أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة التاسعة)















المزيد.....



الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة التاسعة)


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2914 - 2010 / 2 / 11 - 23:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


(( الله والمعرفة ))

في هذه الحلقة سنقرأ عن الفلسفة في العصور الوسطى... تصنيف التفكير الفلسفي والإيمان الديني... لماذا كانت الكتابات القديمة [المقدّسة] على هذه الدرجة من الأهمية؟... رؤية المعنى الحقيقي والخفي للعالم... الجدل حول الحقيقة... الرسالة الخفية وراء المنطق الوسيطي...

في الأيام الأخيرة من عمر الإمبراطورية الرومانية وخلال العصور الوسطى، كان الله يظهر في كلّ مكان. ففي كافة بلدان حوض المتوسّط وكافة أرجاء القارة الأوروبية آمن الناس بالإله المتفرّد، كلّي العدل والمقدرة. وبينما حلّت هذه الفكرة محلّ الأديان الوثنية اليونانية، والرومانية، والشمال ـ أفريقية، لكنها لم تحلّ محلّ الفلسفة. بل إنها أثرت عليها بشكلٍ كبير.
كانت الفلسفة في الغرب وفي الشرق الأوسط واقعة تحت سيطرة ثلاثة تأثيرات رئيسية هي: أفلاطون، أرسطو، واللاهوت. وكان الفلاسفة اليهود والمسيحيون والمسلمون يحاولون التوفيق بين الفلسفة والدين... العقل والإيمان.
لعدّة قرون، كان الدين يتمحور حول فلسفة أفلاطون _وقد أطلِق عليه اسم "الأفلاطونية المحدثة"_ ممّا سمح للفلاسفة ورجال اللاهوت الالتقاء وجهاً لوجه. لكن كانت هناك بعض الاستثناءات، فقد تجرّأ بعض المفكّرين على البروز بأفكار لم تكن لتتوافق مع الثوابت الدينية والعقائدية، لكن في المجمل، لقد جعلت الأفلاطونية المحدثة الجميع سعداء.
فيما بعد، تمّ إعادة إحياء الفلسفة الأرسطية بطريقة لم تكن لتتعارض مع أيٍ من المرجعيّات الدينية. وقد قدّم أفلاطون، وأرسطو، واللاهوت إطاراً واسعاً لأغلب الأفكار الفلسفية للعصور الوسطى. وقد بقي هذا الإطار له مكانة هامة حتى عصر النهضة حيث تمّ استبداله بشكل تدريجي وحلّ محلّه العلم الجديد.
*******************
تمّ ترسيخ دعائم وأساسيات الفلسفة الوسيطة في العهد اليوناني. فقد تداعت إمبراطورية "ألكسندر العظيم" وانقسمت إلى دول، وقد حققت الإمبراطورية الرومانية قوّة لم يسبق لها مثيل قبل أن تسقط في القرن الخامس. وخلال الفترة التي سيطرت فيها الإمبراطورية الرومانية على أقاليم المتوسّط، بدأت الأفكار الدينية بممارسة تأثيرات بالغة القوّة على الفلسفة، بالرّغم من واقع أنّ القياصرة الرومان غالباً ما كانوا يقمعون بعض الديانات والرسل.
من أوائل الفلاسفة الذين حاولوا الجمع بين الفلسفة اليونانية مع التعاليم الدينية الجديدة هو الفيلسوف اليهودي "فيلون Philo" (30 ق.م ـ 45 م) لقد لاحظ فيلون أنّ هناك تشابهاً بين رغبة أفلاطون بالقبض على مثال الخير ورغبة العديد من اليهود بالاتصال الباطني مع الله.
يقول فيلون أنّ مثال الخير وفكرة الله هما الشيء نفسه. وحسب هذا القول، فقد وضع المفتاح الأساسي للأفلاطونية المحدثة والتي بقيت بدورها ذات فائدة كبيرة لعدّة قرون في محاولة مستمرّة لتوحيد الفلسفة مع الدين: أو الفكرة التي تقول أنّ الفهم والإيمان يسيران في نفس الاتجاه.
يرى فيلون أنّ الله، أو فكرة الخير، هي عبارة عن "وحدة oneness" تكمن ضمن جميع الأشياء. وبإمكاننا أن نقدّر هذه الوحدة ونشعر بها عن طريق التفكير الفلسفي وعن طريق الإيمان الديني. وهذه الوحدة، الله، هي أشبه ما تكون بعقل كوني، أمّا المثل المفارقة الأخرى التي تكلّم عنها أفلاطون يمكن إدراكها كأفكار إلهية. فأفكار الله هذه تمنح النظام والرتابة للعالم المادّي ليفهمه الناس بعقولهم التي تشبه عقل الله.
ولأنّ عقول البشر قد خُلِقت بعد العقل الإلهي، فبإمكاننا أن نفهم الله من خلال العقل _إلى حدٍ ما. فالمشكلة هي أنّ الناس مسجونين ومقيّدين بالأشياء الماديّة كالطعام، الملابس، أجهزة التلفزيون والفيديو، وأجسامهم المادية، والتي يمكن أن تلهيهم وتبعدهم عن إدراك فكرة الله. وهذه الصّلة مع الأشياء المادية تحدّ من القدرات الفكرية للبشر، لذلك فنحن أيضاً بحاجة إلى الإيمان لتحقيق الاتصال الباطني مع الله.
*******************
كما أنّ الأشياء الماديّة هي عوائق تقف أمام عملية إدراكنا لفكرة الله، فعلينا أن نفكّر بالله من خلال مصطلحات سلبية، كأن نقول أنّ الله "ليس... ". وهنا تكمن حقيقة جميع الطرق التي باستطاعتنا أن نفكّر من خلالها بالله. فالله ليس فقط مجرّد شخص أو إبريق في السماء _حسب تعبير دوكينز... كما أنه ليس ما تعتقده أو تتصوّر أنه هو. فقد قال فيلون أنّ الله كعقل، لكنه ليس عقل أيضاً. فالفكرة التي تقول أنّ الله كعقل هي مجرّد تقريب لماهية الله: هي صورة تساعدنا على الاقتراب من فهم وإدراك الحقيقة. فالحقيقة تتطلّب نظرة ضمنيّة داخليّة، أكثر من مجموعة كلمات أو صور، لكي تُدرَك.
بتعبير آخر، إنّ الكلمات هي نفسها مجرّد مكوّنات مادّيّة يمكن أن تكون عائقاً في طريق فهمنا لله. ينبغي علينا أن ننظر إليها كأوصاف تقريبية للحقيقة وأن نتعلّم من خلالها كيف يمكن أن ندرك حقيقة الفكرة التي تمثلها تلك الكلمات.
************************
آمن فيلون أنه حتى الحروف التي يتألّف منها الكتاب المقدّس هي مجرّد تصوّرات تقريبية للحقيقة التي تشير إليها. لذلك فقد فسّر الروايات والقصص التوراتية كتعبيرات مجازية للمُثل الأفلاطونية. على سبيل المثال: قال فيلون بأنّ الأفعى الموجودة في جنة عدن تشير بشكل مجازي إلى الشهوة التي تعني أنّ إغراء الأفعى لحوّاء يشير إلى أنّ رغبة الناس للملذّات والمتع المادية تنتهي بهم إلى المشاكل. وكان لأفلاطون موقفاً مشابهاً تجاه الرغبة للأمور المادّيّة. لذلك فقراءة فيلون للتوراة ساعد في توضيح كيف أنّ الفلسفة اليونانية واللاهوت اليهودي كانا في نفس المسار.
وهذه الطريقة في قراءة التوراة اليهودية تبيّن أنّه كان لها الأثر الأكبر على الثيولوجيين المسيحيين الذين بحثوا عن المجازات المتعلّقة بالمسيح والتعاليم المسيحية عندما قاموا بقرائتها. فقد قرأ المسيحيون كتاب التوراة اليهودي كما فعل فيلون من قبل، باستثناء أنّ فيلون كان يبحث عن الرموز والتخيّلات التي قد تشير إلى الأفكار الأفلاطونية، بينما المسيحيون بحثوا عن أمور تشير إلى معتقداتهم اللاهوتية المسيحية.
********************
هذه الطريقة في القراءة أصبحت معروفةً باسم "الحكاية الرمزية أو الاستعارة allegory". والحكاية الرمزية أو الاستعارة هي طريقة في تأويل القصّة كما تتناسب مع مطالبك وأفكارك الخاصّة. كما أنّ الاستعارة هي طريقة في الكتابة أيضاً، فعندما يستخدم الكاتب مجموعة معيّنة من الأشياء _غالباً ما تكون مجموعة من الصّور الملموسة_ لتمثيل مجوعة أخرى من الأمور أو الأفكار التي غالباً ما تكون أكثر تجريداً.
مثلاً، في القصّة الرمزية المعروفة باسم ( Psychomachia أو "معركة الروح") التي وضعها الكاتب الوسيطي [نسبةً إلى العصر الوسيط] "برودينتيوس Prudentius"، تمّ تمثيل الشخصيات مثل "الشهوة" و"العفة" كفرسان متعادين يقاتلون بعضهم البعض.
كانت القصّة الرمزية طريقة هامّة في الكتابة والتأويل خلال العصور الوسطى. كما أنها كانت جزءاً مهماً من طريقة فهم الفلاسفة الأفلاطونيين المحدثين للعلاقة بين الأشياء المادية والمثالية: فالأشياء المادية ليست هي نفس الأشياء المثالية، لكنها قد تدلّ على أمور مثالية.
لذلك فمن خلال القراءة المجازية للتوراة ساعد فيلون في دمج الأفلاطونية مع اللاهوت، وبعمله هذا فقد أثر في الفلاسفة المسيحيين والمسلمين. فعملية التوفيق التي قام بها فيلون بين الفكر اليوناني والإيمان اليهودي قد بيّنت له أنّ الله قد ألهم الفلاسفة اليونانيين كما ألهم الأنبياء اليهود لكتابة تعاليمهم ونشرها.
*******************
الأفلاطونية المحدثة Neo-platonism، مثل التفكير الديني في ذلك العصر، أضفت أهمية بالغة على الكتابات، وجعلت الكلمات المدوّنة تبدو وكأنّ لها خصائص خاصّة، سحرية، ومقدسة. ومن خلال دراسة كتابات الآخرين، كان الفلاسفة في أواخر العصر القديم وبدايات العصر الوسيط يأملون في أن يتعلّموا أيّ شيء عن الوحدة الكامنة في تلك الكلمات. هذه الوحدة، الظاهرة ككلمات، أطلقت عليها تسمية "اللوغوس logos" في العصر اليوناني.
وهذه الخاصية الكامنة في الكلمات المدوّنة هي أحد الأسباب التي جعلت فلاسفة العصور الوسطى يثنون أكبر الثناء على الفلاسفة الإغريق. وبدلاً من الخروج بفلسفات جديدة، فقد وقّروا الفلسفات السابقة والمدوّنة ومجّدوها. وكنتيجة لذلك، قام العديد من الفلاسفة الأفلاطونيين المحدثين _على غرار فيلون_ بالنظر إلى الفلسفة اليونانية كفلسفة مصدرها إلهام إلهي مقدّس نزل على الشعب اليوناني.
يقال أن فيلون قد سافر من روما بلده الأم إلى مدينة الإسكندرية في مصر ليطلب معروفاً خاصاً من الإمبراطور الروماني "كاليجولا" بالنيابة عن مجتمعه اليهودي: فقد طلبوا منه الإذن كي يعفيهم من عبادته كإله، ونحن لا نعلم بالضبط ما إذا نجح الأمر أم لم ينجح، لكننا نعلم أنّ فيلون كان له الدور الأهم في إظهار حقيقة أنّ الإمبراطور مجرّد شخصٍ مجنون.
********************
أثناء النهضة الإيطالية في القرن الرابع عشر، ظهرت إلى النور من جديد بعض الكتابات الفلسفية القديمة والمنسية التي دوّنها فلاسفة مجهولون تماماً. وقد كانت الفلسفة في هذه الكتابات عبارة عن مزيج من الفلسفة الإغريقية، اللاهوت، والشعوذة. أمّا الناس الذين عثروا عليها، ومن ضمنهم الفيلسوف الأفلاطوني المحدث "مارسيليو فيسينو Marsilio Ficino"، اعتقدوا أنهم وضعوا أيديهم على فيلسوف وثني مُلهَم يعود في تاريخه إلى عصر النبي موسى. اعتقدوا أنه كان مصرياً وأطلقوا عليه تسمية "هرمس Hermes Trismegistus" والذي يعني: "هرمس المعظّم ثلاث مرّات"، وقد سمّوا فلسفته باسم "الفلسفة الهرمسية Hermetic Philosophy" [1].
اعتقد فيسينو أنّ هرمس استلم كلمة الله، مع تعليمات لنشر رسالته إلى الوثنيين، كما كانت تقول التعليمات التي نزلت على النبي موسى والتي تقتضي نشر كلمة الله بين اليهود. وهذا ما فعلته الأفلاطونية المحدثة بهدف تفسير الأفكار الدينية التي عثروا عليها عند أفلاطون: فقد استمدّها أفلاطون من الفلسفة الهرمسية، التي كان صاحبها قد استمدّها من الله مباشرةً. ويبدو أنّ الكتابات الفلسفية الهرمسية تثبت وجهة النظر هذه بسبب الطريقة التي تدمج فيها اللاهوت مع الفلسفة الإغريقية.
أمّا الحقيقة فهي أنّ فيسينو وغيره من الفلاسفة كانوا يخدعون أنفسهم. فقد تمّ تدوين الفلسفة الهرمسية بشكل فعلي في عهد أفلاطون أو بعده بفترة قصيرة، عندما بدأ عدد من الفلاسفة بتوحيد اللاهوت مع الفلسفة الإغريقية. فالذي كان يبدو وكأنه إلهام إلهي في الفلسفة الإغريقية تبيّن فيما بعد أنه مجرّد خطأ في تقدير التاريخ الحقيقي للكتابات الهرمسية.
يظهر خطأ فيسينو ميل الفلاسفة الأفلاطونية المحدثة إلى جعل الكلمات والأفكار وجميع الأشياء كجزء من الصورة المثالية الوحيدة للعالم الواقعي. فجميع الأشياء متناغمة. ويمكن تفسير التناقضات الظاهرية من خلال الفكرة التي تقول أنها تشير بشكلٍ مجازي إلى معنى أوحد، لكنه مخفي وغير مُعلَن. فعندما قام الأفلاطونيون المحدثون بتأويل الأشياء، حاولوا أن يفسّروا كيف أنّ جميع الأشياء تتناغم وتتناسب مع فكرتهم عن الوحدة الخفية.
تنويه: إنّ الأفلاطونيون المحدثون يرفضون الإقرار بفكرة أنّ كلّ الأشياء قد لا تتناسب مع بعضها في وحدة باطنية كامنة (وحدة الوجود). وإذا اعتقدوا أنّ شيئاً ما غير مناسب، فهم يفترضون أنّ سبب ذلك عدم فهمهم للصّلة الخفيّة بين هذا الشيء وباقي أجزاء العالم.
*******************
أمّا الفيلسوف الهام الذي يأتي بعد فيلون هو الفيلسوف المصري "أفلوطين Plotinus" (205 – 270). وغالباً ما يقال أنّ أفلوطين هو أول فلاسفة الأفلاطونية المحدثة، بالرغم من أنّ أفكاره تشبه أفكار فيلون من عدّة نواح. شرح أفلوطين العلاقة بين الوحدة المقدّسة والأشياء المادية. فقد نظر إلى الأمور المادية والمثل المفارقة كنماذج متعالية. فبالنسبة إليه، كان العالم عبارة عن تحفة فنية، تجلّي للوجود المقدّس والمتعالِ.
هذا النوع من الخلق لتلك النماذج عُرِف باسم "نظرية الانبثاق أو الفيض emanation theory". فالعالم الواقعي ينبثق أو يفيض عن الفرد، الواحد، الكائن المقدّس، كما تنبثق الحرارة عن اللهب. لأنّ الواحد هو أشبه ما يكون بالفنان، أو الخالق، وبإمكاننا أن ننسجم مع المقدّس عن طريق الفن كما عن طريق التأمّل. والفكرة هنا هي إمكانية النظر إلى ما بعد الحواجز التي تفصلك عن كل شيء آخر. فتوحّدك، فرديتك، هي عبارة عن أوهام من الناحية الجوهرية. وإذا كان بمقدورك أن تنزع الحدّ الفاصل بينك وبين جميع الأشياء، فبإمكانك عندئذً أن تختبر الواحد المتفرّد.
بالنسبة إلى أفلوطين وغيره من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة، لا تعتمد المعرفة على اختبار الأشياء المادية والحوادث الحقيقية، بل على القلق الروحاني للفردي المتعالي. في الواقع، كانت الروحانية عنصراً شائعاً في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة واللاهوت بالإضافة إلى طوائف الشعوذة والسحر على اختلاف أنواعها حين تمّت ممارستها خلال سنوات انهيار الإمبراطورية الرومانية. لقد كانت [الروحانية] عنصراً هاماً في الحياة الفلسفية والدينية خلال الفترة المتأخرة والوسيطة.
الروحانية _فكراً وتطبيقاً_ هي الممارسة التي تسعى لتحقيق الوحدة مع الله. وهي تتضمّن عادةً على عناصر مثل الزهد في أمور هذا العالم، حيث يقطع الفرد نفسه العلاقة مع كافة الأشياء المادية العادية، مع الحياة اليومية الروتينية. وبالنسبة لبعض الناس، تتضمّن الروحانية تجنّب الكلمات، أو حتى التفكير. أمّا بالنسبة للبعض الآخر، إدخال الفرد ذاته في حالة من التفكير العميق وهذه الفكرة لعبت دوراً رئيسياً في التجارب الروحانية.
*******************
لطالما كان التفكير والروحانية مرتبطان معاً بالنسبة للفيلسوف الأفلاطوني المحدث القادم من شمال أفريقيا "أوغسطين Augustine of Hippo" الذي أصبح بدوره قديساً مسيحياً. وعلى الرغم من أنّ "القديس أوغسطين St. Augustine" كان روحانياً بدرجة معيّنة. فقد آمن أنّ الناس كانوا محدودين في درجة انسجامهم مع الله في حياتهم الأرضية.
حسب أوغسطين، يمكن للبشر الاقتراب من الله من دون أن يمرّوا بتجربة الموت الفعلي ثمّ الصعود إلى السماء. فإذا أردنا أن ندخل في تجربة اختبار المطلق فعلياً، ما علينا سوى أن ننتظر حتى تنتهي حياتنا، حيث يصبح بإمكان أرواحنا أن تدخل في تجربة مع الوجود المقدّس من دون أن تكون مقيّدة بالعالم الفيزيائي المادي.
وجهة النظر هذه وضعت مسافة تفصل البشر عن الله وجعلته يبدو وكأنه مطلق الكمال والقوّة، بينما جعلت البشر يبدون وكأنهم في منتهى الضعف والخطيئة. فإذا لم تسر جميع الأمور من أجل مصلحتنا الخاصة، فتلك خطيئتنا نحن.
وبالرغم من ذلك، يقول القديس أوغسطين، لمجرّد أننا لا نقدر على أن ندخل في تجربة مع الله بشكلٍ مباشر أو كامل لا يعني ذلك أننا لا ينبغي أن نجرّب ونحاول أن نفهم الحقيقة المقدّسة في حياتنا هذه. لقد كان مهتماً بشكلٍ كبير بالعلاقة بين الله والروح الإنسانية كمفتاح لإدراك الحقيقة المقدّسة والمتعالية.
بدأ أوغسطين رحلته الفكرية كشكّاك، وهو الشخص الذي لا يؤمن بالوحدة بين الأشياء، أو أنه لا يؤمن بأيّ شيء آخر. وكان قد تعامل مع شكّه بطريقة مشابهة إلى حدٍ ما لطريقة الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" منذ عدّة قرون مضت: لقد اتجه نحو الداخل ليرى ما إذا كان هناك أيّ شيء يمكن التأكّد من وجوده. وقد قرّر ما يلي: حتى وإن كان مخطئاً حول أيّ شيء آخر، فبإمكانه أن يكون متأكّداً من أنه موجود. ومن هنا انتهى إلى أنّ العلاقة بين النفس الداخلية والله لها أهمية بالغة.
تنويه: العبارة التي تقول: "أنا أؤمن لكي أفهم" على الأرجح أنّ أوغسطين هو قائلها. ومعناها أنّ العقل البشري محدود وبحاجة إلى معونة الله، وتكون على شكل كشف قدسي رباني عن طريق الكتاب المقدّس. وتؤكّد العبارة السابقة أنّ أفكار أوغسطين الفلسفية مستقاة بشكل أساسي من المعتقدات الدينية المسيحية.
*******************
من إحدى الأمور الكبيرة التي منعت القدّيس أوغسطين من قبول فكرة القدسية هي حقيقة أنّ الشرّ يملأ العالم. فإذا كان هناك خالق كامل القدسية والقدرة، فلماذا سيخلق هذا الخالق الشر مع غيره من الأمور الأخرى؟
فكّر أوغسطين أنّ الشرّ بحدّ ذاته غير موجود بشكل فعلي. على أيّة حال، فهو غير مخلوق من قِبَل الله، لكنه يحدث فقط كنتيجة لابتعاد الله عن العالم المادي. فالله موجود بشكلٍ متفاوت _أقل أو أكثر_ في الأشياء، فحينما يكون وجوده أقل، عندها يكون هناك فرصة كبيرة لظهور الشرّ. عكس الخير، فالشرّ لا يحدث لسببٍ معيّن، بل هو يحصل هكذا من دون سبب، مثل استقرار الغبار على الأثاث عندما لا تقوم بتنظيف أغراضك بالمكنسة الكهربائية بشكلٍ متكرّر.
آمن أوغسطين أنّ هناك العديد من الناس الذين يصابون بالسعال من جرّاء هذا الغبار الشرير للحياة، حيث أنهم يخلطون بينه وبين ما هو مهم فعلياً. لقد آمن أنّ هؤلاء الناس سوف يعثرون على الحقيقة عندما يموتون، ويدركون أنّهم لم يفهموا المعنى الحقيقي للوجود.
*******************
اعتقد أوغسطين أنّ الناس لهم الحرية في اختيار إمّا أن ينساقوا مع النظام الذي وضعه الله أو أن يقفوا مثل العثرة في طريق هذا النظام. ومع ذلك، فهذا يعني أنّ هناك الكثير من البشر الذين سيكونون مجرّد عثرة في طريق النظام، وهذه الإرادة الحرّة في الواقع هي شيء جيّد، لأنها تسمح للناس بأن يكون لهم دورهم في الطبيعة الإلهية الخلاّقة والفعّالة.
لأننا بإمكاننا أن نختار وجودنا، فنحن بذلك نشبه الله أكثر ممّا نشبه مقابض الأبواب على سبيل المثال، أو آي شيء آخر ليس باستطاعته اختيار وجوده. وللمفارقة، فالناحية السلبية لذلك هي أننا نستطيع اختيار وضع نكون فيه أقل درجة من مقابض الباب عندما نختار أن نكون أشراراً. وحسب أوغسطين، فهذا يعني تسليم نفسك إلى إغراء السعي خلف ملذّات ومتع العالم المادي.
ومع ذلك، لا يمكننا أن نختار ببساطة أن نكون أخياراً وأن نكون متأكّدين بأنّ الله سيكافئنا بعد مماتنا. نحن بحاجة إلى العون الإلهي، أو النعمة الإلهية، من أجل أن ننتقل إلى ما وراء طبيعتنا البشرية، والتي كان رأي أوغسطين فيها أنها طبيعة خاطئة.
هذا الاعتماد على ذلك المزيج المؤلّف من الإرادة الحرّة والنعمة الإلهية يرتبط مع النزعة الروحانية عند أوغسطين. فمجرّد أننا يمكننا أن نعرف الله بشكل جزئي وأن نتواصل معه إلى حدٍ ما، فنحن بإمكاننا أن نختار الخير بشكل جزئي. ثمّ ما علينا إلا أن نأمل مساعدة وعون الله بعد ذلك.
إنّ تفكير أوغسطين قد بلغ درجة أنه قام بتوزيع المسؤولية بين الله والأفراد. نحن نملك مقداراً محدداً من الإرادة الحرّة كما أننا مطالبون بالابتعاد عن الوقوع في الخطيئة قدر استطاعتنا، لكننا لا نستطيع احتمال عبء هذا المطلب بالكامل بما أننا نحتاج إلى عون الله. وهذا يعني بأننا لا نستطيع أن نلقي اللوم على الرّبّ إذا استسلمنا لرغباتنا الأنانية للقيام بالأعمال السيئة والشريرة. ومع أننا لا يمكننا أن نحتمل عبء القيام بالأفعال الخيّرة بشكلٍ كامل، فنحن نتحمّل كامل المسؤولية إذا فعلنا أشياء شريرة.
لذلك فقد أصبحت الأفلاطونية المحدثة _كما قال عنها كلّ من أفلوطين وأوغسطين، ودافع عنها فيلون_ سِمَة من السمات الهامة التي تميّز طريقة استيعاب المسؤولين الدينيين في الكنيسة المسيحية المبكّرة للأمور.
كان أوغسطين مقتنعاً بأننا غير قادرين على اختيار الخير من دون المعونة والنعمة الإلهية حيث أنه استخدم فيها نفوذه كراهب من أجل الحصول على الرأي المعارض المعلن عنه كهرطقة. لذلك، وتحت قيادته، قام آباء الكنيسة بالاعتراض ضدّ أي شخص يرى أنّ البشر يمكن أن يكونوا غير خطّائين وأنه يمكن تحقيق الحياة الخالدة من دون النعم الإلهية.
*******************
بينما كان آباء الكنيسة يتطلّعون إلى أفلاطون طلباً للحكمة والرؤيا، تطلّع المعلّمون وأساتذة الجامعات إلى أرسطو بدلاً من أفلاطون. وكان الفيلسوف الأرسطي الأول في العصر الوسيط، أو الفيلسوف المدرسي الأول، هو "بويثيوس Boethius" (480 – 524). وقد مالت الفلسفة السيكولائية (المدرسية) إلى التركيز على المنطق الأرسطي أكثر من تركيزها على المواضيع الأخرى التي عمل فيها أرسطو لأنّ "بويثيوس" قد قام بترجمة _وبالتالي قام بالحفاظ على_ كتابات أرسطو التي تعامل فيها مع المنطق.
عالجت كتابات بويثيوس مسائل الإيمان ومسائل التفكير العقلي من دون مناقضة التعاليم الدينية. وبشكلٍ عام، إحدى أهمّ الأمور التي فصلت الفلسفة السيكولائية عن الأفلاطونية المحدثة هي أنّ الأخيرة كانت تحاول توحيد كلّ شيء في حقيقة داخلية وحيدة، بينما الفلسفة السيكولائية حاولت فصل المفاهيم إلى قطع وأجزاء صغيرة ذات امتيازات منطقية. وهذا "التقطيع" المنطقي تربّع على عرشه داخل الجامعات حيث كانت تمارَس الفلسفة السيكولائية.
على الرغم أنّ التقطيع المنطقي السيكولائي غالباً ما كان يتميّز بسمة المبالغة من خلال تطبيق القواعد الصارمة والاعتباطية على ما يبدو لتقرير الأسئلة التي ليست لها أيّة علاقة بالموضوع _كسؤال ما إذا كان الثلج نصف الذائب هو الثلج أو نوع من أنواع الثلج؟_ زوّدت الفلاسفة السيكولائيين بأسلوب للالتفاف حول الأفلاطونية المحدثة. فقد ركّزوا اهتمامهم حول كيفية عمل الكلمات من دون قبول أو رفض التفكير الأفلاطوني المحدث.
*******************
اكتسبت الفلسفة السيكولائية دفعة كبيرة إلى الأمام خلال القرن العاشر الميلادي من قِبَل عدّة فلاسفة شرق أوسطيين, ويعود الفضل إلى الإمبراطورية الفارسية، فقد حكم العرب أغلب المناطق الواقعة حول حوض البحر المتوسّط حيث أنهم كانوا متأثرين بشكلٍ كبير بالفلسفة الإغريقية. وهذا التأثير طغى على العرب الذين يدينون بدين الإسلام.
فقد قام الفلاسفة العرب بإعادة اكتشاف كتابات ضائعة وهامة جداً كانت لأرسطو، ثمّ نشروا أفكاره بين الفلاسفة المسيحيين واليهود. وقد تضمّنت هذه الأفكار شرح لميتافيزيقا أرسطو بالإضافة إلى منطقه.
"ابن سينا Ibn Sina" (980- 1037) والمعروف عالمياً باسمه اللاتيني "Avicenna"، قام بوضع مقولات تصنيفية بين درجات الوجود المفارق والمتعالي وبين الفكر الذي يصل بين الله والعالم المادي.
كان ابن سينا متأثراً بالفلسفة السيكولائية التي كانت واسعة الانتشار في مناطق حوض المتوسط، بالرّغم من واقع أنّ بعض أفكاره ناقضت التعاليم الإسلامية بالإضافة إلى المسيحية. فقد اعتقد أنّ الله لديه معرفة عامّة وغير مباشرة بمخلوقاته، وهذه الفكرة بحدّ ذاتها ناقضت فكرة التدبير الإلهي، أو القضاء والقدر، أو بمعنى آخر "أمر الله".
وهناك فيلسوف آخر تأثر بدوره بالفلسفة السيكولائية هو الفيلسوف "ابن رُشد Ibn Rushd" (1126- 1198) وهو معروف عالمياً باسم "Averroes". فقد وضع تعليقات مطوّلة وشاملة عن أعمال أرسطو، وكان ابن رشد مرجعيّة لها قدرها واحترامها في جميع أنحاء أوروبا. وعلى غرار ابن سينا، كان ابن رشد لديه أفكاره التي أربكت المرجعيّات الدينية. وهو يقول في إحدى كتاباته أنّه صار من أتباع أرسطو بطريقة التفكير في أنّ الروح الإنسانية ليست خالدة، بل تفنى مع موت الجسد.
*******************
● إثبات وجود الله
بينما بقيت التوترات قائمة بين الفلسفة والإيمان الديني، لجأ عدد من الفلاسفة إلى استخدام المنطق الأرسطي لإثبات وجود الله. وأحد هؤلاء الفلاسفة كان "القديس أنسيلم St. Anselm" الذي بات "برهانه الأنطولوجي ontological proof" على وجود الله من أشهر البراهين. يقول هذا البرهان أنّه إذا كان هناك شيء ما كامل ومطلق، فلا بدّ أن يكون موجوداً، بما أنّ عدم الوجود هو دليل على عدم الكمال. وأكثر الأشياء التي قد نفكّر فيها كمالاً هي "الله". لذلك، ولأنّ الله مطلق الكمال، فهو موجود.
"القدّيس توماس أكويناس St. Thomas Aquinas" _ويعرف في عالمنا العربي باسم "توما الأكويني_ فيلسوف آخر قام بدفع البراهين المنطقية لوجود الله نحو الأمام، حيث قام بوضع خمسة براهين إضافية. كما أنّ أكويناس قدّم التفسير الفلسفي الأكثر كمالاً للعلاقة بين الله والبشرية التي قطعت شوطاً طويلاً جداً في تطوّرها. فهو لم يفسّر فقط كيف أنّ البشر والمخلوقات الأخرى خلِقت من قِبَل الله كفيض للكمال الإلهي، بل كيف يمكننا أن نعود إلى الاتحاد مع الله عن طريق قدرته لاستيعابنا وعن طريق رغبتنا وحاجتنا إليه.
لقد قام أكويناس بذلك من خلال استخدام مفهوم أرسطو للسببية. فكلّ شيء له غاية، وبالنسبة لأكويناس، فهذا الغرض يخصّ الله. دمج أكويناس أفكار الأفلاطونية المحدثة مع تفكيره. فمثلاً، لقد رأى أنّ النفس البشرية كمثال أفلاطوني بحدّ ذاته.
*******************
وقد قام أكويناس أيضاً باستخدام المفاهيم والإجراءات المنطقية الأرسطية _كما فعل غيره من الفلاسفة السيكولائيين_ وقد أصبح هذا المنطق سيء السمعة لأنه كان معقد وغير ضروري. وكنتيجة لذلك، كان للسيكولائيين في العصر الوسيط سمعة بأنهم غارقين في التفكير الذاتي وبأنهم مولعون باستخدام المصطلحات الغامضة والمبهمة.
وبالرغم من أنّ أكويناس قد حقق نجاحاً باهراً وجعل من المنطق الأرسطي ذو تأثير بالغ الأهمية، فقد كان هناك عدد من الفلاسفة الذين يحاولون الجمع بين فلسفة أرسطو والأفلاطونية المحدثة بأساليب قادتهم إلى نهايات مغلقة واستنتاجات مبهمة. لقد باتوا مشغولين بالمصطلحات المنطقية الأرسطية التي أصبحوا مقتنعين بأنها تقرّر _أكثر من أنها مجرّد انعكاس_ الماهية الحقيقية للأشياء.
هذا ما دفعهم إلى العمل على الحجج عديمة الجدوى _على ما يبدو_ حول المقولات والأسباب، مهما كانت تلك الأسباب، وكيفية تطبيقها. ففكرة أنّ "اللوغوس"، أو "الكلمة" بمعنى آخر، يمكن أن تقود إلى رؤية الوحدة كانت تتوه بين المجادلات التي كانت تدور حول الكلمات التي كان لها صلة ضئيلة مع أي شيء بهذا العالم.
*******************
هناك نتيجة مهمّة ووحيدة انتهت إليها كلّ تلك المشاحنات، وهي الشيء الذي ثبت أنه الأكثر أهميةً من أجل مستقبل الفلسفة. تلك كانت مسألة "العموميات" التي ساقها الفيلسوف الفرنسي "بيتر أبليلارد Peter Abelard" (1079- 1142). فالعموميات Universals هي المفاهيم التي يمكن تطبيقها على أي عدد من الأشياء المحدّدة، أو النوعيات qualities، كما سمّاها أرسطو. وتتضمّن الألوان كالاحمرار، والصّفات كالصلابة والقسوة.
والسؤال هنا، هل للعموميات وجود فعلي مستقل عن الأشياء الناقصة التي تكون عبارة عن مظاهر لها؟ فمثلاً، هل "الأحمر" موجود في مكانٍ ما خارج نطاق عالمنا الطبيعي والأشياء ذات اللون الأحمر؟.
بالرّغم من أنّ هذا قد يبدو مثل عملية "التقطيع المنطقي" الأكثر عبثية، فإنه يدخل في صلب الأسئلة التي أثارتها الفلسفة الأفلاطونية المحدثة. مع أنّ الفلاسفة السيكولائيين لم يرغبوا بشكلٍ عام أن تعترفوا بذلك أمام أنفسهم، إلاّ أنهم كانوا يتساءلون ما إذا كان مفهوم الحقيقة المثالية موجوداً حتى يكون لها هذا المقام الجلل بين جميع الناس. فإذا كانت العموميات غير موجودة في عالم مفارق آخر، فذلك يهدّد فكرة الوحدة المثالية بين جميع الأشياء.
قام "أبيلارد" بطرح ثلاثة مواضعات مختلفة واحدة منها تتولّى مسؤولية الرّدّ على إشكالية الكلّيّات. فالمواضعة الأولى والأكثر انتشاراً تتناول موضوع "الواقعية realism". فالشخص الواقعي يؤمن أنّ الكليات حقيقة قائمة وأنها موجودة بشكلٍ مستقل عن الأشياء المفردة وباستقلالٍ عن الناس الذين يفكّرون فيها.
والآن، بات الأمر مربكاً، حيث أنّ الشخص الواقعي يبدو في بعض الأحيان كمثالي idealists، حيث نجده يؤمن بوجود العالم المثالي. فأفكاره تعاكس "الإسمية nominalism" التي ترى أنّ الكليات هي بالكاد مجرّد أسماء نستعملها لنصف أشياء معيّنة.
حاول "أبيلارد" أن يرسّخ النظرة الواقعية والإسمية. وبمحاولته تلك، مهّد الطريق أمامه الانتقال إلى مواضعته الثالثة، والتي تعرَف باسم "التصورية أو المفاهيمية conceptualism". فالتصورية ترى أنّ الكليات لها وجود في العقل فقط. وهذه المواضعة ظهرت بشكل تدريجي لأنّه في زمن أبيلارد لم يكن "العقل Mind" فقط عبارة عن شيء موجود في رؤوس الناس، بل إنما له وجود عام في العالم المثالي. [2]
كما مرّ معنا من قبل، إنّ فكرة أنّ الله هو "عقل" بدرجات متفاوتة _أكثر أو أقل_ تشكّل حجر المفتاح في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة. فالله أشبه ما يكون بعقل، أمّا الأشكال المثالية فهي ليست سوى أفكاره. فقبل أن تنبثق النظرة التصورية كمواضعة متميّزة، كان على الناس أن يقرّروا ما إذا كان العقل كلّياً أم جزئياً. فإذا كان العقل كلياً، فالأشخاص التصوريون هم أشخاص واقعيون أيضاً. أمّا إذا لم يكن كذلك _أي أنه جزئي_ فهم على الأرجح إسميون.
(أما زلت تتابع كلامي ؟)
يقال أنّ "أبيلارد" كان عاشقاً شهيراً بالإضافة إلى شهرته الواسعة كفيلسوف. فقد اقترن سرّاً واحدة من طالباته "هيلويس" وهرب برفقتها. ممّا جعل عمّ الفتاة غاضباً جداً لدرجة أنه قم بإخصاء أبيلارد. بعدها أمضى أبيلارد المسكين بقية حياته في الدير.
*******************
هل كان التساؤل الذي أثير حول مشكلة الكليات عبثياً ولا أهمية له؟... من ناحية، هذا بالضبط ما أراد أن يقوله الإسميون وأن يعتقد به الناس. ولكن من يهتمّ؟ ما هو الأمر المهم في ذلك؟ فهو مجرّد باقة تافهة من المفاهيم المنطقية المجرّدة.
ولكن هذه السفسفة التافهة تخفي تحتها أسئلة أكثر عمقاً لم يتمكّن من الإجابة عنها الفلاسفة اللاهوتيون في العصور الوسطى: هل الله موجود؟... هل العالم المادي هو مجرّد انعكاس ضعيف للعالم المثالي؟ ... هل نحن محكومون فعلاً بطبيعتنا الفيزيائية ـ المادية التي فصلتنا عن الوحدة المثالية حتى لحظة موتنا؟...
مع الوقت، كانت ردّة الفعل الإسمية على مشكلة الكليات قد ساعدت على إخراج الفلسفة من العصور الوسطى إلى عصر النهضة. وكان "ويليام من أوكام William of Ockham" (1285- 1349) هو الشخص الذي يتحمّل أكبر قدر من المسؤولية. قال "أوكام" أنّ العديد من الفلاسفة كانوا مقيّدين بمجموعة من المقولات والتصنيفات.
جادل أوكام بأننا عندما نحاول أن نفسّر طبيعة شيء ما علينا أن نستخدم أصغر كمّ من الأفكار حول الأشياء قدر الإمكان. علينا أن نتجنّب استخدام الكثير من المفاهيم التي تزيد عن تفسير الأشياء. والتفسير الأبسط هو الأميل لأن يكون التفسير الأصحّ. لقد أصبحت هذه الحجّة قانوناً معروفاً باسم "نصل أوكام Ockham s Razor" هو عبارة عن مبدأ/ قانون منطقي يقول أنّ التفسير الأبسط لموقف ما يميل إلى أن يكون هو الأكثر صحّةً من التفسير الأعقد. وقد وقف هذا القانون في وجه الميول التعميمية للفلسفة الأفلاطونية المحدثة.
.
لقد ساعد مبدأ "نصل أوكام" الفلسفة في التركيز على الأمور القابلة للملاحظة بدلاً من التركيز على الكلمات التي تعبّر عن الأفكار والتصنيفات. ويعمله هذا، ساعد أوكام على صيانة وتطوير أسلوب العلم الحديث. وبصفته إسمياً، ساعد أوكام على تركيز الانتباه إلى الاختلاف المتميّز بين الكلمات والأشياء. لم يقفز جميع الناس إلى عربة "أوكام" مباشرةً، بل استغرق الأمر عدّة سنوات حتى انحسرت الإفلاطونية المحدثة.
يتبع...

_______________________
[1] دليل الفلسفة: جاي ستيفنسون
[2] المصدر السابق



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الثامنة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السابعة)
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 2
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 1
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الخامسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الرابعة)
- الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)
- الفلسفة لجميع الناس (لحلقة الثانية)
- الفلسفة لجميع الناس (الحلقة الأولى)
- فيروس العقل: ليس مجرد كتاب
- من الإنجيل إلى الإسلام: مقابلة مع كريستوف لوكسنبرغ
- حدذ الرّدّة وحقوق الإنسان... ابن الورّاق
- الإسلام والإرهاب الفكري... ابن الوراق
- الحور العين، وما أدراك ما الحور العين؟!... ابن الورّاق
- العار في الإسلام: نزع حجاب الدموع... ابن الوراق
- تهافت المقال: مقالة محمد علي السلمي أنموذجاً
- الحوار المتمدن... إلى أين؟
- منكر ونكير: ملكان أم شيطانان ساديان؟!!
- هل علم النفس -علم-؟


المزيد.....




- تحطيم الرقم القياسي العالمي لأكبر تجمع عدد من راقصي الباليه ...
- قطر: نعمل حاليا على إعادة تقييم دورنا في وقف النار بغزة وأطر ...
- -تصعيد نوعي في جنوب لبنان-.. حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد إ ...
- البحرية الأمريكية تكشف لـCNN ملابسات اندلاع حريق في سفينة كا ...
- اليأس يطغى على مخيم غوما للنازحين في جمهورية الكونغو الديمقر ...
- -النواب الأمريكي- يصوّت السبت على مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل ...
- الرئيس الإماراتي يصدر أوامر بعد الفيضانات
- شاهد بالفيديو.. العاهل الأردني يستقبل ملك البحرين في العقبة ...
- بايدن يتهم الصين بـ-الغش- بشأن أسعار الصلب
- الاتحاد الأوروبي يتفق على ضرورة توريد أنظمة دفاع جوي لأوكران ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة التاسعة)