لنعترف: لسنا في وارد الديمقراطية بعد


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 5439 - 2017 / 2 / 21 - 20:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


حين أراجع تجربة ثورات 2011 العربية، لا أخجل من القول أننا، أعني الديمقراطيين، أخطأنا حين اعتبرنا أن الهدف المباشر الذي ينبغي التركيز عليه هو إقامة نظام سياسي ديمقراطي.
لا أنطلق هنا من موقف أبوي يوجّه الشعوب أو الثائرين إلى مايجب عليهم القيام به بل أهتدي بما ثاروا عليه وبالشعارات التي رسموا. أطلق إحراق محمّد بوعزيزي لنفسه بعد أن أذلّه رجال الأمن وسدّوا سبل العيش بوجهه شرارة ثورة تونس. وأطلق موت الشاب خالد سعيد تحت التعذيب في مصر شرارة ثورتها التي لم تكن الدعوة لها في عيد الشرطة مصادفة. واستعرت الثورة السورية إثر تعذيب قوات الأمن السورية صبيين سوريين حتى الموت. لا أذكر أن شعار الديمقراطية تصدّر مطالب الثوّار بل كانت مطالبهم محاربة الفساد والمحسوبية، تعسّف السلطة وإطلاق يد أجهزتها القمعية في دوس حقوق المواطن من دون خوف من عقاب، الثراء الفاحش للمقرّبين من السلطة وتدهور أحواله. وكلّها مطالب لا شك في جذريتها لكنها ليست توأما للديمقراطية.
نزل مئات الإلوف إلى الشوارع وحملوا السلاح في سوريا مطالبين بقيام نظام سياسي جديد يقوم على سيادة القانون. نظام لا يستقيم مع بقاء الطغم الحاكمة بل يستوجب إسقاطها، بل أن ثوار مصر ذات الدولة العميقة التي ربطت مصالح الحكام بمصالح بيروقراطية وظيفية ترسّخت في مواقعها على مدى عقود لم يتوقعوا أن تفضي ثورتهم إلى سقوط حسني مبارك وأركان حكمه في البدء.
ديمقراطية سياسية من دون سيادة القانون تقوم على تقديس الإنتخابات الدورية لا تضمن القضاء على الفساد ولا على إخضاع الرئيس أو قوى الأمن لسلطة القانون ولا تؤمّن بالضرورة حرية التعبير. هي تعطي شعبا تعرّض وعيه السياسي إلى تشويه عميق حق اختيار بدائل تطرح نفسها نقيضا جذريا للنظام السابق، وهي نقيضه بالفعل من حيث برامجها السياسية والأهداف التي ترمي إلى تحقيقها من خلال الإستيلاء على السلطة، لكنها ولأنها إبنة البيئة الفاسدة المستبدّة قد تغيّر الجهاز القضائي المسيّس إلى جهاز موال لها لايقل تسييسا، وقد تعيد تركيب أجهزة الأمن مخفّفة من سطوته لكنها لن تضعها تحت سلطة القانون. وهي ستطلق حرية الإعلام لكنها ستسلّط عليه سلطة رأي عام مشوّه الوعي يخنقها لأنها خرقت الحياء العام أو تعرّضت للقيم المقدّسة أو لأنها انتهكت قوانين تمنع التشهير بالرئيس أو القوات الأمنية أو القضاء وهي لم تمارس غير حقها في النقد.
ليس ضروريا تأييد الكسس دو توكفيل، أهم مؤرخ ومنظر عايش الثورة الفرنسية ومؤلف "النظام القديم والثورة"، الكتاب الذي صار معلما في قوله "ما بدا للوهلة الأولى حبا حقيقيا للحرية تبين إنه ليس أكثر من كره لطاغية".
كان علينا أن نتعلم من تجربة عراق مابعد 2003. شعب متعطّش للحرية بعد انتهاء كابوس خنقه عقودا من الزمن. خنقه استبداد وبشاعة فاقت بأضعاف استبداد وبشاعة نظام البعث في سوريا. كان علينا أن نعترف بأن إقامة نظام سياسي انتقالي يمتد زمنا يطول أو يقصر سيرسّخ بناء مؤسسات مهنية قد لاتكون مثالية، وهي لن تكون مثالية بالتأكيد، قبل الدعوة إلى الإنتخابات ضرورة ما بعدها ضرورة. كان، ويجب، علينا الإعتراف بأن إدارة بوش، أيا يكن ما اقترفته بحق العراقيين وأيّا كانت نواياها، كانت على حق حين حاولت وماطلت لتأجيل الإنتخابات داعية إلى نظام انتخابي مماثل للنظام الإنتخابي القائم في أمريكا يستند إلى محافل انتخابية غير مباشرة (كوكوس) تنتخب مندوبيها إلى جمعية تأسيسية. كان، ومايزال علينا امتلاك الجرأة لتجريم المجتهد الشيعي الأعلى السيد علي السستاني الذي هيّج قطعانا جماهيرية نزلت بمئات الإلوف ثائرة ضد مؤامرات أمريكا ومطالبة بانتخابات مباشرة لأنه كان مدركا أن نشوة الإنتصار على حكم اضطهد الشيعة ستتوّج أتباعه حكّاما للعراق الجديد. كان علينا أن ندرك أن هؤلاء الذين اكتووا بجحيم الإستبداد وشهدوا أملاكهم تُصادر بقرارات أصدرها الحاكم الفرد وتعرّضوا إلى إذلال أبنائه وأخوته وأصهاره لهم كانوا متعطّشين لكي يكووا خصومهم بجحيم الإستبداد ولإستباحة أملاكهم وأملاك البسطاء ولقيام أبنائهم وأخوتهم وأصهارهم بإذلال من يشاؤون. كان علينا أن نعي أن قادة الإسلام السياسي الشيعي أدركوا الأمر قبل أن ندركه. كان علينا أن نرى أن نظام فساد ومحسوبية ومؤسسات أمنية وقضائية لاتستحق أن تُسمّى مؤسسات كان النتيجة الطبيعية والمرغوبة لكل هذا الذي هيّجه شعار حكم الشعب الذي صار بالفعل حكم شعب أبله.
كان علينا التعلّم من تقديس المحتجّين على نظم ما بعد التغيير والثورات لمستبدّين عادلين. أكثر ثورات الربيع العربي نضوجا فرضت إعادة نصب الحبيب بورقيبة مؤسس الجمهورية التونسية إلى موقعه في قلب العاصمة تونس بعد أن أزاحه زين العابدين بن علي إلى موقع على أطرافها. جمهرة هائلة من المصريين رفعت صور جمال عبد الناصر في ثورتها على حسني مبارك ثم صوّتت لصالح ناصري كاد أن يفوز بالرئاسة لولا تشتّت أصوات العلمانيين. مؤسس الجمهورية العراقية عبد الكريم قاسم ظل إسما مقدّسا بين العراقيين أقاموا له بمبادرات فردية نصبا في الساحة التي حاول البعثيون اغتياله فيها. وكلّ هؤلاء كانوا حكّاما لا علاقة لهم بالديمقراطية من قريب أو بعيد. كانوا نماذج للنزاهة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو الطائفة. كانوا قادة لم يوصلوا أحدا من أقاربهم إلى الحكم أو يسهّلوا له سبل الوصول إلى الثروة. وكانوا قادة يؤمنون بأن بقاءهم في الحكم هو السبيل لإصلاح البلاد وهو إيمان ضمني بأنهم وهم يعلنون حبهم لشعوبهم كانوا يرون فيهم جمهرة غافلة حتى وهم يعرفون أنهم لو دعوا إلى انتخابات فسيفوزون فيها بلا عناء ولا تزوير.
"كان علينا" هو من أكثر التعابير سطحية وسذاجة في التحليل العلمي. كأننا نقول " كان علينا تعليم الإنسان البدائي قيادة السيّارة". لكن الحشود التي نزلت إلى الشوارع كانت ترفع شعارات هي في جوهرها ثورة "سيادة القانون" التي كانت ستمهّد الطريق للإنتقال إلى الديمقراطية بعد زمن يطول أو يقصر. تلك الحشود اكتشفت أن إرادتها الشعبية جاءت بإخوان مسلمين سرعان ماثارت عليهم متطلّعة إلى عبد الناصر منبعثا في صورة السيسي المنقذ لتكتشف مجدّدا أن لا مشتركا بينهما غير الإستبداد وأن العدالة الإجتماعية ومحاربة الفساد تفرّقهما.
إن اتّفقنا على أن تعبير "كان علينا" سطحي وساذج، فهل أن ثمة ما "علينا" الآن فعله إن تعلّمنا، أو أردنا التعلّم من الدرس؟ تأخر الوقت كثيرا. لكنني أفكّر في سوريا. ما الذي كنت سأسعى لفرضه على جدول أعمال اجتماع جنيف لو كنت مفاوضا؟ ليس الكثير بالطبع بعد أن حسم النظام تفوّقه على شعبه. ليبق الأسد أو يرحل في مرحلة انتقالية أو بعد انتقالية. لنضغط، وما أخفّ ضغطنا ويا للأسى، من أجل جعل أجهزة الأمن تحت سلطة قانون أعرج بلا شك. لنضغط من أجل محاسبة الفاسدين من مقرّبي السلطة. أوهام بالتأكيد. لكنها مطالب سيصعب على أنصار الأسد الإقليميين رفضها صراحة على الأقل.
في شغلي النظري، "فنّدت" الرؤية الشائعة عن فولتير كداعية للديمقراطية. فقد كان الرجل من أنصار نظام "الإستبداد المتنور" الذي ساد في أجزاء من أوربا في عصره. المستبد المتنوّر في رأيه أكثر معرفة بمصلحة شعبه من معرفة الشعب لها. "أن تخدم أسدا حسن التكوين خير من أن تخدم مئتي جرذ".
لعله كان محقّا.