أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السابعة)















المزيد.....


الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السابعة)


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2911 - 2010 / 2 / 8 - 09:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أرسطو: حسّ الغاية

(( 1 ))

في هذه الحلقة سنقرأ عن نظرة "أرسطو" إلى التغيّر... ونظرته إلى النفس... والمنطق الذي تحدث وفقه جميع الأمور... ولماذا علينا أن نتصرّف باعتدال؟...
خلال العصور الوسطى وعند بداية العصر الحديث، كان يشار إلى "أرسطو" ببساطة على أنه "الفيلسوف"، وكان من أكثر السلطات الفكرية احتراماً وتقديراً حتى وقتٍ متأخّر. كان قد كتب في كلّ أنواع المجالات من ضمنها: الأخلاق، السياسة، الفيزياء، ما وراء الطبيعة (الميتافيزياء)، علم النفس، علم الأحياء، المنطق، وحتى في النقد الأدبي.
تنويه: هناك الكثير من الأسماء الإغريقية القديمة ومن ضمنها أرسطو التي تبدأ باللاحقة "arist". فمثلاً، هناك ناقد اسمه "أرسطاركوس Aristarchus"، وهناك سياسي اسمه "أريستيديس Aristides"، وهناك أيضاً الفيلسوف "أرسطبّس Aristippus"، وأخيراً وليس آخراً المؤلّف المسرحي الشهير "أريستوفانيس Aristophanes". ولفظة "arist" هي لفظة إغريقية قديمة تعني "أفضل أو النخبة". ومن هنا جاء مصطلح "الأرستقراطية Aristocracy" الذي يعني "حكم وسلطة النخبة".
كان مجال أرسطو الواسع فيه الكثير من العمل مع استمرار تنامي أهمّيته وشهرته على مرّ التاريخ. كان لديه ما يقوله عن كلّ شيء تقريباً، لذلك فأولئك الذين جاؤوا من بعده نظروا إليه كمؤسّس لكلّ العلوم. وأكثر من ذلك، طريقته للنظر إلى الأشياء المختلفة ساعدته على ربطها مع بعضها البعض وجعلها تبدو مرئية وواضحة للوجود الإنساني.
هناك عاملان بشكلٍ خاص يبرزان في فلسفة أرسطو هما: الأول نظرته التي ترى أنّ لكلّ شيء غاية وهدف وهو بدوره جزء من غاية أكبر. ففلسفته تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على محاولة التوصّل إلى ماهية هذه الغايات وكيف تتناسب مع بعضها.
وهناك مفهوم رئيسي آخر وهو منطقه، أو الطريقة التي ينظر فيها إلى الكلمات وكيفية جعلها تفعل ما يريده هو منها أن تفعله. لقد استخدم منطقه لفصل الأفكار الحقيقية عن الأفكار الخاطئة.
بهذه الطرق، ساعد حسّ الغاية عند أرسطو إلى الخروج بأفكار جديدة وطرق جديدة في التفكير حول تلك الأفكار. وإحدى أهمّ أفكاره الكبيرة التي خرج بها كان ردّه الذي جاء به على السّؤال الذي لطالما تصارع معه فلاسفة عصره وهو: كيف تتغيّر الأشياء؟
تنويه: إنّ كلمة "ميتافيزيقا Metaphysics" هي لفظة وضعها أرسطو. على الرغم من أنّ الفلاسفة يستخدمون هذه اللفظة للدلالة على عالم "ما وراء الطبيعة" أو إلى تلك المفاهيم التي تقع خارج حدود العالم الفيزيائي, لكنّ أرسطو استخدم هذا المصطلح للدلالة على الكتابات التي وضعها بعد الانتهاء من الحديث عن "الطبيعة Physics". أمّا استخدامها الأصلي الأولي فيعني "بعد أن انتهيت من الحديث عن الطبيعة".
*******************
(( 2))

إنّ المفهومين الأساسيين الأكثر أهمية للعالم الفيزيائي عند أرسطو هما: "المادّة substance" و"الجوهر essence". فالمادّة هي الشيء الذي صُنِع منه كلّ شيء في هذا العالم، أمّا الجوهر فهو الماهية الحقيقية لكلّ شيء. إلى حدٍ ما، إنّ نظريّة أرسطو توازي أفكار أفلاطون عن عالم المثل والعالم المادّي أو عالم الظاهرات. فمادّة أرسطو أشبه بعالم أفلاطون المادّي أمّا جوهره فهو أشبه ما يكون بمُثُل أفلاطون. لكن هناك فرق كبير جداً.
انتقد أرسطو نظرية أستاذه أفلاطون في المثل وعالم الأفكار المفارقة. وقد قال أنّ أفكار أفلاطون عن عالم المثل غير المرئية والثابتة واللامتغيرة هي عبارة عن "كلمات فارغة ومجازات شعرية".
إنّ نظرية أفلاطون في المثل قدّمت جواباً على السؤال الذي يقول : كيف وجدَت الأشياء على حالها؟ يقول أفلاطون أنّها لم تكن أشياء مادّيّة، لكنّ المثل الثابتة وغير المرئيّة هي التي تحدّد شكل الأشياء في هذا العالم. من جهةٍ أخرى، آمن أرسطو أنّ الشّكل والمادّة لا يمكن أن يوجدا منفصلين ومستقلّين عن بعضهما. فالمثال أو الشّكل form موجود في المادة matter، أو أنّ الجوهر essence كامن في المادّة substance. فالمثل ليست ثابتة أو مفارقة بل هي جزء فعلي متداخل في تكوين الأشياء. لا وجود للعالم المثالي حيث توجد فيه المثل الكاملة والأفكار المفارقة، بل هناك عالم الأشياء المرئية الفيزيائية فقط. فما نراه هو الموجود الحقيقي.
*******************
(( 3 ))

بالنسبة لأرسطو، فالتغيّر ليس بالأمر السيئ. فهو لا يظهر نقصان عالم المظاهر والخيالات. فالتغيّر عمليّة طبيعيّة، فهو يحدث ضمن السيرورة الطّبيعيّة للأشياء. في الواقع، إنّ التغيّر أمر مهم من أجل الأشياء لتحقق إمكانياتها.
اعتقد أرسطو أنّ أهمّ نوع من أنواع التغيّر هو الذي يعيّنه الجوهر. فجوهر الشيء هو الذي يعطي الشيء شكله الذي هو عليه، بالإضافة إلى الشكل الذي يجب أن يصير إليه. فجوهر البلّوط هو الذي يجعله يصبح شجرة بلّوط. وجوهر الحجر هو الذي يجعله يقبع هنا لدهور كثيرة حتى يتحوّل بتأثير الرّياح والأمطار إلى تربة.
لذلك فالتغيّر بالنسبة لأرسطو قد يكون له غايةً ما. وكانت هذه طريقة جديدة بالكامل للنظر إلى مفهوم التغيّر. فالوجود كان يصير بشكلٍ فعلي في مكانٍ ما. وكانت الفلسفة بدورها تصير إلى مكانٍ ما أيضاً، لأنّ أرسطو كان يفعل أكثر ممّا فعله غيره لتفسير ماهية الأشياء.
إنّ موقف أرسطو عن التغيّر استمر بممارسة تأثيره على الفلاسفة والعلماء لقرون عديدة، حتى جاء العالم الإنكليزي "تشارلز داروين Charles Darwin" بنظريّته الثورية "التطوّر عن طريق الانتقاء الطبيعي" في القرن التاسع عشر.
معظم الفلاسفة هجروا فكرة الغاية الداخلية للإنسانية في القرن التاسع عشر, وهذا ما دفع الفيلسوف الوجودي الفرنسي "جان بول سارتر" في القرن العشرين إلى القول: "الإنسان محكوم بأن يكون حراً".
لنلاحظ كيف أنّ موقف أرسطو تجاه التغيّر مختلف عن مواقف أسلافه وعن موقف "تشارلز داروين" الذي كان أوّل من عرض علينا بشكلٍ فعلي بديلاً جيّداً عن أفكار أرسطو. وهنا نورد أراء بعض أسلاف أرسطو الذين سبقوه الذين تناولوا موضوع التغيّر:
• هيراقليطس: إنّ التغيّر هو النتيجة الطبيعية لصراع الأشياء مع متناقضاتها أو أضدادها.
• بارمنيدس: التغيّر وهم، فنحن نتوهّم بأنّ الأشياء تتغيّر. في الواقع إنّ الأشياء تبقى كما هي.
• أفلاطون: يظهر التغيّر كيف أنّ الأشياء الناقصة هي انعكاسات لمثلها اللا ـ متغيّرة.
• أرسطو: قد يكون للتغيّر غاية, وهو يحصل عندما تصبح الأشياء على ما يجب أن تكون عليه.
• داروين: التغيّر عمليّة عشوائية وغير منظّمة، لكنّ التغيّرات يمكن أن تحدث عبر عملية الانتقاء الطبيعي.
*******************
(( 4 ))

إحدى الأمور الأساسية التي تفصل أرسطو عن العلماء المعاصرين هي فكرته التي تقول أنّ الأشياء لها غاية وهدف. لكن أغلب العلماء اليوم يرون أنه من الخطأ التحدّث عن الأشياء الطبيعية بأنّ لها هدفاً أو غاية منها.
قد نقول، كما سيقول أرسطو، أنّ العصفور يملك جناحان من أجل الطّيران. لكنّ العالم سيقول أنّ أجنحة العصافير تطوّرت عبر سلسلة لا نهائية من التغيّرات العشوائيّة والطّفرات mutation والتي تبيّن أنها تحوّلت إلى شكلٍ من أشكال التكيّف. وتلك هي نظرية داروين في التطوّر.
بإمكاننا استخدام مفهوم داروين في التغيّر الكيفي لتفسير التغيّرات التي طرأت على التفكير الفلسفي على مرّ العصور، كما هو الأمر في الطّفرات التي تحصل في الأنواع الحية.
لماذا كانت فلسفة أرسطو ذات تأثير كبير كل هذا الوقت؟ ليس لأنه كان محقاً، فمعظم الناس هذه الأيام ستخالفه الرأي. بل فكرته كان لها تأثير كبير لأنها توافقت وتكيّفت مع تفكير الناس في المجتمع، حيث أنها منحتهم الشعور بالغاية.
تخيّل على سبيل المثال، الحيوان الذي تطوّر حتى صار طائراً. ولنقل أنه كان عظاءة مكسوّة بالرّيش لكن بدون أجنحة. وعلى مرّ القرون، فقست الآلاف من هذه المخلوقات، وجميعها كانت تتمتّع بخواص مختلفة بشكلٍ خفيف. بعضها لها عيون لكنها نمت نحو الخارج، وأخرى لها أرجل لكنّ جسمها مكسوُ بالثأليل، وهكذا. فإذا ساعدت هذه التغيّرات المخلوقات في صراعها من أجل البقاء، فيتمّ تمريرها وتوريثها إلى الأجيال التالية.
أخيراً، ولدت العظاءات المكسوّة بالريش والتي بإمكانها أن تعلو عن الأرض عن طريق تحريك أذرعها، ليس لأنها كان يجب أن تكون كذلك، بل لأنّ ذلك كان أحد ملايين التغيّرات العشوائية في طريقة تفقيس هذه العظاءات. لكن ولأنّها كان بإمكانها أن ترفرف وترفع نفسها عن سطح الأرض، فإنها حصلت على الغذاء الأفضل في المرتبة الأولى، وتمكّنت من الهرب من أعدائها قبل أخواتها التي لم تكن تستطيع الرفرفة والطيران. فانقرضت تلك التي لم تتمكّن من الطيران، بينما نجت العظاءات الطائرة وأنجبت العديد من العظاءات الطّائرة الأخرى. لذلك سيقول العالم، أصبح للطيور أجنحة بفضل صدفة جيّدة، وليس بفضل أيّ شكل من التخطيط المسبق والذكي.
إنّ نظرية داروين تفسّر كيف يمكن أن تتغيّر أشكال الحياة من دون أن يكون هناك غاية كبيرة وراء هذا التغيّر. فالتغيّر يحدث بكلّ بساطة بطريقة عشوائية، لكنّ الانتقاء الطبيعي هو الذي يحدّد ما هي التغيّرات التي يجب أن تبقى والتي ستتحوّل إلى سمات تكيّفيّة للأنواع. لذلك وفق أقوال داروين، لم يكن هناك أيّ هدف ضروري كان سبباً في تطوّر الكائنات البشرية من أسلافها الرئيسيات: كلّ ما في الأمر أنّ السّمات البشرية هي التي مكّنت جنسنا للبقاء والتكاثر في ظلّ ظروف بيئية كانت خطرة بالنسبة إلينا في بادئ الأمر.
*******************
(( 5 ))

لم يكن أرسطو يملك أيّة فكرة عن التغيّرات العشوائية واللا ـ منتظمة. بل كان قد أظهر العالم كلّه وكأنه مصنوعٌ من أجزاء متداخلة ومترابطة بغايات متّصلة. لقد رأى أنّ البشر عبارة عن أجزاء من عالمه الغائي، بغاياتهم المفردة الخاصّة ليكونوا كما هم. لقد رأى الأشياء وكأنها لها هدف مهم وجوهري، من ضمنها السّلوك الإنساني. لقد كان مقدّراً لنا أن نكون كذلك، وكان مقدّراً لنا أن نفكّر. فالفكر، أو القدرة على التفكير بشأن العالم، له غاية. وقد آمن أفلاطون بأنّ الناس يجب أن يحافظوا على هذه الغاية في عقولهم طوال حياتهم.
بالنسبة لأرسطو، فالتفكير هو أمرٌ من المفروض أن نقوم به. من الجيّد أن نفكّر. في الواقع، كان من المفروض أن نكون فلاسفة مندهشين من عظمة هذا العالم وتعقّد هذا الوجود. فذلك بمثابة جزء يعيش مثل البشر.
*******************
(( 6 ))

بسبب موقفه الخاصّ تجاه الغاية والهدف من البشرية، كان تفكير أرسطو متوافقاً مع الكثير من الأفكار الدينية التي جاءت من بعده. في الواقع، اعتمد المفكّرون الدينيون بشكلٍ كبير على أرسطو لمدى قرون طويلة، لكنّ تفكير أرسطو كان مختلفاً عن التفكير الديني في الكثير من الوجهات. من جهة، لم يكن أرسطو يؤمن بالحياة بعد الموت أو بخلود الروح. فهو يقول أنّ الكائنات البشرية _مثل كلّ الأشياء الحيّة_ تمتلك أرواحاً، لكنها تموت مع الجسد. لذلك علينا أن نتمتّع قدر الإمكان بنصيبنا من الحياة في هذا العالم طالما أننا مازلنا أحياء.
إنّ أرواحنا البشرية تسمح لنا بالتفكير. فالفكر بالنسبة لأرسطو كعضويةّ أشبه ما يكون بعملية التنفّس والمشي، ويمكن أن ينمو ويتطوّر مثل أجسامنا المادّيّة. وهو جزء من طبيعتنا البيولوجية. فالروح بالنسبة لأرسطو غير منفصلة عن الجسم، بل هي أحد مفاهيم الجسد. فروحك هي أنت. فهي هوّيتك وما أنت عليه. وعندما تموت، يقول أرسطو، روحك تموت معك.
تنويه: نزع الفلاسفة اللاهوتيون في العصور الوسطى إلى نبذ فكرة أرسطو التي تقول بأنّ الروح أو النفس تموت مع الجسد. على الرغم من أنهم قد نصّبوه سلطاناً على جميع الأشياء، لكنهم تمسّكوا بأفكارهم ومعتقداتهم حول خلود الروح وبقائها بعد موت الجسد.
إنّ مفهوم الرّوح يتناسب مع الفكرة التي تقول أنّ التغيّر يمكن أن يكون شيئاً جيّداً إذا كان ذلك مفهوم التطوّر والتقدّم. هذا التقدّم له غاية وهدف. وعندما يحقق التقدّم غايته، فإنه يفتح الطّريق أمام أشياء جديدة أخرى لتحقّق غايات أخرى. فالتغيّر من أجل تحقيق غاية هو أمر طبيعي ومحتوم.
إنّ فكرة الغاية لها مكانة خاصّة في فلسفة أرسطو. ومع ذلك، فالغاية ما هي إلاّ تفسير واحد من تفسيرات أرسطو الكثيرة لمفهوم التغيّر. أدرك أرسطو أنّ التغيّر يمكن أن ينظر إليه من خلال عدّة طرق، لذلك فقد قسّم فكرة التغيّر إلى مجموعة من أجزاء مختلفة. وعند جمعها مع بعضها، فإنّ هذه الأجزاء تشكّل نظرته في "السّببيّة causality".
*******************
(( 7 ))

إنّ السّبب بالنسبة لأرسطو ليس مجرّد ما يحدث ويقود إلى حدثٍ معيّن، بل هو أيضاً هدف تمّ إدراكه، حسّ الغاية. وقد أطلق أرسطو على هذا الحسّ اسم "telos"، وهو مصطلح إغريقي قديم بمعنى "نهاية end". وهو كما لو أنّ النتيجة موجودة مسبقاً، وتسحب العالم الواقعي معها، وهي جذر المصطلح الفلسفي "مذهب الغائية Teleology" الذي يعني بدوره: البحث في غايات الأشياء. فمذهب الغائية قد تمّ دحضه وتفنيده من قِبَل العلماء المعاصرين.
لذلك فالجوهر يبدو كفكرة جيّدة يمكنها أن تفسّر الكثير من الأمور عن ماهية الأشياء. لكن كيف يمكننا أن نتأكّد من وجود فرق بين تغيّر له غرض وغاية _أو جوهري، وفق كلام أرسطو_ وبين آخر ليس جوهري؟. قد يصيب البرق شجرة بلّوط، مسبباّ سقوط أحد الفروع. وذلك سيكون نوع مختلف من التغيّر يختلف اختلافاً كبيراً عن التغيّر الهادف أو الغائي الذي أدّى إلى نموّ شجرة البلّوط وكبرها.
********************
(( 8 ))

لتفسير كون الأشياء على ما هي عليه وسبب التغيّر الذي يصيبها، عرّف أرسطو أربعة أنواع من الأسباب:
• السّبب المادّي: إنّ المادّة التي صُنِعَت منها الأشياء تسمح بحلول التغيّر فيها.
• السّبب الفعّال: الحدث السّابق الذي يقود إلى النتيجة.
• السّبب الشكلي: الدّافع الدّاخلي والجوهري الذي يقود إلى التغيّر.
• السّبب النهائي: النهاية الخارجية أو الظّاهرية أو الغاية المرجوّة من التغيّر.
ومن خلال وصف السّبب في هذه الطّرق المختلفة، عرّف أرسطو جميع الطّرق التي يمكننا أن نفكّر فيها عن سبب حصول شيء ما. فنظرته إلى المشكلة هي نظرة منطقيّة بالكامل، محاوِلةً تفسير الحقيقة الطّبيعيّة من جميع النواحي والتفسيرات الفيزيائية الممكنة.
يعتقد بعض الناس أنّ أرسطو بالغ بأوصافه المنطقية للعالم الواقعي. وقد قال الفيلسوف الإنكليزي التجريبي "فرنسيس بيكون" أنّ أرسطو "أقام فلسفته الطبيعية معتمداً بالكاد على منطقه الخاص، معيداً بذلك تعقيدها وعدم جدواها". ويقصد بيكون بذلك أنّ أرسطو كان مهتماً جداً بالاحتمالات المنطقية متناسياً الأشياء والحوادث الفيزيائية الفعلية.
*******************
(( 9 ))

لم يكن أرسطو يحتمل الخدع المنطقية للسفسطائيين الذين كان يشعر بأنهم مجرّد متلاعبين بالكلمات. لكن كيف تلاعبوا بالكلمات؟ لأقدّم لك مثالاً يمكننا أن نقول: "أنّ أمّك تبلغ من العمر 50 سنة، والمرأة التي أنجبتك كانت في عمر 25 فقط. لذلك، لا يمكن أن تكون أمّك، بل كانت امرأة أخرى".
لتفنيد هذا النوع من التفكير باعتباره منطق مغالط، قسّم أرسطو إلى عدّة مقولات كلّ الأشياء على اختلاف أنواعها التي يمكننا أن نقول شيئاً بشأنها. واحدة من المقولات تشير إلى ماهيّة الشيء. أخرى تشير إلى عمر الشيء أو كم مضى على وجوده من زمن. وسيقول أرسطو أنّ التفكير حول مسألة أمّك يربك هذه الفئات أو المجموعات. في هذه الحالة إنّ القول "أمك"، مختلف عن الكلام عن عمرها. فكلّ تصريح يستخدم مفهوم الكينونة بطريقة مختلفة.
قال الفيلسوف ما قبل السقراطي "هيراقليطس": "لا يمكنك أن تسبح في ماء النهر مرتين"، ويمكننا أن نقول بأنّ أرسطو ارتكب خطأ تصنيفياً، حيث أنه أربك مجموعة الحقائق التي تجعل النهر نهراً بمياه جارية من الماضي إلى المستقبل. وبالرغم من ذلك كان لدى هيراقليطس وجهة نظر: ليس فقط الماء، بل اللغة أيضاً _حتى اللغة التصنيفية_ تملك الميل لتنجرف وتتحوّل إلى شيء آخر.
********************
(( 10 ))

قسّم أرسطو كلّ شيء إلى عشر مقولات. وبما أنّ اثنتين فقط من هذه المقولات لها معنىً في اليونان القديمة، وأنا أفترض أنّك لا تعرف تلك اللغة، هنا أورد قائمة من تسعة فمقولات متبقّية:
• النوع: ما هو الشيء؟
• النوعية: ما هي سمات الشيء؟
• الكم: كم هو عدد الأشياء أو كم تبلغ من الكبر؟
• الصّلة: كيف يتّصل هذا الشيء مع غيره من الأشياء؟
• الموقع: أين يقع الشيء؟
• الزمن: أين وقع هذا الشيء أو كم يبلغ من العمر؟
• الفعل: ما الذي يفعله هذا الشيء؟
• الاستقبال: ما الذي تمّ فعله بهذا الشيء؟
أراد أرسطو أن يقسّم كافة الأنواع المختلفة للأشياء التي من الممكن قولها عن أي شيء والحفاظ عليها منفصلة حتى يتمكّن الناس من فهمها بشكلٍ أفضل ويعرفون بالضبط ما الذي يتكلّمون عنه. أراد أن يتجنّب مختلف أنواع اللغط المنطقي الذي كان ينشره السفسطائيين بين الناس.
كانت مقولات أرسطو تشكّل الثورة في المدارس على مرّ القرون. فإذا أردت أن تكون مدرسي Scholar، عليك أن تتعلّم تلك المقولات وأن تستخدمها. ومع ذلك، فأغلب الفلاسفة في أيامنا هذه يوافقون أنّ هذا النوع من المنطق الصّوري formal logic لا يخبرنا الكثير عن الأشياء. فهو يعتمد على كيفية عمل اللغة أكثر من اعتماده على الماهية الفعلية للأشياء. مثلاً، كيف يمكننا أن نميّز الفرق بين مقولة "النوع" ومقولة "النوعيّة"؟ فإذا فكّرت في ذلك قليلاً، فإنّ الأشياء يتمّ تصنيفها في أنواع بسبب نوعياتها.
إنّ التجريبية في القرن السابع عشر قامت بردّة فعل ضدّ هذه الأنماط من التفكير وانتقدت أرسطو لأنه أبرز المقولات الاصطناعية للأشياء. وفي الاعتراض الذي ساقوه على منطقه، نسوا الأمر الجيّد حول مساهماته في كافة المجالات الفلسفية. والواقع أنّ فكر أرسطو هو الذي جعل طرق تفكيرهم ممكنة.
إنّ مقاربة أرسطو المنطقية للعالم الواقعي شابهت نظرة أفلاطون في أن يجلب الأفكار معها إلى العالم الواقعي الذي هو _على وجه التحديد- غير موجود هناك. إنّ كافّة الطّرق الممكنة للتفكير في التغيّر الحاصل هي ليست متشابهة بالضرورة مع التغيّر الحاصل الذي نلاحظه. وكما عند أفلاطون، فهناك ميل عند أرسطو لمساواة الطّريقة التي نفكّر بها والأشياء التي نفكّر فيها.
ومع ذلك، أرسطو لم يعتمد على نفس التفسيرات المثالية غير المرئية التي اعتمدها أفلاطون. بشكلٍ من الأشكال، إنّ تفكيره يشبه تفكير العالم المعاصر لأنه قام بدراسات حذرة ودقيقة على الكائنات الحيّة، حيث انه قام بجمع النماذج وراقب طبيعتها. وفي هذا المجال بالذات، يحتلّ أرسطو الأرض الفلسفية الوسطى بين المثالية الأفلاطونية وما ندعوه الآن باسم "العلم الحديث".
*******************
(( 11 ))
● المعنى الذهبي
حسب ما صرّح به أرسطو، إنّ غاية الناس الكبرى هي أن يعيشوا حياتهم بشكلٍ جيّد. بالنسبة إليه، هذا يتضمّن استغلال المزايا التي ينبغي علينا استغلالها، من ضمنها التفكير الجاد، بالإضافة إلى الشجاعة، الصّدق، والاعتدال في السّعي لتحقيق السّعادة. في الواقع، كلّ هذه الأمور مترابطة مع بعضها البعض.
هناك سمة أساسية هامّة في الفلسفة الأخلاقية الأرسطية وهي أنه أدرك أنّ التقصير أو المبالغة في أمرٍ ما يمكن أن يكون شيئاً. ويرى أرسطو أنّ كلّ ما هو جيّد يتوسّط بين أمرين سيّئين. وهذه الفكرة تنطبق على السّعادة كما تنطبق على السّلوك الحسن. في الواقع، يرى أرسطو أنّ الخير الطيّب والسعادة في الحياة هما شيئاً واحداً. فليس هناك من سبب للشخص الطيّب أن يمنع نفسه ( من جديد يركّز أرسطو على الرّجال فقط) من أيّ شيء يريده، طالما أنه لا يبالغ ولا يتجاوز الحدود.
لذلك، وبالنسبة لأرسطو، فالشيء السّيئ هو سيئاً بالنسبة لك وحدك. فعندما تقوم بعملٍ سيئ، فأنت لا تؤذي أحداً إلاّ نفسك في هذه الحياة. وإذا كنت تبالغ في إشباع حاجاتك وملذّاتك المادّيّة فستتدهور صحّتك. وإذا عاملت الناس بقسوة فهم لن يحترمونك أبداً وعليك فيما بعد أن تتحمّل النتائج. من جهةٍ أخرى، إذا كنت تتمتّع بالأشياء التي قدّمتها لك الحياة باعتدال، فستكون سعيداً وهانئاً. وهنا سيقول أرسطو، أنّ ذلك هو هدفك وغايتك كموجود إنساني.
هذه الفكرة التي تتناول مسألة الاعتدال في كلّ شيء وتجنّب المبالغة تعرَف "بالمعنى الذهبي golden mean". والمعنى هنا هو طريف متوسّط أو درجة معتدلة. فالمعنى الذهبي هو قانون يقول بأنك لا يجب أن تقوم بأيّ شيءٍ بإفراط.
لم يكن أرسطو هو الشخص الأول الذي فكّر في المعنى الذهبي. بل سبق أن تمّ عرضه أمام الملك "كليوبولوس ملك جزيرة رودس اليونانية" King Cleobulus of Rhodes قل مائتي عام من مجيء أرسطو. كما أنها انتشرت على يد الشاعر الروماني "هوراس Horace" الذي ساعد في نشرها وتعميمها على مرّ العصور، وخصوصاً بين فئات الطّبقات الثرية والموسّرة.
في الواقع إنّ منظومة أرسطو الأخلاقية مناسبة بشكلٍ خاص من أجل الناس الأغنياء الذين بإمكانهم اقتناء أيّ شيءٍ يريدونه. ما عليهم إلاّ أن يتذكّروا ما أخبرهم به أرسطو: ل تكن مأخوذاً بالأمور التي تحبّها. ويُعتَقَد أنّ أغلب تلامذة أرسطو كانوا ميسوري الحال، فهم الوحيدين الذين كان لديهم الوقت الكافي ليدرسوا الفلسفة طوال اليوم.
كما أنّ أرسطو قد أدرك أنّ الطريقة التي نتصرّف بها هي جزء مكمّل من كينونتنا وشخصيّتنا. فنحن لا يمكننا أن نقرّر ببساطة الشكل الذي تريد أن نكون عليه، بل علينا أن نتعلّم كيف نكون لذلك فالتصرّفات الغائية هي الطبيعة الثانية لنا. إنّ الطريقة الأفضل لنحيا الحياة التي وصفها لنا أرسطو هي بأن نتعلّم في أثناء نموّنا كيف نحياها بطريقة يتمكّن فيها الإنسان أن يتطوّر كفرد، من الناحية العاطفية والعقلية بالإضافة إلى الناحية الجسدية.
*******************
(( 12 ))

بالرّغم من أنّ أرسطو كان أكثر الفلاسفة عصوراً على مرّ العصور، إلاّ أنه من أكثر المفكّرين الذين تمّ الاعتراض على معظم أعماله في العصر الحديث. ولأنّه كان مفكّراً شاملاً ومنظّماً، فقد أصبح السّلطة الفكرية على كلّ شيء تقريباً. كنتيجة لذلك، استخدم الناس أفكاره بطريقة لم يكن يعنيها أبداً.
إنّ تابعي أفلاطون أرادوا أن يؤمنوا أنّ أفلاطون وأرسطو اتفقا في الكثير من النقاط المهمّة، لذلك فقد تجاهلوا الاختلافات بين الاثنين. وقد أراد المفكّرون اللاهوتيون أن يعتقدوا بأنّ أفكار أرسطو كانت متوافقة مع الأفكار التي خرجوا بها بشاّن الله والنفس.
أكثر من ذلك إنّ جامعات العصور الوسطى كانت مأخوذةً بمنطق أرسطو واستخدمته كجواب عن جميع الأسئلة. لذلك فإنّ علماء القرن السابع عشر لاموه لأنه كان ساطوراً منطقياً حتى بالرّغم من أنّ علمهم كان يدين له بالكثير.
وبسبب ذلك كلّه، من الصّعب تمييز أرسطو الحقيقي من خلال سديم الزمن، بصرف النظر _أو بسبب_ عن مكانته الهامّة والكبيرة كفيلسوف.


يتبع...



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 2
- مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 1
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الخامسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الرابعة)
- الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)
- الفلسفة لجميع الناس (لحلقة الثانية)
- الفلسفة لجميع الناس (الحلقة الأولى)
- فيروس العقل: ليس مجرد كتاب
- من الإنجيل إلى الإسلام: مقابلة مع كريستوف لوكسنبرغ
- حدذ الرّدّة وحقوق الإنسان... ابن الورّاق
- الإسلام والإرهاب الفكري... ابن الوراق
- الحور العين، وما أدراك ما الحور العين؟!... ابن الورّاق
- العار في الإسلام: نزع حجاب الدموع... ابن الوراق
- تهافت المقال: مقالة محمد علي السلمي أنموذجاً
- الحوار المتمدن... إلى أين؟
- منكر ونكير: ملكان أم شيطانان ساديان؟!!
- هل علم النفس -علم-؟
- الدر المعين في معرفة أحوال الشياطين!!!؟
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الرابعة)


المزيد.....




- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...
- جهاز كشف الكذب وإجابة -ولي عهد السعودية-.. رد أحد أشهر لاعبي ...
- السعودية.. فيديو ادعاء فتاة تعرضها لتهديد وضرب في الرياض يثي ...
- قيادي في حماس يوضح لـCNN موقف الحركة بشأن -نزع السلاح مقابل ...
- -يسرقون بيوت الله-.. غضب في السعودية بعد اكتشاف اختلاسات في ...
- -تايمز أوف إسرائيل-: تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن ...
- الحرب الإسرائيلية على غزة في يومها الـ203.. تحذيرات عربية ود ...
- -بلومبيرغ-: السعودية تستعد لاستضافة اجتماع لمناقشة مستقبل غز ...
- هل تشيخ المجتمعات وتصبح عرضة للانهيار بمرور الوقت؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السابعة)