في وهم وصف المستقبل كامتداد لماض متخيل


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 1740 - 2006 / 11 / 20 - 09:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"الوقائع كائنات مقدسة، تمارس انتقاما بشعا من الباحث الذي يتظاهر أنها غير موجودة". قول لواحد من أكبر مؤرخي اليونان القديمة، دو لاكروا، أتذكره على الدوام لكثرة ما تستخدم الوقائع التأريخية مشوهة، أو مزيفة، أو خارج سياقها لإثبات مواقف سياسية أو فكرية جاهزة أصلا في ذهن كاتبها. لست أتحدث هنا عن سياسيين، أو صحافيين أو كتاب يتعمدون تزييف وقائع التأريخ، فهذا هو النوع الأكثر سهولة للكشف والفضح. أنما يعنيني استسهال بعض الكتاب إقامة علاقات سببية بين ظواهر مترافقة زمنيا، لكن البحث الجدي يتطلب أكثر بكثير من مجرد رصد تزامن الظواهر مع بعضها. كأننا نرصد تناسب حمل الناس للمظلات مع المطر، فنستنتج أن المظلات تسبب سقوط المطر، أو العكس!!!
إلى ماقبل ثلاثة عقود من الزمن، كان من المألوف أن تجد في دراسات "رصينة" لكتاب مرموقين في العلوم السياسية تفسيرا يقارب البداهة يقول أن خضوع إسبانيا والبرتغال في أوربا، والفلبين في آسيا، والغالبية الساحقة من بلدان أمريكا اللاتينية إلى أنظمة حكم دكتاتورية "أمر طبيعي"، ذلك أن شعوب تلك البلدان جميعا تدين بالمذهب الكاثوليكي، وهو مذهب يتناقض مع الديمقراطية. قارنوا هذا القول الذي لو أثاره أحد اليوم لبات محط سخرية جماعية، مع الحديث الشائع، حتى بين مسلمين، عن علاقة الإسلام بالديمقراطية والتخلف.
هل قلت التخلف؟ هنا مثال حقيقي آخر: ثمة بين منظّري التطور من يقول أن الديانة الكونفوشية السائدة في أصقاع واسعة من شرق آسيا، بتقديسها للتراتبية والإنضباط، هي ما يفسر احترام تلك الشعوب لقيم العمل، وبالتالي تطورها العاصف. إنما ينسى هؤلاء المنظرون أن الكونفوشية بالذات، كانت إلى ماقبل أربعين عاما تستخدم لتفسير تخلف شرق آسيا، باعتبارها دينا يدعو الفرد للخضوع إلى الجماعة، قاتلا بذلك المبادرة والطموح الفرديين اللذين هما أساس التقدم الغربي.
إن كان الباحث في تأريخ اليونان القديمة قادرا على الفكاك من أسر منظوره المعاصر وعواطفه الآنية، فهل بوسعنا أن ننتظر من دارس الأوضاع المعاصرة ألا يتخيل أن الظواهر التي يراها مترافقة، أو الوقائع التي يقع على أجزاء منها، ليست متلازمة بشكل سببي؟ بل هل بوسعنا أن نطالبه بأن يكون منفتح العقل حين يتعلق الأمر بمراجعة نصوص آيديولوجية عن مجتمعاتنا قدمها لنا حكامنا على أنها حقائق مطلقة؟
منذ حوالى عقد من الزمن، بات اسم لندا كولي للمختصين في فروع عدة من العلوم الإجتماعية أشهر من أن يعرّف مقترنا بالوظائف الأكاديمية التي تولتها أو تتولاها الآن. يكفي أن تقول أنها مؤلفة كتاب "بريطانيون: صهر أمة 1707-1837"، الصادر أوائل التسعينات. فما الذي يمكن لكاتب أن يضيفه حول موضوع كتبت عنه آلاف (وربما عشرات آلاف) الكتب، سيتساءل القارئ؟
إطروحة كولي تصدم الذين يرون إلى الأمم: نشوؤها وصيرورتها ومستقبلها كوقائع "طبيعية" كامنة في تماثلات قائمة منذ الأساس بين بشر يقررون أنهم ماداموا متماثلين، فإن عليهم التوحد في كيان سياسي واحد هو الدولة القومية.
تبحر بنا المؤلفة في الوقائع السياسية والثقافية والإقتصادية لتبين كيف أن ثلاث أمم متنافرة: الإنكليز والويلزيين والإسكتلنديين، يتحدث كل منها لغة مختلفة عن الأمتين الأخريين، وينحدر أبناء كل منها من أصول أثنية مختلفة عن أصول الأمتين الأخريين، وينحاز أبناء كل منها إلى أطراف سياسية تختلف عن الآخرين، انصهروا في مجرى عملية تأريخية معقدة فيما بتنا نسميه "البريطانيون". عملية معقدة لم تكن مخططة سلفا ولاكانت نتائجها محسومة منذ البدء. وتستثني المؤلفة هنا المكون الرابع للملكة المتحدة: أيرلندا الشمالية التي لم تندمج حتى اليوم في النسيج الإجتماعي لبريطانيا.
فكرتان رئيستان تميزان، في رأيي، هذا العمل المبدع. أولاهما أن اختراع العناصر الموحدة للأمة البريطانية (ولا أقصد بالإختراع: إفتعالا كاذبا، إذ مالم يشعر الأفراد العاديون بأن ثمة مايجمعهم، فليس بوسع أية ماكنة سياسية أو فكرية فرض العلاقة الجامعة عليهم) تم من خلال صراع عنيف لعب فيه الإنتماء البروتستانتي لغالبية أبناء الشعوب الثلاثة (والسحق والتهميش والتحقير للكاثوليك وغيرهم) الدور الأبرز إذ كانت بريطانيا تجابه فرنسا الكاثوليكية كعدو تقليدي. أما الفكرة المبدعة الثانية في العمل فهي أن الكاتبة لا تعتبر أن ما تحقق في الماضي ضمانة لإستمرار الوحدة في المستقبل. فلئن انشدّت لحمة شعوب ثلاثة في عصر الحروب الدينية والمواجهات الأوربية، فإن الكاتبة لا تتوقف عند عاطفتها القومية "البريطانية"، بل تتساءل إن كان ثمة ما يبرر استمرار هذه الوحدة بعد قيام الإتحاد الأوربي وانتهاء الصراعات القومية الأوربية. أكثر من هذا فإن تساؤلاتها توحي بجواب ضمني يرجّح النفي، لاسيما بالنسبة لأسكتلندا.
كتاب كولي، وأعمال حديثة أخرى تتناول نشوء وتطور ومستقبل الأمم التي يتخيلها بعض كتابنا أحجارا صوانية، لابد وأن تحرّك في القارئ المبتلي بتعميمات رثّة عن بلداننا وصيروراتها أسئلة وشجونا، لاسيما حين تحاصرنا يوميا أخبار الخطط المعادية لتقسيم بلداننا، كما لو كانت الأخيرة جثثا تنتظر سكين الجزار، فلا ديناميات أو آليات داخلية تسهل أو تسرع التجزئة، ولا أسئلة عن مشاعر إبن دارفور أو الجنوب السوداني وهو يذبح ويباد باسم الوطنية، ولا إشارات إلى موقف إبن منطقة الجزيرة السورية (منتجة القمح والنفط لسوريا) التي تعيش على هامش حياة البلد، ناهيك عن الكردي الذي باتت مآسيه السابقة ملء السمع والبصرـ وإن كان كثيرون يفضلون، حتى اليوم الحديث عن "مزاعم الكرد" أو عن "وقوفهم بوجه الوحدة الوطنية".
تذكرت، وأنا أقرأ كتاب كولي، كيف أن أرنولد ولسن، الحاكم العسكري البريطاني للعراق عام 1920 والذي كان معاديا لمنح الشعب الكردي حقوق الحكم الذاتي، ناهيك عن الإستقلال، شبّه الخلاف بين الكرد والعرب في العراق بالخلاف بين الإنكليز والويلزيين: "إنهم يتماحكون ويتنافسون على الدوام، ويتباهى كل منهم بتفوقه على الآخر، لكنهم في الواقع لايستطيعون العيش منفصلين". أتمنى أن يكون كلامه صحيحا بعد خمس وثمانين سنة شهد كل من الشعبين خلالها ما شهد من أهوال.
لكن السؤال/الأسئلة الأهم التي يخرج بها القارئ لدراسات مبدعة كهذه هو: أيجوز لنا أن نظل منكفئين في معالجاتنا لمصائر بلداننا في مواقف جازمة بائسة من حيث قيمتها التحليلية، أو قدرتها التنبؤية؟ مواقف يزهو حاملي أحدها بالقول: نحن بلد عمره سبعة آلاف سنة ظللنا خلالها موحدين، فمن بوسعه أن يفرّقنا؟ ويقف آخر عارضا "اكتشاف" بات موضة مذ دخل العراق أزمته السياسية الكبرى إثر حرب 1991: العراق دولة مصطنعة أنشأها الإنكليز عبر لصق ثلاث ولايات متنافرة. ويتناسى حملة الموقف الأخير، بالطبع، أن يشيروا إلى "براءة اختراع" فكرة الدولة المصطنعة التي يجب أن يشكروا المدرسة القومية العربية عليها، فهي التي ربتنا (أو أساءت تربيتنا) على أن دولنا مصطنعة، لأن الكيان الطبيعي يمتد من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.
أين من يحلل مايجري اليوم على أرض الواقع من دون أن يبدأ بالأعداء ومخططاتهم، ليدلنا إن كان أبناء البلد وقادته أنفسهم يسرعون من تحلله أو تماسكه؟
-------------------------