أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نائل الطوخي - بطرس غالي وشيمون بيريز في شهادات للتاريخ: الصراع كما يرويه المتورطون















المزيد.....


بطرس غالي وشيمون بيريز في شهادات للتاريخ: الصراع كما يرويه المتورطون


نائل الطوخي

الحوار المتمدن-العدد: 1969 - 2007 / 7 / 7 - 12:43
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في قصص ألف ليلة وليلة يطلب الملك من الحاضرين أمامه الحكي. فقط الحكاية الأكثر عجائبية هي ما ستحظى بالجائزة. من هنا تتولد قصة مزين بغداد الساحرة. يختلف الأمر إذ يتعلق بحارسين من حراس التاريخ، دخلا في مباراة للحكي ولا يبدو أن شيئا صار قادرا على إيقافهما. على طول صفحات كتاب "ستون عاما من الصراع في لشرق الأوسط.. شهادات للتاريخ" والصادرة ترجمته عن دار الشروق مؤخرا يحاور الصحفي أندريه فيرساي كلا من شيمون بيريز وبطرس غالي، يحكي كل منهما ما شاهده وما تورط فيه، الاثنان بصفتهما متورطين في تاريخ بلديهما بشكل مباشر، مع ميزة حاسمة لغالي: كونه كان سكرتير عام الأمم المتحدة، وهي الميزة التي لم يحسن استثمارها في الكتاب للأسف.
فارق شاسع بدا من أول فصل في الكتاب بين المتحدثين، شيمون بيريز هو جزء من التاريخ الإسرائيلي، من الوعي العام والعقلية الجمعية الإسرائيلية منذ سنوات تكونها الأولى، أما بطرس غالي فهو منفصل بالأساس عن هذا الوعي العام والعقلية الجمعية المصرية. منذ البداية يحكي بطرس غالي عن عدم نظر المصريين بعين الارتياح إلى تولي جده بطرس غالي رئاسة الحكومة: "كيف؟ من بين 12 أو 13 مليون مصري لم نجد إلا مسيحي قادر على رئاسة مجلس الوزراء؟ مثلما حدث كان أول مسيحي يصل إلى القيادة العليا انتشرت الشبهات والأقاويل: "لقد حصل بلا شك على تأييد لندن أو الخديوي.." وفي حقيقة الأمر لم يكن جدي من أنصار بريطانيا، ولكن توجهاته كانت غربية مثل كل عائلتي." في ذات الوقت يتحدث بيريز عن شعور جمعي، شعور اليهودي الذي يزور فلسطين لأول مرة ويرى الكيبوتز، عن تجربة الجيش وفكرة الطليعة الصهيونية. وهكذا فبينما سيكون بيريز طوال الوقت مدافعا بعنف عن وجهة النظر الإسرائيلية للتاريخ والتي هو جزء منها بطبيعة الحال فإن بطرس غالي سيكون محملا بقدر من التشكك في وجهة النظر العربية له.
صورة كاريكاتيرية عن العالم العربي يتبرع غالي بتقديمها ليجعله أسير خيالاته وأوهامه الماضوية، وعن الصراع بالطبع، يتساءل المحاور أندريه فيرساي عن أسباب تحول الصراع العربي الإسرائيلي إلى الشكل الديني بعد أن كان شبه علماني فيجيب غالي: "لست متفقا معك عندما تقول أن المعركة ضد إسرائيل كان يقودها قبل ذلك علمانيون، أو إلى حد ما هكذا: لا. لقد كانت دائما مسألة دينية." أو أنه كثيرا جدا ما يجعل من نفسه ذلك الشخص الذي عرف الحقيقة من البداية، يحكي عن كونه لاحظ الخطر الأصولي فور اندلاع الثورة الإيرانية: "هذا الخطر الأصولي بدا لي دائما واضحا. لقد كان بكل تأكيد انفتاحي على الغرب وتمسكي بالعلمانية هو ما سمح لي أن أستشعر هذا الخطر أكثر من بقية أبناء وطني."
وعلى عكس غالي، الذي تأذى من إجراءات ناصر ضد العائلات الإقطاعية والذي كان صرح بعداءه للتوجهات الاشتراكية له، فبيريز هو صهيوني تقليدي، هاجر إلى فلسطين في طفولته، ليتحول إلى شخص ذي توجهات عمالية، ومثل كل تاريخ الحركة الصهيونية، تتغير حياته بشكل جذري، "لم أعد ألتزم بيوم السبت وبالطعام الشرعي (الكوشير) ولم أعد أرتدي الطاقية (الكيبا) ولا أحضر الصلاة في المعبد اليهودي كل صباح. وبدأت أمارس الرياضة حيث إن التربية البدنية كانت من العوامل المهمة في العقيدة الصهيونية التي كانت تنوي إعادة تشكيل اليهودي الديد. حتى حواراتي مع أصدقائي تغيرت. فلم تعد تدور حول غير اليهود الذين يثيرون خوفنا. هؤلاء استبدلنا بهم العرب." ينضم بيريز إلى الهاجاناه في سن الخامسة عشر ويصبح ما سمي في وقت ما باليسار الصهيوني، ليبدا صعوده نحو قمة السلطة في إسرائيل، عبر مروره بمصهر الجيش طبعا.

ناصر وملامح الزعامة
ينكر شيمون بيريز احداث التطهير العرقي التي ارتكبتها الصهيونية عام 1948، يعيد سرد خطاب الضحية قيام إسرائيل، يذكره بطرس غالي بما اعترف به المؤرخون الجدد من مذابح التطهير العرقي ابان قيام الدولة ودير ياسين فما يكون من بيريز إلا أن يعتبرها "استثناءات فريدة تؤكد القاعدة"! فجأة نجد أنفسنا أمام صعود ناصر للسلطة في مصر، هل نظر له الإسرائيليون في البداية بتعاطف؟ يقول بيريز: "بدا لنا في البداية رجلا له ملامح الزعامة، يهتم برفاهية شعبه، واعتقد بن جوريون أنه سوف يكون علينا التعامل معه وربما أيضا التوصل إلى سلام، ولقد حاول في أكثر من مناسبة الاتصال بالريس خاصة من خلال تيتو الذي اقترح عليه بن جوريون تنظيم لقاء. ولكن رد تيتو كان بالرفض القاطع."
مع ذلك، فلإسرائيل، من وجهة نظر بيريز، أسباب جيدة للمشاركة في العدوان الثلاثي، هي التي خافت من إغلاق عبد الناصر مضيق تيران أمامها، ومن التقارب بين مصر والاتحاد السوفيتي، ومن الهجمات الفدائية ضدها التي كانت تتم من غزة، والنهاية تحددها إسرائيل بأنها انتصار. يقول بيريز: "ناصر فقد سلاحه، ونحن لدينا 4 آلاف أسير، ولقد دمرنا قواعد الفدائيين، وبكل تأكيد، قضينا على حصار مضيق تيران. ماذا تعني بقولك: أصبح "زعيم بلا منازع" إن كان هذا الزعيم قد تعرض لتوه لهزيمة عسكرية شديدة؟ ولم تكن مزاعم المصريين إلا كلمات، وانتصار ناصر ظل انتصارا بلاغيا محضا."
يتفق الاثنان على شيء واحد: اندفاع ناصر كان وراء حرب 1967. يدلي غالي بالملاحظة فينتهزها بيريز ليلقي موعظة طويلة حول جنون الطغاة. في 3 ساعات تدمر القوات الإسرائيلية ما يقرب من 500 طائرة مصرية، ولكن خلال اليوم الأول لا يعلم أحد بحقيقة الوضع، يفضل موشيه دايان الاحتفاظ بها سرا. وبالإضافة إلى تصريحات النصر التي كانت تبث من القاهرة، فلسوف يصدق العالم بالفعل ليوم واحد أن ثمة انتصارا عربيا كبيرا. لحظة فاصلة تحدث عندما تتدخل الأردن في الحرب، يسأل فيرساي: "دخول عمان الحرب أعطاكم الفرصة الفريدة لغزو مدينة القدس القديمة؟" فيجيب بيريز: "هذا أكيد. وإن كان ذلك لا يعني أننا نحن الذين فجرنا العدوان. ولكن بالطبع، طالما تعرضنا لهجوم فلم يكن من الممكن ألا نرد." تولد عن احتلال الضفة مشكلة المستوطنات، والتي صارت هي المشكلة الأكثر خطورة حتى اليوم. أيد شيمون بيريز في فترة من فترات حياته الهجرة اليهودية إلى القدس الشرقية، كما يواجهه أندريه فيرساي. يجيب: "لا. لقد كنت أؤيد زيادة عدد السكان اليهود الإسرائيليين في القدس عامة ولكن ليس المدينة القديمة بشكل خاص."

الوجوه المتعددة للسادات
يظهر السادات. يبدو بشكل ما رئيسا مؤقتا. لا ينكر كل من الاثنين رؤيتهما هذه، برغم أن السادات بشكل ما، كان هو البطل الطيب الوحيد في الكتاب والذي لم يختلفا عليه. يقول غالي: "يجب القول أن النخبة المصرية وحتى حرب أكتوبر، لم تأخذه مأخذ الجد بسبب الصور العديدة التي كان يعطيها عن نفسه." ويستدرك بيريز: "ولكن كان علينا رغم كل شيء أن نلاحظ تغييرا كبيرا في سياسته: تقربه من الأمريكيين والأوروبيين والغربيين."
يستطيع السادات أن يفجر حربا ستبدو دائما وكأنه انتصار في البلاد العربية غير أنها لن تبدو كذلك في إسرائيل. تنتهي الحرب بشبه انتصار مصري وشبه هزيمة إسرائيلية، حسب الوصف الذي اتفق عليه الثلاثة، غالي وبيريز وفيرساي. يبدو بطرس غالي بكامل لياقته في الكتاب وهو يتحدث عن المفاوضات المصرية الإسرائيلية في كامب ديفيد، وعن رحلته مع السادات إلى القدس. تبدأ القصة عندما يتصل به حسني مبارك نائب الرئيس في ذلك الوقت طالبا منه إعداد خطاب السادات في القدس، يقضي يومين في إعداد الخطاب. في النهاية يتصل به مبارك، يعتذر غالي عن تأخره ولكن مبارك يبادره بأنه تم تعيينه بقرار رئاسي وزير دولة للشئون الخارجية ووزير خارجية بالإنابة. وأنه بهذه الصفة سوف ينضم إلى الوفد الذي يرافق الرئيس في إسرائيل غدا. في القدس الجميع متوترون. غالي: "لم يكن سهلا في هذا السياق، مضغوطا في سيارة، أن أقيم حوارا بدون أن يبدو مصطنعا.... بعد كسر الثلوج، تحدثت مع دايان عن اهتمامي الشخصي والعميق إزاء القضية الفلسطينية، قضية عكفت على دراستها منذ وقت طويل.. ويبدو أن الحديث عن القضية لم يرق لمحدثي الذي بدا أنه لم يكن راغبا على الإطلاق في رؤية مصر تتدخل في مشكلة في نظره لا تعنيها على الإطلاق."
فوجئ غالي بخطاب السادات في الكنيست. لم يكن هو الخطاب الذي قام بصياغته وإنما صاغه له موسى صبري رئيس تحرير الأخبار آنذاك. وأكد فيه على قراره بالحصول على كل الأراضي التي احتلتها إسرائيل. فيما بعد سيحكي عيزرا وايزمان أنه أثناء استماعه إلى السادات أرسل بورقة إلى رابين قال له فيها أنه يجب جديا التفكير في تعبئة جنود الاحتياطي. غير أن شيمون بيريز فهم فيما بعد أن هذا الخطاب كان موجها للعرب الذين قاطعوا السادات وليس للإسرائيليين.
يضيف بيريز: "أما بالنسبة لبيجين فلم يقم بإعداد خطابه ولذلك ألقى خطابا أشارك بطرس الرأي في أنه كان ضعيفا جدا ولا يصل إطلاقا إلى مستوى الموقف". وهو ما يبدو أنه أغضب السادات وأقام حواجز نفسي عديدة بين السادات وبيجين. لن تستمر هذه الحواجز طويلا. فيما بعد سيجهد بطرس غالي لكي يحاول إقناع السادات بعدم الاكتفاء ببيجين والتقرب من المعارضة الإسرائيلية اليسارية، فكان يقول له: "سوف ترى، إنهم سوف ينسحبون من الأراضي الفلسطينية المحتلة." يضيف غالي: "بالإضافة إلى أن السادات، باعتباره رئيسا متسلطا كان يتجنب المعارضة بشكل عام. أذكر أنه في الفترة التي لم يكن فيها ميتران بعد في الحكم، أبدى لي رغبته في مقابلة السادات. وبعد عودتي إلى القاهرة، أبلغت الريس بذلك، ولكنه رفض تماما فكرة أن يستقبل زعيم المعارضة الفرنسية. "ولكن لماذا، يا سيدي الرئيس؟ لا شيء يمنع ميتران من أن يكون غدا رئيسا للجمهورية. – لأنني لا أريد أن أغضب الرئيس جيسكار ديستان." أجبته أن الأمر في فرنسا، كما في إسرائيل، مختلف عن الأمر عندنا، لن يغضب أحد إن التقيت بزعيم المعارضة. ولكن السادات أنهى الحديث بقوله: "السياسة المصرية تجري هنا. ليس في فرنسا ولا في إسرائيل."
بعد الفصل الخاص بالمفاوضات، يبدو أن دور غالي في الكتاب سيتوقف عند دور المحلل السياسي، لن يتمكن من إضافة معلومات ذات بال ليس فقط عن السياسة المصرية، ولكن، وهو الغريب، عن فترة عمله كسكرتير عام للأمم المتحدة، فباستثناء فقرات مطولة ومصاغة جيدة، استند فيها إلى تقارير الأمم المتحدة، يؤكد فيها وجهة نظره بأن مذبحة قانا كانت مدبرة من البداية وذلك ردا على الرواية الرسمية لبيريز والتي قال فيها أنها تمت بالصدفة، باستثناء هذه الفقرات لا يبدو أن عمله في مجلس الأمن سيكون مادة يمكن للكتاب الاستفادة منها.

مسيحيو لبنان وأكراد العراق
تبدأ الحرب الأهلية اللبنانية. الدور الإسرائيلي واضح ومعترف به في تأجيجها. يروي بيريز أنهم دائما ما شعروا أن لبنانا مسيحيا هو كيان يمكن التعايش معه. يزوره في عام 1974 كل من بشير الجميل وداني شمعون، وكان في ذلك الوقت وزير دفاع. يقولان له أنهما فهما درس الخلافات بين والديهما وأنهما على استعداد لأن يتحدا ويتعاونا. ولكنهما يضيفان، إنهما في حاجة إلى مساعدته لأنهما يحاربان نفس الأعداء. يجيبهما بيريز: "اسمعا، يجب أن تعلما أننا لن نذهب لنحارب بدلا عنكما. فلا تتصورا شيئا غير صحيح... ورغم ذلك، فنحن نشعر بالقلق على موقفكما، ونحن على استعداد لمساعدتكما. ولكن بقدر ما فقط، أي بتقديم النصائح وتدريب رجالكما وإعطائكما السلاح. لا أكثر. لا تتصورا أننا سوف نقوم عنكما بعملكما. ولكن إن حدث مكروه، وكنتما حقيقة في خطر الموت، في هذه الحالة، وفقط في هذه الحالة، سوف نتدخل."
لم يكن هذا الدور الإسرائيلي في تأجيج النزاعات حكرا على لبنان. في العراق أيضا تم لعب دور كهذا، بدت إسرائيل أثناء الحرب العراقية الإيرانية أنها تفضل انتصار طهران. يعترف بيريز إن تحالفا عراقيا أردنيا سوريا كان يستطيع أن يضع إسرائيل في خطر. يضيف: "ولذلك فمنذ سنوات نساند الأكراد في العراق، أقلية مضطهدة ومعزولة تتمرد ضد صدام، وذلك عن طريق إمدادهم بالسلاح وتدريب مقاتليهم وإرسال ضباطنا لتدريبهم على أرضهم، إلخ."

كان اشمئزازه واضحا
فصول طويلة من الكتاب تم تخصيصها لعرفات. غالي يعبر كثيرا عن غضب مستتر بسبب إعلان عرفات سعادته باغتيال السادات، أما الأمر لدى بيريز فهو يأخذ شكل حملة تشويه. في أواخر الثمانينيات يشارك عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة ويعلن بعدها نبذه للإرهاب واعترافه بحق إسرائيل في الوجود. ولكن هذا ليس مقنعا للإسرائيليين على ما يبدو. بيريز: "مثلما كان عليه الحال دائما، أرادت أقلية إسرائيلية أن تصدق عرفات وأعلنت أنه لابد من الوثوق بتصريحاته العامة، وبموقفه الرسمي، وألا نأخذ في الاعتبار ما يمكن أن يقوله في محادثاته الخاصة أو غير الرسمية، ولكن أغلبية الشعب الإسرائيلي اعتبرت هذه التصريحات الرسمية منافقة، واعتبرت كل ما نسمعه من الفلسطينيين في محادثات خاصة هو الحقيقة. لهذا السبب طالب دائما الليكود أن يدلي عرفات بتصريحاته باللغة العربية، لأن كل مايقوله علنيا بالعربية يلتزم به رسميا". الحملة الإسرائيلية ستأخذ كذلك شكل سخرية مكتومة. يضيف بيريز: "سألني مبارك يوما ما الذي يمكن أن يقوم به لتحسين العلاقات بين الإسرائيليين وعرفات. وأجبته قائلا: "سيدي الرئيس، يكفيك ميزانية من خمسمائة دولار شهرية تدفعها مرتب كاتب جيد يستطيع أن يكتب خطب عرفات. خمسمائة دولار شهريا، يا سيدي الرئيس، وتغير المعطيات في الشرق الأوسط."
سواء كانت هذه مجرد نكتة أم حقيقة، فإن المؤكد هو العنصرية الكامنة في مشهد مصافحة عرفات ورابين بعد اتفاق أوسلو. يتذكر بيريز: "ما لا يعرفه العالم هو أن رابين رفض التوجه إلى واشنطن، بالذات بسبب أنه لم يكن يعتزم إطلاقا مصافحة عرفات. لذلك، فكرنا في أن يقوم أبو مازن وأنا بالتوقيع. ولكن كلينتون أصر على أن يتوجه رابين إلى البيت الأبيض، فانتهى الأمر بأن رضخ رابين، ولكنه لم يقبل عن طيب خاطر. وفي أثناء المراسم رأى الجميع رابين، وكأنه يقول لا بكل جسده إلى عرفات. ثم قام كلينتون بالتقريب بين الرجلين بهدوء، من أجل المصافحة. عرفات قدم يده، ولكننا رأينا رابين يتردد. لقد بدا الأمر أقوى من قدرته عليه. كان اشمئزازه واضحا إلى حد أنني لا أعتقد أنه كان يمكن أن يخفى على الكثيرين. استمرت المصافحة دهرا، فعرفات لم يتوقف عن هز يد رابين.. وفي النهاية عندما استطاع التخلص من يده، تحول رابين ناحيتي وهمس لي قائلا: "جاء دورك، الآن." وكأنه أرادني أن أشاركه تجربة غير محتملة.
قبل أوسلو بسنوات، سيكون إسحق شامير قد جاء للسلطة. لا يبدو أن بيريز يكن له أي إعجاب من أي نوع. كان من وجهة نظره متصلبا، مثلما بالضبط كان مناحم بيجين من وجهة نظره. (يروي عن بيجين أنه جاء مصر ومعه دايان، وبينما انشغل الأخير بتأمل الطبيعة كان بيجين ينشغل بقراءة الآيات الواردة عن مصر في التوراة) سوف تكون الحكومة الإسرائيلية المشكلة في 1990 محافظة للغاية وبالتالي مغلقة أمام أي تنازلات، وهو ما سوف يثير غضب الأمريكيين، إلى حد أن وزير الخارجية جيمس بيكر، بعد أن أنهكه هذا الكم من النوايا السيئة، صاح غاضبا علنيا مخاطبا الحكومة الإسرائيلية "رقم البيت الأبيض هو 1414- 456- 202. عندما تنشدون السلام بصدق، اتصلوا بنا."

هل سيساعدك المؤتمر يا شيمون؟
وكما اشترك غالي وبيريز، كل بطريقته، في الانتقاص من قيمة عرفات، فلقد اشتركا في تقديم صورة رومانسية لاغتيال رابين. يقول بيريز عن يوم التظاهرة التي اغتيل فيها رئيس الوزراء السابق: " يجب القول أنه لم يغن أحد منا غناء جيدا، ولم نتذكر الكلمات جيدا. لذلك أعطانا أحدهم قطعة من الورق كتب عليها كلمات الأغنية. بعد الغناء، وضع إسحق الورقة في جيب سترته ثم هبط الدرج. بعد قليل، سمعنا ثلاث طلقات من مسدس. لقد قتل رابين. إحدى الطلقات نفذت إلى قلبه واخترقت الورقة التي كانت تحمل كلمات أغنية السلام." ولا يملك غالي أمام هذا الفيض الرومانسي إلا أن يزايد بدوره: "كان آخر لقاء لي معه في نيويورك في 12 نوفمبر عام 1993. تناولنا العشاء في مقر سكن السفير الإسرائيلي. في هذه الليلة، طلب مني أن ألقي كلمة ولاحظت أن رابين أبدى تخوفا مما سأقوله. ولكن خلال كلمتي، رأيته يسترخي بظهره على المقعد مسترخيا. قلت في كلمتي: "إنني أتذكر الكلمات الأولى من كتاب توماس مان "يوسف وإخوته" التي يقول فيها: "عميق بئر الزمن هذا." إنها عميقة بالفعل، آبار التاريخ في الشرق الأوسط في بداية القرن العشرين. في بداية القرن العشرين ثيودور هرتزل جاء إلى القاهرة للتفاوض مع جدي، الذي كان في هذا الوقت وزيرا للخارجية، من أجل بناء مستوطنة يهودية في سيناء. بعد ثلاثين عاما، وفي الوقت الذي انضمت فيه مصر إلى عصبة الأمم، اقترح عمي، هو أيضا وزير الخارجية، إقامة حوار بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، حتى يسود السلام أراضي فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني. بعد أربعين عاما، رافقت الرئيس أنور السادات في رحلته التاريخية إلى القدس. أتمنى ألا تأتي أجيال اخرى تضيف إلى آبار الزمن قبل إقامة سلام حقيقي في فلسطين." كان إسحق رابين مبتسما، ومناخ العشاء كان دافئا."
بعد اغتيال رابين، تبدأ الحملة الانتخابية في إسرائيل، والمرشحان المتنافسان شيمون بيريز وبنيامين نتنياهو. لا يدخر بيريز وسعا في إلقاء تهمة هزيمته في الانتخابات على عاتق "الإرهاب". يقول: " على كل حال، وبشكل حاسم، إنها الهجمات التي جعلتني أهزم في الانتخابات، لقد كان علينا إحباط ما بين 30 و40 محاولة هجوم كل ليلة. لذلك كنت مشغولا بالإرهاب أكثر مما كنت مشغولا بالانتخابات" ويضيف: " كان حزب الله يقصف القرى الإسرائيلية في الشمال. أذكر أول تلك الهجمات التي ظلت تتوالى طوال الحملة، كان انفجار حافلة في قلب القدس، أدى إلى مصرع نحو عشرة أشخاص. توجهت على الفور إلى مكان الهجوم. وصلت. كان المكان مغطى بالجثث، الجرحى كانوا يصيحون من الألم. وكان رجال الإسعاف يضمدون الجراح، كانت هناك دماء في كل مكان. جاء مئات الإسرائيليين، وعندما رآوني بدأوا يصيحون في وجهي: "خائن! قاتل! انظر ما الذي أدت إليه اتفاقات أوسلو!"
هذه أسباب متأخرة لفشله، ولكن في الحقيقة فلقد عمل بيريز على إنجاح نفسه بشتى الوسائل، ومنها مؤتمر شرم الشيخ في 1995 ضد الإرهاب. تظهر صورة بيريز في المؤتمر ويحيط به كلينتون والملك حسين وحسني مبارك و بوريس يلتسين وشيراك والحسن الثاني وعرفات ورؤساء وزراء كندا وتونس وبريطانيا وبطرس غالي أيضا. يقول بيريز: "لقد كانت بالفعل مساندة مدهشة وقيمة. ورغم ذلك لم تكن كافية." أما فيرساي فيرد عليه بأن جزءا من الرأي العام الإسرائيلي بدا أنه لم ير هناك إلا عملية إعلامية انتخابية. وهنا يتدخل بطرس غالي: " ليس فقط الرأي العام الإسرائيلي، المستشار الألماني سألك في وجودي بطريقة غير دبلوماسية تماما: "والآن شيمون، هل تعتقد أن هذا المؤتمر سوف يساعدك في الانتخابات المقبلة."
تنتهي فترة نتنياهو ويتولى باراك الحكم، وتبدأ مفاوضات كامب ديفيد. الوعود التي قدمها باراك لعرفات في كامب ديفيد من وجهة نظر بيريز سخية لدرجة عدم التصديق، وحتى وإن كان يتجاهل أن كل هذه الوعود لم تكن تعني شيئا طالما لم تكن هناك ضمانات لتنفيذها وطالما لم يتم الحديث عن المستوطنات وعن إعادة القدس الشرقية، حتى مع هذا يظل باراك مخادعا من وجهة نظره: " حتى كلينتون نفسه، دهش من كل هذا "الكرم" ولكن ذلك لم يكن من الممكن تصديقه. وفيما بعد، قال باراك أن هدفه كان نزع القناع عن عرفات. لا أعرف إن كان هذا صحيحا، إن كان كذلك بالفعل، فهو شيء مخجل، ما معنى ذلك؟ هل معناه أن عرفات يتحدث بلغة مزدوجة؟ ليكن، حتى لو كانت لغة ثلاثية، ما أهيمته؟ المسألة ليست في نزع القناع عن عرفات، ولكن التقدم في العملية السلمية."
ينتهي الكتاب بعد وفاة عرفات واندلاع انتفاضة الأقصى، هكذا، وبعد مناقشة عشرات القضايا، الخلافات الساخنة والتلميحات المسممة ومحاولات الضرب "الخطابي" تحت الحزام في مواضع عديدة، وفي تناقض مع وظيفة كتاب كهذا، الذي أتى ليس للتذكير بالتاريخ فحسب وإنما للمعرفة كذلك بالتاريخ الآخر، يقول بيريز في النهاية أن التاريخ يمكنه أن يعلم الشيء وعكسه، أما بطرس غالي فيضيف أن التاريخ هو ناصح سيء. "إن كنا نريد التقدم في طريق السلام، يجب أن نعرف كيف ننسى التاريخ قليلا."



#نائل_الطوخي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المفتي.. الأب الروحي للعصر الحديث
- شاعر إسرائيلي يدافع عن حماس: نحن عنصريون ازاء كل من لا يحمل ...
- ايلان بابيه والتغيير المستحيل من الداخل.. موسم الهجرة من اسر ...
- عبد الناصر سعى لعقد سلام مع اسرائيل قبل عام سبعة وستين
- ادباء اسرائيل يحتجون. الفنانون يتذمرون والاوتوبيسات تسخر، ان ...
- سبعة أسباب تجعلني أعشق التراب الذي تمشي عليه حماس
- وزير الثقافة الاسرائيلي، غالب مجادلة: دولتي تحارب شعبي
- في مديح أهل النار
- بعد أن فشل في العثور علي حلم وردي واحد يرفع الرأس، محمد الكف ...
- معنى أن يكون الكاتب يهوديا
- النوبة بين التوطين والتطوير: عودة الجنوبي إلى أرضه
- أوروبا .. ولاية عثمانية
- صنع الله إبراهيم: أحلم بالكتابة عن الجنس
- المدير الجديد لمعهد جوتة بالقاهرة، هايكو سيفرس: غياب الماضي ...
- في بينالي الشارقة: تضميد الواقع بيد وخدشه بالأخرى
- مسعد أبو فجر ورواية البدو: الديكتاتورية أسوأ من الاحتلال
- يوميات الكتاب في أبو ظبي
- في مديح العنصرية: النقاء المطلق لكراهية الآخر
- لمسة من عالم ميت
- جاليري آرت اللوا: محاولة لاختراق مركزية وسط البلد


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نائل الطوخي - بطرس غالي وشيمون بيريز في شهادات للتاريخ: الصراع كما يرويه المتورطون