أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - الأسباب الجيدة والسيئة للإيمان... ريتشارد دوكينز















المزيد.....


الأسباب الجيدة والسيئة للإيمان... ريتشارد دوكينز


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2972 - 2010 / 4 / 11 - 01:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


* تعريف
هذه الرسالة هي رسالة أرسلها البروفسور ريتشادر دوكينز إلى ابنته في عيد ميلادها العاشر، أرجو أن يستفيد منها القرّاء الأعزّاء وأن يعلّموا أولادهم طريقة التفكير هذه عسى أن تكون الأجيال القادمة أفضل ويكون عالمها أفضل من عالمنا الحالي، خالياً من التنانين والأشباح.
*** *** ***
عزيزتي جولييت
لقد بلغتِ الآن سنّ العاشرة، أريد بهذه المناسبة أنّ أكتب لك عن شيء هام جداً بالنسبة لي. هل تساءلتِ يوماً عن كيفية معرفتنا بالأشياء التي نعرفها؟ كيف نعرف على سبيل المثال أنّ النجوم، تلك النقاط الصغيرة البرّاقة في سماء الليل، هي كرات عملاقة من النار كالشمس وبعيدةً جداً عنا؟ وكيف نعرف أنّ الأرض هي مجرّد كرة صغيرة تدور في مدار حول أحد تلك النجوم: الشمس؟ الجواب عن هذه الأسئلة هو "الدليل والبرهان". في بعض الأحيان يعني الدليل الرؤية فعلياً (أو السمع، الشعور، الشم...) وهذا صحيح إلى حدٍ ما. لقد سافر روّاد الفضاء إلى مسافة بعيدة جداً عن الأرض ليروا بأمّ أعينهم أنها كروية. في بعض الأحيان تحتاج عيوننا إلى المساعدة. "فنجمة المساء" تبدو أكثر لمعاناً وبريقاً في السماء، لكنها عند رؤيتها من خلال التلسكوب سترين أنّها عبارة عن كرة جميلة _ كوكب نطلق عليه اسم فينوس/ الزهرة. إنّ عملية التعلّم وتحصيل المعرفة عن طريق الرؤية المباشرة (أو السمع أو الشعور...) يطلق عليها اسم "الملاحظة".
معظم الأحيان لا ينحصر معنى الدليل في الملاحظة فقط، لكنّ الملاحظة دائماً تكمن خلفه الدليل. إذا وقعت جريمة ما، غالباً لا يلاحظها أحد (باستثناء القاتل والضحيّة!). لكن بإمكان المحقّقين جمع الكثير من المشاهدات والملاحظات والتي تشير جميعها إلى مشتبه معيّن. فإذا كانت بصمات أنامل شخص ما تتطابق مع تلك الموجودة على الخنجر، فذلك دليل على أنّه لمسه بشكلٍ ما. هذا لا يثبت أنه ارتكب الجريمة، لكنّه قد يساعد عندما يتمّ إضافته إلى مجموعة من الدلائل الأخرى. في بعض الأحيان قد يفكّر أحد المحقّقين حول مجموعة كاملة من الملاحظات وفجأةً يدرك أنها تتجمّع مع بعضها بشكل منطقي تسلسلي يستطيع من خلالها أن يعرف من الذي ارتكب الجريمة ومن لم يرتكبها.
العلماء _الخبراء في اكتشاف حقيقة العالم والكون_ غالباً ما يكون عملهم شبيهاً بعمل المحقّقين. إنّهم يفترضون أمراً (يدعى فرضية) حول مسألة ينطلقون من بأنها حقيقية صحيحة. ثمّ يقولون لأنفسهم: إذا كان ذلك حقيقياً، علينا أن نرى النتائج التالية تحدث على الشكل التالي، كذا وكذا. ويسمّى هذا بالتوقّع. مثلاً، إذا كان العالم كروياً حقاً، فبإمكاننا التوقّع أنّ المسافر الذي سيسافر في خطّ مستقيم، يجب أن يجد نفسه في النهاية في النقطة التي انطلق منها. وعندما يقول الطبيب أنك تعانين من الحصبة، فإنّه لن يلقي عليك نظرة واحدة ويقول لك بأنك مصابة بالحصبة. ما يحدث هنا أنّ نظرته الأولى تساعده في تكوين فرضية بأنك قد تكونين مصابةً بهذا المرض. ثمّ يقول لنفسه: إذا كانت مصابةً بالحصبة فيجب أن ألاحظ الأعراض التالية.... ثمّ يمرّ على قائمة توقّعاته ويفحصها بعينيه (هل هناك طفح جلدي؟) ثمّ بيديه على جبهتك (هل حرارتك مرتفعة؟) ثمّ بأذنيه (هل يصدر من صدرك صوت أزيز؟). وعندها فقط يتّخذ قراره ويقول: "تشخيصي يقول أنّ الطفلة مصابة بالحصبة". في بعض الأحيان يحتاج الأطبّاء ليقوموا بفحوصات أخرى كتحليل الدم أو التصوير بالأشعّة السينية، والتي تساعد أعينهم وأيديهم وآذانهم ليقوم بالمراقبة.
إنّ الطريقة التي يستخدم فيها العلماء الأدلّة للتعرّف على العالم أكثر ذكاءً وأكثر تعقيداً من أن أتكلّم عنها في رسالة قصيرة. ولكن الآن أريد أن أنتقل من الدليل، والذي هو سبب جيّد للاعتقاد بصحّة شيء ما، وأحذّرك من ثلاثة أسباب سيئة للاعتقاد أو الإيمان بصحّة أي شيء. إنها تسمّى "التقاليد"، "السلطة"، "الإيحاء".
أولاً، التقاليد: منذ بضعة أشهر، ظهرت على التلفزيون لأتحاور مع حوالي خمسين ولداً. هؤلاء الأولاد تمّت دعوتهم لأنهم قد ترّبوا في بيئات دينية مختلفة. بعضهم كان قد تلقى تربية مسيحية، بعضهم يهود، هندوس، أو سيخ. كان الرجل الذي يحمل ميكروفوناً ينتقل من طفل إلى آخر ويسألهم عمّا يؤمنون به. وما قالوه يظهر بالضبط ما أعنيه بالتقاليد. تبيّن أنّ معتقداتهم لا تمّت للدليل بصلة. هم فقط ورثوا وتشرّبوا معتقدات آبائهم وأجدادهم، والتي هم بدورهم لم يتناولوها من خلال الدليل. كانوا يقولون أموراً مثل: "نحن الهندوس نؤمن بكذا وكذا"، "نحن المسلمون نؤمن بهذا وذاك"، "نحن المسيحيون نؤمن بشيء آخر مختلف".
طبعاً، بما أنهم كانوا يؤمنون بأشياء مختلفة، لا يمكنهم لجميعهم أن يكونوا على حق. أمّا المذيع بدا أنه يشرع في الاعتقاد بأنّ هذا صحيح وذاك أصحّ، ولم يحاول على الأقل جعلهم يناقشون اختلافاتهم مع بعضهم البعض. ولكن ليس هذا هو المهم الذي أريد أن أتكّلم عنه هنا الآن. أريد أن أسأل ببساطة من أين أتت أفكارهم ومعتقداتهم؟ لقد جاءت عن طريق الأعراف والتقاليد. تعني "التقاليد" المعتقدات التي تنتقل من الأجداد إلى الآباء إلى الأولاد، ثمّ إلى الأجيال التالية. أو عن طريق كتب تتناقلها الأجيال عبر القرون. المعتقدات التقليدية غالباً ما تنشاً من لا شيء هام، ربّما اختلقها أحدهم من قبيل التسلية أو العبرة أصلاً، مثل القصص عن ثور زيوس. ولكن بعد أن يتمّ تناقلها عبر القرون، فحقيقة أنها أصبحت قديمة جداً تجعلها تبدو مميّزة. يؤمن البشر بأشياء معيّنة ببساطة لأنهم آمنوا بالأشياء ذاتها على مدى قرون عديدة. وهذه هي التقاليد.
المشكلة في التقاليد أنها _بغضّ النظر عن الفترة الزمنية التي مرّت على اختلاقها_ ما زالت تتمتّع بنفس الصحّة الموثوقية التي كانت تتمتّع بها القصص الأصلية. إذا ألّفت قصّة ما غير صحيحة، فجعلها تمرّ بمجموعة من الأجيال على مرّ القرون لا يجعلها حقيقية أيضاً.
معظم الناس في بريطانيا تمّ تعميدهم في الكنيسة الإنكليزية, لكنّها واحدة من الفروع الكثيرة للديانة المسيحية. هناك أفرع وطوائف أخرى كالكنيسة الروسية الأرثوذوكسية، الرومانية الكاثوليكية، والكنائس المنهجية. وجميعها تؤمن بأفكار مختلفة. الديانة اليهودية والديانة الإسلامية مختلفتان بعض الشيء، وهناك أنواعاً مختلفة من اليهود والمسلمين. الناس الذين يؤمنون حتى بأشياء لا تختلف كثيراً جداً عن بعضها البعض يخوضون حروباً طاحنة من أجل تلك الاختلافات. لذا قد يعتقدون أنّهم لا بد وأن يكون لديهم أسباباًَ جيّدة لحروبهم وللإيمان بأفكارهم. لكن في الحقيقة، إنّ معتقداتهم المختلفة سببها العادات والتقاليد المختلفة.
لنتكلّم قليلاً عن تقليد معيّن. الروم الكاثوليك يعتقدون أنّ ماري، والدة يسوع، كانت متميّزة جداً حتى أنها لم تمت بل صعدت بجسدها إلى السماء. إلا أنّ هناك بعض الطوائف المسيحية التي تخالف هذا الرأي، وتقول أن ماري ماتت ككل الناس. تلك الطوائف الأخرى لا تتحدّث عن هذه المسألة كثيراً، على العكس من الروم الكاثوليك، حتى أنهم لا يطلقون عليها لقب "ملكة السماء Queen of Heaven". إنّ المعتقد الذي يقول أنّ جسد ماري صعد إلى السماء ليس معتقداً قديماً. لا يقول الإنجيل أي شيء عن الطريقة التي ماتت بها، في الواقع، بالكاد ورد ذكر هذه المرأة المسكينة في الكتاب المقدّس. إنّ الاعتقاد بأنّ جسدها صعد إلى السماء تمّ اختراعه بعد مضي ستة قرون على عهد يسوع. في البداية، تمّ ابتكاره فحسب، بنفس الشكل الذي تمّ فيه ابتكار قصّة "بياض الثلج". لكن وعلى مرّ القرون، نمت القصّة وتجذّرت حتى أصبحت معتقداً وعرفاً وبدأ الناس بأخذها على محمل الجد لأنّ القصّة وببساطة شديدة تمّ تناقلها من خلال عدّة أجيال. كلّما أصبح عمر المعتقد أكبر، كلّما ازداد ولع الناس بأخذه على محمل الجد. ثمّ في النهاية تمّ تدوينه مؤخّراً كاعتقاد روماني كاثوليكي رسمي، في عام 1950، عندما كنت في مثل سنك تقريباً. لكنّ القصّة لم تكن بهذه الدرجة من الصّحّة عام 1950 أكثر ممّا كانت قبل ذلك، أي عندما تمّ ابتكارها للمرّة الأولى.
سأعود إلى موضوع التقاليد في نهاية رسالتي، وأنظر إليها بطريقة أخرى. لكن أولاً، عليّ أن أتعامل مع السببين السيئين الآخرين للإيمان بأي شيء: السلطة والوحي.
السلطة، كسبب للإيمان بشيء ما، يعني الإيمان به لأنه تمّ إخبارك بالإيمان به من قبل شخص ما مهم. في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، البابا هو الشخصيّة الأهم، والناس يرون أنه معصوم عن الخطأ فقط لأنه البابا. في أحد الطوائف الإسلامية، نلاحظ أنّ أهمّ الناس هم أولئك الكبار في السن الملتحين الذين يطلق عليهم اسم "آية الله". معظم المسلمين في هذا البلد مستعدّين للقتل، فقط لأنّ آية الله في بلد بعيد أمرهم بالقيام بذلك.
عندما قلت أنه في العام 1950 أقرّت كنيسة الروم الكاثوليك الإيمان بأن ماري والدة يسوع صعدت بجسدها إلى السماء، ما أعنيه هنا هو أنّه في العام 1950، أخبر الباب الناس أنّهم يجب أن يؤمنوا بذلك. وهكذا تمّ الأمر. قال البابا أنّ هذه حقيقة، لا يجب أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة!. الآن، على الأرجح أنّ بعض الأمور التي أخبرها البابا على مدى سنوات قد تكون صحيحة وبعضها قد يكون خاطئاً. لكن ليس هناك أي سبب منطقي جيد يدفعك للإيمان المطلق بأنّ أي شيء يقوله البابا صحيح، فقط لأنّ البابا نطق به. البابا الحالي (1995) أمر أتباعه بعدم اتباع قانون "تحديد النسل" أي بألاً يحدّوا من عدد أطفالهم. إذا اتبع الناس هذه السلطة بالشكل الخاضع الذي كان يتمنّاه، ستكون النتيجة مجاعات فظيعة، أمراض، وحروب، سببها الازدحام السكاني في العالم ومحدودية المصادر.
طبعاً، حتى في العلم، في بعض الأحيان لا نتمكّن نحن العلماء من رؤية الدليل بأنفسنا، وبذلك نكون ملزمين بأن نأخذ كلام أحد ما. أنا لم أرى بأمّ عيني أنّ الضوء يسافر بسرعة 186000 ميل في الثانية الواحدة. إلا أني أصدّق الكتب التي تقول لي أنّ الضوء يسافر بهذه السرعة. فهذا شبيه "بالسلطة". لكن في الواقع، هذه السلطة أفضل بكثير من السلطة التقليدية، لأنّ الذين ألّفوا الكتب قد رأوا الدليل والجميع أحرار في مراجعة ما كتبوا والتحقّق منه ورؤية الأدلّة بأنفسهم في أي وقت يشاؤون. هذا أمر يبعث على الراحة. لكن في الجانب الآخر لا يمكن حتى للكهنة ورجال الدين الادّعاء أنّ هناك أي دليل يدعم قصصهم عن صعود ماري بجسدها إلى السماء.
النوع الثالث من الأسباب السيئة للإيمان بصحّة أي شيء يطلق عليه تسمية "الإيحاء أو الوحي". لو سألتِ البابا عام 1950 عن كيفية معرفته بأنّ ماري صعدت بجسدها إلى السماء، لكان ردّه على الأرجح أنّ ذلك قد "أوحي" إليه. أغلق على نفسه في غرفة معزولة وصلّى راجياً الهداية والإرشاد الإلهي. فكّر وفكّر، لوحده، وأصبح مقتنعاً أكثر فأكثر داخل نفسه. عندما يشعر المؤمنون بإحساس غريب في داخلهم بأنّ شيئاً ما صحيح وحقيقي، حتى وإن لم يكن هناك أي دليل على صحّته، فإنهم يطلقون على شعورهم ذاك تسمية "الوحي". ليس فقط آ باء الكنيسة هم وحدهم الذين يدّعون الوحي، بل هناك الكثير من الناس المتديّنين يفعلون ذلك. إنّه السبب الرئيسي الذي يؤمنون من أجله. لكن هل هو سبب جيّد وكافٍ؟
افترض بأني أخبرتكِ أنّ كلبكِ ميّت. ستنزعجين كثيراً، وعلى الأرجح ستقولين: "هل أنت متأكّد؟ كيف عرفت ذلك؟ كيف حدث ذلك؟" لنفترض الآن أنّي قد أجبت "أنا لا أعرف بالضبط إذا كان كلبك ميّت. ليس لديّ أيّ دليل. لقد شعرت بشعور غريب في داخلي يخبرني بأنّه ميّت". عندها ستغضبين جداً مني وتمتعضين لأني أخفتك لهذه الدرجة، لأنك ستعرفين أنّ الإحساس أو الشعور الداخلي لوحده ليس سبباً كافياً للاعتقاد بأنّ كلبكِ ميّت. أنتِ بحاجة إلى دليل. نحن جميعاً نمرّ بتجربة المشاعر والأحاسيس الداخلية بين فترة وأخرى، في بعض الأحيان يتبيّن لنا أنها كانت صحيحة، وفي أحيان أخرى تكون العكس. بأيّة حال، تختلف المشاعر الداخلية باختلاف البشر، إذن كيف لنا أن نحدّد من مشاعره الحقيقية ومن المخطئة؟ والطريقة الوحيدة للتأكّد من أنّ الكلب ميّت هي أن نراه ميتاً بأمّ أعيننا، أو أن نستمع إلى قلبه لنتأكّد بأنه قد توقف عن الخفقان؟ أو أن نستمع إلى أحد كان قد سمع أو رأى دليلاً حقيقياً يثبت موت الكلب.
يقول الناس في بعض الأحيان أنّني يجب أن أؤمن بمشاعري الداخلية، وإلا، فإني لن أكون واثقاً من أي شيء على سبيل المثال "هل زوجتي تحبّني حقاً؟". لكنّ هذه الحجّة هي حجّة رديئة وضعيفة. يمكن أن يكون هناك عدد كبير من الأدلّة والبراهين التي تشير إلى أنّ أحداً ما يحبّك. فخلال اليوم الذي تقضينه من الشخص الذي يحبّك ستلاحظين الكثير والكثير من الدلائل والإشارات التي تشير إلى محبّته لك. وهذا ليس شعوراً أو إحساساً داخلياً بمعنى الكلمة، كالإحساس الذي يطلق عليه رجال الدين تسمية "الوحي". هناك أمور خارجية كثيرة يمكن أن تدعم الشعور الداخلي، كالنظرات المتبادلة، نغمات لطيفة في الصوت، طريقة المعاملة واللطف، جميعها دلائل حقيقية.
في بعض الأحيان يشعر الناس بشعور قوي في داخلهم يخبرهم أنّ أحداً ما يحبّهم ولا يكون شعورهم قائماً على أي دليل، ثمّ يتبيّن أنهم كانوا مخطئين بالكامل. هناك أناس لديهم شعور داخلي قوي يخبرهم أنّ النجم السينمائي الفلاني يحبّهم، أمّا الواقع هو أنّ ذلك النجم لم يسبق أن قابلهم في حياته. هؤلاء الناس مرضى عقليين. المشاعر الداخلية يجب أن تكون مدعومة بالدلائل، أمّا غير ذلك فلا يمكنكِ أن تؤمني بها.
المشاعر والأحاسيس الداخلية لها أهمّيتها في العلم أيضاً، ولكن تنحصر أهمّيتها في أن تمنحك أفكاراً تتحقّق منها لاحقاً بالبحث عن دلائل لها. قد يشعر العالم بشعور غريب بشأن فرضية معيّنة بأنها صحيحة. وهذا الأمر بذاته، ليس سبباً كافياً للاعتقاد به. لكنه قد يكون سبباً جيداً للمضيّ بإجراء بعض الاختبارات والتجارب. يستخدم العلماء إحساسهم الداخلي في جميع الأوقات للحصول على أفكار جيدة. لكنّ تلك الأفكار لا تساوي شيئاً حتى يتمّ إثبات صحّتها بالدليل والبرهان القاطع.
وعدتك من قبل أني سأعود للتكلّم عن التقاليد، وأنظر إليها من وجهة نظر مختلفة. أريد أن أحاول تفسير لماذا التقاليد والأعراف على هذه الدرجة من الأهمية بالنسبة إلينا. جميع الحيوانات مصمّمة (عن طريق عملية تسمى بالتطوّر) للبقاء في الوسط الطبيعي الذي يعيش فيه كافّة أقرانها الأخرى. الأسود مصمّمة أن تبقى في سهول أفريقية. جراد البحر مصمّم أن ينجو في المياه العذبة النقيّة، بينما السلطعون مصمّم للبقاء في المياه المالحة. البشر كائنات حيّة أيضاً، ونحن مصمّمون على البقاء والنجاة في عالم مليء بالــ... بالبشر الآخرين. معظمنا لا يؤذي البشر الآخرين من أجل الحصول على الغذاء كما تفعل الأسود والسلطعونات، فنحن نشتريه من أناس آخرين جاؤوا به هم بدوهم من أناس آخرين. نحن "نسبح" عبر "بحر من الناس". وكما تحتاج السمكة إلى الخياشيم للبقاء في الماء، يحتاج البشر إلى العقول والأدمغة التي تجعلهم قادرين على التعامل مع البشر الآخرين. وكما أنّ البحر مليء بالمياه المالحة، فإنّ بحر البشر مليء بالعقبات التي يصعب تعلّمها. كاللغة مثلاً.
أنتِ تتكلّمين اللغة الإنكليزية، لكنّ صديقتك آن كاثرين تتحدّث الألمانية. كلّ واحدةٍ منكما تتحدّث اللغة التي تساعدها في التكيّف والبقاء في البحر البشري الخاص بكلّ واحدةٍ منكما. يتمّ تناقل اللغة عن طريق التقاليد. وهناك الآن طريقة أخرى. في بريطانيا، يسمّى الكلب "Dog" أمّا في ألمانيا يسمّى "ein Hund". كلا الكلمتين صحيح وحقيقي تماماً. وقد تمّ تناقل الكلمتين من جيل إلى آخر ببساطة. ولكي يكونوا جيّدين في السباحة خلال البحر البشري يجب على الأولاد أن يتعلّموا لغة بلدهم الخاصّة، والعديد من الأشياء الأخرى المتعلّقة بأبناء بلدهم، وهذا يعني أنهم يجب أن يمتصّوا _كما يفعل الإسفنج_ كمّيّة كبيرة من المعلومات التقليدية. (تذكّري جيداً أنّ المعلومات التقليدية تعني الأشياء التي يتمّ تمريرها وتوريثها من الأجداد إلى الآباء ثم الأولاد). يجب أن يتمتّع دماغ الأولاد بقابلية للامتصاص للمعلومات التقليدية. ولكن ليس متوقعاً من الأولاد أن يتمكّنوا من التفرقة بين التقاليد الجيّدة والمفيدة كتعلّم اللغة، وبين التقاليد السيئّة والسخيفة كالإيمان بالساحرات والشياطين والحوريات.
إنه أمر محزن، لكنه أمر هام ومحوري، أنّ الأولاد يجب أن يتمتّعوا بالقدرة على امتصاص المعلومات التقليدية، فإنهم يميلون إلى الإيمان بأيّ شيء يخبرهم إيّاه الكبار، سواءً أكان سيئاً أو جيداً، صحيحاً أم خاطئاً، حقيقياً أم مزيّفاً. أغلب الأشياء التي ينقلها الكبار إلى الصغار حقيقية وقائمة على الأدلّة، أو على الأقل معقولة. لكن إذا كانت تلك الأشياء زائفة، خاطئة، سخيفة، أو حتى منحرفة، فليس هناك أي شيء يمكنه ردع الأولاد من الإيمان بها. والآن عندما يكبر الأولاد، ما الذي يفعلونه؟ حسناً، طبعاً إنهم ينقلون هذه المعلومات التقليدية إلى الجيل التالي من الأولاد. لذا، ما أن تترسّخ أية فكرة كمعتقد يؤمن به الناس _حتى وإن كان هذا المعتقد خاطئاً بالكامل ولم يكن هناك أي سبب معقول للإيمان به_ فإنه سيستمرّ إلى الأبد.
هل يمكن أن يكون الأمر نفسه مع الدين؟ الإيمان بأنّ هناك إله أو آلهة، الإيمان بالسماء، الإيمان بأنّ ماري لم تمت، والإيمان بأنّ يسوع لم يمت ولم يكن له والد بشري، الإيمان بأنّ الصلوات يسمعها الله، الإيمان بأنّ النبيذ قد يتحوّل إلى دم... ولا واحد من هذه المزاعم مدعوم بدليل أو برهان قاطع. ومع ذلك هناك ملايين الناس الذين يؤمنون بها إيماناً مطلقاً. وربّما سبب ذلك أنه قد تمّ إخبارهم عندما كانوا أطفالاً بالإيمان بها.
هناك الملايين من البشر الذين يؤمنون بأشياء مختلفة أخرى، لأنهم تمّ إخبارهم بتلك الأشياء ليؤمنوا بها عندما كانوا أطفالاً. الأطفال المسلمين يتمّ إخبارهم أشياء مختلفة عن الأطفال المسيحيين، والأطفال من كلا الديانتين يكبرون وهم مؤمنين بأنّ ديانتهم الصحيحة والأخرى خاطئة. حتى داخل المسيحية، يؤمن الروم الكاثوليك بأمور مختلفة عن الكنيسة البريطانية أو الأسقفيون، المورمون أو المتحمّسون الدينيّون، والكل مقتنع تماماً بأنهم الأحق والآخر على خطأ. إنهم يؤمنون بأشياء مختلفة لنفس السبب الذي يجعلك تتحدّثين أنتِ باللغة الإنكليزية وصديقتك آن كاثرين باللغة الألمانية. لكن قد يصحّ أيضاً أنّ الديانات المختلفة صحيحة في بلدانها، لأنّ الديانات على اختلافها تزعم أنّ الأشياء المختلفة صحيحة. لا يمكن لماري أن يكون حيةً في إيرلنده الجنوبية الكاثوليكية، لكنها ميتة في إيرلنده الشمالية البروتستانتية.
ماذا يمكننا أن نفعل حيال هذا الأمر؟ ليس سهلاً بالنسبة لكِ أن تفعلي شيئاً، لأنك في العاشرة فقط. لكن بإمكانك محاولة ذلك. في المرّة القادمة عندما يخبرك أي أحد أي شيء يبدو هاماً، فكري بينك وبين نفسك: "هل هذا الشيء من النوع الذي يؤمن به الناس بناءً على دليل وبرهان؟ أم أنّه يؤمن به الناس بسبب التقاليد، السلطة، والوحي؟" وفي المرّة القادمة التي يخبرك فيها أحد ما أنّ شيئاً ما حقيقياً، باستطاعتك أن تقولي لهم "ما الدليل على ذلك؟" وإذا لم يكن هناك دليل جيد وكافٍ، آمل أن تفكّري بحذر قبل أن تؤمني بأي شيء يخبرك به الناس.
أحبك جداً
والدك.



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما الفائدة من الدين؟... ريتشارد دوكينز
- أكذوبة الإصلاح الإسلامي... Ali Sina
- جدال حول القرآن... حوار مع كريستوف لوكسنبرغ
- فلسفة الإلحاد... إيما غولدمان
- هل الإسلام دين أم طائفة؟
- هل تحسّن وضع المرأة في الإسلام؟؟... Ali Sina
- تصوّري!!... Ali Sina
- هل جاء محمد بأية معجزة؟
- مرور الكرام: ردود على قرّاء مقالة -حدث ذات مرة في مكة-
- حكى يوسف البدري... وانشرح صدري
- حدث ذات مرّة في مكّة
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة العاشرة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة التاسعة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الثامنة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السابعة)
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 2
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 1
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الخامسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الرابعة)


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - الأسباب الجيدة والسيئة للإيمان... ريتشارد دوكينز