إصلاح ما لايمكن إصلاحه في دولة أمراء الحرب


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 5113 - 2016 / 3 / 25 - 22:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


كيف ينبغي أن ننظر إلى حيدر العبادي؟ بتعاطف؟ بإشفاق؟ أم بازدراء؟ من المؤكد أن عبارة "الإعجاب" لا مكان لها بين هذه الخيارات.
يعلن أن السلاح يجب حصره بيد الدولة فيحوّل الميليشيات المسلّحة إلى هيأة حكومية مموّلة من خزينة الدولة تتمتّع بحصانة القوات المسلحة الرسمية. يعلن أنه سيضرب بيد من حديد أي مسلّح يتجول في المدن ويمارس أعمال خطف أو قتل فتبثّ القنوات أخبارا عن حرق جامع أو اختطاف أسرة أو سرقة أموال من جانب أفراد يقودون سيارات رسمية. يؤكّد أن الإعتصامات غير قانونية فينصب آلاف الصدريين خيامهم معلنين الإعتصام ليؤكّد بعدها حق المواطنين القانوني والدستوري بالإعتصام. يصرّح أنه بصفته القائد العام للقوات المسلحة سيشرك الحشد الشعبي في تحرير الموصل فيرفض البيشمركة الأكراد ومجلس محافظة نينوى السماح لهم بدخول أراضيهم.
يريد العبادي أن يظهر رجل دولة قويا يتجاوب مع مشاكل الناس وهمومهم ويستطيع أن يؤمّن لهم الأمان. لكنه مع كل وعد أو تعهّد يقدّمه يزداد ضعفا وهوانا في أعينهم.
أضاع العبادي فرصته التاريخية لتصدّر المشهد السياسي والتحوّل إلى بطل شعبي مسلّما تلك الفرصة إلى مقتدى الصدر. ولو تعلّق الأمر بشخصية أخرى لكان من الجائز القول أن الرجل لم يدرك خفايا وآليات عمل النظام السياسي العراقي. أما وهو ابن هذا النظام فلا تفسير للأمر غير استماتته في البقاء رئيسا لوزارة حتى لو كانت عرجاء.
كتبت في مقال سابق أن اللحظة التي يمر بها العراق الآن هي الأكثر مواتاة لصعود الشعبوية وازدهارها. الشعبوية تنبني على تهييج الغرائز. تنبني على مشاعر حقيقية بالظلم لكن حدّة الظلم تعمي المظلوم عن التأمّل في الحلول المقدّمة والتي قد لاتكون حلولا على الإطلاق بل تعميقا للمشاكل وتوليدا لمشاكل أعمق. والشعبوية لا تظهر معادية لحزب أو حركة محددة بل كتيار معاد لكل المؤسسة القائمة حتى حين يكون قائد التيار أو قادته منغمسين في المؤسسة. والمؤسسات القائمة اليوم لم تعد غريبة عن العراقي اليوم فقط، بل باتت أجهزة وظيفتها إذلاله ونهبه في نظره. هي لحظة خطيرة لأن انهيار المؤسسات القائمة لن يكون انهيارا للطبقة السياسية الحاكمة التي ستعرف كيف تتعاطى مع الظرف المستجد بل هو انهيار في قناعة الناس بالنظام الديمقراطي الذي لم يروا فيه غير المساوئ. كان بوسع العبادي أن يعرض تشكيلة وزارية يعرف سلفا أنها لن تحظى بثقة البرلمان فيتوجه إلى الشارع متصدّرا حشودا مليونية تجبر البرلمان على النزول عند أرادته وإرادتها. في مشهد كهذا كان العبادي سيستثير الغرائز الحسينية بتقمّص صورة البطل الفرد الذي يجابه حشود الطاغوت. حل شعبوي، لكنه شعبوي دستوري إن صح القول يسحب البساط من تحت قدمي مقتدى الصدر.
بضربة ذكية لا تنطلي إلا على جمهرة مصابة بالخدر أعلن الصدر أن لا أحد يمثّله في الحكم مقدّما نفسه فوق المؤسسة وخارجها. وبمَسرحة لاتقل ذكاءا تقمّص شخصية أبيه وشخصية الحسين في آن إذ ظهر يلقي خطابا وكفنه فوق كتفيه كما كان أباه يفعل في خطب الجمعة حتى قضى نظام البعث عليه مع فارق أن الأب كان يحمل الكفن وهو على منبر مكشوف فيما الإبن يحمله أمام كاميرات التصوير في داخل ستوديو مؤمّن. وبفضل ذلك لم تعد الكتلة الصدرية طرفا تلعب أصواته دور المرجّح للطرف الغالب في داخل التحالف الوطني بل صارت هي الطرف الغالب فيه.
سحر عرش رئاسة الوزراء حال بين العبادي وبين اتّخاذ خطوة مماثلة كان يمكن أن تحدث زلزالا لصالحه. فلضمان الحفاظ على أصوات حزب الدعوة الذي ينتمي إليه لم يتخل عن عضويته برغم المناشدات وظل، من الناحية التنظيمية على الأقل، خاضعا لقرارات يتّخذها غريمه وسابقه في رئاسة الوزارة نوري المالكي. ولكي يحافظ على أصوات كتلة دولة القانون التي ينتمي إليها ظل خاضعا لقرارات المالكي كذلك. ولكي يحافظ على أصوات التحالف الوطني الذي ينضوي حزب الدعوة ودولة القانون فيهما كان عليه البقاء عضوا فيه تحت رئاسة وزير خارجيته ابراهيم الجعفري. وهكذا فإن رئيس الوزراء الذي جاء للوقوف بوجه الفساد والطائفية ظل يتخندق مع من تصفه غالبية الشعب برأس الفساد والطائفية. ورئيس الوزراء الذي جاء لفرض هيبة الدولة يتخندق في التحالف الوطني وفي دولة القانون مع ميليشيا بدر المتّهمة الأكبر، إلى جانب غيرها، بكسر هيبة الدولة وارتكاب جرائم طائفية والإعلان صراحة بأن خامنئي هو قائد الأمة اسلامية.
لا شك أن العبادي صادق في سعيه المعلن لتشكيل كتلة عابرة للطوائف تدعمه. ولا شك أنه يلمّح إلى أنه سيتخلى عن كل تلك القيود لو تشكّلت تلك الكتلة وضمنت أغلبية في البرلمان. لكن هذا المسعى يكشف تمسّكه بالسلطة أكثر مما يكشف عن رغبته بالإصلاح وهي رغبة قائمة. فهو يرسل إلى القوى السياسية رسالة مفادها أن الأولوية بالنسبة له هي الحفاظ على أغلبية برلمانية تبقيه رئيسا للوزراء.
لم يرد العبادي تحويل الشارع إلى كتلة ضامنة لبقائه في الحكم إن لم يكن الآن ففي انتخابات قادمة على الأقل. بل أوهم نفسه، ولا يزال يوهمها، بأن الوصول إلى كتلة برلمانية شيعية – سنّية ستطوّع الشارع لصالحه فيما الشارع غاضب على سياسييه كلّهم وفيما الوقائع على الأرض تعكس توازن قوى مختلف عن توازن القوى داخل البرلمان. توازن القوى الشارعي هو توازن القوى المسلّحة بمن فيها الصدريين الذين تحمي سرايا السلام ظهورهم وإن لم تظهر بشكل علني. وإذا كانت النظم الديمقراطية تقوم على توازن المصالح الذي يعكسه نفوذ كل قوة في البرلمان، فإن ديمقراطية أمراء الحرب العراقية قامت على توازن عسكري بين حشود الميليشيات. فجاءت داعش والتظاهرات الجماهيرية لتحدث اختلالا هائلا لصالح الحشد الشعبي الذي لا يقف بوجهه اليوم غير الصدريين ومن يشاركهم الرؤى.
الصراع القائم اليوم يهدد بانفجار عنيف لن يكون شبه حرب أهلية بين الشيعة والسنّة كما كان الحال عام 2006، بل سيكون شبه حرب أهلية شيعية- شيعية على زعامة طائفة الأغلبية العددية. فقوّات الحشد الشعبي الجرّارة لن تنتظر فرصة انفلات الوضع للتدخل باسم حفظ الأمن والوطن، بل ستعمل على انفلاته. والتهديد المخيف الذي أطلقه بيان كتلة دولة القانون المالكية كان إيذانا بحرب لم يُزل شبحها حذف تلك الجملة القائلة "الرجال بالرجال والسلاح بالسلاح".
أما السنّة فقد بات عليهم الإنحياز إلى هذا الطرف الشيعي أو ذاك إن أرادوا لهم موقعا في السلطة وإن أرادوا ألا يوضعوا في خانة الموالين لداعش. خيارهم الإلتحاق بطرف واضح التوجّه الطائفي أو طرف آخر يحنو على السنّة والمدنيين وغير المسلمين لكنه يبقي على مسافة واسعة بينه وبينهم. وضع يذكّر بنهاية الحرب الإهلية اللبنانية حين انقلب الصراع بين المسيحيين والمسلمين إلى صراع بين شيعة وسنّة بات خيار المسيحي فيه الإلتحاق بهذا الطرف أو ذاك.
والمضحك المبكي في أمرنا هذا هو أن اللاعب الإقليمي الذي أجّج الصراع وهو إيران سيكون هو الضامن لعدم انفجار الوضع إن تدخّل للجم حلفائه والضغط على الصدريين. وهنا أيضا لا مفر من تذكّر لبنان ما قبل الثورة السورية حين كانت سوريا هي الخصم والحكم.
ولعل كل ماسبق يجيب على السؤال الذي افتتحت به المقال: كيف ينبغي أن ننظر إلى العبادي؟ بتعاطف؟ بإشفاق؟ أم بازدراء؟ شخصيا، كنت متعاطفا معه في البدء ثم صرت أشفق عليه ويؤسفني أنني أزدريه اليوم.