أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 12 –















المزيد.....

رواية جفاف الحلق – 12 –


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2951 - 2010 / 3 / 21 - 21:34
المحور: الادب والفن
    


رواية جفاف الحلق – 12 –

- 12 -

يزورنا محمد فارس كثيراً، يتسامر مع خالي حتى ساعة متأخرة، تقول جدتي أنهما مثل التوأم لم يفترقا إلا في الهجرة، سكن محمد مع أهله في مخيم جباليا، يترك لنا رشاشه الكارلو ستاف بعد أن ينزع خزنته الطويلة، ويودعها في "الجربنديه" الكاكية مع الرصاص...
يعطيها لجدتي لتبعدها عن متناولنا، يرفع الرشاش لأعلى، ويضغط على الزناد خشية أن يكون مخزناً رصاصة في بيت النار، أشبح حزام الرشاش على كتفي، فيشحط بوزه على الأرض، انشغل به، أتفقد أجزاءه، أتمدد خلفه، أصوب على أهداف، أطلق صليات من فمي "بب طاخ".. أقضي على فلول اليهود الهاربين يتساقطون مثل الجرذان، يُبقّون الدم من أفواههم، ومن أجسادهم المثقبة برصاصي الوهمي.. أخوض معركتي وأتمنى لو يشاركني صديقي عودة، بقيادة محمد فارس العملاق، أراه أكبر وأضخم من أبي وجدي وخالي الذي يشبعني ضرباً على قفاي، الرجل ربعة يميل إلى القصر، قوي البنية، يلمع سنه الذهبي في سقف فمه المظلل بشاربه الكث.. يقولون أنه لبس سنة قشرة ذهب عياقة شباب وغندرة أمام الصبايا.. يضحك من أعماقه عندما يناوش جدتي نفيسة، يستدرجها ولا يمل سماعها، يأتي لها بالأخبار والعلامات دائماً، ينبش أيامها:
- بتسلم عليك يا حاجة والسلام أمانة
- أنت كذاب =، مثل الليّ خلفوك، هو عندك مراجل تصل عندها
- بأمارة الخلخال المغربي
تسح دموعها على وجهها، تتقصف شفتاها مثل طفل ضيع أمه، تعتصم بمسبحتها، تسقطها حبة حبة، وتلهج بأدعية لا نتبين معانيها، يخرجها أبي من حالتها.. لا تمل من تكرار الحكاية ولا يمل أبي من طرح السؤال:
- وهان عليك الخلخال تعطيه لها؟
- كله علشانك، ما هي أول ما بشرتني فيك، قبل أبوك والمغربي
- ليش هي مكشوف عنها الحجاب ؟ والله ضحكت عليك العمشة
- اسكت أنت ايش عرفك، هذا شغل نسوان ..
تطمئن لعدم وجود غرباء في المجلس، تتابع:
"كلكم أولادي من مين بدي أستحي؟ دست المرأة يدها فيّ، وجستني، ولما سحبت يدها مني قالت:" أنت حامل يا نفيسة "واللي في بطنك ولد باذن الله.. هي بتعرف حبل البنات من حبل الأولاد.. أيامها كنت عطشانة للخلفة ووحدانية بين المجدلاويات، لا عندي دولاب ولا جوزي وراء نوله، كان سريحاً يغيب، وعلمه معه.. تركني أيامها وحسرتي على الولد الثاني ما بردت.. وبعد ما جستني أم محمد العمشة رجع أبوك حامل بشارة المغربي ومعاه الحجاب، قلت المرأة صادقة ويدها مبروكة.. ولما ارتفع بطني طلبت مني الحلوان، وحليّ في عينها الخلخال، المجدلاويات ما بيعرفن الخلاخيل، قسمتها ونصيبها:
- وأبويا ما فقدش الخلخال ؟!
- وايش دخله في شغل النسوان، والخلخال جبته معي من دار أبوي، لا دفع فيه أبيض ولا أسود.. اشتراه أخويا الحاج حسين من القدس، لطرد الجنية التي كانت لابسة جوزي الأولاني علشان متلحسش عقلي مثل ما لحست عقله، دستور يا حبيبي يا رسول الله, الشيخ قال لأخوي خليها تلبس الخلخال، وفي المشوار الجاي هات معاك نسيبك نعمل له عمل..
يوه يلعنها من سيرة.. راح الله يرحمه بعمله.
- جوزك الأول ولا الثاني؟
- الله يرحم الجميع
كلما عاد محمد فارس من جولاته، يبلغ جدتي سلامات أم محمد العمشة، ويتحدث عن المرأة التي رفضت تسجيل اسمها مع الناس عند اليهود الأنجاس، عندما قاموا بإحصاء من تبقى من الناس في المجدل.. وعندما رحّلوهم إلى اللد والرملة وغزة طردوها من بيتها، فلجأت إلى خصها في الكرم طرف البلد، وعرفت عند اليهود بالعربية المجنونة، تهش أغنامها وتسير بجوار حمار أبيض لا تركبه، ولا تحمل عليه غير جرة الماء، ولا تطعمه التبن أبداً.. تعلفه من الحشائش الخصراء، والبقول البرية، وثمار التين، وكيزان الصبر.. الفدائيون المتسللون إلى المجدل، يمرون بالخص، يتزودون خبزاً وجبناً وزيتوناً وماء، يتركون علاماتهم، فتلحق بهم عند الآبار والبوايك المهجورة، وصواريف الصبر، تزودهم بالأخبار، وترصد لهم الطرق، والمسارب، وتعود إلى خصها.. في كل مرة يحدث محمد فارس خالي تفاصيل ما جرى له في العملية، وكنت أتساءل عن الفرق بين العمليات التي يقوم بها محمد فارس وأصحابه مع اليهود، والعملية التي أسفرت عن قلع عين خالي من وجهه في مصر.. يتحدث محمد ، ويكتب خالي ولم يخطر على بالي أن الرجل لا يقرأ ولا يكتب، وأنا الذي أعتبره رجلاً خارقاً، يعرف كل شيء، ويتعامل مع كل لغات الأرض، في كل مرة يقّبل يد جدتي ويطبع قبلة على رأسها، يتركها مع دموعها، وفي كل مرة يحضر معه الأمارة والإشارة.. ثمار جميز من الكرم الغربي ، قطعة جبنة من حليب سخلات عنـزتها الشامية التي رمت الحبات، وهرمت ولم تهن على أم محمد، فلا هي باعتها، ولا هي ذبحتها، وحرمت لحمها وثمنها على العرب واليهود.. وظلت الشامية أمام الخص حتى نفقت بعد رعدة قوية كادت تهدم قبة السماء سبقها ضوء برق أضاء الدنيا، وقبل أن تزخ السماء ماءها أسلمت العنـزة الروح، ولما رتبت جدتي الأيام والفصول، حددت موت عنـزتها بيوم الثلجة التي أدركت الناس في الهجرة.
وفي مرة أحضر محمد فارس خصلات من شعر أبيض ناعم، تعرفت عليه شعر بطن الجحش.. كبر الجحش وصار رهواناً ، وقامت إلى مغزلها ،وغزلت من الخصلات حبلاً رقيقاً أودعته في الصندوق ، وأغلقت عليه.. نجري وراء خيالاتنا الطفلة، نطارد اليهود مع محمد فارس يصارعهم، ويطويهم، يطرحهم أرضا، ويقطع أطرافهم.. كنت أعتقد أنه ابن عنتر بن شداد أو ابن شمشون الجبار، سألته يوماً:
- إيش بيقرب لك شمشون يا عمي
عبث بشعر رأسي وضحك..
- طيب إيش بيقرب لك عنتر بن شداد
يغرق في الضحك، يقهقه، تلمع أسنانه الذهبية، يتلوى لسانه الأحمر السميك في فمه:
- يا حبيبي هدول ماتوا من زمان.. على أيام جدود جدودنا
ويحدثني عن دليلة، وكيف قصت شعر شمشمون، وسحبت قوته، وعن عبلة، ولماذا وقعت في حب عنتر وهو العبد الحبشي الأسود.. ولا يحدثني عن مغامراته، وعن الفدائيين الذين يعبرون الحدود من وادي بريدعه، ومن بياره الباشا، يعبرون إلى البلاد ينفذون العمليات، ويفعلون العجائب ويعودون في نفس الليلة، وكنت أتخيل اليهود "مقطشين " بلا أنوف ولا آذان، يخفون وجوههم كما يفعل العتال الأقطش، الذي ضيع أذنه اليسرى في "طوشة"، عندما هجمت عليه امرأة وعضته، ولم تتركه الا وأذنه في فمها.. بعد أن طعن ابنها بالشبرية، ونثر مصارينه قدامه،.. وبعد الطوشة عادت مصارين غريمه إلى بطنه، وغابت أذنه من رأسه.. لم يغضب من لقبه، يجاري محرم الكندرجي:
- قديش أخذت دية لاذنك يا أقطش؟
- ولك هو أنا كنت بأفكّر في ذاني، ولا في الرجل اللي لولا لطف الله كان راح فيها، وحملت دمه ليوم القيامة.
- مش عيب عليك امرأة تأخذ أذنك!؟
- ولك هي امرأة، والله بتهد على السوق كله
- طيب بينفع أفصل لك واحدة كاوتشوك بدلاً منها.
يضحك الأقطش، ويمضي إلى حال سبيله، يحدث نفسه بصوت يسمعه التجار والباعة " تقوم تضربه الكل يلومك.. يقولوا لك هو حدا يتمرجل على محرم، ما أنت عارفه كرخنجي ومسخرجي"
وفي يوم سمعنا طرقاً عنيفاً على الباب.. كان الوقت فجراً، وكان الطارق محمد فارس منهك ممصوص:
- افرشوا لي بدي أنام..
عند الظهر صحا، دخن كثيراً، بكى وارتمى على صدر جدتي نفيسة، أخرج من جيبه شيئاً لم نتبينه، فصرخت ووقعت مغشياً عليها.. فركوا في أنفها بصلاً مهروساً، ورشوا على وجهها الماء.. صحت صامتة ساهمة، محمد فارس يبحث عن براءته، ويبكي:
- كنا في بيارة أبو خضرا في بايكة البئر، وعند الفجر سمعنا أجراس أغنامها من بعيد، خرجنا لها، ولما اقتربت منا، فتحوا علينا نار جهنم، سقطت الولية, خردقوها.. سحبتها إلى البايكة، كانت مع الله.. أخذت كيسها من عبها، وشلّحتها الخلخال من قدمها.. يا الله ما أشد بياض لحمها.. عمري ما شفت امرأة في بياضها.. تقولش صبية بنت أربعتاشر مغسلة باللبن ، مددتها تحت الدالية، وانسحبت ألحق الرجال على طريق الجورة بعيداً عن كمائن اليهود .
وأخرج كيساً قماشياً مزموماً بحبل دكة من حرير مجدول، أخرج منه بعض مجيديات وورقة عقد قرانها موقعة بختم الشيخ عثمان زقوت، وحجة شراء الكرم بخط وشهود حسن عايش الكاتب والموثق، وسند أمانة بعشرة جنيهات فلسطينية مودعة طرف المختار، بتاريخ يعود لما قبل الهجرة بسنوات.. وفي قاع الكيس حفنة من بذور اختلف أهل الدار عليها، ولما تشممتها جدتي أغمى عليها من جديد..وعندما صحت أخذت البذور وأودعتها في صندوقها وأشهدت الجميع :
- نذرن عليّ لأزرعهن مطرح ما وقعتِ يا أم محمد.
ودقت محمد فارس في صدره، بغلِّ راحت تضربه:
- تركتها وحدانية يا عايب عزت عليك المروءة والمراجل، يا خسارة شواربك، استخسرت فيها جورة وحبة رمل تدفنها وتستر لحمها، تركتها للوحوش واليهود يتصببوا عليها..
بكى مثل الأطفال، غسلت دموعه وجهه وشاربيه، قبّلها في كل وجهها يستغفرها:
- رصاصهم نزل علينا مثل المطر، موت أحمر يا حاجة.
عقدت جدتي وربتها السوداء حول رأسها أربعين يوماً، لم يلامس جلدها غير ماء الوضوء، وفي ليلة الأربعين حنت كفيها، ونـهضت مبكرة، واستحمت، كحلت عينيها، وغيرت ملابسها، وأخذت من أبي نقوداً، وحملت ما استطاعت حمله من خبز الدار، وسحبتني معها إلى المقبرة.. وأقرأت الشيخ محمد مهدي جزءاً كاملاً على روح الفقيدة، ثم وزعت الخبز وما اشترته من تمر وقطين على أصحاب النصيب، ووضعت ما تبقى من نقود في يد الشيخ محمد، وقفلنا عائدين إلى الدار قبل صلاة الظهر.



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية جفاف الحلق -11 –
- رواية جفاف الحلق – 10 –
- رواية جفاف الحلق -9 –
- رواية جفاف الحلق -8 -
- روية جفاف الحلق -7 -
- رواية جفاف الحلق – 6 –
- رواية جفاف الحلق – 5 –
- رواية جفاف الحلق -4 –
- رواية جفاف الحلق – 3 –
- رواية جفاف الحلق – 2 –
- رواية جفاف الحلق – 1 -
- .. في سر العسل
- - قراءة في رواية أوجاع الذاكرة للكاتبة الجزائرية جميلة طلباو ...
- طقوس امرأة بريئة – 5 –
- طقوس امرأة بريئة – 4 –
- طقوس امرأة بريئة – 3 –
- طقوس امرأة بريئة – 2 –
- طقوس امرأة بريئة – 1 -
- الجمر والحريق
- كلما حضر.. حضر الوطن - شهادة


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 12 –