أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هادي الحسيني - - الحياة في الحامية الرومانية - الفصل الثاني















المزيد.....



- الحياة في الحامية الرومانية - الفصل الثاني


هادي الحسيني
(Hadi - Alhussaini)


الحوار المتمدن-العدد: 731 - 2004 / 2 / 1 - 07:56
المحور: الادب والفن
    


   - في الطريق الى عمّان –

     بعد كبير عناء استطعت ان انتزع من دائرة التجنيد ورقة صحة التسريح التي كانت دائرة الجوازات قد طلبتها مني لغرض اكمال معاملة جواز سفري ، واكملت المعاملة وما عليّ الا السفر. وكنت قد بدأت بتوديع بعض الاصدقاء في مقهى حسن عجمي وحين عرف الرجل الكبير عامل المقهى ابو داوود بسفري سحب حسرة وقال ماالذي يحدث ستغادروا جميعاً وتتركونني ، كلمات الرجل الطيب صادقة وجليلة ، كانت نابعة من صفاء قلبه ،  وكنت قد التقيت الشاعر خالد مطلك الذي طلب مني ان آتي اليه  عند اتحاد الادباء في ساحة الاندلس لكي يسلمني بعض الرسائل لأصدقائنا في الاردن كانت محملة بالحب والحنين والشوق واللهفة اليهم  .. وذهبت الى خالد مطلك بالموعد الذي اتفقنا عليه وحملني الكثير من التحايا والوصايا الى اصدقائنا في عمان ، واطلق حينها العديد من نكاته واقواله الساخرة ذلك ان خالد مطلك يمتاز بذكاء خارق وسرعة البديهية لديه عالية جداً لم ار مثلها عند آخرين، فهو يحاول بطريقة او باخرى ان يصطنع السخرية حتى وان كان في حالة محزنة .
عدت الى البيت وحاولت ان اجمع اشيائي التي سوف اخذها معي في السفر , وكانت عائلتي تحيط بها اجواء الحزن والخوف من المجهول , ودعتهم  بطريقة مسرعة , هاماً في الوصل الى محطة الحافلات في منطقة الكرخ , وابوا الا ان يوصلوني الى المحطة , كانت والدتي واخي الاكبر وعائلته , عندها شاهدت دموع امي تنهال عندما بدأت محطة الحافلات واضحة من السيارة التي كنا نستقلها للوصول الى المحطة , ودعتهم والدموع بدأت تنزل بهدوء دون ان يشعروا بذلك , وظلوا يلوحوا لي من شبابيك الحافلة ... وهكذا استقليت الحافلة الذاهبة من بغداد الى عمّان ، وفي الانطلاقة الاولى للحافلة وقبيل ان تجتاز حدود العاصمة انتابني شعور كاد ان يفقدني صوابي لا اعرف ما هو ولكنني احسست بانني ساكون غريباً بعيداً عن اهلي واصدقائي وعن العراق ونخيله ودجلة التي لطالما تحدثت معها عن مصائرنا وكانت دائماً لا تجيب الا بصمتها المعروف ، كانت المسافة من بغداد العاصمة الى الحدود الاردنية عند منطقة (طريبيل) تقطعها الحافلة بسبع ساعات او اكثر ، وكان اغلب الركاب من العراقيين الهاربين من جحيم النظام فمنهم عازم الذهاب الى ليبيا ومنهم الى الاردن وقسم آخر الى اليمن وعدا تلك الدول فلا يحق للعراقي الدخول ولم يمنح تأشيرة الفيزا ، الجميع غارق باحلامه في السفر وماذا سيفعل لاحقاً وكيف سيرمم حياته التي حطمت جراء الحروب ونكباتها . لقد ادير شريط الذكريات المؤلم متذكراً مآسي الحروب وويلاتها والحصار وما آلت كوارثه فينا ، وكم انتابني الندم الكبير على سنيني التي ذهبت هباءاً في الحروب التي خضناها  دون ان نعرف لماذا؟  الاف الشباب سالت دمائهم دون سبب يحتم هذا ، سوى ان الدكتاتور اراد بان يشبع نزواته المتعطشة للدماء من باب الدفاع عن الوطن ، وبعد كل الحروب التي خاضها فقد قطعوا له العراق واصبح يحكم في بغداد فقط فالشمال اصبح بيد الاكراد بمساندة امريكا والامم المتحدة والجنوب صادروا منه العديد من الاراضي عند منطقة الرميلة الجنوبية وام قصر ، وكل الاراضي التي حارب من اجلها ونقض اتفاقية الجزائر عام 1975 اخذتها ايران منه ، واضافة الى انكسارات الجيش العراقي وهزائمه التي منيّ بها وفضلاً عن هذا كله فقد اجبر على دفع كافة التعويضات المادية الى ايران طيلة حرب الثمان سنوات وتعويضات الكويت كاملةً ومازال يتحدث عن (ام المعارك) وانتصاراتها ؟ اية انتصارات واي كسران الى العراق وشعبه ! الحقيقة مؤلمة جداً . وكما قال( ديك جيني) الذي كان يشغل منصب عسكري كبير ايام حرب تحرير الكويت في حكومة جوج بوش الاب : ان هذا الرئيس ويقصد صدام حسين لا يحب الذهاب الى القبر وحده؟ وفعلاً اراد صدام ان يسلم العراق تراباً قبل ان يتنحى عن السلطة التي اوهمته بانه سيحرر القدس يوماً ، فهل يستطيع الآن ان يحرر العراق؟
كل ذلك كان يجول في روعي واسحب انفاساً احسها مملوءة بدخان الحروب ،
 كانت السيدة العراقية التي تجلس بمحاذاتي مع طفلتها الصغيرة تنظر اليّ نظرات عطف وشفقة ، وانا لم انظر لها طيلة فترة جلوسي بجوارها التي تجاوزت الساعتين منذ خروجنا من بغداد ، ثم التفتت لي قائلة: الى اين العزم انشاء الله ؟
 اجبتها بصوت هادىء ومنكسر الى عمّان, تلك المدينة التي كانت يوماً ما حامية رومانية ، ولا اعرف هل باستطاعت تلك المدينة حمايتي من نكبات الزمن القادمة ، ابتسمت قائلة يبدو انك خارج من الحرب سهواً ؟
 نعم لقد مات الجميع من اصدقائي في الحرب وكنت من المفترض ان اكون معهم الا ان القدر مرات عدة كان يؤجل موتي في الحرب ، وخرجت سهواً ، الا انني مهشماً وما الشخص الذي امامك الا حطام يصعب ترميمه في هذه الايام الحرجة .
كانت السيدة وابنتها ترتدي ثياباً غاية في الاناقة ولم يظهر عليها اية آثار سلبية بسبب الحصار على العكس من جميع المسافرين الذين معنا في الحافلة ، كنت اسمع بعض الاشخاص يتحدثون عن كيفية اخراج مبالغ بحوزتهم من نقطة الحدود العراقية (طريبيل) ، فثمة قرار اصدرته الحكومة العراقية عندما سمحت بالسفر للعراقيين مفاده انه يسمح للمسافر باخراج  مبلغ خمسون دولاراً فقط وما زاد عن ذلك فسيكون في حكم المصادر لان البلاد في حالة حصار وتحتاج الى العملة الصعبة .
كان العراقيون يستهزئون من هذا القرار ، فيحتالون على نقطة الحدود ويهربون اموالهم بطرق عدة . فهناك من يمتلك مئات الدولارات ومنهم آلاف ، وقد اوصتني السيدة بان اكون حذراً في عملية اخفاء ما يزيد عندي على الخمسين دولاراً ، حينها انفتحت شهيتي للضحك ، وقلت لها اذا كان لديك مبلغاً تريدين تهريبه فاودعيه عندي لأنني لا امتلك سوى خمسة دنانير اردنية لا غير، وبوكس من سجائر الفايسروي على امل ان ابيعه في عمان ، قالت وابتسامتها طافحة على وجهها ، كيف يتسنى لك السفر من بلد الى آخر دون ان يكون في حوزتك مبلغ من المال وفي اقل تقدير يكفيك شهراً ، عدت ثانية الى شريط الذكريات الذي اوغل فيّ مرة اخرى بمعترك الحروب والحصار وما شاهدته ايامها ، وسرحت الى حدود بعيدة ولكنني كنت دائماً احمد الله على سلامتي من هذه الاهوال المرعبة التي نجوت منها باعجوبة ، وتذكرت ذات يوم في احدى معارك شرق البصرة الضارية كيف شاهدت في سيارة (الايفا) العشرات من جنودنا القتلى العراقيين كانوا قد وضعوا في صندوقها الكبير كما لو انهم اسماكاً خارجة للتو من شباك الصياد وتنزف منها الدماء بطريقة يقشعر لها الجسد ، اتذكر جيداً ذلك المشهد بكل تفاصيله منذ عام 1984 عندما اغمى عليّ في حينها وكم تقيأت كل ما في معدتي من طعام وشراب ، لم يفارق خيالي هذا المشهد المقرف بكل تفاصيله حتى هذه اللحظة على الرغم من انني الآن عبرت كل الطرق الموحشة واصلاً بر الامان في منفاي البعيد الذي اقطنه ؟ لم يكن يفصلنا سوى اقل من ساعة على الوصول الى نقطة التفتيش الحدودية التابعة للعراق ، وبينما نحن غارقين في الحديث عن الماضي والناس من الاحبة والاصدقاء كانت السيدة اكثر جرأ مني في توجيه الاسئلة ، فقد سألتني عن اول حب كان لي وما هو الشعور الذي انتابني عندما احسست بذلك الحب ، كنت اجيبها بحياء واختتم حديثي بحب العراق وكيف ألحق به الدمار جراء الحروب والحصار وكنت قد رميت كل اللوم على الامريكان وحلفائهم دون ذكر اية أساءة الى النظام ورئيسه ، ذلك أنني لا اعرف السيدة من تكون ، وثمة معلومات منتشرة في الشارع العراقي تقول بان المخابرات العراقية قد جندت العديد من النساء في العمل لمصلحتها ، هذا اولاً , واما ثانياً فانا مازلت  داخل الحدود العراقية ، ومازلت خائفاً من عدم حصولي على تأشيرة الخروج ، فاعرف جيداً من خلال المسافرين بان الاجهزة الامنية التي تعمل في نقطة الحدود تعامل المسافرين معاملة قاسية لمجرد حدوث أي اشكالية في جوازاتهم ، فهذه الاجهزة تحاول ان تخترع العديد من العرقلات كي لا تسهل عملية السفر، يحدث هذا في اغلب الاحيان ، كان الحذر والخوف هما الشيئان الوحيدان الملتزم بهما في بداية تلك الرحلة . وكانت السماء محملة بالغيوم السوداء تصحبها بين فترة واخرى امطار الشتاء الغزيرة والبرد الصحراوي القارص والريح تطلق اصواتا عاليات كما لو انها عاصفة شديدة هبت تواً واحدثت كل هذا الضجيج في صحرائنا الغربية . وعندما يكون العراق في هكذا جو ، فظلامه عادة يكون دامس بدرجة كبيرة ، لقد مضت ساعات ثلاث من الليل ونحن ننظر من شباك الحافلة الامامي على الاضواء الدالة على نقطة الحدود العراقية التي لم نر منها أي بصيص ، سائق الحافلة منشغل باغاني السيدة ام كلثوم والتي كانت تغني (الاطلال) لأبراهيم ناجي ، ولطالما استمتعت بهذه الاغنية في اغلب حانات بغداد عندما كنا نجلس فيها ، بتلك اللحظات تجدني غير ميال الى هذه الاغنية ، احياناً ينتاب الانسان بعض الاحساس والشعور الذي يحوله من رغبات يحبها الىرغبات اخرى وهذا يتوقف على تقدم الانسان في العمر ففي كل مرحلة تختلف الذائقة وتحل محلها اخرى ، ويحدث ذلك حتى في المأكل والمشرب وأمور اخرى .
سألت السيدة عن ماهية سفرها ولماذا هي مع ابنتها الصغيرة فقط ، اجابت ببساطة كأي سندباد انها كثيرة السفر من بلد الى اخرى فقد زارت العديد من البلدان الاوربية والعربية ومحطتها الجديدة هي عمّان ، ولا تعرف مدة اقامتها فهذا يتوقف على عمل زوجها الغامض من خلال حديثها ، كانت ذكية في اجاباتها وكأنها تعلم بأنني سوف اسألها عن عمل زوجها .
ها هي اضواء النقطة الحدودية (طريبيل) بدأت واضحة من مسافة بضع كيلومترات ، لقد انتابني القلق والخوف من جديد واصبحت كمن سيدخل الى تحقيق امني , فهيأة المبنى الحدودي شبيهاً بمباني الامن والمخابرات في بغداد , في تلك اللحظات بدأت الحافلة تخفف من سرعتها وتتهيأ للوقوف وثمة رذاذ الامطار ينسال على زجاج الحافلة بهدوء تام الا ان خفقات القلب بدأت تتعالى وتسرع اكثر مما ينبغي , سائق الحافلة ينادي بمكبرة الصوت , على الجميع التهيء للنزول من الحافلة  وان لا تخفوا شيئاً ما داخل الحافلة , فسوف تخضع لتفتيش دقيق اكثر مما تتصوروا . , الحافلة وقفت واستقر بها الحال عند نقطة التفتيش تماما , وبدأ الركاب ينزلوا منها الواحد تلو الاخر بحذر وخوف شديدين , وثمة رجال امن النقطة ينظروا لنا  نظرات لا تخلوا من الريبة والحقد الدفينين الا انه كل شيء واضح تماماً في اعينهم المتعطشة بطريقة قل نظيرها الى الانتقام منا نحن المسافرين , ذلك انهم على علم كامل , بان كل من يخرج من العراق خارج من القمع والارهاب والحروب التي لا تنتهي ابداً .
الجميع نزل من الحافلة بحذر وخوف الا السيدة وابنتها التي كانت تجلس في المقعد الذي بجانبي , فقد اخرجت جوازاً احمر اللون وهي تقول لرجل الامن ,دبلوماسي , .. هرولنا الى مكتب الحدود لكي نقدم جوازاتنا العراقية , الواقفون بالعشرات عندما سلمت جوازي الى ضابط الحدود العراقي , نظر لي نظرات مخيفة وبينما هو يقلب بصفحات الجواز , باغتني بسؤال : الى اين انت ذاهب وماذا سوف تفعل وكم ستبقى , قلت له الى الاردن  والى العمل لا اكثر , ثم شدد من نظراته عليّ , الامر الذي ازدادني رعباً وخوفاً , بعدها ختم الجواز وسمح لي بأذن الخروج  , وانا امد يدي لأتناول جوازي منه احسست ثمة شعور غريب كان قد انتابني على الفور , يبعث السكينة والطمأنينة في القلب , وكأن جبل من الهم قد أزيح من روحي , ومن ثم ذهبت الى مرحلة تفتيش الحقائب , اثنان من رجالات الامن قلبوا حقيبتي بطريقة همجية غير حضارية , وعندما حاولت الاعتراض على قلب محتويات الحقيبة بهذه الطريقة , احدهم حاول على الفور الهجوم عليّ والنيل مني بالضرب , الا ان الرجل الثاني اوقفه , واشر ليّ مخاطباً اياي , اين جواز سفرك ؟
قلت هو هذا , اخذه مني وقال لصاحبه بعد ان صودروا علبة سكاير الفايسروي من الحقيبة , اذهب بهذا الجواز الى ضابط الامن وامنعه من السفر .
بعد لحظات جاء الرجل بصحبة ضابط الامن , وانا انظر اليهم , ازدادت دقات قلبي اكثر فاكثر , قال ضابط الامن , اين هو ؟
رد عليه رجل الامن , هذا سيدي , نظر لي الضابط بنظرات طيبة وفتش حقيبتي برفقة وهدوء , ثم نظر الى رجال امنه , قائلا لهم , اما خجلتم من انفسكم , تركتوا المهربين والسفلة اصحاب رؤس الاموال , وجئتم على هذا المسكين , اعيدوا له علبة السكائر التي صودرت منه , ثم نظر لي وهو يقول  : تذهب وتعود بالسلامة ...
اتجهت الى الحافلة لكي ألحق بها قبل ان تتوجه الى نقطة الحدود الاردنية ( رويشد ). في تلك الاثناء سمعت صوتاً ينادي باسمي , التفت , واذا بالقاص زهير المالكي , صديق اخي الكبير , كان يعمل ضمن مجموعة من العمال في ترميمات البناء لنقطة الحدود العراقية طريبيل , اقضيت معه وقتاً , وهو يوجهني ويرشدني الى بعض الاشياء في عمّان , كذلك حملني الكثير من التحايا والقبلات الى الاصدقاء في عمّان , كونه خاض تجربة السفر قبلي بشهور طويلة الا انه عاد الى بغداد , لانه لا يستطيع الابتعاد عن  عائلته الكبيرة المنقسمة ما بين بغداد التي يسكنها والبصرة مدينته التي ولد وترعرع فيها , وبعد ان بدأت الحافلة تتهيء للانطلاق , وقبل ان اودع القاص زهير المالكي صاحب القلب الصافي الممتليء بالحنين العراقي الاصيل , رأيته غارقاً بالبكاء , انتابني الحنين الى كل شيء ....
ودعته على مضض , ومن ثم انطلقت الحافة صوب الحدود الاردنية , وما هي الا دقائق معدودات حتى توقفت الحافلة عند نقطة الحدود الاردنية .. ترجلنا من الحافلة على عجلِ وقبل ان اقف بالطابور المنظم لتسليم الجوازات والتفتيش , القيت نظراتي الاخيرة صوب العراق , وكأنني كنت اعلم ان لا عودة بعد , في قرارة نفسي كنت اتحدث ببعض الكلمات التي كانت تجول وتصول في مخيلتي طيلة الرحلة , كنت اقول فالتعذرني يا وطني , يا وطن الانبياء والاولياء , والحضارات الاولى , يا مْن علمت البشرية الكتابة و يا وطن النهرين العظيمين , دجلة والفرات ؛ ومن ثم بصقت بحرقة قلب قاسى من الويلات الكثير الكثير , على كل ما يمت بصلة لطاغية العراق المجرم , كانت كمية البصاق الخارجة من فمي اكثر من المعتاد في الحالات الطبيعية ..
عدت لأقف بالطابور المنظم مع جمع المسافرين الذين كانوا يتحدثون عن كيفية الوصول الى هذا البلد الاوربي او ذاك , ويعّدون بدولاراتهم التي اخرجوها معهم من العراق , تجد هذا الذي باع كل ما يملك في العراق ليبدأ من جديد في الوطن المجهول الذاهب اليه , الجميع لا يعرف وجهته اين تكون في المنفى , احدهم باغتني بسؤال : كم معك من الدولارات في سفرك هذا ؟
اجبته بصراحة عن الخمسة دنانير  .. اطلق ضحكات عاليات , ثم عاد ليقول لي من المؤكد بانك ستعود الى بغداد في اليوم الثاني , اجبته بحرية كاملة بعد ان انزاح مني كابوس نظام البعث في العراق وها انا الان في الحدود الاردنية , فليس ثمة رقيب على كلامي ..
لن اعود بعد ذاك الذي رأيته من الحروب وويلاتها ومن اقتحامات بيتنا وعائلتنا المستمرة من قبل اجهزة الامن العام بتهمة الشيوعية , وعدم الموالات والانظمام لنظام البعث , لن اعود الى بغداد الا في حال واحدة , عندما يتغير النظام وينزاح وتقتلع جذوره الرهيبة ,, الرجل ارتعب من الكلام الذي قلته له , محذراَ اياي في ان يسمعني احد ...
اكملنا تاشيرات الدخول الى الاردن بلطف ومحبة قل نظيرهما من قبل شرطة الحدود الاردنية التي تتعامل مع المسافر معاملة حضارية كبيرة , اضافة الى ذلك تجدهم اي الشرطة الاردنية يرتدون زيِ موحد غير الخاكي الذي يرتديه العراقيون , الذين هم في حروب مستمرة على طول الساعة وطول السنة .. وقبيل ان تبدأ الحافلة بالحركة والانطلاق صوب العاصمة الاردنية عمّان , الجميع همّ بتصريف بعض الدولارات الى الدينار الاردني , لكي يتسنى لهم شراء بعض المأكل والمشرب ...  كنت انظر الى تلك الاكشاك الحدودية المملوءة بعلب الكولا واتحصر على اهلنا في العراق ! ! يا للعنة القدر بعد ان كان العراقيون يرمون في نفاياتهم اليومية ما يكفي لعوائل كبيرة من الطعام والشراب , اصبحنا نتحصر على علب الكولا وغيرها , ...
كانت امي قبل سفري بساعات جهزت لي متاع الطعام الذين يكفيني ليوم او اكثر , فتحت كيسها المبارك واخرجت الطعام الذي مازلت اشم رائحته ونكهته العراقية الاصيلة , ذلك كان اخر ما صنعته امي لي قبل سفري وحتى هذه اللحظة بعد ان مضى عقد من الزمان ....
انطلقت الحافلة باتجاه عمّان بعد ان تجاوزنا نقاط الحدود , واصبح كل شيء على ما يرام , سائق الحافلة انطلق على صوت السيدة ام كلثوم الذي كان عالياً بعض الشيء , بعض الاصوات انطلقت لها ضحكات , تسخر من الوضع المزري داخل العراق , في تلك الاثناء التفتت لي السيدة الجالسة بجنبي , قائلة ماذا جرى لهؤلاء ؟ لماذا لم يخرجوا اصواتهم هذه قبل ان نعبر نقطة الحدود العراقية ..
قلت لها : وهل يجرأ احد على ذلك , فسيكون مصيره الموت بكل تأكيد , اندمجت معها في الحديث عن العراق والحصار والحروب والموت اليومي المجاني عن طريق الحروب والاعدامات التي لم تتوقف يوماً منذ ان تسلم نظام البعث السلطة في العراق , وكانت السيدة طوال الحديث في تبرير مستمر لكل ما حصل وسوف يحصل بالعراق ارضاً وشعباً .. الساعة قاربة على العاشرة ليلاً ومازلنا في الطريق الى عمّان , حيث البرد الشديد والمطر الذي كان ينزل بقوة , بمثابة تنويهاً لي , فأين ساقضي الليل  وليس لي احد ينتظرني في عمّان , مجرد انني سوف التقي باصدقائي في مقهى يدعى مقهى العاصمة , يقع وسط العاصمة الاردنية ,, وكم تمنيت ان يطو
ل الطريق اكثر مما يجب حتى يخرج الصباح , فالمشكلة التي انا فيها الان هي , اين سأنام الليلة بينما لا املك من المال الا الشيء القليل الذي لم ينفع لأكثر من يوم , ومن ثم مالذي سوف افعله , لا اعرف تماماً انها حيرة وورطة كبيرة خاصة بالنسبة لشاب يخرج للمرة الاول في حياته الى خارج الوطن دون ان يتدبر امره قبيل السفر , لقد اردت الخلاص من كل شيء ؛ علني اجد ظالتني التي ابحث عنها منذ سنين طوال , في غمرة تفكيري هذا قاربت الساعة على الواحدة والنصف ليلاً , وها هي انوار العاصمة عمّان بدأت واضحة تماماً من نوافذ الحافلة , السيدة العراقية التي بجانبي نبهتني الى اننا الان قد دخلنا حدود العاصمة وما هي الا دقائق معدودات سوف تتوقف الحافلة ويذهب كل واحد الى المكان الذي يرومه , قالت لي هل سوف تسكن في فندق ام ماذا ,؟ قلت لها لا اعرف بالضبط ولكنني سأتدبر امري , توقفت الحافلة عند محطتها في منطقة العبدلي وسط عمّان , وهّم الركاب في النزول من الحافلة بسرعة , قسم منهم كان بعضاً من اهاليهم واصدقائهم بانتظارهم وذهبوا مسرعين بسياراتهم التي استأجروها , والقسم الاخر يعرف المدينة جيداً فاخذ يمشي ليصل المكان الذي يرومه , اما السيدة وطفلتها فكان زوجها بانتظارها في سيارته الحديثة , وقد قمت بمساعدتها اثناء النزول من الحافلة كونها سيدة ولها طفلة عمرها اقل من السنتين وبعض حقائب السفر , كان زوجها قد سلم عليّ ورددت له السلام , قال : هل لنا ان نوصلك الى مكان ما ؟
قلت له شكراً , ثم ودعتهما , وفي قراراة نفسي ضحكت على الرغم من البرد والمطر الشديدين , ,, اين يوصلاني وهل اعرف انا الى اين سأذهب في هذا الليل البارد المثلج ,  سواق التكسيات قد اتعبوني من الاسئلة وهل تريد سيارة اجرة وفندق الى ما شابه ذلك من الاسئلة المقززة لسواق التكسي في كل انحاء البلاد العربية , سألت احدهم كيف السبيل في الوصول الى الساحة الهاشمية بعّمان مشياً , دلني الطريق , وبدأت اسير بالطريق المؤدي الى الساحة الهاشمية برغدان , كانت الامطار الغزيرة وتساقط الثلوج قد اعاقا حركتي السريعة في الوصول الى مبتغاي , كما وان طرق العاصمة الملتوية بطريقة عجيبة والتي يتخللها النزول والصعود باستمرار , كانت قد اهلكتني من التعب , والمعلوم ان العاصمة عمّان تقوم دعائمها على سبع جبال , فهي منطقة جبلية بحته , لا اعرف كيف انشأ فيها مكان لعاصمة , بينما المتعارف عليه بان تكون العاصمة او اية مدينة في ارض سهلية منبسطة وعادة ما تكون المدن على ضفاف الانهار , ولكن الاردن ليس فيها نهرا واحدا عدا نهر الاردن وهو جدول صغير يمر بمحاذات الاراضي الفلسطينية المغتصبة من قبل اسرائيل ..
الليل والبرد والوفر الثلجي ومشقة الرحلة الطويلة وتفكيري الشارد الى المكان الذي سوف آوي اليه , كل هذه الامور كانت قد نالت من عزيمتي اكثر فاكثر , الامر الذي جعلني العن الساعة التي فارقت بها اهلي واصدقائي , اين اذهب الان فوجهتي هي الساحة الهاشمية حيث تجمع وتجمهر العراقيين بعّمان , اهلكتني الحقيبة التي احملها والمسير من دون جدوى ...
لم يتسنى لي مشاهدة احد المارة او المحال المفتوحة في ذلك الليل القارص من البرد , فكيف سأعثر على احد والساعة قد قاربت الثالثة صباحاً , جميع البشر خالدين في نومهم داخل بيوتهم , التفت يميناً شاهدت باباً فوقه معلقة لوحة كبيرة مكتوب عليها فندق بغداد , جذبني الاسم واشعرني بنشوة لا تخلو من الفرح , تلاقفت سلالم الفندق حتى اتعبتني مدرجات تلك السلالم , في استعلامات الفندق سألت رجلا وقورا  لحيته البيضاء كانت تدل على وقارته , سألته عن كيفية الوصول الى الساحة الهاشمية , الرجل ارشدني بطريقة جميلة ومهذبة , حملت امتعتي بعد ان شكرته واخذت استمر في المسير , وها هي الاضواء الصارخة والكثيفة في شارع رغدان قد وصلتها , القليل من سيارات التكسي كانت تقف بانتظار الركاب , مفرزة الشرطة كانت تقف مراقبة الموقف الليلي داخل ساحة المدينة , وثمة القليل من الباعة الذين يتخذون من أرصفة ساحة وشارع رغدان مكاناً لبيع بضاعتهم . احدهم كان يلف على رأسه ( أشماغاً) شاعلاً النار كي يحتمي بها من البرد القارص , اقتربت منه وبعد السلام تبين انه عراقي يبيع السكائر والشاي في هذا المكان , قال لي عليك ان تدفأ نفسك جيدا فانت مبتل من المطر , حينها كنت ارتجف من البرد وملابسي ابتلت اكثر مما يجب , فقد قطعت الطريق من مجمع العبدلي الى مجمع رغدان باكثر من ساعة؛ ذلك لانني لا اعرف الطريق  , وعادة ما تأخذ مثل هكذا مسافة نصف ساعة لا اكثر ؛ جلست بمقربة من النار التي كان الرجل قد شعلها , وتمعنت جيدا بمشهد حركة الناس والسيارات التي كانت محدودة تماماً , والساعة  قد شارفت على الرابعة او الخامسة صباحاً ,  يا ألهي متى يأتي الصباح , لقد انهكني التعب والسهر , في الجهة المقابلة للساحة الهاشمية كانت ما بين فترة واخرى تتوقف سيارة تكسي بجانب باب فندق من الفنادق ويصعدوا على عجل لكي يخلدوا للنوم والراحة , كنت احسد هؤلاء من شدة ما وقع عليّ من التعب , الرجل صاحب الشاي الذي اجلس معه , شعر بأنني مرهق وتعب , قال لي الغرفة التي اسكنها يشاركني فيها اكثر من سبعة اشخاص , كان بودي ان اذهب بك الى الغرفة لتنام مكاني ؟ قلت له : لا داعي لذلك فالصباح ها هو قد قرب على البزوغ ولسوف اذهب حيث مقهى العاصمة وألتقي اصدقائي , اخرجت كيس امي الذي تقوت به الطريق من بغداد الى عمّان , وجدته مازال فيه الكثير من الطعام , والخبز العراقي المشهور , تناولنا الفطور سوية , والصباح ها هو يطل على العاصمة عمّان خالي تماماً من دخان الحروب التي لطالما بقيت ملبدة وملغومة في سماء بغداد على مدى سنوات وعقود , لقد بدأت الحياة تنبعث داخل عمّان شيئاً فشيئاً , حركة السيارات بدأت بازدياد واضح , حركة الناس اصبحت واضحة بقوة , المنظر يذكرني بايام بغداد في عقد السبعينيات , حيث كان كل شيء جميل ويبعث الامان والدفيء داخل الروح قبيل تسلم صدام حسين السلطة وادخالنا في حروب ومتاهات ليس لها اول ولا لها اخر . لقد شعرت بذلك الصباح العمّاني ان ثمة حياة مرتبة يسودها النظام والامن , حيث مشهد الطوابير من البشر في انتظار ادوارهم للركوب بسيارات الاجرة , كان بحد ذاته يوحي بالالتزام بالنظام , عكس ما كنا نشاهده في كراجات بغداد والمحافظات من فوضى وعدم تنظيم بكل شيء ...
الشمس بدأت تخرج من مخابئها , احسست انها شمس الحرية التي لطالما حرمنا منها في العراق لعقود طويلة , حملت حقيبتي وامتعتي الاخرى وودعت الرجل بائع الشاي وشكرته على الساعات التي قضيتها معه في لجة البرد والمطر والثلج , اتجهت الى مقهى العاصمة الذي لا اعرف مكانه بالتحديد ولكنني بدأت أسأل المارة ومن واحد الى اخر , حتى وصلت الى البنك العربي , سألت أمرأة عراقية عجوز تبيع السكائر ’ هي لم تعرف هكذا اماكن انزلت امتعتي قربها وبدأت الحديث معها , الحديث الذي جعلني مذهولا امام هذه المرأة الطاعنة في السن وتبيع السكائر في الشارع وهي عرضة لمراقبي البلدية والشرطة , فهي لا تعرف في اي لحظة سوف يأتوا اليها ويأخذوا ما بحوزتها من بضاعة ومن ثم تسفيرها الى العراق , ولكي اجعل من معنوياتها عالية اخرجت لها خبزاً من خبز امي وبعض الطعام , كانت جائعة وقد قالت الله هذا خبزنا العراقي العظيم الذي حرمنا منه منذ سنين , بعد نصف ساعة وانا انظر بين الفينة والاخرى الى ملامح الشارع والمدينة التي تتدلى منها البيوت  , شاهدت قبالتي بالضبط قطعة كبيرة مكتوب عليها ( مقهى العاصمة ) قلت الحمد لله ها انذا قد وصلت اصدقائي من الادباء ....



#هادي_الحسيني (هاشتاغ)       Hadi_-_Alhussaini#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحياة في الحامية الرومانية - الفصل الاول - الجزء الثاني
- - الحياة في الحامية الرومانية - الفصل الاول
- طقوس
- شبح الموت
- عام 2003 الافراح والاحزان العراقية
- الفجر الاحمر
- سركون بولص
- الحوار المتمدن موقع متميز عن المواقع الاخرى
- مقصلة الحروب
- سعدي يوسف الشاعر الذي ابحر في الغربة دهرا
- مبروك حسب الشيخ جعفر , محمد خضير جائزة العويس الثقافية
- سيارات مفخخة
- الرعب في أوسلو
- حسب ا لشيخ جعفرسياب آخر يجوب الفضاءات بدون رتوش
- اين اجدك هذه الليلة يا جان دمو
- الطريق سالكة
- الاحمق
- شجى الحنين المعتق بالغربة - قراءة في مجموعة - خريف المآذن - ...
- شاعر بقي متأملاً وجه الموت
- مقابر


المزيد.....




- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هادي الحسيني - - الحياة في الحامية الرومانية - الفصل الثاني