عن غزو الكويت وانحطاط السياسة


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4885 - 2015 / 8 / 2 - 09:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


قبل ربع قرن صحا العالم على بيان درامي أذاعته وسائل الإعلام العراقية بإسم عقيد في الجيش الكويتي أعلن فيه باسم "الضباط الأحرار" إزاحة العائلة الحاكمة عن السلطة لا لإعلان جمهورية كما فعل "ضباط أحرار" سبقوه في عدة بلدان عربية، بل لمناشدة العراق بضم الفرع، أي الكويت، إلى الأصل وهو العراق. استجاب صدّام حسين للطلب بالطبع ليعلن الكويت محافظة عراقية تاسعة عشر صار اسمها "محافظة النداء".
لم يكن بوسع القيادة العراقية تصوير تسويق غزوها بغير تلك الكوميديا المبتذلة. كل سياسات البعث، من حروبه ضد الأكراد حتى أنقلابه على مشروع وحدة بدا على وشك التحقّق مع سوريا عام 1979 كانت تُبرّر بالدفاع عن الأمة العربية. وكان لابد أن يظهر الغزو بمظهر تلبية نداء أطلقه شعب شقيق لا غزوا لبلد آخر. وقد عوّل صدّام حسين على بؤس ذاكرة جمهور كان حتى الأمس يتابع نزاعا بين الكويت والعراق كدولتين حول النفط وترسيم الحدود. وتسلّل من دون إثارة كثير من الإنتباه خطاب لرئيس الوزراء في ذكرى مرور شهر على الغزو عرض فيه، كأي مستعمر، نتائج فتوحاته من حيث زيادة احتياطي النفط العراقي واتّساع مسافة السواحل العراقية على الخليج.
زيف الخطاب الرسمي العراقي ومراوغته لحد الخبث آنذاك كان امتدادا لخطاب شجّعه وتواطأ معه حلفاء العراق في العالم العربي والغرب والإتحاد السوفييتي الذين قلّ إجماعهم على قضية ذات بعد دولي كحربه مع إيران وما تفرّع عنها من جرائم. فحين وصلت معلومات استخبارية مؤكدة إلى الرئيس الأمريكي ريغان تفيد بأن العراق بدأ باستخدام أسلحة كيمياوية ضد إيران، وكان هذا في عام 1983، أي قبل استخدام ذلك السلاح على نطاق واسع في السنوات اللاحقة وقبل قصف حلبجة الكردستانية بخمس سنوات، كتب ريغان هامشا بخط يده، في وثيقة بالغة السرية تم الكشف عنها مؤخرا، "لابد من منع إيران من الإنتصار باي ثمن". وانتهى الأمر إلى تظاهر عالمي بأن الأمر ليس غير فبركة إيرانية. وحين سوّق صدّام حسين هجومه على إيران كدفاع عن "البوّابة الشرقية للأمة العربية" صفّق له الحلفاء وكان لايزال يحتل اراض إيرانية بعد.
عشيّة غزو الكويت، وصل الخطاب الرسمي العربي إلى ذروة تعفّنه مع انحطاط سياسة عرب المشرق. وليس مبالغة القول أن هذا الخطاب لم يكن نتاج انحطاط السياسة فقط، بل كان سببا في ذلك الإنحطاط. ما كان لسياسة غير منحطّة القبول بخطاب كهذا، وما كان لخطاب متعفّن أن يلقى صدى لولا السياسة المنحطّة. إعلان العراق انتصاره في الحرب على إيران عام 1988 صار مسلّمة غير قابلة للنقاش. والحجّة الأثيرة هي أن الخميني وافق على وقف إطلاق النار قائلا بأنه كان يفضّل تجرّع السمّ بدل هذا القبول. لم يرد الخميني وقف إطلاق النار لإن إيران انهزمت في الحرب بل لأنه حددّ هدفا لها هو إسقاط نظام البعث وهو مالم يستطع تحقيقه. لقد انتهت الحرب إلى حيث ابتدأت إذ لم تحقق أيا من مطالب صدّام.
أكان بوسع صدّام ألاّ ينتفخ والعرب يتوّجهونه بطلا للأمة بإعلانه منتصرا في الحرب؟
لم يكن صدّام هو من أدخل التعفّن إلى الخطاب الرسمي (والخطاب السياسي غير الرسمي) العربي. عرف المشارقة هذا النوع من الخطاب منذ صعود عصر الحماسات الثورية. لكن أحدا لم يكن يجرؤ على وصف إسرائيل منهزمة لأنها وافقت على وقف إطلاق النار بعد إلحاقها الهزيمة بثلاثة جيوش عربية خلال ستة أيام في حرب حزيران عام 1967. وتحايل العرب على تلك الهزيمة المدوّية بوصفها "نكسة" لكنهم لم يجرأوا على تسميتها انتصارا. لكن التعفّن الذي لايتم استئصاله لابد وأن يتفاقم. وهكذا أعلن صدّام حسين بعد هزيمته في حرب تحرير الكويت عام 1991 بأن العراق انتصر إذ تمكن من مجابهة تحالف من ثلاثين دولة. أهم من كل التحليلات كانت النكتة التي انتشرت بين العراقيين آنذاك: "كان الله بعون الأمريكان المهزومين إذا كان هذا هو حالنا نحن المنتصرين".
مع احتلال الكويت سقط تعبير الأمة العربية من قاموس العمل السياسي، وكان لابد له أن يسقط لأنه كان شعارا خاويا لم يؤمن به أحد. وماكان "قضية العرب المركزية" أي فلسطين، بات هامشا. لكن الإحتلال وماتلاه كان مدخلا لمزيد من الإنحطاط. انحطاط تمثّل في إحلال حسابات انتهازية قصيرة النظر محل الشعارات القومية الطنّانة. حسابات ارتدّت فيما بعد على الحاسبين. حسابات قيادات فلسطينية لم تبال يوما بهموم العرب لأن العالم يجب أن يتمحور حول مصالحها. ضوء أخضر حصل عليه حافظ الأسد لمعاودة احتلال لبنان مقابل مشاركته في التحالف في حرب تحرير الكويت. وضوء أخضر أعطي لصدّام المهزوم لسحق انتفاضة شعبية كان لابد لإنتصارها أن ينتج نظاما أفضل من نظام مابعد 2003.
ويبقى أخطر تلك الحسابات قصيرة النظر، في رأيي، التعاطي الكويتي مع نتائج هزيمة صدّام ومع قرارات الحصار الدولي الذي تم فرضه على العراق بسبب الإحتلال. كانت ثمة مرارة مفهومة ومبرّرة بين الكويتيين الذين تعرّضوا لبشاعات سكتوا عنها حين مورست بحق الشعب العراقي. لكن إصرار دولة مابعد التحرير على دفع عراق جائع لتعويضات آنية عن انتهاكات صدّام كان سياسة انتقامية أكثر منها سياسة تحسب للمدى البعيد. كان حصار ثلاثة عشرة سنة هو أقسى ما تعرّض له أي بلد في العصر الحديث، بما في ذلك الحصار على ألمانيا المهزومة بعد كل من الحربين العالميّتين. وكان بوسع الكويت استخلاص الدروس إذ حوّل صدّام نقمة الشعب على نظامه إلى نقمة على العالم وصوّر نفسه مدافعا عن كرامة العراقيين في مواجهته.
ثمة غرائز في العراق وغيره أّطلقت من عنانها. غرائز يسهل توجيهها من عدو خارجي إلى آخر حسب تغيّر الظروف. كانت السعودية والخليج أعداء صدّام حسين وأنصاره السنّة منذ احتلال الكويت حتى سقوطه. وكانت أمريكا كذلك حتى وقت قريب. وليس ثمة مبرّر للإطمئنان بأن تلك الغرائز لن تتحول بهذا الإتجاه أو ذاك.
في تلك الذكرى الأليمة ستعيد قنوات البث التلفزيونية الكويتية مسرحية "فارس العرب" اللاذعة في سخريتها من صدّام. وسيسعى العراقيون إلى محو كابوس الكويت من ذاكرتهم.
ولكن لعل أولى خطوات فهم بشاعة ما حصل قبل ربع قرن، أن لم نقل تجاوزها، هو إجراء مسح للذاكرة الشفاهية لكويتيين وعراقيين من أجيال وأطياف مختلفة ينبؤنا بما علق بها من تلك الأحداث وكيف يرونها الآن. وأجزم أن هذه ستمثل مساهمة قد تفوق من حيث الأهمّية تحليلات خبراء النفط أو تحليلات خبراء العلاقات الدولية لأسباب الإحتلال وعواقبه الكارثية.