عن العقل القومي ومظلومية الأمم


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 5454 - 2017 / 3 / 8 - 07:56
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير     


تغويني رؤية الرئيس ترمب القومية بالعودة إليها من منظور مختلف هذه المرة إذ أحاول وضعها في سياق تاريخي. أقنع ترمب ناخبيه بأن أمريكا أصابها الوهن. منطق ترمب بسيط يدغدغ مشاعر المواطن البسيط: وهن سببه ابتعاد المؤسسة السياسية الحاكمة في واشنطن عن هموم المواطن البسيط وتركيزها على ودّية العلاقات مع العالم مضحّية بذلك بالمصالح الوطنية. انخراط أمريكا في تيار العولمة الذي يقتضي حرية التجارة وانتقال رؤوس الأمال جعلها بلدا خاضعا لإستغلال الصين والمكسيك وغيرها من الدول التي أغرقت أسواقنا ببضائع رخيصة الثمن. وتيار العولمة هذا جعل معظم المؤسسات الصناعية الأمريكية الكبرى لا تلتفت إلى المصلحة القومية حين يتعلّق الأمر بتعظيم أرباحها إذ انتقلت إلى الخارج ملقية بالملايين من مواطنيها في أحضان البطالة.
هنا يكمن الإغواء. فلو استبدلنا أسماء البلدان الظالمة والمظلومة وأسباب الظلم ودور من يساعد الظالم على ظلمه سنجد رئيس أثرى وأقوى دولة في العالم يفسّر العالم كما فسّره سياسيونا ومنّظرونا. يصف ترمب حال بلده كما وصفت نظم تعليمنا تاريخ شعوبنا وأسباب أنحطاطها ولكن بالمقلوب. وتلك لحظة فريدة في التاريخ الحديث.
بريطانيا وفرنسا وأمريكا هي الإستعمار كما عرّفناه وتشبّعت به عقولنا منذ الصغر وصار مبرّر عدائنا التاريخي للغرب. تنظير غزا العقول والقلوب منذ خمسينات القرن الماضي على الأقل وصار المرتكز الأساس لعشرات النظم التي حكمت ثلاث قارات وكان أحد روّاده النظام الذي أرساه الراحل جمال عبد الناصر. تنظير يقول أن الإستعمار أغرق أسواقنا ببضائع رخيصة دمّرت حرفنا وصناعاتنا وتسبّبت في إلقاء ملايين الحرفيين والصناعيين الصغار في أحضان الفقر والبطالة. تقدّمه هو سبب تخلّفنا وتخلّفنا هو سبب تقدّمه. لامجال هنا لعرض الأبحاث التي أدانت وحشية الإستعمار لكنّها بيّنت في الوقت نفسه أن هذا التفسير لايصمد أمام التدقيق التاريخي قدر ما يتجاوب مع الشحنات العاطفية المسبقة لدى متلقّيه.
ترمب صار ماوّيا (نسبة إلى ماو تسي تونغ) الذي نقّح شعار ماركس "ياعمّال العالم، اتّحدوا" وحوّله إلى شعار "ياشعوب العالم الفقير، اتّحدي" معلنا أن التناقض الأساس في عالمنا هو بين الشعوب الفقيرة والشعوب الغنّية. الصين والمكسيك صارتا الدولتين اللتين ستستعمران أمريكا إن لم نضع لغزوهما حدّا.
ومثلما مثّل رأس المال الصناعي الأمريكي بالنسبة لترمب الطرف المحلي الذي سهّل غزو الإستعمار لبلده، أعلن ماوتسي تونغ الحرب على "الكومبرادور" أي التجار الذين تخصصوا في استيراد البضائع الغربية سعيا وراء الربح السريع فأغرقوا السوق الوطنية بالسلع الغربية ودمرّوا اقتصاد الصين.
تجنّب ماو الإجابة على سؤال لابد وأن خطر على باله: لماذا نجح المستعمرون في تدمير الإقتصاد الصيني، وهم لعبوا دورا تدميريا بالفعل، وعجزوا عن ذلك في اليابان المجاورة؟ وتجنّب ترمب الإجابة على سؤال لماذا تنجح الصين في إضعاف الصناعة الأمريكية ولا تنجح في إضعاف صناعة كوريا الجنوبية القريبة منها أو في إضعاف الصناعة الألمانية وكلاهما أقل تطوّرا بكثير من مثيلتهما الأمريكية؟
ليس ترمب ماوّيا، ولا ماو هو السبّاق إلى صياغة نظرية الأمم التي تغتني عبر إفقار أمم أخرى. لا أقصد مماثلة النظم السياسية الإقتصادية بالتأكيد، لكننا نجد أصول هذه النظرية في النازية وتحديدا في النظرية التي بلورها الأخوان شترايسر وتبنّاها هتلر في إنجيله "كفاحي". تمييز نظرية الأخوين شترايسر عن أفكار هتلر مهم هنا مع أنّهما احتلاّ مواقع مهمة في الهرم النازي. ثمة تطابق مذهل بين نظريتهما وبين نظريات ماوتسي تونغ ونظريات التحرر الوطني. إذ لم يدع هذان إلى مطاردة اليهود بوصفهم عرقا غير آري، كما نظّر هتلر، بل بوصفهم ممثّلين لرأس المال المالي الذي تنبغي محاربته لأنه يشلّ رأس المال الصناعي المنتج. كانت نظريتهما تقول أن النازية لا تختلف مع الماركسيين حول فكرة الصراع الطبقي لكن الأخيرين "لايدركون" بأن الوضع الراهن في ألمانيا يجعلها أمة بروليتارية تصارع طبقيا أمما رأسمالية. هنا يصبح اليهود مقابلا للكومبرادور في نظرية ماوتسي تونغ ولأرباب الصناعة الأمريكان في نظرية دونالد ترمب.
الفكر القومي يصوّر الأمة ضحية. ولكن ليس ثمة قائد قومي نجح في إثارة جمهرته بالإكتفاء بالشكوى التي تظهره ضعيفا. تفسير الإستغلال والشكوى من الإضطهاد هو شغل المنظّرين لإن النظرية مرادف للعجز. أما القائد فهو الذي يترجم الحكي إلى فعل. على امتداد التاريخ كان ثمة سيل من الكتاب والإعلاميين والمنظرين وأشباههم يتولّون الحقن المكثّف للعقل الجماعي بالشعور بالظلم ليدخل القائد إلى المسرح بوصفه منقذ الأمة التي أصابها الوهن واستغلّها الآخرون. والمفارقة أن معظم من نظّروا للنظم القومية كانوا يبشّرون بالقائد القوي الذي ينهي عهد التنظيرمدشّنا عهد الفعل. التنظير القومي يحتقر نفسه ويحتفي بالفعل الحسم. هكذا تتحول العدوانية التي يحتويها الفكر القومي إلى قوة تدميرية في التطبيق إذ يحدّد القائد عدو الأمة وفقا لما يرى فيقتنع أتباعه بأن المفاوضات والدبلوماسية من شيم الضعفاء وأن لدى القائد وسائل حسم تخرق المألوف. وخرق المألوف هو ما يضفي هالة على الزعماء القوميين بين جمهورهم. وغالبا ما نجحت النظم القومية في تحقيق نتائج إيجابية يحسّها المواطن العادي في المدى القصير لكن الدمامل التي تزرعها تلك الحلول سرعان ماتنفجر لتغرق الجميع. وهذا هو الثمن الذي دفعه الألمان والعراقيون والشعوب التي تعرّضت لعدوانهم في ظل سيادة النازية والبعث، ويلات تركت بصماتها على المجتمعات حتى بعد سقوط النظامين وأنظمة أخرى مشابهة.
عدوانية وشعبية القوميين الصاعدين لا في أمريكا وأوربا فحسب بل في روسيا والهند وإيران وتركيا وغيرها ستلقي بظلالها على حياتنا بهذه الدرجة أو تلك. بشاعات الصراعات الدموية بين الدول الكبرى باتت شبه مستحيلة في العصر الراهن. لكن ظاهرة انبعاث النزوع القومي في عالم يتعولم هي بحد ذاتها واحدة من مفارقات التاريخ. ولئن انطوت صفحة الحروب القومية بين الدول المتقدمة بعد أن خبرت شعوبها عبثيتها فإن الحروب الداخلية الدموية في بلداننا تتغذّى وستتغذّى على التنافس القومي بين تلك الدول حتى وإن كانت جذور حروبنا تضرب في بنى مجتمعاتنا المتعفّنة.
سندخل التاريخ كما دخلته هوية القبيلة وستدخله هويّات الطوائف والأديان. نسخر اليوم من مجتمعات قائمة على كيان القبيلة التي يتضامن أبناؤها ويحرّمون عدوان أحدهم على الآخر ويحللون العدوان على القبائل الأخرى ويمجّدون الإنتصار عليها. ونفخر بأن العالم الحديث يقوم على كيان الفرد الذي ينخرط في علاقاته مع الآخرين متكافئا معهم أيا يكن انحداره العرقي أو الديني أو الطبقي. وسيسخر القادمون من البشر من أجدادهم الذين كونوا جماعة إسمها القومية ترسم خطوطا تحيط بهم وتسمّيها الوطن على من يريد دخوله حمل كرّاس كانوا يسمّونه جواز سفر. سيستغربون من أنهم كانوا يحرّمون عدوان أحدهم على الأخر ويحللون العدوان على الأوطان الأخرى ويمجدون من ينتصر عليها. وسيفخرون بأن الفرد صار ينخرط في علاقاته مع الآخرين متكافئا أيا يكن انحداره الوطني.
وبما أن الهوّية لاتتعرّف أو تتكون إلا في مواجهة هوية أو هويّات مختلفة، فلعلّ ترسّخ الهوية العالمية ينتظر مجابهة البشر لهويّة مقابلة أخرى هي هوية سكّان الكواكب الأخرى. من يدري؟