عشيرة السنّي وطائفة الشيعي


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4846 - 2015 / 6 / 23 - 09:09
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     






أثبت الملك الأردني أنه أكثر فهما من غيره من الحكام المعنيين لواقع سنّة العراق إذ تحدّث عن مسؤولية بلده تجاه عشائر غرب العراق. لم تكن دوافع الملك من تجنّب إعلان مسؤوليته عن سنّة العراق الحرص على عدم تصعيد حدّة الإستقطاب الطائفي في العراق، كما أظن، بل لإدراكه بأن البعد الديني ليس العامل الأهم في تكوين هوية عشائر غرب العراق برغم أنه جزء مضمر من هويّتها. لكن ما أدركه الملك لايريد قادة الإسلام الشيعي إدراكه أو ليس بوسعهم إدراكه لأن الطائفة هي السمة الممّيزة لهويتهم.
العشيرة، لا الطائفة هي موحّد ومقسّم الجسم السنّي في العراق.
فعلى العكس من الجمهرة الشيعية، يقف رجل الدين السنّي في المنابر السياسية إلى جانب شيخ العشيرة الذي يتولّى الإعلان عن الموقف السياسي. والخطب الدينية في الجوامع السنّية في تلك المناطق لاتوجّه ولاتحذّر ولا تصدر مواقف متباينة عن مواقف شيوخ عشائر المناطق التي تنتشر فيها العشيرة. ثمة، باختصار تقسيم عمل بين السياسي وهو شيخ العشيرة وبين رجل الدين يقبع الأول على قمّته.
لامعنى لإطلاق أحكام قيمية على هذا الوضع إذ ليس المقصود مما سبق المفاضلة بين شكلي وعي الهوية أو الحكم بجودة هذا الشكل وسوء الآخر. لكن التنافر بين نظرة إبن عشيرة الغرب السنّي إلى هويته مع نظرة إبن الطائفة الشيعي إليها قد يفسّر جزئيا أسباب تعثّر الحوار بين الطرفين وتحوّله إلى حوار طرشان.
لايحتاج المرء إلى البحث عن مثال افتراضي لتخيّل ما سيكون عليه الحال لو كان البعد الديني الطائفي أساس مواقف عشائر صلاح الدين والأنبار. فمنذ احتلال الموصل قبل أكثر من عام، بل وقبل ذلك، كانت هيأة علماء المسلمين التي ورث مثنى الضاري رئاستها عن أبيه تدعو السنّة إلى "الإلتحاق بالثورة"، أي بداعش، وتنادي بضرورة الوصول إلى بغداد "لتحريرها من الصفويين". لكن التقارير والدراسات، وقد صارت بالمئات وربما بالآلاف، عن الملتحقين بالتنظيم في المناطق العشائرية في العراق ترسم صورة مختلفة إلى حد كبير عن أسباب هذا الإلتحاق لاتمثّل القناعة بالفكر الجهادي إلا جزءا صغيرا منها. القناعة بالفكر الجهادي قد تفسّر اسباب انشقاق أفراد أو مجاميع عن عشائرهم والإلتحاق بداعش، لكنها لاتفسّر أسباب وقوف عشيرة معها وأخرى ضدّها فليس ثمة عشيرة متديّنة وأخرى غير متديّنة.
العشيرة وحدة اجتماعية تحاول الحفاظ على استقلالها بقدر ما تسمح الظروف. وهي بالتالي كيان له تراتبيته وسلطته الحاكمة. هي جنين دولة إن شئنا. لكن عشيرة القرن الواحد والعشرين تدرك أنها لابد وأن تكون تابعة لدولة تحمل صفة الدولة الوطنية ولو إسميا. عشائر غرب وشمال بغداد حافظت على كيانها شبه المتماسك لا لأنهم عرب أقحاح كما يغمز طائفيو السنّة للتعريض بشيعة العراق ولا لأنهم بدو كما يحلو لكثير من الشيعة وصفهم. ولم تحافظ تلك العشائر على تماسكها بسبب انتمائها للمذهب السنّي بالتأكيد. فالسبب بسيط ومعقّد في آن. بتبسيط شديد، تحلّلت عشائر الجنوب منذ نهاية الخمسينات، أو قبل ذلك، مع انهيار نظام الملكيات الزراعية الكبيرة الذي كان سائدا فيها. وبقيت العلاقة بين شيخ عشيرة الأنبار وصلاح الدين وبين أفراد عشيرته أكثر تماسكا، إذ لا ملكيات زراعية كبيرة تستوجب استعباد عضو العشيرة.
حماية الدين، لإبن المذهب السنّي، مهمّة الدولة التي ظلّت سنّية منذ عصور. من هنا جاءت صدمة 2003 إذ صارت الدولة في أيدي أبناء الغالبية الشيعية للمرة الأولى في التاريخ الحديث والتي لم يخف قادتها رغبتهم في تثبيت وسم الطائفة عليها عوض تبني رؤية تعلن انتهاء غلبة طائفة على أخرى.
حماية الدين، لإبن المذهب الشيعي، كانت على الدوام مهمّة النجف، فاتيكانه حتى وإن تزعزع موقع هذا الفاتيكان إثر الثورة الإيرانية. الشيعي الذي تحلّل من انتمائه العشائري لم يلبس رداء الهوية المدنية بل صار منقادا وراء السيّد. والسنّي الذي لم تعد ثمة دولة سنّية وراءه لم يلبس رداء الهوية المدنية هو الآخر بل صار منقادا لشيخ العشيرة. وشيخ العشيرة، لتعقيد الأمر هو غير "شيخ المشايخ" لقبيلة أو لإتحاد قبلي تزعزع، بل انهار منذ زمن في العراق وفي غيره من بلدان المشرق. شيخ المشايخ هو، على سبيل المثال من تزعّم قبيلة مثل شمّر التي كانت ذات يوم عظيمة الجبروت، وكذا زعماء اتّحاد قبائل الدليم وعنِزة التي كانت تنافسها قوة ولم يعد زعماؤها قادرين على فرض طاعة أتباعهم لهم. ولعل جزءا من محنة سنّة العراق يكمن هنا، في فقدان المرجعية الدينية والعشائرية المتّحدة في آن.
والعشيرة، من باب التكرار، وحدة تبحث عن البيئة التي تؤمن لها أكبر قدر من حق التمتّع باتّخاذ قرارها. وحسنا فعلت داعش، وما كان لها إلا أن تفعل ذلك، حين فرضت سلطة مركزية وحشية ترى أن أي هوية أخرى مروق وتمرّد. فهي، في فعلها هذا، تصرّفت كما الدولة المركزية التي تحاول نزع سلطة الشيوخ لصالح سلطتها.
هي حزب البعث في صيغته الإسلامية.
بدأ حزب البعث، كما داعش، كما النازيين، حكمه بإرهاب الخصوم وفرض الإذعان بفضل إنجازاته. فرض داعش صيغته للحياة وكافأ من يلتزم بها. داعش، لمن يريد تبسيط النظر إليها كوحش، تقدّم خدمات للخاضعين لسطوتها تتحدى من خلالها الحكام السابقين. تدفع رواتب شهرية لمن يلتحقون بها، تقدّم إعانات للمواليد الجدد. لم تكتف بإعادة الكهرباء وإزالة القمامة ورصف الطرقات بل أنها إعادت افتتاح فندق من خمس نجوم في الموصل يستضيف العرسان لمدّة ثلاثة أيام مجانا.
رعب داعش يكمن هنا، لا في وحشيتها. تعوّد العراقيون على وحشية البعث حتى حين كانوا يستنكروها في قرارة أنفسهم. خلال عقد من حكمه الذي دام ثلاثة عقود حقّق البعث تطوّرا في حياة العراقيين فما عادوا يرونه وحشا بل ضرورة تتطلّب الوحشية. مرعبة الدراسات الميدانية التي تنقل عن أبناء مدن يحتلّها داعش أنهم لا يؤيدونها لكنهم، في ظلّها، آمنون. مرعب قولهم أن إطالة لحاهم وإلباس نسائهم النقاب وامتناعهم عن التدخين أمر مبالغ فيه ولكن "إن لم تتعرّض لهم، لن يتعرّضوا لك". كم سمعت هذه "الحكمة" في بغداد البعث!
إبن عشيرة الأنبار وصلاح الدين (واؤجل الحديث عن الحضريين السنة وعن عشائر المناطق المختلطة) يتعاطى مع السلطة مثلما يتعاطى معها أي كائن بشري.
سؤاله هو سؤال كل إنسان. السلطة هي الحماية. حماية للحياة، حماية من الإنتهاكات، حماية للحريات، وفقا لما تتعارف الجماعة عليه من معنى الحريات. سؤاله هو ما هي الكلفة التي سأتحمّلها من حماية بغداد لي، وما هي كلفة حماية داعش لي؟
الدكتاتورية الذكية، وداعش دكتاتورية ذكية بامتياز، ترفع سقف المخاوف من التهديدات الخارجية لكي يذعن الخاضع لها ويقدم مزيدا من التضحيات لتغطية كلفة حماية مزعومة له. النمط الذي صار مألوفا في ستراتيجية داعش هو البدء بترويع أبناء المدن التي تحتلّها لتنتقل فيما يعد إلى فرض قوانينها ونظم حياتها بالترافق مع تحسين حياة الخاضعين لها يتوصًلوا إلى قناعة بأن ذلك العنف لم بكن إلا لمصلحتهم.
بين الإذعان السلبي، أي الرضا غير المصحوب بالتأييد، وبين البراغماتية خيوط مشتركة. لكن البراغماتية تتحول إلى انتهازية هي بعض أسباب تفتّت الإتحادات القبلية الكبرى إذ تستميل السلطة زعيما دون آخر لكي تمدّ سلطتها إلى داخل العشيرة.
خطر داعش قرّب جماعات الحشد الشعبي الشيعي إلى بعضها وإن لم يلغِ صراعاتها التي قد تنفجر دمويا في أي لحظة. قرّبها لأن داعش أعلنت حربها على كل شيعي. لكن أزمة عشائر السنّة تكمن في أنها لاتزال تملك خيار الإنضمام إلى أبناء وطنها أو إلى من يقدّم نفسه حاميا لمذهبها.
وبوسع بغداد، بل عليها، أن تنقذ العشائر من أزمتها بتقديم نفسها كحامية لكل عقائد العراقيين.