السياسة كفعل تراجيدي


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 5198 - 2016 / 6 / 19 - 12:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     




ينتهي المؤرخ أو الكاتب في الشأن السياسي ممّا عمل عليه وهو يشعر بأنه قال ما يريد قوله. يحلّل مرحلة أو عملية أو توجّها وتبقى لدى الجاد والنزيه منهم أسئلة يسعى لإيجاد أجوبة عليها. لكن عمله ينطوي، مهما بلغ من موضوعية، على حكم يخطّئ أو يؤيد قائدا أو حركة أو سياسة. فالإبداع، أيّا كانت طريقة التعبير عنه، هو نقد. والنقد ينطوي على حكم ضمني أو صريح.
أسئلة التاريخ تبقى مفتوحة. نزاهة المؤرخ تقاس بعدم تشويهه للوقائع. ولكن لا أحد يطالب مؤرخا أو يتوقع من غير الروبوت ألاّ يتبنى منظومة قيم إلاّ نحن العرب الذين اكتشفنا مفردة "أكاديمي" مفترضين أنها تعني المحايد البارد فابتذلناها بعد أن لاكها الغرب طوال قرون. تتبنّى كتب التاريخ الرسمية في الصين تقييما يقول أن ماوتسي تونغ كان مصيبا بنسبة ثمانين بالمئة ومخطئا بنسبة عشرين بالمئة. لا نقاش على سُخّف المقياس الإحصائي المستخدم في حساب التاريخ ولكن من بوسعه الحكم إن كانت سياسات الحزب الشيوعي هي التي وحّدت الصين المفتّتة وتطوّرها، وهي "الثمانين بالمئة الإيجابية"، أم أنها كانت ستحقق في أي حال من دون سقوط ما لايقل عن أربعين مليون ضحايا للتوحيد والتقدّم، وهي "العشرين في المئة السلبية"؟ فما بالنا بالكتّاب الذين ينظرون بعين الحنان أو العداء إلى فترتي الحكم الملكي في مصر والعراق؟ لكنها تبقى أسئلة تاريخ لن تغيّر الصين ولا العراق أو مصر.
أسألة الحاضر حارقة لأن المسافة بين التقييم والتحليل وبين صنع القرار السياسي شديدة التشابك. أتواصل مع أحبّة في قيادة الإئتلاف الوطني المعارض السوري والحراك المدني العراقي. بعضهم يوافق على تحليلات عرضتها وأكثر منهم من يعارضها.
الثورة السورية، بوصفها حراكا جماهيريا يرمي إلى إسقاط نظام استبدادي لكي يقيم نظاما مدنيا ديمقراطيا محلّه انتهت واستحالت حربا بين عصابات وأمراء حرب، بمن فيهم عصابات نظام البعث (التي تخوض صراعات فيما بينها) وحلفاؤه من ميليشيات لبنانية وعراقية يسعى كل منها إلى اقتطاع أكبر ما يمكن من أرض وبشر وموارد يحكم سيطرته عليها.
الحراك المدني العراقي ضد النظام الطائفي وفساده الذي انطلق قبل عام صار منذ ثلاثة أشهر حركة شعبوي مستبدّ ينطوي معلنا اعتكافه لحظة حين يرى الأمور سائرة في غير مصلحته ويندفع مهيّجا قطعانه لحظة أخرى. وسيبقى الرجل ثائرا ضد الفساد والطائفية حتى يتحقق أمله في قيادة حركات الإسلام السياسي الشيعي، أي قيادة العراق.
يقول أصدقائي: كن محلّنا. تعال تولّ قيادة المعارضة المدنية السورية. تعال قُد الحراك المدني العراقي. ماهي خططك وسياساتك وقد قدّمت تحليلك؟ (لمن يتذكّر مسرحية نزل السرور لزياد رحباني: حاج تحلّل وحياتك/ تسلم لي تحليلاتك). جوابي بسيط: لا أعرف.
أنا ابن جيل عاش محناْ يعيشها ديمقراطيو مصر وسوريا والعراق اليوم. أنا أبن جيل كان شبابيا وابن تيار شتم وخوّن من ساوموا. وأنا اليوم من دعا أصدقائه الشباب اليساريين المصريين إلى ألاّ يغالوا بمطالبهم وهو يعرف أنه سيكون في أعينهم يمينيّا في أحسن الأحوال أو متخاذلا في أسوأها. أكان ممكنا التفريق بين مطلب سيادة القانون وفرض مفهوم تحويل الدولة بكل أجهزتها إلى خادم للشعب معرّض للمساءلة وبين اللهاث وراء انتخابات كان معروفا أنها ستؤدي إلى صعود الإخوان المسلمين الذين سيدوسون على سيادة القانون؟
وأيّا كانت قسوة الأمر، دعوت على صفحات الحياة قبل أقل من سنتين إلى تلاق بين ائتلاف الثورة السورية و"معارضة الداخل" المساومة مع نظام الأسد,
السياسة فعل تراجيدي. هي فعل تراجيدي لأنك تعرف أن ثمة قضية هي قضيتك. لكنك تعرف أن مآل صراعك من أجل هذه القضية سيقود إلى غير ما تريد وقد يؤدي إلى عكس ماتريد. هي فعل تراجيدي كما التراجيديا الإغريقية حيث النتائج محدّدة سلفا.
كنّا شبابا حين عرض نظام البعث العراقي على الحزب الشيوعي العراقي الجماهيري آنذاك الدخول في "جبهة وطنية تقدمّية" معه. عرضها بعد أن قتل ثلاثة (وهو المتغلغل مخابراتيا في الحزب) من قادته فضلا عن مناضلين من كوادره. شتمنا الحزب الذي وافق على الدخول في تلك الجبهة. حين أفكّر بالأمر الآن: السياسة فعل تراجيدي. عرفت بعد سنين أن لجنة الحزب المركزية انقسمت إلى النصف في الموقف من الأمر ورجّح التحالف مع البعث صوت واحد (ولعل هذا يدفع من رأوا ويرون أن الحزب كان أداة بيد السوفييت إلى إعادة التفكير). وعرفت فيما بعد أن جثث القادة التي "عُثر عليها" كانت لمن عارضوا التحالف. فماذا تفعل أيها ألمحلل المعارض للجبهة القومية الوطنية التقدمية؟ إن رضيت بها ستموت جماهيريا، وإن قبلت بها ستموت جسديا. لم يكن هذا حال آخرين. لم يكن الحزب الشيوعي السوري مهددا بالتصفية لكنه آثر المكاسب, لكن لهذا حديث آخر. وماذا ستفعلون يا مناضلو عشرات الحركات المدنية والديمقراطية الإيرانية عامي 1978 و 1979 وانتم الذين أركعتم نظام شاه إيران عبر إضراب عمال عبّادان بمرافئ تصدير نفطها وبمصافيه وكنتم تعرفون سلفا أن الإسلام هو القادم لا محالة؟
السياسة فعل تراجيدي. لا أشك بنوايا أصدقائي الديمقراطيين السوريين وهم يصارعون من أجل تحسين وزنهم في ائتلافات التفاوض الجنيفية لكنني أعرف من تجربة متواضعة من معايشة لا مشاركة في صراعات الحركات المعارضة لنظام البعث التي عملت على إسقاطه أن جماعات الإسلام السياسي الشيعي لم تأبه لصراعات العلمانيين فيما بينهم على من يقود المعارضة: المؤتمر الوطني العراقي بقيادة الراحل أحمد الجلبي أو حركة الوفاق الوطني بقيادة أياد علاوي. كانت تعرف أنها من سيقود عراق ما بعد البعث وكان صراعها داخليا: من يقود الإسلام الشيعي: حزب الدعوة أم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.
السياسة فعل تراجيدي. الديمقراطي السوري والعراقي يمر بالمحنة ذاتها. مئات الفاعلين الديمقراطيين السوريين خرجوا إلى المنافي كما خرجنا، نحن العراقيين قبلهم بأربعة عقود. ومثلهم من عاد إلى دمشق. وآلاف من المناضلين يمنّون النفس بأن قتالهم لنظام البعث إلى جانب الإسلاميين المتشدّدين كما العراقيين النازلين إلى الشوارع خلف الصدريين سيعرّف الأخيرين بأن ثمة نقاط التقاء مشتركة بينهم وهم يعرفون أنه وهم.
السياسة فعل تراجيدي.