أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد جميل حمودي - تفكيك الثنائيات الفكرية العربية: الأزمة والمشاريع البديلة















المزيد.....


تفكيك الثنائيات الفكرية العربية: الأزمة والمشاريع البديلة


أحمد جميل حمودي

الحوار المتمدن-العدد: 2444 - 2008 / 10 / 24 - 06:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


انشغل وينشغل العرب بهذه الإشكالية والتي باتت جزء من التكوين الثقافي العربي. عدة ثنائيات تطرح في سياق حركة الثقافة العربية: العروبة والاسلام,القومية والوطنية, الدين والدولة, المثقف والسلطة.... وغيرها من الثنائيات التي تستعصي على الانسان تحديد اسمائها ومسمياتها.
وقبل تفسير مرد هذه الثنائيات والمشاريع البديلة عنها, فانه اولا لا يمكننا الحديث عن واقع وجود ثنائية الا اذا كان هناك نوع من الصراع الفكري حول شرعيتهما, فمنهم من الغى احدى طرفي الثنائية ومنهم من اختار النزعة التوفيقية ومنهم من امن بالتعددية كخيار للتعايش. وثانيا لا يمكن تفكيك الثنائيات الا اذا فككنا ظاهرة الصراع بين الايدلوجيات او المشاريع الفكرية, فهذه الثنائيات نتيجة لتشرذم المشاريع على المستوى العربي, فالاسلاميون لهم مشروعهم الخاص وكذلك العلمانيون بيسارييهم وتقدمييهم وليبرالييهم, وكل من هؤلاء ينعت الاخر بنعوت تنم عن نرجسية فكرية- ان صح التعبير- حيث نجد ان الاسلاميين ينعتون الاخرين بالمغتربين والمستلبين.... والعلمانيون باجنحتهم المختلفة يصفون مخالفيهم- مع الاختلاف بينهم في حدة النقد- بالرجعية والتخلف والحنين للتراث......
والسؤال المشروع هل الحديث عن الثنائيات يكرسها ومن الافضل ان نشتغل بتنمية الانسان ؟ ام ان فض الاشتباك بات احد مهام المشاريع الثقافية العربية؟
ماذا اقصد بتفكيك الثنائيات هل اقصد به فك رموز النزاع ام انني اجنح الى ضرورة تفكيك هذه الثنائيات للبحث عن هوية تدمج الثقافة بالكل الجمعي؟
والسؤال المشروع هل هذه الثنائيات خاصة بالمجتمع العربي ام على صعيد الفكر الانساني؟ وارى انه يجب علينا ان نبحث فعليا عن اجابات شافية لهذا التساؤل - في الثقافة الغربية خصوصا - هل فعلا مسالة الدين والعلمانية تطرحان بقوة في الثقافة الغربية كما هو الحال في ثقافتنا العربية؟
ويمكن القول مبدئيا ان هذه الثنائيات أدت وما تزال تؤدي إلى تحجيم الفكر العربي وأفكار شعوب أخرى كثيرة. وتحدث هذه الثنائية في مجالات فكرية كثيرة لدى شعوب يسود حياتها قدر من الديمقراطية مثل شعوب اوروبا الغربية والوسطى والولايات المتحدة وكندا وكذلك دول جنوب اسيا وجنوب شرق اسيا. الا انه ينبغي التأكيد ان حجم الاشتباك يختلف بين مجتمع متقدم ومتخلف بحجم اختلاف الهوة الحضارية بينهما.
ومن الواضح انه على الرغم من واقع وجود هذه الثنائيات الا ان بعض الكتّاب بالغ في تضخيم مشكلة الثنائية لدرجة ان احدهم راى ان من حالات الثنائية العربية هوالخلاف حول الدور الامريكي في العراق, ولا عجب ان نقرا من يسطر لتحليل ثنائية قوى الممانعة والاعتدال في محيطنا العربي, ومن الطريف ان احدهم عنون مقالته بثنائية الاقصاء والاخصاء يوصّف بها علاقة السلطة بالمثقف والتي هي اما نفيه او سجنه وهذا يمثل الاقصاء واما اخصاء المثقف فتتمثل في تدجينه لمصلحة السلطة.
ولا بد في معالجتنا لهذه الثنائيات الفكرية من تفسير عوامل استنباتها في مجتمعاتنا العربية حيث نجد ان المثقفين العرب اختلفوا طرائق قددا في تفسير وجود هذه الثنائيات. فيرى سهيل العروسي ان مرد اشكالية الثنائيات يعود الى ان العلاقة بينها هي علاقة ضدية حينا وحينا اخر غير ضدية. فاذا تناولنا ثنائية المثقف والسلطة فان الذهنية التاريخية تنصرف الى ان شكل العلاقة بينهما عدائي... فالسيف والقلم لا يمكن ان يتواجدا في قارب واحد. اما اذا تناولنا ثنائية المثقف والمجتمع فنجد ان شكل هذه ا لعلاقة غير عدائي حيث ان الاول ينظر اليه على انه ينير الطريق للثاني.
لكن توصيف العروسي التجزيئي يغفل واقع ان الاشتباك بين هذه الثنائيات هو الذي يعطيها هذا الطابع والا لما كان هنا داع من التعارف على تسميتها بالثنائيات, لا سيما اننا نجد ان بعضا من المثقفين يطلق عليها بالمتضادات والمزدوجات....
ونلحظ تبريرا من العروسي لاعتبار هذه الثنائيات مسألة قديمة في التاريخ العلمي, وربما كانت اولى المتناقضات هي التي وضعها زينون اليوناني عن الحركة والتي تدحض فكرة المتناهي... بيد ان استدلال العروسي على المستوى العلمي لا يمكن ان يمتد الى صعيد الفكر الانساني, حيث ان العلوم الانسانية لا يمكن ضبطها وتجريبها كما هي في العلوم التجريبية, وان كان يرى العروسي ان التعامل مع هذه الثنائيات عبر العلم كفيل بحلها, وهو استشراف يحتاج منا الى التأكد ابستمولوجيآ الى مدى واقعية قدرة العلم المحسوس على احكام العلوم الاجتماعية والتي تعتمد على النسبية وتغير الطبيعة الانسانية,لاسيما ان مايسمى بالعلم الكاذب كما اسماه بوبر يطال حتى العلوم الطبيعية, ففي عالم المدركات الحسية لا يوجد شيء يتسم بصفة مطلقة.
وينظر المفكر البحريني محمد جابر الانصاري الى هذه الثنائيات انها ضد المشروع الحضاري العام, وان الانشغال بها قد اجهد بها الفكر العربي وقسّم وعي الامة الى اقسام متضادة بين ثنائيات لا تنتهي مثل العروبة ام الاسلام؟ الوطنية ام القومية؟ التراث ام المعاصرة؟ ورؤية الانصاري لا يختلف عليها اثنان انما الازمة ماهي الخيارات للخروج من هذه الازمة الفكرية؟ لاسيما ان المشاريع البديلة باتت تعبر عن مشاريع شخصانية اقرب الى المشاريع الانانية, وهي صورة تعكس واقع المجتمع العربي بكافة مؤسساته الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية. وانا اسال ماذا استفادت الامة من هذه المشاريع النخبوية التي غاب فيها دور الجمهور كمشارك فاعل في صياغتها, لذلك ارى ان تعدد المشاريع في ظل غياب الفكر المؤسساتي هو سر الازمة المتمثلة بهذه الثنائيات.
وينظر مفكر آخر(محمد برادة) ان هذه الثنائيات ترجع الى الانفصام الحاد بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني بدلا من تكاملهما . واضيف لبرادة الانفصام الحاد ايضا بين المجتمع المدني والمجتمع الاهلي(العشائري). ولكن اليس ازمة الثنائيات تعبر عن حالة التشرذم الذي يعيشه المجتمع المدني نفسه فمع اعترافنا بغياب الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني الا ان المراقب يشعر ان هذه المؤسسات تعاني من تعدد خطوطها وتضارب مشاريعها وضبابية مرجعيتها فهناك من مرجعيته الدين وآخر المجتمع وآخر السلطة....
اما علي حرب فيرى ان هذه الثنائيات تحشر المفكرين في عنق الزجاجة بقدر ما تفرض عليهم منطق الاحراج أي الاختيار بين الانا والاخر او بين الخصوصية والعالمية. ورغم عولمة علي حرب لهذه الثنائيات الا ان بعض الثنائيات تاخذ الطابع المحلي, فالتناقض بين مشاريع العروبية والاسلاموية هي تناقض يتعلق بالذاتية الثقافية للعرب والذي يمتد الى التاريخ المبكر وبالتحديد الى العصر العباسي الثاني حيث كان الصراع بين الشعوبية والعروبية. اما ثائر ديب فيرى ان منطق الثنائيات يتلخص بالقول ان مجتمعنا وثقافتنا منقسمان الى قسمين : شرقي ذاتي تقليدي جماهيري اكثروي والاخر غربي نخبوي اقلوي والعلاقة بنهما علاقة تضاد واغتراب متبادل. أي ان ازمة هذه الثنائيات- كما نفهم من ديب- يفسر بطبيعة العلاقة بين الجمهور والنخبة, جمهور يعبأ من جهة الحاكم او من بعض الخطابات التعبوية التي تتجسد في شكل الاعلام كما قناة الجزيرة, ونخبة خطابها اقرب ما يكون الى الفن التشكيلي الذي يستعصي على غير اهله فك رموزيته.
ونختم برؤية الجابري حيث يصور ان ازمة الثنائيات مرتبطة بمسألة الهوية. فهو يرى ان سؤال الهوية طرح ويطرح جملة ازواج او ثنائيات .
ولعلي اميل الى ماذهب اليه الجابري حيث يتسم توصيفه بالشمولية ولمس جوهر الاشكالية, حيث سؤال الهوية والانا الذاتية يطرح نفسه بقوة على مستوى الانسان والمجتمع والدولة و اختلاف الرؤى حول مسألة هذه الثنائيات بين كل هؤلاء.

المشاريع البديلة عن الثنائيات الفكرية:
طرحت في سياق ازمة الثنايات الفكرية المتراكمة والتي باتت قدرا لا بد منه عدة مشاريع قد يوصف بعضها بالواقعية والاخر بالاجرائية والثالث بالطوباوية والاخير بالتجاوزية.

اولا:النهضة كبديل
مأزق الثنائيات أو الازدواج الذي أصبح الفكر العربي الإسلامي يتموضع عليه كقاعدة يبني عليها نتائجه ومحصلاته، هو مصادرة للتطلعات الجديدة، والذي حال دون توليد معادلات أخرى مساعدة أو رديفة فالنهضة برنامج مؤجل دائما يوضع امامه عصي الثنائيات لتعرقل عجلة التطور.
لكن الاشكالية في هذا البديل يكمن في سؤال النهضة ,فمثلا في كتابه «كيف ينهض العرب؟» يرى عمر فاخوري أن سؤال النهضة في فكر العرب والمسلمين مرتبط، بالضرورة، بواقع وسؤال الأزمة في المجتمع العربي الإسلامي، ونشأة هذا السؤال مشروط بأجهزة السلطة السياسية ونوعية علاقاتها بحركة المجتمع وتفكيره، وردود الفعل العام، وفي اتجاهات عديدة، ذلك أن البحث في مسائل الأزمة والنهضة يعني بالضرورة البحث في طبيعة السلطة السياسية والعلاقات الاجتماعية والنظرة إلى الكون والآخر. ومن هنا تنشأ ثنائية الفكر السياسي في النهضة: الاستبداد / الديمقراطية، الخراب / العمران، التأخر / التقدم. هكذا تكون النهضة, مصطلحاً وفكراً ومشروعاً، مولوداً عليلاً، لأن الفضاء العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، سلطة سياسية ومجتمعاً وثقافة وعلاقات، يراكم الأزمات ويواجه باستمرار مسائل ومشاكل جديدة تزيد الركام السابق والطبقات الدفينة تعقيداً، مما يفسر أن النهضة العربية هي باستمرار برنامج مؤجل، وبالتالي يحدث التصادم بين المفاهيم في الفكر العربي المعاصر وتتعمق صدمة الحداثة مع واقع اللاحداثة في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر.
ويذهب احمد جدي في كتابه «محنة النهضة ولغز التاريخ في الفكر العربي الحديث والمعاصر» إلى القول إن السبب الأساسي والمرجعي في عدم احتلال الحضارة العربية الإسلامية موقعاً مميزاً وفاعلاً في التاريخ الحديث والمعاصر مرتبط بالضرورة بعلاقات وقراءات محدودة مع ثالوث الأزمة: التراث، والتاريخ الحاضر، والغرب. وإذا لم تحدث القطيعة التاريخية مع أنماط التفكير والسلطة والعلاقات الاجتماعية لإنجاز النهضة، وإذا لم يخرج الفكر العربي من التلفيقية السطحية، المتمثلة في محاولات الربط بين الغرب والشرق، أو بين حاضر المسلمين وماضيهم، أو بين حاضرهم وحاضر الغرب، فإننا نجسد تخلفنا بجمع نثار فكرية من أزمنة متباينة، ومن تجارب تاريخية مختلفة، ونمنع التقدم من أن يتقدم ليلغي تخلفنا.
ثانيا: التنمية كبديل
تتمثل هذه الرؤية خارج اطار حركة المشاريع العربية النخبوية والتي يعبر عنها مشاريع التنمية البشرية والتنمية المستدامة وتنمية الموارد البشرية, والتي هي مشاريع تأخذ الطابع التكنوقراطي والممثل بالخطاب الاكاديمي والذي يتجاوز الخطابات الطوباوية الى خطابات اجرائية مباشرة, فيركز على مشاريع تنموية مجزئة, مثل توفير مجموعة عوامل تعمل على نحو متزامن على تنمية الانسان وترقيته, كتخفيض نسبة الأمية ورفع المستوى الدراسي وإشاعة قدر أكبر من الديمقراطية - والديمقراطية التامة مستحيلة - ورفع مستوى المعيشة والصحة وتطوير مفهوم المواطنة وتحقيق الأمن للمواطنين. ويمكن أن تحقق هذه العوامل على نحو تدريجي وفي أوقات متزامنة ومتعاقبة. وواضح ان ازمة هذا البديل يكمن في اشكالية ان تنمية الانسان سوف تكون معرقلة دائما بمناخ الحداثة والتقليدية لدى هذا الانسان الذي من المفترض ان يكون هو محور التنمية.

ثالثا : التوفيقية كبديل
التوفيقية بين الحداثة والمعاصرة, والعروبة والاسلام, والقومية والوطنية...... هي احدى الحلول التي طرحت من خلال عدة مثقفين عرب ويغلب على هذا المدخل او الرؤية استخدام اسلوب الانتقائية والدمج بين الفلكلور والحديث لياخذ شكل العصرنة, والغالب ان هذا المدخل ينحو الى عصرنة القالب وتلفيقية القلب.
ويرى زكي نجيب محمود ان محاولة التوفيق بين التراث والمعاصرة هي ام المشكلات الفكرية. ومع ذلك فانه يجنح الى مبدا التوفيق والجمع بين الطرفين, ويرى انه هو الحل للخروج من اشكالية هذه الثنائيات. ولا عجب من هذه التوفيقية عند محمود فهو حتى في احلامه يعيشها حيث رأى- كما روى ذلك في كتابه هموم المثقفين- في المنام الغزالي وبرتراند رسل في آن واحد.
لكن التوفيقية سوف تعيدنا الى الجدل مرة اخرى فمثلا اذا اخذنا بالتوفيق بين التراث والمعاصرة فاننا ففي ممارساتنا الفكرية وبناء مشاريعنا النهضوية سوف نضطر الى الانتقائية, أي اننا سنختار المناسب من التراث ثم نعود لنختار الملائم من المعاصرة. وهذا في حد ذاته مشكلة لان هذه الانتقائية سوف تعيدنا الى حلبة الصراع والتجزؤ الفكري وهكذا دواليك في كل ثنائية, لان ماهو مناسب لمنظومتي الفكرية قد يكون غير ذلك بالنسبة لاخر, ولذلك قد تكون التوفيقية هو نوع من الهروب من مواجهة الافكار الاصيلة و ما يمكن ان اسميه بفوبيا الافكار اوالجدل الحر.
لكنه من الضروري التذكير بان ظاهرة التوفيقية ممتدة الى جذور ما قبل التاريخ. ويتساءل الجابري
هل التوفيقية الفكرية والمجتمعية التي تتوالد ضمن التطور التاريخي للشرق العربي، هي مجرد استجابة آنية لظروف وقتية عابرة ستزول بزوالها، وبالتالي طفرة منبتّة الجذور، منقطعة الصلة بالاستمرارية التاريخية ـ الحضارية للمنطقة، أم إنها إحياء واستعادة لنمط متكرر في سياق تلك الاستمرارية؟ ويجيب انه
إذا كانت الظاهرات الفكرية والمجتمعية لا تبرز من فراغ، وإذا كانت العصور لا تبدأ منقطعة الصلة بما سبقها، فلا بد من التنقيب تحت سطح الأرضية المعاصرة لاكتشاف حفائر التكون الحضاري التوفيقي في طبقاته التاريخية المتراكمة ولاستبانة أجيال السلالة الفكرية التوفيقية التي توالدت عبر العصور، حتى أنجبت الكائن المعاصر موضع الدرس.
وتبدو (الظاهرة التوفيقية) - حسب الجابري- على الصعيد الحضاري العام ـ وفيما يتعدى النطاق الكلامي الفلسفي الخالص- ظاهرة قديمة الجذور في تاريخ الشرق الأدنى. وكمثال تاريخي المواجهة بين التراث العقلي الهيليني والتقليد الديني العبراني في القرون السابقة للمسيحية.


رابعا: التعددية كبديل
يطرح العديد من المثقفين التعددية كبديل عن الثنائيات الفكرية من خلال مداخل متعددة, احدها المداخل العقلية/الابستمولوجية التي تقوم على تفكيك المقولات السائدة المنطوية على الفكر المطلق, وبدلا من ذلك التوجه إلى العقل وطريقة التفكير بوصفهما مكمن الداء والدواء في نفس الوقت.
إن إحدى سمات الفكر الذي يمكن أن يوصف بالفكر غير التقليدي أو الفكر غير المحافظ أنه فكر نسبي وليس فكراً مطلقياً. وإحدى سمات المجتمع المتطور هي أنه في سلوك أفراده أو سلوك قسم كبير من أفراده الإقرار بالتعددية الفكرية وبوجود البدائل الفكرية.
والفكر المطلق لا يتفق مع التعددية الفكرية ولا يتيح مكاناً له. وكذلك الفكر المطلق لا يتفق مع الفكر النسبي. ونستطيع ان نستنتج ان الفكر المطلق = الثنائية الفكرية. وعدم قبول نسبية صفات الأشياء وقبول الثنائية الفكرية يعنيان تضييق هامش الحرية الفكرية وتقييد الفكر،لأن قبول الثنائية الفكرية لا يتيح للفكر أن يتخطى أحد الطرفين النقيضين، بينما يوجد في الواقع مابين هذين النقيضين،وبنفس المنطق يمكن القول إن التيارات الفكرية العديدة من قبيل الليبرالية والقومية والقطرية والعلمانية لا يمكن ان يستبعد الواحد منها الآخر استبعادًا تامًا أو يقبل الواحد منها الآخر قبولاً تاماً. فبعض طروح هذه التيارات متماثل وبعضها الآخر غير متماثل. تتفق هذه التيارات مثلاً على مفهوم التحرر ومفهوم الحاجة إلى المحافظة على البقاء، وقد لا تتفق على مفهوم توزيع الثروة.
اذن منطق الثنائيات منطق عدمي الغائي, فاذا كان مفهوم التكفير التقليدي هو نفي الايمان عن الاخر فقد يأخذ مفهوم التكفير منحى اوسع, فأن الغي رأي الاخر هذا تكفير بسياق آخر, فالتكفير تهمة قديمة تأتي اليوم بثوب جديد وبأشكال متعددة.
ويطرح علي حرب بدائل ابستمولوجية تفكيكية عن الفكر المطلق او الثنائية الفكرية من خلال عدة عقول معرفية:
اولا: العقل/الفكر التركيبي
وهو المضاد للتفكير بصورة أحادية البعد والجانب. هذا التفكير الاخير ينتج العوائق والموانع بقدر ما يقوم على تبسيط المشكلات وطمس الحقائق. اما الفكر التركيبي ينظر اليه بغناه وتعقيده وبحركته وصيرورته بوصفه معطى مفتوحا على تعدد الوجوه.
ثانيا: العقل التواصلي
لان من اكثر العوائق التي عرقلت مشاريع الاصلاح والتغيير هو التفكير بمنطق الحتميات المقفلة والمطابقات المستحيلة والثنائيات الخانقة, التي تطبق على العقل وتضع الفكر بين فكي كماشة لكي تعيد انتاج العوائق والمآزق.
ثالثا: العقل التداولي
العقل التداولي هو عقل جديد يطرحه علي حرب كحل للأزمة العامة اليوم، هذا العقل يُخضع للنقد أشكال المصداقية ومصادر المشروعية. هو تجاوز للنماذج الثقافية أو الأنماط البشرية، سواء من جانب العقليات الأصولية بعقائدها المقفلة وتصنيفاتها العنصرية ومشاريعها المستحيلة أو من جانب القوى الإمبريالية بمنطقها الأحادي والعسكري القائم على الانفراد والإقصاء والطغيان أو من جانب النخب الثقافية والفكرية بعقلانيتها القاصرة ومشاريعها الفاشلة وطروحاتها الإنسانوية المفلسة. إذن العقل التداولي هو تجاوز وخروج عن مضادة الثلاثي المسيطر على الساحة الفكرية في هذا الوقت مما يجعل رهانه أصعب وامتحانه أشد.
يشتغل هذا العقل على أكثر من جهة وأكثر من جانب، أهمها جانب التفكيك والتجاوز وجوانب الاشتغال مشتملة على التالي:
1- الخروج المزدوج من فلك العقل الماورائي بماهياته الثابتة وحقائقه المطلقة وعلى المنطق المتعالي بمفاهيمه المحضة وقوالبه المسبقة. وتعود الأفكار هنا إلى العالم البشري الواقعي القائم على النسبية والاحتمال أكثر من قيامه على الجزم واليقين.
2- فضح المنزع العنصري الذي يعمل أصحابه بعقلية التمييز والفرز أو التطهير والتصفية من حيث العلاقة مع المختلف والآخر. العقل التداولي يرفض العداء المستشري ضد الآخر في العالم العربي ويسعى لكشف منطلقاته الفكرية القابعة في العقل الشمولي العنصري.
3- الفكاك من المنزع النرجسي للنخب المثقفة بفك وصايتها على القيم والحقوق والحريات. لا يعترف المفهوم التداولي بتصنيف المجتمع إلى خاصة وعامة، بل بوصفه مجتمع اختصاصيين، عاملين ومنتجين في قطاعات إنتاجهم وحقول عملهم.
4- تجاوز التقسيمات العرقية أو الدينية أو الجغرافية ك «عقل عربي أو إسلامي أو غربي» وسوى ذلك من التصنيفات التي تشل طاقة الفكر وتحشره في الزاوية الخانقة. هذه الزاوية هي زاوية الصورة النمطية المسبقة التي تجمع الكل في واحد وتمحي التفرد والاستقلال.
ظروف هذا العقل صعبة بالتأكيد في ظل صراعه مع العقول التي جاء ليتجاوزها, ولكن المشجع هنا هو أن هذا العقل متسق مع منطق العصر والواقع وهو الأكثر وعيا بالتحولات العالمية في عصر الانفتاح وانكسار الحواجز.
ويضع حرب عدة ادوار للعقل التداولي:
1- أن العقل التداولي عقل تركيبي في تعامله مع الواقع. العالم شديد التنوع والتعقيد والتحول ولذا فلا يمكن حصره في صورة نهائية. ولذا فهو مسرح للخلق. ولذا فالعقل التداولي لا يخشى المتغيرات بل يراها فرصة لبدء علاقة جديدة مع الواقع.
2- استثمار التعددية الثقافية من خلال النظر إلى المجتمع على انه متعدد العناصر والقوى والمشروعيّات ومن خلال قبول الآخر من حيث كونه مختلفا ومساويا في آن. وكذلك من خلال اقتناع المرء بأن هويته متعددة وأنها مشروع لم يكتمل بعد. وهذا هو الأهم في نظر حرب. فالهوية عنده مسرح لتعدد الأطياف والشخوص والأصوات بقدر ما هي سوية وجودية مبنية من تعدد الميول وتعارض الأهواء أو من التباس المعاني وتوتر الأضداد.
3- العقل التداولي عقل تواصلي وأصحابه ينظرون إلى العلاقات مع البشر كإمكانات للتعارف والتبادل سواء في الزمان بين الأجيال والأطوار أو في المكان بين الثقافات والجماعات.
4- العقل التداولي عقل تأويلي يستثمر منهج التأويل من حيث تعامله مع المعاني والحقائق. المعنى هنا هو ما لا ننفك عن إعادة إنتاجه عبر تداول الكلام وإنتاج الخطاب وتشكيل النص، على سبيل الاختلاف أو الزحزحة والإحالة أو المجاز والاستعارة.
5- العقل التداولي يشتغل بحسب المنطق التحويلي، بقدر ما يستخدم النقد التفكيكي، من حيث التعامل مع الأصول والثوابت أو مع المعطيات والأدوات.فعل التفكيك والتحويل هذا يتجه للمقولات والهويات أو للسلطات والمؤسسات، وبصورة تتغير معها بنية الفكر وجغرافية المعنى بقدر ما تتغير بنية الواقع وخارطة القوّة.
يمكن ختم القول بانه ستبقى اشكالية الثنائيات الفكرية قائمة ما لم يتم تجاوز هذه الثنائيات الى فكر تعددي منفتح يؤمن برأي الاخر.
فالتعددية بشروطها الحضارية المتكاملة هي الملجأ الأخير لمجتمعاتنا وعند جهينة الخبر اليقين!.



#أحمد_جميل_حمودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اصلاح خطبة الجمعة ومقاربة الصادق النيهوم
- التربية المقارنة: سياسات تنمية الموارد البشرية في ضوء تجارب ...
- التربية المقارنة: استراتيجيات تنمية الموارد البشرية -سيناريو ...
- موت المخترع: من بيداغوجيا التعليم الى ايكولوجيا التعلم
- التربية المقارنة: تطبيقات المنهج المقارن (6)
- التربية المقارنة: منهج البحث المقارن في التربية(5)
- التربية المقارنة: مجالات البحث المقارن في التربية (4)
- التربية المقارنة: تاريخانية المجال ومراحله المتطورة(3)
- التربية المقارنة: الابعاد المتعددة في طور الالفية الجديدة (2 ...
- التربية المقارنة: محدّدات المفهوم (1)
- الاتجاه النقدي( الراديكالي) اليساري: التطبيقات التربوية المم ...
- وظائف الإدارة وتطبيقاتها المدرسية
- العوامل الاجتماعية/ غير المدرسية المرتبطة بالتحصيل الدراسي: ...
- الطفل والأسرة العربية: التفاعلات, بناء الأدوار, القيم..
- القراءة للجميع أم الخبز للجميع؟: واقع القرائية في العالم الع ...
- رفاهية اليأس!
- وداعا ايها المسيري مفكرا ومناضلا
- الأمّية الجديدة:تدني مستوى اللغة العربية عند غير المتخصصين ف ...
- الأسرة العربية والتنشئة الاجتماعية
- هل التعليم عامل ترابط أم استبعاد اجتماعي?


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد جميل حمودي - تفكيك الثنائيات الفكرية العربية: الأزمة والمشاريع البديلة