أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - نعيم عبد مهلهل - المعدان ..( التاريخ وجلجامش ، في مهب السريالية ) ..















المزيد.....



المعدان ..( التاريخ وجلجامش ، في مهب السريالية ) ..


نعيم عبد مهلهل

الحوار المتمدن-العدد: 2607 - 2009 / 4 / 5 - 09:13
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


(( ولدي ، الحرب ليس لنا معها سوى مايهجعنا ، وما يفزع جواميسنا ويحرق بيوت القصب ، ولذلك أذهب أليها بعصاك الغليضة ، وأجبرها لتذهب عنا بعيدا..!ً
الغريب أن العصا الغليضة هي من استدارت لتضرب قفا المعيدي ولتجبره ليذهب بعيدا .. تقول الأم بارتباك خجول وفتنة تشبه ضوء شامة على الخد: لقد انتصرت الحرب علينا حينا من الزمن ، ولكن ليس الى الأبد!.)

من هواجس أم من سكان الأهوار

( وجوههم تشع بجمال سريالي غريب ، تصبغهُ دهشة غامضة عن تفكير عميق بشيء لم تدونه أبجدية القرن العشرين ، إن نظراتهم المسمارية الغامضة تنبئ عن أبد سحيق يعود بهم الى ألواح الحضارة الأولى ، لهذا فأنا أجزم إن معدان اليوم ، ليسوا سوى بقايا سومري الأمس ، بقوا حذرين ليعيشوا، فتركوا مجد سيوفهم ،ليعيشوا مع مجد جواميسهم العائمة في خيال الماء والطبيعة وبراءة التفكير بأن أي شيء لن يصيبهم ويفتك فيهم مادام السيد سروط والعلوية فواده أم هاشم والسيد يوشع ، قد قرءوا الحمد وتبارك قرب وسائد مواليدهم الجدد.
المعدان اصلاء ليس بإصرارهم على عشق المكان فقط ،بل بما يمتلكون من أمل خالد ،انهم سيعودون إليه حتى لو دمرته مدافع جيوش الأرض كلها.)
مقدمة من اجل المكان الى الأمم المتحدة

(( المعدان جمع (معَيدي ) والمعيدي غير المُعيدي وهو طائر جميل الصوت قبيح الصورة ومن هنا جاء في أمثال العرب قولهم (أسمع بالمعُيدي خير ٌ من أن تراه)..هذا يعني أن هذا المثل المتداول بين الناس والهدف منه الانتقاص من قيمة المعيدي هو لا يعنى فيه المعيدي كأنسان وأصل ونسب بل يقصد فيها هذا الطائر المسمى المعيدي ))..على هدي هذه الحكاية وهذا المعنى ، حاولت أن أعيد تكوين صيرورة هؤلاء الناس من خلال إحساس خاص اعتمد ليس فقط على ذاكرة التاريخ ،بل إن المعايشة والتجربة والمراقبة والبحث صنعت لدي كل تلك التصورات التي خلفتها برؤيا هي في تقديري عمل أدبي قبل أن تكون دراسة لتاريخ شعب ظل على مدى عقود يمسك أحلامه من خلال إحساسه بان الله خلقه لهذا المكان فقط. فيما يعتقد الباحث محمد حسن الموسوي في حقيقة انتماءهم وما لحق بالتسمية من غبن قوله : (( ويرى يرى البعض من الباحثين وغيرهم أن قوات الاحتلال الإنكليزي شجعت على استخدام مفدرة معيدي بقصد تحقير سكان الأهوار الذين قاتلوا الإنكليز عند دخولهم العراق في الحرب العلمية الأولى ، فتحولت عملية احتقار العراقيين الاصلاء الى عرف سياسي غير معلن وتقليد اجتماعي ظاهر للعيان وسنة للأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق ))
فقد قدر لي أن أعيش معهم ردحاً من الزمن في فترة عصيبة من حياتهم ، وما أكثر قسوة التاريخ على شعب يدرك فقط أنه شعب آتٍ من حضارته البعيدة التي منحت العالم رسم الحرف ومعنى الكلمة ، وهم الشعب الوحيد في الكون من جعل الجواميس خيول معاركه وليس جياد الحرب التي ركبها قتيبة بن مسلم الباهلي وذهب بها الى سمر قند.وكنت دائما أضع قضاء الجبايش وهو واحد من أهم مدن الأهوار في مشابهة جمالية وروحية مع سمر قند المدينة الأوزبكية التي سحرت القائد المغولي جينكيزخان ، واعتقدها مفتاح الولوج الى العالم الجديد وامتلاكه ، عندما همس لقادته : إذا كنتم تحلمون ببغداد ، فعليكم أولاً بسمر قند. وتأمل الى وصف المؤرخ المغولي وحاكم بغداد بعد هولاكو عطا الملك الجويني في وصف المدينة يغنينا عن أي وصف آخر لها قوله :
((سمر قند أعظم بقاع مملكة السلطان مساحة وأطيبها ربوعاً ، وقديماً قالوا : أنزه جنان الله أربع ، وسمر قند أطيبها)).
صناعة المدن والأمكنة المتشابهة أمر ليس بسهل . أيتاليو كالفينو صاحب اشهر كتاب عن المدن المتخيلة يقول : إن صناعة مدينة مفترضة لواحدة كموجة في الواقع لابد أن ينال الكثير من الاسطرة .
وعليه فأن جلب سمر قند الى الجبايش يعني مفارقة غريبة ،فمن أتي بالأزوبك الى مدينة بني أسد وقرى المعدان الذين يطوفون بأخيلة الماء والنجوم كما تطوف الغيوم في كبد السماء ،فيما سمر قند لا تطوف فيها سوى زرقة الكاشان الذي يزين مآذنها وذاكرة تاريخ الأوزبك وهم يحلمون بالشرق الذي يرقد فيه أمام مذهبهم أبو حنيفة النعمان وبيت الله في نجد.
لهذا أتخيل أن سمر قند ثانية تطوف في أرجاء مكان يصبغهُ من كل جهاته اضوية اللازورد الأخضر وكتابات تتحدث عن سحر غامض لكنوز وامكنة كانت في يوم ما واحدة من اجمل أحلام الاسكندر الكبير. الذي غفت على كتفه الكثير من الأساطير ومنها ما كان يعتقدها هو أن جنوب بابل التي وصل إليها بخيول الرومان والإغريق والمقدونيين لعصية عليه بسبب أقوام البطائح والمياه المحصورة بين ضفتي دجلة والفرات ،وحتماً كان يقصد المعدان.
ويبدو أن تصوير الشاعر الفارسي ( نظامي الكنجوي ) للأسكندر في قصيدته الشعرية النثرية والموسومة ( إسكندر نامه )، الطويلة التي تحدث فيها عن مراحل حياة الإسكندر في صورتيه المفترضين ،تلك التي دونها التاريخ عنه بأسم الإسكندر المقدوني ، وتلك التي جاء ذكرها في القرآن الكريم بأسم الإسكندر ذو القرنين بعد أن سأل عنه الرسول من قبل قريش وبإيعاز من أحبار اليهود . وفي نهاية فصولها الحكاية التالية عن الإسكندر وفيها ما اعتقده ربطاً بالمكان واهله وخصوصيته قول الشاعر الفارسي الكنجوي :
(( ثم علم الإسكندر إنه وصل الى الأرض الظلام حيث يوجد ماء الحياة ، فأقترب من المنطقة ،وقابل الخضر ، فسار معه في الظلام وأخذا يفتشان عن ماء الحياة ، فعثر الخضر على عين ماء وشرب منها ، أما الإسكندر فقد تاه عنها وظل الطريق ، وظل يبحث عنها أربعين يوما فلم يعثر عليها ،فقفل راجعا الى بلاد اليونان )).
في تناص بنيوي تظهر هذه الحكاية ملائمة مع خصوصية المكان الذي عاش فيه عرب الأهوار ، حيث المكان ذاته الذي انطلق منه جلجامش لبحث عن خلود مفترض وصفَ بعدة أشكال ( تفاحة الحياة ،ماء الحياة ،عشب الحياة ، شجرة الحياة )، وربما يأتي شيئاً من الربط في حكاية الشاعر الفارسي إن ثمة مكاناً مقدساً يقع في الطريق الواصل بين مدينة الإصلاح ومدينة الفهود ضمن محافظة ذي قار / 360 كم جنوب بغداد .وناحية الفهود من أشهر مدن الأهوار التي يسكنها المعدان منذ البعيد تحوي مقاما يقدسه الناس ويُزار في مواسم معينة يسمى مقام ( الخضر حي الدارين ).
وربما هذا التناص في رؤاه البنيوية يقودنا الى تفكير آخر في علاقة الإسكندر في المكان الذي سكنه أهل سومر وهم سكان الأهوار القدماء وصانعي عصرها المجيد في سلالاتها الثلاث ، يقودنا الى شخصية الإسكندر ذو القرنين الذي ذكر في سورة الكهف وفي هذه الآية يصنع التناص وتقترب شيئا من الصورة عن المكان وخصوصيته ، فالإسكندر ربما وصل المكان وله مع المعدان جولات بالرغم من إن التاريخ لا يتحدث في هذا الأمر سوى ما تركته لنا رؤية أحد قادته الذين أرسلهم لاكتشاف المكان والسيطرة عليه وهذا القائد هو نيرخس. والآية الكريمة التي تُحدث عندنا تلك المقاربة أو الظن هي (( وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ، وسنقول له من أمرنا يسرا ( 88 ) ثم أتبع سببا ( 89 ) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم تجعل لهم من دونها سترا ( 90 ).))
وربما يقترب القصد إن أولئك الذين تجعل لهم الشمس من دونهم سدا ،هم سكنة الماء الوفير الذين ينظرون في صباحهم الى أفق مفتوح لاينتهي ، حيث لا يسترهم حد فاصل أو جبل أو أي تضاريس طبيعية سوى الماء. فكانت الشمس بعض من سترهم الذي يحتمون فيه.
أعود الى هذه الفترة العصيبة التي حاولت فيها الدولة أن تسيء الى مرجعية وعرق ونسب وانتماء هؤلاء الناس خلال مقالات يومية نشرتها جريدة الثورة العراقية بعد نهاية حرب الخليج الثانية 1991 . وكأنها كتبت معتمدة على نظرة عامة خاطئة وبعض المؤشرات التاريخية القليلة التي كتبت بمزاج مؤرخ غير منصف وشعوبي أيضاً ، وعدها كاتب المقال الذي لم يذيل أسمه تحت تلك المقالات ، حيث افترض البعض عن إن الرئيس السابق صدام حسين هو من كتبها ،فيما قال آخرون إن عبد الجبار محسن مدير التوجيه السياسي والناطق الرسمي بأسم الحكومة ورئيس تحرير صحيفة القادسية الناطقة بأسم وزارة الدفاع هو من كتبها بإيعاز من الرئيس ، وأي كان كاتب تلك الأعمدة التي لم تلق من بال في الذاكرة الشعبية للمواطن العراقي بسبب سعة معرفيته وإدراكه لتسيس الأمر وانتقاما للحركة المسلحة التي قامت بها مناطق الأهوار والجنوب ضد الدولة ومؤسساتها الرسمية والحزبية ، وهي من نتاج التراكم الاجتماعي والاقتصادي والأيدلوجي القائم بين الدولة كنظام وبين تلك الشرائح الريفية التي تكونت ثقافتها على أساس المتوارث من عصور القهر الديني والتمايز وتأثير الأحزاب المعارضة والمقاومة للدولة والتي اتخذت من الأراضي الإيرانية المتاخمة والمتداخلة مع مناطق الأهوار مقراً لأنشطتها وتحركاتها واهمها التشكيل العسكري للمجلس الإسلامي الأعلى والمتمثل في فيلق بدر الذي تأسس في قُم بدايات الثمانينات والذي شارك مشاركة فعالة عبر عناصره التي استغلت انفلات الأمن وغياب الأفواج الحارسة للحدود وتفكك البنية العسكرية للدولة وهيكلت معظم فرق الجيش نتيجة للانسحاب الغير منظم والهزيمة التي تلقاها بعد دخول العراق للكويت وما أطلق عليه ( الانتفاضة الشعبانية المباركة ) ، فيما كانت الدولة تطلق عليها مسمى ( صفحة الغدر والخيانة ).
كان التشكيك بهؤلاء الناس يقوم على أساس انهم معدومي الوطنية كونهم لم يكونوا أصلا من العراق حيث عدهم الكاتب من بقايا أقوام هندية هاجرت الى العراق مع قطعان جواميسها في فترات متلاحقة ومتباعدة من التاريخ ، وانهم لا يفقهون في السلوك الحضاري أي شيء ،فهم لم يعرفوا حتى ارتداء النعل أو اللباس الداخلي.
ويبدو أن سكان الأهوار دفعوا ثمن هذه الصفحات من الفوران الشعبي ، حيث انسحب الآتون من إيران وتركوا أبناء الأهوار الى قدر مجهول من نتائجه الكارثية قيام الدولة بإصدار قرارات تجفيف الأهوار ، بعد أن تحدث حسين كامل حسن صهر الرئيس السابق في واحد من اجتماعات مجلس الوزراء وكان حينها وزيرا للتصنيع العسكري ، أن لا خلاص من غضب ومقاومة أبناء تلك المناطق إلا في تغيير المعالم الطبيعية للمكان وتجفيفه واقامة مشاريع استصلاح للأراضي لتهيئتها للزراعة الشتوية والصيفية بمحصولي الحنطة والشعير من خلال إقامة مشاريع الأنهر والسداد لحصر سكان الأهوار في مجمعات ريفية معلومة وتحت أنظار الدولة ، فأقيمت مشاريع اروائية وانهر صناعية تغذى من نهري الفرات ودجلة كنهر الكرماشية وعبادة وأم المعارك في الناصرية ونهر العز في ميسان وغيرهما من الأنهر. غير أن المناطق لم تنل من هذه المشاريع شيئا يذكر ولم يحسن الوضع الزراعي لسكانها بسبب شح المياه وارتفاع نسبة الملوحة وعدم تأقلم تلك المجمعات مع الوضع الجديد الذي اعتبر في بعض الاحيان بمثابة تهجير قسري ، وخاصة عرب المعدان الذين لم يتعودوا في حياتهم على هكذا نوع من التوطين ولم يكونوا ميالين الى زراعة بقدر ميلهم الى تربية قطعان الجاموس والاستفادة من منتجها. ولذلك فضل الكثير منهم أن يبدأ هجرة منظمة الى المدن ، وامتهان مهن حرفية أو الاشتغال عمال أجراء في البناء أو الصناعات التي كانت تعتمد على مادة القصب ، وبعضهم فضل تطويع أبناءه في سلك الجيش أو الشرطة تخلصا من العوز والفقر والمتطلبات الكثيرة التي تحتاجها المدن بعدما كان في بيئته لا يحتاج سوى الى سرير من القش وسماء مفتوحة على المياه الممتدة باخضرار خجول بين الأشنات والغابات الكثيفة للقصب وعصى غليضة يقود فيها قطيع جواميسه.
أدركت أخيراً لماذا تكون عصا المعيدي غليضة ؟ من خلال جواب أحدهم لي : حجم العصا يجب أن يكون بمستوى حجم الحيوان ومزاجه ، وهو يعتقد أن مزاج الجاموس ليس رائقا في كثير من الأحيان ، فهو يحتاج الى عصا غليضه تقوده ، بينما لا يحتاج راعي الغنم في المجتمعات الريفية الأخرى سوى الى عصا نحيفة يحولها في بعض الحيان الى ناي عذب ليقود فيها قطيعة. ويبدو إن الدولة انتبهت الى عصى المعيدي واستفادة من خصوصيتها واستخدمتها ضدهم عندما كانت سياسة العصا الغليضة هي من مورست على سكان تلك المناطق وسعي من خلالها تغيير ملامح الطبيعة وانقراضها من خلال منع المياه من الوصول الى تلك المنخفضات وأقامت السدود من خلال جهد هندسي جبار ، وعملية تعبوية شاركت فيها كل قطاعات الدولة من موظفين واناس من شتى المهن عندما كانوا يجبرون في الذهاب الى الهور للمشاركة ما سمي حينها عملية ( جز القصب ) وهي مشابهة الى عملية جز الصوف أي قطافه ، أو حلاقته . وكانت الدولة تكرم المشاركين في عملية جز القصب هذه ( بدشادشة ) وهو ما يطلق على الثوب الرجالي الطويل في الدارج العراقي.
يبدو مصطلح حلاقة القصب ، غريبا ، ولكن في مزاج الساسة وتصرفات الولاة لا يبدوا الأمر غريبا ، فأن المناجل تحولت الى مقصات لتلك الضفائر القصبية التي ظلت منسدلة على جبين التاريخ وأكتافه آلاف السنين ثم جاء الأمر الرئاسي بضرورة تحويل تلك المناطق الى مناطق يابسة لأن الأمن الوطني أهم من الأمن الطبيعي.وتلك معادلة لايمكن أن تضع في قواميس السياسة أصلا ، ربما لإن الطبيعة هي أم الوطن وأم الإنسان والوطن بلا طبيعة لها خصوصيتها لن يكون وطنا أبداً.
بين العصا الغليضة وحلاقة القصب عاش المعدان زمن المنفى الجديد. وهو حتماً زمن عصيب أدرك من خلاله المعدان أن اندماجهم في المجتمعات الجديدة يبدو مستحيلاً ، وإن بهجة المدن لا تلتقي مع دمعة الجوع والعوز ، لهذا كانت غربتهم مرسومة على حياتهم من خلال إصرارهم على إبقاء جزء من خصوصية العيش الذي كان يلف بهجة حياتهم في الأهوارعندما حاول بعضهم من تأسيس مجمعات سكنية صغيرة يمارسون فيها تربية الجاموس والعيش منتجه من خلال بيع القيمر والحليب فتكونت أحياء تحمل مسمياتهم هي أصلا كانت موجودة قبل التجفيف ولكنها توسعت بعد أن هاجر الكثير من أبناء الأهوار إليها ، فاضطرت الدولة أن تنقلهم مع دوباهم الى مناطق ابعد عن الحدود الإدارية لمراكز المدن كما في حي المعدان في مدنية الناصرية ومنطقة الكمالية في بغداد وغيرها من المدن. والمهم في نظرتهم الى المكان الجديد أن يكون قريبا من منابع المياه ومجرى النهر ،فقد كان الماء بالنسبة للمعيدي الملاذ الوحيد لكل أحلامه ، وهو يلتقي مع المندائيين في نظرتهم الطقوسية والمقدسة للماء في حياتهم ،ومن دونه لا يستطيع المعيدي أن يهنئ لحظة واحدة. فالعالم بالنسبة له ظهيرة دافئة يتأمل فيها قطعانه وهي تقضي قيلولة المتعة في الماء وتحت أشعة الشمس.
ربما لم ينبه أحدهم الى التشابه الكبير بين عصا جلجامش المتخيلة من حكايته الأسطورية في رحلته العجيبة وبين عصا المعيدي.
والحق كما أكتشفه الرحالة ورجال الآثار الذين زاروا وعملوا في مناطق الأهوار أنهما من نفس الشجرة ، وربما هي من سلالة تلك الشجرة التي تقف اليوم شامخة من أعوامها الألف المؤلفة قرب ضفاف اللقيا بين دجلة والفرات في مدينة القرنة ويقال لها :شجرة أبونا آدم ( ع ) التي تزار من قبل سكان الأهوار كما تزار مراقد الأنبياء والأولياء ، شجرة السدر التي يحرص المعدان دائما أن يكون خشب عصيهم التي يقودون فيها قطعان جواميسهم المشاكسة منها .
من خشب شجرة السدر صنع جلجامش عصاه التي تلمسَ فيها الطرق البعيدة المليئة بالأخطار بحثا عن الوجود الأبدي ، وبها أوجع رأس الشر ضربا عندما هوة بقوة سومري شهم على رأس خمبابا الوحش حارس غابة الأرز.
ولأن الجواميس ليست خمبابا ابتكر أحفاد ملك أوروك هذه العصا ليلوحوا بها فقط أمام قطعانهم ليرهبوها ، فقد لا يجرؤ معيدي على ضرب دابته بتلك العصا لأنه يدرك بأن الحنان الذي تحتاجه الجواميس ينبغي أن تراه مرسوماً في حشد المواويل والأغنيات التي يطلقها المعدان وهم يعودون بقطعانهم من مراعي الماء والقصب أملين بأواني وفيرة من حليب دسم يطعمون به أطفالهم ويذهبون بالباقي الى المدن القريبة ،حيث يدرك العراقي إن لا لذة وطعم تفوق قيمر جاموسة المعيدي ،وحيث لاسحر يفوق تلك المشية الجميلة التي تتهادى فيها بنات المعدان وهن يحملن فوق رؤوسهم ناطحات سحاب من قدور الحليب والقيمر واللبن الخاثر.
لكن الفرق شاسعا بين عصا الملك السومري وبين عصا المعيدي بالرغم من انهما بحجم متساو ومن شجرة واحدة ، يتخيلها البعض أنها من شجرة السدر حتماً ، وهي ذاتها التي صنع منها آدم ع أول عصا ردع ليعاقب الأخ على قتل أخيه ،فيكون هاجس الانسياق بالعصا هو هاجس متوارث ، حتى وصل أخيراً الى معلم المدرسة ليعاقب فيها تلميذه والى الشرطي ليعاقب فيها المتظاهر المحتج.
هذا الفرق قائم على رؤيا الهدف بين الملك والمعيدي ،وهي رؤية أزلية وتعيش معاصرتها اليوم في مجمل تفكيرنا بقضية شعب الأهوار ، فثنائية الملك والعصا قائمة وبينهما يوجد مستلب يحاول جهد الإمكان أن يتحاشى تلك العصا ، وان لم يستطع استخدمها هو لسلطة أخرى لا تقترب من قفا الملك بل من قفا جاموسته ، غير ذلك فأن عصا المعيدي الغليضة لها فهم ومدلول واضح أنها صنعت لتردع مزاج الجاموس ، فيما صنع جلجامش عصاه ليردع مزاج الزمن وفي ذلك إشكالية معقده كلفته أن يخسر لحظته الإنسانية ليعيش فكرة الخلود التي لم ينلها حتى الأنبياء والقدسين وأباطرة المال ، واعني فكرة أن نبقى أحياء الى الأبد. فكان الفرق قائماً بين هاجسين .عصا المجهول هو جلجامش، وعصا المفهوم هو المعيدي ، وربما انتصار عصا المعيدي في النهاية وبقاء النمط الحياتي لوجوده خالداً ،فيما ركنت أحلام جلجامش الى ألواح الأسطورة وهي من جعلت الملوك يصنعوا عصا أخرى ليوقفوا خلود البسطاء ، والذين عاشوا بفطرتهم السريالية ليخلقوا نمطا جماليا من العيش تغلفه القناعة والنظر الى المحيط الممكن دون الذهاب بعيدا ، وهذا الإيقاف كان بواسطة الردع الطبيعي ،وهو نمط جديد من الحرب ربما أقسى من تأثير المدفع والبندقية ومقصلة الإعدام عندما تفكر بإلغاء الطبيعة وهذا يعني في العرف الفقهي تغيير خلق الله . وربما ليس فقط أفواج العسكر والجهد الهندسي وسداد التراب هو من يسهم في هذا التغيير. العطش أيضا ، فالمعيدي يقول : عندما يشح الماء عني يعطش جسدي ، ولكن عندما تعطش جاموستي تعطش روحي كلها .
عطش الأهوار بالنسبة لأولئك السرياليين هو عطش الروح ، وتلك بعضا من هواجس ملك أوروك جلجامش ، فقد كان يلوح بعصاه حتى لظل الشجر الذي يصادفه يوم شعر بعطشه وانتهى فيه ليغفوا تعبا بالرغم من انه وجد نبات الخلود ، لأجل هذا فأن الدولة التي تريد أن تديم عالما كهذا عليها أن تبعد عطش الروح عن المعيدي وسكان الأهوار قبل أن تبعد عنهم عطش الأرض ، وعطش الفم ، لأن من تعطش روحه صعب أن تسقيه بحوضيات الماء وقناني المياه المعدنية ووعود الأعمار ، مادامت دجلة تأن من جفاف مجاريها ،والفرات تزداد ملوحته في أعلى نسبة له في أزمنته ، فأن الحلول المفترضة والوعود وزيارات المسؤولين لن تجدي نفعاً.
أضع روح المعيدي في ميزان اللحظة التي قرر فيها جلجامش المشي الى قدره الجديد ، وعليَّ أن ألوح بعصاي ، أهش فيها قطعان الجواميس المقدسة التي رسمها نرام ــ سين على مسلته وأظهره فيها جبروت رجال المياه والقصب ، ومع الملكين أبحر في اسطرة تلك الشخصية واقرا فيها ما يعتقده المؤرخون والرحالة انهم في خصوصية عيشهم هذا يمثلون حالة نادرة فقد كان ثيسكر مؤلف كتاب المعدان يرى فيهم شعب بسيط ومتواضع وكريم وذكي ، وهذا كما يقول ديوارنت في قصة الحضارة بعض خصال الشعوب العريقة.
هذه الروح التي لم تأن تحت أي وجع حتى مع الكوارث الطبيعية والحروب والمجاعات ، ولهذا كانوا يرون في ما يحدث أمر قدرته السماء ولا مناص منه ، ولكنهم من شدة عشقهم للجواميس والقصب يرون في جوعهم أخف وطأة عليهم عندما لاتجد دوابهم قصبا اخضرا وماء وفيرا تعوم فيه. أن حزنهم يكمن عندما يرون حزن المكان الذي يعيشون فيه يقطر دماً على ما يصيبه من عطش وتصحر وغياب الطيور المهاجرة لتقضي مشاتيها بين الغابات الخضر والمياه التي تضيء بخضرة العشب كما تضيء الرُقم المكتشفة في مناطق الأهوار والتي تحدثت لرجال المعاول والمكتشفين عن عهود وطبقات من أزمنة عاشت عصورها الذهبية ومضت .وحدهم عرب الأهوار بقوا ليس لانهم يعشقون المكان بل لأنهم أزله المطلق.
هذا الأزل الذي وقفت عنده الحكومات والمنظمات حائرة وسلطت عليه شيئا من أضواءها فقط لأجل أن تحيي فيه ما كان متعودا عليه ، أن تأتيه المياه في مجاريها الفياضة ، ولكن الاستبشار لم يدم كما كان متوقعا ، ومرة أخرى رفعت السياسة عصاها الغليضة ولم تلتفت الى أحلام جلجامش ،وإذا كنا نتصور في أحلام الجغرافيا إن خلود ارض العراق مع خلود نهريه ،فكيف سيكون ذلك الخلود إذا جف الماء ،وعاود المعدان هجرة أخرى الى باطن المدن يؤسسون أحياء مصطنعة تسميها البلدية وأهل المدن ( أحياء المعدان ).
أنصف الأجانب المعدان قبل أن ينصفهم أهلهم من العراقيين ، فعدا إشارات الدكتور علي الوردي في بعض دراساته الاجتماعية ، تخلف الباحثون والمؤرخون كثيرا عن الغوص في حياة هذا الشعب وروحه ، وربما الأدب العراقي هو من اعتنى كثيرا في هؤلاء الناس من خلال معايشة الكثير من الأدباء من قصاصين وشعراء لسكان الأهوار في فترات النفي السياسي لهم وأغلبهم من المعلمين ، ولكن مؤرخا ورحالة هو ويلفرد ثيسـﮕر أعاد لوجودهم الأصل والهيبة ، وعايش فيهم جميع الصفات الإنسانية ، وجعل العالم يرى الطبيعة الحقيقة لشعب كان ماكس مالون الآثاري الذي رافق ليوناردو وولي في تنقيباته الشهيرة في مدينة اور ومقبرتها الملكية مطلع عشرينيات القرن الماضي ، وهو الزوج الأخير للروائية الإنكليزية الشهيرة آجاثا كريستي ، كان قد تحدث في محاضرة له في المتحف البريطاني عن المعدان وأعاد عرقهم ونسبهم الى الأصول السومرية من خلال قرائن عديدة تضمنت التشابه المعماري بين بيوت المعدان وبيوت السومريين كما رأيناها في الأختام والمسلات وجدران المعابد وخاصة بيوت القصب التي تكون واجهاتها مقوسة كما أرتنا الألواح ، وكما نراها اليوم في بناء ( المضيف ) وهي دار ضيافة يحرص كل أهل الأهوار أن يلحقوها ببيوتهم وحسب الإمكانية المادية ،،كذلك تشابه آلات الصيد والزراعة والنقش وغيرها من العادات ، كما أن الأثريات التي قام فيها وولي أظهرت أمكنة محتملة للطوفان الأول ،حيث أكد أن بطائح الجنوب العراقي حيث الأهوار هي التي عم فيها الطوفان كما أثبتت حفريات وولي ودراسته الجيولوجية لطبقات الأرض ،وما فكه علماء اللغة المسمارية الذين قدموا مع وولي.
غير أن ماكس مالوان لم يتعمق أو يغور في البحث ، لقد تحدث فقط عن إشارات لقوم يعيشون بطبائع خاصة لا يوجد لها مشابه بين شعوب العالم ، لكن ثيسكر ذهب معهم بعيدا وصنع لهم في الذاكرة العالمية كتابا مهما يتحدث عن حياة عاشها بصبر وتأمل مع هؤلاء البسطاء في حياتهم ، أصحاب الذاكرة العميقة والإرادة التي لا ينتصر عليها عناد الجواميس ولا فيضانات المياه ولاهيبة الأساطير وغموض التلال الأثرية التي تناثرت جزرا وتلالاً بين مساحات المياه الممتدة بعيداً.
كان كتاب المعدان ثيسكر وثيقة حية ترصد السلوك الاجتماعي لشريحة من البشر ، لم يقترب من حياتهم قبله كهذا العمق الذي ذهب إليه هو ، ويرى القارئ بين جنبات الكتاب روحا طيبة ومتأملة وعارفة للقيمة الإنسانية والتاريخية لمثل هؤلاء الأقوام ، ولو كان في مقدورنا أن نضع مسمى آخر لهذه الحياة التي عاشها الرحالة فعلينا أن نقارنه بكولومبس الذي اكتشف أمريكا وهنودها الحمر ، وفتح بوابات العالم لمعرفة حضارات عظيمة في أمريكا الجنوبية مثل حضارة الازتيك ، وتلك التي أكتشفت عند سكان نيوزلندا الأصليين وهي تمتلك مشابهات كثيرة مع حياة سومري جنوب العراق ، فيما يخص الطبائع والعادات والطقوس الدينية.
فهو يبدأ مكتشفا المكان من خلال عين أدبية يسحرها المكان وجماله فتراه من أول انطباع يجد انه مشدودا لعام مبتكر وغريب وعليه أن يمضي معه بعيدا ، بعدما أجاد في وصف الانطباع الأول عن روح المكان ومعماره كما يصفها في كتابه المعدان والذي ترجمه المترجم العراقي ( حسن ناصر ) والصادر عن دار الشؤون العراقية في بغداد 2005.
((غادرت العمارة في صباح من الأسبوع الأول من شباط فبراير 1951 استأجرت قارباً من المجر الكبير لأبدأ رحلة الأميال الخمسة باتجاه بيت فالح بن مجيد عند حافة الهور. أبوه مجيد الخليفة كان واحداً من الشيخين الكبيرين لعشيرة البو محمد التي تضم خمسة وعشرين ألف رجل مقاتل . كنت آمل أن أُمضي بضع شهور في الأهوار ، فكان اقتراح ستيورات دوغالد أن فالح بن مجيد سيكون عوناً كبيراً لي .  أنظر بين الحين والآخر من مكاني  في القارب و كلما انعطفنا مستديرين لأرى إن كانت الأهوار تلوح في  مرمى النظر. لكن النهر بلونه الطيني كان يجري في منبسطات ممتدة . منعطف آخر بعده يتفرَّق النهر . صف من مساكن القصب المبنية بإتقان يواجه المجرى الرئيس . كان هناك مبنى من الطابوق مستوي السقف مثل حصن يرتفع على الأرض الممتدة وراءه . لكن ما أدهشني أكثر هو البناء المقبب . المُسقّف ببُسُط ملون . هناك عمود يرتفع ليكسر استواء خط السطح عند كل واحدة من الزوايا الأربعة حيث يقع المبنى بشكل بارز بين فرعي النهر)).
من هنا بدأ خط شروع الرجل المكتشف الى عالم أدرك فيه براءة العيش وفطرة التفكير القنوع بما خلق عليه ومن أجله هذا الإنسان الذي لم يدرك في عموم ثقافته انه سليل الأمكنة البعيدة والتي تحدث عنها كالفن مؤلف كتاب العودة الى الأهوار : إن التاريخ الذي ينتمون إليه ، تاريخ يتفاخر فيه أي شعب من الشعوب كتاريخ متحضر ، وذو جذور تمتد الى أفق السماء حيث يقال أن اكثر من نبي خرج من هذه الأرض.
أنبياء الحلم خرجوا من أمكنة هؤلاء الناس البسطاء الذين يستقبلون ضيوفهم ببراءة الدهشة والنظرة الوديعة بالرغم من انهم لم يتعودوا على الغرباء ، ولم يعرفوا من خارج محيطهم المكون من تجمعات صغيرة لبيوت الصرائف ، لم يعرفوا سوى الموظف الحكومي الذي ترسله الدولة بين الحين والحين لتطمئنهم انهم مواطنين من هذه الدولة ،وغير ذلك قد يحمل هذا الموظف سجلا كبيرا يسجل فيه أسماء من يصادفهم في الطريق وكانوا يسمونه تعدادا مفترضا لسكان الأهوار الذين حد قيام الجمهورية يتقاعسون عن الذهاب الى مركز الناحية أو القضاء لعمل بطاقات أحوال مدنية لأبنائهم.
أن كشوقات ثيسكر الأولية عن هذا الشعب ، هو كشف لمجهول كان الغزاة منذ أزمنة الفرس والإسكندر والمغول والترك والإنكليز والمتسلطين من الحكومات التي أتت فيها الثورة العالمية الأولى ومعاهدة سايس ــ بيكو ، يعتقدون إن مائدة النقاش والحوار مع هكذا شعب معدوما ، فأما يرموه في سلال النسيان أو يعالجوا قراه بالمدافع فيحترق مالهم ودوابهم فيرتدعون. ولكنه رادع مؤقت ، لأن الحياة تمضي معهم الى الآمال التي يمتلكونها بفضل فطرة الروح التي أمتلكها المعيدي ، وربما هي آتية من خلال الموهبة المكتسبة من تراث بعيد غُرس في حواسه حتى دون أن يعلم هو.
وعلى مدى رحلات متعددة ومتفاوتة الأزمنة بدأت من عام 1950، وآخرها في عام 1973. كتب ثيسكر أشياءه بعناية عن أولئك الناس الذي يشعر قارئ الكتاب كم من الحب يمتلكه لهم ، وربما هو من فتح آفاقا ولوج الدارسون من خلالها الى المكان ، حين أتى من بعده رحالة بريطانيون وتحدثوا عن ذات الدهشة فألفوا كتبا عن هذا العالم الاستثنائي الذي يعيش فيه المعدان ، ويمارسون حياتهم بفطرة وسريالية ونبل دون أن ينتبهوا أو يحسبوا حسابا طارئا لكل ما يأتي فيه القدر وعلى قناعتهم يُرسم الهاجس الأبدي ثبات الفكرة ، أن السادة العلويين والأولياء وأهل البيت والعلي القدير سيحميهم من كل مكروه ، لهذا حاولت في واحدة من صدف الحياة ، تفسير تلك النظرة التي رسمت خطوطها المشعة والذكية تحت أجفان معيدي في النزع الأخير ولم أجد تفسيرا حتى عندما ذهبت الى كتب فرويد وكارل يونغ لأجد المبرر الروحي والنفسي لتلك القناعة التي ملكت الرجل وهو يستقبل موته في هدوء.
أتحدث عن هذا في موقف كنت شاهده عندما نمت ليلة صيفية في بيت من بيوت المعدان وعلى سوباط القصب الذي ثبتت أسسه في الماء ، وارعبني اهتزازه من تلاطم الموج بدعامات القصب النحيفة حيث لم انم ليلتها فيما كان مضيفي وأولاده يغطون في نوم هادئ ولا يهتمون لأي شيء. وفي منتصف الليل ايقضنا نواح عال لأمراة في جبيشة أخرى فهرع أليها الجميع وكنت معهم ،لنجد رجلا كبيرا توسط فراش من القصب والقش وضع عليه أزار مطرز بألوان قاتمة تحمل أشكالا رسمت بفطرة وهي تعود بالشكل والحركة الى تلك الرسوم التي وجدها رجال الآثار على الألواح والمسلات السومرية. تأملت سكان السلف وجلوسهم حول الرجل المسجى وقد أضيء المكان بنيران حطب أشعلته المرأة لتنبئ البيوت البعيدة التي يفصلها عن بعضها مساحات من الماء بأن حادث جلل قد حل في بيتها ، فبدأت القوارب والمشاحيف تتوافد مسرعة ، وكل مشحوف يحمل مشعلاً من النار لتحاشي القصب الكثيف والممرات المائية المتعرجة الى قد تفضي في الليل الى أمكنة مخيفة وغامضة كالتي تشابه ما في تل حفيظ الذي يعتقد أهل الأهوار إن أرواحا تسكنه وتحفظ كنوزه حيث يعتقد إن فيه كنزا لملك قديم خبئاهُ من أعداءه بعد أن شعر بقرب منية حكمه.
كان يغمض عينيه بهدوء ، وكأنه يعلم بأجله فكان قانعاً ، ولكي ينبئ الآخرين بأن الموت أجل لامفر منه ، ظل يوزع ابتسامة خفيفة لم يقراها في محباه سوى من يقرب إليه ضوء المشعل ليقبله أو ليسمع أنينه كي يعلم الجلاس بصعود الروح الى خالقها.
وهكذا كان الثبات والراحة هو ما أظل المعيدي المحتضر يرسمه تحت أجفانه ليبعد عن روحه قلق الموت وليقنع الذين من حوله أن لامفر من لحظة مر فيها أبوه وأمه وجده وكل أبناء السلف من الراحلين ، وربما لأول مرة اعرف من الإشارة ماذا يتمنى البشر أن يحصل بعد رحيله ، كان يلتفت صوب أبناءه وجواميسه ليوصي بهم أبناء العشيرة وكانت الرؤوس تهتز لتجيبه بنعم مع عيون اغرورقت بدمع لم يمنع أحدهم لينتحب ، وهكذا أسمع نحيبا عاليا لرجال يتوازى تماما مع نحيب النساء وولولتهن وهي تنظم بفطرة وبلاغة أبيات شعر لمرثية كتبنها بفطرة الشاعر المحترف ولأول مرة ، فأوعزت ذلك الى ما تحدث عنه ذات مرة الباحث حسين الهلالي من أن الأويلاه القديمة ( ..والاه ..يابه ..ويبوي ..والطركاعة ) وغيرها من زفرات الأسى والنحيب تمتلك أصولاً سومرية ، وظلت متغلغلة في الحناجر والوجدان وتعاقب الأجيال مهما طال عليها الزمن. وقبل الفجر بساعة كان الرجل قد اسكن قدره الى اغماضة عميقة لم يفتح بعدها عيناه ،فأدرك أحدهم إن المنية حلت ، ونادى على الجميع بقراءة سورة الفاتحة ، فتعالى صراخ النساء ونحيب الرجال وحُمل الجسد ليضع على حصيرة قصب وباتجاه القبلة حيث تمت الصلاة عليه ومع بزوغ الشمس نقل الجثمان الى قارب توجه به الى قضاء الجبايش حيث سيؤجر ذويه سيارة صغيرة تنقل النعش الى مقبرة وادي السلام في النجف هناك قرب قبة علي ( ع ) ..كما يقول المعيدي : هناك قرب أبو الحسنين الجنة والراحة والاطمئنان.
هذا الشعب الذي يعاني مرة أخرى من قلقه الوجودي جراء العطش الذي يزحف الى مناطق سكناه ، وهم ينتظرون بعين الرحمة والعطف والكبرياء الى من يزيح عن حياتهم هذا القلق ، فهم لا يدركون ما تريد السياسة وما يتحملون جرائها ، هم يريدون صباحهم يشرق على ما تعودوا عليه ، يريدون القصب والماء والطير وسعادة الجاموسة وهي تهز ذيل انتشاءها بالماء وقيلولة ، وهذا يأتي من خلال مولاة التاريخ لهم وشفافية القرار والخطاب السياسي .
المعدان .. الصورة النقية للمكان الذي عاشوا فيه وسيظلون يمسكون أبداً العصا الغليضة والقدم الحافية والغطاء الذي يقي الرأس من لهيب ظهيرة الرعي .سيبقون ما بقى الحلم السومري يعيد صدى أسطورة الخلود التي مشى على موسيقاها جلجامش ، فأن لم ينلها هو فأن المعدان ربما نالوها بسبب إصرارهم على البقاء بالرغم ما تعرضوا إليه عبر كل العصور...

SOLINGEN – GERMANY في 4ابريل 2009




#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عيون المها ..بين برج أيفل وأهوار الجبايش...
- الرافدين.. ورموش العين وعصير العنب...
- صابئة حران وصابئة المعدان وصابئة هذا الزمان ....
- الأهوار.. (الإنسان يموت، الجاموس يموت، والقصائد أيضاً)...
- قبر الزعيم عبد الكريم قاسم ...
- الدولة العراقية وسفارتنا في برلين ورفات الفنان العراقي أحمد ...
- شيء عن بلاد أسمها ( التها بها )...!
- مديح إلى مدينة العمارة .. ومعدانها أجداد هيرقليطس...
- شيوعيو مدينة الناصرية بين الانتخابات ومتحف لفهد....
- مقدمة ٌلتاريخ ِمدينةِ الناصريةِ .....
- جلجامش وملوك ورؤساء الجمهوريات ..
- البارسوكوليجي 2009
- انظر إلى غزة ...أنظر إلى العربي....!
- قراءة الباطن الروحي ( للمغربي ) شكسبير وتنظيم القاعدة...
- عيد ميلاد مجيد يا أهل ناحية الحَمارّْ ....
- طالما .. العراق حيٌ ..فأنت الحي وليس فلوريدا...
- قيصر والعراق وحبة التين
- الحسين ( عليه السلام ) ، وغاندي ( رحمهُ الله ) ، وكارل ماركس ...
- أشراقات مندائية
- شيء عن السريالية ، والغرام بالطريقة التقليدية...


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - نعيم عبد مهلهل - المعدان ..( التاريخ وجلجامش ، في مهب السريالية ) ..