في معنى الإنهيار المجتمعي: أن تقاتل الطغيان متبنّيا قيمه


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 1701 - 2006 / 10 / 12 - 10:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

سؤال نتهرّب منه جميعا بدرجات متفاوتة: أثير قبل أكثر من ستة عقود عن ألمانيا، وتعرّض للطمس. ودار في أذهان كثير من المهتمين بالشأن اللبناني أثناء الحرب الأهلية وبعدها، ويدور منذ زمن (في ذهني على الأقل) حول العراق (وربما سوريا غدا): كيف ولماذا وتحت أي ظروف اختارت غالبية من الشعب الألماني الذي أنجب شعراء عظام مثل شيللر، وموسيقيين مثل بتهوفن، وفلاسفة مثل هيغل وغوته أن تخضع أو تذعن لقطعان النازيين بمفاهيمهم الفجّة الضحلة وخدعهم التضليلية التي سوّقوها كبرامج توهم بقدرتها على تخليص المجتمع من مآزقه واحتلاله "موقعه اللائق تحت الشمس"؟
السؤال الذي تعرض للطمس أكاديميا في الغرب، كان مدعاة للغضب، وربما للعقاب، إن أثير حول مجتمعاتنا: كيف أن شعبا أنتج الرحابنة وجبران مارس (بعضه على الأقل) وحشية الحرب الأهلية، وتماهى بعضه الآخر مع أطراف تنافست في "إبداع" وسائل وحشية، مبررا لها، ومدافعا عنها؟ وكيف أنزلق عراق السيّاب وجواد سليم إلى حضيض قطع الرؤوس وثقب الجماجم، وتبريرها من قبل قطاع من الشعب كمقاومة لإحتلال، أو كعقاب (إجرامي) لمجرمين تعاونوا مع نظام صدام؟
لماذا كان هذا السؤال، ولايزال، استفزازيا من وجهة نظر كثيرين؟ ببساطة، لأن معظم الناشطين والقادة السياسيين (وهم متحكمون بالنتاج الفكري تسويقا ودعاية واستهلاكا) يفضلون أن يضخوا لجمهورهم أجوبة (أو بتعبير أدق: أوهاما) تشبه إلى حد كبير الميلودراما الهندية، أو ما يتعارف عليه في الغرب ب "أوبرا الصابون". في هذا النسق من "الفن" يخرج المشاهد سعيدا لا لأن الحدود بين الشر والخير شديدة الوضوح فحسب (والعالم الواقعي أبعد مايكون عن هذا التبسيط) بل لأن المشاهد يقاد إلى السعادة مقتنعا أن الشر يكمن خارجه والخير يكمن داخله، فتنتهي الميلودراما بانتصار المشاهد الطيب على الخارج الشرير.
وهذا هو حال التفسيرات المرغوب بها: "تفسيرات" لا تفسر شيئا، تفضل القول أن طاغية ما، أمير حرب ما، أومتسلل من الخارج، تمكّن من إخضاع المجتمع عبر الإرهاب وربما الرشوة، لكن المجتمع الخاضع يظل محافظا على طيبته وقيمه "الأصيلة". إنه مكره على الخضوع، ينتظر قيام ساعة التحرير ليعود إلى أصل كـأنه كامن في جيناته.
من هنا كان السؤال الذي أثرته (ولم أبتدعه بالتأكيد) "تخريبيا" من وجهة نظر المسيطرين على الأمور، في السلطة والمعارضة على حد سواء.
ولكن، ألسنا نبرّئ الطغاة والجلادين إذ نوهم أنفسنا بأن سيطرتهم على أجهزة التعليم والإعلام وتوفير مصادر الرزق أو حجبها على امتداد عقود انقرضت خلالها أجيال ونشأت أثناءها أجيال جديدة لاتعرف إلا القيم التي زرعوها والممارسات التي ابتكروها وأساليب الإرتزاق التي عززوها لم تخرّب نظام القيم السائد حتى في أوساط الكارهين لأولئك الطغاة الجلادين؟
إليكم نتائج دراسة وضعية أثارت فزعي، وأظن أنها يجب أن تثير انتباه (وفزع) الناشطين لبناء عراق ديمقراطي، تعددي، اتحادي وعلماني. ليس المقصود بالفزع بث اليأس، بل أن نعرف بحزم وبواقعية مواطئ أقدامنا، لكي نعرف من ثم ما الخطوة القادمة.
الدراسة التي قام بها ثلاثة أساتذة ونشرت في العدد الأخير من فصلية جمعية العلوم السياسية الأمريكية تحمل عنوانا فرعيا شديد الدلالة: تجربة في آثار افتقاد الأمان واستندت إلى استبيان معروف للرأي العام في 85 بلدا هو "مسح القيم العالمي" تصاغ أسئلته بأشكال تتلائم مع واقع المجتمع الذي يجري استبيانه، لكنها تتشارك في أنها تعكس مواقف المجتمعات المختلفة تجاه القضايا ذاتها: الإنغلاق على الذات (أو كره الأجانب) ومعكوسه الذي يدل على التسامح والإنفتاح، التعصّب للجماعات التي ينتمي إليها أفراد العيّنة، الموقف من المرأة، والمثل التي يسعى أفراد المجتمع إلى غرسها أو تشجيعها.
"أمامك قائمة بفئات مختلفة من الأجانب. هل يمكن أن تحدد استعدادك لتقبلهم كجيران لك؟". ضمت القائمة في حالة العراق جنسيات غربية شاركت في الحرب (بريطانيين وأمريكان) وأخرى عارضت الحرب (فرنسا)، واشتملت من ناحية أخرى على جيران أومسلمين أو عرب (أردنيين، كويتيين، إيرانيين، أتراك). قد لا يفاجأ المرء إذ رفض 87 بالمئة من العراقيين الأمريكان والبريطانيين كجيران. ولكن قبل أن يقفز القارئ إلى استنتاجات تتعلق بموقف من الحرب والإحتلال، تبين أن 84 بالمئة يرفضون الفرنسيين كجيران، و61 بالمئة منهم يرفضون الأتراك، 55 بالمئة يرفضون الإيرانيين.
على مستوى تفصيلي، ثمة تفاوت كبير بين العرب والأكراد لصالح الأخيرين في كل حالة: ففيما رفض 90 بالمئة من العرب الجارالفرنسي، كانت نسبة من رفضه من الأكراد 51 بالمئة. من جديد، وقبل أن نشعر بالنشوة لهذا الإنخفاض، دعونا ننظر إلى العالم: في آيسلندا والبرازيل أبدى 4 بالمئة من السكان فقط رفضا لوجود جار أجنبي، وفي الولايات المتحدة كانت النسبة 9 بالمئة، وبلغ المتوسط العالمي 16 بالمئة، أي أن العصاب الكردي ضد الأجانب يزيد عن ثلاثة أمثال المتوسط العالمي، والعصاب العربي يقارب ستة أمثال.
بالمقارنة مع النتائج السابقة المستندة إلى معطيات عام 2004، أجرى الباحثون مسحا جديدا في عام 2006، ظهر منه تفاقم العصاب: من 87 بالمئة لايريدون جارا أمريكيا أو بريطانيا، ارتفعت النسبة إلى 90 بالمئة، والمدهش أن الموقف تصاعد تجاه الفرنسيين ايضا لتصل نسبة الرفض لهم إلى المستوى ذاته: 90 بالمئة. بالنسبة للإيرانيين، ارتفعت نسبة الرفض من 55 إلى 61 بالمئة، ومن 50 إلى 59 بالنسبة للكويتيين، ومن 59 إلى 71 للأتراك.
هل يرفض العراقيون الأجانب فحسب؟ أم أنهم يرفضون كل ما يعدونه خارجيا، أو من لاينتمي إلى "النواة الصلبة" من الناس: الذكور؟ في مجتمعات أكثر ترفا تدور الأسئلة عن الموقف من النساء، والشاذين جنسيا وكل ال "مستضعفين" من أبناء البلد نفسه. في العراق و85 بلدا آخرا لدينا المؤشر التالي: "هل تؤيد الرأي القائل أن الرجال يصلحون للقيادة السياسية أكثر من النساء؟".
العالم كله لايزال ذكوريا: 52 بالمئة حول العالم يؤيدون هذا الرأي. في كردستان تصل النسبة إلى 72 بالمئة وفي العراق "العربي" النسبة تحلق إلى 93 بالمئة.
في مقابل هذا الرفض المخيف للجماعات الخارجية، كيف يرى العراقي عالمه الداخلي؟ ردا على سؤال "إلى أي حد تشعر بالفخر بعراقيتك؟"، أجاب 34 بالمئة من الأكراد بكونهم "شديدي الفخر"، وهي نسبة عالية في هذا الظرف الذي يتصاعد فيه الحديث عن استقلال كردستان، وكانت نسبة الرد المماثل خارج كردستان 86 بالمئة. ولكن كيف يترجمون هذا الفخر بعراقيتهم؟ قال 86 بالمئة من الشيعة العرب أنهم يثقون بالشيعة إلى حد كبير، وقال 96 بالمئة من الأكراد أنهم يثقون بالأكراد إلى حد كبير، فيما كانت النسبة المقابلة لدى السنة العرب 68 بالمئة. وفي المتوسط بلغت نسبة العراقيين الذين يثقون بمواطنيين من خارج جماعتهم 33 بالمئة، وبمن يثقون بأبناء جماعتهم 86 بالمئة. وكل هذه النسب تعد عالية بدرجة استثنائية (أو مرضية، إذا شئنا الدقة) وفقا للمعايير العالمية. ففي بلدان الإتحاد الأوربي تراوح نسبة من يثقون بمواطنيهم بين 20 بالمئة بين الإيطاليين و58 بالمئة بين الأيرلنديين.
كيف نفسر هذا الإنغلاق المخيف على النفس بين العراقيين: نفور من الأجانب، من الجماعات الخارجية (النساء وغيرهن ممن ورد ذكرهم في الإستبيان) وتعلق بالكيان الداخلي؟
لايكمن الأمر، وفقا للباحثين، في وطنية مفرطة تصل حد العدوانية تجاه الغير، ولا بالطبع في "طبيعة" مزعومة، أو ثقافة شعب من الشعوب، بل هم يرون فيها ظاهرة تعود إلى عقود من الإضطهاد والعزلة والحروب الداخلية والخارجية، وهي قابلة لأن تستمر عقودا أخرى إن لم يوليها السياسيون أولوية عليا في معالجاتهم (ولايبدو أنهم فاعلون). وتؤكد الدلائل أن شعوبا أخرى تبدي قدرا عاليا من الحذر من، وعدوانية تجاه الأجانب والجماعات الضعيفة (كالنساء) بدرجة تتناسب طرديا مع تعرضها لأخطار تهدد حياة المواطنين. وفي ظروف القلق "الوجودي" هذا يتصاعد التلاحم الداخلي، وهو مايفسر لا النسب العالية من الشعور بالفخر بالعراقية مترافقا مع الشعور المناقض بالثقة بالطائفة أو القومية على حساب الثقة بالمواطنين من الجماعات الأخرى، بل كذلك الخوف من تشجيع النزعات الفردية التحررية على حساب روحية القطيع القائمة على الحفاظ على التقاليد التي تصهر الجمع.
فمن بين عشرة خصال طرحت على المستفتين، سؤلوا عن الخمس التي يريدون غرسها في أبنائهم كان العراقيون العرب الأعلى بين كل مجتمعات العالم في إبراز خصلة "الطاعة"، واحتل الكرد، نتيجة الشعور المؤخر بالأمان النسبي موقعا أفضل بقليل.
والبرهان الأخير على حالنا المأساوي هو السؤال المباشر: "هل تؤيد أن الحياة باتت أكثر خطورة وأقل أمنا؟". في عام 2004، أيد هذا القول 46 بالمئة من العراقيين. في عام 2006، باتوا 59 بالمئة!