أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبد الحسين شعبان - مفهوم المجتمع المدني ..بين التنوير والتشهير !!















المزيد.....


مفهوم المجتمع المدني ..بين التنوير والتشهير !!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 2222 - 2008 / 3 / 16 - 11:24
المحور: المجتمع المدني
    


لا يزال مصطلح "المجتمع المدني "Civil Society غير محدد على نحو دقيق، فأحياناً نحن نتحدث عنه ونستخدمه، ولكن كل منّا يقصد أمراً مختلفاً (1) وعلى النطاق العربي فإنه يثير إلتباساً كبيراً وتعارضاً شديداً بين التوقير والتحقير، أو التأييد والتنديد!!
أحياناً نطلق عليه إسم " المجتمع الأهلي" National Society وأحيانا إسم القطاع الثالث Third Sector (بين القطاع العام والقطاع الخاص) وفي أحيان أخرى: القطاع الخيري Charity (Philanthropy) Sector، أو القطاع المستقل Independent Sector، أو القطاع المعفي من الضرائب Tax exempted Sector، أو نسمّيه المنظمات غير الحكومية NGOS، أو المنظمات التطوعية Associational voluntary، أو القطاع غير الهادف الى
ــــــــــــــ
(1) من الدراسات والأبحاث المهمة، التي تناولت موضوع المجتمع المدني يمكن الاشارة الى بحوث ندوة" ازمة الديمقراطية في الوطن العربي"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1984، وبحوث ندوة " المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998. وبحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها منتدى الفكر العربي في عمان، 1989، تحرير سعد الدين ابراهيم، عمان، المنتدى، 1989، والتقارير السنوية العربية حول: المجتمع المدني، التي اشرف عليها د. سعد الدين ابراهيم وأصدرها مركز ابن خلدون، كذلك: بشارة، عزمي (الدكتور)، المجتمع المدني، مصدر سابق. انظر كذلك: الفالح، متروك(الدكتور)- المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، آذار (مارس) 2000. كذلك: عبد الحسين شعبان، الانسان هو الاصل، القاهرة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، 2002، انظر كذلك: النقيب، خلدون حسن(الدكتور)- المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية (من منظور مختلف) بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1987، انظر كذلك: مقالة لـ" الجابري" ، محمد عابد (الدكتور)- اشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد 167، كانون الثاني(يناير) 1993، انظر كذلك: قنديل، اماني (الدكتورة)- تطوير مؤسسات المجتمع المدني، الشبكة العربية للمنظمات الاهلية، القاهرة، 2004، وكذلك: قنديل، أماني – المجتمع المدني في مصر، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة،2000. كذلك انظر مقالة: عبد المجيد، وحيد (الدكتور)- المجتمع المدني: مفهوم فقير واستخدام أفقر، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، العدد 40، نيسان (ابريل)،1995، انظر كذلك: البزري، دلال (الدكتورة) غرامشي في الديوانية، في محل المجتمع المدني من الاعراب، بيروت، دار الجديد، 1994.
الربح Non-profit Sector ، وهذه التسميات جميعها تصف شيئاً واحداً وهو وجود مؤسسات غير حكومية، غير إرثية، تطوعية، مستقلة عن الجهاز الحكومي، وتشكل قطاعاً ثالثاً بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وهو ما نسميه بالمجتمع المدني.(2)
وسبب صعوبة تحديد المعنى يعود الى حداثة استخدام المصطلح لدينا، وشحّة المختصّين، فضلاً عن انه بحاجة الى سياقات فكرية وثقافية والى بيئة سياسية واجتماعية، لكي يكون " مقبولاً " على نحو ما نشهده في الغرب. والسبب الآخر يعود الى الاختلاف، الذي يتضمنه الموضوع كإطار نظري ناجم عن تجارب محددة سرعان ما تتغيّر. ولعل السجالات السياسية والآيديولوجية تأخذ بُعدَها في هذا الموضوع، ناهيكم عن الاختلافات في الممارسة والتطبيق(3).
ومن حيث المفهوم فالمجتمع المدني يشير الى الطبيعة المدنية التي تميز الدولة عن المجتمع، وهو يعني مجمل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية غير الحكومية وغير الارثية، والتي تشكل الروابط الاجتماعية بين الفرد والدولة. ومن مسؤولياته تنظيم الفاعلين الاجتماعيين من خلال قنوات مؤسسية أهلية تعمل على تمكين الافراد من المشاركة في الحقل العام وتخلق بينهم آليات تضامنية، وتتميز مؤسساته بالمرونة والدينامية والتعددية والعمل التطوعي والمبادرات الخاصة للافراد والجماعات إضافة الى الإستقلالية.

ــــــــــــ
(2) انظر: الدكتور فؤاد عبد الجليل الصلاحي- الدولة والمجتمع المدني في اليمن، مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الانسان، تعز-اليمن، ابريل(نيسان) 2001، ص 31.
(3) انظر: برهان غليون- بناء المجتمع المدني العربي: دور العوامل الداخلية والخارجية، في كتاب المجتمع المدني في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ،1992، ص 733 وما بعدها.
شروط تكوين مؤسسات المجتمع المدني

1- أن تكون منظمات مدنية مستقلة وغير حكومية.
2- أن تكون منظمات غير إرثية، أي ان العضوية فيها لا تتوارث عبر العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب أو الدين.
3- أن تكون منظمات طوعية، أي أن الانتساب اليها يتم وفقاً لإختيار واعي وحر.
4- أن تكون منظمات غير ربحية، أي لا تستهدف تحقيق الربح، وهو ما يميّزها عن مؤسسات القطاع الخاص الهادف الى الربح.
5- أن تكون منظمات حداثية، وذلك ما يميزها عن المؤسسات التقليدية.
6- أن تكون منظمات ديمقراطية وهو ما يميزها عن المؤسسات التقليدية وتمارس الديمقراطية في جميع أعمالها وعلاقاتها الداخلية، بين هيئاتها وأفرادها وبينها وبين محيطها الخارجي.
7- أن تكون منظمات تعددية أي تقبل بالاختلاف والتنوّع.

أهداف مؤسسات المجتمع المدني
1- دعم مشاريع وخطط التنمية الشاملة والمستدامة، بحيث تكون شريكاً للدولة في تنفيذها ومراقبة حسن إدائها ورصد الانتهاكات والخروقات التي تعترضها.
2- إقتراح قوانين وأنظمة ولوائح وتقديمها الى البرلمانات والجهات التشريعية والحكومات.
3- السعي من أجل بناء مواطنة متساوية وكاملة ودون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو العرق أو المذهب أو الجنس أو المنحدر الاجتماعي أو غير ذلك.
4- العمل على بناء قدرات الافراد وتنمية مهاراتهم وتدريبهم، ليسهموا في مجتمعاتهم وفي مؤسساتهم المهنية والنقابية للدفاع عن مصالح منتسبيها وعن مصالح المجتمع ككل.
5- تشجيع الجهود التطوعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزز التضامن والتكافل والتعاون والمساندة بين جميع الفعاليات الاجتماعية.

أما أسس مؤسسات المجتمع المدني فهي :
أولاً: الأساس القانوني والمقصود بذلك الدساتير والتشريعات وقوانين الجمعيات والاتحادات والنقابات التي تنظم علاقة هذه المؤسسات بالدولة.
ثانياً: الأساس السياسي، والمقصود به إقرار النظام السياسي بالتعددية وحق تشكيل الجمعيات والمنظمات المدنية.
ثالثاً: الأساس الاقتصادي، والمقصود به تحقيق درجة من التطور الاقتصادي الاجتماعي باشباع حاجات الافراد الاساسية بعيداً عن مؤسسات الدولة (الدعم الرسمي للمشروع الخاص والمبادرات الفردية).
رابعاً: الأساس الثقافي، ويقصد به مجموعة الأفكار والتصورات التي يؤمن بها الافراد وتشكّل محددات لسلوكهم وعلاقاتهم، وتعبّر في مجموعها عن الاطار المعرفي والثقافي للمجتمع المدني الحديث.(4)

ــــــــــــ
(4) قارن: د.فؤاد عبد الجليل الصلاحي- الدولة والمجتمع المدني في اليمن، مصدر سابق ، ص 32-35 ، قارن أيضا: ندوة " المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية" مركز دراسات الوحدة العربية، مصدر سابق. انظر: د.أماني قنديل- تطوير مؤسسات المجتمع المدني، مصدر سابق.


نشأة مفهوم المجتمع المدني
تعود نشأة " المفهوم" الى أوروبا، وهو لم يُنجز دفعة واحدة ولا على يد مفكرٍ واحد أو فيلسوف واحد، ولم يكن ذلك في بلد واحد من بلدان اوروبا، بل اقتضى ذلك زماناً ومكاناً متنوّعين، خصوصاً في القرنين السابع عشر والثامن عشر وما بعدهما، فقد كان هناك فقهاء " الحق الطبيعي" من أمثال غروشيوس، كما لا بدّ من ذكر جون لوك وتوماس هوبز وباروخ سبينوزا ومونتسكيو وجان جاك روسو، وهؤلاء ينتمون الى بلدان مثل هولندا بريطانيا فرنسا وسويسرا، وكل من هؤلاء المفكرين أسهم بقسطه في تكوين مفهوم المجتمع المدني، خصوصاً بأساساته الكلاسيكية، وغالباً ما كان هؤلاء في خصومة فكرية بين بعضهم البعض، رغم وجود المشتركات بينهم في مسألة المواطنة والملكية والديمقراطية، انطلاقاً من حالة المجتمع والتعاقد الاجتماعي والقول بمبادئ السيادة.
وكذا الحال لمعرفة واستكمال فكرة المجتمع المدني، لا بد من الاطلاع على ما كتبه كانتْ وهيغل وماركس وانجلز ولينين وغرامشي، ومفكرون اجتماعيون مثل أوغست كونت وسان سيمون والتوكفيل وماكس فايبر وعلماء اقتصاد مثل آدم سميث وكينز وروزا لوكسمبورغ وغيرهم.
وإذا كان موضوع المجتمع المدني يُدرس من زاوية علم الاجتماع السياسي ويشتبك مع تخصصات عديدة من علم السياسة الى علم القانون الى علم الاجتماع الى علم الاقتصاد الى علم الإدارة، وذلك بالحديث عن وظيفة ودور الدولة وعلاقتها بالمجتمع وخصائصهما، فإنه لم يتم تداوله عربياً أو في إطار مقاربة عربية إلاّ في العقود الثلاثة الماضية من القرن العشرين، حيث بدأ الأمر على نحو حذر ثم اتسع في بلدان المغرب العربي وبعدها في بلدان المشرق العربي، وحتى الآن فإنه يثير ردود فعلٍ واختلافات حادة أحياناً، فيما ما يعتبره البعض إيجابياً ومنزّهاً، في حين يعتبره البعض الآخر سلبياً وربما مريباً، ولكنه في كل الأحوال ظلّ بحاجة الى تراكم ثقافي ومعرفي وممارسة لتبيئته وتوطينه أو تعريبه إذا جاز التعبير مثل غيره من المفاهيم، الأمر الذي يتطلب دراسة الواقع الاجتماعي واصطفافات القوى وعلاقة الدولة بالمجتمع تاريخياً وتطور المفهوم وسياقه المحلي والدولي.
ويعتبر غرامشي: إن وظيفة المجتمع المدني هي الهيمنة عن طريق الثقافة والآيديولوجيا، اما وظيفة المجتمع السياسي فهي السيطرة والاكراه ويعني غرامشي بـ المجتمع المدني هو: كل المؤسسات التي تتيح للافراد الحصول على الخيرات والمنافع العامة، دون تدخل او توّّسط الحكومة، وهو النسق السياسي المتطور، التي تتيح، صيرورة تمأسسه، مراقبة المشاركة السياسية(5).
وإذا كانت الصورة الاولى لمفهوم المجتمع المدني قد تبلورت في اطار نظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، فإنه استهدف التحلّل من الهيمنة الدينية على المجتمع وبالضد من نظرية الحق الالهي، فهو أقرب الى فكرة اتفاق في اطار المجتمع وبين أفراده لتأسيس السلطة، بمعيار دنيوي مدني، أي أرضي وليس إلهي.
إذاً دخلت فكرة المجتمع المدني الى الفلسفة السياسية، كتعبير عن وجود علاقة بين المجتمع والسياسة، وذلك من خلال الصراع بين فكرة " الحق الطبيعي" وبعدها فكرة " العقد الاجتماعي". وفي اللحظة التي اعتبرت فيه الدولة قائمة على العقد، وان المجتمع سابق عليها وقادر على تنظيم نفسه بمعزل عنها، بل هو يشكل شرعيتها، كان نهاية لنظرية "الملكية المطلقة".
ثم تعمّق المفهوم ليتخذ بعداً جديداً في اطار نمو المجتمع الرأسمالي وتطور مؤسساته، انطلاقاً من امكانية ان تلعب مؤسسات المجتمع المدني، التي ينشئها الافراد، إعادة صياغة المجتمع، اي قيام علاقة توسطية لتنظيمات المجتمع المدني
ــــــــــــ
(5) انظر: عبد اللطيف، كمال، في كتاب المجتمع المدني في الوطن العربي، تعقيبه على ورقة سعيد بنسعيد العلوي،!؟ مصدر سابق.

غير مباشرة بينها وبين الدولة (6).
أما العودة الجديدة لفكرة المجتمع المدني فقد كانت بعد تمرده ضد الدولة الاشتراكية، وبخاصة " حركة تضامن" العمالية في بولونيا(عمال ومثقفون) في نهاية السبعينات، ثم أحداث اوروبا الشرقية وإنهيار جدار برلين 1989، اي تمرد المجتمع ضد وحدانية الحزب والدولة! (7)

خصائص المجتمع المدني ومراحل تطوره
جعل الفكر الليبرالي ثلاثية: الدولة، المواطن والسوق متلازمة، فالمواطن والسوق حيّز عام وليس الدولة، وكل ما هو ليس حيّزاً عاماً هو حيّز خاص. والمجتمع المدني خارج الدولة قائم على إقتصاد السوق، ثم أصبح يرتبط بتوسيع حقوق المواطنة خارج الدولة (8).
إذاً لا يمكن تصوّر دولة دون مجتمع، كما لا يمكن تصور مجتمع دون دولة، اي قوانين وانظمة ومؤسسات لحفظ النظام والامن وحماية ارواح وممتلكات المواطنين.
من خصائص المجتمع المدني هو انه مجتمع متعدد وتعددي، وهو يعني التنوع والاختلاف، بل والصراع أحياناً، رغم قيامه على تضامنات جزئية، ولعل ذلك أحد مصادر نمو السياسة ومبرر وجودها. والتعدد والاختلاف هو مصدر حركة واغناء وتطوير، وعكسه هو السكون والثبات وعدم التطور.
ــــــــــــــ
(6) انظر: هلال، علي الدين (الدكتور) - نحو معايير محددة للاتجاه، كتاب التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي، عمان، منتدى الفكر العربي، 1989، ص 239.
(7) Andrew Arato- civil society Against the state: Poland, 1980-1981, Telos, No: 47 (spring 1981) pp23-47
(8) أنظر: عزمي، بشارة- المجتمع المدني، مصدر سابق، ص 11 وما بعدها.
يقصر البعض تعريف المجتمع المدني على التنظيمات والتجمّعات المتنوعة للفاعليات والانشطة المهنية، مثل: (النقابات، المؤسسات الثقافية، الجمعيات المهنية، منظمات حقوق الانسان، المرأة، الطفل، البيئة، الصحة...الخ)، والبعض الآخر يمدّه ليصل الى الاحزاب السياسية وتنظيماتها، في حين ان بعضاً آخر يعتبر هذه الاحزاب
تستهدف الوصول الى السلطة، وتالياً كيف ستكون أحزاباً حاكمة ضمن إطار المجتمع المدني؟
ولهذا فهو يستبعدها، وذلك لأن وظيفة المجتمع المدني رقابية، رصدية، اقتراحية، اجتماعية، وليست الوصول الى السلطة في حين يحاول البعض الآخر التوفيق بين قبول ورفض الاحزاب، فهو يستبعدها من دائرة المجتمع المدني، فيما اذا وصلت الى السلطة، ويقبلها حين تكون خارج السلطة. ولعل في ذلك عودة للفكرة التي تحدث عنها فلاسفة القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، بخصوص التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي.
إن سبب التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، أن الاخير يسعى للهيمنة على المجتمع المدني سواءاً لعناصره الفردية أو الجماعية، محاولاً التأثير على واقعه ومستقبله أكانت سلطات حاكمة أو احزاباً معارضة، ولهذا السبب فإن غالبية دعاة المجتمع المدني، لا يعتبرون المفهوم يشمل الأحزاب السياسية، لأنهم معنّيون بالأهالي، في حين أن الاحزاب معنية بالسلطة.

ومثلما يميّز البعض بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، يميّز أيضاً بين المجتمع المدني والمجتمع الاهلي، فالاخير مصطلح سبق انتشار مصطلح المجتمع المدني، وهو حسب المطران غريغور حداد " كان ولا يزال يشتمل على الأسر والعائلات والعشائر والقبائل والاعراف، التي تستند اليها أو تنبع منها، وكان غالباً ما تستوحيها في المذاهب الدينية وعاداتها ... أما المجتمع المدني فيشتمل على المؤسسات الطوعية التي تعبّر عن إرادة الناس ومصالحهم ..." (9)
المجتمع المدني إذاً هو تعبير طوعي عن إرادة الناس الحرة ( قطاعات متعددة)، أما المجتمع الاهلي فهو عفوي وطبيعي وتلقائي بحكم الانتماء العائلي أو العشائري أو القبلي أو الجهوي أو غير ذلك.
ومثلما هناك فروق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي والمجتمع الاهلي، فهناك فروق بينه وبين المجتمع الديني، فالاول هو جهد طوعي في الفضاء العام من جانب مجموعة متفاعلة لديها مصالح مشتركة، أما المجتمع الديني ففيه تراتبية سلطوية أبعد من حدود الاختيار أحياناً.

يمكن القول ان المجتمع المدني مرّ بأربعة مراحل:
الاولى – وتبدأ من القرن الثامن عشر والتاسع عشر: أي مرحلة التأسيس والانطلاق.
الثانية- ويمكن وصفها بمرحلة الذبول، وشملت نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حتى الثلث الأخير منه، مع مرحلة وسيطة ما بين الحربين العالميتين.
الثالثة- وهي تشمل مرحلة أواسط القرن العشرين وبخاصة بعد تطويرات وإضاءات غرامشي: وتمثل هذه الفترة مرحلة الانتعاش والعودة الجديدة، خصوصاً بإتساع وتعمق المفهوم، والدور الذي لعبته الامم المتحدة على صعيد تشجيع مؤسسات المجتمع المدني منذ تأسيسها عام 1945 في مؤتمر سان فرانسيسكو.
ــــــــــــــ
(9) انظر: غريغور حداد- نحو مجتمع مدني، (في كتاب المجتمع المدني العربي والتحدي الديمقراطي)، وهو مؤلف جماعي يضم أعمال ندوة أقامها "تجمع النساء اللبنانيات ومؤسسة فريدريش ايبرت "، بيروت، 18-20 نيسان (ابريل) 2004، ص23 وما بعدها.
الرابعة- هي المرحلة التي بدأت قبيل نهاية الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي وخصوصاً في فترة الوفاق الدولي في اواخر السبعينات وبداية الثمانينات، والتي توّجت بانتهاء نظام القطبية الثنائية حيث كان المعسكران يغاليان بأهمية الأمن القومي، على حساب المجتمع المدني، سواءً في الشرق أو في الغرب، اضافة الى البلدان النامية أو ما يطلق عليه "العالم الثالث". لكن خطاب المجتمع المدني برز في مطلع الثمانينات وبخاصة في دول أمريكا اللاتينية وفي أوروبا الشرقية فيما بعد، حيث شهدت بعض المؤسسات نمواً كبيراً.

هل هناك مجتمع مدني عربي؟

أما بخصوص فكرة وجود مجتمع مدني عربي، فهناك من يشكك بوجوده، وإن وجِدَ فهو غير قادر على فرض ارادته او رغباته او تأثيراته على قرارات الدولة، كما هي حالة اوروبا الغربية والشرقية، او حالة بعض اقطار شرق آسيا أو امريكا اللاتينية، بمعنى آخر حسب قول الدكتور باقر النجار " من الصعب ان تجد مجتمعاً مدنياً في المنطقة العربية مستقلاً عن الدولة وقادراً بالتأثير عليها "، ولكنه يقبل بفكرة وجود منظمات غير حكومية أهلية مستقلة عن الدولة في بعض البلدان العربية مثل:
مصر، المغرب، لبنان، الكويت والبحرين، في حين إن الأقطار الاخرى لا تبدو فيها هذه المنظمات موجودة وإن كان الامر بدرجات متفاوتة(10).


ــــــــــــ
(10) أنظر: النجار، باقر (الدكتور) – المجتمع المدني في الوطن العربي: واقع يحتاج الى إصلاح، ( في كتاب المجتمع المدني ودوره في الاصلاح) ، تحرير ممدوح سالم ، القاهرة،2004، ص 57 وما بعدها.

وتستهدف مناقشة المفهوم السعي لإخراج المصطلح من الانحيازات المسبقة بين التأييد والرضى واليقينية حد التقديس عند البعض وبين السخط والتنديد والاتهام عند البعض الآخر، وتحويله الى أمر تاريخي- اجتماعي ديناميكي ومتحرك، يمثل الطاقة الكامنة لدى فئات اجتماعية ومهنية واسعة للاسهام في صنع المستقبل السياسي والمشاركة في رسم السياسات من خلال نقد الخطاب السائد بين السلطة والمعارضة أحياناً، عبر حقل ثالث، يمثل خياراً مجتمعياً لتفعيل المشاركة وضمان الحقوق الانسانية وتأمين الحريات العامة والخاصة.
إن الاصوات العربية التي ندّدت في اطروحة المجتمع المدني الجديدة، لم تنطلق جميعها من رؤية واحدة فالبعض اعتبرها تقليعة مستوردة أو مشبوهة، وبخاصة من الحكومات أو الجماعات التقليدية والمحافظة، ونظر اليها البعض الآخر، من زاوية اقترابها أو ابتعادها من الصراع مع القوى المهيمنة على المستوى الدولي، خصوصاً استغلال التوّجهات الانحيازية أو هكذا يتم تفسيرها أحياناً لبعض النشطاء في المجتمع المدني الى الغرب أو تبني بعض أطروحاته، استرضاء له كما يعتقد أصحاب هذا الاتجاه، او للحصول على التمويل او مكاسب سياسية.

وهناك اتجاهاً نقدياً للمجتمع المدني من داخله أحياناً وهو وإنْ يرى فيه ضرورة لا غنى عنها وحاجة ماسة لا يمكن إحداث التحوّل والاصلاح الديمقراطي بدونها، بما يستوجب دعمها والترخيص لها قانونياً، الاّ أنه ينتقد بعض ممارساتها وتوجهاتها وتشبث بعض قياداتها بمواقعها، ناهيكم عن بعض أساليبها البيروقراطية واللاديمقراطية.
يمكنني القول أن المجتمع المدني العربي ما زال ناشئاً وهو حديث التكوين، وفي بعض البلدان جنينياً أو أن هناك انقطاعاً قسرياً قد حدث فيه وعطلّ من دوره كما هي التجربة العراقية، وهناك تداخلات كثيرة عليه، بل وإتهامات جاهزة ضده، لكنه أخذ تدريجياً يتطور ويؤثر، خصوصاً وأن طائفة من الاحتجاجات حتى في البلدان المغلقة والمحافظة أخذت طريقها الى التبلور، ولقيت إهتماماً دولياً حتى وإن كان ذلك له علاقة بأجندة بعض القوى الكبرى الخاصة، لكن الأمر ينّم عن إرهاصات بدأت تتأسس وتترك تأثيراتها، وإنْ كانت محدودة على مسار نقد الدولة والممارسات الحكومية، ومطالباتها بالاصلاح الدستوري والقانوني والاجتماعي وحق المشاركة وتأسيس الجمعيات والنقابات والاحزاب وحقوق المرأة وحقوق الاقليات وغير ذلك.
ولعلّ هذا الامر هو جزء من مسار كوني ومن تطور أممي لا يمكن للبلدان العربية أن تعزل نفسها عنه، وكأنها جزر نائية غير معنية بالتطور الدولي، الأمر الذي يفرض على الحكومات مواكبة هذا التطور والسماح لمؤسسات المجتمع المدني، من العمل، وإن كان الأمر قد حصل في بعض البلدان العربية، وذلك في سياق قراءة تستجيب لبعض متطلبات التطور الدولي!!
إن الوقوف بوجه التيار، يعني أن رياح التغيير ستكون عاصفة وربما مدّمرة وستصيب الجميع، ولن يقف أمامها التشبث بالسيادة أو عدم التدخل بالشؤون الداخلية، تلك الحجج التي تتذرع بها الحكومات للاستفراد بشعوبها، في حين أن ضرورات التطور تقتضي إطلاق الحريات وإجراء إصلاحات واحترام حقوق الانسان، كضمانات لحماية السيادة ومنع التدخلات الاجنبية والحيلولة دون تعرض بلداننا وشعوبنا للاحتلال والعدوان والانتهاكات الخارجية.
وللأسف فإن الكثير من الحكومات والقوى السياسية العربية خارجها، ومن معارضتها أحياناً، ما تزال لا تدرك أهمية وحيوية المجتمع المدني وضرورته، باعتباره أحد أهم روافد الاصلاح والتغيير وتعزيز وتمكين الديمقراطية التي تنشدها، لكونه يمثل القوة الثالثة، التي لا غنى عنها لضمان السلم المجتمعي، فضلاً عن أن وجوده يمثل هو الآخر إنتماءً الى العالم المعاصر، عالم الحداثة والتقدم، ولعل التنكر له أو تهميش دوره أو محاولة إحتوائه، انما هو تشبث بالماضي وهروب من المستقبل.
في الختام يمكننا القول إن ما نقصده بالمجتمع المدني، هو: الافراد والمجموعات الناشطون في الحقل العام، المنخرطون في عمل الجمعيات والنقابات والاتحادات والقوى المهنية والسياسية، والمتحدّرون من فئات وطبقات مختلفة، والذين استطاعوا تنظيم أنفسهم على نحو مشترك مقيمين أشكالاً من التضامن بينهم، في ظل ما وفرّته الدولة المدنية، باعتبار نشاطهم عابر للطوائف والإثنيات والأديان والمذاهب والآيديولوجيات والاتجاهات السياسية والانحدارات والعشائرية والقبلية والعائلية والمناطقية.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كامل الجادرجي حين يكون الاستثناء هو القاعدة !
- ضوء جديد في قضية المهدي بن بركة!!
- خالد علي الصالح- على طريق النوايا الطيبة: تجربتي مع حزب البع ...
- فرادة الوسطية والاعتدال! سعد صالح نموذجاً
- العراق-إيران: شفط النفط بين التسييس والتدليس!!
- اعلام وارهاب!
- العلم العراقي والرمز المنشود
- مجتمع مدني ولكن !
- قصائد من غوانتانامو!
- في الحالة العراقية: استحقاقات وتحديات!
- الفساد: «المنطقة المحرّمة» بالعراق!
- أديان العراق وطوائفه: عنف الحاضر وتعايش الماضي
- من يضمن حقوق اللاجئين -العراقيين-؟!
- غاندي وروح التسامح واللاعنف
- نفق غوانتانامو الذي لا ينتهي!!
- الحرب الاستباقية واحتكار العدالة: حالة غزة
- أور أو -مدينة القمر- والشبكة العنكبوتية
- جورج حبش: الاستثناء في التفاصيل أيضاً!!
- صورة المجتمع المدني بين التصادم والتواؤم
- دولة مواطنة أم مواطنة دولة ؟!


المزيد.....




- آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بصفقة تبادل للأسرى
- الآلاف يتظاهرون في تل أبيب مطالبين بالإفراج عن الأسرى ورحيل ...
- فيديو: أطلقوا العنان لصرخات متواصلة.. طلاب يتظاهرون ليلاً أم ...
- حملة سياسية وإعلامية.. ميقاتي يرد على مزاعم وجود -رشوة أوروب ...
- آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بصفقة تبادل فورية وإسقاط ...
- -لا أستطيع التنفس!-.. فيديو يظهر لحظة اعتقال رجل من ذوي البش ...
- لبنان يرفض تهمة تلقيه رشوة أوروبية لإبقاء اللاجئين على أرضه ...
- تظاهرة تونسية تطالب بإجلاء المهاجرين الأفارقة
- كيف تصدرت موريتانيا ترتيب حرية الصحافة عربيا وأفريقيا؟
- احتجاجات وسط تونس تطالب بـ-الإجلاء السريع- لآلاف المهاجرين ا ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبد الحسين شعبان - مفهوم المجتمع المدني ..بين التنوير والتشهير !!