أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - يعقوب ابراهامي - ديالكتيكهم وديالكتيكنا - ستالينيتهم وماركسيتنا-2















المزيد.....


ديالكتيكهم وديالكتيكنا - ستالينيتهم وماركسيتنا-2


يعقوب ابراهامي

الحوار المتمدن-العدد: 3492 - 2011 / 9 / 20 - 19:57
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


"نحتاج الى شطف ادمغتنا" - (حسقيل قوجمان، "الحوار المتمدن"، 6/9/2011)
بعد أن عجز عن إقناع جيل "التويتر" و"الفيسبوك" بصحة "قانون فناء الضدين" (إسألوا كارل ماركس وفريدريك انجلز. ماذا تريدون مني؟)، وبعد أن رأى بأم عينيه كيف ان "ادمغة الطبقة العاملة والكادحين في ارجاء العالم" باتت "محشوة" بخرافاتٍ حول "اشتراكية ذات طابع انساني وغير ذلك من التفاهات" (لاسيما من نوع التفاهات التي يملأ بها شامل عبد العزيز ورعد الحافظ، ناهيك عن جاسم الزيرجاوي، صفحات "الحوار المتمدن")، يرى حسقيل قوجمان أن من الأفضل العودة الى الطريقة المجربة والمحببة: طريقة غسل العقول وشطف الأدمغة.
ليس "مفكرأً ماركسياً" كحسقيل قوجمان يقف مكتوف الأيدي أمام هجوم "الأشتراكية ذات الطابع الأنساني". لكن قوجمان لم يشرح لنا بالتفصيل ما هي خطته "لتحقيق شطف ادمغتنا من هذا اللوث الذي اصابها". الخيار كما يبدو هو بين الطريقة الكمبودية (التي أثبتت جدارتها بعدد الجماجم النقية التي خلفتها) وطريقة "الطلقة الواحدة في مؤخرة الرأس" التي كانت متبعة في أقبية "لوبيانكا" الروسية (والتي أثبت التاريخ عدم نجاعتها).

* * *

كتابان بقلم واحدٍ من أكبر المحتالين في تاريخ الفكر الماركسي - الأول هو: "المادية الديالكتيكية والتاريخية" الذي مسخ فيه ستالين مبادئ الديالكتيك وحولها الى "قوانين" عقائدية ونصوصٍ "كنائسية" (كما يليق بتلميذ مدرسة اللاهوت في جورجيا)، والثاني هو: "القضايا الأقتصادية للأشتراكية في الأتحاد السوفييتي" وبه عزا ستالين كل المصاعب (والمصائب) الأقتصادية في الأتحاد السوفييتي الى قوانين خارجة عن أرادة الأنسان (كما يليق بمسؤولٍ عن واحدة من أكبر المجاعات البشرية في القرن العشرين)، وعددٌ من كتب أخرى عمر أغلبها قرنٌ ونيفٌ من الزمن - هذا هو كل ما يحتاجه حسقيل قوجمان لكي يدلي بدلوه في كل موضوعٍ من مواضيع المعرفة البشرية: أبتداءً من الكوسمولوجيا (الأنفجار العظيم هو اصطدام بين نوعين من المادة)، مروراً بعلوم الأجتماع والأقتصاد ("كارل ماركس هو أعظم عالمٍ في التاريخ")، وأنتهاءً بالأنتروبولوجيا ("الأنسان ليس سوى مادة متطورة"). وهو يفعل ذلك بخفةٍ ومهارة ضارباً عرض الحائط كل إنجازات الفيزياء الحديثة (مدرس "الأشياء" في الصف الخامس الأبتدائي برهن على صحة "قوانين" الديالكتيك) وفلسفة العلوم ("لم اسمع بشخصٍ اسمه بوبر") في المائة سنة الأخيرة.

حسقيل قوجمان، كمن تخصص في "علم العلوم" ومن قرأ (وترجم) كتابي ستالين آنفي الذكر، يحب الكتابة عن العلوم وعن القوانين العلمية، عن تاريخ العلوم وعن فلسفة العلوم. إلاّ أنه يفتقر الى أهم ما يجب أن يميز من يكتب عن العلم: الدقة (أو كما يقول فؤاد النمري: حسقيل قوجمان يفتقر أحياناً الى بعض الدقة).
نصحت حسقيل قوجمان مرةً أن لا يبالغ في الأعتماد على ذاكرته. نحن في سنٍ، حذرته، لا يجوز لنا فيها الأعتماد اعتماداً مفرطاً على ذاكرتنا. هناك اختراعٌ اسمه Google، نصحته، يمكن الأستعانة به أحياناً. لكن نصائحي ذهبت أدراج الرياح.

E pur si muove! (ومع ذلك فهي تدور!):
في مقالٍ بعنوان: "هل توجد قوانين طبيعية تتحكم في مسار الطبيعة والمجتمع؟" يشرح لنا حسقيل قوجمان تعاليم "المعلم" في هذا الخصوص. وبصرف النظر عما إذا كان هو نفسه مقتنعاً بهذه التعاليم أم لا، فإن حسقيل قوجمان لم يدع فرصة الوقوع في مآزق هو في غنىً عنهاً تفلت من يده.

عزيزي حسقيل قوجمان، غاليليو غاليلي لم يقدم الى المحاكمة أمام الكنيسة الكاثوليكية لأنه "اكتشف كروية الأرض" (ليس غاليليو غاليلي هو الذي اكتشف كروية الأرض. فيتاغورس وافلاطون، قبل 2500-2400 سنة، هما أول من أشار الى فكرة كروية الأرض. وأريسطو كان أول من قدم البرهان على ذلك قبل حوالي 2300 سنة). غاليليو غاليلي قدم الى المحاكمة لأنه أعلن ان الارض تدور حول الشمس على عكس ما كانت تقوله الكنيسة الكاثوليكية أنذاك بان الارض ثابته والشمس هي التي تدور حولها ولذلك اتهمته الكنيسة بالهرطقة. وقضاته الكرادلة، عزيزي قوجمان، لم يحكموا عليه بالأعدام (يا للذاكرة الخائنة! قلت لك إلجأ الى Google!) بل بالسجن مدى الحياة. وفي اليوم التالي استبدل هذا الحكم بالأقامة الجبرية.
جهل حسقيل قوجمان بتفاصيل هذة الرواية له أهمية خاصة ليس فقط لأن هذه الرواية ترتبط بواحدة من اشهر المحاكمات في تاريخ العلم، وفي تاريخ العلاقات بين العلم والكنيسة، بل لأنها أيضاً ترتبط بواحدة من أشهر المقولات في التاريخ (وإن كان الكثير من المؤرخين يشكون بصحتها. الأسطورة في كثيرٍ من الأحيان أقوى من الواقع).
فبعد أن أجبرت المحكمة العالم البالغ من العمر 69 عاماً على التراجع عن آرائه الهرطقية أمام الجمهور، خرج غاليليو غاليلي من المحكمة وهو ينطق بكلمته الشهيرة : !E pur si muove (ومع ذلك فهي تدور! ).
(يمكننا أن نفترض ان حسقيل قوجمان يصر على أن غاليليو غاليلي قال: ومع ذلك فهي كروية!)

الأنسان هو أكثر من مادة متطورة. الأنسان هو كائن مفكر:
نعود الى استاذ الكيمياء العضوية الذي كان يقول لطلابه: "شنو أنتم غير سطل مي وشوية صوديوم وبوتاسيوم".
يقول حسقيل قوجمان في آخر أبحاثه النظرية عن أصل الأنسان : "الانسان ليس سوى نوع متطور من المادة نشأ بعد عشرات المليارات من عمر الكون".
انتبهوا جيداً الى كلمة "سوى" في الفقرة السابقة. سنلتقي بها مرةً أخرى. هذه الكلمة ("سوى") لم تأت عفواً بل هي بيت القصيد. وحسقيل قوجمان، الذي لا يعرف، كما سنرى بعد قليل، ماذا يعني مفهوم "الطفرة الى نوعية جديدة" في التفكير الديالكتي، مغرم بكلمة "سوى" وب"ليس سوى".

سؤال: ما الذي ميز الأنسان عن سائر الأحياء؟
جواب: الأنسان (الذي هو نفسه ليس "سوى" مادة متطورة، أي: مزيج متطور من صوديوم وبوتاسيوم) لم يتميز عن سائر الأحياء "سوى" ب . . . بماذا؟ بعقله؟ بوعيه؟ بدماغه؟ لا أبداً. ليس هذا ما ميز الأنسان عن باقي الأحياء. لندع حسقيل قوجمان يفاجئكم بالجواب بلغته هو:

"لدى نشوء المادة التي اسمها الانسان لم تختلف (هذه المادة) عن سائر الاحياء سوى (!!) بكون جزء المادة التي اسمها اليد اصبحت تختلف عن ايدي الاحياء الحيوانية الاخرى بانها قادرة على العمل ومتخصصة له."

لكي نسبر غور هذه الجملة المعقدة يجب أولاً ان "نفككها" الى أجزائها (أين أنت أمير الغندور؟) وأن نفحص كل جزءٍ منها على حدة:

1. " لدى نشوء المادة التي اسمها الانسان":
هناك مواد كثيرة في الكون ومن بينها مادة اسمها "الأنسان". هذه "المادة" هي مجرد مادة، كباقي المواد الأخرى، أطلق عليها أحدهم بالصدفة اسم "الأنسان". أليس هذا هو الأبداع بعينه؟

2. (هذه المادة التي اسمها الأنسان) "لم تختلف عن سائر الاحياء سوى ب . . .":
وانا أسألكم: ماذا كان حسقيل قوجمان يفعل بدون كلمة "سوى"؟ لكن المفاجأة الحقيقية تنتظركم عندما سيكشف لكم حسقيل قوجمان النقاب عن "سوى بماذا" لم تختلف هذه المادة (التي اسمها "الأنسان") عن سائر الأحياء الأخرى.

3. (هذه المادة التي اسمها الأنسان لم تختلف عن سائر الاحياء سوى) "بكون جزء المادة التي اسمها اليد":
أيها الناس! إسمعوا وعوا: هذه المادة التي تسمى "إنسان" لها جزء (هو أيضاً مادة) يسمى "اليد" تماماً كما ان لكل آلة ميكانيكية في العالم قطع غيارٍ تسمى بأسماء مختلفة (وقد تسمى احياناً يداً أو ذراعاً).

4. (وهذه المادة التي اسمها اليد) "اصبحت تختلف عن ايدي الاحياء الحيوانية الاخرى بانها قادرة على العمل ومتخصصة له":
وأخيراً يكشف لنا حسقيل قوجمان القناع عن سر تفوق الأنسان على سائر "الاحياء الحيوانية الاخرى" : يده!
ونحن السذج كنا نعتقد حتى الآن إن الأنسان يتفوق على سائر "الاحياء الحيوانية الاخرى" بوعيه وبعقله.

كل هذا المجهود الفكري الذي يبذله حسقيل قوجمان علام؟ ما هي الغاية التي يصبو إليها ؟
الغاية التي يصبو إليها حسقيل قوجمان هي أن يثبت ان الأنسان ما هو "سوى" مادة (مزيجٌ من صوديوم وبوتاسيوم). هذه غاية نبيلة بحد ذاتها. ولكن هل تستحق كل هذا العناء؟

وماذا عن الدماغ قد تسألون؟
الدماغ، أيها السادة، هو أيضاً مادة (غرام حسقيل قوجمان بكلمة "مادة" لا يقل عن غرامه بكلمة "سوى")، مادة متطورة ولكنه مادة لا أكثر ولا أقل، وهذه المادة "تفرز الأفكار" كما يفرز الكبد مثلاً المرارة الصفراء. حسقيل قوجمان لا يقول هذا صراحةً ولكن هذا ما يفهم من أرائه.
"الفكر هو نتاج المادة التي اسمها الدماغ" - يقول حسقيل قوجمان بلهجة الظافر مستنداً الى كتاب ستالين سيئ الصيت. (قارنوا هذا ب: "المرارة الصفراء هي نتاج المادة التي اسمها الكبد").
هذه الرجعة الى "المادية" الميكانيكية المبتذلة، مادية القرن الثامن عشر، يسميها حسقيل قوجمان مادية ديالكتيكية أو حتى "علم المادية الديالكتيكية".
* * *
التفكير الديالكتي مقابل التفكير الميكانيكي - "أكثر من" مقابل "ليس سوى":
الديالكتيك هو اسلوب في التفكير والبحث والتحليل، طريقة لفهم تناقضات الواقع، تعقيداته وعلاقاته المتبادلة، واكتشاف السبل لتغييره.
"طريقتي في البحث هي الطريقة الديالكتيكية" - كتب كارل ماركس في مقدمة الطبعة الألمانية الثانية ل"رأس المال".
لكن حسقيل قوجمان وفؤاد النمري وكل الستالينيين الآخرين درسوا الديالكتيك من ستالين لا من كارل ماركس، والديالكتيك في يد ستالين لم يكن أداةً للبحث والتفكير والتحليل بل أداةً لقمع خصومه السياسيين في الحزب والدولة. كتاب ستالين الضحل والسيء الصيت، "المادية الديالكتيكية والتاريخية"، الذي تربت على ضوئه أجيالٌ كاملة من الحمقى والجهلة، أنزل ضربة قاضية بالديالكتيك الماركسي.

يكاد لا يخلو مقال واحد من مقالات حسقيل قوجمان في "الحوار" من الأشارة الى "قانون" تحول التراكمات الكمية الى تغيرات نوعية. هذا "القانون" هو الذي أوحى لحسقيل قوجمان بنظريته الجديدة في الأنثروبولوجيا القائلة: "إن الانسان ليس سوى نوع متطور من المادة". ولكن حسقيل قوجمان لم يفهم الديالكتيك الماركسي في يومٍ من الأيام ولم يفهم أبداً مفهوم الطفرة (Leap) الذي يؤلف ركناً أساسياً من أركان التفكير الديالكتي عموماً ومن "قانون" تحول التراكمات الكمية الى تغيرات نوعية بصورة خاصة.
حسقيل قوجمان، الذي تلقى تثقيفه الفلسفي من كتاب ستالين "المادية الديالكتيكية والتاريخية"، لا يستطيع ان يفهم أبداً ان عبارة "ليس سوى" الواردة في "نظريته" عن الأنسان ("الانسان ليس سوى نوع متطور من المادة") هي النقيض المباشر للفكرة الديالكتيكية الماركسية حول التراكمات الكمية التي تنتهي ب"طفرة" الى نوعية جديدة وبموجب هذه النوعية الجديدة "الأنسان هو أكثر من نوعٍ متطور من المادة". علاقة "النوعية الجديدة" بال"لنوعية القديمة" هي ليست علاقة "ليس سوى" بل هي علاقة "أكثر من". (عندما لفت نظره الى ذلك في أحد تعليقاتي لم يفهم حسقيل قوجمان على الأطلاق ماذا أريد منه).
الفرق بين "ليس سوى" و"أكثر من" هو الفرق بين التفكير الميكانيكي والتفكير الديالكتي الماركسي.
الأنسان هو ليس مادة متطورة، هو أكثر من مادة متطورة. الأنسان هو كائن يفكر.

ماذا ميز الأنسان عن سائر "الأحياء الأخرى" في نظر كارل ماركس:
من الممتع ان نرى كيف رأى كارل ماركس نفسه ما يميز الأنسان عن سائر "الاحياء الحيوانية الاخرى".
كارل ماركس، لحسن حظ البشرية، لم يدرس الكيمياء العضوية في كلية الصيدلة في بغداد، لم يلتق بالأستاذ عبد الفتاح الملاح ولم يكن يعرف ان الأنسان ما هو إلاّ "سطل مي وشوية صوديوم بوتاسيوم".
أقرأوا هذه القطعة الرائعة من "الرأس مال" وقارنوها بالنظرية التي تقول: "أن ما يميز الأنسان (المادة) عن سائر الأحياء الحيوانية هو يد قادرة على العمل":

" العنكبوت يقوم باعمال تضاهي ما يقوم به حائك النسيج، والنحلة تبني خليتها بمهارة يخجل أمامها أغلب المهندسين المعماريين. ولكن ما يميز اسوأ المهندسين المعماريين عن امهر بناءات خلايا النحل هو ان المهندس المعماري يشيد بنيانه في مخيلته اولاً قبل ان يقيمه على ارض الواقع".

(الزميل صادق الكحلاوي يقول ان ابن خلدون أتى بهذه الفكرة قبل كارل ماركس. قد يكون صادق الكحلاوي صادقاًً في ما يقول ولكنني لا اعتقد ان ابن خلدون عبر عن هذه الفكرة بنفس الأسلوب الجميل الذي عبّر به كارل ماركس).
* * *
نظرية "الإنعكاس" (Reflection):
لا عجب بعد ذلك أن حسقيل قوجمان لا يرى في "المعرفة" سوى "انعكاس" للظواهر الطبيعة في دماغ الأنسان تماماً كما تعكس المرآة العالم الخارجي على سطحها.
هناك في نظر حسقيل قوجمان "إنعكاسات" خاطئة و"انعكاسات" صحيحة. وكما اننا نضطر أحياناً الى "غسل" المرآة كي نزيل الأوساخ التي تعيق إنعكاس ضوء الشمس من على سطح المرآة، يدعو حسقيل قوجمان الى "غسل ادمغتنا من هذا اللوث الذي اصابها" والذي يعيق " انعكاس العالم الخارجي في دماغ الإنسان" بصورةٍ صحيحة.
هناك إذن نوعان من "انعكاس" العالم الخارجي في دماغ الأنسان:"انعكاس" صحيح و"انعكاس" خاطئ. ولكن كيف نميز بين "الإنعكاس" الخاطئ والإنعكاس" الصحيح؟ هذا لم يشرحه لنا حسقيل قوجمان. وإذا كانت المعرفة هي مجرد "انعكاس" العالم الخارجي في دماغ الأنسان (كما تعكس المرآة ما يوضع أمامها) كيف يمكن ان يكون هذا "الإنعكاس" خاطئاً أحياناً إذا كنا لا نتحدث عن دماغٍ مشوش (أو مرآةٍ مكسورة)؟

لا أعتقد ان هناك اليوم من فلاسفة العلم من لا يزال يتمسك بنظرية "الإنعكاس" (Reflection) بالصورة الساذجة، البدائية والميكانيكية، التي يعرضها حسقيل قوجمان في مقاله عندما يقول: "إ ن المعرفة ما هي إلاّ انعكاس العالم الخارجي في دماغ الإنسان". دماغ الأنسان أثناء عملية "المعرفة" لا يقوم بدورٍ سلبي (Passive) (كالدور الذي تلعبه المرآة في عملية انعكاس الضوء) بل بدورٍ إيجابي (Active). عملية المعرفة هي تفاعل مشترك بين الأنسان والطبيعة. حتى لينين الذي دافع عن نظرية "الأنعكاس" (Reflection) في كتابه "المادية والنقد التجريبي"، الذي صدر عام 1908، تراجع فيما بعد عن ذلك، وفي "ملاحظاتٍ فلسفية" كتب يقول: "إن وعي الأنسان لا يعكس العالم فقط بل يخلقه أيضاً". (مقولة لينين هذه مقتبسة عن كتاب "الماركسية وفلسفة العلوم" لهيلينا شيهان).
لست خبيراً في هذا الموضوع، ولكن من يكتب اليوم عن "المعرفة" وعن "انعكاس العالم الخارجي في دماغ الأنسان" لا يمكنه ان يتجاهل التحديات الكبيرة التي تضعها إنحازات الفيزياء النظرية الحديثة، لاسيما فيزياء "الكوانتوم" أمام كل من يريد ان يبحث في نظرية "المعرفة". أنا أشير بصورة خاصة الى "مبدأ عدم التأكد" (Uncertainty Principle) ودور "المراقب" ("Observer") في العملية الفيزيائية: الألكترون الذي "يقرر" إذا كان "جزيئاً" أم "موجة" فقط في اللحظة التي يضع فيها "المراقب" جهاز الأختبار، و"قطة" شرودينجر المسكينة التي تبقى حيةً وميتة في آنٍ واحد الى أن يرفع "المراقب" الغطاء عن الصندوق الذي حبست فيه، هما فقط مثلان أثنان من التحديات التي تضعها نظرية الكوانتوم أمام الباحثين في نظرية "المعرفة".(آمل فقط أن لا أكون قد أسأت كثيراً الى الصرامة العلمية في محاولتي شرح أمورٍ لا أفهمها أنا بنفسي. عزائي الوحيد هو ما اعتاد ريشارد فاينمان، أحد كبار علماء الفيزياء في القرن العشرين، أن يقول: "أستطيع أن أجزم أنه ليس هناك من يفهم ميكانيك الكوانتوم").
* * *
هل يؤمن حسقيل قوحمان بوجود الله?
بفشل ذريع باءت كل محاولاتي لأقناع حسقيل قوجمان ان فهمه لمعنى القانون العلمي هو فهمٌ خاطئٌ من أساسه. كل حججي (وقائمة من الكتبٍ زوده بها الزميل جاسم الزيرجاوي) لم تزد حسقيل قوجمان إلاّ عناداً. حتى عندما قلت له انك تتكلم بلغةٍ لا يفهمك فيها أحدٌ سواك - رأى في هذا ثناءً. إزاء اصراره على موقفه (الذي يستند كما ذكرنا سابقاً الى ما كتبه أكبر محتالٍ في تاريخ الفكر الماركسي) لم يبق لي إلاّ أن أصل الى نتيجة مفاجئة: حسقيل قوجمان يؤمن بوجود الله.
بتاريخ 2011 / 8 / 26 نشر حسقيل قوجمان في "الحوار المتمدن" الجزء الثاني من مقالٍ عنوانه: "هل توجد قوانين طبيعية تتحكم في مسار الطبيعة والمجتمع؟"
لا أريد أن أشير هنا إلى كل النقاط غير الدقيقة في هذا المقال الذي يثير الكثير من عدم الأرتياح. "هذه مقالة لا تعبر إلا عن تشوش وبلبلة ذهنية وتناقض صريح" - كتب نعيم إيليا (شكراً على تضامنك، الزميل نعيم أيليا) في تعليقه.
في هذا المقال الغريب يقول حسقيل قوجمان: "ان القوانين الجارية في الطبيعة لا تتغير تغيرا محسوسا في فترات قصيرة. حتى التغيرات الطفيفة التي قد تحصل فيها تحصل بعد مرور ملايين السنين او ملياراتها".
انتبهوا جيداً الى ما يقوله حسقيل قوجمان: القوانين الطبيعية لا تتغير تغيرات محسوسة في فترات قصيرة. التغيرات في قوانين الطبيعة، حتى الطفيفة منها، قد تستغرق ملايين أو مليارات السنين.
حسقيل قوجمان لا يتحدث هنا عن استبدال قانون طبيعي خاطئ، أو قانون طبيعي لم يعد يتفق مع نتائج التجارب، بقانون طبيعي آخر يتفق بصورة أفضل مع نتائج التجارب.
حسقيل قوجمان يتحدث هنا عن تغيرٍ في القانون الطبيعي نفسه. القانون الطبيعي الذي كان سائداً في يومٍ من الأيام، ويتحكم في الظواهر الطبيعية وفق قواعد معينة، يتغير هو نفسه الى قانون طبيعي آخر يتحكم بصورة مغايرة بنفس الظواهر الطبيعية التي تحكم فيها القانون السابق. حسقيل قوجمان لا يقول إن أمراً كهذا مستحيل الوقوع. هو يحذرنا فقط من أن هذا التغير في القانون الطبيعي قد يستغرق وقتاً طويلاً.
هذا الكلام طبعاً هو بالضبط ما يسمى في اللغة الأنجليزية:nonsense (لا نريد ان نستخدم ترجمة فؤاد النمري لهذه الكلمة لأن ذلك قد يعد سرقةً أدبية).
القانون الطبيعي لا يتغير أبداً. المعنى الوحيد للقانون الطبيعي هو إنه لا يتغير أبداً. لا بملايين السنين ولا بمليارات السنين. القانون الطبيعي الذي يتغير هو ليس قانوناً طبيعياً (على الأقل لا باللغة التي نتكلم فيها نحن). من يتحدث عن قانون طبيعي قابل للتغير لا يتحدث عن قانون طبيعي بل عن شيئٍ آخر، أو إنه يتكلم، وهذا هو الأرجح، بلغةٍ لا نفهمها نحن.
هناك قوة واحدة فقط تستطيع نظرياً أن تغير قانون طبيعي. هذه القوة اسمها: الله.
هل حسقيل قوجمان يؤمن بوجود الله؟



#يعقوب_ابراهامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غوغاء لا حثالات ولا ثوار يقتحمون الباستيل
- إخفضوا رؤوسكم أنتم مصريون!
- ديالكتيكهم وديالكتيكنا - ستالينيتهم وماركسيتنا-1
- خطوة الى الوراء
- أي بيت فلسطيني تحتل يا يعقوب؟
- الخدعة الكبرى : نظرية التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي
- أنا إرهابي فخور
- كلنا رائد صلاح؟!
- خواطر وأفكار من وحي سالونيكي
- إنهيار نظرية المؤامرة الصهيونية
- حسقيل قوجمان يرسخ ولا يشك
- عودة الى خرافة الأشتراكية العلمية
- وطن لشعبين - يعقوب ابراهامي يرد على عماد عامل
- الرجل الذي يحارب بمدافع القرن ال-19
- أنا، أميل حبيبي وجورج حزبون
- خرافة الأشتراكية العلمية
- فهد والقضية الفلسطينية : ملاحظات نقدية
- فيتوريو بعد جوليانو
- يوم انحرفت الثورة المصرية عن مسارها
- وردتان على قبره


المزيد.....




- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - يعقوب ابراهامي - ديالكتيكهم وديالكتيكنا - ستالينيتهم وماركسيتنا-2