أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - المنفى ووطن الإبداع















المزيد.....

المنفى ووطن الإبداع


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 3415 - 2011 / 7 / 3 - 09:39
المحور: الادب والفن
    


المثقف وحس المنفى:
منذ أوفيد ( 43 ق.م ـ 17م )، ذلك الشاعر الروماني اللاتيني الذي نفي إلى منطقة نائية قرب البحر الأسود نتيجة غضب الامبراطور أوغسطين عليه ( بعد فترة إعجاب واحترام )، لأسباب تكاد تكون مجهولة حتى الآن، يجد كثر من المثقفين أنفسهم خارج أوطانهم، وخارج بيئاتهم الثقافية، وأحياناً خارج لغاتهم.. فمنذ ذلك الوقت ارتبطت مقولة المنفى بمقولات التاريخ ( وملابساته ) والسلطة ( وإكراهاتها، والتي لها صلة بقضايا الاستبداد والحرية ) والاستعمار ( وعقابيله ). وكذلك بمقولات اللغة والثقافة والهوية. بيد أن المثقف المنفي هو أحد علامات القرن العشرين بامتياز. وأحسب أن معضلة المنفى، على الرغم من جانبها المأساوي والحزين، أنتجت بعض أهم آثار الفكر والفن والأدب خلال المائة سنة الأخيرة. وهؤلاء الذين غادروا كانوا يشعرون بأنفسهم هامشيين، وغير مرغوب فيهم، وتحت طائلة المراقبة والاتهام والتهديد والعقوبة، لا لشيء إلاّ لأنهم يحملون أفكاراً وآراء ومعتقدات مختلفة عن تلك التي يحملها ذوي السلطة والنفوذ في بلدانهم. وهكذا ترك آلاف الكتّاب والمفكرين والرسامين والموسيقيين والنحاتين والمسرحيين والسينمائيين أماكنهم الأصلية الحميمة مرغمين.. كان ذلك نزيفاً روحياً وثقافياً لا يعوّض، غير أنهم، فيما بعد تحوّلوا إلى منارات أمل في ضمائر أولئك الذين بقوا.
يعد المنفى، فضلاً عن بُعده الجغرافي، حالة نفسية وذهنية وثقافية، جوهرها شعورك بأنك لست في مكانك، وهذا أمر يبعث على الأسى، وأحياناً على اليأس.. وتظل هذه الحالة غالباً مصاحبة للمنفي حتى بعد عودته للوطن الأم.. فالتجربة تخلّف جروحها الغائرة في الذاكرة والروح.. وقد يعود المنفي فيُفاجأ بأن المكان الذي تركه منذ زمن بعيد قد فقد، في الحاضر، ملامحه وهويته، وإنه ( أي المنفي العائد ) بات يشعر بأنه لا يزال في غير مكانه.. يتحدث إدوارد سعيد عن ثيودور أدورنو ( 1903 ـ 1969 ) الذي خرج من بلاده ألمانيا مطلع الثلاثينيات إبان صعود المد النازي راحلاً إلى إنكلترا ومنها إلى الولايات المتحدة، ليعود من ثم إلى فرانكفورت في 1949 كحالة نموذجية للمثقف المنفي حيث وسمته السنوات التي أمضاها في أمريكا بعلامات المنفى إلى الأبد.. لم يستسغ هناك موسيقى الجاز، والأفلام الأمريكية، وعادات الحياة اليومية في تلك البلاد الواسعة، ونمط التعليم فيها، القائم على الواقعية المسطحة. ومَقَتَ براغماتية سياسة حكوماتها.. كان بحسب إدوارد سعيد "المثال الأكمل للمثقف، يكره كل الأنظمة أكانت في جانبنا أو في جانبهم، بنفور متساوٍ".
تصبح الأمكنة كلها غريبة، ويكون على المثقف المنفي التعاطي معها. وبتصوير سعيد فإن ذلك المثقف أشبه ما يكون "بإنسان نجا من سفينة غارقة، يتعلم كيف يعيش بمعنى ما مع الأرض، لا عليها، لا مثل روبنسون كروزو، الذي كان هدفه استعمار جزيرته الصغيرة، بل أقرب إلى ماركو بولو الذي لا يخذله أبداً حسن تقديره للروائع، وهو مسافر دائم وضيف مؤقت، لا طفيلياً، أو فاتحاً أو مغيراً". وإذن، لا مثل مصطفى سعيد بطل رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال ) للطيب صالح، هو الذي حل في الحاضرة المتروبولية ( لندن ) مفعماً بهاجس الانتقام والثأر من المستعمرين على طريقته الخاصة، الذكورية البدائية. في المقابل تصير الكتابة، من وجهة نظر أدورنو، لمن لا وطن لهم مكاناً للعيش.
يغيّر المكان الجديد طبيعتنا ونظرتنا إلى أشياء العالم.. تقول الكاتبة الفرانكفونية إيتيل عدنان: "لا يمكن أن نكون الشخص ذاته في الأماكن المختلفة".. هذا يجعلنا نكوّن وعينا وهويتنا في ضوء ما نخوض من تجارب، وفي ضوء ما نرى ونشهد.. ينعكس التأثير على الرؤية والحساسية، ومن ثم على الأسلوب. وحتى لو بقيت موضوعات الكاتب والفنان مستقاة من متن تاريخه الشخصي وتاريخ مجتمعه، ومن واقع أمكنته القديمة فإنه لابد من أن يطل عليها من زاوية أخرى، ومن منظور مغاير. وعند التعبير إبداعياً بلغة ثانية غير اللغة الأم يكتسب العمل الإبداعي طابعاً ونكهة غير مألوفين. فلكل لغة نظامها وروحها وإيقاعها وظلالها الخاصة.
الإقامة في منطقة الإبداع:
يعيش الكاتب التركي نديم غورسيل في باريس لكنه يكتب باللغة التركية. وهذا ما يجعله يشعر بأنه قريب من عالمه الأول الذي ينتمي إليه روحياً، وهو هنا مدينته أسطنبول. وغورسيل يدرك أنه يعاني نوعاً من الانقسام على الذات، أو الشيزوفرينيا بوجوده في باريس من جهة وجعله اسطنبول، المدينة التي لا يرغب بالعودة إليها موضوعاً لأدبه السردي ومكاناً لفعل وحياة شخصياته من جهة ثانية.. يقول؛ "والعزاء في هذا الانقسام أنني أتمكن من مواصلة الكتابة باللغة التركية من خلال عيشي في باريس، ووطني الحقيقي هو لغتي".
يفرض المنفى على المرء العزلة، لكن الكتابة التي خالها أدورنو وطناً للعيش تكسر حاجز تلك العزلة وتؤسس لمشاركة إنسانية ذات طابع فريد.. يفلسف غورسيل المسألة هكذا؛ "إن فن الكتابة نفسه يتضمن فعل العزلة، ولكن أن تقرأ يتضمن نوعاً من المشاركة مع هذه العزلة. وهكذا عندما يُنشر كتابك لم يعد يخصك، بل ينتمي إلى القراء، وهكذا فأنت لست في المنفى ولست في عزلة".
في كتابه ( الوصايا المغدورة ) يتحدث ميلان كونديرا عن الكاتب البولوني كازيمييرز برانديس الذي أقام في باريس منذ 1981.. لم يكتب بغير البولونية، لكنه، وبعد عام 1989، وزوال علّة بقائه خارج بلاده، ارتأى عدم العودة، مفضِّلاً الغربة.. لماذا؟!. يُرجع كونديرا السبب إلى ما يسمّيه المشكلة الفنية للمهاجر؛ "أوزان الحياة المتساوية كمياً ليس لها الثقل نفسه عندما تنتمي لسن الشباب أو لسن النضج". يعاني الروائي أو الفنان، أكثر من الطبيب في سبيل المثال، تمزقاً في بعده عن المكان الذي يتصل به خياله وذاكرته وهمومه الفكرية. وهنا يجب عليه كما يقول كونديرا "أن يستجمع كل قواه، كل براعته الفنية ليحوِّل مساوئ هذه الحالة إلى ورقة رابحة".
من النافل القول أن المهاجرين أو المنفيين تتملكهم النوستالجيا، بدرجات متفاوتة.. هذا الحنين المؤلم إلى الوطن يمازجه عذاب الاغتراب. لكن في النهاية يبقى قرار العودة معلّقاً. "فما كان غريباً عنّا يغدو، شيئاً فشيئاً، أليفاً وأثيراً". ووحدها العودة تضعنا في مواجهة المعضلة التي هي وجودية في الصميم.. يفكر كونديرا بكاتب بولوني منفي آخر ( غومبروفيتش ) الذي رفض رؤية بولونيا مجدداً:: يقول؛ "إن الأسباب الحقيقية للرفض ليست إلاّ وجودية ( حياتية ) وعصيّة على القول. عصيّة على القول لأنها مفرطة الحميمية. وعصيّة على القول أيضاً، لأنها جارحة بحدّة للآخرين. ثمة كثير من الأشياء لا يملك المرء أمامها إلاّ السكوت". إن مسرّات المنفى وأوجاعه تفرض على المرء، لاسيما المبدع، الإقامة الروحية في منطقة ما خارج المكان الجغرافي.
استشهد إدوارد سعيد، مراراً، بمقولة للراهب هوجو مؤداها أن الشخص القوي يرى في كل أرض أرضه، فيما الشخص الكامل هو من تعد كل أرض في نظره أجنبية.. يطغي حس المنفى، أحياناً، عند بعضهم، بقوة، حتى وهم في مواطنهم الأصلية.. هكذا ألِف نفسه الكاتب الروسي المهاجر أندريه ماكين؛ "كنت أشعر بنفسي منفياً حتى في روسيا".. يتصل هذا الأمر بالتجربة الذاتية للمرء وظلالها على تاريخه ووعيه، ومشاعره.. وطبيعة التجربة هي التي تجعل الطاهر بن جلون، الكاتب المغربي الذي يعيش في باريس، ويكتب بالفرنسية، يقول؛ "بالنسبة لي لا يوجد منفى. ولكن هناك انزياح عن المكان.. ابتعدت عن الواقع المغربي لكي أراه بعين أفضل".
أمضى الموسيقي الروسي سترافنسكي أكثر من ثلثي عمره خارج بلاده ليجد موطنه أخيراُ، برأي كونديرا، في الموسيقى، مثلما وجده أدورنو في الكتابة.. إن حياة المرء، وبالتالي إبداعه سيكونان شيئين مختلفين لو قيّض له البقاء في موطنه ومسقط رأسه. من هنا تتشعب فكرة الانتماء لدى المبدع المهاجر.. تتوزع على وفق ولاءات مختلفة عديدة، تتناغم في العمق مشكِّلة هذه التراجيديا المذهلة، الآسرة والثرية التي هي حياة المبدع المنفي: الولاء للوطن الأم.. الولاء للوطن الجديد/ الحاضنة.. الولاء لوطن الإبداع. وهذه كلها تولِّد ولاءً واسعاً عميقاً للإنسانية، لا يحدّه حد.
المصادر:
1ـ ( صور المثقف ) إدوارد سعيد.. ترجمة غسان غصن.
2ـ ( منفى اللغة؛ حوارات مع الأدباء الفرانكفونيين ) شاكر نوري.
3ـ ( الوصايا المغدورة ) ميلان كونديرا.. ترجمة معن عاقل.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفرانكفونية: منفى اللغة وصراع الثقافات
- سخط
- بإهمالنا القصة القصيرة نُحدث ثلمة مؤسية في جدار ثقافتنا
- -السرد والكتاب-: السيرة النظرية لمحمد خضير
- آليات الكتابة السردية
- الغبش
- سيرة ظل
- ثورة الشباب العربي: حول أدوار المثقفين
- الثقافة التحتية ومثقفو الهوامش
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 9 وجهتا نظر عربيتان
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 8 غودولييه.. جوناثان ري.. وآ ...
- ثورة الشباب العربي: الدخول في عصر ما بعد الحداثة
- موسم سقوط الثقافة السياسية الفاشية عربياً
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 7 كاسترياديس.. جون مولينو
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 6 ألتوسير.. ريجيس دوبريه
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 5 سارتر والماركسية
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 4 مدرسة فرانكفورت ونقد أسس ا ...
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 3 غرامشي.. لوكاش
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 2 من كاوتسكي ولينين إلى الست ...
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية: 1 مدخل


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - المنفى ووطن الإبداع