أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هادي الحسيني - - الحياة في الحامية الرومانية - الفصل الاول















المزيد.....


- الحياة في الحامية الرومانية - الفصل الاول


هادي الحسيني
(Hadi - Alhussaini)


الحوار المتمدن-العدد: 722 - 2004 / 1 / 23 - 04:21
المحور: الادب والفن
    


    تهميش الثقافة:  
 لم يكن شتاء عام 1994في بغداد على ما يرام ، فثمة آلام مريرة وأحزان شديدة تجوب قلوب الجميع دون استثناء، الأمطار الموسمية التي ينتظرها الناس بفارغ الصبر من جراء الحصار الذي فتك بالشعب بكل شرائحه كانت شحيحة ذلك العام ، بعد إن وضعت الحرب أوزارها.
ترى ما الذي حلّ بهذه البلاد العريقة، بلاد الرافدين العظيمين ، الأطفال يذهبون إلى الموت بسرعة فائقة ، الأمهات ثكّلن أبنائهن وأزواجهن ، الحياة لديهن ، عبارة عن بكاء وعزاء مستمر ، سلوتهن الوحيدة هي زيارة القبور في كل المناسبات الحزينة والسعيدة ، ففي هذه الزيارات يحاولن الترفيه عن نفوسهن المغطاة بدخان الحروب المروعة .
كنت في كل ساعة أرى الحياة مرتبكة تماماً بكل تفاصيلها ، الناس يتسابقون في جلب قوت عيشهم اليومي وكأنهم في سباق مع الزمن ، حركة السيارات تكاد تكون أشبه بسباق الرآلي ، المشهد يوحي إلى قرب قيام الساعة . وعلى الرغم من كل ذلك الهول المروع في الحياة اليومية واضطراب العاصمة في حركتها، ألا أن لا أحد يستطيع أن يتفوه بكلمة واحدة تدين النظام الحاكم وما أقترفه من مصائب وويلات بهذه البلاد أرضاً وشعباً ، فالجميع يعرف أن مثل هكذا أمور سيكون مصيرها المؤكد الإعدام لا محالة . ومن أجل توفير لقمة العيش للأطفال أضطرن بعض النساء اللواتي ثكّلن أزواجهن في الحرب إلى بيع أجسادهن بأثمان زهيدة جداً !. أنها المأساة المؤلمة حقاً والتي لم تخطر ببال العراقيين أن تمر بهم بهذه القساوه ، فلم تكن ثمة عائلة سواء كانت كبيرة أم صغيرة ألا وقد فقدت واحداً أو أكثر من أبناءها ، وعدا عن ذلك فأن الامور بمجملها تسير عكس كل التوقعات التي كانت تخّمن في أمكانية أنفراج المحنة عن الشعب ، الامر الذي جعل الاوضاع تزداد سوءاً اكثر فاكثر . كنت أنظر الى المشهد برمته على أننا في سجن كبير وموبوء من قبل حكامه الذين لا يعرفوا غير لغة واحدة هي لغة الموت ، وبالجملة ، فالاعدامات مستمرة على قدم وساق ، لاسباب اغلبها تافهة ، منها ما يتعلق بالهروب من الجيش او التطاول على صاحب كرسي الحكم الذي ملأ أرض الرافدين بطشاً وظلماً قلّ نظيرهما في عصور سابقة . وكأن هذا الرجل يطلب ثأراً من  الشعب فحب الانتقام منه بطريقة وحشية ، همجية ، أوصل فيها الأمور كافة الى قاع الحضيض ...
لقد خيم الظلام تماماً على البلاد وأهلها ، الأمر الذي جعل الجميع يفكروا بالرحيل الى المجهول دون أن يعرفوا مصيرهم ، ودون أن يعيروا لمصالحهم الشخصية أية أهمية ، سوى الهروب بجلدهم وإنقاذ ما تبقى من أعمارهم التي أكلت الحروب نصفها ، وما ينتظرهم كان اعظم وافجع ، أنها المأساة التي حلت بهم دون سابق إنذار ؟ أنها لعنة القدر .
كان الجو الثقافي العراقي مشحون ومرتبك اكثر مما كان عليه في السنوات التي سبقت تلك السنة ، فالأدباء يتنقلون من مكان الى آخر وهم في سبات عميق من النوم . ومنذ الصباح في كل يوم يتخذون من مقهى حسن عجمي الواقع في شارع الرشيد قلب بغداد مقراً لجلوسهم ويتبادلون الاحاديث المختلفة في السياسة والادب وغير ذلك ، وفي نفس الوقت كان الجوع يأكل في احشائهم ، حيث لم يكن باستطاعة بعضهم شراء كسرة من الخبز ، وكان عامل المقهى ( أبو داو ود) يعي جيداً الصراع اليومي لهؤلاء الأدباء الشباب الذين خرجوا من الحرب تواً ، وقد تجاوزت أعمارهم الثلاثين وهم لا يملكون بيوتاً ولا وظائفاً ولا حتى زوجات ، ولا شيء يؤهلهم للعيش بكرامة أسوة بباقي البشر ؟ ولذلك ظلوا يحلمون بالسفر الى الخارج كحل يعوض لهم كل ما فاتهم من سنوات مرت ما بين الحروب والحصار ، ولكي يبدأوا صفحة جديدة من حياتهم في أي مكان من هذا العالم ، بعيداً عن عيون الرقيب السلطوي داخل الوطن ، ولكي تتسنى لهم الكتابة دون قيود . ذلك أن العراق والظروف العصيبة التي مرت بأرضه وشعبه تحتاج لمن يقوم بتدوينها ، وليس ثمة من يستطيع تدوين ذلك غير الأدباء ، وإضافة لذلك فاغلبهم كانوا شهوداً على تلك المأساة المؤلمة التي حلت في العراق ، وجعلت الاخضر يابساً  ، واليابس رماداً, لا يمكن اخضراره مرة أخرى  منذ تسلم نظام البعث السلطة في العراق بقيادته التي أوصلت الوطن الى الهاوية بعد ان كان يمتلك القوة والإرادة وتقرير المصير .. 
لقد كنا نقضي ساعات طوال في التسكع بشارع الرشيد وشارع النهر بحثاً عن عمل ما ، ولكن عبثاً نحاول ، ومن ثم نعود الى مقهى حسن عجمي مصدوعي الرؤوس ، نتظور من الجوع ونحاول العودة الى بيوتنا علنا نحصل من عوائلنا على بعض الشيء من الطعام . وما أن يجن الليل نبدأ بالتسرب الى بار روافد دجلة الذي يقع في ساحة النصر المطلة على شارع السعدون في قلب العاصمة بغداد ، ونقضي قليلاً من الوقت في احتساء الخمر ، ومن ثم الخروج من هذا البار والذهاب الى بار اتحاد الأدباء مشياً على الأقدام, ذلك أن المسافة من ساحة النصر الى ساحة الأندلس التي يقع فيها اتحاد الأدباء ليست ببعيدة ، فهي لا تأخذ من الوقت سوى ربع ساعة لا أكثر . وفي بار الاتحاد يجتمع الجميع من الأدباء ، فعند الدخول سيتحقق من هويتك موظف الاستعلامات وبعدها تمرق بمحاذاة مطبخ (أبو ما يكل )، ذلك الرجل الآثوري والذي يعمل كمتعهد لبار الاتحاد ، وكم عانى هذا الرجل من كثرة الديون التي كانت بذمة بعضنا ، ألا انه كان لطيفاً مع الجميع . وتمتاز جلسات بار الاتحاد عن أماكن أخرى كونها تجعل الأجواء ثقافية بحتة ، يمتزج فيها الشعر واللوعة والمكابرة  وكل الموائد وان تباعدت فهي بالتالي مائدة واحدة  .. وعلى الرغم من ذلك الامتزاج الذي يتخلل الموائد ثمة من يطلق بين الحين والآخر النكات الساخرة من الأوضاع بطريقة مقصودة وغير مقصودة ، وبعد أن تهدأ حديقة البار الصيفي بعض الشيء من الضحك والإطراء ، يسمع الجميع أصوات صاخبة وشتائم ، صدى صوتها قادم من الباب الرئيسي ، . وهنا يعرف الكل ، أن القادم هو الشاعر جان دمو؟ فهذا الشاعر ليس له هموم واضحة في تقاسيم وجهه غير هموم الخمرة وكيفية الحصول عليها عن طريق أصدقائه من الأدباء ، وهذا في الظاهر أما من يعرفون جان دمو جيداً يجدون فيه عكس هذه الصورة ، فهو يحاول التمثيل بأنه صعلوكاً ليس له هم غير الخمرة ! وهذه حصانة تحصن بها جان حتى لا يلاقي الأذى والسجن من قبل النظام وجلاوزته ، بسبب شتائمه المستمرة في كل مكان ، على النظام وبخاصة رئيسه ؟ وأذكر جيداً في بداية التسعينات زار الرئيس قرية العوجة المولود فيها وحاول ان يعيد ذكريات نضاله في عبوره نهر دجلة عندما طورد لمحاولته التعرض لموكب الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد كما أدعى؟ بعد استلامه السلطة بطريقة قسرية من الرئيس احمد حسن البكر عام 1979 . وكانت قناة تلفزيون العراق تنقل زيارته للقرية وهي معادة للمرة العاشرة او اكثر على ما أظن . وثمة تلفزيون عادة يكون في بار الاتحاد وبعد ان احدث جان دمو بعض الصرخات والشتائم على الجالسين جراء عدم حصوله على الخمر . وفي هذه الأثناء كان في الحديقة الصغيرة المحاذاة للحديقة الكبيرة ، عبد الأمير معلة ونوري المرسومي وكيل وزارة الثقافة آنذاك وبعضاً من ضباط المخابرات الكبار، كانوا مدعوون في ذلك اليوم وقد سألوا معلة عن الشخص الذي يحدث هكذا صرخات وشتائم ، فقال لهم لا تشغلوا بالكم ان هذا شاعر أحمق معروف للجميع ويدعى جان دمو ؟ قالوا لقد سمعنا بهذه الشخصية نأمل ان تستدعيه للجلوس معنا لكي نضحك قليلاً . واستدعىّ جان الى جلستهم ، قائلين له لك ما تريد من الشراب والاكل والسجائر بشرط ان تكرمنا بسكوتك في الشتائم . وافق جان على ذلك الشرط وكان سعيداً بما قدم له على المائدة الفخمة . وما هي الا لحظات من سكون جان حتى ظهر الرئيس على شاشة التلفاز وهو يعوم في نهر دجلة ليعبره الى جهة قرية العوجة ، وكان الجميع يتطلعون الى المشهد بدقة وحذر شديدين ، كونهم مسؤولون ويعنيهم مثل هكذا أمر ؟ وفي هذه الأثناء فاجئهم جان دمو بصوت عال قائلاً : انظروا الى هذا الحيوان يسبح وكأنه جاموسة ) ؟ الجميع ارتعب مما قاله جان ، وحاولوا تغيير الموضوع ، للخلاص من شر هم في غنى عنه ؟ الامر الذي اضطرهم الى إلغاء الجلسة على الفور ومغادرة المكان ، في هذه اللحظات كان جان يردد أغنية يحبها كثيراً ، ولديه شعور بالانتصار على النظام ولكن بطريقته الخاصة ، وما كان من صاحب رواية الأيام الطويلة عبد الأمير معلة الا ان وبخ جان لا اكثر ، فهو يعرفه جيداً ؟ وفي اليوم الثاني كرر نفس الموضوع في مقهى حسن عجمي عندما كان جالس يشاهد التلفزيون حيث ظهر الرئيس مرة اخرى وهو يعّبر نهر دجلة عند قرية العوجة   فشبهه بالجاموسة امام جمع من الادباء واناس اخرين ممن يرتادون على المقهى باستمرار . الا ان الموقف هنا كان مختلفاً تماماً فكل من سمع جان يردد كلماته الاستهزائية ضد الرئيس ، اطلق ضحكات عاليات ، مؤيداً لما قاله الشاعر الصعلوك . ولو كان شخص اخر تجرا وقال ما قاله جان لكان مصيره الموت لا محال ؟ الا ان صعلكات جان وافراطه المستمر في الخمر وتجاهله لكل الاشياء منحته حصانة قوية من العقاب ، واي عقاب فهذا النظام يتفنن بانواع طرق التعذيب الوحشية ، انه الموت بعينه ! .
في تلك الايام العصيبة التي يعاني منها المثقف العراقي القاطن في الداخل من الظروف الاقتصادية المتردية من جراء الحصار واشياء اخرى هي اكثر قسوة من ذلك ، الا وهي المعاملة الصارمة من قبل النظام لأفراد الشعب بصورة عامة  خاصة بعد انتفاضة آذار المجيدة والتي اعطت درساً لذلك النظام وكان بحق درساً قاسياً في كافة مجالاته، كان بمثابة ثورة كبرى لم يكن يتوقعها النظام يوماً ما ، ولولا الامريكان وتوابعهم من العرب ، لكان النظام ومرتزقته في خبر كان منذ الايام الاولى للانتفاضة ، والجميع يعرف كم كان حجم التضحيات بعد ان اعاد النظام انفاسه الاخيرة . لقد فعلوا اشياء يقشعر لها البدن والروح . ففي سجن الرضوانية المشئوم كانوا ياتون بالشباب والرجال والشيوخ ويوقفوهم صفاً واحداً طويلاً ، ويقوموا باحفار نفق خلفهم بواسطة ( الشفل ) ومن ثم يطلقوا عليهم النار ، ويتساقطوا واحداً تلو الاخر في النفق الذي حفر خلفهم قبل رميهم بالرصاص ، وفي نهاية المطاف يعود ( الشفل ) ليعيد ما حفره من تراب الى النفق ! وهنا تكون قد انجزت وبسهولة تامة مقبرة جماعية كبرى لا مثيل لها في التاريخ ، وهذا كان يحدث يومياً ، اذاً كم من آلالاف الشباب والرجال قبرهم هذا النظام بدون حياء ودون قيم للانسانية التي ينادي بها المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الانسان ، ناهيك عن التجاوزات والعراقيل الاخرى التي يفتعلها النظام على اهالي المعدومين ، فعلى سبيل المثال فوراً يصادر اموالهم المنقولة وغير المنقولة ، وتكون عائلة المعدوم من العوائل المنبوذة التي لا تحصل على اية تسهيلات ، وان كانت ليست ثمة تسهيلات حتى للعوائل الاخرى . وعموماً فان كافة الامور تسير بطريقة تكاد تكون اشبه بالموت البطيء لكافة فئات الشعب . كل هذا الهول المروع كنا نشاهده ونسمعه واحياناً نقراه ؟ ولكن ما  العمل من اجل انقاذ ما تبقى ، والنظام بدأ يستعيد قوته شيئاً فشيئاً ، ويتربع على عرش الحكم من جديد ، الخروج من الوطن الى المنفى هو الحل الوحيد لهذه المحنة ، فقد نجح العديد في الهروب عن طريق الشمال وعن طريق قوات التحالف من الناصرية الى الحدود السعودية واقاموا في مخيمات رفحا والارطاوية ومن ثم الى دول اللجوء ، واخرين هربوا عن طريق ايران وغيرها من الدول الاخرى المجاورة للعراق، مثل سوريا وتركيا والاردن .
وقد شهدت بداية عقد التسعينات العديد من الاعتقالات العشوائية على العديد من فئات الشعب ، وكانت حصة الادباء منها مؤلمة فقد تم اعتقال الكاتب والمفكرالمعروف عزيز السيد جاسم في 15 نيسان (ابريل) 1991 بعد اصدار كتابه الذي اخذ شهرة واسعة جداً وهو بعنوان ( علي بن ابي طالب ، سلطة الحق ) . ولخلاف هذا الكاتب الكبير في وجهات النظر مع السلطة ، اودع السجن ، وما زال مصيره مجهولاً على الرغم من مناشدات منظمات حقوق الانسان والمطالبة بالافراج عنه ، الا ان النظام لم يستجب لكل النداءات التي وجهت بخصوص الافراج عنه . ذلك ان اغلب التوقعات ترجح على انه قد تمت تصفيته منذ فترة طويلة . ولهذا فان النظام يحاول بطريقة او باخرى ان يموه عن الموضوع. اما الضحية الثانية فكان, الصحفي الشاب ( ضرغام هاشم ) والذي تمت تصفيته فوراً بعد فترة وجيزة من اعتقاله بسبب رده على صحفي السلطة والنظام والذي يدعى عبد الجبار محسن ، والاخير كان قد كتب في صحيفة بابل مقالاً بعد انتفاضة اذار المجيدة يدين فيه الثوار ويسخر من فقرهم ومن حيواناتهم ومن جنوبهم وشمسه ، وظل عبد الجبار محسن في مقاله يثار للنظام مما فعلوه اهالي الجنوب بعملاء النظام وموئسساته ابان الانتفاضة المباركة في عام ( 1991) التي هزت وبعنف اركان النظام ، وقد نسى او تناسى محسن انه من اهالي الجنوب ومن مدينة العمارة ، وكأنه كمن نكر اصله ، وذاته كل ذلك من اجل ان يقول لرئيس النظام انا معك وليس معهم ؟ اية رذيلة اوقع نفسه فيها بعد ان تبراء من جذوره واصوله التي قذفت به الى هذه الدنيا . في اليوم الثاني من نشر هذه المقالة على صفحات جريدة بابل التي يرأس تحريرها نجل رئيس النظام الاكبر عدي صدام ، كتب عدي مقالاً هاجم فيه عبد الجبار محسن عما كتبه وقد اوضح عدي عبر مقاله ، انه يجب على الادباء والصحفيين الرد على مقال محسن وبحرية منقطعة النظير ذلك ان العراق بلد ديمقراطي ويؤمن بالتعددية وحرية الرأي ؟ هذا ما ورد في مقال عدي الذي هاجم فيه محسن . فكانت الاغلبية من الادباء والصحفيين غير مصدقة بما ذكره عدي في رده ، والجميع عرف ان فخاً واضح نصب لمعرفة المعارضين للنظام ، وكانت ثمة جلسة في بار الاتحاد الشتوي تحدث فيها الصحفي ضرغام هاشم لاصدقائه بانه قد كتب رداً ضد عبد الجبار محسن وسوف يبعثه يوم غد الى جريدة بابل ، وقد نصحه الاصدقاء قائلين له ان هذا فخ لايقاعنا والتخلص ممن يضمرون احقاد على السلطة ، لم يقتنع ضرغام بكل النصائح التي وجهت له  ، وارسل مادته الى الجريدة وما ان نشر الموضوع ، اقتادوه على الفور من مكان اقامته ، وبداء التحقيق معه ولفترة قصيرة جداً بعدها تم اعدامه ، حينها اصاب الوسط الثقافي العراقي الخوف والرعب الامر الذي جعل الجميع يختفي عن الانظار ، فقل التردد على اتحاد الادباء وحانته وكذلك مقهى حسن عجمي واماكن وحانات اخرى ، وظلت اغلب اللقاءات محصورة في البيوت واماكن غير معروفة من قبل السلطات ، لقد تم اعدام الصحفي الشاب ضرغام هاشم بطريقة مخزية ولا تمت بصلة الى الشرف والاخلاق ، ذهب ضحية لعبة حقيرة من ألاعيب الطاغية الصغير عدي .
فيما انشغل الوسط مرة اخرى بقضية القاص الشاب حاكم محمد والذي اراد النظام تنفيذ حكم الاعدام فيه لغيابه ثلاثة ايام من الخدمة العسكرية وقد كتب اصدقاءه عريضة تواقيع وارفقوها الى وزارة الثقافة وقد تبنى المبادرة العديد من الادباء الكبار وخاصة الشاعر حميد سعيد وبعد مشاورات ومداولات مع السلطات العليا وحتى وصلت القضية الى الرئيس والذي بدوره وقعّ على قرار الاعدام دون أي تردد ، وهكذا يكون القاص الشاب حاكم قد قضى نحبه لمجرد انه تغيب عن خدمة العلم كما يسميها النظام ، ففي كل دول العالم وجدت خدمة العلم ولكن لها فترة زمنية محددة كأن تكون سنة او اكثر بقليل او اقل من السنة ، لكن خدمة العلم في عراق نظام البعث ليس لها زمن محدد فهي تنتهي بعد سنوات من انهاء الحروب التي يفتعلها النظام ، فلم يقتنع النظام بما خدم القاص المعدوم من سنوات في حروبه التي تجاوزت على العقد من الزمان ، لقد رأيت بأم عيني اثناء الحرب العراقية الايرانية كيف يقوم اتباع النظام باعدام العشرات واحياناً المئات من الجنود العراقيين بعد كل هجوم من الهجومات التي كانت تشنها القوات الايرانية على الجيش العراقي خاصة في قواطع البصرة والعمارة وخانقين وغيرها من القواطع الاخرى التي كنت جندياً فيها . وكانت تلك الاعدامات الجماعية غير مبررة ، سوى انها افتعالات من النظام لردع الجنود وعدم الهروب من الجيش والصمود امام القوات الايرانية ، بحجة الدفاع عن العراق ارضاً وشعباً ، فعدا التضحيات الجسام التي ذهبت في الحرب العراقية الايرانية  واغلبها كانت من اهالي الجنوب ، ثمة اعدامات توازي التضحيات بنسب تتفاوت ، ولكنها كبيرة قياساً                  لما آلت اليه الهجومات المتكرر وبصورة شبه مستمرة من قبل القوات الايرانية  . واثناء تلك الهجومات كانت العوائل تستقبل يومياً المئات من ابنائها مغلفين بالتوابيت ، وامتلئة اركان المناطق الشعبية بالافتات السود التي كان يخط عليها عبارات صيغت من قبل النظام الحاكم مثل عبارة الشهيد البطل فلان . هذا بالنسبة للذين يموتون اثناء المعركة او من خلال القصف الايراني الكثيف في كافة القواطع . اما الذين يتم اعدامهم في المعركة بسبب انسحابهم بعد ان ينكسر لوائهم او فرقتهم وهم مرغمون على ذلك الانسحاب ، فيسلموا الى ذويهم وعلى ظهر توابيتهم عبارة ( جبان او متخاذل) ، واصدار الاوامر الى عوائلهم في دفع ثمن الرصاصات التي اعدم ابنهم فيها  وعدم اقامة عزاء مجلس الفاتحة لهم والا اصبحت عوائلهم عرضة الى العقاب ! . وما تعرض له الشعب والجيش العراقي في حرب تحرير الكويت كان افضع واشنع ، فقط كان عامل الزمن هو وجه الخلاف بين الحربين . وكانت النتائج مخالفة تماماً في الحرب الثانية حيث الهزيمة واضحة لا احد يستطيع نكرانها ، ولكن ظل النظام وخاصة رئيسه يصّرح عبر وسائل اعلامه انه المنتصر على دول التحالف الثلاثين ، على الرغم من انه وقعّ لهم على اوراق بيضاء من اجل ايقاف الحرب والهزيمة النكراء التي منيه بها ، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن تقوم الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها بتفتيش دقيق على كل الاماكن التي لها علاقة بتصنيع السلاح المحضور ، وقد طال التفتيش قصور الرئيس العراقي وحتى تم تفتيش غرف نومه ؟وعلى الرغم من ذلك كله يظهر عبر شاشات التلفاز ويقول لقد انتصرنا ؟ وقد يكون هذا الرئيس  لم يقرأ التاريخ جيداً ولا حتى بشكل بسيط ذلك ان العراقيين هم اخطر شعب في التاريخ على مر العصور القديمة والحديثة وليس من السهل الكذب على مثل هكذا شعب ، الا ان سوط الجلاد الملطخة يداه بدماء الابرياء ، تجبرهم على التصديق في الظاهر اما في داخل نفوسهم فدائماً الرئيس ونظامه عرضه للسخرية والاستهزاء حتى من قبل بعض الاطفال .
ومرت الايام مسرعة وكل شيء في العراق اصبح غالي الثمن وجميع الاسعار في صعود جنوني خاصة ما يتعلق بالقوت اليومي للناس ، الا ان بقيّ شيء واحد هو رخيص جداً الا وهو الانسان ، للاسف الشديد كل الاشياء باهضة الثمن ، ما عدا الانسان فهو ابخس الاثمان . وهذا نابع من سياسات النظام التي تحتقر كل ما له صله او يمت بطريقة او باخرى في شخصية الانسان العراقي التي مسخها النظام ، واصبح دون قيمة ودون كرامة ودون شفقة . لم يمر يوم الا والمصائب تنزل على رؤوس العراقيين ، أية حقوق وأية كرامة يتحدث عنها ذلك النظام بصورة مستمرة . لقد سأم العراقيون كذب وتلفيقات النظام التي أوصلتهم الى الهاوية ، والى قاع التخلف في عالم يتطلع الى تطورات غاية في الاهمية عبر التقنيات العالية للتكنلوجيا وما اوصلت الانسان لما هو عليه الآن في الغرب من وسائل راحة وترفيه، وعوالم مخيفة لم يتحملها عقل الانسان الا عندما يراها من خلال عالم الانترنيت وما شاكل ذلك .
في الوقت ذاته كثر العديد  من الادباء الطبالين والمنافقين والدجالين والمنتفعين في مديح رأس النظام عبر قصائدهم وقصصهم ، وظلوا يتسابقون في نشر ما يكتبونه من مديح عبر وسائل الصحافة والتلفزيون وغيرها وكانوا يحصلوا مقابل ذلك على مبلغ زهيد يحاولوا من خلاله ترميم بعض الشيء من حياتهم . لكن ذلك كان على حساب كرامتهم وسمعتهم الادبية كأدباء التي أخذت مكانها الطبيعي الى الحضيض جراء امتداحهم رأس النظام ، . فيما شهدت فترات متعاقبة محاولات أنقلابية عديدة ضد النظام الحاكم ألا أن الحظ لم يحالف كل المحاولات التي اغلبها باءت بالفشل من جراء الاجراءات الامنية المشددة التي يتخذها رأس النظام أثناء خروجه من مكان الى آخر . وكانت واحدة من هذه المحاولات الانقلابية ينتمي لها احد الادباء العراقيين ، وهو القاص والروائي الشاب  ( حسن مطلك ) والذي نفذ حكم الاعدام فيه في تموز من عام 1990 وكان حسن مطلك قد اصدر رواية بعنوان (دابادا) في عقد الثمانينات اثناء الحرب العراقية الايرانية حيث كان جندياً في جبهات القتال ، وتحت زطأة حرارة صيف العراق، ووطأة حرارة الحرب الحامية حد اللعنة ، والعناء الكبير من جراء السفر . كان حسن مطلك يقطع اياماً من اجازته الدورية والتي لا تتعدىالاسبوع ، ليأتي من قضاء الشرقاط ذلك القضاء المعروف في العراق بكرم أهله وطيبتهم ، الى العاصمة بغداد ، ليلتقي اصدقائه من الادباء الذين يرزحون تحت طائلة الحرب ومأساتها كجنود مجندين فرض عليهم القتال قسراً . وكانت سعادتهم الاعظم في اللقاء ما بينهم أثناء الاجازة الدورية ، ونادراً ما يلتقون جميعهم ، فعادةً تتفاوت الاجازات فيما بينهم... وما ان يتم اللقاء في المقهى او اتحاد الادباء حتى يبدأوا النقاش حول هموم الثقافة العربية والاجنبية وجديد اصداراتها . وما ان صدرت ( دابادا) رواية حسن مطلك والتي احدثت في حينها ضجة واضحة داخل الوسط الثقافي العراقي منتصف العقد الثمانيني المنصرم . حتى اصبح اسمه من الاسماء التي يحسب لها حساب الروائي المقتدر على الرغم من صغر سنه ، وقد وصف جبرا ابراهيم جبرا رواية دابادا( بانها رواية جديدة حقاً وكاتبها شاب جريء ) . وثمة علاقة حميمة كانت تربطه مع القاصين المبدعين شوقي كريم حسن وحميد المختار ، وهما من سكان العاصمة ، الامر الذي يجعله ان يتحمل عناء السفر ويقطع مئات الكيلومترات لكي يلتقي بهم ، وتلك سعادته العارمة أضافة الى أصدقاء آخرين..وذات يوم كنت جالساً بصحبة الاصدقاء في مقهى حسن عجمي وأذكر منهم شوقي كريم وحميد المختار والشاعر رياض ابراهيم والذي رحل عن عالمنا بعد ان هرب بصحبة عائلته عن طريق الشمال وقبل ان يجد له مخرجاً للمأزق الذي هو فيه وافته المنية في مدينة زاخو على أثر نوبة قلبية بتاريخ 3/5/1997 ودفن هناك !. في هذه الجلسة دخل المقهى شاب يرتدي البزة العسكرية ، وأنقضى على جلستنا بلهفة وشوق معانقاً شوقي وحميد بحرارة وملقياً التحية على الباقين، حينها كنت احدق فيه مستغرباً على بساطته وتواضعه . وما ان بدا باحتساء الشاي الذي تناوله من يد ابو داود عامل المقهى ، حتى همست بأذن شوقي ، من هذا: قال لي بصوت عال انه حسن مطلك صاحب رواية دابادا . وشوقي كريم معروف لدى الوسط الثقافي بنكاته الصاخبة ويفلسف الاشياء بطريقة تختلف عن المالوف ، على العكس تماماً من صديقهم الثالث حميد المختار الذي يمتاز بهدوء تام . واستمر الحديث طويلاً الى ان جاء المساء حتى انتقلنا من المقهى الى حانة الاتحاد في ساحة الاندلس .. كنت انظر الى حسن مطلك نظرات اعجاب بشخصه ودماثة اخلاقه ، وكرمه الذي لا نظير له ، فمن المقهى وحتى السهرة في الاتحاد التي تخللتها الماكولات بعد احتساء الشراب لم يسمح لاحد ان يمد يده على جيبه ليدفع فاتورة الحساب ..وعلى الرغم من أنني لا أعرفه ولم ألتق به من قبل ، فقد أخجلني بكرمه لمجرد عرف أني صديق حميم لشوقي وحميد .
وتربط حسن مطلك علاقة طيبة ووثيقه مع أبن مدينته القاص المبدع محمود جنداري والذي وافته المنية اواخر العام 1995 على اثر دس السلطات الحاكمة له مادة الثاليوم بعد ما اخلى سبيله من حكمه المؤبد بتهمة التواطىء مع حسن مطلك أبان الانقلاب الذي فشل بداية عام 1990 من قبل نخبة من الضباط الاحرار  ، وكان بينهم صاحب رواية دابادا والذي تم أعدامه على اثر ذلك . في الوقت ذلك فقد اصبح حسن مطلك رمزاً يحتذا به في الشجاعة داخل الوسط الثقافي العراقي ، فيما حاول النظام تشويه صورته بكل الطرق الا انه فشل في ذلك تماماً ، وظل أسمه وسمعته الطيبة وروايته دابادا بعد عقد ونيف من أعدامه حديث الوسط الثقافي ، وظلت روايته دابادا شامخة في ذاكرة المثقف لما فيها من قيمة ابداعية نادرة ، ولهذا فان العمل الابداعي الحقيقي يبقى شامخاً ..

 



#هادي_الحسيني (هاشتاغ)       Hadi_-_Alhussaini#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طقوس
- شبح الموت
- عام 2003 الافراح والاحزان العراقية
- الفجر الاحمر
- سركون بولص
- الحوار المتمدن موقع متميز عن المواقع الاخرى
- مقصلة الحروب
- سعدي يوسف الشاعر الذي ابحر في الغربة دهرا
- مبروك حسب الشيخ جعفر , محمد خضير جائزة العويس الثقافية
- سيارات مفخخة
- الرعب في أوسلو
- حسب ا لشيخ جعفرسياب آخر يجوب الفضاءات بدون رتوش
- اين اجدك هذه الليلة يا جان دمو
- الطريق سالكة
- الاحمق
- شجى الحنين المعتق بالغربة - قراءة في مجموعة - خريف المآذن - ...
- شاعر بقي متأملاً وجه الموت
- مقابر
- حوار مع المخرج السينمائي العراقي هادي ماهود
- مات ابو داوود عراب الادباء في مقهى حسن عجمي


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هادي الحسيني - - الحياة في الحامية الرومانية - الفصل الاول