جلال الماشطة الذي غادر ولم يغادر


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 5152 - 2016 / 5 / 4 - 09:37
المحور: سيرة ذاتية     


سيسخرُ جلال منّي لو عرفَ أنني ألقي كلمة في رثائه.
جلال يكره الطقوس.
يعرفُ أن المشاعر، حزناً أو فرحاً، حبّاً أو كُرهاً، تقاربُ الزيف حين يتم التعبير عنها بعباراتِ الإنشاءِ الباردةِ الصالحةِ لكل
ظرف والمستخدَمَة لتهنأةِ وتعزيةِ من نريد.
في مناسبات جليلة تذكّر بفقيد يعزّ علينا كان يلتفت إليّ كاتما ابتسامةً ساخرةً حين تقصفنا عباراتُ التفخيمِ والتقديسِ للراحلِ الذي ربّما كان أقرب لنا من قربِهِ للخطيب.
جلال المولع بالأدب الروسي الكلاسيكي، بسخرية تشيخوف من النفاق والإبتذال، ينفرُ من العواطفَ البلاستيكية. لم يتعلّم من تشيخوف هذا النفور. يبدو لي أن نفورِه الفطري من الزيف هو الذي أولَعَه بالأدب القاسي في صراحته ونقدِه.
*****
فلماذا أقف أمامكم الآن وقد قلتُ ما قلت عن كرهِ جلال وكرهي لطقوسِ الرثاء؟
أعترفُ لكم بأنني كنت أنويَ أن أختزن الحزن لنفسي، بالضبط كما فعلتُ حين عرفت بوفاة أبي وأمي.
ولعلّ بعضُكُم لاحظ أنني لم أكتب نعيا لجلال على توتر أو الفيسبوك. أحسَستُ أنني ساؤدي واجبا.
أظنّ أنني لم أكتبَ نصَّ نعي تحريري طوال حياتي إلاّ لإثنين قبل جلال: لأستاذي محمد سلمان حسن، أبرز اقتصاديي العراق الذي مات ميتة بشعة على يد البعث ولماريون سلغلت، التي ربّما يعرف بعضكم اسمها، واحدة من أبرز الأكاديميين الذين قضوا حياتهم في دراسة عراق البعث والنضال ضدّه.
لولا فارس ....
فارس الذي لابدّ أنكم شهدتم الليلةَ نفورَه، هو الآخر، من طقوسِ العزاءالمقولبة.
فارس، الذي ظل كثيرون لايعرفون إن كان لجلال إبن بهذا الإسم أطلقه عليه تيمّنا باسم إخيه، أم أن اسم "أبو فارس" هو إشارة إلى شعور إبوّة تجاه أخيه الأصغر.
*****
9 شباط من هذا العام:
"آني إنعام، جلال كلّش مريض صارله تلاث أسابيع بالعناية يحتاج دعواتكم"
كان هذا جوابا على واتس آب أرسلته قبل يوم: 8 شباط
"يا أخي، كل شويّه أنتظر تطلع الإشارة الزركة اللي تبيّن إنك فتحت الواتس آب
زين، دبعثلي جواب وطمّني
حبّيت أهنّيك بذكرى عروس الثورات!!!"
كنت، كالعادة، أتمازح معه: ذكرى إنقلاب البعث الدموي.

اكتشفت أنني كنت أخاطب نفسي منذ ليلة رأس السنة، أو أنني كنت أخاطب إنعام طوال أكثر من شهر: تعليقات ساخرة عن الوضع في العراق، نكات وكاريكاتيرات أعتذر لإنعام إن كان بعضها يخدش الحياء قليلا!!
هكذا كان الحال منذ لقائي الأخير به في الصيف الفائت هنا.
ماذا تفعل حين تكتشفُ أن واحدا من أعزِّ أحبَّتك يعاني من عرضٍ لا يوحي بخير؟
لا أستخدم عبارات التطمين التافهة حتى مع معارف. فكيف أستخدمها مع متوقّدِ ذهنٍ لا بدّ أن تكون عبارات كتلك نذيرَ شؤم له؟
لأتعامل معه، كما أود أن يتعامل الآخرون معي لو مررت بحال كهذه:
أسمع منه عن تطوّرات وضعه، يحدّثني عن قلقِه ومخاوفِه، اؤيدُه عوض استخدام تعابير بليدة من نوع " ما يصير تقلق". نتحدّث عن الكآبة التي لابد وأن تصاحب قلقَه وأقترح عليه أن يرفق علاجه بعلاجات تهدِئة نفسية.
لكنّنا كنّا نعرف أننا نتحايل على الموت.
في داخل جلال شخصية طفل مشاكس، أتردّد في القول أننا نتشارك فيها.
ثم ننتقل إلى النكات، إلى السخرية.
يطلب منّي إرسال مقالات. يعلّق على مقال كتبتُه. يتابع ما يجري قدر ما يستطيع.
ومن دون فريد أطرشيّات، أفكّر منذ أشهر: لديّ كمٌ هائلٌ من النكات تصلني عبر الواتس آب يا أبو فارس، لا أعرف لمن سأحوّلها!


جلال الماشطة ينتمي إلى جيل كنّا نغبطه إعجابا، نحسده ونحذره في الوقت نفسه.
لم يكن الفارق جيلا في الواقع، بل سنوات. ولكن أن تكون راشدا وناشطا عند منعطفات كبرى في العراق مثل 14 تمّوز 1958 أو 8 شباط 1963، غير أن تكون صبيّا عند ذاك حتى لو كان الفارق بين الإثنين يقل عن عقد.
كان ثمة مسافة تختلط بها هالة البطولة التي أحطناهم بها بالحذر من كونهم متكلّسين. كان ثمة إعجاب بهم وغيرة منهم لأنهم يتحدّثون عن قادة إسطوريين كأشخاص من لحم ودم عاشوا معهم ويتحدّثون مع القادة الحاليين بتباسط ونفور منهم لأنهم عايشوهم قبل أن يصبحوا قادة.
كان جلال الماشطة واحدا من هؤلاء حين تعرّفت عليه في المؤتمر التأسيسي لرابطة الكتّاب والفنّانين والصحفيين الديمقراطيين العراقيين في سوق الغرب بلبنان عام 1980. مناضلون ومثقّفون نعرف أسماءهم ولكن لا نعرف الكثير عن نتاجاتهم بسبب منعها حين كنّا في العراق.
سيعرف جيلُنا هذه الشعورُ بالمرارةِ عام 2003 حين عدنا إلى بغداد. مناضلون ومثقّفون يعرف البعض أسماءنا (وكثرة لا تعرفها أصلا) لكنهم لا يعرفون عنّ نتاجاتنا أو يعرفون القليل منها.
*****
لستم، ولا جلال، ولا أنا معنيين بسرد مملّ: متى تعرّفت على الفقيد؟ كيف كانت علاقتكما؟ ما هي المراحل... إلخ
صرنا أصدقاءا بعد سقوط البعث فقط.
في فوضى ما بعد 2003 وفي بغداد التي تعجُّ شوارعها بالعصابات السائبة، كان جلال، وكنّا، نمتلئ حماسا. نحسّ أن الوقت قد حان لبناء عراق أطبق ليل الإستبداد عليه طوال عقود.
قبلها، كان جلال في موسكو مديرا لمكتب صحيفة "الحياة" الصحيفة العربية الأكثر أهمية. من يتذكّر تلك الفترة يعرف تحدّي تغطية أحداث الفترة الأكثر خطورة في تاريخ هذا البلد. بدأ جلال عمله الذي استمر أربعة عشر عاما في الإتحاد السوفييتي وغادره وقد تغيّر كل شئ فيه، حتى اسمه. ابتدأ حين كانت مرحلة البرسترويكا والغلاسنوست تلفظ أنفاسها، والصراعات داخل الحزب الشيوعي الحاكم على أشدّها والمخابرات تخطّط للإنقلاب والبلد يتفكّك. ولم يكن التحدّي الذي واجه جلال يتمثّل في تغطية تلك الأحداث فقط، بل أن يغطّيها بمهنية وهو يتبنّى مبادئ وقيم التقدم والعدالة الإجتماعية.
في فوضى ما بعد 2003، كانت محطّة جلال الأولى صحيفة "النهضة" التي ترأّس تحريرها. بغداد الفوضى آنذاك كانت بغداد الأمل أيضا. أكثر من مئة وأربعين صحيفة يومية صدرت في مدينة تحاول استنشاق طعم حرّية حُرمت منها. إصدار صحيفة يومية تستطيع أن تشقّ طريقها وسط هذا الكم الهائل كان تحديّا ثانيا لجلال يفوق تحدّي موسكو بكثير. أذكر دأبه في البحث عن صحفيين محترفين وسعيه لإستكتاب مثقفين سعيا منه إلى ألاّ تكون "النهضة" بوقا للحركة التي أصدرتها وهي الحركة التي كان يقودها الدكتور عدنان الباججي.
كان جلال من بين كثرة من المثقفين الديمقراطيين العلمانيين يحاول بناء حركة تستطيعَ أن تكسب لها موقعا يواجه مد الإسلام السياسي الذي طغى ومازال على حياة العراق، لكنّه ميّز نفسه عن الحركات اللبرالية الأخرى التي انضمّت إلى حركات الإسلام والتي جذبت قطاعا من العلمانيين انضمّوا إليها لأسباب مختلفة.
تضامنّا مع حركة عدنان الباججي بدرجات مختلفة وحافظنا على استقلالية الموقف في آن. لم يكن جلال من أولئك الذين يرددون أقوال القائد ويتصرّفون كجنود مطيعين. وسأكشف لكم، أنه حافظ على موضوعيته واستقلاليته بشكل مثير للإعجاب في عام 2004.
في ذلك العام، كنت المستشارا العراقي الوحيد للسيد الأخضر الإبراهيمي مندوب أمين عام الأمم المتحدة لنقل السلطة من الأمريكان إلى العراقيين. كان جلال من بين أهم من استشرتهم في الأسماء التي يقترح أن أطرحها على لتولّي المناصب الوزارية. كنّا نتمازح: يابا، لا أنا مس بيل ولا حتّى الإبراهيمي الذي يعتقد أنه مس بيل في حين أن شأن الإنتقال كان في يد الأمريكان إلى حد كبير.
تجلّت موضوعية جلال في تقديره الصائب بأن الباججي لا حظوظ له في تولّي منصب رئاسة الجمهورية وكذلك الحال فيما يتعلّق بصديق مشترك نحمل له احتراما لتولّي منصب رئاسة الوزارة. واقترح عليّ نقل هذا الرأي، الذي شاركته فيه، إلى الإبراهيمي.
وهكذا كان الحال، إذ باتت مقادير العراق في يد حزب الدعوة وهو مالم يفاجؤنا.
ما فاجأني، أن جلال لم يفقد حماسه قط. ظل متشبّثا حتى النهاية بأن ثمة ما يمكن أن نفعله. تفاؤل غادرني منذ زمن ولم يغادره.
لم يغادره التفاؤل حتى بعد استقالته المدوّية من رئاسة شبكة الإعلام العراقية. في أواخر صيف 2004، التقينا في ندوة في القاهرة. فاجأني، بجملة قصيرة قاطعة ونحن نتعشّى على انفراد: خسرت المعركة ضد أيل بي سي وراح أستقيل.
تسلّم المنصب غير مصحوب إلا بحماسه وتفاؤله آملا أن يكون هذان سلاحيه في بناء إعلام مهني مستقل يضع العراق على قدم المساواة مع نظرائه العرب ومجابهة فساد أخذ ينهش جسم الدولة العراقية.
في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه استقالته، قال:
"إن الإعلام العراقي يشهد حصاراً منظماً فرضته قوة الاحتلال منذ البداية. جاء ذلك حين أبرَمَت عقودا مع شركات أجنبية لغرض تأهيل الإعلام العراقي، وكانت تلك العقود من حصة شركة «هاريس» وفرعيها شركة «ل.ب.سي» وشركة الفوارس. وتنص هذه العقود على منع أي تدخل فعلي من قبل الجانب العراقي بما يخص الإنفاق على الرغم من أن كل الأموال المنفقة هي أموال عراقية صرفة".
وضرب مثالا على ذلك، حلقات مسلسل كانت إيل بي سي تصوّرها وتكلّف أحداها ثمانية وعشرين ألف دولار في حين كان من الممكن إنتاجها في بغداد بكلفة ثلاثة آلاف دولار للحلقة.
كان بوسع جلال أن يغرف من المال الذي لم يعد بوسع أحد متابعة انتقاله من يد إلى أخرى متضخّما ومنفلتا من أي عقاب.
ومع هذا ظل الحماس والتفاؤل ملازمين له. روح شابّة أحسده عليها حافظ عليها حتى النهاية. لم يبدُ عليه التشاؤم إلا حين أحسّ بقرب النهاية. تشاؤم من مستقبله لا من مستقبل العراق.
لأن هذه ليست سيرة لجلال، سأقفز إلى محطة عملِه الأخيرة: سفارة جامعة الدول العربية في موسكو، وظيفة يحسده عليها الدبلوماسيون لأنها ليست تمثيلا لدولة واحدة بل تمثيلا للدول العضوة في الجامعة. لكن جلال لم يكن يريدها والتحق بها على مضض.
في بيته ببغداد أواخر عام 2013، كنّت معه ومع زوجته إنعام. يطلب لي صحن بقلاوة ويقول هذه ليست لك، بل حجّة لكي "أزاغل بها على إنعام وآكل" متحايلا على مرض السكّري.
في تلك الجلسة أثار الموضوع. مام جلال الذي عمل إلى جانبه طوال ثماني سنوات على وشك مغادرة الحياة السياسية. وهو لا يمكن أن يعمل موظّفا لدى رئيس لولا أن المام كان بالنسبة له رفيق نضال لا رئيسا يعمل تحت إمرته. كان مام جلال يعرف هذا الجانب العنيد في شخصيتهِ ففاجأه بأنه يريد تقديم ترشيحه إلى جامعة الدول العربية لكنه كان ينتظر رأيه.
أخذنا نقلّب الأمر بمزاياه ومساوئه. وكان ميّالا إلى الرفض: "أريد أبقى داخل المطبخ أطّلع على ما يدور فيه وأحاول لعب دورٍ ما". "يا أخي، أيُّ دور؟ مام جلال ليس نبيّا، لكنه يريد البقاء رجل دولة. يسمعك ويأخذ برأيك. أما هؤلاء فليسوا معنيين بذلك. يريدون أن يغرفوا أكثر ما يمكن بأسرع وقت. يريدون أتباعا لامستشارين".
ظللنا على تواصل تلفوني مستمر. يزور مام جلال ويعود يائسا من احتمال تحسّن حاله. ليخبرني أخيرا أنه سيلتحق بعمله. "حضور مناسبات، وحفلات ولقاءات في منفى. هذه هي وظيفة سفير الجامعة"، قال ساخرا.
*****
18/12/2015
واتس آب طويل ردّا على رسالة طويلة:
سأتلفن حالما أخرج من الحالة الخ..."
31/12/2015
الساعة: 11:52
أبوفارس الحلو، يمكن تكضي راس السنة بمستشفى ألماني وحدك تتونّس أكثر من الكعدة ويّا هواية يكعدون عالكلب
لا جواب!
31/12/2015
الساعة: 11:56
حتى ما تكول عصام كام يحجي مثل الباقين: كل عام وانت واحنا نحاول نقتنص كل ثانية لنحاول اختراع الفرح
31/12/2015
الساعة 11:58
بقيت دقيقتان على حلول السنة الجديدة.
جلال يردّ عليّ: الفرح يأبى أن يزورنا، نصنعه أم نصطنعه؟ أفرح بكَ.
كانت تلك المرّة الأولى التي أحس أن الفرح والتفاؤل غادرا جلال.
مذّاك لم أسمع منك شيئاً يا جلال.


* النصّ أعلاه تلي في تأبين الزميل الراحل جلال الماشطة.