أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - دردشة على ضفاف تموز















المزيد.....



دردشة على ضفاف تموز


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 2711 - 2009 / 7 / 18 - 08:22
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


دردشة على شواطئ تموز
 > سعدون هليل
 تحل هذه الايام الذكرى الحادية والخمسون لواحدة من أهم التغييرات الجذرية في تاريخ العراق المعاصر.. بما تحمل من نكهات عبقة طالت كل مسامات المجتمع العراقي وحقول نشاطه الاجتماعي ومكوناته المتعددة. إن رصد التغييرات التي حصلت في مواقع التكوينات الاجتماعية وتراتيبية موقعها في صلب القرار المركزي للدولة، وتغير اولويات الانماط الاقتصادية وخلخلت ماهية العقد الاجتماعي بين الدولة وهذه التكوينات الاجتماعية وما آلت إليه ايقاع حركة التطور..إلا سمات بارزة لعراق ما بعد ثورة تموز.. وإزاء هذا الحدث دعونا ندردش ونتحاور مع الباحث المختص بالثورة وشخصية الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم مؤسس الجمهورية العراقية الدكتور عقيل الناصري وللباحث مجموعة من الكتب والدراسات عن هذا الموضوع كان آخرها كتابه (14 تموز- الثورة الثرية) الذي صدر قبل شهر عن دار الحصاد في دمشق. كان لنا هذا الحوار من منفاه السويدي.
< دكتورنا الفاضل.. يقال بأن ثورة 14 تموز هي أهم حدث في تاريخ العراق المعاصر.. في الوقت نفسه من يعدّها انتكاسة للديمقراطية اللبرالية النامية. السؤال كيف تفسر لنا هذا التناقض بين الرؤيتين؟
في البدء شكرا جزيلا لطريق الشعب التي عودتنا على الاحتفاء بأهم حدث جرى في عراق القرن العشرين.. وكانت دوما من السباقين في تحليل هذا الحدث وتفكيك التجني اللاعلمي عليه. ولوعدنا إلى السؤال فإن رصدكم له فهو حقيقة موضوعية يمكن تتبعها في الخطاب السياسي العراقي.. وهذا نتاج طبيعي في ان يختلف الناس في تفسير ما بالك فهم التحولات الكبرى.. نظرا لاختلاف الرؤى الفلسفية والمصالح المادية والمعنوية وربما تناقضهما. لقد أشتدت النزعة الاخيرة منذ ثمانينيات القرن المنصرم عندما بدأت بعض القوى التي كانت محسوبة على اليسار في تبني المنهج الشكلي ورفع وتيرة التقليل من أهمية هذا الحدث إن لم يتهموه بما ليس عليه. فإكتفوا بدراسة الظواهر السلبية فقط ، التي ترافق اية ظاهرة اجتماعية جديدة طالما أن هذه الاخيرة سيرافق صيرورة تحققها نواحي ايجابية وأخرى سلبية.. ومعيار المقارنة والمقاربة بينهما يستنبط من ذات الظاهرة وما تحدثه من آثار اجتماعية وتحقيق مصالح للافراد والجماعات من جهة وزاوية النظر الفلسفية والفكرية للحدث ذاته من جهة ثانية.. كما أن المنهج الشكلي ليس له القدر على ايجاد الترابطات بين شكل الظاهرة ومضمونها والعلاقة الجدلية المتبادلة بينهما.. لذا اكتفوا برؤية سطح الظاهرة فحسب دون التعمق في العواقب الايجابية التي احدثتها ثورة 14 تموز في بنية التكوين المادي والانماط الاقتصادية للانتاج الاجتماعي واهمية الحراك الاجتماعي بين الطبقات الذي حدث افقيا وعموديا.
لقد تطرقت في كتابي الجديد المنوه عنه أعلاه وناقشت هذا الرأي بإسهاب وخرجت باستنتاج مفاده.. إن 14 تموز قد خلقت دفعا محفزا قوياً للتيار اللبرالي وذلك عندما حطم الاسس المادية التي كانت تقف حائلا أمام هذا التيار الحديث النشوء.. تمثلت أهمها في دفع الطبقة الوسطى (رافعة التحديث) بأغلب فئاتها إلى تبوء مراكز مهمة في سلطة الدولة وفي مرافقها العامة.. نظرا لما تتميز به من مزايا الوعي النقدي وخصائص الادراك الواقعي وصفات التصرف العقلاني هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد تبنت الثورة الأفكار العلمية والمنطقية لمضامين الحداثة التي غزت عراق الجمهورية الأولى وأمست تمثل الاساس المادي للمشاريع النهضوية للحكومات المتعاقبة.. لكننا منهجيا ننظر إلى ان التطور في الماديات والروحيات لا يسير بخط مستقيم.. فالتراجع سنة من سنن التطور.. فمثلا كان تشريع قانون الاحوال الشخصية، وقانون الاصلاح الزراعي وقانون العمل والضمان الاجتماعي ومضامين الدستور المؤقت الأول وغيرها من التشريعات التي الغت القوانين الجائرة كقانون دعاوى العشائر و قانون اسقاط الجنسية وغيرها.. مثلت اساسا ماديا للتطور، رافقها تغيرات في بنية نظام التعليم الذي كان ثورة بحد ذاتها حتى أنها تبنت عمليا فكرة مفادها إن رسالة التربية والتعليم ليست مقتصرة على توسيع معارف الناس بل يجب ان تنصب على تحسين ظروفهم الحياتية .. وهذا ما قامت به الجمهورية الأولى، التي كانت بالحقيقة جمهورية الطبقات الوسطى والثورة ثورتهم. من زاوية أخرى تجلى المضمون الاجتماعي للثورة بالاساس من خلال تغيير طبيعة علاقات الانتاج في الريف اسوة بالثورات الوطنية الديمقراطية جميعها التي تعد الثورة الزراعية جوهرها الرئيس. كما تجلى هذا البعد في كون الثورة حكمت للفئات الوسطى الدنيا والفئات البينية.. رغم عدم تجذر الثورة بما يكفي لاشباع طموح هذه الفئات. وهذا نابع من جملة ظروف موضوعية ليس هنا مجال بحثها.
في حين إن الطبقة الوسطى ونموها الكمي والنوعي منذ مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم لم يرافقه تعاظم دورها السياسي المناظر لتأثيراتها ودورها الاجتماعيين.. إذ كان نموها بطيئاً طيلة مرحلة الملكية وكان مرتبطاً أشد الارتباط بالدولة وتطورها وتداخلها في مناحي النسيج الاجتماعي. كما أن القرائن التاريخية تدلل على أن النخب السياسية الملكية لم تدرك هذا الدور ولا خطورته.. وهذا نابع من ماهية المسيطرين على قرار الدولة المركزي وماهية القاعدة الاجتماعية للنظام الملكي وخلفياتهم الفكرية وروءاهم الفلسفية ومدى التعارض والتناقض بينهم وبين فئات الطبقة الوسطى حاملة اجنة اللبرالية طالما أن سلوك البشر تحكمه مبادئ مشتقة من طبيعة الاشياء.
كما أن الاطار الاجتماعي الذي كانت تعمل فيه النخبة الملكية وتبعيتها لحاضنة مصالحها (بريطانيا) جعلها لا تعتمد بالاساس على ارادتها الحرة في ادارة الدولة.. لذا اغلقت ابواب تداول السلطة سلميا أمام الطبقة الوسطى.. من خلال التلاعب بالانتخابات وتزويرها وما تلاها من خنق الحريات العامة. وطالما أن الانتخابات كفعل يصب في بلورة الافكار اللبرالية وتداول السلطة فقد رُصد أنه منذ زمن الملك فيصل الأول وبالاتفاق مع سلطة الانتداب والوزارة (وهم يمثلون مثلث الحكم) كانوا وراء انحراف سير الدولة العراقية الحديثة عن الديمقراطية الصحيحة نتيجة تدخلهم في الانتخابات النيابية منذ قيام المجلس التأسيسي حتى أخر مجلس نيابي.. وبذلك مسخت الحياة الدستورية والنظام السياسي القائم على حرية الكلام والنشر والحياة البرلمانية القائمة على أن تكون السيادة في الدولة لمجلس نيابي ينتخب انتخابا مباشراً مما يكفل سيادة القانون وضمان الحريات وحقوق الانسان. بمعنى اخر فإن جميع المجالس النيابية قد خرجت من رحم إدارات وزارة الداخلية كمنفذ والبلاط والسلطة التنفيذية كمخطط والسفارة البريطانية كمستشار.. مهما كانت عاقبة ذلك، بالاضافة إلى عوامل أخرى، عرقلة التيارات اللبرالية وذلك عن طريق غلق الابواب امام تطورها من جهة ومحاربة الافكار اللبرالية الجذرية ومطاردة الداعين إليها من جهة ثانية.
كما أن أصحاب الرأي المنادي بأن ثورة 14 تموز قد قطعت تطور اللبرالية ، ينطلقون منهجياً من واقع الاحتمالية (لو) وليس من واقع الامكانية والتجربة الملموسة التي مر بها العراق الملكي وماهية الحراك الفكري ودور اللبراليين في الحياة السياسية والفكرية وسط مجتع مكبل بالامية والتخلف والجهل ومحاربة الافكار الحديثة تحت ذرائع متعددة.. بينما أرى أن ثورة تموز قد سعت إلى التأسيس المادي للمؤسسات والتشريعات التي تساهم في تسريع وتعجيل خطى الديمقراطية اللبرالية، وهذا ما حصل فعلا.
< كيف ينظر الدكتور الناصري إلى فعل التنفيذ لثورة 14 تموز ولماذا انفردت كتلة المنصورية في تحقيق الثورة دون معرفة واعلام اللجنة العليا للضباط الأحرار؟
- لقد سبق وأن وقفت بصورة تفصيلية على هذه الموضوعة وحاولت ان افسر هذه الحالة من خلال دراسة نشوء وتطور حركة الضباط الأحرار في بعدها التاريخي.. وممكن التعرف على هذه الموضوعات في ثلاثيتي: عبد الكريم قاسم- من ماهيات السيرة (الكتاب الأول- عبد الكريم قاسم 1914-1958؛ والجزء الاول من الكتاب الثاني- 14تموز الثورة الثرية؛ والكتاب الثالث عبد الكريم قاسم في يومه الأخير- الانقلاب التاسع والثلاثون) والتي صدرت منذ عام2003 . وأقول بصورة مكثفة حول ذلك أنه من خلال إستقرائي للسيرورة المادية لحركة الضباط الأحرار وحراكيتها الدائمة والظروف الموضوعية والذاتية التي حددت مساراتها اللاحقة ودفعت بها للخروج من كونها فكرة هلامية إختمرت لدى هذا الضابط أو ذاك، إلى حالة مادية غائية متكتلة، أنضجت ذاتها لتصبح نزعة ذات زخم تستهدف إنجاز ما خططت له.. كذلك من خلال دراستي لما انتابها من إشكاليات وتناقضات من جهة؛ ومن نسبية طبيعة ظروف البلد والحراك السياسي فيه وفي دول المنطقة من جهة ثانية. من كل هذه الظروف الموضوعية والذاتية، الخاصة بقاسم وكتلته واللجنة العليا للضباط الأحرار، تمكنت من الوصول، كما اعتقد، إلى جملة من العوامل دفعت بقاسم، كشخصية أرأسية ومحورية في حركة الضباط الأحرار، إلى تحقيق التغيير الجذري من قبله ومناصريه، نكثفها بما يلي:
ما له علاقة بقاسم كذات قيادية محورية لها مشروعها الجمعي وطموحها الذاتي؛
- تعددية الزعامة اللا رسمية في اللجنة العليا وكثرة الكتل في حركة الضباط الأحرار؛
- تباينات المواقف الفكرية/ الفلسفية والابعاد التنظيمية لأعضاء اللجنة العليا
- إستناده إلى الإتفاق الضمني والصريح بإسناد أي حركة من جميع الكتل الأخرى؛
- إن قاسم كان يعرف بصورة جيدة كل عضو في اللجنة العليا وتوجهاتهم؛
- المنافسة الحادة بين القادة المحوريين وتزايد النشاط التقسيمي بينهم؛
- عدم وجود ذلك القائد الثوري الجريء الذي يقودهم للنصر وأنفراد بعض أعضاء اللجنة العليا في تبني محاولات لم يحصل اجماع عليها؛
- شيوع حالة من التردد، إن لم نقل الشلل والاحباط الذي أصاب بعض أعضاء اللجنة
من الذين سنحت لهم فرص عديدة ليتولوا التنفيذ، لكنهم لم يستغلوها؛
الحاجة إلى السرية والعمل المبني على التوقيت السريع؛
قوة الرقابة التي أخذت السلطة تفرضها على تحركات قاسم؛
الضغط الذي مارسه الضباط الأحرار الصغار وبالأخص من الكتلة الوسطية المندفعة؛
- تعدد الخطط لتنفيذ الثورة وعدم اجماع اللجنة العليا على أية خطة منها
معرفة قاسم بصورة جيدة لكل أعضاء اللجنة العليا وقدراتهم، فانفراده وكتمانه سر التنفيذ كانت لها مبرراتها بغية ضمان النجاح؛
- وهنالك عوامل أخرى أقل أهمية منبثقة من واقع حراك الحركة و مما له علاقة بالاشاعات والاقاويل التي تسربت (بعضها عمداً) من بعض الضباط ضد قاسم.
هذه العوامل حولت الثقل الكبير إلى صالح تركيز المبادرة وتمركزها في يد قاسم، واقنعته بقراره الذاتي، الذي كان يساوره منذ زمن بعيد، وبات من الطبيعي أن يضطلع بشؤون الاستعدادات العسكرية والسياسية أكثر فأكثر، وأقناع المحوريين من كتلته، بالإنفراد في تحقيق فعل التغيير المرتقب ووضع عموم كتل الحركة، القريبة من اللجنة العليا أو التي تدور في فلكها، أمام الأمر الواقع. وهذا ما يتناغم مع اعماق ذاته وإستعدادها للتضحية وركوب المخاطر التي تتفق مع طبيعته ورسالته نفسها.
لقد سنحت فرص عديدة لغير عبد الكريم قاسم ليتولوا قيادة وتنفيذ الثورة، ولكن سعيهم قد إستطال أكثر مما ينبغي (لإستكمال الاستعدادات) وأغلب الظن، هو أن قاسم، بعد أن رأى كل ذلك، وركن إلى مساندة الكثيرين، بدأ يفكر بالاعتماد على قواته وانصاره الأقربين، إلى جانب حرصه المفرط على الكتمان واستخدامه عنصر المباغتة. هذه الفكرة قد تكون راسخة في ذهنه من قبل، وهي أن يأخذ على عاتقه والقوات التي كانت تحت امرته والانصار المقربين إليه زمام المبادرة وهذا ما تم فعلاً.
والاستنتاج المنطقي الذي يمكن الخروج به من هذا العرض المكثف هو: إن محاولة قاسم للإنفراد بالتنفيذ لا تخرج عن السياق المألوف لدى الاعضاء المحوريين في اللجنة العليا للضباط الأحرار أواللجنة الوسطية. وبهذه الصورة والمبررات سلك قاسم ذات الدرب التكتلي الذي سار عليه قبلئذ اللاعبون الأساسيون من الضباط الأحرار مثل: عبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري ورجب عبد المجيد ووصفي طاهر وغيرهم.
* على ذكر وصفي طاهر، نشر البعض واتهم وصفي طاهر بكونه قام عند اعتقال نوري السعيد بالرمي المقصود قبل وصوله إلى القصر من اجل تنبيهه ليهرب، لانه أراد ان يضع خطة رجع لنفسه في حالة فشل الثورة؟ وذات الموضوع ينطبق على قاسم. السؤال ما موضوعية هذه الاراء وكيف تقرأها وما مصدرها؟
- لقد صار هذا الموضوع مثار لجاجة بين القوى السياسية وكذلك بين الضباط الأحرار وكتلهم. فذهب التيار القومي ،بأغلب مكوناته ، إلى أن الطلقات التي خرجت من رشاشة وصفي طاهر قبل أربعمئة يارد من دار نوري السعيد هي التي نبهته إلى الخطر الذي أخذ يحدق به وأراد وصفي طاهر بتلك الاطلاقات أن يعتدها يداً لدى نوري السعيد إذا فشلت الثورة. وذهب بعض الكتاب والضباط اليساريين (بعضهم شيوعيون) إلى أن إختلال بهجة سعيد من الموقف وعدم ضبطه نار سريته عندما أحاطوا بالقصر هو الذي نبّه صاحبه إلى الخطر المحدق به. أني اعتقد أن هذه الرؤيا ونظرة الطرفين غير دقيقة وخالية من المنطقية العلمية ، إذ جاءت هذه الاتهامات المتبادلة في سياق الصراع السياسي الذي شهده الواقع العراقي بين الأحزاب الوطنية والقومية بعد 14 تموز. لذا أعتقد أن الذي نبه السعيد إلى الثورة ثلاثة إحتمالات، هي حسب رجحانها:
الأول: وهو الأكثر واقعيةً، أن الذي نبه السعيد هو ذلك الإطلاق للنار الذي جرى عند السيطرة على معسكر شرطة القوة السيارة القريبة جداً من دار السعيد في كرادة مريم.. خاصة وكما هو معروف أن العراقيين عادة ما ينامون على سطح الدار صيفاً لذا سمع السعيد هذه الإطلاقات وأيقظته من نومه وعندما أطل من السطح على الشارع العام رأى القوة المهاجمة متجهة نحو داره، فنزل من السطح متجهاً نحو النهر من الباب الخلفي بملابس النوم (البيجامة) حاملا مسدسه معه. أما ما روي عن أن الخبازة (عمشة) التي تأتي إلى دار السعيد فجرا قد روت له مشاهداتها لقطعات عسكرية قريبة ومتجهة إلى داره، فهي عامل مساعد أكد للسعيد تلك المخاوف و أيقظ الهواجس التي نبهته إياه الإطلاقات النارية وهو العارف بوجود قطعات عسكرية متوجهة إلى الأردن صباح ذلك اليوم.
الإحتمال الثاني: وهو الأقل رجحاناً، فيركز على أن جنود السرية المطوقة لدار السعيد قد بدأت بالرمي قبل دخول وصفي طاهر إليها، والذي وصف تلك الحالة بالقول: وبعد أن وصلت إلى قصر نوري السعيد كان المفروض أن تلتحق بي سرية مدرعات لحمايتنا، لأننا كنا نخشى أن تكون هناك قوة في هذا القصر.. ولكن الصدف هي التي ساعدتنا، فقد كان الحرس الخاص بنوري السعيد من الشرطة قد إنسحبوا إلى ثكناتهم قبل مجيئنا بربع ساعة، وأنني بصفتي الضابط الذي يقود هذه السرية أمرت الرئيس الأول بهجة سعيد وبهذه المناسبة كان أحد أعضاء المحكمة المحترمين وهو الرئيس الأول إبراهيم اللامي قد رافقني في هذه الحركة- أن يقسم سريته إلى ثلاثة أقسام، ينفذ فصيلان منها إلى النهر للحيلولة دون هروب نوري السعيد وفصيل أخر يتعقبني إلى داخل القصر.. فأخذت الفصيل ودخلت إلى الحديقة وكانت معي قنابل يدوية رميتها في الحديقة. وهنا وقبل دخولي وفي أثناء دخولي بدأ الرصاص وصرنا نصرخ أنا والرئيس الأول إبراهيم اللامي (اقطعوا الرمي لأن ليست هناك مقاومة) فإستمروا بالرمي وهذا الرمي هو الذي سبب هروب نوري السعيد قبل تطويقه، ولم يتم التطويق لأن بهجة سعيد بقي منشغلاً مع جنوده، ويؤيد وجهة النظر هذه صبيح علي غالب عضو اللجنة العليا للضباط الأحرار عندما يقول: أما الموقف في قصر نوري السعيد فتوجهت سرية مشاة...وعند وصول السرية لم يقم آمر السرية بتطويق القصر من جميع الجهات حسب مقتضيات القواعد العسكرية بل فتح النار على القصر قبل تطويقه مما سبب هروب نوري السعيد من الباب الخلفي.... خاصةً إذا علمنا إن حالة من الذهول والارتباك قد أصابت القوة المهاجمة مدة ساعة زمنية من بداية وقوع الهجوم على الأقل وعلى أثر ذلك أصيب العقيد سلمان خيالة نفسه بطلق ناري من جنود السرية التي كان من أمراء فصائلها.
وهذا الاحتمال بالتزامن والتداخل المتفاعلين مع الأول هما الأكثر واقعيةً في تنبيه السعيد ومن ثم هروبه.
وما يؤكد ذلك ما أشار إليه بطاطو من أن هنالك مقاومة واهنة أبداها حراس بيت نوري السعيد. لكن في الحقيقة لم تكن هناك اية مقاومة بما تحمل من مدلول علمي.. لأن الصدف عملت مفعولها، إذ كان وصول القوة المهاجمة قد تم بعد إجراء تغيير طاقم حراسة دار السعيد.
- الاحتمال الثالث: وهو الأضعف ومضمونه أن مكالمة هاتفية تسلمها السعيد من بهجة عطية مدير الأمن العام في الساعة الخامسة صباحاً حسب مؤلف موسوعة 14 تموز خليل إبراهيم حسين. وقيل أيضاً أن صباح نوري السعيد حسب رواية جاسم العزاوي في مذكراته استفسر من والده عن حركة اللواء العشرين وتمركزه في بعض مناطق بغداد، محذراً اياه من أن شيئاً ما غير اعتيادي يحدث في بغداد وانه لربما كان الجيش يحاول القيام بانقلاب. وقع هذا الحديث التلفوني في الساعة الخامسة والنصف من صبيحة 14 تموز كما ذكر لي في مديرية الاستخبارات العسكرية بهجة العطية عندما استدعته المديرية للاستفسار منه عن بعض القضايا. يطال هذه الرواية كثير من الشك وتعوزها الدقة والتوثيق ولم تثبتها الوقائع. فمن جهة بدأت القوة المهاجمة بتطويق قصر السعيد في حدود الخامسة صباحاً، كما سيطرت قوى الثورة في الوقت ذاته على البدالات الرئيسية في بغداد وقطعت الاتصالات السلكية واللا سلكية، بدليل أن الوصي حاول الاتصال بنوري السعيد فلم يجب على الهاتف أحد.. وإن هاتف رئيس أركان الجيش لا يجاوب أيضاً.. وأن كافة هواتف وزارة الدفاع والبدالة لا تجاوب. ومن جهة ثانية وحتى لو افترضنا حصول هذه المكالمة فهي قد أكدت تلك المخاوف عند سماعه إطلاق النار في معسكر شرطة القوة السيارة. كما أن السعيد يعرف تماماً حركة اللواء العشرين في ذلك اليوم وكذلك الحال بقية المسؤولين الكبار بمن فيهم مدير الأمن العام.
ولهذا أخفقت محاولة القاء القبض على نوري السعيد يوم 14 تموز، وأمسى هروبه الهاجس الأرأس الذي طغى على تصرفات وتفكير قيادة الثورة وحكومتها وكل الضباط الأحرار، وحتى الشعب العراقي، ولم تهدأ الحالة لحين إلقاء القبض عليه ومن ثم قتله (وقيل إنتحاره حسب راي أنصاره وبعض الغاضبين والمتضررين من ثورة تموز وهذا عين ما ذهب إليه الجواهري الكبير) في منطقة البتاويين من رصافة بغداد في حوالي الساعة الثانية (وقيل في الساعة الرابعة والربع) من ظهيرة يوم الثلاثاء 15/7 .
يحاول البعض إستغلال هرب نوري السعيد لزرع وإثارة الكثير من ظلال الشكوك الاتهامية حول الزعيم قاسم ووصفي طاهر، وذلك بالتلميح أو/و التصريح بأن قاسم كان يعرف بكيفية هروب السعيد ومكان اختفائه منذ الساعة التي حل بها في بيت أخيه حامد قاسم الساعة العاشرة من ليلة 14/15 تموز للاستراحة من عناء العمل الفيزياوي- النفسي الذي نفذه منذ 10 تموز وبالأخص ليلة 12/13. وهذا ما حاول إيراده عبد الجبار العمر عندما قال: أغلب الظن عندي أن اخبار اختفاء نوري السعيد في دار الدكتور صالح البصام وما يعقب ذلك من امكانية الوصول إليه خلال وقت قصير في أي مكان يكون فيه في بغداد أو العراق قد وصلت إلى عبد الكريم قاسم في يوم 14 تموز
وأغلب الظن عندي أن عبد الكريم قاسم لم يترك مقره في وزارة الدفاع في تلك الساعات الحرجة من عمر الثورة ويذهب إلى داره أو دار أخيه في كرادة مريم إلا ليمنع تسرب خبر مكان اختفاء نوري السعيد إلى الحكومة ربما لتلافي موقف شخصي حرج وأراد لسبب قاهر أن يتركه لقدره إن هذا الإدعاء لا يصمد أمام التحليل المنطقي وهو غير متماسك من الناحيتين الشكلية والماهية. فكيف بالزعيم قاسم يترك السعيد لقدره.. وصيرورة فعل الثورة ونجاحها اللاحق يتوقف على إلقاء القبض عليه؟ وهو أحد أهم الثلاثة الكبار في نظام الحكم والذي بسبب غيابه قد أُجلت عدة محاولات سابقة لتحقيق فعل التغيير. وكيف يترك قاسم مصير السعيد لقدره؟؟ وهو الذي قاد فعلاً لتغيير النظام برمته ولم ينصب على تغيير فوقي شكلي خاص بالسعيد أو بغيره من قادة النظام الملكي؟؟ أن التعكز على فكرة الظن بأن قاسم ، وذات الموضوع يسري على وصفي طاهر، أراد أن (يتلافى موقفاً شخصياُ حرجاً) لا يمكن أن تفسر عملية التغيير بحد ذاتها، فالذي يقوم بمثل ذلك، هل يضع مصير فعل التغيير بمجمله حتى (يتلافى موقفاً حرجاً) ذات بعد أخلاقي وهو المخطط للقضاء على النظام ورموزه. إن هذا الردح لا يصب في معرفة الحقيقة ولا إعادة انتجها. كما يتناسى (وربما ينسى) مروجي هذه الفكرة.. طبيعة الحالة النفسية التي سادت مقر قيادة الثورة بسبب عدم إلقاء القبض على السعيد، وكيف تلكأ العديد من قادة الوحدات العسكرية في منح تأييدهم للثورة بسبب ذلك، وكيف أن دول حلف بغداد كانت متلهفة لسماع خبر نجاته بغية إفشالها للثورة.. بل أنهم حاولوا خلق أوهام كاذبة عن كون السعيد وغيره يقودون فعل التغيير؟! فهل يعقل بقاسم أن يترك مصير ما قام به لحكم القدر؟ وفي حالة فشل هذا الفعل الغائي هل يعفى قاسم وكل رفاقه من المسؤولية والمصير المحتوم؟. كما أن هذا الظن يتناقض مع منظومة مكونات قاسم النفسية والاخلاقية.. والذي يحمل السعيد عواقب ما وصل إليه العراق الملكي.
< كيف يقرأ الدكتور الناصري البيان الأول للثورة.. وبماذا يتميز؟
في البدء لابد من التأكيد على أن الدلائل التاريخية المتوفرة أن الزعيم قاسم سبق وأن تداول مع القريبين منه فكرياً وسياسياً في اللجنة العليا منهم محيي الدين عبد الحميد، بشأن نص البيان الذي اطلع على مسودته بخط قاسم نفسه، فنصحه محيي الدين بأن يعرض النص على المنظمة المركزية للضباط الأحرار. إلا أن عبد الكريم قاسم فكر في أنه لو فعل ذلك فأنه سيؤدي إلى إختلاف في الرأي مما جعله لا يستشير غير القليلين، بينهم عبد السلام عارف، وقال محيي الدين في رسالته بأنه لفت نظر عبدالكريم قاسم إلى تعبير جمهورية الشعب وهو تعبير مأخوذ من البلاد الاشتراكية، وفي استعماله ما قد يثير شكوك الغرب في ما يتعلق بأهداف الثورة، إلا أن عبد الكريم قاسم لم ير في استعمال هذا التعبير أي ضرر. ويؤكد هذا الرأي المتواتر في الأدبيات عن الإعداد لثورة 14 تموز، ليث الزبيدي الذي قال أن قاسم أطلع على مسودة البيان العقيد الركن محيي الدين عبد الحميد قبل الثورة حوالي بشهر، وهي لا تختلف عن البيان الأول الذي أذيع في
صباح 14 تموز1958 وأن العقيد محيي اعترض على كلمة الشعبية التي وردت في البيان، إلا أن قاسم لم يأخذ بها وبقيت كما هي في البيان الذي أذيع صباح يوم الثورة. أما بصدد البيان ومضامينه فيمكننا القول بعد تحليله أنه:
عكس البيان إلى حدٍ كبير فكرة
[نظرية المسلك الطبيعي أو الدور التاريخي]
للضباط، التي تنطلق من أن حكم العسكر في الوقت الحاضر، في دول المنطقة على وجه الخصوص ومنها العراق، ما هو إلا استمرار تاريخي للحقب الزمنية المنصرمة. وعليه فالانقلابات والثورات العسكرية هي بمثابة ضرورة تاريخية حسب وجهة نظر دعاة هذه النظرية.. ويدللون على ذلك من خلال التحليل التاريخي لدور المؤسسة العسكرية في مختلف المراحل التاريخية السابقة للعصر الحديث، وما الانقلابات العسكرية التي بدأت منذ عشرينات القرن المنصرم في المنطقة، كانقلاب اتاتورك في تركيا ورضا بهلوي في إيران، وفي المشرق العربي كانقلاب بكر صدقي في العراق 1936، وما أعقبه من انقلابات مكشوفة ومستترة، ثم الانقلابات الثلاثة في سوريا في نهاية الأربعينيات وفي مصر عام 1952، وغيرها في بلدان المنطقة.. كلها دلائل تشير إلى أهمية العسكر، والتي تزداد مكانتهم بعد أن نظر الضباط إلى ذاتهم باعتبارهم حملة مشروع نهضوي. لهذا جسد البيان الأول لثورة 14 تموز هذه الحقيقة الفكرية عندما أشار بصورة مكثفة "..
. بعد الاتكال على الله ومؤازرة المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة الوطنية أقدمنا على تحرير الوطن... إن الجيش هو منكم وإليكم وقد قام بما تريدون وأزال الطبقة الباغية....
رغم أن سياسة قاسم، بعد تسنمه المركز الأول في السلطة، قد ابتعد بدرجة كبيرة عن مضمون هذه النظرية. وهذا الاستنتاج مشتق من المضمون الاجتماعي/ السياسي للثورة ومن الأهداف التي حققتها ومشروعها التاريخي؛
- كما يعكس البيان ومنطقه.. طبيعة الحكم بتوجهه المنطلق من أولوية عراقية العراق ، دون التخندق فيها، نحو امتداده القومي،
مراعياً بذلك الماهية الحقيقية لطبيعة المكونات الأثنية والدينية والاجتماعية المتعددة في المجتمع العراقي، ولهذا انطلق من الواقع الملموس وأكد على
[تأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة].
جاء البيان تعبيرا عن الأفكار الشعبوية التي كانت منتشرة في أوساط الطبقة الوسطى وخاصة الضباط منهم وبالأخص أولئك المتأثرين بافكار الحزب الوطني الديمقراطي وما كان ينادي بها الحزب الشيوعي إلى حدٍ ما آنذاك.. كمحيي الدين عبد الحميد وعبد الوهاب الشواف وماجد محمد أمين ووصفي طاهر وغيرهم؛
مثل البيان التوجهات الفكرية العامة للطبقات الوسطى من خلال تحديد الأهداف العامة لها وفي علائقها.. وكان بمثابة الترجمة الفكرية لمطالب جبهة الاتحاد الوطني، التي انطلقت في نضالها من أن
الحكم يجب أن يعهد إلى حكومة
تنبثق من الشعب وتعمل بوحي منه... وتلتزم بالعهود والمواثيق وفق مصلحة الوطن؛
يتماثل البيان في نظرته للسياسة الخارجية مع التوجهات الفكرية للحزب الوطني الديمقراطي على الخصوص، إذ عند مقارنة البيان بمنهج الحزب الذي أقره المؤتمر الرابع عام 1950 الذي نص على العمل من أجل "... تحرير العراق من كل ما ينقص من استقلاله الكامل، وعلى إقامة العلاقات بين العراق والدول الأخرى على أساس الصداقة والمنافع المتبادلة والتساوي في الحقوق والواجبات بشكل ينسجم وميثاق الأمم المتحدة"؛
عند تحليل البيان نتوصل إلى أن ثورة 14 تموز"أصيلة تستهدف اقتلاع جذورالاستعمار وتحرير الشعب ستكون بالضرورة ثورة ديمقراطية تدين بالقومية المتحررة التي تعترف بحق القوميات الأخرى في المساواة في حدود الوطن...". بمعنى أنه ذو أهداف وطنية مشتركة ويتفق في توجهه العام مع أهداف جبهة الاتحاد الوطني التي هي بمثابة الكتلة التاريخية للقاعدة الاجتماعية للثورة، كما مر بنا؛
كان البيان في حدود وحدة صياغته يمثل التشخيص المشترك لطبيعة الثورة باعتبارها ثورة تحرر وطني في " جزء من أمة مجزأة...""؛ لم يتطرق البيان إلى أي شكل من أشكال الارتباط المزمع القيام به مع الدول العربية، وخاصةً مع الجمهورية العربية المتحدة، بل جاءت الفكرة عامة
[ترتبط بروابط الأخوة مع الدول العربية والإسلامية].
ومعنى ذلك أنه ساوى بين البلاد العربية والإسلامية وجعلهما في درجة واحدة، كما ساوى بين الدول العربية المتحررة وتلك غير المتحررة؛
كُتب البيان بلغة دبلوماسية هادئة لم تستفز مصالح المراكز الرأسمالية الكبرى، ولا دول حلف بغداد، مما احبط من مشاريع تدخلها المباشر في الشأن العراقي. وقد أشار عامر عبد الله ،إلى صفة العمومية هذه بالقول: "أنه خلال الاتصالات مع عبد الكريم قاسم بواسطة رشيد مطلك تم الاتفاق على ضرورة اقتصار البيان الأول على صيغ عمومية تتجنب كشف الأهداف الأساسية للثورة وذلك من أجل كسب الوقت وشل محاولات التدخل الأجنبي"؛
كما انتابت صيغة البيان صفات الغموض والحذر في بعض فقراته، مما جعله عرضةً للتفسيرات المتعددة.. كالقول وفق مصالح الوطن، أو الارتباط برباط الأخوة؛
انعكست الكثير من مبادئ البيان في صيغة الدستور المؤقت للجمهورية الأولى الذي صدر بعد الثورة.. مما يدلل على وحدة المنظومة الفكرية للذي صاغه ومعبر عن طموح ونظرة الطبقات الوسطى، وخاصة تلك المتأثرة بالحزب الوطني الديمقراطي، وقد أشار قاسم إلى هذا التأثر وإلى تلك التوجهات في خطب عديدة له، حيث تتردد هذه الأفكار بكثرة وجلاء واضح، عكست في سيرها العام هذا التوجه.
كما أتضح تأثير فلسفة الحزب الوطني الديمقراطي على واضع البيان خاصةً في ما له علاقة باحترام الحقوق وصيانة حريات المواطنين واحترام الحقوق القومية ضمن الوحدة العراقية.
وبدت هذه التأثيرات أكثر وضوحاً عندما يتعلق الأمر بالحياد الإيجابي ومؤتمر باندوك، إذ سبق أن دعا رئيس الحزب الوطني الديمقراطي "منذ زمن طويل إلى الحياد الإيجابي... وكان أول من تبنى الحياد الإيجابي في البلاد العربية، والكل يعرف الجهود التي بذلتها شخصياً لإصدار بيان الحياد عام 1951... كما أن الثورة العراقية ثبتت هذا المبدأ في بيانها الأول".
لم يتطرق البيان الأول إلى الانسحاب من الأحلاف العسكرية (كحلف بغداد ومبدأ أيزنهاور) أو التكتلات الاقتصادية (الكتلة الإسترلينية) رغم أن الأول كان مطلباً جماهيرياً وقد ثبتته جبهة الاتحاد الوطني كهدف أراسي لنضالها السياسي. في حين كان الثاني مطلباً اقتصاديا تبنته الشخصيات المثقفة. إن عدم الإشارة إلى هذا الموضوع كان بمثابة التفاتة سياسية واعية من قائد الثورة لطبيعة المواجهة المحتملة. وسحب العذر من دول حلف بغداد لإجهاض الثورة. لذا اكتفى البيان بالصياغات العامة. كذلك تنطبق هذه الحالة بالنسبة لفك الارتباط بالكتلة الإسترلينية، التي كان من الممكن استخدامها للضغط على العراق.. وهذا ما اشار إليه وزير مالية حكومة الثورة محمد حديد في مذكراته.
وهكذا كان البيان الأول في ماهياته يتطابق ويعبر مع ضرورات مرحلة التحرر الوطني ومستلزماتها الاجتصادية والسياسية.. ويعبر كذلك عن فلسفة الطبقة الوسطى في عمومياته، وقواها السياسية المتمثلة في الكتلة التاريخية والتي عبرت عنها تنظيميا جبهة الاتحاد الوطني التي تآلفت قبيل الثورة مع حركة الضباط الأحرار. كما أنه يتواءم والماهية الاجتصادية ولتركيبة القوى الطبقية ولدرجة التطور في القوى المنتجة التي تعكسها التعددية المتناقضة للانماط الاقتصادية السائدة في عراق تلك المرحلة.
* في صبيحة 14 تموز قامت حكومة الثورة بجملة إجراءات ساهمت في نجاح الثورة وكبح التدخل الخارجي. السؤال ماهية هذه العوامل؟
لقد تفاعل جدليا العامل الخارجي (الدولي والاقليمي) المؤيد للثورة، مع العوامل الداخلية، المقررة والحاسمة، التي قامت بها السلطة الجديدة، وكونت جميعها وعلى مختلف مستوياتها عوامل سببية مشتركة أدت في نهاية المطاف إلى إستقرار الوضع وكبح جماح التدخل الخارجي. كما يمكن النظر إلى هذه العوامل من حيث أهميتها ونسبية قوتها التأثيرية والقول إنها كانت نتيجة تفاعل عوامل

أرأسية وأخرى رئيسة ساهمت كلتاهما، بالتكامل الجدلي، بصورة حاسمة في كبح فكرة التدخل الخارجي ووأد الثورة، سواءً عِبرَ الغزو الخارجي، أو من خلال الثورة
المضادة في الداخل، رغم التلويح بإستخدام القوة وذلك عندما طلبت بريطانيا، عبر سفيرها في بغداد تسهيل مغادرة جنودهم ورعاياهم البريطانيين لأن مثل هذه الخطوات غالبا ما تتخذ قبيل الإقدام بعمل عسكري.. وهذا ما فسرته حكومة الثورة على الأقل. وهو تفسير يحمل بذرة الوجاهة فيه. لقد أدركت بريطانيا والولايات المتحدة عمق التبدلات المنتظرة التي تعقب توطيد نظام الحكم، مما دفعهما إلى البحث عن الامكانيات المتاحة لإسقاط الثورة بأسرع ما ممكن. لكن خاب الظن نتيجة تفاعل عوامل عدة وهي حسب معيار الأهمية النسبية والقوة التاثيرية يمكن أن نوعز، كما نعتقد، اسباب نجاح الثورة إلى جملة عوامل متداخلة جدلياً وهي:
1- العوامل الأرأسية:
- عمق وسعة التأييد الشعبي الذي غطى العراق: جغرافياً واجتماعيا وقومياً. وهو ما شكل الحصن الحصين لها؛
- القضاء على أقطاب الحكم الثلاثة الكبار، الملك وولي العهد والسعيد؛
- الموقف المؤازر للإتحاد السوفيتي وبقية دول الكتلة الإشتراكية؛
- مساندة الجمهورية العربية المتحدة.
هذه العوامل الأراسية مجتمعة ،أسقطت إمكانية تبرير التدخل وكبح جماح الغزو المزمع، بالتفاعل الجدلي المتزامن مع واقع الحراك الدولي من جهة ومع جملة من العوامل والإجراءات الداخلية التي قامت بها حكومة الثورة والتي مثلت مجموعة العوامل الرئيسة، ومن أهمها، كما أرى من خلال الاستقراء الموضوعي لثورة 14 تموز والتحضيرات التي كانت تتم باحتراس بالغ، بحيث كانت قيادة قاسم منتبهة بشكل جيد إلى المخاطر [المحتملة] والتخوف من المواجهة الرئيسة مع القوى الغربية في مثل هذه المرحلة المبكرة.. من هذه العوامل:
2- العوامل الرئيسية:
النشاط السياسي الواعي والهادئ الذي عبرعنه البيان الأول والمقابلات مع الدبلوماسيين الاجانب وتهدئتهم؛
إعلان حكومة الثورة عن [بيان النفط] المطمئن للغرب حول استمرار تدفقه إلى الأسواق العالمية ؛
الإنقسام في المواقف بين دول حلفي بغداد والأطلسي نتيجة تضارب المصالح والرؤى المستقبلية للمنطقة والعلاقات الدولية؛
الكفاءة والسرية في التحضير والإعداد للثورة السرعة الخاطفة في نجاحها؛
السيطرة المبكرة على الفرقة الثالثة وإعتقال قائدها المناط به حماية بغداد؛
إعتقال رئيس أركان الجيش والسيطرة على معسكر الرشيد؛
الإحباط والإجهاض الفوريان لحركة الثورة المضادة في معسكرات الديوانية والمسيب والناصرية والسيطرة على مقر الفرقة الثانية في كركوك؛
سرعة تجاوب كتل حركة الضباط الأحرار وسيطرتهم على وحداتهم وتأييدهم للثورة؛
إنعدام وجود شخصية بارزة من الحكم السابق، تقود حركة مضادة؛
عدم وجود شخصية يسارية رديكالية (شيوعية) في مجلس الوزراء؛
كان للتعيينات العليا في 14 تموز أثرها المباشر على التطورات التي اعقبتها؛
تأكيد الثورة على إحترام ميثاق الأمم المتحدة ومؤتمر باندونغ والاتفاقيات الدولية المبرمة مع كافة الدول؛
الخطاب السياسي الهادئ للثورة والمتسم بالحيطة والحذر، والخالي من العداء اللفظي للغرب ومصالحه؛
عمق التأييد الشعبي الذي أحاطته شعوب البلدان العربية ودول الجوار للثورة، و تعاطف حركات التحرر والقوى التقدمية في العالم معها؛
دعوة قيادة الثورة لبعض شيوخ العشائر والاقطاعيين الكبار إلى المجيء إلى بغداد، بغية إغلاق منافذ تحركهم المحتمل ضد الثورة؛
ألقاء القبض على بعض الشخصيات المحورية السياسية الحاكمة وبعض كبار ضباط الجيش وحجز بعضهم؛
هيأت الثورة الظرف لبروز عدم الرضا والسخط ضد النظام السابق ونخبته السياسية ، مما كبح فرص المقاومة لمن ممكن أن يقاوم؛
تخوف الحكومات الغربية من أن يؤدي غزو العراق إلى تقوية نفوذ القوى الرديكالية وخاصةً اليسارية في عموم الشرق الأوسط والعراق على الأخص؛
الإعترافات المبكرة والسريعة من بعض الدول بالنظام الجديد؛
التحذير الذي أطلقه السفيران الأمريكي والبريطاني لحكومتيهما، بضرورة أما القيام بإنزال كاسح وسريع وبقوة متفوقة كثيراً، وإلا فستؤدي إلى حدوث خسائر كبيرة في الأرواح لرعايا الأمريكان والاوربيين.
أثمرت هذه العوامل مجتمعة، وما افرزته ردود الفعل الدولية، المؤيدة للثورة أو المعارضة المراكز الرأسمالية وتوابعها في المنطقة، في حل واحدة من أهم المعاضل التي كانت تمثل المركز في تفكير الضباط الأحرار.. إلا وهي كبح التدخل الخارجي المحتمل وهذا ما تم.
< ما الذي تقرأه من جديد للدكتور الناصري وعلى ماذا يعمل الآن؟
بصورة مكثفة أعمل منذ اكثر من عقدين من الزمن على ثلاثية عبد الكريم قاسم – من ماهيات السيرة. وهذه الثلاثية بدأت بطرحها في البدء على خطة العمل وكانت بعنوان قراءة أولية لسيرة عبد الكريم قاسم صدر مطلع عام 2003، ومن ثم أصدرت الثلاثية قبيل سقوط النظام السابق وكان الكتاب الثالث (عبد الكريم قاسم في يومه الأخير) قد صدر في البدء في كانون ثاني عام 2003، ومن ثم صدر الكتاب الأول (عبد الكريم قاسم 1914-1958) عام 2006 وأخيرا صدر الجزء الأول من الكتاب الثاني (14 تموز- الثورة الثرية) عام 2009.
وهذا الكتاب يتكون من 5 فصول مع ملحقين. تناول الفصل الأول ماهيات الثورة الثرية وكان تجسيدا لبعض المقاربات مع اهم المظاهر الاجتماسياسية في عراق النصف الأول من القرن المنصرم، والفصل الثاني بحث في ماهيات وتحديات الثورة الثرية. اما الفصل الفصل الثالث فقد تناول الصيرورة التاريخية للثورة الثرية.. ودرس الفصل الرابع واقعة قصر الرحاب. أما الفصل الأخير فتابع ردود الفعل الدولية من الثورة. كما ألحقت بالكتاب ملحقين تناول الأول منها بعض من رسائل عبد السلام عارف عندما كان في السجن، المرسلة لقاسم، والثاني ادرجت أهم التعيينات الأولى في مفاصل السلطة المركزية والمعلنة في الايام الأولى للثورة.
ومنذ مدة وأنا اعمل في البحث في الجزء الثاني من الكتاب الثاني والذي يعالج ويدرس صيرورة الثورة والتجاذبات الأرأسية بين قاسم والقوى السياسية وهو بعنوان قاسم وصيرورة الثورة الثرية. آمل انجازها في الفترة القادمة.



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار عن تموز وقاسم
- حقائق واسرار الصراع السياسي العراقي في حقبة الخمسينيات
- ما يزال العراق يدفع ثمن إغتيال ثورة 14 تموز
- الانتفاضات الشعبية.. إرهاصات مهدت للثورة الثرية:
- مرثية الرحيل القسري- كامل شياع
- من تاريخية مناهضة الأحلاف العسكرية:حلف بغداد- في ذكرى إنهيار ...
- شخصية عبد الكريم قاسم تمثل شموخ الثقافة الشعبية
- القاعدة الاجتماعية لثورة 14 تموز
- - البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (4-4)
- البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (3-4)
- البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (2-4)
- - - البيئة والمنطلق الفكري لعبد الكريم قاسم: (1-4)
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: - ثورة 14 تموز وردود الفعل الإق ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى:واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ا ...
- مرثية الروح.. في وداع الدكتور عطا الخطيب


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - دردشة على ضفاف تموز