما يتحلقون حول حفر صغيرة وضعت فيها اعواد من اغصان الاشجار واوراق سعف النخيل ، حيث يستخدمونها كمدافيء لهم ، وأحدهم يتطوع للنفخ في قعر النار الهافتة ليعيد لها الحياة من جديد ، في حين تتقاطر معها دموع الباقين من اثر الدخان المتصاعد ..
أسند رأسه على كف يده اليسرى ، وراحت عيناه تراقبان قنفذ مسن ، وهو يتجول ببطيء ليس بعيد عنه ، يحرك طرف انفه المدبب ليتحسس الارض بحثا عن طعام ، وثمة نملة يبدو حجمها اكبر من المعتاد ، راحت تتعقبه غير آبهة بخطر وجوده .. النهر القريب منه لا زال يصدر صوتا يمنحه شيئا من الانتعاش ، ويخفف احساسه بحرارة شمس الظهيره ..
اعتدل جالسا ، وقد احس ببرودة منعشة نثرتها على صفحات وجهه نسمة عابره ، والقنفذ لم يزل يتجول ليس بعيدا عنه يمسح الارض بطرف انفه ، وحزمة من الابر تنتشر فوق ظهرة المحدودب ، معلنة التحدي بوجه اية محاولة للاعتداء .. خرير مياه النهر من خلفه يوحي له بالاحساس بالراحه ، سرعان ما غابت عنه عندما تطلع الى بيوت القرية المنتشرة بلا انتظام عند الجهة البعيده .. عديله .. المسكينة التي يسمع اهل القرية يوميا عويلها ، وهي تتلوى تحت سياط زوجها بسبب كيد ضرتها الملعونه ، زريبة بيتها تنحني مائلة الى الجهة المقابلة امامه معلنة تقدمها عن بقية البيوت ، حيث كان يستطيع من موقعه مشاهدة سطحها العامر بشتى الواح الصفيح المكسو بلون الصدأ ، تتخلله حزم من التبن وقطع من اقراص روث الابقار المنشورة تحت اشعة الشمس .. ترى كيف يستطيع المرء ان يتزوج مرتين ؟ .. انه لا يتصور زوجة اخرى له غير بديعه .. رغم كونه الوحيد من اهالي القرية ممن لا يرغب بالزواج من امرأة اخرى .. وكم عنفه الشيخ محمود وهو يتحاور معه في عدم رغبته تلك عند الفراغ من صلاتهما في المسجد .. نعم .. انها ارادة الله كما يقول الشيخ ، ولكنه لا يريد متعة اكثر مما تمنحه بديعه .. لا يريد .. لا يريد .. ووجد قبضة ذراعه تهوي على الارض بقوه ..

- هيه .. صالح .. ما بك .. لماذا لا تراقب حصتك من المياه .. اتريد ان تتكرر مشكلتك مع سلمان ؟؟
كان الحاج محمود قد بلغ مجلس صالح حين اتم سؤاله .. وجلس قريبا منه منشغلا باختيار مكان مناسب لكيس يحمله معه على الدوام ، تعود ان يضع فيه طعام يومه اثناء وجوده في مزرعته المجاوره .. الحاج محمود هذا كان خصما لأم صالح خلال العام الماضي في مجلس السيد فالح ، حين انكر عليها دينا كان زوجها قد اخبرها به قبل وفاته .. ولم ينثني السيد فالح وهو المقرب لسلالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن الانصياع للاصرار على وجه الحاج محمود في انكار مبلغ الدين الذي بذمته ، فاشار عليها باعتبار المبلغ ان صح وجوده ، صدقة تضيف الى روح المرحوم راحة في قبره .
عاد صالح ليتمدد على الارض من جديد قائلا :
- لم يكن سلمان محق في ادعائه بانني تجاوزت على حصته من المياه .. وقتي لم يكن تاما عندما اغلقت منفذ ارضي عند النهر .. ولكن بعض الناس ، لا يخافون الله ، ويتمسكون بالباطل رفيقا لهم في حياتهم ..
تلقفها الحاج محمود بحذر ، وسارع بالانتقال الى موضوع اخر حيث قال :
- على كل حال .. يبدو هذا المكان مناسب جدا لبناء سقيفة نأوي لها في اوقات الصيف ..
- هل تساهم ياحاج ببنائها ؟ .. انا لا امانع من انشاء السقيفه .
نهض الحاج محمود بشكل يدل على النفور ، بعد ان تلقف كيسه بعصبية ظاهره ، وهو يقول :
- لسانك سليط كلسان ابيك المرحوم .. كلما منعت نفسي من اللقاء بك ، اجدني مضطر لذلك بحكم الجيره ..
- لماذا يغضبك الحق ياحاج ؟ .. ام تريدنا نختصم عند السيد فالح ؟ ..
سلمان .. ذلك الوغد الذي يحسن صنع خصوماته مع الاخرين .. لقد اضحى يشعر بكونه يتربص به نتيجة لشجارهما في الاسبوع الماضي .. لم يصدق بانه لم يتعدى على حصته من الري .. أو انه لم يكن يريد ان يصدق ، سعيا منه لخلق اية مشكلة متاحة .. من يدري ؟ .. لربما ما يقولونه عنه بأنه جاسوس لمأمور المركز في القريه صحيحا .. والا ما معنى تهديده لمن يخاصمهم بالحبس على الدوام ؟ ..
بدأ وعلى حين غره ، يراوده شعور بالضيق .. نهض من مكانه ليتفقد اركان المزرعه .. لقد انتهت عملية الري قبل استنفاذ كامل الوقت المخصص لها .. التفت ناحية ارض سلمان المجاوره عله يعثر عليه كونه سيليه في الدور ليروي حقله .. لمح شخصا يجري ناحيته لم يكن سلمان .. وبعد ان بلغ حدا غير بعيد عنه ، حاد عن مساره وجرى باتجاه الناحية الشرقية حيث مزرعة الحاج محمود ليرتقي الكتف الترابي المحاذي للنهر ، ثم اختفى عن نظره فلم يستطع تشخيص من يكون بالضبط .. إنتابه إحساس بالخوف .. عمد فورا الى غلق منفذ المياه عن المزرعه ، وعاد ليحمل فأسه ويعتلي ضفة النهر متوجها صوب القريه .. من ذلك الرجل ياترى ؟ ..وماذا كان يفعل بين الحقول ؟؟ .. وما هو سبب هروبه وبهذه الطريقه ؟؟ .. ياستار استر .. توقف فجأة وهو يعيد النظر الى ناحية مزرعته .. يا لطيف .. ايمكن ان يكون وراء الامر جريمه مثلا ؟ .. ثم عاد للمسير وبسرعة اكبر وكأنه يحاول الابتعاد ما وسعه ذلك عن شيء ما يلاحقه ..
كان يسترق السمع لأي صوت او حركة تدله على معنى ما شاهده قبل قليل .. القرية كانت كعادتها ، لا تحمل غير هموم التعب من كد النهار المفعم بحرارة لا ترحم .. ولم يلاحظ وهو يقطع المساحة الضيقه بين زريبة دار عديله ، وجدار طيني متهالك ، طالما نصحها ونصح زوجها بضرورة ازالته ، قبل ان ينهار ويقضي على ما لديهم من دجاج يحتفضون به في سقيفة صغيرة بالقرب منه ، لم يلاحظ ظهور ما يفيده في تفسير لحركة ذلك الشبح الهارب .
في الجانب الاخر من القريه ، كانت تصله اصوات الديكه وهي تصيح معلنة حلول وقت الغروب .. الابواب المصنوعة من الصفيح وبعضها من الخشب ، تبدو وهي مفتوحة عن اخرها منحنية في الغالب الى الخلف ، ترصعها قطع من الطين الجاف ، هي علامات حروب تندلع بين الاطفال كلما حلت نسائم العصاري في القريه .. وثمة عودة جماعية للماشية يرافقها الرعاة من اصحابها ، حيث تعلو اصوات التحايا من بعيد ، تصحبها كلمات يتبادلها الجميع ، تدل في الغالب على معاني لأحداث قديمه .. هذا هو عبود الاعور اصبح غير بعيد عنه ، يقود بقرته عنوة حيث لا ترغب هي بالانقياد له وكأنها ترفض صحبته .. يوم امس اعترضه احد الصبيه الصغار وصاح بوجهه فجأة :
- عمو عمو .. شوف النار ، خشمك طار ..
وضن عبود حينها بأن نارا قد شبت من حوله .. وحين التفت الى الناحية التي اشار لها الصبي ، تعثر بحجر وسقط بكامل جسده على الارض .. فر الصبي ولم يسلم من عبود الاعور حين لاحقه الى قبالة دار اهله ، وضربه على مؤخرة رأسه ، وقاده الى ابيه ليلقى الجزاء المطلوب .. وكان ذلك مدعاة للتندر طوال اليوم بين سمار المقهى في القريه .
لم يكن لدى صالح أي سبيل الا ان يتوقف لمحادثة عبود ..
- كيف حالك ياعبود .. وكيف هي البقره ، علمت بانك تنوي مبادلتها ببقرة اخرى ..
- لم نتفق بعد على التبادل .. كامل يريد مبلغا اضيفه على بقرتي ، رغم انني انا المحق في تسلم هكذا مبلغ منه .. بقرتي كما تراها ليست سيئه لهذا الحد .. ولكن الملعون سلمان كان حاضرا حينذاك وافسد العملية برمتها ..
- الم ترى سلمان هذا اليوم .. اتعلم اين هو الان ؟ ..
كانت البقره تلف بجسد عبود يمنة ويسره وهي تدور من حوله ، في حين بدت عليه علامات الرغبة باكمال حديثه مع صالح :
- لم أره ولا أريد أن أراه .. فقط سمعت بانه تشاجر مع ضابط امن المركز ، بسبب وشاية احدهم به بكونه ذكر السيد فالح بسوء .
- وما علاقة ضابط الامن بالسيد فالح ؟.. السيد ليس موظفا لدى الحكومه .
- ماذا تقول يارجل ؟ الحكومه اصغر شأنا من السيد ، فهو ابن الرسول .. والحكومه محتاجة له على الدوام .
- تحتاجه في ماذا ؟ .
- شغل مخك قليلا ياصالح .. هل نسيت عندما يحتاج المركز لابلاغ تعليمات معينه الى الاهالي ، على ماذا يعتمد ؟ .. أليس السيد فالح هو من اوجد حلا لجميع النزاعات الزراعيه بين اهالي القريه وبين دائرة الزراعة في المحافظه ؟ .. لولا السيد لما استطاعت الحكومه استقطاع حصص من المزارع في القريه لانشاء بناية جديدة للمركز .. ولكن لم تقل لي لماذا تسأل عن سلمان ؟ .
- كنت اريد ان اخبره بانتهائي من ري مزرعتي وعليه استلام دوره في الري مخافة ان تحدث لي معه مشكلة جديده .
وقرر ان يقطع الحديث مع عبود ، فنبهه الى ان البقرة بحاجة للعودة الى زريبتها ، وبادر هو بمصافحته كاعلان عن ذلك ..
كلهم زنادقه .. الحاج محمود حج البيت مرتين ولهف دين ابيه .. والسيد فالح لم يمنعه قربه من الرسول ، انه عون للحكومة في كل حين .. وسلمان جاسوس حقير ينقل اخبار القرية للمركز ..
كان على مسافة عدة امتار من باب داره ، عندما لمح أحد افراد الشرطة يقترب من الباب .. توقف في مكانه ليتأكد من انه يقصده .. نعم انه يقصده .. فرفع صوته ليشعر الشرطي بوجوده قبل ان يطرق الباب .. انه يعرفه .. عبد الرحمن الابرص .. كان ابشع ما فيه عدا عن كونه نذلا في تعامله مع الاخرين ، انه ابرص .. تلطخ قطع بيضاء مساحة واسعة من وجهه وبقية جسده .
صالح – انا هنا ياعبد الرحمن .. خيرا انشاء الله .
عبد الرحمن – لا خير على ما يبدو في هذه القريه .. مأمور المركز يريد حضورك صباح الغد عند الساعه العاشرة صباحا .
صالح – ما الامر ؟ .. هل تعلم لماذا يطلبني المأمور ؟ .
عبد الرحمن – لا ادري .. سوى انني رأيت سلمان عنده قبل ان يطلب حضورك .
شعر صالح بان الارض من تحته وكأنها تحركت فجأة ، فمال بجسده ناحية جدار الدار .. وتشبث بالشرطي وهو يحاول معرفة المزيد ، عله يجد تفسيرا لهذه الدعوة الكريهه .
صالح – اسمع ياعبد الرحمن .. انا اعلم بانك تؤدي واجبك الرسمي ، ولكني على ما اعلم بانك تعزني كما اعزك ..
عبد الرحمن – ليست هناك معزة لاحد منكم عندي .. كلكم اشرار لا تريدون الاستقرار .. لقد طلبت عدة مرات نقلي الى مكان اخر ، ولكن المركز كان يرفض على الدوام .
صالح – طبعا طبعا .. كيف يمكن الاستغناء عنك وانت افضل شرطي لديهم ولدينا جميعا ..
عبد الرحمن – لا تأخرني ياصالح .. احضر صباح الغد وسوف تعلم السبب .
غادر الشرطي تاركا صالح متسمرا في مكانه ، وهو يجتر افكاره المتسارعه ليدرك ماذا سينتظره يوم الغد . أيمكن ان يكون شجاره مع سلمان حول حصته من مياه الري هو السبب ؟ .. ياليته يكون كذلك .. انها شكوى عاديه سوف تنتهي بخسائر معقوله .. ولكن سلمان لا يرضى لخصمه باقل من عقوبة مترتبة على وشاية مفبركة ، قد لا تبتعد عن مضمار شتم الحكومه مثلا ، أو المساس بسمعة المركز ، وحتى التعرض لمقام السيد المحافظ لو اقتضى الامر .. حينها .. وشعر بقشعريرة تنتاب اطرافه وخدر يتسرب الى مؤخرة رأسه .. ياستار .. اللهم احفظنا من كل مكروه .
كانت ليلة ثقيلة على نفسه وهو ينازع مع حالة ارق شديد بانتظار حلول الصباح .. انه يعرف جيدا غلاضة ذلك الوغد الذي يسمونه مأمور المركز ، فرغم تلك الابتسامة المرسومة على محياه على الدوام ، فهو لا يتورع ابدا عن اهانة الاخرين ولأتفه الاسباب .. شعر بحركة قريبة منه ، ليكتشف بان زوجته بديعه تقف قبالته ، وهي تحاول معرفة سبب استيقاضه لغاية هذه الساعة المتأخره ، فهو لم يعتد السهر كونه مضطر للذهاب مبكرا الى الحقل عند كل صباح :
بديعه – ما بك ؟ .. هل تشعر بمرض ؟ .. لماذا لم تنم ولحد هذه الساعه ؟ .
صالح - تعالي يابديعه .. اجلسي هنا قريبا مني ، اريد ان ابلغك بأمر احتاج فيه لمساعدتك .. انت تعلمين بان امي مريضه ، وقد يؤثر عليها أي خبر سيء ..
لم تجلس بديعه ، بل صارت قريبة منه وعيناها متسمرتان على وجهه لتفهم فحوى ذلك الخبر .
بديعه – ما الامر .. ماذا حدث ؟ ..
صالح – غدا سأكون في مركز الشرطه ، واعتقد بان سلمان قد شكاني اليهم بعد مشاجرتنا قبل ايام .
بديعه – سلمان ؟ .. ولماذا لم تحاول التراضي معه ؟ .. انت تعرف نذالته .
صالح – المهم .. ما يقلقني هو فحوى شكواه .. ان كانت تتعلق بحصص مياه الري فهذه لا خوف منها .. خوفي ان تكون الشكوى اكبر من ذلك بكثير .
بديعه – وهل من الممكن ان تكون غير ذلك ؟ .
صالح – لا اعرف .. وصيتي لك هي كالتالي .. لو كانت الشكوى كما اضن ، فمعناه انني من المحتمل ان يطول غيابي عنكم لعدة ايام .. حاولي تهدئة الامور .. لا أريد ان تعلم امي بأي شيء .
بديعه – وكيف لي ذلك ؟ .. غيابك سيجعلهم امك والاولاد يتفقدونك ، ولابد من وجود جواب لهم يقنعهم بانك بخير .
صالح – قولي لهم بانني سافرت فجأة الى المدينه لجلب بعض الاسمدة للحقل ، وعلي ان ابقى هناك لعدة ايام .. اسبوع مثلا .
وجد صالح نفسه وقد استيقظ من نومه عند الساعه التاسعه صباحا ، فهب على الفور ليغتسل وكأنه يستعد لفترة قد لا يستطيع خلالها الاغتسال .. ارتدى ملابسه على عجل .. وكان نهما في تناول الفطور رغم احساسه بالشبع .. دعى بديعه لأن تجلب له قدحا كبيرا من الشاي .. اكبر قدح في الدار .. فالشاي مهم جدا في مثل هذه اللحظات ..
كان المأمور ، متوسط القامة ، اسمر السحنة ، يتلون صدغاه بلون الشيب الابيض ، في حين راحت بقية فروة رأسه المنتشرة بدون انتظام ، تتلون بلون اسود براق ، وثمة ابتسامة تتجمد على شفتيه بشكل مستمر ، يظهر من خلالها صف من الاسنان تندفع عند فكه العلوي قليلا الى الامام .. يرتدي بدلة عسكرية خالية من نجوم الرتبه ، أمعن في كيها بمكواة من النوع الذي يسخن بالفحم تستقر على طاولة قريبة من مكتبه .. وبجانب الطاوله سرير للنوم ، ينتصب بجانبه عمود تتدلى منه منشفة وبعض الملابس المدنية ..
لقد شعر صالح برغبة قوية بالجلوس على الارض ، عندما بدأ المأمور يتفحص حزمة من الاوراق ، موضوعة امامه داخل ملف ورقي أصفر .. بعد حين ، دخل الشرطي عبد الرحمن ليؤدي التحية ويتقدم صوبه حاملا ورقة بيده :
عبد الرحمن – سيدي النقيب .. هذه ورقة بعثها لك الملازم سيف من شعبة الامن في المركز .
وحين لم يرد عليه النقيب ، تراجع الى الخلف وهو يتلافى النظر الى صالح حتى اختفى وراء الباب .. بعد ان قرأ المأمور ما في الورقه ، استدار بكرسيه ليستفيد من ضوء الشباك الوحيد في الغرفة ، وأعاد القراءة من جديد مستعينا بحزمة الضوء الآتيه من الخارج ، ثم قام بدسها في نفس الملف الاصفر الموجود امامه .. لم يرفع رأسه عن الملف وهو يقول :
- لا اعتقد باننا تقابلنا هنا من قبل ، عدا عن المرات التي كنت اراك فيها في القرية خارج المركز .
صالح – نعم سيدي .. فانا ليست لدي اية مشاكل والحمد لله .. عدا ..
ألمأمور – عدا ماذا .. الديك مشكله مثلا مع احد تريد طرحها امامي هنا كي أعينك على حلها ؟ .
صالح – لا اعرف سيدي .. لقد إتهمني سلمان قبل أيام بأنني تجاوزت على حصته من مياه الري ، وتسبب ذلك في حدوث شجار بيني وبينه ، شجار بالكلام فقط .. وتأكد سيدي بأنني ..
المأمور- مفهوم مفهوم .. لم تتعدى على حصة احد .. فهمت ذلك .. ولكن ماذا تقول لو أخبرتك بانني دعوتك للحضور لأسباب اخرى ؟ ..
وقف مأمور المركز وغادر طاولته مقتربا من صالح ، ومتمما لحديثه :
- قل لي ياصالح .. لو طلبت منك مثلا أن تتعاون معنا في تنظيم شؤون القريه ، طبعا مقابل أجر ، فهل ستقبل ؟ .
رفع صالح رأسه ناحية المأمور وقد شعر بثقل المفاجأة ..
- كيف اتعاون معكم سيدي ؟ .. يعني .. ماذا سيكون عملي ؟ .
- طيب .. هذا معناه انك قبلت العرض ، والباقي هو معرفتك بطبيعة عملك .. اسمع ياصالح .. انت تعرف باننا نجاهد من أجل حماية الناس وممتلكاتهم .. ونوفر للجميع الأمن والاستقرار .. وهذا يتطلب وجود من يساعدنا من سكان القرية .. وأنت بالطبع مؤهل لذلك لأنك شاب طيب وحريص على اهل قريتك كما نحن حريصين عليهم .. هذا مع كونك احيانا تتحدث ضد الحكومة في المقهى .. انا اعلم بكل التفاصيل .. ولكنني استطيع التغاضي عن الامر ..
- أنا ؟؟ .. انا ياسيدي لم اعتد على الجلوس في المقهى واغلب اوقاتي اقضيها بين الحقل والبيت .
- لالا .. بالنسبة لهذا الموضوع فنحن على يقين من وقوعه .. لا تجادلني بهذا الامر .. أترى هذه الورقه ؟ ..
وكان المأمور يمسح برقبته من الخلف وهو يستل ورقة من الملف ليريها من بعيد لصالح ، متمما حديثه :
- كل شيء مسجل عندنا بالتمام والكمال .. قبل قليل وصلني هذا التقرير من شعبة الامن في المركز ، وفيه كل شيء عنك .. كل شيء .. فانت مع كونك طيب بنظرنا ، غير انك احيانا تدخل في متاهات مضره ، اتفهم ؟ .. مضره .. وعليك ان تتحصن من اجراءات اجهزة الامن .. وحصنك هو ان تتعاون معنا .. اعتقد بان هذا يكفي ..
انحنى المأمور ليفتح احدى مجرات مكتبه ويخرج سيكارة من هناك ووضعها في فمه ثم اعادها الى سطح الطاولة ، وعاد ليقترب من صالح وقال وهو يسند كفه الثقيلة على كتفه :
- نريد ان نعرف بالضبط حركاتهم وكل شيء عنهم في القريه ..
- من هؤلاء سيدي ؟
- الشيوعيون .. لقد بدأت حركة مريبة للشيوعيين في القرية منذ مدة .. ولا تعتقد باننا في غفلة .. يوم امس قتل كلب منهم كان متوجها الى القرية لايصال منشورات تخص تنظيمهم .. قتله رفاقه ولا نعرف الاسباب .

لم تجد بديعه مبررا لاستمرارها بالالحاح على صالح لمعرفة دواعي ضجره غير المعتاد في مساء ذلك اليوم .. إنه يدور في باحة المنزل المكشوفة ويضرب بيده فوق أي شيء يصادفه .. سلمان تشاجر معه قبل ايام .. دعوة مأمور المركز له وحديثه البعيد عن أية وشاية محتملة ضده من قبل سلمان .. ثم .. ماذا يعني أن يقول له مأمور المركز وهو يغادر عتبة باب مكتبه .. ( لا تنسى بأن ما دار بيننا هو سر من أسرار الدوله .. وانت اعرف بمصير من يفشي سرا كهذا ) .. أتراه ممنوع من بحث الأمر حتى مع زوجته وأمه ؟ .. من هم هؤلاء الذين ضنت بهم الحكومة بكونهم من الشيوعيين في القرية ..
مر اسبوع واحد فقط على ذكره لتفاصيل حكايته مع المأمور للحاج صالح ، حتى سمع اهل القرية في صباح يوم مشحون بالخوف ، بان صالح زوج بديعه ، وجد ميتا في قاع ترعة تمتد هناك ، عند الطرف الشرقي لمزرعته .. ليكتب في شهادة وفاته ، لقد توفى نتيجة اصابته بطلق ناري في الجهة اليسرى من الصدر .. وقيدت القضية ضد مجهول .



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ألشعوب العربية لا تحسن الثوره
- عصارة من خيال
- مشروع اتفاق مع حكومة الصين
- ألغرز في اللحم الميت
- ثورات الربيع العربي ، ودور القوى اليسارية التقدميه .
- مرافعة لا حضور للمحامين فيها
- نعم .. نحن فعلا نتعرض لمؤامرة غربيه .
- من وحي الحبة الزرقاء
- حنطاوي
- أسماك الزينة وصوت كوكب الشرق .. حينما يأتلفان .
- ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. النهايه
- ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و ...
- ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و ...
- ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و ...
- ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و ...
- ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و ...
- ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و ...
- ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و ...
- ألعراق لم يكن إرثا من آبائكم .. فكيف تتبرعون بأراضيه ؟!
- ألحزن الكبير ...


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - صهوة الشر