أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها















المزيد.....



الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3499 - 2011 / 9 / 27 - 12:12
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


1: تثور من حين لآخر تساؤلات ملحَّة عما يجرى فى مصر: هل نحن إزاء ثورة؟ أم حالة ثورية؟ أم انتفاضة؟ أم هوجة؟ إلخ.، ويتصل بهذا حديث عن نجاح الثورة باعتباره معيار كونها ثورة أصلا. ويتصل بهذا أيضا الحديث الخاص بطبيعتها وما إذا كانت ثورة اجتماعية أيضا بالإضافة إلى كونها ثورة سياسية. كما يتصل بهذا كذلك حديث الثوار أنفسهم عن ثورة أولى وثانية وثالثة وكأننا لسنا إزاء ثورة واحدة مستمرة بمختلف موجاتها ومراحلها بل إزاء ثورات متعددة بتعدد شعاراتها أو "مليونياتها" أو أهدافها المباشرة. وسأحاول الآن تفحُّص هذه الأسئلة وغيرها عن طبيعة ثورتنا وآفاقها والأخطار التى تُحْدِق بها.
2: وتعنى الثورة ببساطة أن يثور شعبٌ على نطاق واسع وعلى زمن ممتدّ رافضا الوضع الاقتصادى والاجتماعى والسياسى القائم عاملا على إسقاطه أو تغييره تغييرا عميقا. وقد يثور شعب أو ينتفض فى سبيل أهداف محدودة ربما ردًّا على تطورات أو إجراءات سياسية أو اقتصادية، ويمكن أن ينجح فى تحقيق مطالبه أو أن ينجح النظام الحاكم فى قمع انتفاضته وسحقها أو تهدئتها بالوعود الخادعة؛ ولعلّ انتفاضة 18 و 19 يناير 1977 أن تكون مثالا جيدا على مثل هذه الانتفاضة الناجحة التى تكون على الأغلب قصيرة الأمد، رغم أهميتها التى لا جدال فيها بالنسبة لنضالات المستقبل. أما عندما يثور شعبٌ فى سبيل أهداف واسعة شاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وعلى مدى زمنىّ ممتدّ يتجاوز الأسابيع إلى الشهور وربما الشهور إلى أعوام واضعا نصب عينيه إسقاط النظام كما تفعل الآن ثورات الشعوب العربية، التى ثارت بالفعل أو التى تنتظر الآن دورها، فإننا نكون إزاء ثورات شعبية سياسية. ولا ينبغى الشك فى أننا إزاء ثورات كاملة الأوصاف مهما كان نصيبها من النجاح ومهما عانت من نقاط ضعف قد تكون قاتلة فى كثير من الأحيان. وإذا لم تكن ثوراتنا الراهنة ثورات رغم ضخامتها وشمولها واتساع الآفاق المفتوحة أمامها رغم الأخطار الهائلة المُحْدِقة بها فسوف يعنى هذا شيئا واحدا وهو أن العالم كله لم يشهد فى يوم من الأيام أىّ ثورات على الإطلاق؛ فأين كانت هناك ثورات أضخم أو أعمق أو أشمل أو أكثر نجاحا خاصة إذا وضعنا فى اعتبارنا أن هذه الثورات ما تزال مستمرة وربما كانت ما تزال فى مراحلها الأولى وما تزال لم تلحق بها شعوب عربية أخرى سواء شهدت إرهاصات وبدايات مهمة أو متعثرة لها أو لم تشهد.
3: والثورة قد تنجح أو تفشل أو تجمع على الأغلب بين عناصر نجاح وعناصر فشل. ولا يعنى فشلها الكامل أو الجزئى أنها لم تحدث أصلا، وهى لا تفقد مغزاها ولا أهميتها لنضالات المستقبل حتى فى حالة الفشل الكامل. ولهذا فإن معيار نجاح الثورة لا مبرر له، ولا يمكن اعتماده، لمجرد الاعتراف بأن ثورة ما قد حدثت. على أن مسألة نجاح أو فشل الثورة أعقد من كل هذا. ذلك أن معايير نجاح أو فشل ثورة تحتاج هى ذاتها إلى معايير لمعايرتها وقياسها: هل يُقاس النجاح بمعيار تحقيق أهداف تنطوى عليها العملية الفعلية لثورة ما أم بمعيار تحقيق أهداف من خارج تلك العملية؟ هل نتصور مثلا أهدافا اشتراكية لثورة غير اشتراكية ثم نستنتج من الفشل فى تحقيق تلك الأهداف أنها لم تكن ثورة أصلا؟ والحقيقة أن التصور الأكثر موضوعية لطبيعة ثورة وللأهداف التى تنطوى عليها العملية الثورية الفعلية بصورة مُعلنة أو ضمنية هو الذى يمكن أن يقدِّم لنا المعيار الصحيح لقياس نجاحها من عدمه. وثورتنا فى مصر والعالم العربى ما تزال على الأرجح فى بداية الطريق وقد حققت إلى الآن نجاحات مهمة للغاية، فلا معنى لقياس نجاحها بمعايير غريبة على طبيعتها وبالتالى إعلان أنها ليست ثورة بل مجرد كذا وكيت. والأهم أننا لسنا إزاء ثورة اشتراكية فنحن فى الواقع إزاء ثورة سياسية تجرى فى إطار واقع موضوعى يتمثل فى التبعية الاستعمارية التى ما تزال مستمرة عندنا كما هى مستمرة فى أغلب بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، وهى بلدان عالمنا الثالث الحالى، كما سنرى بعد قليل.
4: وما دامت الثورة متواصلة ومستمرة فلا ينبغى الحديث عن ثورة ثانية أو ثالثة أو رابعة، إلخ.، وكما هو واضح فإن المراحل أو الموجات أو المليونيات أو الإضرابات أو الاعتصامات الجديدة لاستكمال نفس الثورة الواحدة لا يمكن أن تشكِّل ثورات جديدة. ومثل هذا الحديث عن ثورات جديدة لا يؤدِّى إلا إلى الإرباك والارتباك وتقديم ذرائع للمماحكة إلى النظام القائم أو القوى السياسية المتربصة التى تعقد أو تسعى إلى عقد صفقات مع النظام، كما حدث بالفعل عند حديث قوى الثورة عما سمَّتْه بثورة الغضب الثانية، وهو تعبير غير موفَّق مع أن المقصود مفهوم وهو مواصلة الثورة.
5: ولا شك فى أن أىّ ثورات أو انقلابات عسكرية تطرح فى مجراها إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية بدرجات مختلفة فى عمقها ومدى استمراريتها ومدى قابليتها للحياة. وإذا كانت الثورة سياسية وليست فى سياق ثورة اجتماعية بالمعنى الصحيح لهذه العبارة، فإن مثل تلك الإصلاحات تختلف تماما وبصورة جوهرية عن الثورة الاجتماعية. وهناك فى مصر مَنْ يتحدثون عن ثورتنا على أنها ثورة اجتماعية، وهم فى اعتقادى يخلطون خلطا لا يُغتفر بين الثورة الاجتماعية والإصلاحات الاجتماعية. ففى مجرى ثورة سياسية فى سياق التبعية الاستعمارية، أىْ فى غياب ثورة اجتماعية، يمكن بل من النموذجى إجراء إصلاحات اجتماعية تتعلق مثلا بإصلاح زراعى أو إصلاحات فى الأجور أو الرعاية الصحية أو التعليم أو تقليص البطالة أو تخفيف مشكلة السكن أو غير ذلك، ولكن هذه الإصلاحات لا علاقة لها بالثورة الاجتماعية بالمعنى الصحيح إلا إذا كانت تتمّ فى سياقها المحدَّد. وهناك مَنْ يجد تناقضا فى الحديث عن ثورة لا تحقق فى المجال الاجتماعى سوى إصلاحات بعيدا عن الإجراءات الثورية الجذرية الجديرة بثورة بعيدا عن منطق الإصلاحات والإصلاحية. غير أن المتأمل فى الثورات التى حدثت فى العالم كله إلى الآن لن يجد أبدا حالة واحدة انتزعتْ فيها الطبقات العاملة والشعبية حقوقها بالكامل، وحتى فى الثورات التى سُمِّيَتْ بالاشتراكية لم تكن هناك سوى إصلاحات اجتماعية جزئية، بل إن مبدأ الثورات المسماة بالاشتراكية، مبدأ "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب عمله"، وهو مبدأ المرحلة الاشتراكية بعد ثورة اجتماعية اشتراكية (وليس مبدأ "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب حاجته"، أىْ مبدأ الشيوعية) ظل بعيدا تماما عن الممارسة الفعلية لصالح علاقات استغلالية جديدة.
6: ولكىْ نفهم بصورة أوضح طبيعة ثورتنا السياسية وطبيعة نتائجها ينبغى أن نفكِّر جيدا فى سياقها أو إطارها التاريخى. وينبغى التمييز بين سياقيْن تاريخيَّيْن كبيرين للثورة السياسية فى عالمنا الحديث والمعاصر: الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية والثورة السياسية فى غير سياق الثورة الاجتماعية وبالأخص فى سياق التبعية الاستعمارية. لماذا هذا الانقسام إلى سياقيْن اثنين بالذات؟ لأن العالم انقسم ذات مرة إلى بلدان رأسمالية إمپريالية وهى بوجه عام البلدان المتقدمة الآن من ناحية وبلدان كانت مستعمرات وأشباه مستعمرات لبعض هذه البلدان الرأسمالية الإمپريالية من ناحية أخرى، وانتهى هذا الانقسام فى أعقاب مرحلة التحرر الوطنى إلى استمرار نفس الانقسام ولكنْ إلى بلدان رأسمالية إمپريالية وهى البلدان الصناعية المتقدمة اليوم من ناحية وبلدان متخلفة وتابعة استعماريًّا وتمثل حظائر وأفنية وزرائب خلفية للرأسمالية العالمية من الناحية الأخرى، وهى البلدان غير الصناعية التى يجرى تدليلها باسم البلدان النامية وهى بلدان العالم الثالث التى فاتها قطار التحول إلى بلدان صناعية وبالتالى إلى الرأسمالية بالمعنى الحقيقى للكلمة فظلت تابعة لم تخرج من القفص الحديدى للثورة السكانية بدون الثورة الصناعية، هذه المعادلة الجهنمية التى فرضتها الكولونيالية منذ البداية على بلدان ما يسمى الآن بالعالم الثالث. وبالطبع هناك استثناءات: هناك بلدان كانت قد تخلفت عن رأسمالية أوروپا الغربية غير أنها لحقت بها وينطبق هذا فى أوقات مختلفة على بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا وروسيا والياپان، وهناك مستعمرات أو أشباه مستعمرات سابقة لحقتْ أو تلحق الآن بركْب الرأسمالية فى ظروف تاريخية خاصة، رغم مشكلات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى فى هذه البلدان، وهى النمور الآسيوية الأصلية والصين. ولم تلحق معظم بلدان عالمنا الثالث بالرأسمالية فظلت ساحةً لاستغلال الرأسمالية العالمية ونهبها وسيطرتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبقيت فى حظيرة التبعية الاستعمارية، وصارت أفنية خلفية للإمپريالية العالمية، وإذا اعتبرناها رأسمالية تابعة فإن هذا يعنى أنها ليست صناعية وليست رأسمالية بالتالى فلا تكتسب الطابع الرأسمالى إلا باعتبارها ملحقة بالرأسمالية العالمية، بنظامها الرأسمالى العميل موضوعيًّا وذاتيًّا وبتبعيتها الاقتصادية بكل عناصرها الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية والتكنولوچية وبالتالى بتبعيتها السياسية والثقافية بصورة لا فكاك منها رغم استقلالها السياسى الشكلى بمعنى الاستقلال وفقا للقانون الدولى فلا يتجاوز ذلك إلى الاستقلال الحقيقى.
7: فما هى الثورة الاجتماعية؟ لقد استقرَّ فى الفكر السياسى التقدُّمى بالذات أن النظم الاجتماعية الاقتصادية وأنماط الإنتاج لا تنتقل من نظام اجتماعى إلى نظام اجتماعى آخر أو من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر إلا عن طريق ثورة اجتماعية، بل يتعرَّف هذا الفكر على الثورة الاجتماعية فى كل تجلياتها الاجتماعية المتمايزة وحتى المتناقضة ظاهريا من حيث التلاؤم مع إيحاءات وأصداء ومعظم دلالات تعبير "ثورة"، إذْ يتحدث الفكر السياسى عن الثورة العبودية والثورة الإقطاعية والثورة الرأسمالية باعتبارها جميعا ثورات على قدم المساواة من حيث كونها ثورات وفوق ذلك من حيث كونها ثورات اجتماعية؛ وإنْ كانت عهودا متعاقبة من العبودية. فالثورة الاجتماعية هى عملية التحول التدريجى من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر، وفى العصر الحديث والمعاصر استغرقت هذه العملية التدريجية التى كانت بالطبع عملية تحوُّلٍ من الإقطاع إلى الرأسمالية قرابة ثلاثة قرون فى إنجلترا وزهاء قرنين فى فرنسا وفترات أقصر نسبيا بعد ذلك نتيجةً لتطور الرأسمالية فى غرب أوروپا وبالتالى نتيجةً لحرق مراحل فى التحول الرأسمالى فى بلدان أوروپية أخرى وفى بلدان غير أوروپية كالياپان، بالاستفادة بمنجزات رأسمالية أوروپا الغربية صناعيًّا وعلميًّا وتكنولوچيًّا، وبتفادى جوانب من ويلات تراكماتها البدائية الأصلية، وبفضل مبدأ البدء من أعلى. ومنذ أواخر العهد الإقطاعى فى غرب أوروپا بدأت العملية التاريخية التدريجية الطويلة المدى للتحول إلى الرأسمالية مع التطور التدريجى للصناعة الحديثة مؤديًا إلى الثورة الصناعية والرأسمالية الزراعية وتطور السوق الرأسمالية العالمية والعلم النظرى والتطبيقى الحديث والتكنولوچيا الحديثة والثقافة العصرية والتحديث بكل نواحيه ومناحيه. وفى سياق هذه الثورة الاجتماعية التدريجية والطويلة الأمد جاءت ثورات سياسية، فماذا كانت وظيفتها، أو ماذا كانت ضرورتها، ما دامت عملية التحول الأكثر أهمية أىْ الثورة الاجتماعية جارية بالفعل قبل الثورات السياسية بوقت طويل وما دامت قادرة على الوصول إلى غاياتها حتى بدون ثورات سياسية؟
8: على أن الثورات السياسية التى تأتى فى سياق الثورات الاجتماعية هى الحالة النموذجية لهذا السياق، وقد تأتى فى سياق الثورة الاجتماعية ثورة أو ثورات سياسية، وإذا اعتبرنا أن الثورة الاجتماعية فى فرنسا دامت قرابة قرنين من الزمان من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791) ثم إلى وقت ما فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر مثلا فقد جاءت فى سياقها ثلاث ثورات: ثورة 1789-1794 العظمى وثورتا 1830 و 1848 فى فرنسا وبلدان أوروپية أخرى، فماذا كانت وظيفة هذه الثورات وبالأخص ثورة 1789؟ وما هى نتائجها المتصلة بالثورة الاجتماعية؟ والحقيقة أن الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية لها نتائج محدَّدة يمكن إيجازها فى ثلاث نتائج كبرى باعتبارها النتائج التاريخية والمنطقية لكل الثورات السياسية التى تأتى فى سياق ثورات اجتماعية أىْ فى سياق تحوُّلات رأسمالية جذرية، وكان هذا هو خط تطور البلدان الصناعية المتقدمة الحالية أىْ الرأسمالية الإمپريالية التى شهدها العصر الحديث والعالم المعاصر. وبالطبع فإن وظيفة الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية تتجسَّد وتتجلَّى فى نتائجها كما تكشف نتائجها عن وظيفتها. والنتائج دائما وثيقة الارتباط بالأوضاع القائمة فيما قبل اندلاع الثورات السياسية مصداقا للقول المأثور "كل إناء ينضح بما فيه". ذلك أنه لا شيء يهبط من السماء التى لا تُمطر ذهبا ولا فضة فمقدمات الثورة وعواملها هى التى تفرز نتائجها، والحقيقة أن تلك المقدمات تتواصل إنْ جاز القول بأشكال جديدة فى أوضاع جديدة. وإذا أخذنا بتحليل أليكسى دو توكڤيل للعلاقة بين النظام القديم أىْ التراكمات الرأسمالية طوال أكثر من مائة سنة فى عهود الملكية المطلقة من جانب وثورة 1789 من الجانب الآخر ولرفض الشعب الفرنسى لهذا النظام وجدنا أن من المنطقى تماما كما كان من التاريخى تماما أن تكون هناك ثلاث نتائج كبرى: النتيجة الأولى هى استمرار التحول الرأسمالى الذى يأخذ دفعة تاريخية كبرى من إزالة الثورة السياسية للعراقيل والمعوقات التى كانت تقف فى طريق ذلك التحول الرأسمالى والتى تتمثل فى بقايا الإقطاع والإقطاع الدينى الكنسى وامتيازات الأريستقراطية وبقايا القرون الوسطى رغم أن النظام القديم لم يكن نظاما إقطاعيًّا بل كان نظاما انتقاليًّا بفضل ما كان قد تحقق من تطور رأسمالى. وتمثلت النتيجة الثانية فى الانتقال الضرورى للسلطة السياسية إلى القوى الاجتماعية التى صعدت لتملك وتحكم ويتمثل الاستمرار هنا فى الحاجة الملحّة الكامنة فى صميم أهداف وتطلعات الرأسمالية الصاعدة إلى تنظيم وإدارة دولتها الجديدة وإلى القمع المزدوج لقوى الثورة المضادة من جانب ولجماهير الشعب من جانب آخر، ونلتقى هنا بهذه الضرورة التى تخلق الديكتاتورية من أعلى، وهكذا تنطلق من الثورة مرحلة عهد الإرهاب، و روبسپيير، وقمع الشعب، وغزو الشعوب الأخرى فى أوروپا بالإضافة إلى مصر وبعض جوارها، وصولا إلى الإمپراطورية وانقشاع أوهام المساواة التى حلّ محلها الاستغلال الرأسمالى وازدياد الأغنياء غنًى وازدياد الفقراء فقرا، وأوهام الحرية التى حلّ محلها الاستبداد والديكتاتورية، وأوهام الإخاء الذى حلّ محله استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وصراع الطبقات وحرب الكل ضد الكل. والنتيجة الثالثة استمرارٌ لرفض الشعب الفرنسى لكلٍّ من مظالم الأريستقراطية وبقايا الإقطاع وإقطاع الكنيسة وكل ما يعوق الحداثة من جانب ومن جانب آخر رفض استغلال النظام الرأسمالى الناشئ فى عهود النظام القديم والملكية المطلقة قبل انفجار الثورة الشعبية السياسية، وتتمثل هذه النتيجة الثالثة فى تحوُّل الفكر الفلسفى والاجتماعى والسياسى الرافض والممارسة الثورية الرافضة والثقافة الثورية الناشئة إلى ديمقراطية من أسفل تطورت بوجه خاص فى فرنسا القرن التاسع عشر من خلال نشأة الأحزاب والنقابات ومختلف الحركات الاجتماعية والفكرية والثقافية وكل أركان المجتمع المدنى فى سياق مقاومة الديكتاتورية من أعلى وفى مقاومة الاستغلال الرأسمالى. وعلى هذا النحو تقوم أوضاع اجتماعية وسياسية جديدة تمثلها نتائج الثورة السياسية الثلاث فى هذا السياق أىْ الرأسمالية كنتيجة أولى والديكتاتورية كنتيجة ثانية والديمقراطية من أسفل كنتيجة ثالثة.
9: ويمكن بالطبع أن نتصور ثورات سياسية ليس فى سياق ثورات اجتماعية رأسمالية وحسب بل كذلك فى ظل نظام رأسمالى راسخ، كما حدثت بالفعل ثورات سياسية ذات غايات كانت بالضرورة أضيق نطاقا بهدف تحقيق إصلاحات بعينها أو للتخلص من ديكتاتورية عاتية أو لتحقيق إصلاحات اقتصادية واجتماعية بالغة الإلحاح، كما تتعدد ثورات حداثية وعلمية وتكنولوچية وغير ذلك بحكم ضرورات الصراع فى ظل الرأسمالية المستقرة كنظام اجتماعى اقتصادى.
10: كما يمكن أن نتصور ثورة اجتماعية رأسمالية تؤدى إلى إقامة نظام رأسمالى كامل الأوصاف دون ثورة سياسية فيما يُعْرَف بالطريق الپروسى أو اليونكرى والمثال الأوضح هو الثورة الاجتماعية الياپانية التى جرت من فوق انطلاقا من ثورة (أو استعادة أو إحياء أو إصلاح) الميچى فى الفترة من 1868 إلى 1912 وليس انطلاقا من ثورة سياسية شعبية من أسفل. على أن الثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية رأسمالية هى النموذج السائد والقاعدة العامة للتحول إلى الرأسمالية المتقدمة فى عالمنا الحديث والمعاصر، فيما تمثل الثورة الاجتماعية بدون ثورة سياسية الاستثناء، كما فى حالة الياپان.
11: ويمكن إيجاز ما سبق فى أن الثورة الاجتماعية فى العصر الحديث، أىْ الثورة الاجتماعية البرچوازية أو الرأسمالية، ليست شيئا آخر سوى تشكُّل ونموّ وتطوُّر وتكوُّن أسلوب الإنتاج الرأسمالىّ، وقد تأتى الثورات السياسية البرچوازية الشعبية مبكرا نسبيا وقد تأتى بعد تقدُّم ونضج هذه العملية الرأسمالية وقد تتكرَّر وقد لا تأتى بمعنى جوهرىّ أبدا فيتحقق التحوُّل من خلال ثورة اجتماعية تدريجية فوقية، وفى نهاية المطاف نجد أنفسنا وجها لوجه أمام نظام رأسمالىّ مستقر مهما اشتمل على بقايا للإقطاع أو على أشكال إنتاج سابقة للرأسمالية أو حتى على تشكُّلات جنينية أو غير مكتملة للنظام الاجتماعىّ اللاحق منطقيا أو تحليليا للرأسمالية ذاتها ألا وهو النظام الاشتراكىّ. على أن النظام الرأسمالىّ الذى كان محصلة لذلك التطور الطويل الأمد لا ينغلق باكتماله ونضجه واستقراره، ولا ينكفئ على نفسه، بل تتمّ داخل نطاقه تطورات وثورات علمية ومعرفية وتقنية وتحديثية وغيرها بكل نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبكل هذه الأشياء يعيش النظام الرأسمالى "حياته الطبيعية"، على أن تناقضاته لا تكفّ بدورها عن النموّ والتفاقم مما يقودها فى الأمد الطويل على طريق الركود المزمن والتفسُّخ والانهيار والموت أمام احتمالين كبيرين متناقضين: الاشتراكية أو البربرية.
12: ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات ووحشيتها لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية وأهوال ما يسمَّى بالتراكم البدائى فى تاريخ كل البلدان الرأسمالية المتقدمة. والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير! وهناك مَنْ يُدينون الثورات بصورة مطلقة كالفيلسوفة السياسية حنة أرندت لأنها لا تحقق الحرية ولا تمحو الفقر والعنصرية باستثناء الثورة الأمريكية من وجهة نظرها، فيما يمجِّد ماركس الثورة الاجتماعية ويُدين العبوديات الاستغلالية المتعاقبة الناشئة عنها وعن الاستبداد الناشئ عن الثورات السياسية (باستثناء الثورة الاشتراكية من الناحية النظرية بطبيعة الحال) على أن الثورة الأمريكية لا تشكل أىّ استثناء حقيقى تتصوَّره هذه الفيلسوفة فهناك نجد نفس النتائج الثلاث الكبرى للثورات الاجتماعية أىْ الرأسمالية واستغلالها والديكتاتورية البرچوازية فى نهاية المطاف والديمقراطية من أسفل، كذلك فإن الاستثناء الماركسى للثورة الاشتراكية من الاستغلال والديكتاتورية يظل فى نطاق النظرية وما يزال تحقيقه فى رحم المستقبل فيما تجسَّدتْ الاشتراكية كما تحققت فى الواقع فى استغلال رأسمالية الدولة والدكتاتوريات الستالينية وما بعد الستالينية لأن الثورات المسماة بالاشتراكية طوال القرن العشرين كانت رأسمالية فى حقيقتها وكانت فى روسيا بالذات ثورة رأسمالية بقيادة شيوعيِّين مخلصين كانوا يتصورون أنهم يبنون الاشتراكية غير أن القول المأثور السابق الذكر "كل إناء ينضح بما فيه" كان ماثلا هنا أيضا إذْ إن "النظام القديم" السابق للثورة البلشڤية فى روسيا لم يكن إقطاعيا رغم بقايا الإقطاع ولم يكن قروسطيا رغم البقايا القروسطية وحتى التتارية بل كان نظاما انتقاليا يتجه بخطى بالغة السرعة صوب الرأسمالية وفقا لتحليلات لينين التفصيلية وتحليلات ماركس و إنجلس الموجزة من قبله. وهكذا كانت الغلبة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فى روسيا على مطامح وغايات وأيديولوچيا القيادة الشيوعية المخلصة. وإذا كانت النتيجتان الرأسمالية والديكتاتورية للثورة السياسية ("البلشڤية")، فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية التى تواصلت منذ إلغاء الرق فى روسيا فى 1861 حتى نضج رأسمالية الدولة السوڤييتية عند منتصف أو بعد منتصف القرن العشرين، حاضرتيْن فى شخص رأسمالية الدولة وديكتاتورية ستالين العاتية، فقد تعقدت مسألة الديمقراطية من أسفل لأن الثورة ذاتها كانت ثورة ضرورة فى سياق الحرب العالمية الأولى والاحتلال الألمانى لأجزاء واسعة من روسيا كما ارتبطت بالدور الكاسح للدولة فى الاقتصاد وكل شيء آخر وكان تطور الثقافة فى روسيا فى الآداب والفنون والعلوم على نطاق واسع يمثل الديمقراطية من أسفل المحرومة من أدوات سياسية حقيقية. وبالطبع فإن الديمقراطية من أسفل يمكن أن تنشأ وتنمو وتتطور ليس فقط نتيجةً لثورات شعبية بل كذلك فى مواجهة أنظمة استغلالية واستبدادية وفاسدة كما كان الحال فى روسيا القيصرية وفى فرنسا فى عهود سابقة على ثورة 1789 السياسية وحتى فى ظل الاحتلال الكولونيالى كما حدث فى الهند ومصر وأماكن أخرى فى المستعمرات السابقة.
13: وعلى العكس تماما من الثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية، ظلت الثورة الاجتماعية غائبة عن الثورات السياسية فى العالم الثالث، عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، وبالتالى عالم التبعية الاستعمارية، وبالتالى عالم الثورات السياسية فى سياق التبعية الاستعمارية. والتبعية كما يعرف الجميع هى النقيض المباشر للاستقلال، ومعنى هذا أن التحول الجذرى إلى بلدان صناعية حقيقية صار مفتاح التحرر من التبعية وتحقيق الاستقلال، كما صار الأساس الوحيد لتفادى المصير المفزع الذى يتهدَّد بلدان العالم الثالث التى تخلَّفت عن اللِّحاق بالرأسمالية. وقد شهد العالم الثالث ثورات سياسية شعبية أو انقلابات عسكرية أيدتها شعوب ضد النظام الاقتصادى والاجتماعى والسياسى القائم. وكانت النتائج فى أغلب الأحوال استمرار "النظام القديم" (النظام الاجتماعى-الاقتصادى السابق) أىْ التبعية الاستعمارية برأسماليتها التابعة مع إحلال ديكتاتورية جديدة محل القديمة، وكان "خلف كل قيصر يموت قيصر جديد"، وكانت الثورات الشعبية الناجحة تأتى أيضا بديمقراطية من أسفل (كما كان الحال فى النصف الأول من القرن العشرين فى أعقاب ثورة 1919) وهذا ما لم تكن تفعله الانقلابات العسكرية (كما كان الحال فى النصف الثانى من القرن العشرين فى أعقاب انقلاب 1952). فماذا كان ذلك "النظام القديم"؟ والحقيقة أن هذا "النظام القديم" السابق لثورات وانقلابات العالم الثالث كان يختلف بصورة جوهرية عن "النظام القديم" السابق للثورات الرأسمالية فى الغرب أو الشمال أىْ فى البلدان الرأسمالية الحالية. ذلك أن نجاح الثورات الرأسمالية فى الشمال كان يعنى انتصار ذلك "النظام القديم" لأنه كان يمثل المستقبل، وكان المزيد من نموه بفضل نتائج الثورة السياسية يعنى التحوُّل الراسخ إلى النظام الرأسمالى والحضارة الرأسمالية لأن "النظام القديم" كان يمثل الرأسمالية فى مرحلتها التأسيسية اقتصادا ومجتمعا وفكرا وأيديولوچيا وثقافة وسياسة. وكان "النظام القديم" هو الأب الشرعى للنظام الجديد، بل كان "النظام القديم" هو النظام الجديد بعد أن كبُر ونما ونضج ورسخ، وكان هو الطور الأحدث "للنظام القديم"، وكانت الثورة السياسية هى الداية التى قامت بتوليد المجتمع القديم الحامل بمجتمع جديد. وكما يكون الإنسان جنينا ثم وليدا ثم يستوى رجلا أو امرأة كان النظام الرأسمالى جنينا فى رحم الإقطاع ثم وليدا فى طور التكوين والتأسيس ("النظام القديم") ثم استوى رجلا أىْ نظاما رأسماليا كامل النضج. وعلى العكس من ذلك تماما كان "النظام القديم" السابق فى العالم الثالث للثورة السياسية الشعبية أو للحركة التى يُطْلِقها انقلاب عسكرى يؤيده الشعب هو النظام "الرأسمالى" التابع الذى نشأ فى ظل السيطرة الإمپريالية والاحتلال العسكرى الإمپريالى والإدارة الأجنبية الإمپريالية وكان من المنطقى ألا يتطور هذا النظام الرأسمالى التابع إلى رأسمالية صناعية حقيقية بل كان عليه أن يزداد تخلفا وتبعية على المدى الطويل بعيدا عن الاستقلال الحقيقى الذى لا يتفق مع التبعية الاقتصادية التى تجلب معها كل التبعيات الأخرى، وهكذا أعادت الإمپريالية خلق المستعمرات وأشباه المستعمرات على صورتها أىْ وفقا لمقتضيات مصالح الرأسمالية العالمية. وقد أطلق الاحتلال الإمپريالى ونشوء المستعمرات وأشباه المستعمرات فى أوقات مختلفة على أراضى العالم الثالث الحالى ثورة سكانية كانت نعمة فى البداية (مثلا فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين) وكانت نقمة بعد ذلك (مثلا فى مصر فى النصف الثانى من القرن العشرين وبعد ذلك إلى الآن)، والحقيقة أننا هنا إزاء "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية". وينظر بعض السُّذَّج إلى مثل هذا الحديث عن المسألة السكانية أو الديموجرافية على أنه حديث جغرافى وهذا خطأ كبير لأننا لا نتحدث عن البحار والجبال والأنهار ورمال الصحارى وعذرية الغابات العذراء فى حد ذاتها ولا عن البشر فى مراحلهم الأكثر أوَّلية قبل تكوين مجتمعات مشاعية متبلورة، بل نتحدث عن إعادة إنتاج البشر لأنفسهم فى إطار اجتماعى يرتبط فيه بشدة النموذج الديموجرافى بالنموذج الاجتماعى ونمط الإنتاج. ومهما يكن من شيء فإن ثمار الثورة الصناعية كانت قد صارت احتكارا للغرب ولم تكن للتوزيع السخىّ بأريحية على شعوب العالم، الأمر الذى وقف حاجزا منيعا أمام امتداد الثورة الصناعية إلى باقى العالم وبالذات عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات، فيما كانت أبسط إجراءات الرعاية الصحية التى جاءت مع الغزاة المحتلِّين مثل مكافحة الملاريا، إلى جانب أشياء أخرى، اقتصادية واجتماعية، كافية للحدّ من وفيات الأطفال وبالتالى زيادة معدلات النمو السكانى ثم بالتالى إطلاق الثورة السكانية والانفجار السكانى على المدى البعيد لتغدو الزيادة السكانية نقمة حقيقية بعد أن كانت نعمة حقيقية لفترة غير قصيرة.
14: نستطيع أن نستنتج مما سبق أن مصير الثورات مرهون إلى أبعد حدّ بما قبلها، بما يسبقها، بمقدماتها وعواملها وتراكماتها الفعلية التدريجية الطويلة على الأرض. ذلك أن الثورة السياسية إنما تفتح الطريق بأعمالها وضرباتها المفاجئة الجريئة والقوية والعنيفة أمام إخراج محصلة تلك التراكمات إلى النور وإخراج الكتكوت من البيضة وإخراج الجنين المكتمل النمو من الرحم. وقد تكون هذه التراكمات مسارا إلى الأمام وإنْ تدريجيًّا وخطوة خطوة وببطء أحيانا وبسرعة أحيانا أخرى، كما رأينا فى التطورات السابقة للثورات الرأسمالية فى الغرب أو الشمال. غير أنها يمكن أن تكون تراكمات تُفاقم التبعية الاستعمارية الشاملة وتؤبِّدها، وتجعل تحقيق الاستقلال الحقيقى، الذى يساوى فى سياق حالة العالم اليوم التحوُّل الرأسمالى الحقيقى أىْ التقدم الصناعى الجذرى، أملا بعيد المنال إنْ لم يكن مستحيلا فى معظم الأحوال. وتكمن مشكلتنا الحقيقية فى أن ثوراتنا السياسية تجرى فى هذا السياق، سياق تفاقم التبعية الاستعمارية عبر ثوراتنا السياسية ورغم ثوراتنا السياسية، وهكذا فإن مصير ثوراتنا مرهون بهذا السياق، سياق الطابع السلبى لما قبلها من جميع النواحى باستثناء الجانب الإيجابى المتمثل فى الرفض الشعبى، ومن هنا كان العدو الأول لثوراتنا يتمثل فى سياقها التاريخى ذاته. وهذه قصتنا فى مصر منذ ثورة 1919 السياسة الشعبية، الوطنية والديمقراطية، الاستقلالية والدستورية، العظمى، حيث تمرّ الثورات والانقلابات بنجاحاتها وانتصاراتها وإخفاقاتها ويبقى الوجه القبيح للتبعية الاستعمارية الشاملة والديكتاتورية.
15: والآن تكتمل دورة من دورات تاريخنا الحديث فنجد أنفسنا أمام شعارىْ ثورة 1919: الاستقلال والدستور من جديد ولكنْ فى ظروف وأوضاع متغيِّرة. كان هناك احتلال بريطانى ونظام ملكى وفى سياقهما انفجرت تلك الثورة وشعاراتها وأهدافها، ومن هنا كان الاستقلال المطروح يهدف إلى الجلاء وتحرير البلاد من الاحتلال البريطانى فى المحل الأول. وكان أقصى ما تحقق يتمثل فى إلغاء الحماية البريطانية على مصر وفقا لتصريح 28 فبراير 1922 وتوقيع معاهدة 1936 حتى إلغائها فى 1951، وكذلك ديمقراطية دستور 1923. وكان طرح شعار الدستور دون شعار الجمهورية من جانب التيار السياسى السائد يعنى القبول بملكية دستورية. وفى هذا الإطار نشأت ديمقراطية الحريات النسبية من أحزاب ونقابات وصحافة حرة ونهضة ثقافية منطلقة من أدب وموسيقى وفن تشكيلى. غير أن الديكتاتورية من أعلى ظلت تقمع الحريات وتحكم البلاد ليس بالأغلبية الپرلمانية لحزب الوفد كقاعدة ملزمة للاحتلال البريطانى والقصر الملكى بل بالانقلابات الدستورية وحكومات الأقلية والسلطة الاستعمارية للاحتلال والسلطة الملكية. وهكذا كانت لثورة 1919، تلك الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية الكبرى، التى لا يجب التقليل منها لحساب امتداح الثورة الراهنة، ثلاث نتائج كبرى: 1: استمرار النظام: الاحتلال البريطانى، والقصر الملكى، والرأسمالية التابعة 2: الديكتاتورية من أعلى 3: الديمقراطية من أسفل فى شكل الحريات الحزبية والنقابية والصحفية التى عصف بها جميعا الانقلاب العسكرى فى يوليو 1952. ويبدو أن هذه هى قسمة الثورات والانقلابات التى "أيَّدها الشعب" كما يقال، فى العالم الثالث كله، حيث لا تبقى سوى نفس النتائج دائما أو فى أغلب الأحوال أىْ باستثناءات قليلة. وجاء الانقلاب العسكرى فى 1952 لتستمر نفس الرأسمالية التابعة متخذة شكل رأسمالية الدولة بعد التخلص من المحتل باتفاقية الجلاء ومن النظام الملكى بإحلال النظام الجمهورى محله وتأميم قناة السويس وبناء السد العالى كإنجازات بارزة، مع قيام ديكتاتوريات عاتية متعاقبة فى عهود عبد الناصر و السادات و مبارك، وهى ديكتاتوريات عسكرية وپوليسية، ديكتاتوريات السجن الحربى والقلعة وأبو زعبل والواحات ودولة المخابرات وما وراء الشمس فى عهد عبد الناصر، وديمقراطية الأسنان الحادة و"المفرمة" فى عهد السادات، وديمقراطية قانون الطوارئ والتعددية الصورية والتمديد والتوريث وصولا إلى ديمقراطية القتل بالجملة وديمقراطية موقعة الجمل، مع تفاقم التبعية الاستعمارية، والفشل كنظرية وكتطبيق الذى مُنِىَ به المشروع الاقتصادى الناصرى للانقلاب المسمى بالثورة، بعيدا عن التحرر من التبعية الاستعمارية. وهكذا عصفت حركة 1952 بالحريات النسبية ولم تترك ديكتاتورياتها العاتية مجالا حقيقيا لأىّ ديمقراطية من أسفل. ولم يقتصر الأمر على أن العسكر لم يحققوا مبدأ "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"، كما نادى بيان الانقلاب العسكرى، بل تمثَّل عملهم المباشر فى تصفية ديمقراطية من أسفل كانت قائمة بالفعل وتصفية كل حياة سياسية أو نقابية والقضاء على كل تعددية وإلحاق كل أدوات النضال الشعبى بما فى ذلك القضاء، الذى تمَّ تقويض استقلاله، بالدولة وإدماجها فيها وإقامة نظام إدماجى كورپوراتى نتيجة لكل ذلك، وكنا بالتالى إزاء خطوة كبرى إلى الوراء، فى تراجع متواصل قاد إلى هزيمة يونيو 1967 التى كانت هزيمة للنظام كله والتى كانت أساس التطورات اللاحقة فى مصر والعالم العربى بما فى ذلك معاهدة السلام مع إسرائيل التى كان على مصر أن تدفع فيها ثمن فاتورة هزيمة 1967 لا أن تحصل على جائزة فاتورة حرب اللانصر واللاهزيمة كما كانت تسمَّى حرب أكتوبر فى ذلك الحين فى الصحافة المصرية شبه الرسمية قبل أن نسمع عن نصر أكتوبر وبطل الحرب والسلام وبطل الضربة الجوية وغير ذلك، فلماذا لم تنشأ عن حركة 1952 ديمقراطية من أسفل كما تنشأ مع الثورات السياسية الشعبية بوجه عام؟ والإجابة هى أننا كنا إزاء انقلاب عسكرى ولم نكن إزاء ثورة شعبية مثل ثورة 1919 أو ثورة 25 يناير 2011. لقد كنا إزاء قيام انقلاب 1952 العسكرى الناصرى بتصفية المكاسب الديمقراطية لثورة 1919 الشعبية الكبرى، تلك الديمقراطية من أسفل التى نمت وازدادت صلابة وتواصلت، على مدى عقود العشرينات والثلاثينات والأربعينات وبداية الخمسينات، رغم الاحتلال البريطانى الإمپريالى ورغم استبداد القصر الملكى. وبعد قيام حكم العسكر فى عهد عبد الناصر بالتمصيرات ثم بالتأميمات الكبرى نشأت رأسمالية الدولة البيروقراطية التى نشأت منها كل عناصر فساد ذلك العهد وما تلاه بما فى ذلك رجال العهدين التالييْن الناشئين من أصلاب البيروقراطية للتحول من خلال رأسمالية الدولة ذاتها ثم من خلال الخصخصة وابتياع ممتلكات الدولة ونهبها وسرقتها بتراب الفلوس كما يقال إلى طبقة مالكة تستمد حقوق ملكيتها فى أكثر الأحيان من اللصوصية المباشرة، وظلت مع ذلك طبقة فى ذاتها وليس طبقة لذاتها حيث إنها لم تكن طبقة حاكمة من خلال حزب حقيقى بل كانت تدبر مصالحها الاقتصادية والسياسية ذاتها فى ظل حكم الشخص أىْ مبارك وأسرته والحلقة الضيقة من رجاله المقربين من خلال استرضاء ورشوة هؤلاء والتقرب إليهم والاستناد فى تكوين نفوذهم إلى النفوذ المطلق لهؤلاء. وفى العهود الثلاثة، جرى "تجريف" الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكان من المنطقى أن يستفحل ويتفاقم كل هذا فى العهد الأخير، عهد مبارك، الذى وصل فيه الفساد والاستبداد إلى حدود لا يصدقها العقل، نتيجة أنانية مجنونة وشراهة عمياء فقدت كل صلة بأىّ حسابات سياسية متوازنة نسبيا وعقلانية نسبيا، وفى هذا السياق جاءت ثورة 25 يناير 2011، فما هى آفاق هذه الثورة، وماذا تستطيع أن تحقق، وهل يغدو من المحتَّم عليها أن تؤدِّى إلى استمرار النظام بدون رأسه وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله، وهذا يعنى بالطبع وقبل كل شيء استمرار التبعية الاستعمارية بعيدا عن الاستقلال الحقيقى، مع تبلور نفس الديكتاتورية العسكرية المباشرة أو غير المباشرة، مع نشأة وتطور الديمقراطية من أسفل فى مجرى صراع لاهوادة فيه مع التبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة ونظام الاستغلال والفساد والاستبداد والديكتاتورية العسكرية وحلفائها الجدد من إسلام سياسى وليبرالية متعاونة كما تعاونت مع نظام مبارك من قبل؟
16: يمكن أن نستنتج مما سبق أن المشكلتيْن الكُبْرَيَيْن اللتين تنطوى عليهما مصر تتمثلان فى عنوانيْن كبيرين هما الدستور والاستقلال. وتحت عنوان الدستور يندرج كل ما يتعلق بالديمقراطية من أسفل بحرياتها وصحافتها وأحزابها ونقاباتها ومختلف منظماتها واتحاداتها وبكل تأثيرها على المجتمع والدولة وإكراهها الذى تمارسه عليها خاصة فى فترات المدّ النضالى. ومن ناحيته يعنى الاستقلال التحرر من التبعية الاستعمارية الشاملة القائمة، هذا التحرر الذى لا يمكن بلوغه إلا عن طريق خلق بلد صناعى حديث متقدم وإنْ كان ذلك بالضرورة ضمن الإطار التاريخى للرأسمالية ما دامت الشروط التاريخية الموضوعية والذاتية للثورة الاشتراكية فى العالم المتقدم ومن باب أولى فى العالم الثالث وفى منطقتنا العربية ومصر بعيدة جدا عن أن تكون قائمة فى الوقت الحالى وفى المدى المرئى. على أن مناقشة هاتين القضيتين تقتضى إلقاء نظرة عامة على تطورات الثورة الراهنة، فى مرحلتها الأولى، ثم فى موجاتها اللاحقة وبالأخص موجة 8 يوليو 2011 وما تلاها.
17: فى 25 يناير 2011 انفجرت حركة شبابية احتجاجية سرعان ما تحولت إلى ثورة سياسية شعبية هائلة شارك فيها عشرات الملايين من المصريِّين فى جميع أنحاء البلاد، على مدى أسابيع وتجاوزت الأسابيع إلى الشهور (وقد تتجاوز الشهور إلى الأعوام)، وطالبت بإسقاط نظام مبارك ومحاكمته هو وأسرته ورجاله وحل حزبه الوطنى الديمقراطى ومجلسىْ الشعب والشورى ورفع حالة الطوارئ واستقلال القضاء وتطهيره وتطهير البلاد من الفساد والاستبداد وإطلاق الحريات الحزبية والنقابية والصحفية والتظاهر والاعتصام والإضراب ووضع حدَّيْن أدنى وأقصى للأجور فى البلاد وغير ذلك. ونجحت الثورة فى الصمود فى مواجهة كل الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية وكافة الأجهزة المخابراتية التى امتشقت السلاح ونزلت إلى الميادن والشوارع لقمع الثورة ونجحت فى النهاية فى هزيمتها واكتساحها مما أدى إلى انسحاب الشرطة ونزول القوات المسلحة والحرس الجمهورى وغير ذلك. ورغم الحدود القصوى للقمع من اعتقال وقتل بالجملة وإصابات بالآلاف ورغم تجنيد البلطجية والمساجين الذين فُتحت بوابات سجونهم ورغم الهجوم الإعلامى البالغ الشراسة، كان من النجاحات الكبرى للثورة عودة الروح إلى الشعب المصرى واختراق وكسر حاجز الخوف، والإطاحة ب مبارك ووضع حدّ بالتالى للتمديد والتوريث فى مصر والعالم العربى والعالم الثالث والعالم كله (بالطبع وبلا جدال بالتكامل مع ثورة تونس وبقية الثورات العربية وليس كعمل مصرى خالص كما تزعم دعاوى تتورط فى نظرة شوڤينية بغيضة تعمل على إبراز الدور المصرى على حساب دور شعوب عربية أخرى سبقتنا إلى الثورة أو جاءت بعدنا)، وكذلك تعرية المدى المفزع للفساد والاستبداد فى عهد مبارك أمام الشعب المصرى والشعوب العربية وشعوب العالم كله.
18: وفى مواجهة الثورة الشعبية ولحماية النظام و مصالح الطبقة المالكة قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بانقلاب عسكرى (وهو انقلاب قصر أىْ من داخل النظام ولمصلحته ولحمايته من الشعب والثورة) أجبر مبارك على التنحى واضطر تحت ضغط شعبى هائل إلى إرساله هو وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله إلى الإقامة الجبرية وإلى السجن وإلى المحاكمة فى نهاية المطاف. وقد جاء الانقلاب العسكرى بالمجلس الأعلى إلى السلطة بعيدا عن كل شرعية دستورية أو ثورية، فقد استند إلى تفويض غير دستورىّ من جانب الرئيس المخلوع وفقا للجملة التالية لجملة تخلِّيه عن منصبه! وحتى بدون استقالة رسمية وخلافا للترتيبات الدستورية فى مجال خلافة الرئيس المستقيل. ولم يكن هناك بالطبع تفويض للمجلس الأعلى من جانب الثورة، بل كان هناك الرفض الشعبى للحكم العسكرى ومطالبة حاكم الأمر الواقع بالتخلى عن السلطة وتسليمها لمجلس رئاسى انتقالى توافقى. والحقيقة أن المجلس الأعلى استند إلى شرعية أضفاها بنفسه على نفسه من واقع قيامه بالانقلاب العسكرى الذى حوَّله إلى حاكم الأمر الواقع، مع سيل من تأكيدات ووعود العودة إلى الثكنات فور تسليم السلطة لرئيس منتخب فى أقرب وقت، مع النية المبيَّتة (التى تشهد عليها شواهد وتدل عليها دلائل) على الحكم فى نهاية المطاف من وراء الكواليس مهما كانت توجُّهات الپرلمان ومهما كانت توجُّهات الرئيس المنتخب. ورغم بداهة مجيئ المجلس بانقلابه إلى السلطة لحماية النظام أطلق دعاوى واسعة بأنه إنما جاء لحماية ثورة الشعب مع بداهة أن الثورة الشعبية العزلاء أقوى "عسكريا" من كل جيش بدليل أن معظم الثورات الناجحة فى أىّ مكان فى العالم انتصرت من خلال مواجهات مريرة مع جيوش قوية تضربها بكل قوتها. ولأنه حمى الثورة كما زعم فقد اعتبر نفسه عاملا حاسما من عوامل نجاح الثورة وسرعان ما قفز إلى اعتبار نفسه الثورة ذاتها وصار لسان حاله يقول "نحن الثورة"! وعلى هذا الأساس أخذ يحكم بالفرمانات مع اضطراره إلى أخذ ضغوط الثورة فى المحل الأول من الاعتبار كلما اشتدت تلك الضغوط وهدَّدتْ بالمزيد من التصعيد. وكان من المنطقى والحالة هذه أن تتوالى فرمانات المجلس الأعلى الذى قرر ونفذ إجراءات بالغة السلبية منها تعديل مواد الدستور التى طالب الرئيس المخلوع قبيل خلعه بتعديلها وبعد قيام لجنة دستورية من تعيين المجلس نفسه بتعديل المواد المعنية طرحها دون مناقشة شعبية واسعة للاستفتاء وبإقرارها (بإقرار تعديلات على دستور معطَّل كان المجلس نفسه قد قام بتعطيله!) حدَّد جداول زمنية تقريبية قريبة للانتخابات الپرلمانية والرئاسية وتوالت فرمانات هذا الباب العالى الجديد بعد التباطؤ المتواطئ فى مواجهة الضغوط الشعبية بحل مجلسىْ الشعب والشورى وحلّ الحزب الوطنى مع التمسك العنيد بقانون الطوارئ وفرْض حالة الطوارئ، وتوالت كذلك فرماناته التى ظلت تتحدَّى مطالب الثورة وأهدافها ففرضت دون مناقشة ما يسمى بالإعلان الدستورى، وتعديل قانون الأحزاب وقانون تجريم التخريب (أىْ تعطيل الإنتاج بالتظاهر أو الاعتصام أو الإضراب أو التحريض على ذلك من خلال ما يسمَّى بالاحتجاجات الفئوية) فيما يُعَدُّ خطوة إلى الوراء بالقياس إلى عهد مبارك نفسه، وقانون مجلس الشعب، وقانون مجلس الشورى، وقانون الانتخابات الذى يجمع بين الانتخابات الفردية والانتخابات بالقائمة النسبية، وإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية وغير ذلك. وتواصل قمعه الفكرى والإعلامى للثورة وقمعه المباشر للثوار بالقتل والاعتقال والملاحقات والمحاكمات العسكرية، مع الاضطرار بطبيعة الحال إلى السكوت المؤقت أو تقديم تنازلات فى كثير من الأحيان أمام موجات عالية للثورة خشية المزيد من تصعيدها. وفى هذا السياق كانت المجزرة الأخيرة فى يوم 9-9 التى قُتِل فيها أربعة أو خمسة من الثوار وجُرِح أكثر من ألف دفاعا عن السفارة الإسرائيلية البغيضة والجدار الأسمنتى المبنى لحمايتها من الثورة.
19: وهناك دعوى يروَّجها المجلس الأعلى للقوات المسلحة مؤداها أنه يوجد بين قوى الثورة مَنْ يعملون على الوقيعة بين الجيش والشعب، ويجرى تهديد هؤلاء بالويل والثبور وعظائم الأمور على أساس أن الجيش خط أحمر. لقد اعتدنا من العهود الديكتاتورية الثلاثة البائدة اتهام كل مَنْ يهاجم القيادة السياسية، أىْ عبد الناصر أو السادات أو مبارك، بأنه يهاجم مصر وشعب مصر. ونحن هنا أمام طبعة جديدة من نفس الأسطورة. والحقيقة أن الشعب والجيش شيء واحد، هما نفس الشيء الواحد، لأن الجيش بجنوده وصف ضباطه وضباطه هم إخوتنا وأبناؤنا وفلذات أكبادنا، ولا يكاد يوجد بيت فى مصر لم يدخل فرد أو أكثر من أفراده القوات المسلحة المصرية فى وقت من الأوقات فى عمر التجنيد أو عند استدعاء أو من خلال الكليات أو المعاهد العسكرية، ويعنى مقتل أحدهم فى حرب خارجية أو داخلية تعاسة أسرة مصرية واحدة على الأقل، ومن هنا فإنه لا معنى لأىّ حديث عن إحداث وقيعة يرتكبه الثوار بين الجيش والشعب فهما ليسا فقط "يدًا واحدة" كما يقال بل هما شيء واحد. ولا شك بطبيعة الحال فى أن الدولة تستخدم الجيش ليس فقط للدفاع عن حدود البلاد بل تستخدمه أيضا للقمع الداخلى عند الضرورة (وهذا ما تفعله كل الدول فى كل زمان ومكان حيث تستخدم جيوشها للدفاع وكذلك للعدوان على بلدان وشعوب أخرى من خلال الغزوات والفتوحات تحت دعاوى أيديولوچية شتى وفى الحقيقة دائما لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية كما تستخدمها لقمع الشعب عندما تعجز الشرطة عن قمعه). ويعنى هذا أننا لسنا من السذاجة بحيث لا ندرك وظيفة الجيوش بوجه عام، غير أن الوقيعة يستحيل أن تأتى من الشعب أو من قواه الثورية. والحقيقة أن محاولات الوقيعة تأتى فى حالتنا المصرية ممن يستخدمون الجيش ضد الشعب أىْ من الدولة بقيادة مبارك فى السابق والمجلس الأعلى فى الوقت الحاضر، وهم يستخدمون دعاوى الوقيعة للإيقاع بالثورة وتشويه صورتها لدى الشعب الذى يدرك أنهم هم الذين يستخدمون الجيش ضد الشعب، وأنهم هم دعاة الوقيعة، وأنهم هم الذين يحاولون بطرق شتى اتهام الثورة بجريمة محاولة الوقيعة التى يمارسونها هم، وذلك بهدف تشويه صورة الثورة وبالتالى تسهيل توجيه الضربات إليها. كما ينبغى التمييز بوضوح بين المجلس والجيش فالمجلس هو القيادة العسكرية العليا التى ترتبط مصالحها بصورة لا تنفصم بمصالح الطبقة المالكة والدولة والنظام وهم رجال مبارك العسكريون، ولا حاجة بنا إلى التذكير بأن العلاقة بين الجيش وقيادته العسكرية المتمثلة فى المجلس الأعلى مماثلة للعلاقة بين الشعب المصرى والقيادة السياسية المتمثلة فى شخص مبارك فى السابق وفى المجلس الأعلى حاليا من حيث كونه القيادة السياسية كأمر واقع وبشرعية الانقلاب العسكرى. ومن هنا فإن المجلس العسكرى ليس الجيش كما أن مبارك سابقا لم يكن الشعب ولا مصر كما أن هذا المجلس حاليًّا ليس الشعب وليس مصر وليس الجيش. والحقيقة أن خرافة قيام الثورة أو الثوار بمحاولات إحداث وقيعة بين الجيش والشعب لا يروِّجها المجلس وحكومته وإعلامه وصحافته فقط بل تروِّجها كذلك وبإلحاح قوى الإسلام السياسى من إخوان مسلمين وسلفيِّين وغيرهم، فى محاولة بائسة لتشويه صورة أنصار الدولة المدنية والعلمانيِّين والليبراليِّين اليساريِّين، وكذلك لتوثيق علاقاتهم بالمجلس العسكرىّ وتوابعه وحلفائه من القوى السياسية.
20: ويهدف المجلس الأعلى إلى قطع الطريق على استمرار الثورة عن طريق خلق أمر واقع جديد بأقصى سرعة ممكنة، ومن هنا كانت إستراتيچيته المبنية فى أعقاب انقلابه العسكرى، تلك الإستراتيچية التى تمثلت فى سرعة إجراء التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها وإعلان مواعيد قريبة للانتخابات الپرلمانية والرئاسية بتجاهل عنيد لإرادة الشعب، ثم إصدار فرمانات ومراسيم فوقية دون استشارة أحد فى قضايا بالغة الحساسية بالنسبة لتطور الثورة. وقد انتهج سياسة أقصى السرعة حيث يكون الزمن الكافى مطلوبا من جانب قوى الثورة الناشئة، وذلك لإنضاج الإجراءات والتطورات الفوقية اللاحقة بهدف استعادة نظام مبارك بدون مبارك حتى لا يقف تطور ونضج الأحزاب والحركات الجديدة عقبة دون ذلك، كما انتهجت سياسة أقصى التباطؤ المتواطئ حيثما حاولت الاستفادة من مرور الوقت لتفادى إجراءات لا تريد اتخاذها (نزولا عند إرادة الثوار) حتى يتسنَّى لها خلق الواقع الجديد على هواه من خلال الاستفتاء والقوانين اللازمة للانتخابات وكافة أنواع الفرمانات. وقد انتهج إستراتيچية التباطؤ بصورة خاصة عندما كان يلائمه أن يترك مبارك وأسرته ورجاله وغيرهم من كبار المسئولين وأجهزة الأمن وأفراد الطبقة المالكة بلا أىّ إجراءات ضدهم لتمكينهم من ترتيب أوضاعهم على كافة المستويات: تهريب أموالهم إلى أماكن آمنة، وإخفاء وإحراق وفَرْم الوثائق التى تُثْبِت جرائمهم، على أمل ترك كل شيء على حاله إذا انحسرت الثورة وتراجعت خلال فترة التباطؤ المتعمَّد.
21: وكانت حالة قوى الثورة تشجِّع المجلس العسكرى على انتهاج "سياسة فَرِّقْ تَسُدْ" ضمن إستراتيچياته وتكتيكاته فى مواجهة الثورة. ويمكن وصف تلك الحالة قبل كل شيء بأن مختلف القوى كانت لها أهداف مختلفة. فهناك أولا أولئك اللذين أشعلوا شرارة الثورة وهم كما يوصفون عشرات الآلاف من شباب الفيسبوك وقد نجحوا فى ذلك بإلهام سبب مباشر هو كسر حاجز الخوف من النظام الحاكم فى تونس فقد جاءت انتفاضة 25 يناير 2011 ليس بعد اندلاع الثورة فى تونس فقط بل بعد نجاحها فى إسقاط زين العابدين بن على وأسرته فى 14 يناير 2011 بعد اندلاع الثورة التونسية فى 18 ديسمبر 2010 بحوالى شهر وكان قيام طارق الطيب محمد البوعزيزي فى 17 ديسمبر 2010 بإحراق نفسه حتى الموت الشراة الأولى للثورة التونسية وللثورات العربية جميعا. وما كان لشباب الفيسبوك أن ينجحوا فى ذلك لولا عوامل أخرى لم يكونوا مقطوعى الصلة بها خلال العقد السابق للثورة، وبالأخص فى الأعوام الأخيرة جنبا إلى جنب مع قطاعات من عمال مصر وبالأخص عمال المحلة الكبرى ومن موظفى الدولة وبالأخص موظفى الضرائب ومع حركات سياسية واجتماعية لعل أبرزها حركة كفاية وحركة 6 أبريل. وكانت كل القوى اليسارية والمدنية والعلمانية بمختلف أطيافها ومنها حركة شباب الفيسبوك بمختلف تياراتها، كما تبين فى أعقاب اندلاع الثورة مباشرة، فى حالة من التشرذم والافتقار إلى الوعى فى زمن الثورة، وكان هذا بالطبع هو الثمرة المرة لستة عقود متواصلة من تصفية وتجريف الحياة السياسية وخنق وسحق المعارضة الحقيقية وتحويل معارضة الأحزاب التقليدية إلى ديكورات لخلق انطباع زائف بالتعددية التى يتزين بها نظام الحزب الواحد المموَّه والمقنَّع باسم تحالف قوى الشعب العاملة فى زمن الاتحاد الاشتراكى فى عهد عبد الناصر والقسم الأول من عهد السادات ثم المنابر والأحزاب المتعاونة مع النظام والتابعة له فى عهدىْ السادات و مبارك. وكان انضمام مختلف طبقات الشعب بالملايين وعشرات الملايين والشعب كله فى الحقيقة، باستثناء قلة من المستفيدين بالنظام بالإضافة إلى النظام ومختلف مؤسساته وأجهزته وفلول حزبه الوطنى وبلطجيته، هو الذى حوَّل الانتفاضة إلى ثورة شعبية شاملة كانت ثورة سياسية بامتياز. ولا أعتقد أن من الصواب تسميتها بثورة الطبقة المتوسطة أو الوسطى فلا يمكن لانضمام حتى كثرة من الشباب المتعلم من أبناء طبقة متوسطة أو عليا أن تحدد طابع الثورة أو طبيعة طبقة اجتماعية تقف وراءها لأننا لا نرى أصلا طبقة متوسطة ثورية أو ثائرة الآن فى مصر ضد النظام ولأن التغطية الاجتماعية والسياسية للثورة المصرية الراهنة بما جعلها ثورة حقيقية جاءت وما تزال تأتى من دور مختلف الطبقات الشعبية فى البلاد مهما كان الشباب يمثلون فصيلا متميزا واستثنائيا، بطوليا وباسلا، من فصائل الثورة. ولا يتسع المجال هنا للحديث عما رشَّح شباب الفيسبوك لِلَعب هذا الدور الكبير وعن طبيعة الشباب فى زمن التكنولوچيات المتقدمة للمعرفة والمعلومات لدى جيل الألفية generation y فى العالم كله والذى يتميز فى العالم الثالث بالنسبة المرتفعة للشباب من الناحية الديموجرافية. ولا يتسع المجال كذلك لاستعراض حقيقة أن التقلص النسبى لعدد المنضمين إلى المظاهرات والاعتصامات فى ميادين وساحات التحرير فى مصر لا يعنى انفضاض الشعب بمختلف طبقاته عن الثورة بقدر ما يشير إلى تعدد الوسائل والأدوات والطرق والأساليب النضالية للثورة حيث تنتقل أقسام وأنشطة ثورية إلى أماكن أخرى وتكفى الإشارة هنا إلى الاحتجاجات "الفئوية" (المطلبية) الواسعة النطاق والانتشار والتى تقض مضاجع القيادة السياسية والعسكرية المندمجتين فى شخص المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تلك الاحتجاجات، فى المصانع والشركات الإنتاجية والخدمية والنقابات العمالية والمهنية والمؤسسات الإعلامية والجامعات وحتى بعض المصالح الحكومية العادية بهدف إقالة قياداتها المنتمية فكريا وسياسيا إلى النظام السابق وتطهيرها من الفساد، والتى يسميها المجلس بالاحتجاجات الفئوية متصورا أن ما يسميه بفئويتها، زاعمًا أن دوافعها أنانية فئوية بعيدا عن المصلحة الجماعية للثورة والبلاد، يبرَّر تجريمها وقمعها مع أن هذه الاحتجاجات ليست سوى الممارسة الطبيعية الوحيدة للحقوق الدستورية للمواطنين المصريِّين؛ وهكذا يجرى الإقرار بهذه الحقوق والحريات دستوريًّا بصورة منافقة مع تجريمها قانونًا وفقا للسُّنَّة المتبعة للدساتير المصرية التى يجرى تقييد كل الحريات والحقوق فيها بشرط كونها فى حدود القوانين التى يتفنن ترزيتها فى "تفصيلها" بما يؤدى إلى تفريغ النصوص الدستورية من مضمونها. وبحكم حدود وعى الطليعة الشبابية وطبيعة حالة وعى الجماهير الشعبية غرقت الثورة فى حالة من التلقائية والعفوية وعدم الإدراك الكافى من الثوار لطبيعة ثورتهم وطبيعة أهدافها والتصور الواضح لمسارها وسيرورتها وخط تطورها، والوقوع بالتالى فى أشكال متنوعة من التخبط والعشوائية والارتباك، وذلك فى وقت لزم المثقفون اليساريون والتقدميون فيه الصمت الرهيب والمريب فى كثير من الأحيان، رغم الدور البارز للمثقفين المصريِّين بوجه عام فى الثورة الراهنة قبل اندلاعها وبعد تفجُّرها وإلى الآن، وفى وقت تؤدِّى فيه المواقف الخيانية والانتهازية للقوى اليمينية، القوى المتنوعة للإسلام السياسى والليبرالية الرأسمالية ومثقفى وكُتّاب وإعلاميِّى هذه القوى، إلى إرباك القوى الحقيقية للثورة وتشويش وعيها وتشويه صورتها. وقد جعلت هذه الخصائص للطليعة المتنوعة للقوى الحقيقية للثورة من السهولة بمكان تضليلها وجرَّها إلى التفاوض والمشاركة فى مناسبات مختلفة مع جهات مختلفة للنظام واحتدام خلافاتها فى كثير من الأحيان بما يؤدِّى إلى شقّ صفوفها فى بعض الأحيان. كما أدَّتْ هذه الخصائص لهذه الطليعة الثورية إلى عدم قدرتها على بلورة موقف صحيح مستقر مهما كان ديناميكيًّا إزاء قوى اليمين التى شاركت فى الثورة فى مرحلة من مراحلها وانتقلت إلى صفوف الثورة المضادة فى المراحل التالية بعد أن كانت تتخذ موقفا سلبيا فى مرحلتها المبكرة. ولهذا تنتقل القوى الأكثر إخلاصا للثورة حتى النهاية من موقف حاسم ضد الإخوان المسلمين فى لحظة إلى موقف المطالبة بتوحيد "كل" قوى الثورة والتحالف مع الإخوان والإسلام السياسى فى لحظة أخرى وفقا لمناورات الإخوان وتذبذبات علاقاتهم مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
22: وينقلنا هذا إلى موقف الإخوان المسلمين وبقية قوى الإسلام السياسى مثل السلفيِّين الوهابيِّين والجماعة الإسلامية، وعلى الهامش مواقف الأحزاب الليبرالية التقليدية والجديدة القديمة التى تمثل بصورة مزدوجة ذيلا لكلًّ من النظام والإخوان المسلمين وفقا للأحوال المتغيرة. وإذا نظرنا من زاوية طبيعة معارضة القوى المشاركة فى الثورة لنظام مبارك خلال الثورة الراهنة فى عهد مبارك وفى عهد نفس النظام بقيادة المجلس الأعلى فى فترة ما بعد مبارك، سنجد موقفيْن أساسيَّيْن مختلفيْن إزاء الثورة فهناك قوى لها أهداف ثورية مخلصة حتى النهاية ضد الفساد والاستبداد ومع الديمقراطية والاستقلال الوطنى الحقيقى وهناك قوى لها مآرب أخرى من الثورة. وإذا عُدْنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء، تاركين جانبًا التاريخ الطويل للإخوان المسلمين أيام الإنجليز والقصر الملكى ثم أمريكا و السادات، سنجد تاريخا من الصفقات التى تناوبت الدور مع المعارضة فى عهد مبارك. وفى العقد الأخير، الأول فى القرن الحادى والعشرين، كانت هناك صفقة الانتخابات الپرلمانية فى 2005 وغيرها، غير أن الانتخابات الپرلمانية فى أواخر سنة 2010 جاءت فى أوضاع مختلفة أصيب فيها نظام مبارك بجنون المدّ والتوريث ولم يحسب الحسابات المعقدة للطريق الذى اختاره (والسبب الرئيسى لهذا الجنون هو أن الرؤساء اللصوص والفاسدين والقتلة فى العالم الثالث لن يفلتوا دون عقاب على جرائم فسادهم وجرائمهم ضد الإنسانية فى حالة الخروج الدستورى من السلطة)، وعقد العزم على إقصاء كل القوى السياسية وفى مقدمتها الإخوان المسلمين أو الجماعة المحظورة التى اختصرتها أبواق الدعاية المباركية بوقاحتها المعهودة إلى "المحظورة"، مع أنها كانت القوة الوحيدة "غير المحظورة" من الناحية العملية بل كانت المستفيدة الأولى إنْ لم تكن الوحيدة من الناحية الفعلية بديمقراطية السادات و مبارك. وبالتالى جرى التنكيل بالإخوان المسلمين فى انتخابات 2010 وإقصاؤهم بالكامل، والمهم فى سياقنا الحالى هو أن الإخوان المسلمين لم يحركوا ساكنا مكتفين بالشكوى المريرة خوفا من المزيد من الاستهداف والتصعيد ضدهم من جانب النظام. وكان هذا الموقف ذاته هو الذى دفعهم إلى اتخاذ موقف سلبى إزاء الثورة فى أيامها الأولى ولم يتغيَّر هذا الموقف إلى موقف المشاركة الإيجابية إلا بعد الحصول على ضمانة بليغة وإنْ كانت ضمنية بأن الإسلام السياسى سيكون فى حماية ثورة الشعب عندما انفجر بكامله فى ثورة عارمة. وتفرض علينا الموضوعية والشفافية الاعتراف بصورة مزدوجة بأن الإخوان المسلمين قد نجحوا فى تقوية الثورة وكذلك فى تقوية أنفسهم بالثورة، فاكتسبوا لدى نظام مبارك شرعية جعلتهم يتخلَّوْن عن الثورة ويهرولون إلى المفاوضات التى فتح النظام لها مزادات كبرى جرَّتْ الإخوان ومعهم الأحزاب القديمة وعناصر من تيارات شباب الثورة ذاتهم. وعلى هذا النحو انصرف الإخوان إلى التفاوض مع نظام مبارك الذى كان ما يزال على رأس السلطة وإنْ كان يترنَّح آيلا للسقوط. ومن الموضوعية أن نعترف بأن الإخوان لم يتخلَّوْا عن الثورة أىْ التظاهر والاعتصام تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بصورة كاملة إلا عند إعلان تخلِّى مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية، رغم تخلِّيهم عنها من حيث المبدأ بإسراعهم إلى التفاوض مع الإبقاء على مشاركتهم فى الاحتجاج والتظاهر والاعتصام فى سبيل إحاطة المفاوضات بضغط الثورة. وهنا ينبغى أن ندرك أن الإخوان المسلمين انضموا إلى الثورة ليس لمواصلتها إلى النهاية بل فقط لإسقاط مبارك وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله المباشرين والحصول على شرعية لدى الشعب ولدى رجال مبارك المباشرين الذين انهمكوا فى التفاوض معهم (عمر سليمان) ولدى المجلس الأعلى بعد انقلابه، لعقد صفقة سقفها غزو السلطة وحدها الأدنى الشرعية والقوة العددية لعضويتهم فى الپرلمان. ولماذا هذا الاستعداد لدى الإخوان المسلمين للتسليم بنظام مبارك بدون مبارك؟ لأنهم "البازار" المصرى، أىْ لأنهم الممثلون السياسيون لقطاع مهم من الطبقة المالكة ولا يهمهم القضاء المبرم على الفساد والاستبداد، ولا شعارات "مستوردة" مثل الديمقراطية والمدنية، بقدر ما تهمُّهم المشاركة فى النظام كقوة پرلمانية إنْ لم ينجحوا فى تشكيل حكومة أو الفوز برئاسة الجمهورية. والحقيقة أن الهزائم التى مُنِىَ بها الإخوان المسلمون خلال الستين عاما الماضية شلَّ خيالهم عن تصوُّر مكاسب كان يمكن أن يجنيها لهم التصعيد ضد المجلس الأعلى ومواصلة الانضمام إلى قوى الثورة مهما كانت نواياهم المستقبلية ضدها، وهى مكاسب كان من الممكن فى نظرى أن يرتفع حدها الأقصى حتى إلى التطلُّع إلى جمهورية إسلامية إخوانية وكان من الممكن ألا يقل حدها الأدنى عن مشاركة قوية فى تركيبة سياسية جديدة. لقد شلَّهم الخوف من استهدافهم عن أىّ تورُّط واسع النطاق فى مغامرة مواجهة غير مضمونة العواقب على كل حال. وبحكم كونهم ممثلين سياسيِّين لقطاع من الطبقة المالكة فى مصر وبالتالى لكونهم قطاعا وإنْ متميزا من قطاعات النظام وكذلك بحكم أيديولوچياهم المعادية للديمقراطية والمدنية والعلمانية والمساواة التامة بين المصريِّين على أساس المواطنة، وبين الرجال والنساء بلا تفرقة على أساس النوع، كان لا مناص من أن يجدوا مكانهم الطبيعى فى صفوف الثورة المضادة. وقد عبَّرت مواقف الإسلام السياسى من إخوان وسلفيِّين ومواقف الأحزاب المتعاونة مع نظام مبارك بقيادة مبارك والسيدة الأولى وولىّ عهده ثم بقيادة المجلس الأعلى بكل بلاغة عن الموقف الواحد لمختلف قطاعات الطبقة المالكة إزاء الثورة باعتبارهم ممثلين أُصَلاء للنظام، نظام الطبقة المالكة، باعتبار أن النظام وحده هو الثورة المضادة بالضرورة. والحقيقة أن موقف الإخوان تمثَّل فى رفض كل مبادرات ومواقف القوى الحقيقية للثورة طوال الفترة المنقضية منذ إقصاء مبارك إلى الآن (رفض المظاهرات والاعتصامات والإضرابات وما يسمَّى بالاحتجاجات الفئوية، أىْ ممارسة الوسائل النضالية التى هى حقوق يكفلها الدستور، ورفض الاحتجاجات على التباطؤ المتواطئ من جانب المجلس الأعلى بذريعة منحه الوقت الكافى، وحتى رفض الاحتجاجات ضد إسرائيل أمام سفارتها والجدار الواقى لسفارتها فى مواجهة عدوانها الدامى الذى كان له شهداء مصريون عبر الحدود، بالإضافة إلى العمل المتواصل على تشويه القوى السياسية التى تواصل المبادرات الثورية واتهامها حتى بالعمالة لأمريكا والصهيونية غير منتبهين إلى تورُّطهم المباشر، هم وليس غيرهم، حتى فى الرفض المباشر لأىّ مبادرة ضد السفارة الإسرائيلية). وكان من المنطقىّ تماما أن تؤدى المواقف السياسية المتخاذلة فى زمن الثورة من جانب قيادة الإخوان المسلمين إلى الخلافات والانقسامات الداخلية بين شباب الإخوان والحرس الإخوانى القديم وحتى بين أفراد ومجموعات الحرس القديم ذاته بما يؤدى إلى تعدد أحزاب الإخوان وتعدد مرشحيهم المحتملين لرئاسة الجمهورية والرفض العملى لعدد من قرارات ومواقف مكتب الإرشاد من جانب شباب الإخوان؛ رغم أن هؤلاء الأخيرين لا يقلُّون التزاما بالأيديولوچيا الدينية-السياسية الإخوانية عن مكتب الإرشاد والحرس القديم. ولكنْ لماذا الخلافات داخل الإخوان المسلمين ما داموا يشكِّلون جزءًا من الطبقة المالكة والنظام الحاكم إستراتيچيًّا؟ والإجابة التى لا شك فيها، مع أخذ تبايُن الرؤى حتى داخل الطبقة الواحدة فى الاعتبار، هى أن الإخوان يتمثلون فى جماعة وأحزاب تجمع فى صفوفها مختلف طبقات المجتمع بمصالحها المتناقضة رغم وحدة الأيديولوچيا ورغم انتماء أغلب القيادات والكوادر وكبار المموِّلين إلى قطاعات من الطبقة العليا والمتوسطة.
23: ولا مناص هنا من وقفة موجزة عند مفهوم وواقع الثورة المضادة. وتقترن الثورة المضادة مع التفجُّر العملى لثورة فعلية، وهى ردّ فعل النظام وحلفائه المحليِّين والإقليميِّين والعالميِّين على الثورة، وبالتالى فإنه لا توجد ثورة لا تقاومها وتحاربها ثورة مضادة، ولا يوجد نظام لا يتحول إلى ثورة مضادة عند اندلاع ثورة. وإذا كانت قوى الثورة الحقيقية تنتمى إلى ثورة ممكنة أو فعلية فإن النظام يمثل بدوره ثورة مضادة ما دام يعمل بصورة منهجية على تصفية كل نضال ثورى وإجهاض كل ثورة محتملة. وما دام النظام الحاكم بطبقاته المالكة وحلفائها هو الثورة المضادة فلا مجال إذن للتظاهر المضلِّل المريب بوجود أىّ التباس بشأن الثورة المضادة وقواها وأركان حربها، وهى تجمع فى حالتنا المحددة بين الدولة بكل مؤسساتها والنظام (بكل أركانه بما فى ذلك معارضته المتعاونة معه والمستعدة للتحالف معه والتى ترى أن الخطر الذى تمثله القوى الحقيقية المخلصة للثورة أخطر على مصالحها من النظام القائم) والطبقة المالكة والحزب الحاكم وكل الحلفاء المحليِّين ( الإخوان المسلمون وباقى قوى الإسلام السياسى والليبراليُّون اليمينيُّون) والإقليميِّين والعالميِّين. ومن هنا فإن الثورة المضادة فى مصر تشمل قوى متعددة تبدأ بالمجلس الأعلى وحكومته وأجهزة الأمن والحزب الوطنى الذى استحال إلى عدد من الأحزاب التى تنشأ الآن بقيادة أعداد من كوادره حيث رفض المجلس الأعلى عزل كوادر الحزب الوطنى، وهناك بالطبع الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة والرجعية العربية بقيادة السعودية.
24: ورغم موقفه العسكرى المتصلِّب يرضخ المجلس الأعلى عندما يشتد عليه ضغط الثورة وتنهار مقاومته ويخشى مزيدا من التصعيد، وقد رأينا كيف استطاعت موجة 8 يوليو إجبار المجلس على وضع مبارك فى قفص الاتهام وتقديمه متَّهَمًا بقتل أبناء شعبه أمام الشعب وأمام العالم كله بصورة قضت على أىّ شك فى أنه سيلقى جزاءه المتمثل فى القصاص لشهداء الثورة تحت ضغط الثورة. كما وقف المجلس عاجزا عن التصرف إزاء الاحتجاجات ضد السفارة الإسرائيلية إلى أن أجبرته الضغوط الأمريكية والإسرائيلية القوية فى تلك الليلة على ارتكاب مجزرة. وقد حكمت قوى عديدة ومنها قوى ثورية مخلصة حكما سلبيا على هدم الجدار العازل أمام السفارة وبالأخص على اقتحام السفارة وتتناسى هذه القوى أن إسرائيل قتلت جنودا مصريين عبر الحدود وعجزت مصر المجلس الأعلى عن أىّ ردّ ولا أدرى كيف نطالب شعبا فى ثورة بأن يبقى هادئا فلا يقوم بأىّ مبادرة احتجاجية رغم الجريمة التى ارتكبتها إسرائيل ورغم استفزاز المجلس الأعلى للشعب بعدم الرد وكذلك ببناء جدار يحمى السفارة الاٍسرائيلية فى قلب القاهرة الكبرى.
25: وكان من المنطقى أن يثير العدوان الإسرائيلى على حدودنا وجنودنا ردّ فعل عميق لم يقتصر على الاحتجاج الأول الذى تقرَّر بعد مواجهاته بناءُ الجدار العازل الاستفزازى الذى قاد إلى الاحتجاج الثانى عند السفارة وهدم الجدار وما تلا ذلك بل امتد إلى طرح معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر (المعقودة فى 1979) للنقاش واحتدم الجدال بين المطالبة بإلغاء تلك المعاهدة والاكتفاء بالمطالبة بتعديل بعض بنوده لخدمة السلام بين مصر وإسرائيل (كما يُفْهَم من تصريحات عصام شرف). والحقيقة أن الموقف المبدئى من المعاهدة لا يحتاج إلى نقاش، ذلك أنه ينطبق على معاهدتنا مع إسرائيل المبدأ الذى نشأنا على ترديده بخصوص وعد بلفور "مَنْ لا يملك أعطى لمن لا يستحق"، فليس من حق مصر الاعتراف بقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين التى لا تملكها مصر بالطبع، غير أن الموقف العملى اللاأخلاقى الذى قاد إلى عقد تلك المعاهدة كان يتمثل فى العجز عن مواجهة إسرائيل عسكريا وفى الضرورات الاقتصادية والاجتماعية التى دفعتْ السادات إلى الارتماء فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص والغرب بوجه عام بالإضافة إلى الميل الطبيعى لدى الرأسمالية التابعة المصرية للتعاون والتحالف وحتى التكامل فى نهاية المطاف مع الرأسمالية العالمية وإسرائيل. وكان السادات يسير فى هذا المجال على طريق عبد الناصر الذى كان قد وافق على قرار مجلس الأمن رقم 242 وعلى وقف إطلاق النار على أساس مبادرة روچرز، وكان موقف كلٍّ من عبد الناصر و السادات و مبارك من بعدهما استمرارًا لموقف حركة 1952 إزاء إسرائيل. ذلك أنه كان هناك إدراك كامل لعجز النظام المصرى عن مواجهة عسكرية بهدف القضاء على إسرائيل وذلك لأسباب تتعلق ليس فقط بالقدرة العسكرية بل كذلك بالحاجة إلى أمريكا والغرب سياسيا واقتصاديا ولهذا تقرر عدم التفكير فى تحرير فلسطين جريا وراء الشعارات السائدة فى المنطقة آنذاك. غير أن مصر الناصرية كان عليها أن تواجه ليس إسرائيل فقط بل كذلك بريطانيا وفرنسا فى سياق مؤامرة العدوان الثلاثى، ووقعت الهزيمة العسكرية التى خفَّف منها الانتصار السياسى، وحَرَّرَ من الاحتلال الإسرائيلى لسيناء رفضٌ أمريكىٌّ حاسم لذلك الاحتلال كما اقتضت المصالح الأمريكية آنذاك فى سياق السلوك الملائم لأمريكا كقوة استعمارية جديدة تعمل على أن تحل محل الاستعمار القديم. وبعد قرابة عقد من الزمان وبالتحديد فى يونيو 1967 وقعت الهزيمة الكبرى التى لم يكن هناك ما يمكن أن يخفف منها أويحرِّر من الاحتلال الناشئ عنها. وتحت شعار "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة"، جرى قبول وثائق التسوية مع الاستعداد لحرب تُحَرِّك عملية التوصل إلى السلام نشبت فى أكتوبر 1973. وبعد سنوات من تلك الحرب وفى أوضاع داخلية متأزمة وفى أعقاب انتفاضة 18 و 19 يناير 1977 الشعبية، بدأ اتجاه السادات نحو مبادرته التى انتهت بكامپ ديڤيد ومعاهدة السلام فى عام 1979. ونصَّت المعاهدة التى قايضت الأرض بالسلام على أساس قرارىْ مجلس الأمن 242 (22 نوڤمبر 1967) و 338 (22 أكتوبر 1973) على الاعتراف المتبادل وإنهاء حالة الحرب والحدود الآمنة والعلاقات الطبيعية مقابل الانسحاب الإسرائيلى على مراحل بالإضافة إلى قيود ثقيلة (وفقا للمادة الرابعة التى تجيز تعديل ترتيبات أمنية وردت فى الفقرتين 1 و 2 منها) على الوجود العسكرى والأمنى المصرى فى سيناء باعتبار سيناء بكاملها منطقة عازلة لحماية إسرائيل مع فتح قناة السويس ومضيق تيران وخليج العقبة أمام مرور السفن الإسرائيلية، ومع اشتراط موافقة مجلس الأمن بشرط إجماع الدول الخمس ذات العضوية الدائمة من خلال التصويت "الإيجابى" وبالطبع مع تمركز قوات ومراقبين من الأمم المتحدة فى سيناء، بالإضافة إلى حظر توقيع أىّ اتفاقية تتناقض مع هذه المعاهدة. ويدور الجدال الآن حول المفاضلة بين تعديل المعاهدة وإلغائها كليًّا. ويعنى ما سبق ضآلة ما يجوز تعديله وتفاهته وصعوبته وفقا للمادة الرابعة من المعاهدة. غير أن التخلص النهائى من هذه المعاهدة المشينة المفروضة على مصر بإلغائها النهائى هو الهدف الإستراتيچى للشعب المصرى، وعلى هذا الشعب أن يقوم بهذا دون إبطاء حالما تسمح به الظروف التى قد لا تتكرر فى مستقبل قريب. والحقيقة أن المعاهدة كانت قد فُرضت على مصر فى ظل أوضاع سياسية وإستراتيچية كانت قائمة فى مصر والعالم. كان هناك انسحاب مطلوب لا يمكن أن يتم بدون معاهدة "الأرض مقابل السلام"، وكان هناك تنافس إستراتيچى أمريكى سوڤييتى على المنطقة وقد انتهى الآن، والأهم أن إسرائيل كانت تُحارب بالأصالة وبالوكالة لإعادة دول المنطقة إلى الحظيرة الأمريكية وقد تحقق هذا الهدف بالفعل، ولم تَعُدْ الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة احتلال إسرائيل لسيناء لإعادة مصر إلى حظيرتها، فقد أُعِيدت مصر بالذات إلى تلك الحظيرة منذ وقت طويل، ومعنى هذا أن الولايات المتحدة التى لن تتخلى مطلقا عن إسرائيل وتوسُّعها لأنها الأكثر ضمانا من باقى دول المنطقة، لن تؤيد مع ذلك أىّ احتلال إسرائيلى جديد لسيناء ولا أىّ حرب جديدة تشنها إسرائيل على مصر، رغم أن خطاب الرئيس الأمريكى إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى والمرفق بالمعاهدة يجيز لإسرائيل إعادة احتلال سيناء بمساعدة عسكرية أمريكية. وأعتقد أن رد فعل إسرائيل على إلغاء المعاهدة لن يتجاوز شن حملة دعائية واسعة ضد مصر مع مقاضاتها دوليًّا، خاصة وأنها تدرس عن كثب الحروب الأمريكية فى أفغانستان والعراق والأزمة مع إيران وحربها على لبنان وعلى غزة مع أىّ احتمالات لا يمكن استبعادها مع سوريا وتستخلص منها العِبَر الرادعة بالفعل. هذا تقديرى، غير أن خطورة وحساسية هذه المسألة تدعو إلى فتح مناقشة واسعة فى مصر ولفترة كافية حول مختلف التقديرات قبل اتخاذ أىّ قرار بإلغاء المعاهدة. فنحن لا ندعو إلى مغامرة مثل مغامرة عبد الناصر فى 1967 بل ندعو إلى التخلص من العواقب الوخيمة لتلك الحرب التى كانت هذه المعاهدة من نتائجها. على أنه ينبغى أن يكون واضحا أن أىّ قرار بإلغاء المعاهدة لن تتخذه الدولة المصرية دون ضغط شعبى هائل ومتواصل يجبرها على ذلك. وهناك بالطبع مَنْ يرون أن الثورة ينبغى أن تركِّز على تطوراتها وعملياتها الخاصة فلا ينبغى أن تشتت جهودها فى اتجاهات شتى لتحقيق أهداف يمكن تحقيقها بعد عدة سنوات، ويبدو أن مثل هذا الرأى ينطلق من تصوُّر مؤداه أن الثورة سوف تسيطر فى نهاية المطاف على السلطة فى مصر فى أجل قريب، غير أن هذا قد يكون أملا بعيد المنال. وقد يقول قائل إن إصرارى على المناقشة الواسعة والعميقة لمختلف التقديرات الخاصة برد الفعل الإسرائيلى والأمريكى قبل اتخاذ قرار بإلغاء معاهدة السلام يعنى أننى أضحِّى على المستوى النظرى بالموقف المبدئى ضد حق إسرائيل فى الوجود فى حالة وجود احتمال حرب إسرائيلية أمريكية جديدة ضد مصر بدلا من إلغائها فى كل الأحوال. وردِّى هو أن "ثورة" 1952 قد خلقت أمرا واقعًا جديدا بهزيمة 1967 والمعاهدة التى ترتبت عليها ولا يمكن التحرُّر من هذا الأمر الواقع عن طريق حرب تقود إلى هزيمة جديدة بالنظر إلى موازين القوة. ويقتضى هذا التحرُّر أحد أمرين إما انتهاز فرصة تاريخية كهذه التى أراها الآن بإلغاء المعاهدة على أساس هذا التقدير بأن هذا الإلغاء لن يؤدى إلى الحرب وإما الانتظار إلى أن تختلف موازين القوة لأنه لا ينبغى الذهاب إلى حرب بحثا عن هزيمة كما فعلت مصر فى 1967. على أننى لا أضحِّى بأىّ موقف مبدئى فمن الواضح أننى أدعو هنا على العكس إلى إلغاء المعاهدة على أساس تقدير محدَّد.
26: ونعود إلى أسئلة الثورة المتعلقة بتطوراتها الجارية فى الوقت الحالى. ونؤكد من جديد على أن مصر تنطوى على مشكلتين كبريَيْن هما الدستور والاستقلال. وأعنى بالدستور الديمقراطية من أسفل بكل قدرتها على المقاومة والنضال ضد التبعية الاستعمارية واستغلال وديكتاتورية الرأسمالية التابعة. وأعنى بالاستقلال التحرُّر من التبعية الاستعمارية عن طريق تحويل مصر إلى بلد صناعى حقا باعتبار هذا التحوُّل مفتاح الاستقلال ومفتاح التقدم ومفتاح التحديث ومفتاح اللحاق بالعصر ومفتاح خطوة كبرى لاحقة نحو ديمقراطية راسخة. وأعتقد أن على الثورة فى سياق نضالها الذى تتشابك فيه فى كل لحظة أهداف الديمقراطية والاستقلال أن تميِّز تحليليًّا وعمليًّا بين هاتين المشكلتين الأساسيتين فى مصر. لماذا؟ لأن درجة أعلى وأنضج من تطوُّر الثورة الديمقراطية، والديمقراطية من أسفل، بكل تأثيرها الكبير على المجتمع وضغطها الهائل على الدولة شرط ضرورى للانطلاق نحو التنمية الاقتصادية الاجتماعية وبناء البلد الصناعى والسَّير الحثيث على طريق التحديث، باعتبار مثل هذا التطور طريقا غير مطروق فى بلادنا ولا جدال فى أن تخلف عقلية نُخَبنا فى هذا المجال يرتبط بشدة بتخلُّفنا الاقتصادى والاجتماعى والثقافى.
27: على أنه ينبغى التركيز هنا على قضية النضالات المباشرة فى الوقت الحالى والإلمام بفُرصها وآفاقها وكذلك بالعقبات والعراقيل التى تقف فى طريقها. وتتمثل المهام المباشرة لقوى الثورة بطبيعة الحال فى مواصلتها والاستمرار بها بإدراك واضح لحقيقة أن التراجع سوف يمثل كارثة كبرى، ويقتضى إنجاز هذه الثورة السياسية إقامة الجمهورية الديمقراطية الپرلمانية المدنية العلمانية بكل مقتضياتها ومهامها التى سبقت الإشارة إليها. وسوف تمثل الحياة الحرة الكريمة بكل عناصرها واستعادة الأموال التى نهبتها طبقة قامت على ثروات اللصوصية والفساد بتأميمها ومصادرتها، وتوظيفها فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة المستقلة، مفتاح السير بثقة على درب الثورة الاجتماعية. وقد حققت الثورة بالفعل نجاحات كبرى أهمها عودة الروح إلى الشعب المصرى واختراق وكسر حاجز الخوف، والإطاحة ب مبارك ووضع حدّ بالتالى للتمديد والتوريث فى مصر والعالم العربى والعالم الثالث والعالم كله، وكذلك تعرية المدى المفزع للفساد والاستبداد فى عهد مبارك أمام الشعب المصرى والشعوب العربية وشعوب العالم كله، كما سبق القول. كما تحققت مطالب للثورة مثل حل الحزب الوطنى ومجلسىْ الشعب والشورى، وبالطبع تحت ضغط هائل من جانب الثورة، غير أنه ليس هناك مغزى حقيقى لحل هذه الأجهزة الملحقة برئاسة الجمهورية والرئيس فى ظل حكم الشخص وأسرته. لماذا؟ لأن حل الحزب الوطنى الذى طالبت به الثورة كان يقتضى أيضا عزل كوادره سياسيًّا وما حدث فى الواقع هو اتجاه كوادر أساسيِّين فى الحزب الوطنى المنحل إلى إنشاء مجموعة من الأحزاب بأسماء متعددة مستفيدين برفض المجلس العسكرى للمطالبة الشعبية بعزلهم بالإضافة إلى انضمام العديد من "فلول" الحزب الوطنى إلى أحزاب أخرى قديمة أو جديدة. وكان حل مجلسىْ الشعب والشورى لصالح إعادة انتخابهما بسرعة على أساس التعديلات الدستورية (غير الدستورية فى الحقيقة) والإعلان الدستورى (30 مارس 2011) وتعديل قانون نظام الأحزاب (28 مارس 2011) وتعديلات قوانين مجلس الشعب ومجلس الشورى ومباشرة الحقوق السياسية (19 يوليو 2011) وكلها صادرة بمراسيم من المجلس الأعلى، كما تجاهل المجلس مطالب بإلغاء مجلس الشورى الذى لا معنًى له والذى اخترعه السادات دون وظيفة أو سلطة تشريعية حقيقية. كما تحققت المحاكمات وبالأخص محاكمة الرئيس المخلوع بفضل ضغوط شعبية هائلة (وكان لموجة 8 يوليو 2011 دور حاسم فى هذا المجال)، غير أن المحاكمات جاءت بعد تباطؤ متواطئ طويل سمح للمتهمين بتهريب الأموال وتأمين أموال مهرَّبة سابقا وبإخفاء الأدلة وفرم الوثائق وكذلك بهروب عدد من كبار المسئولين اللصوص، مما يجعل النتائج النهائية للمحاكمات محاطة بشكوك قوية، بالإضافة إلى بطء عملية التقاضى بصورة تبدو متعمَّدة، كما أن المحاكمات اقتصرت على حلقة ضيقة على حين أن المطلوب هو توسيع دائرة هذه المحاكمات لتشمل كل رؤوس الفساد والاستبداد. وهناك مطالب للثورة رفضها المجلس تماما مثل تشكيل مجلس رئاسى انتقالى يؤلف حكومة تستلم إدارة البلاد (ويكلِّف الجيش بحماية أمن البلاد بعد هزيمة واختفاء الشرطة) كما رفض تشكيل جمعية تأسيسية تكون مهمتها إعداد دستور جديد ديمقراطى، بدلا من إلغاء دستور 1971 مع كل تعديلاته التى أقرها استفتاء 19 مارس 2011، وبدلا من إلغاء كافة القيود القانونية القديمة والجديدة على الحقوق والحريات الحزبية والنقابية وتلك المتعلقة بالتظاهر والاعتصام والإضراب كوسائل نضالية مشروعة. كما رفض المجلس إلغاء قانون الطوارئ الاستبدادى الحالى وحتى رفع حالة الطوارئ ولم يُسَلِّم بوقف المحاكمات العسكرية للمدنيِّين إلا تحت الضغط وإلا بتحويلهم إلى محاكم أمن الدولة، استمرارا لواقع أن الدولة ظلت تعتمد منذ انقلاب 1952 على المحاكم الاستثنائية، بينما تُركِّز مطالب الثورة على استقلال القضاء وعلى محاكمة المتهم أمام قاضيه الطبيعى. كما رفض حل وإعادة بناء جهازىْ أمن الدولة والمخابرات العامة وكافة الأجهزة الأمنية الأخرى. وفى كل الأحوال ظل المجلس يطارد كل النضالات الشعبية وكل مظاهر الاحتجاج وظل يقمعها عسكريا بصورة مباشرة وعن طريق البلطجية وإعلاميا لتشويه صورة الثورة كما سبق القول بوسائل منها حملات الشائعات ومنها تصوير أن الثوار يسعون إلى إحداث وقيعة بين الشعب والجيش ومنها قلب حقائق مثل إعلان ممارسات الحقوق الدستورية المشروعة مثل التظاهر والاعتصام والإضراب فى المصانع ومختلف الشركات والمصالح الحكومية "احتجاجات فئوية" كتعبير سلبى بزعم أن المطالب الفئوية تعطل الإنتاج والحياة الطبيعية وأن قطاعات من الثورة المضادة منها "فلول" الحزب الوطنى هى التى تحرِّض عليها لضرب الإنتاج والثورة ومصر. كما استخدم المجلس سياسة "فرِّق تسد" بتقريب قوى سياسية بعينها وإشراكها فى الحكومة وعقد صفقات معها، بحيث صارت هذه القوى عدوًّا لدودا لكل موجات الثورة ومبادراتها وأنشطتها وصارت تقوم بدور أكثر فاعلية من دور المجلس فى مجال تشويه صورة القوى الأكثر إخلاصا للثورة وينطبق هذا فى المحل الأول على قوى الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية التى تقوم بهذا الدور الخبيث لأنها ترى أن القوى المدنية واليسارية والعلمانية خطر عليها أكثر من المجلس والنظام وكذلك لأنها ترغب فى تأمين ضمانات لفاعلية صفقاتها معهما. والحقيقة التى لا جدال فيها هى أن النظام بقيادة المجلس هو السبب المباشر وراء تعطيل الإنتاج وشلّ الحياة الطبيعية بعناده المباركىّ (الدكتوراة فى العناد) فى رفض مطالب الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى انفجرت الثورة وتتواصل الآن من أجلها غير أن هذا هو السلوك "الطبيعى" المتوقع من النظام الذى يعمل على خنق الثورة تمهيدا لسحقها لاستعادة نفس النظام بدون رأسه ورقبته.
28: وبالطبع فإن كل وسائل النضال التى تتفق مع الشرعية الثورية مشروعة وينبغى استخدامها على أوسع نطاق كما أن من حق كل الفئات والطبقات والقطاعات أن تناضل بكل وسائل نضال الشرعية الثورية هنا والآن من أجل حقوقها غير القابلة للانتظار كما يريد المجلس وحلفاؤه الجدد من الإسلاميِّين والليبراليِّين اليمينيِّين الذين يخونون الثورة جهارا نهارا فى سبيل الفتات الذى قد يفوزون به بدلا من الجوائز الكبرى التى يتصوَّرون أن مواقفهم ضد كل مبادرة ثورية سوف تجلبها عليهم. وينبغى إدراك أن التظاهر بالتعقل من جانب بعض قوى الثورة ورفض هذا الشكل النضالى أو ذاك ورفض هذا الهدف المشروع أو ذاك إنما يصبّ فى مصلحة الثورة المضادة أىْ المجلس والنظام وحلفائهما المذكورين أعلاه. وينبغى أيضا إدراك أن مسألة على أىّ شيء ينبغى التركيز أبسط من الصورة التى تبدو عليها. إننا هنا إزاء شعب ثائر، إزاء طبقات شعبية مستغَلَّة ومقهورة منذ عقود طويلة، ومن حق هذه الطبقات وفى مقدمتها الطبقة العاملة أن تنتزع حقوقها هنا والآن، غير أن فئات أخرى وقطاعات أخرى ومجموعات أخرى تناضل أيضا فى سبيل انتزاع حقوقها وحرياتها فى مختلف المجالات ولهذا فإننا إزاء ملايين من أبناء الشعب الذين يمكن أن يقوموا بالتغطية الاجتماعية والسياسة لهذه النضالات كافة ولا يمكن تحديد شكل نضالى واحد، ولا وسيلة نضالية واحدة، ولا هدف نضالى واحد، لكل الشعب الآن بل إن هذه النضالات الواسعة تتكامل وتتداخل وتتفاعل لتحقيق الأهدلف الكبرى للثورة.
29: غير أننا نتجه بسرعة إلى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية القادمة. وقد أصابت حُمَّى السرعة كثيرا من الأطراف سبق ذكرها وذكر أسباب تعجُّلها. فما العمل؟ ومن ناحية لا ينبغى العمل على تأجيل الانتخابات لحساب استمرار الحكم العسكرى المباشر الحالى، ومن الناحية الأخرى لا ينبغى تسهيل التسريع الذى تريده قوى الثورة المضادة لقطع الطريق على القوى المدنية واليسارية والعلمانية، ولا مخرج من هذه المعضلة إلا بتأجيل يقوده مجلس انتقالى مدنى. غير أن هذا بدوره يُدخلنا فى سراديب معضلات جديدة. أولا لأن القوى الأكثر إخلاصا للثورة تعانى من آثار ستين عاما من الملاحقات الپوليسية ضدها فى سياق تصفية وتجريف الحياة السياسية وهى تواجه قوى أكبر عدديا وأكثر تنظيما مع أنها قوى متباينة تعانى بدورها من تناقضات وانقسامات. غير أن القوى المدنية الأكثر إخلاصا للثورة هى التى أشعلت الثورة جاذبة كل الشعب إليها وهى التى تستمر بالثورة الآن وتواجه كل مقاومة من أركان الثورة المضادة، وهذه ميزة لا يمكن التقليل منها خاصة عندما تواصل الثورة قوى مدنية صلبة لا يمكن تهدئتها إلا بتحقيق مطالبها على حين أن محاولة إخضاعها بمجازر كبرى أمام العالم كله قد لا تكون مجدية كما تُثبت ثورات ليبيا وسوريا واليمن، وهما خياران أحلاهما مر بالنسبة لقوى الثورة المضادة بوجه عام خاصة على خلفية تنوُّعها وتناقضاتها. وتجد القوى الثورية المخلصة نفسها إزاء إستراتيچية تتمثل فى قدرة قوة أضعف نسبيا على استغلال تناقضات قوى أكبر منها عدديًّا فى الانتخابات والاستفتاءات والميادين بما لا يقاس عندما توحِّد صفوفها على حين أن تناقضاتها تحرمها فى كثير من الأحيان من توحيد صفوفها. ولا شك فى أن وجود قوى متعددة متضاربة سياسيا يمكن أن تؤدى إلى عجز قوة بمفردها عن السيطرة على الپرلمان بأغلبية تمكِّنها من تشكيل الحكومة. وهناك بالطبع شكوك تحيط بنزاهة العملية الانتخابية، ذلك أن سلوك المجلس الأعلى منذ بداية سلطته ذات النزعة العسكرية الشمولية إلى يومنا هذا لا يوحى بأىّ ثقة بأنه سيقوم بإجراء انتخابات نزيهة أو حتى خالية من التزوير المباشر. وعلى هذه الخلفية تدور أسئلة ملحّة حول احتمال وجود صفقة بين المجلس والإخوان المسلمين بمباركة أمريكية وسعودية بالسماح للإخوان المسلمين بأغلبية پرلمانية وبالتالى بتشكيل حكومة وربما بالفوز برئيس للجمهورية. ويعتقد كاتب هذه السطور أن الصفقة التى لا شك فى وجودها بين المجلس والإخوان وكذلك بينه وبين الليبرالية اليمينية وربما بينه وبين قوى أخرى، مثل الأحزاب التى يشكلها كوادر الحزب الوطنى المنحلّ وأحزاب أخرى، يلجأ إليها المجلس لتفادى أغلبية پرلمانية مريحة لتحالف بين الإخوان وباقى قوى الإسلام السياسى، تقتصر على وجود له وزنه فى الپرلمان بعيدا عن الإقصاء عنه من ناحية أو السيطرة عليه من الناحية الأخرى. فلا مبرر لاعتقاد أن الحكم بالإسلام السياسى سيكون هو الأكثر تحقيقا لمصالح الطبقة المالكة التى يشكل الإخوان تمثيلا سياسيا لقطاع مهم منها، أو للمصالح الأمريكية، أو لمصالح أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنفسهم. على أن هناك مشكلة تتمثل فى أنه ليس من السهل فيما يبدو تفادى إجراء الانتخابات الپرلمانية فى المستقبل القريب جدا ويبدو أنها ستصل بنا إلى أواخر هذه السنة بالنسبة لمجلس الشعب وإلى مارس 2012 بالنسبة لمجلس الشورى. وعلى هذا يمكن أن تتأخر الانتخابات الرئاسية إلى أواخر 2012 بحيث يبقى المجلس الأعلى طوال هذه الفترة حاكماعسكريا بصورة مباشرة قبل أن ينتقل إلى موقع الحاكم من وراء الكواليس بعد ذلك مهما كان الپرلمان ومهما كان رئيس الجمهورية. ومن المدهش أن قوى الثورة المضادة تتصرَّف وكأنها حسمت مسألة أن تظل مصر جمهورية رئاسية بعيدا عن أىّ احتمال لخيار الجمهورية الپرلمانية فى دستور جديد، ومن هنا هذه الحُمَّى التى أصابت كل هذا العدد من المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية، ومن المؤسف أن الكثيرين من الكُتّاب والباحثين والمحلِّلين السياسيِّين يعلنون أن الجمهورية الرئاسية هى النظام الأفضل لمصر حيث يرون أن رئيسا قويا سيكون ضروريا لمصر خاصة فى المستقبل القريب بحجة أن الحزب الحاكم الذى سيتولى السلطة التنفيذية العليا فى حالة الجمهورية الپرلمانية سيركَّز اهتمامه على مصالحه الحزبية الضيقة بعيدا عن مصلحة البلاد وكأن تجربتنا مع رئيس الجمهورية فى العهود الثلاثة السابقة تشجع على الثقة بديمقراطية ونزاهة الرئيس. ويبدو بالتالى أن إجراء الانتخابات قريبا سيكون أمرا لا مناص منه وأن بقاء المجلس الأعلى لفترة قد تصل إلى عام أو عام ونصف سيكون أمرا لا مناص منه كذلك. وهذا بالطبع إذا عجزت الثورة عن إسقاط المجلس الأعلى، هذا الشعار الذى بدأ يبرز بوجه خاص بعد موجة 8 يوليو 2011، وهذه على كل حال ليست بالمهمة السهلة. وهنا ستنتقل الثورة لفترة إلى مسألة تاكتيكية تتعلق بالمشاركة فى الانتخابات أم مقاطعتها وهى مسألة يسهل حسمها فى أوانها وعلى كل حال فإن المقاطعة الإيجابية أىْ النشاط النضالى حول الانتخابات رغم مقاطعة الترشيح فيها ومقاطعة تأييد مرشحين آخرين فيها بدلا من الوقوف بعيدا تماما عن الانتخابات تكاد تتساوى مع المشاركة؛ مع أفضلية المشاركة التى تتيح دورا إيجابيا أكبر خاصةً فى زمن الثورة. وتثور هنا مسألة شائكة تتعلق بطريقة ملء الفراغ الذى سيتركه إسقاط المجلس الأعلى فى الإدارة الضرورية للبلاد حتى فى حدود تسيير الأعمال. وبالطبع فإن من المفترض أن المجلس الانتقالى المدنى هو الذى سيحل محل المجلس العسكرى. غير أن ثورة 25 يناير عجزت عن تشكيل مجلس انتقالى مدنى توافقى، وذلك بسبب وجود معسكريْن متعارضيْن فى صفوف الثورة فى مرحلتها الأولى أىْ مرحلة إسقاط الرئيس. وكان التعارض بين أهداف المعسكر المدنى ومعسكر الإسلام السياسى يَحُول دون تشكيل مجلس انتقالى توافقى موحَّد حتى فى فترة الخندق الواحد المؤقت بين المعسكرين (بوجه عام قبل إقالة مبارك على يد الانقلاب العسكرى) وما يزال هذا التعارض الذى يزداد عمقا بصورة متواصلة يحول دون تشكيل مثل هذا المجلس الانتقالى التوافقى المستحيل وغير المبدئى على كل حال. وأمام هذه المعضلة تتصور بعض قطاعات المعسكر المدنى أن التوافق مع الإخوان المسلمين والإسلام السياسى سيخلق قوة موحَّدة تستطيع أن تُنازل وتُقارع المجلس العسكرى، غير أن مثل هذا التفكير يتجاهل واقع أنك يمكن بل ينبغى أن تستفيد من تناقضات قوى الثورة المضادة مثل المجلس والإخوان ولكنك لا تستطيع التحالف أو التوافق مع إحدى القوتين ضد الأخرى فى الوقت الذى "يتحالفان" فيه ضدك أو حتى يعمل كلٌّ منهما ضدك بمفرده من موقف العداء، فنحن لسنا إزاء علاقات عامة يمحو فيها التودد كل جفاء بل إزاء صراع سياسى مرير. ومن المخجل أن يتورط كتاب محسوبون على القوى اليسارية والمدنية والعلمانية فى الحديث عن التوافق. ولا ينبغى أن يوحى إلينا وجود المعسكرين: المعسكر المدنى ومعسكر الإسلام السياسى فى خندق واحد فى ميادين التحرير فى مصر فى مرحلة قصيرة تقل عن أسبوعين أن هذا كان تحالفا بين المعسكرين فالحقيقة أن المعسكريْن كانا يقفان كمعسكرين مستقلين يفصل بينهما هدفان متناقضان فى العمق ومتحدان على السطح. كان هدف معسكر الإخوان والإسلام السياسى هو استخدام الثورة للحصول على الشرعية ومحاولة الوصول إلى السلطة لتأسيس نوع من الجمهورية الإسلامية بعد إسقاط مبارك وكان هدف المعسكر المدنى الذى أشعل الثورة أصلا هو النضال فى سبيل الثورة والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية حتى النهاية انطلاقا من إسقاط الرئيس والنظام، وكان ذلك فى أحسن الأحوال نوعا من ضرب هذين المعسكريْن معا والسير منفرديْن بل متعاديَيْن. ولا شك فى أن عقبة القوة العددية الأقل للقوى الطليعية الأكثر إخلاصا للثورة تجعل كل اعتماد كلِّىٍّ على الشرعية الدستورية والانتخابات والاستفتاءات أمرا لا طائل تحته فى الأجل القصير أىْ قبل أن تتغلغل هذه الطليعة، مع المزيد من نضجها ورسوخها، فى قيادة الطبقات الشعبية المناضلة. ولهذا فإن شعار مثل "الدستور أولا" تواجهه عقبة تصويت الأغلبية تصويتا سلبيًّا فى أىّ استفتاء على مواده الديمقراطية أو المدنية أو العلمانية، وكذلك على انتخاب جمعية تأسيسية تقوم بوضع الدستور، وكذلك على انتخاب مجلس انتقالى، لأن الديمقراطية المباشرة التى تتشكل ممن يبلغون الثامنة عشرة من أعمارهم فى مصر والتى تصوِّت فى الاستفتاءات أو فى الانتخابات الپرلمانية تعانى نفس معضلة القوة العددية الانتخابية لمختلف القوى السياسية فى البلاد؛ ولهذا يظل شعار "الثورة أولا" هو الشعار الصحيح حقا. كما ينبغى أن ندرك أن الإسلام السياسى يمثل عقبة كبرى أمام النضال فى سبيل نجاح الثورة فى تحقيق مهامها وأمام النضال ضد الحكم العسكرى وأمام التصدى لما يسمَّى بفلول الحزب الوطنى ولليبرالية اليمينية وهو الذى يعمل على إعادة مصر والمنطقة إلى القرون الوسطى مع إبقائها حبيسة التبعية الاستعمارية. ومعنى هذا أن قوى سياسية أضعف نسبيا يمكن أن تستمدّ قوة ما من تنافر وتناقض خصومها وأعدائها فيما بينهم، ونظرا لأن هذه القوى المدنية واليسارية والعلمانية هى التى أشعلت الثورة، وهى التى تستمرّ بها رغم كثرة وشراسة أعدائها العسكريِّين والإسلاميِّين والليبراليِّين والرأسماليِّين وامتدادات الحزب الوطنى المنحلّ، فإن الأمل المعقود عليها فى تحقيق مزيد من النجاحات الكبيرة له ما يبرِّره دون أدنى شك. وعلى نضالها فقط يقوم كل أمل فى تطوير الثورة وفى جعلها بوتقة كبرى تنصهر فيها كل نضالات واحتجاجات وتظاهرات واعتصامات وإضرابات العمال والعاملين والفلاحين والعمال الزراعيِّين وكل الفئات والطبقات الشعبية فى زمن الثورة، فبهذا وحده ستكون الثورة قادرة على تحقيق انتصارات كبرى يمكن أن تسمح لها فى مرحلة لاحقة بالاتجاه مباشرة نحو المهمة الكبرى المتمثلة فى بدء الثورة الاجتماعية انطلاقا من التصنيع الحقيقى والتحديث الشامل والاستقلال الجذرى وتفادى المصير المرعب الذى تنتظره بلدان العالم الثالث ومنها بلادنا. ولا يتناقض هذا الهدف مع حديثى عن غياب الثورة الاجتماعية أىْ عملية التحوُّل الرأسمالى العميق فى مصر إذْ يستند هذا الهدف فى حالتنا إلى تجربة بعض بلدان العالم الثالث التى كانت مستعمرات أو أشباه مستعمرات فى السابق مثل النمور أو التنانين الآسيوية الأصلية (كوريا الشمالية وهونج كونج وتايوان وسنغافورة) والصين فى سياق ظروف تاريخية خاصة، ويقتضى هذا الهدف بالضرورة تطوُّرًا هائلا للديمقراطية من أسفل بحيث تكون لها كلمة فعالة فى تقرير مصير البلاد عن طريق استمرارها بالثورة وتطويرها إلى مرحلة أعلى، وإنْ لم تكن فى السلطة، وعلى كل حال فإن من حقنا أن نحلم وأن نتحدَّى المستحيل لتحقيق مثل هذا الحلم المنقذ.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة
- لا للتعديلات الدستورية فى مصر
- مفهوم النحو (مقدمة عن العلم وموضوعه ( مقدمة بقلم: خليل كلفت ...
- المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971) والعلاق ...
- بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية مقدمة خليل كلفت لترجم ...
- ماذا يعنى حل مجلسى الشعب والشورى؟ [فى مصر]
- الشعب المصرى يريد إسقاط النظام
- ثورة تونس نحو الاستقلال الحقيقي والتنمية الحقيقية


المزيد.....




- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...
- مقتل عراقية مشهورة على -تيك توك- بالرصاص في بغداد
- الصين تستضيف -حماس- و-فتح- لعقد محادثات مصالحة
- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها