|
الكبار لا يموتون : قصة قصيرة
عزيز العرباوي
الحوار المتمدن-العدد: 2587 - 2009 / 3 / 16 - 08:36
المحور:
الادب والفن
نحن الآن في مقبرة نائية ، في دوار ناء جدا ، لم تلتزم الحكومات المتعاقبة على إيصال الكهرباء والماء الصالح للشرب إليه كما وعدت . نوسد التراب كل من كان يظن نفسه عظيما قبل موته : وزراء ، رؤساء أحزاب ، جنرالات ، رجال مخزن وسلطة ،...نح المواطنون العاديون ، والكتاب والصحافيون والمثقفون والمستضعون ...منا من كان يتمنى موت هؤلاء ، ومنا من يتحسر عليهم ويحسبهم من شهداء القرن الواحد والعشرين ، بل وينظم قصائد الرثاء في حقهم . للأسف ، مازال منا من يحن لأيام المتنبي والفرزدق وجرير ... يحضر فقهاء الدواوير المجاورة ، يجلسون فوق القبور الأخرى التي شيدت من قبل ، قبور المقاومين الشهداء الذين دفعوا بدمائهم من أجل الاستقلال والتحرر ، ، يقرأ الفقهاء سورة (يس) ، ثم يردفونها بدعاء للأموات ويتمنون لهم مقاما طيبا في الجنة . واقفا أحسست بقشعريرة مفاجئة ، ببرودة شديدة تستعمر جسدي ، بمخالب الموت تنخر عظامي ، وتهز أوتار أعصابي الحديدية ، التي ما اهتزت من قبل ، ولا شعرت بمثل هذه الأشياء أبدا . كنت بين النهاية والبداية ، بين الفناء والبقاء ، بين الموت والحياة ،...بين الموت لأنني حلمت يوما من الأيام أنني أصبح وزيرا ، الحلم بالوزارة قد يفقدك لذة الحياة . هذا ما كان يقوله لي أحد الأصدقاء دائما . وبين الحياة لأنني ما زلت مواطنا عاديا أشارك في دفن هؤلاء الميتين والدعاء لهم وعليهم . انتظرت الدعاة حتى ينتهوا من دعائهم ويرين الصمت بين الحضور في وقفة صمت على أرواح الميتين كما جرت العادة بذلك كلما مات عظيم في المجتمع بيننا . تحسرت كثيرا في نفسي لماذا هذا التمييز في وقفات الصمت بين البشر ؟ لماذا نقف دقائق صمت قدر تطول أو تقصر على كل شخص مشهور أو مسؤول ، ونعلن أيام الحداد والجوع والعطش ، ويكثر البكاء بيننا وبين نسائنا وأطفالنا وشعرائنا وفنانينا ، بينما يعم الضحك والفرح والسرور ، وتفتح البارات والحانات إذا مات شخص من العامة وكأنه كلب وزير ، أو قط زوجة كاتب عام لحزب ما ... كانت النساء الجالسات على بعد أمتار ، موشحات برداءات سوداء ، والعويل يعم المكان مثل سمفونيات فنانينا المعاصرين جدا . كانت النفس تتقزز ، وتستغرب لم البكاء على مثل هؤلاء ؟ ماذا فعلوا بحياتهم حتى يستحقوا منا الرثاء لهم ؟ العمل الوحيد الذي بقي لهم قبل مماتهم ، هو أن يبيعونا الشمس والأكسجين ؟ فالحمد لله على رحيلهم قبل أن يظفروا بهذه القفزة الحكومية ...! وبهذا العمل - قبض أرواح هؤلاء - صار في عرفنا نحن العامة أن ملك الموت هو المرشح الأكبر للفوز بالانتخابات المقبلة . في أثناء مراسيم الدفن الأخيرة ، وردم التراب على اللحود ، شدتني صورة لطفلة صغيرة تصدرت جموع النساء بضحكتها الصغيرة البريئة ، وكأنها تحاول أن تشمت بالميتين . كانت صورة هذه الطفلة مثل كاميرا مخرج جديد انبعث من بيننا لينقل إلينا فنا جديدا بعيدا عن أعين السلطة ينفذ إلى قلبنا لينعش فينا الحياة من جديد . ترقبت كثيرا ابتسامة الطفلة والأفكار تتعالى في ذهني وترسم لوحة تشكيلية مختلفة عن كل المدارس الموجودة بالساحة الفنية . تساقطت الأفكار في عقلي : كيف تجرؤ هذه الصغيرة على السخرية من كبار المجتمع والضحك من موتهم ؟ ألا تخاف أن يروها وينتقموا منها ؟ أتظن هذه الجاهلة أن الموت قد أنهى أسطورتهم ، وأنهى بقاءهم ؟ فهي واهمة إذن ! لم يكن مشهد الجنازة العظيم حقيقيا في رأيي على الأقل ، أنا الذي عشت كثيرا على أمل نهاية هذه الأسطورة أكثر من سني ، أنا الذي خبرت كل حيل الحياة في بيتنا بين بيوت العالم جميعا ، ولم أجد سوى الكذب والنفاق ، واللاموت الذي يعم حتى يغطينا بلعاب الأرواح المتحكمة في مصيرنا ، أنا الميت بين أجساد أقبرت في لحود الدنيا ومازالت تمشي وتتحكم في مصير العباد ... شدتني حالة ، قليلا ما تنتابني في الحالات النادرة ، وخصوصا في حالة الفزع والخوف . بدأت أسناني تصطك وشعري يقف عن التنفس ويتشعث وتتداخل فيما بينها الشعرات الطويلة والقصيرة . وتحسست بشيء من الرهبة كأن الأرض تهتز من تحتي وتتشقق . ثم تنفتح القبور المردومة كلها . وكانت الصدمة الكبرى على الجميع ، والذين كانوا قد بدأوا قبل قليل الإحساس بالراحة والطمأنينة بإقبار هذه الأسطورة إلى الابد . وتساقطت صورة الجثث المدفونة وهي تخرج تباعا من قبورها ، على الجميع مثل صعقة كهربائية أنهت أحلامهم بكاملها إلى النهاية ، بينما تجمدت في مكاني لا أتحرك كتمثال محكوم عليه بالإعدام . ولم أعقل إلا عبارة خرجت مني دون أن أحس بها : الكبار لا يموتون أيها الناس ، إنها معجزة بيتنا هذا ...!!
عزيز العرباوي كاتب من المغرب [email protected]
#عزيز_العرباوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شيء اسمه الوجود
-
لماذا يتشبث العرب بالتبعية ؟ :
-
في ولادة الوطن
-
حصاد الموت
-
الحرية والانغلاق :
-
الأنا المفقود : خاطرة
-
من قال إنها شفافة فقد كذب : قصة قصيرة
-
البكاء في حضرة الصليب
-
- العدالة والتنمية - أو التنديد والوعيد :
-
الساعات الإضافية : جريمة تربوية بامتياز :
-
زيارة الأضرحة طريق يقود إلى الجاهلية :
-
هكذا يكون الانتماء :
-
في مديح الأقصى :
-
التجمع العربي الغريب :
-
هوغو تشافيز وأنظمتنا الرسمية الخانعة :
-
المقاومة تدشن عهدا جديدا في مسار الأمة :
-
تائه في وطن :
-
العالم العربي واختلال الفكر السياسي :
-
- الشيخ والبحر - لإرنست همنغواي : عندما يبدع المترجم :
-
استباحة الحلم بالنفاق :
المزيد.....
-
تحت الركام
-
ألعاب -الفسيفسائي- السردية.. رواية بوليسية في روايات عدة
-
لبنان.. مبادرة تحول سينما -كوليزيه- التاريخية إلى مسرح وطني
...
-
MAJID TV “تثبيت تردد قناة ماجد 2024” .. نزلها في خطوة واحدة
...
-
الروائية ليلى سليماني: الرواية كذبة تحكي الحقيقة
-
-الرجل الذي حبل-كتاب جديد للباحث والأنتروبولوجي التونسي محمد
...
-
شارك في -صمت الحملان- و-أبولو 13?.. وفاة المخرج والمنتج الأم
...
-
تحميل ومشاهدة فيلم السرب 2024 لـ أحمد السقا كامل على موقع اي
...
-
حصريا حـ 33 .. مسلسل المتوحش الحلقة 33 Yabani مترجمة للعربية
...
-
شاهد حـ 69 كامله مترجمة .. مسلسل طائر الرفراف الحلقة 69 بجود
...
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|