القتل صعب يا هنادي!

فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2758 - 2009 / 9 / 3 - 00:05
المحور: حقوق الانسان
    

لو أن كائنًا فضائيًّا أتى من كوكبٍ آخر، ولو أننا وضعنا أمامه، في كأسٍ من البلّور النقيّ، صرصارًا ضخمًا، ثم مددناه بأجهزة حديثة لاختبار ما أمامه، تُرى ما الذي سيحدث؟ سوف يتأمل مَليًّا هذا الكائنَ الجديد، (جديد على عينيه اللتين لم ترياه من قبل فَرَضًا)، ثم يكتبُ تقريرَه كالتالي: كائنٌ حيٌّ، لونُه بُنيٌّ يميلُ إلى الحُمرة، له جناحان نصفُ شفّافين، وعدّة أجنحةٍ رقيقة متوارية، له شاربان دقيقان يتحركان يُمْنةً ويُسْرةً كأنهما ألويةُ رادار شديد الحساسية يلتقطان أدقَّ الذبذبات المحيطة، له ستة سيقان رشيقةٌ وطويلة، وله عينان مكوّنتان من عدساتٍ مُركّبة قويةِ الإبصار ليلاً، تستطيعان الرؤيةَ في مجالٍ ذي مخروط واسع بالنسبة إلى حجم الكائن. انتهى التقرير.
تلك الصفاتُ الظاهرية التي أطلقها رجلُ الفضاء على الصرصور، تتشابه كثيرًا مع وصف كائن آخر مما نعرف هو الفراشة مثلاً. نحن نكره الصراصيرَ ونحب الفراشات. يفني العلماءُ أعمارَهم من أجل اختراع مبيداتٍ جديدة للقضاء على الصراصير. لأن الأجيالَ الجديدة منها تعرفُ كيف تنتجُ في أجسامها الصغيرة هرموناتٍ جديدةً تتعاملُ مع كلِّ مبيد يتمُّ اختراعُه فتُبطلُ عملَه، لذلك علينا، نحن بني الإنسان، أن نبتكرَ أنواعًا جديدة لم تسجّلها ذاكرةُ خلايا السلالات الجديدة من هذه المخلوقات التعسة. على إننا نحبُّ الفراشاتِ ونتغنى بها في أشعارنا. نُحنِّطُها داخل كتبنا، ويصبِّرها بالدبابيس على لوحاتٍ خشبية مهوسو جمع الفراشات. الكائنُ الفضائيُّ الذي تخيّلناه في أول المقال لن يكره الصرصارَ ولن يحبَّ الفراشة. سيتعامل مع كليهما بحيادٍ تام، ويكتبُ تقريرَه العلميَّ في كليهما دونما حكم قِيِمة يحملُ صفاتٍ من قبيل: جميلٌ قبيح، نظيفٌ قذر، مُحبَّبٌ مُنفّر. لماذا؟ لأن الكائنَ الفضائيَّ متحرِّرٌ مما يكبّلنا نحن. نحن مكبلون بإرث معرفيّ علَّمنا أن الفراشةَ تحطُّ على الزهور، فيما الصرصورُ يكمنُ في بالوعات الصرف. أن الفراشةَ تحلّقُ في الهواء الطلق برشاقة لا تسمحُ لنا بالقبض عليها، مهما نحاول ذلك بشغف وفرح، بينما الصرصورُ يزحفُ بدونية وخِسَّة على أحطّ الأمكنة، فإن شاهدناه في بيوتنا نفزعُ ونبحثُ عن مبيدٍ أو خُفٍّ. نطاردُه حتى نسحقَه، ثم نأنفُ حتى من التخلُّص من جثّته!
الجمالُ والقبحُ فكرتان حول الشيء نصنعهما بمعرفتنا الشيءَ ومراسنا معه. لكنهما، الجمالَ والقبحَ، ليسا صفتين أصيلتين في متن هذا الشيء، أو ذاك.
بصريًّا، وربما تشريحيًّا، لا فروقَ كثيرةً بين الفراشة والصرصور، وبين الأرنب والفأر، وبين الكناريا والغراب، وبين دودة القزّ الجميلة التي نربيها بحبٍّ ونطعمُها أوراقَ التوت، وبين دودة الأرض التي نرهبُها لأنها تذكِّرُنا بالموت، ولا بين السمكة الملونة الجميلة وبين البراكودا المتوحشة المخيفة. بل لو أننا نظرنا للجمبري، قبل أن نُكوِّنَ معرفتنا حول طعمه وندرته وغلاء ثمنه، فلسوف ننفرُ من شكله الذي لا يختلف عن الجراد. أذكر، وأنا طفلة، أني دخلتُ المطبخَ بغتةً فوجدت كائناتٍ مرعبةً مُنفّرةً في صينية. سألتُ في تقزّز: ما هذا؟ قالت الطاهيةُ بدهشة: جمبري! فزِعْتُ وعزَفْتُ عن تناوله سنواتٍ طوالاً! إلى أن بدأتُ أعيدُ تنظيمَ اتصالي بالعالم والموجودات، ومحاولة بناء علاقات جديدة مع المخلوقات، ليس من خلال إرثي المعرفيّ القديم عنها، بل بوصفها كائناتٍ جميلةً، خلقها اللهُ على نحو فنيّ بديع، مهما اختلفت أشكالُها، وسلوكاتها. لذلك خلا بيتي دائمًا من مبيد حشريّ. كلما هممتُ بقتل حشرة تذكّرت جملةَ "طه حسين" العبقرية في رواية "دعاء الكروان" على لسان الفاتنة فاتن حمامة، مع خلفية موسيقى أندريا رايدر: "القتل صعب يا هنادي!" وكذلك كلُّ من قرأ مسرحية توفيق الحكيم "مصير صرصار" سيجد صعوبةً في قتله. ألجأ، لتجنّب غزو الحشرات بيتي، إلى الطرق السِّلمية المشروعة، من الحرص على النظافة وحُسْن التهوية، والترحيب بأشعة الشمس، التي تعرف جيدًا كيف لا تسمحُ بوجود من لا نرغبُ في وجوده. - جريدة "المصري اليوم" 3/8/09

#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات